المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ١٩

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (19)

- ‌شعبان - 1334ه

- ‌فاتحة السنة التاسعة عشرة للمنار

- ‌التعريف بكتابيمنازل السائرين، ومدارج السالكينوترجمة مؤلفيهما

- ‌أعظم معركة بحريةبين أعظم أساطيل العالم

- ‌رمضان - 1334ه

- ‌العصبية الجنسية التركية

- ‌حكم الصيام

- ‌حال المسلمين الاجتماعية

- ‌المجمع اللغوي المأمول

- ‌جمال باشا السفاك

- ‌الكتب المعزوة إلى غير مصنفيها

- ‌دعوة اللجنة التحضيرية

- ‌مصابنا بالزهراوي والكيلاني

- ‌مسألة الأزياء والعادات

- ‌شوال - 1334ه

- ‌آراء الخواص في المسألة العربية

- ‌السيد عبد الحميد الزهراوي

- ‌البلاغ الإنكليزي الرسميفي شأن العرب والسلطة الإسلامية

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌ذو القعدة - 1334ه

- ‌مناسك الحجأحكامه وحكمه

- ‌العرب والإسلام

- ‌الإسلام والطورانية الحديثة

- ‌منشور شريف مكة وأميرها

- ‌ذو الحجة - 1334ه

- ‌فوائد شتى [*]

- ‌فتاوى المنار

- ‌قصيدة في مدح الرسول

- ‌جمعية آداب اللغة العربيةبلندن

- ‌الأخبار والآراء

- ‌المحرم - 1335ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الزاروهل اعتقاد تأثير الوليوالعِفريت فيه شرك جلي

- ‌بلاد العربوأحوالها منذ الأعصر الخالية

- ‌المنشور الهاشمي الشريف الثاني

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌صفر - 1335ه

- ‌هل البسملة آية من كل سورة أم لا

- ‌مبايعة شريف مكة وأميرهاعلى ملك العرب

- ‌مبايعة وفود الأقطار الحجازية

- ‌احتضار سورية

- ‌متى يذكر الوطن النُّوَّم

- ‌ربيع أول - 1335ه

- ‌ذكرى المولد النبوي [*](2)

- ‌رحلة الحجاز(2)

- ‌المنشور الهاشمي الشريف الثالث

- ‌عاقبة الحربومكانة بريطانية العظمى منها

- ‌الحركة الطورانية الجديدةفي بلاد تركيا [*]

- ‌تأثير الصحافة في أخلاق الأمة

- ‌جمعية النهضة النسائية بمصر

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ربيع الآخر - 1335ه

- ‌ربح صندوق التوفير

- ‌شق صدر النبي صلى الله عليه وسلموتطهير قلبه من حظ الشيطان

- ‌بدع الجمعة والأذانوختم الصلاة والجنازة

- ‌الجمعيات الاتحاديةلتكوين العصبية التركية

- ‌رحلة الحجاز(3)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌جمادى الآخر - 1335ه

- ‌استدارة الزمان والنسيئة في الحج

- ‌ذكرى المولد النبوي [*](3)

- ‌علماء بغداد في القرن السادسومكانتهم في الوعظ والتذكير

- ‌الدكتور شبلي شميل

- ‌عمران بغداد في القرن الثالثوصف دار الخلافة فيها

- ‌خاتمة السنة التاسعة عشرة للمنار

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ذكرى المولد النبوي [*]

(2)

البعثة النبوية وجملة سيرته صلى الله عليه وسلم قبلها

كان صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه وأمته، ولكنه أرقاهم بل أرقى

البشر في زكاء نفسه وسلامة فطرته، نشأ يتيمًا شريفًا، وشب فقيرًا عفيفًا، ثم كان

زوجًا محبًّا لزوجه مخلصًا لها، ولم يتول هو ولا والده شيئًا من أعمال قريش في

دينها ولا دنياها، ولا كان يعبد عبادتهم، ولا يحضر سامرهم ولا ندوتهم، ولم ينظم

الشعر كما كانوا ينظمون، ولا عُني بالخطابة كما كانوا يعتنون، ولم يؤثر عنه قول

ولا عمل يدل على حب الرياسة، أو البحث في شئون السياسة، ولم يشاركهم في

شيء من خرافات الجاهلية وضلالات الشرك، ولا من المفاخرات الكلامية وشئون

الغزو والحرب، بل كان يحب العزلة، ويألف الوحدة، وروي أنه في حداثته

حضر سمرهم مرتين، ألقى الله فيهما عليه النوم. وحب العزلة والانكماش

معروف عن كثير من الناس، وإنما كان صلى الله عليه وسلم يمتاز في نشأته

الأولى، على الأتراب، بالتزام الصدق والأمانة وعلو الآداب، فبذلك كان له فيهم

المقام المكين، حتى لقبوه بالأمين.

على هذا الحال كان صلى الله عليه وسلم حين بلغ أشُدّه واستوى، وكملت

من جسده السليم ونفسه الزكية جميع القوى- لا طمع في مال ولا سُمعة، ولا تطلَّع

إلى جاه ولا شهرة. وكان أول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى

رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح [1] واضحة، ثم حبب إليه الخلاء [2] وكان يخلو بغار

حراء [3] فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد [4] ثم يرجع إلى خديجة فيتزود [5] حتى جاءه

الحق وهو على هذا الشأن بنزول القرآن عليه في شهر رمضان؛ بأن تمثل له

الروح الأمين جبريل، ولقنه عن ربه أفضل التنزيل. قال له: اقرأ. فقال: (ما أنا

بقارئ) كرر ذلك ثلاث مرات، وهذا من أمر التكوين لا من تكليف ما لا يُطاق،

وكان الملَك بعد كل جواب يغُطّه أي: يضمه إلى صدره ويعصره، حتى يبلغ منه

الجهد مبلغه، وحكمة ذلك أن تغلب فيه الروحانية على البشرية، ويستعد لتلقي

الآيات الإلهية، فيكون واسطة بين الخلق والخالق، ومنتهى الحاضر ومبدأ الغائب

ولما أرسله في الثالثة قال:

{اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ *

الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5) أي: كن قارئًا بعد أن

كنت أُمّيًّا، باسم ربك الذي خلق الإنسان الناطقَ من علق ولم يك شيئًا، لا باسمي

ولا باسمك، ولا بحولي وقوتي ولا بحولك وقوتك، فهو القادر على جعلك قارئًا

لآيات ربك، التي اقتضى جوده وكرمه أن يرسمها بالوحي في لوح قلبك، وعلى

تعليمك من الكتاب والحكمة ما لم تكن تعلم، كما علّم الإنسان بالقلم وغير القلم ما لم

