الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
أسئلة من القليوبية
(س 1-7) مِن صاحب الإمضاء بأبي زعبل (من القليوبية) .
أستاذي الفاضل، الشيخ محمد رشيد رضا:
السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو،
وقد علمنا وعلم الناس أنكم - حفظكم الله - خليفة الأستاذ الإمام في القيام بأمر الدِّين
الخالص، ودحض الباطل عنه، فإن العِلم الدليل، وليس العِلم بالكُمِّ الطويل، وقد
طوحتني المقادير إلى بلدة ألعن بلاد الله تربة، يسكنها قوم أحلامهم دِقاق، ودينهم
نِفاق، يأخذون من العِلم القشور، ومن الأخبار الموضوعة، ومن العقائد الخُرافية،
فهم أشباه الرجال ولا رجال، يُكَفِّرون مَن قال بالمعراج بالروح، ومن أنكر وجود
الجنة والنار، ومن نفى رؤية الإله في الآخرة، ومن منع رجوع الشمس بعد مغيبها
عند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم العير، وعدم مجيء بيت المقدس
بين يديه صلى الله عليه وسلم وعدم وجود الزُّناة وأكلة الربا بين مكة وبيت
المقدس، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم لهم ليلة الإسراء كل ذلك لحُجج
عنده من أن هذه عقائد لا تثبت إلا بالقطع، وبعض هذه الأشياء لم يجد (كذا) فيه
دليل أصلاً، وبعضها قام عليه دليل غير يقينيّ مع قيام دليل العقل على خلافه،
ولما كنتم - بارك الله فيكم - أوقفتم أنفسكم على تحقيق مثل هذه المسائل نفعًا للأمة
وخدمة للدين، وقد شاهدنا غزارة علمكم وسعة فِكركم وكثرة اطلاعكم ورسوخ
ملكتكم العلمية التي قلَّ أن توجد لأحد من مُعاصريكم رجوت أن تكشف لي بَقِيت
أبدًا (؟) عن غطاء هذه المسائل وتُرجعها إلى أصولها، وتبرزها في صورتها
الحقيقية غير مشُوبة بخرافات المخرِّفين، بأدلتها من العقل أو الكتاب أو السنة
المتواترة أو المشهورة، كما هو شأنكم في جميع المسائل، لا زلت ينتفع بك الإسلام
والمسلمون.
…
...
…
تحريرًا في يوم الثلاثاء 5 شعبان سنة 1334 هـ
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... كاتبه
…
...
…
... ولدكم: محمد عليوه
(المنار)
يؤخذ من هذا الكتاب بضع مسائل، ينبغي بيان الحق فيها، وها
نحن نتكلم عليها واضعين لكل واحدة منها عنوانًا.
(1)
تكفير المسلم بما لم يصح عنده
من مسائل الدين
قد اعتاد الناس الجرأة على التكفير بغير علم حتى إن بعض المؤلفين في الفقه
توسعوا في المكفِّرات، فزادوا الناس جُرأة على تكفير من يخالف مذاهبهم وتقاليدهم،
وإن لم تكن من الدين في شيء. وقد بيَّنَّا من قبل أن الأصل في ارتداد المسلم عن
دينه هو جَحْده أو تكذيبه شيئًا في حقية شيء يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم
جاء به من أمر الدين؛ إذ يكون بذلك غير مؤمن بما جاء به الرسول - صلى الله
عليه وسلم - ولما كان الجهل في دار الإسلام غير عُذر جعل العلماء أمور الدين
قسمين:
(أحدهما) ما لا يُعذر أحد في دار الإسلام بجهله، وإن كان عاميًّا وهو
المُجْمَع عليه، المعلوم من أمر الدين بالضرورة، كفريضة الصلاة والزكاة والحج،
وكتحريم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، كالقتل والزِّنا وشرب الخمر والسرقة
والكذب والخيانة، فمن جَحَد من هذا القسم شيئًا كفر وعُدَّ مرتدًّا عن دين الإسلام.
وإنما يُعذر بجهل بعض هذه المسائل من كان قريب عهد بالإسلام لم يمرَّ عليه من
الزمن بعد إسلامه ما يكفي لوقوفه على ذلك، ومن نشأ بعيدًا عن دار الإسلام
كشاهق جبل - كما يقولون -.
(الثاني) ما شأنه أن لا يعرفه إلا المشتغلون بعلم الدِّين من فروع المسائل
وأصول الأحكام وأدلتها، فهؤلاء العلماء يؤاخذون بحسَب عِلمهم، فمن جحد منهم
شيئًا من الدِّين يعلم أنه ثَبَت في كتاب الله أو سنة رسوله أو أجمع عليه الصحابة،
ولم يكن متأولاً في جحده كان بذلك مرتدًّا كما هو ظاهر.
وأما من جحد أو أنكر شيئًا مختلَفًا في أصله أو دليله أو في دلالة ذلك الدليل
عليه؛ لأنه لم يصحَّ عنده أو لمعارض رآه أرجح منه بضرب من التأويل فلا يُعدُّ
مرتدًّا بذلك، ولكنه إذا انتهى به التأويل إلى مخالفة جماعة السلف الصالح من أهل
الصدر الأول عُدَّ مبتدعًا، وإن كان موحِّدًا مقيمًا لأركان الإسلام.
ولم يُكفِّر أهل السنة من أنكر خبر المِعراج، ولا من قال: إنه كان بالروح
فقط، بل قال بذلك بعض أهل السنة، ولا من قال إن الجنة والنار لم يُخلقا بعدُ
وإنما يُخلقان يوم القيامة، ولا من قال: إن المؤمنين لا يرون ربهم في الجنة، فقد
قال بذلك جمهور من الجهمية والمعتزلة ولم يكفرهم علماء السلف به، كما ترونه في
أشهر كتب العقائد التي تُدرَّس في الأزهر وغيره من المدارس الإسلامية في
جميع الأقطار.
وإذا كانوا لا يُكفِّرون من يُنكر أصل المعراج إلا إذا أنكر الإسراء المنصوص
في القرآن، ولا يكفرون من ينكر رؤية الباري - تعالى - في الآخرة المصرَّح بها
في الأحاديث المتفق عليها، فكيف يكفرون من ينكر رجوع الشمس للنبي - صلى
الله عليه وسلم - بعد غروبها، والحديث فيه غير صحيح، أو ينكر مجيء بيت
المقدس إلى الحجاز وكون المذنبين الذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم
يعذَّبون كانوا موجودين بأجسادهم بين مكة وبيت المقدس، ولا نُصَّ على هذا في
كتاب ولا سنة، وما عهدنا أحدًا من علماء المسلمين يجعله من عقائد الدين،
وسترى معنى ذلك في المسائل الآتية:
***
(2)
المعراج روحي أم جسدي
قد فصَّلنا القول في مسألة المعراج في المجلد الرابع عشر من المنار فلْيُراجع
في ص 644 و 732 منه، وفيه أن عُمدة من قال إن المعراج كان في المنام،
حديث شريك عند البخاري.
***
(3)
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس
إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لبيت لمقدس، ووصفه إياه
للمشركين وهو بمكة ليس معناه أن بيت المقدس انتقل إلى مكة، وإنما معناه أنه مَثَل
له كما مَثَلت له الجنة في عُرض الحائط، ولفظ الحديث في ذلك كما ورد في حديث
جابر في الصحيحين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لما
كذبتني قريش قمت في الحِجْر فجلَّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أُخبرهم عن
آياته وأنا أنظر إليه) هذا نص حديث الشيخين، ومعنى جلاه أظهره.
وقال بعض العلماء: معناه كشف الحُجُب بيني وبينه حتى رأيته. قال
الحافظ في الفتح: ووقع في حديث أم هانئ عند ابن سعد (فخُيِّل إليَّ البيت
المقدس) [1] فطفقت أخبرهم عن آياته فإن لم يكن مغيَّرًا من قوله: (فجلَّى) وكان
ثابتًا، احتمل أن يكون المراد أنه مَثَل قريبًا منه كما قدّم نظيره في حديث: أُرِيت
الجنة والنار وتأول قوله: (جيء بالمسجد)[2] أي: جيء بمثاله - والله أعلم.
ووقع في حديث شدَّاد بن أوس ما يؤيد الاحتمال الأول، ففيه ثم مررت بِعِير
لقريش - فذكر القصة - ثم أتيت أصحابي قبل الصبح، فأتاني أبو بكر فقال: أين
كنت الليلة؟ فقال: (إني أتيت بيت المقدس) فقال: إنه مسيرة شهر فصِفْه لي،
قال: (ففُتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه)
اهـ المراد من عبارة الفتح.
وأما لفظ حديث أم سلمة عند مسلم (فرفع الله لي بيت المقدس أنظر إليه)
فيتفق مع ما تقدم بمعنى أنه رفع إليه مثاله، وقد غفل من زعم أن بيت المقدس نُقل
من مكانه إلى مكة عما يترتب على ذلك من استحالة وجوده عند دار عقيل كما ورد
في رواية ابن عباس؛ لأن وضع الجسم الكبير في المكان الصغير الذي لا يبلغ عُشره
مُحال، ومن كون وجوده بمكة يستلزم أن يراه جميع الناس، ولو وقع ذلك لَتواتر،
ومن كون نقله يستلزم عِلم جميع أهله ومَن حولهم به، ولو وقع ذلك لَتواتر نقله
عنهم.
وقد غفل من مال إلى ترجيح ذلك اللفظ على ما هو أصح منه وأقرب إلى
المعقول عن كل ذلك، واكتفي بأن هذا أبلغ في المعجزة، وأن الله قادر عليه، وهو
لم يكن مما وقع به من التحدي، ولا ترتب عليه إيمان أحد. فهل يُبطل الله -
تعالى - سنته في الكون عبثًا؟
وهذا التوجيه يحتاج إليه في رؤية بيت المقدس من اعتمد قول الجمهور: إن
الإسراء فقط أو الإسراء والمعراج معًا كانا في حال اليقظة بالروح والجسد كمن قال:
إن ذلك رؤيا منامية، أو مشاهدة روحية وقعت حال اليقظة؛ لأن سؤال قريش
النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم بيت المقدس إنما كان في اليقظة قطعًا
بغير خلاف.
***
(4)
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم المذنبين يعذبون
إذا كانت رؤية النبي لبيت المقدس من قَبِيل الكشف الذي يحصل بإدراك
النفس للشيء بغير واسطة العينين، أو بجعل الله - تعالى - مثال ذلك أمام العينين
فالظاهر أن رؤية من رآهم يعذّبون بذنوبهم من قبيل رؤية المثال بالأولى؛ لأن
بيت المقدس من عالم الشهادة، وعذاب المذنبين بما رُوي في الحديث من عالم
الغيب ليس له مكان في الدنيا يشاهد بين مكة وبيت المقدس. وكل ذلك من آيات الله
التي أراه إياها في ليلة الإسراء.
ومن هذا القبيل رؤيته الجنة والنار، وهو يخطب كما رُوي في الصحيحين.
وتعبيره عن ذلك في بعض الروايات بأنهما مثلَتا له في الجدار. وقد وصفت الجنة
في القرآن بقوله - تعالى - {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (الحديد: 21) فهل
تجتمع هي والنار في جدار المسجد؟ وورد أن من أولئك المعذَّبين من تتثاقل
رءوسهم عن أداء الصلوات - والصلاة لم تكن شرعت - فقد تمثل له - صلى الله
عليه وسلم - عذابهم قبل وقوعه بالنسبة إلى أمته.
إن رؤية البشر الروحية لبعض الموجودات الغائبة عن أبصارهم قد تثبت
بالتجارب الكثيرة في جميع الأقطار، ومنها ما ثبت للدكتور شبلي شميل من علماء
العصر الماديين، وقد ذكرنا في بعض مجلدات المنار خبره مع المريض الذي كان
يعالجه، ويسمع منه الأخبار الكثيرة عما يدركه بنفسه غائبًا عن حسه كإخباره عن
قريب له في الإسكندرية بأنه سافر منها إلى القاهرة في القطار الذي يتحرك من
الإسكندرية في ساعة كذا، ثم إخباره بوصوله إلى محطة القاهرة، وركوبه العربة
منها قاصدًا دار المريض، ثم بوصوله إلى باب الدار، وكان الأمر كما قال.
وأذكر مما وقع لي من ذلك في الصغر أنني هربت مرة من الكُتَّاب واختبأت
في بستان لجدتي، أم والدتي، وكنا نحن مصطافين في بستان لنا يبعد عن هذا
البستان مسافة زُهاء ربع ساعة، وكانت جدتي في بستاننا فتمثلت لي خارجة منه
حتى كأني أنظر إليها متتبعًا خطواتها من أول الطريق إلى آخره حتى أنني ناديتها
عندما وصلت إلى مدخل بستانها وقبل أن تدخله ويقع بصري عليها فأجابتني،
وكنت أعتقد أنها تحمل إليّ ما يطيب لي أكله فكان كذلك. ومثل هذا كثير.
ولكن ما يقع للأنبياء من ذلك فوق ما يقع لبعض البشر، كذلك المريض
وبعض الصوفية، وأكمل منه؛ لأنه يشمل عالم الغيب وما لا يصل إليه غيرهم من
عالم الشهادة.
***
(5)
رجوع الشمس بعد غروبها
أو وقوفها للنبي صلى الله عليه وسلم
يرى السائل تفصيل القول في هذه المسألة في ص 70 من مجلد المنار التاسع
وحسبُك منه قولنا هنالك: (إن مسألة رد الشمس له صلى الله عليه وسلم قد
ورد في رواية ضعيفة من أحاديث المعراج، وورد في رواية أقوى منها في مناقب
علي - كرم الله وجهه -. وهذه الرواية وثَّقها الطحاوي في (مشكل الآثار) وتبعه
القاضي عياض في الشفاء، وقد تكلم فيها بعض الحُفَّاظ، بل أوردها ابن الجوزي
في الموضوعات، وتعقبه في اللآلئ (فإن شئت الزيادة وما قيل في الطعن في
الرواية فارجع إلى المجلد التاسع أو إلى الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة
للإمام الشوكاني.
***
(6)
وجود الجنة والنار
ظواهر نصوص الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة المتفق عليها، تدل على
أن الجنة والنار داري الجزاء للأبرار والفُجَّار هما عالَمان مخلوقان، ولا نرى ما
يعارض هذه الظواهر من الدلائل العقلية ولا النقلية، فإن كان لدى السائل ما
يعارض ذلك فليذكره لنا لنبين رأينا فيه.
***
(7)
رؤية الباري سبحانه وتعالى
في الآخرة
إن من أصول العقائد القطعية المعلومة من الدين بالضرورة أن نعيم الآخرة
قسمان، رُوحاني وجسماني؛ لأن البشر لا تنقلب حقيقتهم في الآخرة بل يبقون
بشرًا أُولي أرواح وأجساد، ولكن الرُّوحانية تكون هي الغالبة على أهل الجنة،
فيكون النعيم الروحاني عندهم أعلى من النعيم الجسماني. ومن الثابت بالاختبار
والتجارب أن العلماء الراسخين والحكماء الربانيين، والفلاسفة الماديون [3]
والرؤساء السياسيين، كلهم يفضلون اللذات العقلية الروحية والحياة المعنوية، على
اللذات المادية الجسَدية، فترى أحدهم يزهد في أطايب الطعام، وكئوس المُدام،
ويتجافى جنبه عن مضجعه، ذاهلاً عن حقوق حَليلته، تلذُّذًا بحَل مشكلات المسائل،
واكتشاف أسرار الكون، أو بالنفث في عُقَد السياسة، وما تقتضيه أعباء الرياسة؛
ألا وإن أعلى العلوم العقلية والمعارف الرُّوحية في هذه الدنيا هو معرفة الله -
سبحانه وتعالى والعلم بمظاهر أسمائه وصفاته في خلقه، والوقوف على سُننه
وأسراره فيها، وكشْف الحُجُب عما أُودع فيها من الجمال والجلال، وفي النظام
الذي قامت به من آيات الكمال، التي هي مُجلَّى صفات بارئها، منتهى الجمال
والجلال والكمال {عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ} (الرعد: 9) .