يكن يعلم، فرجع صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات إلى خديجة يرجف فؤاده،

وقد ارتعد بدنه ولكن حُفظ رشاده، فقال:(زمّلوني زمّلوني) فزمّلوه؛ أي: لففوه

بالثياب ودثّروة، حتى إذا ذهب عنه الروع أخبر خديجة الخبر، وقال: (لقد خشيت

على نفسي) أي: الهلاك أو الضرر، فقالت له: كلَاّ والله ما يحزنك [6] الله أبدًا،

إنك لَتصل الرحم [7] وتحمل الكلّ [8] وتُكسب المعدوم [9] ، وتقري الضيف، وتعين

على نوائب الحق [10] . ثم فتر الوحي ثلاث سنين، قوي فيها الاستعداد واشتد

الشوق والحنين. قال: (بينما أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري

فإذا الملك الذي جاءني بحراء) وذكر أنه رُعب منه أيضًا. ولكن كان ذلك دون

الرعبة الأولى، فرجع إلى أهله فتزمّل وتدثّر، فأُنزل عليه: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ

فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 1-5) ثم

حمي الوحي وتتابع، وبلَّغ صلى الله عليه وسلم دعوة ربه فاشتد عليه أذى

المشركين وتتايع. [11] فما هذا النبأ العظيم الذي جاءه بعد الأربعين، وما ذلك

الأمر العظيم الذي دعا إليه بعد ثلاث وأربعين، فغيّر الله به على يديه تاريخ البشر

أجمعين، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.

***

تبليغ الدعوة الإسلامية وخلاصتها

إن ذلك اليتيم العائل في حداثته، الراعي الشريف التاجر القنوع في شبيبته،

الزوج المخلص لزوجته، الوالد العطوف على بناته وصبيته [12] الأمي الذي لم

يقرأ سِفْرًا، ولا كتب سطرًا، ولا شِعرًا، ولا ارتجل نثرًا، الناشئ في الأمة الأمية،

التي فرقتها نزعات العصبية، واستحوذت عليها نزعات الوثنية، وغلبت عليها

حمية الجاهلية، وأمست عاصمتها الدينية الدنيوية، ذات حكومة شبيهة بالعُرفية،

ليس لها رئيس متبوع، ولا قانون مشروع؛ قام فيها يدعوها إلى توحيد يجتث

جراثيم الوثنية، بتوحيد الربوبية والألوهية؛ وإلى استبدال الكتاب والعلم بتلك

الأمية، واستبدال الحكمة بتلك الجاهلية، وإلى تزكية الأنفس من تلك الخرافات

والتقاليد الوراثية، وإلى استعمال عقولها وحواسها في العلم والعرفان، والانتفاع

بجميع ما في الأكوان؛ لأن الله تعالى سخرها للإنسان.

بل قام يدعوها إلى ما هو أكبر من ذلك شأنًا، وأعم فائدًة ونفعًا، - قام

يدعوها إلى كتاب مهيمن على الكتب السماوية، ودين أُنزل لإصلاح جميع البرية،

وشريعة عادلة سماوية اجتهادية، تستأصل تلك الفوضى الاجتماعية، وتكفل لهم

السعادة الإنسانية، بإعتاقها البشر من رِقّ السيطرة الروحية والسياسية، وجعلهم

أحرارًا مستقلين في فهم العقائد الدينية، وأداء العبادات التي يتقربون بها إلى العزة

الإلهية. وجعل أمرهم شورى بينهم في الأحكام السياسية والمدنية، وجعل المفاسد

وحِفظ المصالح أساسًا للأمور الأدبية والشرعية، وجعل الإخلاص وحسن النية في

الأمور الدينية والعادية، مما يستعد به الإنسان للحياة الأبدية، وجعل الأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر فرضًا تقوم به الأفراد وتتعاون عليه الجماعات؛ لأنه

سياج الفضيلة ومقوِّم الأخلاق والعادات. وجعل القتال ضرورة تقدر بقدرها،

ويُجتهَد في إضعاف ضررها وشرها، فلا يقتل فيها النساء ولا الأولاد، ولا

الأُجراء ولا العُباد؛ ولا يمثل فيها بالقتلى [13] ولا يُذَفف على الجرحى؛ [14] ومتى

رجحت كفتنا بالإثخان [15] في الأعداء، نكتفي بالأسر عن سفك الدماء، {فَإِمَّا مَناًّ

بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد: 4) ، [16] وتزول الضرورة

التي أوقدت نارها، وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ جَنَحْنا لَهَا، [17] لأننا أحق بها وأهلها، إلى

غير ذلك من ضروب الإصلاح، وأسباب الفوز والفلاح. ومن أهمها أحكام الرق،

بما رغب وأوجب فيها من العتق. وأحكام اليتامى والنساء، في الحقوق والإرث

والتصرف في الأموال، وحسْبُك من هذا الإصلاح العظيم، قوله تعالى:

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 228) .

قام ينبههم بأنه رسول من عند الله إلى جميع الأمم، من العرب والعجم، وأنه

أوحي إليه هذا القرآن لينذرهم به ومن بلغ [18] ويتلو عليهم قوله تعالى:

{تبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: 1) وقوله

تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) ؛ ويخبرهم

عن الله عز وجل بأنه سينصره عليهم، ويبشر المؤمنين منهم بأنهم هم الذين

يحملون دعوته إلى غيرهم، وأن الله سيفتح لهم مصر والشام، ويعطيهم ملك

كسرى وقيصر، وأنهم سيكونون هم الأئمة الوارثين، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ

دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً

وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) .

قام صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة الكبرى، وذكر بها قومه فأعرض

الأكثرون عن الذكرى، ولم يعقل أذكى قريش وأعقلهم لها سببًا إلا الجنون، أو نَبْز

الداعي إليها بلقب شاعر أو كاهن مفتون؛ إذ كانوا يعلمون أنه لم يكن لديه شيء من

الأسباب والوسائل، لما هو دونها بمراحل؛ لا حول ولا قوة، لا مال لا عصبية

لا سليقة في الشعر تجذب القلب، لا تمرّن على الخطابة يؤثر في اللُّب، كما

يعلمون أنه طُبِع على الصدق، وعاش طول عمره عيشة الجد، فكان أقرب ما

توصف به تلك الدعوة إلى الظنون، أن قالوا: إنها نزعة من نزعات الجنون.

ولولا ما أيده الله تعالى به من الآيات والبراهين، وأعظمها هذا القرآن الحكيم

والنور المبين، ولولا تصديق الله تعالى إياه بالفعل، كما صدقه بذلك القول الفصل

لقال بقولهم ذاك في كل حين من بلغته دعوى تلك الدعوة من المتقدمين

والمتأخرين،] ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ

لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُون [19] ٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ

المَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [[20]

(القلم: 1-7) .