وما زال أصحاب الهمم العالية من العلماء والحكماء، يستدلون بما ظهر لهم من
تلك السنن والآيات على كمال مبدعها ومبدئها ومصرِّفها، وتتطلع عيون عقولهم إلى
كيفية صدور الوجود الممكن الحادث، (وهو مجموع هذه العوالم العلوية والسفلية)
عن الوجود الأزلي الواجب، ويهتمون بارتقاء الأسباب بعد ذلك، بتّحوُّل البسائط
وتولُّد بعضها من بعض، قبل وجود هذه المركَّبات المعروفة من السماء والأرض،
طمعًا في معرفة حقيقة ذلك الوجود الأعلى، على عجزهم عن إدراك كُنْه أدنى هذه
الموجودات السُّفلى، وقد اختلف الحكماء في إمكان وصول العِلم البشري إلى حقيقة
الوجود الأول الأزلي، وكيفية صدور الموجودات الممكنة عنه - فقال بعضهم
بإمكان ذلك وتوقع حصوله في يوم من الأيام، وقال آخرون بأنه فوق استعداد الأنام.
والحق في ذلك ما هدانا إليه دين الله الحق، وهو أن إدراك أبصار الخلق
له سبحانه وتعالى وإحاطة علمهم به من المُحال الذي لا مَطمع فيه {لَا تُدْرِكُهُ
الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الأنعام: 103) ، {يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: 110) ولكن العَجْز عن
الإدراك والإحاطة، لا يستلزم العجز عما دون ذلك من العلم والمعرفة، التي ترتقي
إلى الدرجة التي عُبِّر عنها بالتَّجلي والرؤية، فإن كانت ظواهر الآيات في ذلك
متعارضة، فالأحاديث والآثار الصحيحة المبينة له جلية واضحة.
إنما وقع المِراء بين المتكلمين والمتفلسفين، وبين علماء الآثار في كلمة
(الرؤية) فأثبتها أهل الأثر؛ لدلالة ظواهر القرآن ونصوص الأحاديث عليها،
ومنعوا قياس رؤية الباري - تعالى - على رؤية المخلوقات، بدعوى استلزامها
التحيز والحدود، وغير ذلك من صفات الأجسام، وقالوا: إننا لا نبحث في كيفيتها
كما أننا لا نبحث في كيفية ذاته ولا صفاته - تعالى -، فإننا نجزم بأن له علمًا
وقدوة وسمعًا وبصرًا، ولكن علمه ليس كعلمنا ناشئًا عن انطباع صورة المعلومات
في النفس، ومكتَسَبًا لها بالحواس أو الفكر، وكذلك قدرته وسائر صفاته.
فنحن نجمع بين الإيمان بالنصوص في أسماء الله وصفاته وأفعاله وسائر
شئونه، وبين تنزيهه عما لا يليق به من مشابهة خلقه الممنوعة بدلائل النقل
والعقل، كما قال عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) .
ونفاها أهل الكلام والفلسفة بناءً على قياس الخالق سبحانه وتعالى على
المخلوق، ودعوى منافاة الرؤية للتنزيه، الذي هو أصل العقيدة وركنها الرَّكين.
ولكنهم لا يستطيعون إنكار الحقيقة التي أثبتها أهل السنة والجماعة إذا عبر عنها
بغير لفظ الرؤية كأن يقال: إن أعلى نعيم أهل الجنة لقاء الله - تعالى - بتجليه
عليهم، تجليًا يحصل لهم به أعلى ما استعدت له أنفسهم وأرواحهم من المعرفة،
وإن أعظم عقاب لأهل النار حَجْبهم عن ربهم، وحرمانهم من هذا التجلي والعِرفان
الخاص بدار الكرامة والرِّضوان، فإنهم لا يعتنون بتأويل مثل قوله - تعالى -
في المتقين: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} (الأحزاب: 44) وقوله في الكافرين:
{كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين: 15) كما يعتنون بتأويل
قوله: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: 22-23) بأن النظر
معناه الانتظار والرجاء، وما ردَّ به بعضهم على بعض في الآية يُطلب من الكشَّاف
والبيضاوي وحواشيهما، وسائر كتب التفسير، ومن كتب الكلام، وشروح
الأحاديث.
وكم بين حُذَّاق الجِدال تَنَازُع
…
وما بين عُشَّاق الجمال تَنَازُع
ومن غرائب جدالهم أن كلاً منهم يستدل على مذهبه بطلب موسى - عليه
السلام - رؤية ربه، وقوله - تعالى -:{لَن تَرَانِي} (الأعراف: 143) الآيةَ
فأهل السُّنة يستدلون على جواز الرُّؤية بسؤال الكليم إياها، وعدم إنكار الباري -
تعالى - عليه هذا السؤال كما أنكر على نوح عليه السلام سؤاله نجاة ولده الكافر
بناءً على أنه من أهله الذين وعده بنجاتهم - وبتعليق الرؤية على جائز وهو
استقرار الجبل، والمعتزلة يستدِلون بالآية على عدم الرؤية بعدم إجابة الكليم إليها،
وتعليقها على ما عَلِمَ الله أنه لا يكون.
وإذا كانت الآيات التي استدل بها كل فريق ليست نصًّا قاطعًا في مذهبه، ففي
الأحاديث المتَّفَق عليها ما هو نصّ قاطع، لا يحتمل التأويل في الرؤية وتشبيهها
برؤية البدر والشمس في الجَلاء والظهور، وكونها لا مضارَّة فيها ولا تضامّ ولا
ازدحام.
وفي كتاب التوحيد من صحيح البخاري أحد عشر حديثًا في ذلك، وجمع ابن
القيم في (حادي الأرواح) ما ورد في ذلك من الأحاديث، فكان ثلاثين حديثًا. قال
الحافظ ابن حجر عند إشارته إلى ذلك: وأكثرها جِياد. وزاد ابن القيم ما ورد عن
الصحابة والتابعين وأئمة علماء الأمصار في ذلك، وحملهم إياه على ظاهره مع
تنزيه الله - تعالى - فكان بعض ما قالوه تأويلاً أبعد من تأويل المنكرين.
قال الحافظ في الكلام على تفسير {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: 22-23) من شرح كتاب التوحيد من البخاري ما نصه: واختلَف مَنْ
أثبت الرؤية في معناها، فقال قوم يحصل للرائي العلم بالله - تعالى - برؤية العين
كما في غيره من المرئيات، وهو على وَفْق قوله في حديث الباب: (كما ترون
القمر) إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية، وذلك أمر زائد على العلم.
وقال بعضهم: إن المراد بالرؤية العلم، وعبَّر عنها بعضهم بأنها حصول
حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة، نسبة الإبصار إلى المرئيات. وقال
بعضهم: رؤية المؤمن لله نوع كشف وعلم إلا أنه أتم وأوضح من العلم، وهذا
أقرب إلى الصواب من الأول اهـ.