أي برهان على النبوة أعظم من هذا، أميٌّ قام يدعو الكاتبين إلى فهم ما

يكتبون وما يقرؤون، بعيد عن مدارس العلم صاح بالعلماء ليمحصوا ما كانوا

يعلمون. في ناحية عن ينابيع العرفان جاء يرشد العرفاء، ناشئ بين الواهمين هبّ

لتقويم عِوج الحكماء. غريب في أقرب الشعوب إلى سذاجة الطبيعة، وأبعدها عن

فهم نظام الخليقة والنظر في سننه البديعة، أخذ يقرر للعالم أجمع أصول

الشريعة، ويخط للسعادة طرقًا لن يهلك سالكها، ولن يخلص تاركها.

(ما هذا الخطاب المُفحِم؟ ما ذلك الدليل المُلجِم؟ أأقول: ما هذا بشرًا إن هذا

إلا ملك كريم؟ لا، لا أقول ذلك، ولكن أقول كما أمره الله أن يصف نفسه: إن هو

إلا بشر مثلكم يوحى إليه. نبي صدّق الأنبياء، ولكن لم يأت في الإقناع برسالته بما

يلهي الأبصار، أو يحيّر الحواسّ، أو يدهش المشاعر، ولكن طالب كل قوة بالعمل

فيما أعدت له، واختص العقل بالخطاب وحاكم إليه الخطأ والصواب، وجعل في

قوة الكلام وسلطان البلاغة وصحة الدليل، مبلغ الحُجة وآية الحق الذي لا يأتيه

الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) [21] .

كان مثله صلى الله عليه وسلم في إثبات ما جاء به مثل رجل في بلد

كثرت فيه الأمراض، ولم يكن لدى أهله طبيب ولا علاج، فادّعى أنه طبيب يبرئ

العلل، فكذبوه فأثبت دعواه بالعلم والعمل، إذ جاء بكتاب عالج به أولئك المرضى

الذين أعضل داؤهم، واختلفت أمراضهم، فشُفُوا وعادت إليهم صحتهم؛ إلا مَن

أعرض عن دوائه، حتى هلك بدائه، بل الأمر أعظم من ذلك.

ألا إن مداواة أمراض الأمم الروحية والاجتماعية، أعز وأعسر من مداواة

الأمراض الجسدية، وتتوقف على علوم كثيرة لا على علم واحد، يُدرس الآن

منقولها ومعقولها في كثير من المدارس، وما أكثر من درسها في كتبها، وتلقاها

عن أساتذتها، يقدر على إصلاح أمة من الأمم بالعمل بها، فما القول في أميّ نشأ

بين أميّين، قام بذلك الإصلاح الذي تغير به تاريخ البشر أجمعين، في الشرائع

والسياسيات وسائر أمور الدنيا والدين، وامتد مع لغته في قرن واحد من الحجاز

إلى آخر حدود أوربة من الغرب، وإلى حدود بلاد الصين من جهة الشرق، حتى

خضعت له الأمم، ودالت لدولته الدول، وكانت تتبعه في كل فتوحه الحضارة

والمدنية، والعلوم العقلية والكونية، على أيدي تلك الأمة الحديثة العهد بالأمية،

التي علمها القرآن أن إصلاح الإنسان يتبعه إصلاح الأكوان، فهل يمكن أن يكون

هذا إلا بوحي من لدن حكيم عليم، وتأييد سماوي من الإله العزيز القدير الرحيم،

اختص به ذلك النبي الأميّ الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم؟

***

مناهضة الدعوة، وإلجاء الرسول إلى الهجرة

بدأ دعوته صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته الأقربين، ممن في مكة من

قريش ومن الموالي والوافدين، فلقي أشد الجحود والإيذاء من قومه، حتى صدوه

عن تبليغ دعوة ربه، عملاً بقول أبي لهب: خذوا على يديه، قبل أن تجتمع

العرب عليه. وقد أخرجوا عمه أبا طالب وآله من مكة؛ لأنه لم يخل بينهم وبينه،

فجمع أبو طالب بني هاشم والمطلب، ودخل بهم ومعهم النبي -صلى الله عليه

وسلم- في الشِّعب، وأجمعت قريش مقاطعتهم، وعدم مصاهرتهم، وأن لا يبيعوهم

ولا يبتاعوا منهم شيئًا، ولا يقبلوا منهم صلحًا، إلا أن يسلموا محمدًا للقتل، فمكثوا

ثلاث سنين في الشِّعب، وهم في أشد البلاء والجهد، وكان بعض ما مسهم من

الضرر، أن أكلوا ورق الشجر؛ ثم اشتد إيذاء قريش له ولمن آمن به بعد وفاة

خديجة وأبي طالب، وقد توفيا في عام واحد، فعرَض نفسه على القبائل في موسم

الحج، لعله يجد من يحميه للقيام بهذا الأمر، فلم يحمه من قريش أحد، ولكن آمن

به في موسم الحج ستة نفر من أهل يثرب، [22] ثم آمن به آخرون منهم في موسم

آخر، وصاروا يدعون أهل المدينة إلى الإسلام، وأرسل إليهم -صلى الله عليه

وسلم- من يعلّمهم القرآن. ففشا الإسلام فيهم، وجاءه في الموسم الثالث امرأتان

وثلاثة وسبعون رجلاً منهم، فبايعوه على التوحيد الخالص لربهم وإلههم، وأن

يمنعوه- أي يحموه- مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فتمهدت له بذلك أسباب

الهجرة، وكان قد هاجر جمهور من آمن به إلى الحبشة، فأمر من بقي أن يهاجروا

إلى المدينة مختفين، فكان القادرون يهاجرون أرسالاً متتابعين، وقد علم أكابر

قريش بالأمر، وأن الرسول سيتبع أصحابه بالسر، ففزعوا إلى الحيلة والمكر،

وبينما كان أبو بكر رضي الله عنه يهيئ راحلتين وزادًا ودليلاً للهجرة مع

الرسول من مكة، كان رؤساء قريش يأتمرون [23] بالرسول -صلى الله عليه

وسلم- في دار الندوة، فبعضهم يرى نفيه وبعضهم يرى حبسه وبعضهم يرجّح قتله،

ثم أجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة شابًّا جلدًا، [24] يقفون أمام داره ليلاً، حتى

إذا خرج ضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد؛ ليتفرق دمه على القبائل،

فيرضى بديته بنو هاشم، فلما وقف أولئك الشبان على بابه، أمر عليًّا بأن ينام في

فراشه ويتدثر ببرده، وخرج صلى الله عليه وسلم من بينهم، ولم ينظره ولا

شعر به أحد منهم، بل كانوا ينظرون من فروج الباب، فيرون النائم فيظنون أنه هو

النبي عليه الصلاة والسلام؛ وذلك قوله تعالى في كتابه المبين:] وَإِذْ يَمْكُرُ

بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ

خَيْرُ المَاكِرِينَ [[25](الأنفال: 30) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر في الجزء السابع ص 409.