ثم ذكر ما تعقب به من قال: إن المراد بالرؤية العلم. وإنما قال في القول
الأخير: إنه أقرب إلى الصواب، لما فيه من التفويض وعدم التحديد، وهذا المعنى
هو الذي قال به الغزالي وأوضحه في كتاب المحبة من (الإحياء) بما يَعْهد من قرأ
الإحياء من بيانه وفصاحته.
هذا وإن إحصاء ما ورد في هذا الباب مما استدل به على الرؤية إثباتًا ونفيًا
من الآيات والأحاديث، وسرد كلام المثبتين والنُّفاة، وبيان الراجح منه والمرجوح
يستغرق عِدَّة أجزاء من المنار، ولن يُرضي ذلك منا أكثر القراء، وجملة القول
في المسألة أن الآيات القرآنية فيها ليس فيها نص قاطع لا يحتمل التأويل، ولكن
الأحاديث الصحيحة والحسنة صريحة في ذلك لا تحتمل التأويل، والمرفوع منها
مروي عن أكثر من عشرين صحابيًّا دَعْ الموقوف والآثار.
ولم يرد في معارضتها شيء أصرح من حديث عائشة المتفَق عليه عن
مسروق قال: قلت لعائشة: رضي الله عنها يا أمتاه هل رأى محمد - صلى
الله عليه وسلم - ربه ليلة المعراج؟ فقالت: لقد قفَّ شَعري مما قلت! أين أنت مِن
(ثلاث مَن حدثكهن فقد كذب) مَن حدثك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى
ربه فقد كذب، - وفي رواية (فقد أعظم على الله الفِرية) - ثم قرأت:
{لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الأنعام: 103) ،
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} (الشورى: 51)
ومَن حدثك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب، ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ
غَداً} (لقمان: 34) ومن حدثك أنه كتم - أي أن النبي صلى الله عليه وسلم
كتم شيئًا من الدين - فقد كذب، ثم قرأت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ} (المائدة: 67) - الآية- ولكن رأى جبريل في صورته مرتين اهـ.
وقد ذكر النووي في شرح مسلم أن عائشة لم تنفِ وقوع الرؤية بحديث
مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر
الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة
…
إلخ.
وذكر الحافظ في الفتح أنه قال ذلك تبعًا لابن خُزَيمة ذاهلاً عما ورد في
صحيح مسلم الذي شرحه، وذكر أن في حديث مسروق عنده زيادة عما ذكرناه من
لفظ البخاري، وهي: قال مسروق: وكنت متكئًا فجلست وقلت: ألم يقل الله:
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (النجم: 13) فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إنما هو جبريل
…
إلخ.
فعلم من هذا أن عائشة تنفي دلالة سورة النجم على رؤية النبي - صلى الله
عليه وسلم - لربه بالحديث المرفوع، وتنفي جواز الرؤية مطلقًا أو في هذه الحياة
الدنيا بالاستدلال بقوله - تعالى -: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (الأنعام: 103) ،
وقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} (الشورى: 51) ويعارض هذا الاستدلال أنه ليس نصًّا في النفي حتى يُرَجَّح
على الأحاديث الصريحة في الرؤية، وقد قال بها بعض علماء الصحابة.
وقال بعض العلماء: إن عائشة ليست أعلم عندنا من ابن عباس الذي أثبت
الرؤية للنبي ليلة المعراج، وفي هذا القول بحث، فإن ابن عباس استنبط إثبات
الرؤية في الدنيا من الآيات، وقد انفرد بذلك دون سائر الصحابة، وأما من رُوي
عنهم إثبات الرؤية في الآخرة، فليس فيهم أحد يقال: إنه أعلم من عائشة إلا والدها
الصدِّيق وعليُّ المرتضى وزيد بن ثابت وقد يذكر في طبقتها منهم العبادلة. ولكن
الحديث عن أبي بكر وزيد بن ثابت في هذا الباب ضعيف، وعن علي موضوع
حتى إن ما رُوي عنها نفسها فيه أقوى سندًا.
ويقول النفاة: لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج لما
خفي نبأ ذلك عن عائشة مع ما علم من حرصها على العلم، وسؤالها إياه عن آية
النجم؟ وقد يقول النفاة أيضًا: لو كانت الرؤية في الآخرة عقيدة يطالب المسلمون
بالإيمان بها لما جهلتها عائشة. ولكن هذا القول لا ينهض لمعارضة إثبات المثبتين
لها بالأحاديث الصريحة، وإنما قصاراه أن يعد دليلاً على أن المسألة من أمور
الآخرة التي كان يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا لبعض الخواص؛ إذ
لا يضر العامة جهلها، فلم يقصد أن تكون عقيدة يدعى إليها مع التوحيد.
وأحسن ما يجاب به عن استنباط عائشة وأقواه عند المثبتين أن يقال: إنها
تريد به نفي الرؤية في الدنيا كما قال بذلك الجمهور، ولا تقاس شئون البشر في
الآخرة على شئونهم في الدنيا؛ لأن لذلك العالم سُننًا ونواميس تخالف سنن هذا العالم
ونواميسه حتى في الأمور المادية كالأكل والشرب والمأكول والمشروب. فماء الجنة
غير آسن فلا يتغير كماء الدنيا بما يخالطه أو يجاوره في مَقره أو جوّه، وخمرها
ليس فيها غَوْل يغتال العقل ولا يُصَدَّعون عنها ولا يُنْزِفون، ولبنها لا يعتريه فساد
ولا تخالطه (ميكروبات) أمراض، وكذلك فاكهتها وثمراتها هي على كونها أعلى
وأشهى مما في الدنيا لا تفسد. قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة
إلا الأسماء.
وكذلك أمزجة أهلها، هي أصح وأسلم من أمزجة أهل الدنيا حتى إنهم يأكلون
ويشربون فيكون هضمهم بالتبخر ورشح العرق، ففي الحديث الصحيح أنه جشاء
ورشح، لها ريح المسك ولا عجب في ذلك، فإن علماء العصر الذين يظنون أن في
كوكب المريخ أحياء عقلاء كالبشر يجزمون بأنهم لا بد أن يكونوا أكبر منا أجسامًا
وأسرع من الخيل العادِيَة في حركتهم العاديّة، هذا وعالم المريخ لا يُعرف فيه من
الحياة الرُّوحانية العالية مثل ما ورد في حياة الجنة، ولكن ما ذكره علماء العصر
في شأنه يقرِّب تصوُّر ما ورد في صفة الآخرة من الأذهان المقيدة بالمألوفات، فإن
بعض الناس إنما ينكرون أخبار الآخرة؛ لأنها مخالفة لما جمدوا عليه من المألوفات،
ولو أنهم أخبروا بما اكتشف من أسرار الكون في هذا العصر كخواص الكهربا
والراديو قبل أن يصير مشهودًا مقطوعًا به لَمَا صدقوه.
قال الله عز وجل في بيان جزاء المؤمنين القائمين بأعمال الإيمان حق
القيام: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: 17) ووضح ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي رواه
الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم (قال الله عز
وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر) وروى أهل الكتاب مِثل هذا عن سيدنا عيسى صلى الله عليه وسلم
فإذا ثبت لنا أن كل ما في دار الكرامة أعلى وأسمى مما في الدنيا حتى الأجسام،
وصفات الناس وغرائزهم وأنه لا يشارك ما في الدنيا إلا بالاسم. الذي عبر به
لضرورة تقريب تلك المعاني الغيبية من الفهم، فهل يصح بعد ذلك أن نعمد إلى
أعلى ما هنالك من الشئون الإلهية المعنوية فنشبهه بشئون الدنيا فنجعل تجلي
الرب سبحانه وتعالى لأولئك العباد المكرَمين الذين رقاهم وكمَّلهم وأهَّلَهم
لكمال معرفته تحيُّزًا ومشابهة الخلق؟ ونجعل ما يحصل لهم من ذلك التجلي من
العلم الأكمل والمعرفة العُليا التي تستغرق أرواحهم، وجميع مشاعرها الظاهرة
والباطنة إدراكًا لكُنْهه عز وجل وإحاطة علم به - تعالى - عن ذلك؟ ثم نعذر
أنفسنا على هذا الجهل بأن ذلك قد سمي رؤية ومعاينة، ولا بد أن تكون الرؤية
هنالك كرؤيتنا التي نعهدها هنا؟
سبحان الله! أيكون كل ما هنالك من أعيان المخلوقات وصفاتها وأحوالها
مخالفًا لما له اسمه منها هنا إلا ما يتعلق بشأن الخالق عز وجل فهو الذي يجب
أن يكون مشابهًا لشئون المخلوقين بعضهم مع بعض؟ أهذا هو المذهب الذي يدعي
أصحابه اتِّباع المعقول، ويسخرون من أهل السنة بزعمه أنهم جمدوا على بعض
أحاديث الآحاد من المنقول؟ وهم الذين قد جمدوا على ما دون ذلك من الألفاظ
العربية التي استعملت في صفات الباري - تعالى - وشئونه وأخبار عالم الغيب
فتراهم يصرفونها عن معانيها، ويعطلون مدلولاتها المقصودة لتوهمهم أنها لا تكون
صحيحة إلا إذا كانت مدلولاتها في عالم الغيب كمدلولاتها في هذا العالم من كل وجه
ثم تحكموا فأثبتوا بعض صفات البارئ - تعالى - بدون تأويل، كالعلم والقدرة
والإرادة، وأوَّلوا أكثرها، كالكلام والرحمة والمحبة والغضب والرضا والعُلُوّ،
والوجه واليدين
…
إلخ وهذا عين التشبيه، وهذا عين التعطيل - وأهل السنة
يُثبتون له - تعالى - كل ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله
عليه وسلم - ويُنزهونه فيه كله عن مشابهة خلقه، ولا يَرَوْن فارقًا بين العلم
والرحمة والكلام، فكلها من صفات الكمال الثابتة له مع التنزيه.
فعلمه ليس كعلم البشر منتزعًا من صور المعلومات بالحس أو الفكر، وكلامه
ليس كيفية عرَضِيَّة تحصل بتموج الهواء بتأثير الصوت الذي يخرج من الفم،
وكذلك سائر شئونه - تعالى -، فتجلِّيه لخواص خلقه في دار كرامته ليس كظهور
بعضهم لبعض، وإذا قد عرفنا بالمُشاهدة في عالم الحِسّ أن إيقاد مصباح الزيتون أو
زيت البترول لا يشبه إيقاد مصباح الكهرباء بوجه من الوجوه، ولا يشترط في
الثاني ما يُشترط في الأول - ونجزم بأن هذا الفرق لا يمكن أن يتصوره من لم
يعرف الكهرباء ألبتة - فيجب علينا أن لا نستغرب ما هو أبعد من هذا الفرق بين
عالم الغيب والشهادة في اختلاف الكيفية لحقيقة واحدة كالرؤية.
ومَن كان له حظّ من معرفة الله - تعالى - في الدنيا لا يحتاج إلى الأمثال،
وحسب المحروم منها أن ينتفع بالأمثال، {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا
إِلَاّ العَالِمُونَ} (العنكبوت: 43) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
خيل إليه بمعنى له أي: رأى خياله ومثاله وفي رواية لها عند أبي يعلى وابن عساكر (فأتاه جبريل فصوره له في جناحه) .
(2)
أي في حديث ابن عباس الذي ذكره قبل ذلك، وهو عند أحمد والنسائي والبيهقي وفيه أنه جيء بالمسجد حتى وضع دون دار عقيل.
(3)
أي وكذا الفلاسفة الماديون وهو استعمال يعد بليغًا إذا كان لما رفع خصوصية في السياق ككون الماديين هنا مظنة لمخالفة الروحيين ويقابل هذا الاستعمال في نصب ما هو في مقام الرفع ما نصب على الاختصاص أو المدح والذم.
الكاتب: محمد توفيق صدقي
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(14)
التيوبر كيولين
Tuberculin
زيادة الياء والنون في هذا اللفظ اللاتيني هي - كما قلنا - للدلالة على المادة
أو الأصل الفعال في الدرن [Tubercle] أعني أنه اسم الخلاصة تستخرج من
باسيل الدرن نفسه أو مما يربى فيه. فهي نوعان، يسمى بالتيوبر كيولين العتيق
والآخر بالتيوبر كيولين الجديد. وأول من أدخل هذا الصنف من العلاج في الطب
هو العلامة كوخ سنة 1890 محاولاً بذلك إيجاد دواء شافٍ للدرن بكافة أنواعه،
ولكنه لم يتحقق غرضه إلى الآن.
أما التيوبر كيولين العتيق فهو عبارة عن السموم التي يفرزها ميكروب الدرن
في السائل الذي يربى فيه كالمرق مع الجليسرين، ويتحصل عليه بالتصفية خلال
المرشحات لفصل الميكروب عنه فهو في الحقيقة سموم الميكروب التي تخرج من
جسمه في السائل المذكور، ويكون لونه أصفر أدكن وقوامه غليظًا ، وفائدة
الجليسرين حفظه من الفساد.
وإذا حقن هذا السائل في الشخص السليم لا يحدث منه شيء، ولكن إذا حقن
في إنسان أو حيوان مصاب بدرن في أي عضو من جسمه ارتفعت حرارته
وأصابته رِعدة وأحس بتوعك وآلام في مفاصله، وقد يُفْرَز زلال في بوله أو يظهر
طفح على جلده ويلتهب المكان المصاب بالدرن. ونظرًا لشدة هذه الأغراض لم
يستحسن الأطباء معالجة الدرن بهذه الطريقة، واقتصر بعضهم على استعمالها في
معالجة الدرن الجلدي المسمى لوبس (داء الذئب) لأن ما يصيب الجلد من الحقن
يمكن مراقبته وتلافيه. زد على ذلك أن تنبيه الجلد المريض بهذا الداء قد يكون
نافعًا فيه، ومع ذلك يأبى كثير من الأطباء استعماله حتى في هذا الداء، فاقتصرت
فائدة التيوبر كيولين على استعماله في تشخيص الدرن في الأنعام كالبقر فإن السليم
منها إذا حقن به لم يصبه بشيء، ولكن إذا حقنت البقرة المسلولة ارتفعت حرارتها
أي أصابتها الحمى. واستعماله لتشخيص الدرن في الإنسان لا مسوغ له مع أن
هناك طرقًا أخرى تفضله.
أما التيوبر كيولين الجديد فهو عبارة عن خلاصة تستخرج من نفس جسم
الميكروبات الدرنية، وبعبارة أخرى هو السم الكامن في أجسامها فهو غير السم
الذي تفرزه في السائل الذي تُربى فيه. وإذا حقن هذا التيوبر كيولين الجديد أيضًا
في السليم لا يحدث منه شيء، وإذا حقن في المريض حدثت أعراض كالأعراض
المذكورة آنفًا غير أنها لا تكون عادة مصحوبة بالانفعال الموضعي في مكان الدرن
فلا يتنبه ولا يلتهب. وهو قليل الاستعمال لتشخيص مرض الأنعام، ولكن بعض
الأطباء يستعملونه في معالجة الدرن الإنساني، وإن خالفهم الآخرون في نفعه، بل
منهم من يرى أن ضرره أكبر من نفعه.
وإذا حقن تحت الجلد حدث منه خراج، ولذلك اضطر بعض المصانع إلى
إزالة بعض المواد التي تشبه الدهن منه، وهي التي يظنون أنها السبب في التقيح
وفي عسر امتصاصه.