(1)

الفلق بالتحريك المطلق يطلق على الصبح وهو من فلق الشيء بمعنى شقه وفرقه فرقين فإن ضوء الصبح شق الظلام مستطيلاً ثم مستطيرًا ومنه: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} (الأنعام: 96) وبهذا المعنى أضيف إلى الصبح، والمعنى أنه كان يرى الرؤيا فتقع كما رأى إذ تنطبع المعاني في مرآة روحه الصقلية كما هي، فهذا ضرب من الوحي وكانت مدته قبل وحي اليقظة الصريح ستة أشهر من ربيع الأول شهر ولادته إلى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.

(2)

الخلاء بالمد الاختلاء والانفراد.

(3)

الغار نقب في الجبل، وحراء بالكسر أحد الجبال المحيطة بمكة على يسار الذاهب منها إلى منى والغار في أعاليه مشرف على مكة، بحيث ترى منه الكعبة، كما يشرف على ما دونه من تلك البقاع فهو حسن الموقع جيد الهواء، يتسع للمختلي فيه مجال الفكر، والشعور بعظمة الرب.

(4)

أصل التحنث توقي الحنث؛ أي: الإثم وتجنبه وفسره الزهري في الحديث بالتعبد، قيل: كان يعبد الله على ملة إبراهيم وقيل بالتفكر خاصة، واختلف في عدد الليالي التي كان يقيمها ويتزود لمثلها.

(5)

التزود: اتخاذ الزاد من طعام وماء.

(6)

يحزنك من الحزن وهي رواية أبي ذر، وعند غيره ما يخزيك من أخزاه بمعنى فضحه وأهانه.

(7)

أي: تحسن للأقارب بما يليق لكل منهم.

(8)

الكل بالفتح الثقيل حملاً أو عيالاً أو طبعًا والمُتعب أي تحمل أثقال الناس أو تحمل المتعب على ما يركبه من الإبل أو الدواب.

(9)

أي: تكسب المحتاج ما هو عادم له.

(10)

النوائب النوازل والمصائب والحوادث؛ أي: تعين الناس في كل أمر غير باطل وهذه كلمة جامعة في بيان فضائله صلى الله عليه وسلم وهو يدل على فضل خديجة وعقلها واعتقادها أن من يلتزم الحق وعمل الخير لا يحزنه الله ولا يخزيه، والحديث في الصحيحين، وتتمته باختصار قليل: فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عمها وكان قد تنصر في الجاهلية، ويكتب من الإنجيل بالعبرانية، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي فقالت له: اسمع من ابن أخيك فقال ورقة: يا ابن أخي ماذ ترى؟ فأخبره صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ياليتني فيها جذع؛ أي شاب (ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوَ مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.

(11)

التتايع (بالياء قبل العين) التهافت والإسراع في الشر أو التتابع (بالباء الموحدة) فيه.

(12)

صبيته لقاسم وعبد الله والطيب والطاهر وقيل: الطيب والطاهر لقبان لعبد الله وهؤلاء من خديجة كبناته الأربع، وإبراهيم من مارية القبطية.

(13)

التمثيل بالقتيل تشويهه بقطع بعض أعضائه كجدع الأنف وصلم الأذنين وقلع العينين.

(14)

التذفيف على الجريح الإجهاز عليه؛ أي: إماتته.

(15)

الإثخان في الأعداء إضعافهم بكثرة من يقتل منهم ومن رحمة الإسلام وإصلاحه إبطال لما كانت الأمم تستبيحه من استئصال أعدائها ولم يكتف بمنع قتل من لا يقاتل منهم حتى أمر بأن يكف عن قتل المقاتلين أنفسهم إذا ضعفوا وأمنا شرهم، وأن نكتفي حينئذ بأسرهم، وخيرنا في الأسرى بين المن عليهم بإطلاقهم وفك أسرهم بلا مقابل، وبين فداء أسرانا عندهم إن كان لنا عندهم أسرى وذلك قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ} (محمد: 4) إلخ.

(16)

الأوزار جمع وزر وهو الحمل الثقيل ويطلق على الذنب، والمعنى حتى تنقضي الحرب بوضع المحاربين لأثقالها من السلاح والذخائر عن أنفسهم- وقيل بترك الكفار للعدوان والذنوب الموجبة لها.

(17)

السلم ضد الحرب وكلاهما مؤنث اللفظ.

(18)

أي: وينذر به كل من بلغه ووصلت إليه دعوته من سائر الأمم.

(19)

أي: غير مقطوع.

(20)

النبذة الآتية التي أولها (أي برهان) وآخرها (تنزيل من حكيم حميد) مقتبسة من رسالة التوحيد لشيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.

(21)

هذا آخر ما اقتبسناه من رسالة التوحيد وفيها بعده الكلام على القرآن.

(22)

هي المدينة المنورة.

(23)

يتشاورون في الأمر.

(24)

القوي الصابر.

(25)

المكر: التدبير الخفي الذي يفضي بالمذكور به إلى ما لا يعلم ولا يحتسب ويكون في الشر غالبًا وقد يكون لإبطال الشر أو للخير، ومنه مكر الله عز وجل، والإثبات: الاعتقال، والإخراج: النفي.

ص: 473

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رحلة الحجاز

(2)