وهناك عدة طرائق لاستعمال التيوبر كيولين العتيق للتشخيص أشهرها أربع
وهي:
(1)
الحقن تحت الجلد.
(2)
وضعه على الملتحمة عند المُوق، ويبقى الجفنان مفتوحين بضع
دقائق، فإذا كان في جسم الشخص أي درن احمرت ملتحمة الجفن الأسفل، وكذلك
اللحيمة الدمعية التي في الموق بعد ثلاث ساعات، ويزداد الاحتقان بعد ست ساعات
وتَرِم اللحيمة ويكثر الدمع، وتغطى العين ببعض الإفراز (الرمص) ويصل
هذا الالتهاب إلى أقصاه بين 6 ساعات و13 ساعة، ثم يأخذ في الزوال بعد يومين
أو أكثر، وهذه الطريقة ليست خالية من الخطر على العين. ومحلول التيوبر
كيولين الذي يستعمل فيها يكون بنسبة 5. 0 في المائة من الماء المقطر
العقيم.
(3)
بطريق الجلد، وذلك بتلقيح الجلد كما يلقح لأجل الوقاية من
الجدري فيحصل التفاعل باحمرار الجلد وتورمه في 24 ساعة ويشتد بعد يومين،
وفي اليوم الثالث يبدأ في الزوال، ويتم ذلك في اليوم الرابع. وهذه الطريقة تُستعمل
كثيرًا في الأطفال الذين يقل عمرهم عن خمس سنوات.
(4)
يعمل مرهم من التيوبر كيولين مع [اللانولين Lanoline][1]
(دهن يستخرج من صوف الغنم) بنسبة (1 إلى 1) ويدهن به جزء من الجلد
فيلتهب بعد يوم أو اثنين، وقد يظهر فيه دمل أو بثرة. واعلم أنه قد يتأثر
الحيوان من التيوبر كيولين ويكون سليمًا إذا سبقت أصابته بالدرن وشُفي منه. وإذا
حقن تحت الجلد بمقدار كبير (0.01 السنتيمتر المكعب) ولم يحصل انفعال
دل على السلامة من المرض مطلقًا أو على الأقل من المرض الفعال في البنية فلا
ينافي ذلك وجود مرض سابق شُفي منه المَحقون.
***
الجمرة الخبيثة
Anthrax
يعرف هذا المرض في الحيوانات باسم (الحمى الطحالية) وهو يصيب
الإنسان أيضًا. وينشأ من ميكروب باسيلي يوجد في العضو المصاب وفي الدم
والأحشاء والإفرازات، ولا حركة له، وطوله يختلف من 5 مك [2] إلى 20 مك
وقد يكون مستقيمًا أو منحنيًا قليلاً، ويتكاثر بالانقسام ويتكون في داخله أيضًا
حُبيبات، وهذه إذا انفصلت منه استطالت ونشأ منها الباسيل، ولكن التكاثر بهذه
الطريقة الحُبيبية لا يحصل إلا في خارج أجسام الحيوانات. وهذه الحُبيبات تقاوم
درجات كبيرة جدًّا من الحرارة فلا يسهل قتلها ولو بالغلي إلا بعد بضع دقائق.
يصيب هذا الداء الحيوانات إذا لُقحت بالميكروب بالعض أو بلدغ الحشرات،
وقد تصاب أيضًا به إذا أكلت من مرعى تلوث ببراز الحيوانات المريضة.
أما إصابة الإنسان به فتكون إما من الحيوانات الحية، ولذلك تصاب به
الرعاة كثيرًا وإما من جثث الموتى بهذا الداء - وهو الأكثر - كما يحصل للقصَّابين
(الجزارين) والدباغين بتلقيح أجسامهم بالميكروب إذا مست شيئًا من جثة الحيوان.
وقد تحصل العدوى من أكل اللحوم المصابة أو من مس الصوف والشعر
المأخوذين من الحيوانات المريضة، وقد يصل أيضًا هذا الداء بطريق التنفس بأن
يستنشق ميكروبه مع التراب والغبار الذي يتطاير من البضائع الصوفية ونحوها إذا
لم يطهر الصوف قبل صناعته.
ومن النادر أن ينتقل هذا المرض من إنسان إلى آخر بمجرد اللمس، وقد
شوهد المرض بين تجار الخِرق البالية التي تستعمل في صناعة الورق.
والحيوانات التي تصاب به هي الإنسان والغنم والمعز والأرانب وخنازير
الهند والفئران، وكذلك الخيل والخنازير، أما الكلاب والقطط فلا تصاب به.
***
الأعراض
لهذا المرض ثلاثة أشكال (1) الشكل الموضعي (2) الشكل الداخلي
الرئوي (3) الشكل الداخلي المَعِدي المَعَوي. وفي كلا الشكلين الأخيرين قد
يصاب ظاهر الجسم أيضًا، وإنما نشأت هذه الأشكال المختلفة بحسب مدخل
الميكروب، فإنه قد يدخل من الجلد أو من الرئة في الهواء المستنشق أو من الجهاز
الهضمي مع الطعام أو الشراب.
أما الشكل الأول فيشاهد كثيرًا في الوجه أو العنق أو الأيدي بعد جرح أو
سحج (خدش) فبعد زمن التفريخ الذي يتراوح بين بضعة أيام وبضع ساعات
يحدث أكَلان ولهيب في المكان الملقَّح، ويظهر دمل صغير يمتلئ بسائل رقيق، ثم
ينفجر وتموت قاعدة هذه الدمل فتكون سوداء اللون ويتلهب ما حولها من الجلد
فيحمرّ ويرم ويتصلب ويمتد تورمه إلى [بوصة] ونصف أو بوصتين أو أكثر،
ويتكون حول البقعة السوداء فقاعات صغيرة تستمل على مصل، وتتضخم الغدد
اللمفاوية القريبة وتلتهب. وقد يستمر الشخص في عمله ثلاثة أيام أو خمسة ثم
يشعر بالحمَّى مع الضعف والانحلال. وقد يعتريه الهذَيان أو العرق الغزير أو
الإسهال وينتهي أمره بالموت الذي يسبقه همود شديد.
أما الشكل الداخلي فتختلف أعراضه باختلاف الجهاز المصاب، ويتقدمه
اضطراب وضيق تنفس واضمحلال وآلام في الأطراف، ثم ترتفع الحرارة فجأة مع
أعراضها المعروفة. فإن كانت الرئتان مصابتين إصابة ضيق شديد في التنفس مع
إحساس بالاختناق، ويزرقّ جسمه، وتخور قواه، ولكن يكون السُّعال خفيفًا، وإذا
بصق فقد يكون البصاق ملوثًا بالدم، ثم يعتريه الهذّيان والغيبوبة فيموت.
وفي بعض الحالات قد يبقى إدراك المريض إلى النهاية. وإذا كان الجهاز
الهضمي هو المصاب حدث قيء وألم بالبطن وإسهال وخرج بالبراز دم وقد يحصل
عسر في الازدراد أو نزف من الحلقوم والفم، وتكون الحمى غير عالية،
ويزرق جسم المريض أيضًا ويضيق نفسه ويصاب بالضجر وقد يتخبط
كالمصروع قبيل الوفاة.
الإنذار: هو سيئ جدًّا خصوصًا في الأشكال الباطنية.
المعالجة: تعالج الجمرة الظاهرية باستئصالها كلها وكيّ موضعها إما بالنار
وإما بالأدوية الكاوية مثل كلوريد الزنك (الخارصين) أو بالفنيك النقي فتتحسن
حالة المريض، وقد يشفى سريعًا.
أما الشكل الداخلي فعلاجه قليل الجدوى. ويعالج بالكينين والمنعشات
والسوائل المغذية.
الوقاية:
تكون بالابتعاد عن المصاب وحرق أو تطهير مفرزاته وكل ما لامسه
وخصوصًا صوف الأغنام وملابس المرضى، وبقتل الحيوانات المصابة بأيسر
الطرق، ثم إحراق جثثها أو دفنها في مكان عميق مع وضع الجير حولها.
ومما تجب العناية به أن لا يؤذَن للعمال في مصانع الصوف أو الجلود بمس
شيء منهما إلا بعد تطهيره بالطرق الطبية كأن يطهر الصوف مثلاً في أفران البخار،
وتُطهَّر الجلود بوضعها في بعض المحاليل المطهرة التي لا تضر بها ، واعلم أن
كلامنا هذا في مس الجلود قبل دبغها، فإن الدبغ وحده كافٍ لتطهيرها ، ويجب
على الممرض ومن شاكله تطهير يديه جيدًا قبل الطعام والشراب وتغيير الملابس
قبل ذهابه إلى منزله أو مخالطته الأصحَّاء.
***
السقاوة والسراجة
Glanders
مرض عُرف قديمًا حتى وصفه أطباء اليونان والرومان في كتبهم، وهو
يصيب الخيل والبِغال والحَمير وبعض الحيوانات الأخرى الداجنة ومنها ينتقل إلى
الإنسان أيضًا وسببه ميكروب مستقيم الشكل اكتُشف سنة 1882م يعيش هذا
الميكروب في الهواء وفي غيره، وطوله يختلف من ميكرونين إلى خمسة.
وهذا الداء قلما يصيب الإنسان، وأكثر من يصاب به خَدَمة الخيل أو
الاصطبلات. وكيفية العدوى به أن يلقّح جزء من جلد الإنسان بميكروب هذا الداء
في أثناء تنظيف الخيل المصابة أو كشط جلود الموتى منها، وقد يصاب الشخص
بسبب عض حيوان له وتلقيحه بلعابه، أو يصاب بسبب عُطاس الحيوان في وجهه
فيدخل جزء من مخاط أنفه في عين الإنسان أو أنفه أو فمه. وقيل: إنه ينتقل أيضًا
بأكل اللحوم النيئة من الحيوانات المصابة. ومن الجائز أن ينتقل هذا الداء من
شخص إلى آخر.
الأعراض: لهذا الداء شكلان:
(الشكل الأول) الحاد هو المسمى بالعربية السقاوة. يبتدئ ظهور أعراضه
بتوعك وصداع وغَثَيان وآلام في الأطراف حتى قد يظن أن الداء هو الرثية
[الروماتزم] أو الحمى التيفودية، وقد يوجد ألم بالجنب وضيق في التنفس. وإذا
كان الميكروب دخل من الجلد التهب مدخله وورم وصار مؤلمًا حتى يشبه الجلد
مرض الجمرة ثم يتقرح وتضخم الغدد اللمفاوية القريبة، وبعد أسبوع أو أكثر يظهر
طفح من دمامل صغيرة حمراء تعلوها فقاعات، وهذه تكبر حتى تصير نفاخات
كبيرة أو بُثور مختلفة الحجم يسيل منها دم ومدة وصديد، وتلتهب قاعدة هذه البثور
وما حولها، ثم تسقط قشورها فيتكون منها قروح، وقد تتكون عقد تحت الجِلد
تستحيل إلى خراجات غالبًا. وكثيرًا ما تظهر هذه العقد أيضًا في العضلات.
وقد يصيب الداء أيضًا الأغشية المخاطية، وتكون أعراضه سيلان مخاط
رقيق في أول الأمر، ثم يغلظ وتصحبه المدة أو الدم وتكون رائحته منتنة، ويكون
في الأغشية أيضًا عقد تتقرح حتى تثقب بعض الأجزاء أو تأكل بعض العظام
الرقيقة كما يحصل في داخل الأنف. وقد تصاب أيضًا الملتحمة أو الحنجرة أو
أغشية الشُّعب وغير ذلك. وتكون حرارة المريض عالية جدًّا مصحوبة بأعراض
الحُمَّى المعتادة، ولكن ارتفاعها قد يتذبذب، ويُفرز زلال في البول ويُصاب
المريض بالهَذَيان والارتعاش فالغيبوبة فالموت. ومدة الداء من أسبوعين إلى
ثلاثة.
ويكثر وجود باسيل المرض في العقد المذكورة وفي القروح وما يسيل منها،
فأعظم الخطر منها في العدوى.
(أما الشكل الثاني) فهو المزمن ويسمى بالسراجة، وتكون أعراضه قاصرةً
على الإصابات الموضعية على الأكثر، كأن تظهر قروح أو خراجات حول
المفاصل أو تلتهب مواضع مختلفة تحت الجلد أو في العضلات، وإذا حدثت بثور
كان تكوُّنها بطيئًا. وقد تصاب أغشية الأنف المخاطية. وفي بعض الحالات ينحف
المريض ويُبَحّ صوته ويصيبه السعال أو النزف الرئوي. ومدة هذا الشكل المزمن
قد تكون أربعة أشهر.
الإنذار: غير حميد. وفي الأحوال الحادة لا ينجو إلا القليل، ويُشفى نحو
نصف الحالات المزمنة.
المعالجة: لا يوجد لهذا الداء دواء مقطوع بنجاحه، وإنما تعالج الأعراض
كالمعتاد.
***
الرثية السيلانية
أو الروماتزم السيلاني
سبق الكلام على مرض السيلان في الجزء الأول، وإنما نريد أن نصف هنا
ميكروبه وأعراض إصابته للمفاصل.
أما ميكروبه فهو من الشكل البرزي ويسمى بالإفرنجية [Gonococcus]
ومعناها حرفيًّا في اليونانية [بزور المني] فهي من الأسماء التي أخطئوا في أصل
وضعها. يوجد هذا الميكروب كثيرًا في إفراز الإحليل إذا كان الشخص مصابًا
بالسيلان، ويشاهد على الأكثر داخل الكريات الصديدية البيضاء، وهو من
الميكروبات التي يتعسر زرعها في الخارج، ويعيش بوجود الهواء أو بغيره، وفي
البيئة القلوية قليلاً أو الحمضية، ولكنه لا يعيش خارج الإنسان إلا ببعض الوسائل
الصناعية العلمية الدقيقة. ولا يصيب هذا الداء غير الإنسان. ويشاهد ميكروبه في
إفراز الإحليل والفرج وتقل مشاهدته في إفراز الرحم، ويندر أو لا يشاهد مطلقًا
وجوده في إفراز المهبل. أما في الذَكَر فيوجد أولاً في إحليله، وقد يمتد منه إلى
الخصيتين أو المثانة أو الغدد الأربية (فينشأ منه الخيرجل) وفي بعض الحالات قد
يصل الميكروب في الذكر والأنثى إلى الأعضاء الباطنية كالمِبيض أو البليورا أو
البريتون أو الغشاء المبطّن للقلب أو الأغشية الزلالية المبطنة للمفاصل، وغير ذلك
كثير.
وإصابة المفاصل هي المقصودة بالكلام هنا.
تبدأ هذه الإصابة بعد 14 يومًا أو 3 أو 4 أسابيع من مبدأ ظهور سيلان
الإحليل حينما يكون هذا السيلان قيْحًا أو حينما يكون صديدًا (رقيقًا) وهو الأكثر
أي في زمن [النقطة العسكرية][3] .
الأعراض: في الحالات الحادة تصاب عدة مفاصل في أول الأمر بالألم
والورم، وبعد قليل يقتصر المرض على مفصل واحد وهو المرفق في الغالب، وقد
يكون الرُّكبة أو الرّسغ أو غير ذلك. ويمتد احمرار المفصل إلى مسافة بعيدة،
وتَرِم المنسوجات في تلك المسافة كلها حتى قد يُظن أن بها خراجًا. ويتألم المريض
ألمًا شديدًا عند أقل حركة، ولكن تكون الحمى غير شديدة. ويزول الالتهاب
بالتدريج البطيء جدًّا ويترك وراءه يبسًا في المفصل. وقلّ أن يتقيح. ومن النادر
أن تصاب أغشية القلب. وهذا الداء يصيب الذكور والإناث على حد سواء.