تابع لما في الجزء الخامس

ضربت وزارة الداخلية يوم السبت الخامس والعشرين من شهر صفر

(الموافق لأول الميزان 23 سبتمبر) موعدًا لسفر ركب المَحمل المصري من القاهرة

إلى السويس وآذنت مريدي الحج بأن يكونوا قبل ذلك اليوم في السويس ليأخذوا فيها

أهبتهم ويتبوءوا أمكنتهم من الباخرتين اللتين أعدتها لحملهم إلى جدة. وبينا أنا

منهمك في الاستعداد للسفر بشراء ما ينبغي شراؤه، وترتيب ما تقرر حمله، وإعداد

ما تحتاج إليه الدار، وإدارة المنار، خطر في بالي أن أكتب رسالة في مناسك الحج

أبين فيها أحكامه وحكمها بعبارة سهلة، مأخوذة مما صح في السنة، وأن أطبعها

وأحملها معي هدية للحجاج الذين أصحبهم وألقاهم. فشرعت في ذلك وقت الظهر

من يوم الأربعاء فكنت أكتب عدة سطور ثم أترك الكتابة عدة دقائق للاشتغال بشيء

ضروري. ثم إنني اضطررت إلى ترك الكتابة من ظهر يوم الخميس إلى ضحوة

يوم الجمعة، ثم قضيت أصيل ذلك النهار وغسق الليل خارج المكتب والدار،

فتعذر الجميع بين إكمال المناسك والسفر في يوم الجمعة فأكملت في هذا اليوم

(الجمعة) فكانت أكثر من كراستين وقد ضاق الوقت على طبعهما قبل السفر؛ إذ

تعين أن يكون آخر موعد له قبل الظهر بساعة من يوم السبت، فاضطررت بعد

جمع حروفهما ليلاً إلى اختصار الأولى بالحذف من عدة مواضع منها، وطبعت بعد

أن نمت فلم أتمكن من تصحيحها، فلذلك كثرت أغلاطها، وتعذر على المطبعة أن

تجهز لنا ضحوة السبت جميع النسخ فاكتفينا بحمل مئات منها.

ركبنا القطار الحديدي مع السيدتين الوالدة والشقيقة قبيل انتهاء الساعة الحادية

عشرة من يوم السبت ببضع دقائق، وكان ركب المَحْمل قد سافر في قطار خاص

في أول هذا اليوم، وودعنا في المحطة الأهل والإخوان، وخاصة من علم بموعد

سفرنا من الخلان، وقد كنا بلونا لوعة الوداع بتعدد الأسفار، وكان أشجاها وداع

الوالدين والأقربين والأصدقاء عند الهجرة إلى هذه الديار، ولكنني لم أذق قبل هذا

اليوم لوعة توديع الأهل والأولاد؛ لأنني لم أكن في حال سفر من أسفاري السابقة

زوجًا ولا والدًا.

***

نبذة فلسفية في الوداع وما

فيه من تهذيب الطباع

قرأت قبل سفري الأول كثيرًا مما قال الأدباء والشعراء في الوداع، وحفظت

من أشعارهم ما لا يسهل علي أن أتذكره الآن، ولا أحب أن أشغل بالتطويل في هذا

الموضوع قراء هذه المجلة، ولا أن أترك الإلمام به وهو من أهم مسائل علم النفس

التي تفيد بصيرة في علم التربية.

إنني عند وداع الوالدين وذوي القربى والأصدقاء في سفر الهجرة إلى مصر

وجدت في نفسي وفيمن ودّعت منهم مصداقًا لقول الشاعر:

لو كنت ساعة بَيْنِنا ما بيننا

ورأيت كيف نكرر التوديعا

لرأيت أن من الدموع محدِّثًا

وعلمت أن من الحديث دموعا

فقد كان الحديث للدموع وحدها؛ لأن لسان الفم حبس فخرس، ولسان العينين

انطلق بالكلام المنسجم، وقد كتبت إلى بعضهم بعد الوصول إلى مصر عبارة

شعرية كنت شعرت بأنها حقيقة وجدتها في نفسي، وهي أنني وجدت وجد المودَّع

ولوعته يساويان وجود جميع من ودعوه وإن كثروا، لأن كل واحد منهم فارق

محبوبًا واحدًا وهو قد فارق أحبابًا كثيرين يجد في نفسه من الألم لفراق كل منهم

مثل ما يجده ذلك الفرد لفراقه هو، فالصواب أن لكل نوع من أنواع الوجدان

والشعور واحدًا يختلف باختلاف أمزجة الناس ويتفاوت في الأفراد بتفاوت ما يثيره

في قلوبهم، ولو أمكن أن يوضع للإدراكات النفسية موازين كموازين الحرارة

والرطوبة والثقل لعلمنا بها أقصى حد لألم الفراق في نفس العاشق الواله، وفي

نفس مثل الزوج، والوالدة والوالد، وهو إنما يبلغ حده الأقصى إذا كان الفراق بعيد

الشُّقة، أو عرضة للهلاك. أو شدة المشقة، كسفر ابن زريق من بغداد إلى المغرب

في ذلك العصر، فهو لولا الخوف من الفراق الأبدي لمن أحب لما قال في وداعه

يومئذ قول العاشق الممثل لما في فؤاده، لا قول الشاعر المصور لما في خياله:

ودعته وبودي لو يودعني

طيب الحياة وإني لا أودعه

كم قد تشفع بي ألا أفارقه

والضرورات حال لا تشفعه

وكم تشبث في يوم الرحيل ضُحًى

وأدمُعي مستهلات وأدمعه

لا أكذب الله، ثوب العذر منخرق

عني بفرقته لكن أرقعه

ذلك بأن وداع الأحباب عند سفر قاصد (قريب) إلى خير مرجوّ في حرم

آمن، ليس كالوداع في سفر بعيد يضعف فيه الأمل، فيما يثيره من الوجد والألم.

بل أقول: إن الأنفس تهوى بعض الآلام الخفيفة، وتجد في باطنها لذة خفيفة كلذة

العاشق المُستكنّة في هجر محبوبه إياه هجر دلال أو هجر مَلال، بما فيه وما يتلوه

من تهييج عواطف الحب والوجد والاشتياق، الذي يشبه كد الذهن وإتعابه في حل

المسائل العلمية العويصة، أو إجهاد البدن في بعض الأعمال الواجبة أو الرياضيات

المستحبة، في أن كلاًّ من ذلك جامع بين الألم واللذة، أو ربما يترتب عليه من لذة

الشكوى والعتاب كما قالت عليّة بنت المهدي:

وأعذب أيام الهوى يومك الذي

تروع بالهجران فيه وبالعتب

إذا لم يكن في الحب سُخط ولا رضًا

فأين حلاوات الرسائل والكتب

وإذا كان لكل شعور ووجدان نفسي غاية وحد فسواء كان السبب الذي يبلغ به

منتهى حده واحدًا أو متعددًا، وإذا كان الغلو في حب الوالد أو العشق أو غيرهما من

شأنه أن يترتب عليه بلوغ تلك الغاية وهو قلما يكون إلا في حب الآحاد من الأولاد

والأحباب فإن الحب المتفرق على المحبوبين المتعددين من جنس واحد كالأولاد أو

من عدة أجناس لا يكاد يكون إلا دون الحد الأقصى- إذا كان ما ذكر كما ذكر وهو

ما نراه، فتلك القاعدة الشعرية التي كنت كتبتها لا تصدق بالاطراد، بل الأكثر أن

لوعة الفراق المتفرقة على الكثيرين تكون دون اللوعة المقصورة على الأفراد.

هذا وإن سفرنا إلى الحجاز سفر قاصد لأداء فرض لازم في عام يقل فيه عدد

الحجاج فتسهل فيه مراعاة الحكومة لصحتهم، والبلاد سالمة من الأوبئة فالرجاء قوي

بأن تؤدى الفريضة فيه بالسهولة في مدة شهر واحد. ففراق الأهل والصحب في

مثل هذا السفر ليس من شأن وداعه أن يثير منتهى الأشجان، وينطق الدموع

ويخرس اللسان، وناهيك بمن كان مثلي مسافرًا مع أشد الناس حبًّا له -والدته

وشقيقته- وكم ودع الناس بعضهم بعضًا في مثل هذه الحال ضاحكين مسرورين،

وكذلك ودعنا الأهل والأصدقاء في محطة مصر ودخلنا القطار، ولما وقفت في

النافذة وقدم إلي محمد شفيع ونُعمى لأجل القُبلة الأخيرة، اضطربت عاطفة الأبوة

في جميع أعماق النفس، فاضطرمت لوعة فراقهما في سُويداء القلب، ففاضت

العينان، واعتقل اللسان، وخانتني تلك الإرادة التي كنت أكابر بها الأشجان،

والعزيمة التي تعودت أن أملك بها أزِمة الوجدان، حتى عند الصدمة الأولى بموت

الأخوة والإخوان، وما ذاك إلا أن ألم توديع الأولاد مشوب بلذة، لا تستجمع

لمقاومته كل قوة الإرادة، وألم مثل تلك الصدمة، هو الذي توجه لاحتماله كل

العزيمة.

تذكرت في هذا المقام ما قاله صديقنا عبد الحميد الرافعي شاعر طرابلس الشام

في توديع أولاده عند سفر له إلى الآستانة، وهو قوله من قصيدة:

لست أنسى ساعة البين وما

هي إلا فَكّ روح من جسد

رمت فيها الصبر لكن لم أطق

وحبست الدمع لكن لم يكد

وبروحي غررًا قبلتها

لجبين الحُسن منها مستمد

من صغارٍ كاللآلي لجلجلت

منهم الألسن والجفن اطّرد

بعضهم أبكاه مرأى من بكى

ليس يدري قطّ ما اليوم وغد

والذي لاح له معنى النَّوى

أطبق الدمع عليه فارتعد

هل سمعتم يالقومي عاشقًا

أَنِسَ الظبي به وهو شرد

ليتني فارقت عيني والحشا

قبلما فارقت أهلاً وولد

أودعوني عندما ودّعتهم

حسرة كانت من الموت أشد

كلهم ينشدني قرب اللقا

حاسبًا للعَوْد أيامًا تُعَدّ

والذي لا يعرف النطق غدًا

نُطقه الإبما بعين أو بيد

وما بيني وبين هذا الصديق إلا أن سفري خير من سفره، وولدي أصغر من

ولده، فقد كان بعض ولده يفهم معنى الفراق والسفر، ونُعمى لم تكن أتمت السنة

الثالثة، وشفيع كان في أول الشهر الخامس عشر، وكان سبب سفره أن الشيخ أبا

الهُدى الشهير غضب عليه غضبة مضرية، قطعت عليه موارد الرزق بعزله عن

أعمال الحكومة، فرحل إلى الآستانة يستعطفه ويسترضيه، عسى أن يعود بجاهه

إلى عمله أو عمل يفوقه أو يساويه، معلق القلب بين الفوز بالأمل، وبين الخِزي

والفشل، لا يدري أيعود كما رجا أهله بعد أيام تُعَدّ، أو بعد شهور أو سنين لا تعد،

حسب القاعدة المطردة في كل عمل يطلب من حكومة الآستانة! فأين السفر إلى تلك

العاصمة، لطلب الرزق من أولئك الباخلين المخلفين؛ من السفر إلى مكة المكرمة،

لطلب المغفرة والرحمة من أرحم الراحمين؟ لقد كان ذلك الشاعر جديرًا بأن لا تعود

إليه السكينة، إلا بعد أن ينقلب إلى أهله بما يرجو من الوظيفة.

وأما هذا الكاتب فقد عادت إليه سكينته بعد سير القطار بساعة زمانية، وإنما

كان يفكر أحيانًا فيما يرجو من الاهتمام بصحة ولديه في غيبته، واستشارة الطبيب

حتى عند الحوادث التي لم يكن يستشيره في مثلها، وقد ضعف التفكر في ذلك وفي

غيره من أمور الدنيا منذ الإحرام إلى التحلل التام منه بأداء المناسك كلها، حتى كأن

الإنسان يدخل بمجرد الإحرام في عالم آخر.

والعِبرة فيما بيناه من فلسفة الوداع أن نذكّر القارئ بأن ألمه هو أول فوائد

السفر المهذبة للنفس ولا سيما نفس الوالد، وقد غفل عنها من حصر ذلك في خمس

فوائد. وإنني رأيت لبعض من آثر العُزبة وبعض من حُرم النسل يظنون أن الولد

من منغصات العيش في الدنيا؛ لأن غبطة النفس به، وقُرّة العين برؤيته، ولذة

الأمل بطول عمره وحسن مستقبله، لا توازي وداعه عند السفر، والحذر عليه من

الموت أو المرض والضرر، دَعْ هَمّ الوالد في تربيته وتعليمه في حياته، والخوف

من سوء حاله بعد مماته، ولا سيما إذا كان قليل المال، وكثر عليه العيال. وما

هذه الظنون، إلا من أوهام الكُسالى والمحرومين، إلا أن عدم إقدام فاقد المال أو

قليله على الزواج، له وجه في هدي الشرع وآراء الناس. وأما ما يدخل في

موضوعنا منها وهو لوعة الوداع ومرارة الفراق، وما يتلوها من حرارة الاشتياق،

فهو من أعظم فوائد نعمة الأولاد على الوالدين في تهذيب أنفسهم، وتثقيف عواطفهم،

وإعلاء هممهم، وتقوية أريحيتهم، وهي على ما فيها من الفوائد، حلوة الطعم في

ذوق الوالد، كما يستحلي العشاق تجنِّي الحبيب، ويقولون: ضرب الحبيب زبيب،

ولو قيل للمشتاق: أتحب أن تخمد حرارة هذا الشوق في قلبك فتمسي لا تذكر من

تشتاق ولا تحنّ إلى لقائه؟ لقال: لا. وفي معناه قول قيس العامري:

وقالوا: لو تشاء سلوت عنها

فقلت لهم: وإني لا أشاء

ذلك بأن ما يهيج الوجد مما يشبه نغمات الألحان، المثيرة للأشجان،

والمحركة للأحزان، على شهداء الحق في سبيل الإيمان أو الأوطان، الحافزة

إلى الأخذ بثأرهم، والرغبة في اقتفاء آثارهم، وهي مما يرغب فيه الفضلاء،

ويحث عليه الحكماء؛ وأن بكاء الفراق، الذي يُرجى بعده التلاق، كالبكاء من

خشية الله عز وجل يحسبه من لم يذق طعمه عذابًا وألمًا، وما هو إلا نعيم

وغِبطة، ولذلك قال من ذاق فعرف: أهل الليل في ليلهم، أطيب نفسًا من أهل اللهو

في لهوهم. وقال بعضهم: لو يعلم الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف، ولا

تكمل تربية أحد إلا بركوب الصعاب وحمل الآلام والأثقال.

وأبعد تلك الظنون بل الوساوس عن الحقيقة وأوغلها في الوهم ما توسوس به

النفس لبعض المحرومين: أن خوف الوالد أن يموت قبل أن يرشد ولده ويستقل

بنفسه في معيشته، أو يكون له مورد واسع من الرزق يعيش به - ينغص عليه

غبطته وسروره بوجوده. وقد سمعت مثل هذا ممن يعد نفسه ويعده بعض الناس من

علماء الأخلاق، وما هو إلا من أسرى الوساوس والأوهام، فإن تفكر الناس في

مستقبل أولادهم من بعدهم أو احتمال موتهم من قبلهم، ما كان لينغص عليهم

هناءهم وغبطتهم بهم، إلا مَن شذّ من غُلاة الموسوسين، الذين وصلوا أو كادوا أن

يصلوا إلى درجة المجانين، وكل نعمة يخولها هؤلاء تكون عليهم نقمة يحرمون لذة

وجودها، ويعذبون بتوهم فقدها، أو احتمال حدوث مصاب بسببها، ومن غلاة

هؤلاء المساكين ديك الجن الذي قتل وصيفه ووصيفته لاشتداد شغفه بهما وخوفه أن

يموت ويتمتع بهما غيره، ويقرب منه ذلك العاشق المسكين، الذي خلق من ماء

الدموع وصلصال الأنين، لا من الماء والطين، فاستوى عنده القرب والبعد،

والوصل والصد، فهو يبكي من يحب في كل حال، كما وصف نفسه فقال:

فأبكي إن نأوا شوقًا إليهم

وأبكي إن دنوا خوف الفراق

إننا بعد توديع من ذكرنا، ركبنا وحدنا مخدع مركبات الدرجة الأولى من

القطار الحديدي، ولكننا لما انتقلنا مع سائر الركاب في الإسماعيلية إلى القطار

الآخر ألفيناه قطارًا رديئًا، وقد اكتظ بالجنود البريطانية حتى إن المخادع الخاصة

بالنساء المخدَّرات لم تكن تخلو منهم، فاضطررت إلى وضع السيدتين في مخدع

منها رأيت فيه مواضع لي ولهما، واثقًا بأننا لا نرى من هؤلاء الجنود ما نكره،

وكذلك كان -ولله الحمد- وآداب الجنود الإنكليزية الخلص معروفة عند جميع

المصريين- يندر أن يرى أحد من سكران منهم تعديًا أو إساءة، فكيف يكون أدبهم

في حال الصحو؟ وقد وقف القطار في محطات جديدة كثيرة خاصة بالجنود

المعسكرة على جانبي الطريق قريبة من الخط الحديدي أو بعيدة عنه، وبسبب ذلك

يتأخر القطار قليلاً عن موعده المعتاد.

وصلنا إلى السويس قبل المغرب، وكان قد سبقنا إليها أمس مع جماهير الحجاج

المصريين محمد نجيب أفندي المعاون في مديرية الجيزة وهو صِهرنا على بنت

أخي، والشيخ خالد النقشبندي، فكانا رفيقين لنا في السفر في كل حِلّ وتِرحال،

وكل منزل من منازل الحاج، وقد بتنا تلك الليلة في دارٍ اختارها لنا الرفيقان من

دور الأهالي التي يأوي إليها الحجاج في هذه الأيام، وهم يتقاضون من الأجرة في

كل ليلة فوق ما يعهد في الفنادق الكبيرة التي تفوقها خدمة ونظافة، وكذلك أصحاب

المركبات في السويس يزيدون أجورها على الحجاج أضعافًا.

وفي ضَحْوة اليوم التالي ذهبنا إلى مكتب الصحة لأجل ما فرضته الحكومة

على كل حاج من تلقيح أطبائها إياه بالمصل الواقي من الهيضة الوبائية (الكوليرا) .

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 449

الكاتب: محمد توفيق صدقي

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(17)

الأمراض التي تنشأ عن الميكروبات الحيوانية

النافض أو الملاريا

Malaria

لفظ ملاريا أصله بالإيطالية كلمتان [aria mal] ومعناهما (الهواء الفاسد)

سميت به هذه الحمى لتوهم الناس في زمن التسمية أن سببها فساد الهواء.

يطلق هذا اللفظ على أنواع من الحمى تنشأ عن ميكروب حيواني من نوع

[البيروتوزوا Protozca](راجع صفحة 28 من هذا الكتاب) يعيش في دم

الإنسان وينتقل من شخص إلى آخر بنقل بعض أنواع البعوض (النموس) ويسمى

هذا الميكروب بالإفرنجية [Plasmodium] أو [أميبا الدم Ioemamoeba] وإنما

قلنا: إنه يعيش في دم الإنسان؛ لأنه لم يعرف إلى الآن أنه يعيش في دم حيوان

آخر من ذوات الثدي، ما عدا أنواعًا شبهه يعيش في دم بعض أنواع القردة ويُحدث

لها حمى.

تمتاز أخف أنواع هذه الحُمّى التي تحدث في أكثر البُلدان المعتدلة بتقطعها؛

بمعنى أن نوبها تفصل بعضها عن بعض بفترات يكون فيها المصاب كأنه سلم منها،

أعني أنها لا تكون مستمرة كالحميات العفنة الأخرى، فتستمر النوبة بضع

ساعات ثم تزول وتعود في اليوم الثاني أو في اليوم الثالث [Tertian] أو في

الرابع [Ouartan] والنوع الذي يعود في اليوم الثالث هو الأكثر حدوثًا في الأقاليم

المعتدلة. أما الذي يعود في اليوم الرابع فيكثر حصوله في بعض بلدان إيطالية

والهند. وهناك أنواع أشد مدة الحمى فيها أطول وتعرف في إيطالية بالحمى الصيفية

الخريفية [autumnal - Aestiv] وفي البلاد الحارة (بالحمى المستمرة أو الخبيثة)

ويكثر انتشار هذه الحمى في الأقاليم التي بين خطي 63 شمالي خط الاستواء

و57 جنوبيَّه.

الأسباب - قلنا: إن الذي ينقل ميكروب هذه الحمى هو البعوض؛ فلذا توجد

هذه الحمى حيث يوجد البعوض ويكثر، وتختفي أو تنعدم حيث لا يوجد، أعني أن

حرارة الجو وكثرة الرطوبة والمستنقعات التي يتوالد فيها البعوض هما أعظم

الأسباب لانتشار هذه الحمى. وجميع الأجناس البشرية عرضة للإصابة بها، ولكن

السود أقل في ذلك من البيض. وهي تصيب الإنسان في جميع الأعمار. ومما

يهيئ المرض ضعف الصحة والتعرض لرطوبة أو لحرارة الشمس الشديدة أو

الإفراط أو التفريط في الأكل أو الشرب.

وقد يمكن الميكروب في الدم ولا يحدث الحمى، وإنما يسبب ضعف الصحة

وفقر الدم أو ضخامة الطحال، ولا يستمر بقاؤه في الدم إلى أكثر من ثلاث سنين إذا

لم تتكرر العدوى به.

ولهذا الميكروب أنواع، ثلاثة منها على الأقل تعيش في دم الإنسان،

والأخرى في دم الطيور. وقد اكتشف ما يعيش منها في الإنسان بين سنة 1881

و1890.

وهذه الأنواع الثلاثة تعيش داخل كريات الدم الحمراء وتتغذى بها فتمتص

مادتها الهيموغلوبينية ويحولها إلى حبيبات ملونة (سوداء أو سمراء

مصفرة) [1] . يمكن اعتبارها كأنها براز لها، فإذا كبرت خلية الميكروب انقسمت

إلى عدة أقسام (تتراوح بين 6- 15 أو 20) وانفجر غشاء الكرية الحمراء فتخرج

هذه الأجسام وتسبَح في الدم ثم تخترق كريات الحمراء وتسكنها وتفعل بها ما فعلته

في الأولى. وكثير منها تقتله خلايا الطحال أو غيرها أو خلايا الدم البيضاء.

وعند تمام نمو خلية الميكروب وانقسامها إلى عدة أقسام ترتفع حرارة

المصاب؛ لأن الميكروب حينئذ يخرج سُمّه فيدور مع الدم. ومن ذلك ترى

أن هذا الميكروب اللعين يفسد الصحة بإتلافه الكريات الحمراء التي عليها مدار

التنفس وبإفرازه سمًّا يحدث الحمى، وهناك ضرر ثالث وهو إفرازه سمًّا آخر يذيب

كريات الدم الحمراء فيتعب الكبد ويكثر من إفرازه الصفراء ويكثر الإسهال، وقد

يبول المريض بولاً أحمر مشتملاً على مادة الدم الذائبة فيه- كما سيأتي- فتلتهب

الكلى بسبب ذلك.

ولا يلزم من دخول هذا الميكروب إلى الدم أن يحدث للمصاب ما ذكر فإنه قد

يقتل ولا يصاب الشخص بشيء، وقد يكمن في الطحال إلى أن تضعف قوة مقاومة

الجسم له فتظهر حينئذ أعراض الحمى، وقد تتغلب البِنْية بعد ذلك على الميكروب

فتبيده وتحصل للجسم مناعة تقيه شره مرة أخرى. وهذا الميكروب قد يصيب

الأجنة في أرحام أمهاتها غير أن ذلك نادر جدًّا.

أما البعوض الذي ينقل العدوى من شخص إلى آخر فهو من النوع المسمى

[Anopheles] وميكروب الملاريا لا يضره بشيء إذا دخل جسمه. واعلم أن

ذَكَر هذا البعوض لا يمص الدم بل الأنثى فقط، وهي التي تحمل العدوى. ومدة

حياتها تزيد عن شهر في الغالب. وتضع كل أنثى نحو 100 بيضة على سطح

الماء طول كل بيضة نحو نصف ملليمتر أو ملليمتر كامل. وبعد يومين أو ثلاثة

يفقس. وإذا كان الجو حارًّا فقست قبل ذلك، وتعود الأجنة في الماء وهي المسماة

بالعلق، وبعد عدة أيام (13-23) تصير بالتطور بعوضة.

ويمتاز هذا النوع من الأنواع الأخرى بما يأتي:

(1)

أن أنثاه لا تلسع الإنسان غالبًا ولا تمص دمه إلا ليلاً.

(2)

أن شواربها [Palpi] طويلة مثل منقارها [Prboscis] الغليظ.

(3)

أنه توجد في أجنحتها نقط مسودة بخلاف أجنحة الأخرى فإنها

رائقة.

(4)

أن جسمها أطول وأنحف. هو مستقيم بخلاف الأخرى فإنها أغلظ

وإذا وقفت على الحائط رأيت ظهرها محدودبًا.

واعلم أن بعوضة الملاريا لا تنقل العدوى إلى بعوضة أخرى، فلا يوجد

الميكروب فيها إلا إذا أخذته من الإنسان بامتصاص دمه.

وإذا امتصت البعوضة دم المصاب لقحت [2] بعض خلايا الميكروب الخلايا

الأخرى التي تتطور وتصل غدد اللعاب في البعوضة لتخرج منها أثناء وَخْز شخص

آخر فتعديه بالملاريا، ومدة هذا الطور الذي يقضيه الميكروب في جوف البعوضة

تختلف من 6- 16 يومًا بحسب حرارة الجو. والبعوضة لا تطير عادة من مواطنها

إلى أبعد من نصف ميل إنكليزي.

الأعراض- تكون نوب هذه الحمى في أول الأمر غير منتظمة غالبًا، ولعل

السبب في ذلك أن الميكروبات التي تدخل الجسم تكون من أنواع مختلفة، فتتغلب

البنية على أقلها عددًا، وبذلك ينفرد بالجسم نوع واحد وهو الأكثر عددًا، وفي

بعض الأحيان يبقى نوعان أو ثلاثة. طور التفريخ يتراوح بين 3 أيام و12 يومًا،

وهو طويل في الأشكال المنتظمة، قصير في غيرها، وقد يحصل المرض بمجرد

التلقيح.

وفي بعض الأحوال تتقدم الحمى بعض أعراض أخرى كالتوعك والصداع

وآلام بالأطراف وغثيان وغيرها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذه تشاهد سابحة في الدم أو داخل الكريات البيضاء التي تبتلعها أو داخل منسوج بعض الأعضاء كالطحال والكبد والمخ وغيرها.

(2)

أما في دم الإنسان فيحصل الانقسام بلا تلقيح.

ص: 485