وهناك إصابات بهذا المرض أخف مما ذُكِر فيكون احمرار المفاصل فيها أقل
وكذلك ورمها، ولكن تصاب عدة مفاصل في وقت واحد خصوصًا الركبتين
والمرفقين والرسغين، وكثيرًا ما يكون هناك ألم في الصفاقات وفي الأغشية المغلفة
لأوتار العضلات، وتغلب إصابة صفاق أخمص القدم. وقد تصاب أيضًا الملتحمة
بالالتهاب، وكذلك الصلبة وغيرهما. وفي تلك الحالات الخفيفة يكون زوال الالتهاب
أيضًا تدريجيًّا، وقد تطول مُدته إلى ثلاثة أسابيع أو أكثر ويخلفه كذلك يبس في
المفاصل.
وسبب تلك الالتهابات كلها هو وجود ميكروب السيلان في الأعضاء الملتهبة
وقد تصاحبه أيضًا ميكروبات الصديد وذلك إذا وُجدت المِدَّةُ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كلمة لاتينية معناها حرفيًّا (دهن الصوف) .
(2)
مك مختصر كلمة ميكرون.
(3)
اصطلاح يراد به السيلان المزمن كما يحصل لكثير من الجنود وهو عسير الشفاء جدًّا يكاد يكون متعذرًا.
الكاتب: صالح مخلص رضا
حال المسلمين الاجتماعية
ومكان الأغنياء وسائر الطبقات منها [*]
وفيه بيان حال مشتركي المنار ومساعديه
ورأي الأستاذ الإمام والشيخ علي يوسف فيه
(2)
قد فصَّلنا القول في المقالة الأولى في الغرض الأول الذي رمى إليه (م. ن)
في رسالته وهو إعانة جماعة الدعوة والإرشاد. وأما الغرض الثاني مما رمى إليه
وهو مساعدة المنار، فقد علم رأينا فيه مما علقناه على رسالته، وهو أننا لا نقبل
تبرعه للمجلة ولا تبرع غيره لأنفسنا، فمساعدة المنار تنحصر في أمرين أدناهما أن
يؤدي كل مشترك ما عليه من قيمة الاشتراك في كل سنة، وأعلاهما الدعوة إلى
الاشتراك فيه واقتناء مجلداته وأداء حقه الذي هو عبارة عن قيمة الاشتراك.
وقد وُجد أفراد قاموا بما تيسر لهم من أعلى المساعدة كالنابغة الشهير السيد
محمد بن يحيى بن عقيل في سنغافورة، وشهيد العربية السيد الزهراوي الشهير
وصديقه الشيخ أحمد نبهان من علماء حمص وفضلائها في بلاد سورية، والكاتب
اللوذعي الهادي السبعي في تونس، والفاضل الغيور محمد أفندي عمر في القطر
المصري. وإنما ذكرت الهادي السبعي وقد كان وكيلاً للمنار بالعمولة؛ لأنه من
الأفراد الذين يقل نظيرهم في علو الهمة وقوة التأثير، وإننا لم نأسف لاضطرارنا
إلى ترك معاملة أحد أسفنا لاضطرارنا إلى ترك معاملته لتأخيره المحاسبة والمكاتبة
عن أوقاتها زمنًا طويلاً، على أننا لم نهتد بعده سبيلاً إلى تحصيل حقوق المنار من
أكثر التونسيين، على ما تفضل به من التبرع بتحصيلها الوجيه الأمثل عبد الجليل
الزاووش.
وأما أدنى المساعدة وهي أداء حق المنار فمن المشتركين السابقون بالوفاء وهم
الذين يؤدون الاشتراك في كل عام وأفضلهم الذين يؤدونه في أوائل السنين وإن لم
يُطَالَبُوا أو يُذَكَّرُوا، ويليهم الذين إذا ذُكِّرُوا أو طُولِبُوا أدَّوْا، وإن تُرِكُوا نَسَوْا أو
تَنَاسَوْا، ومنهم الذين يلوون ويمطلون، ومنهم من لا يخرج الحق من يده - إلى
أمثالنا في حسن التقاضي - إلا نكدًا، وقد يكون أبسط الناس لمن يخاف أذاه أو
هجوه يدًا، وقد بينا من قبل أحسن أقطار المسلمين وأصنافهم وفاء وأشدها مطلاً.
وإننا نقاسي من مطل الناس أو هضمهم للحق ما هو أوضح برهان على
انحطاط أمتنا، وضعف تأثير العلم الديني والدنيوي في نفوس أفرادها، فلا ينبغي
أن يغتر أحد بشهرة أحد في علم ولا فلسفة، ولا بظهوره في مظهر صلاح ولا
عدالة، بل يجب أن يزن الجميع بميزان النقد، فالناس- كما قال الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم- معادن كمعادن الذهب والفضة، أي والنحاس والحديد والزنك
وغير ذلك، فالمظاهر العلمية أو العملية كالصقال قد يجعل النحاس أو الحديد
المصقولين أبهج من الذهب أو الفضة غير المصقولين، ولكنهما إذا تُرِكَا زمنًا طويلاً
بغير صقل علاهما الصدأ، وأفسدهما الطبعُ، ولا يضر الحجرين الكريمين ترك
صقلهما، فإن صُقِلَا كان مزيد كمال في جمالهما وبهائهما. وأنشد الغزالي في
الإحياء أبياتًا في اختبار مُدَّعِي الزهد والتصوف بالمال:
لا يغرنك من المر
…
ء قميص رقعه
أو إزار فوق عظم
…
الساق منه رفعه
أَرِهِ الدرهم تعرف
…
حبه أو ورعه
فإن شئت مثلاً من عِبَر المنار، وما اتفق لنا من مبكيات الاختبار، فأعظم
الأمثال التي يجب أن تُضْرَب في هذا المجال رجل من الأغنياء العلماء الشرفاء،
يشرح الكتب الشهيرة، ويتحلى بالحجارة الكريمة، ويركب المركبات الفاخرة،
تجرها الخيول المطهمة، ثم هو يلوي ويُسَوِّف في اشتراك المنار عدة سنين ثم يقول
لوكيل التحصيل بعد المطل الطويل: إنه لا يدفع قيمة الاشتراك؛ لأنه عالم من
علماء الدين! فيا لله العجب هل يوجد خزي أخزى من وصف العلم أو الدين بأنه
يقتضي هضم حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل، أليس الجهل أفضل من مثل هذا
العلم؟ بلى وأستغفر الله من الزيادة على ما قلت.
هذا، وإن صنف العلماء المعممين قلما يشترك أحد منهم في جريدة أو مجلة أو
جمعية خيرية، ويقل فيمن يشترك في صحيفة لغرض ما أن لا يسعى في السماح له
بنصف قيمة الاشتراك أو ما دون النصف، كأنهم يرون أن الصحف يجب أن تُهْدَى
إليهم، وإن لم يفيدوا أصحابها بعلمهم ولا بجهلهم، إن كان لهم علم ينفع، أو جاه
يشفع، ولكن يقل فيهم أيضًا من يأكل حقًّا ثابتًا عليه لأحد.
ومن أغرب ما وقع لنا معهم أن واحدًا منهم كان قد أعجبنا حياؤه وتدينه،
فساعدناه في مصلحة من مصالحه مساعدة ذات شأن عنده، فعرض علينا جزاءها أو
مكافأة عليها عدة جنيهات، فقلنا: إننا لا نأخذ أجرًا على المساعدة فاشترى بها
مجلدات من المنار، ثم إنه تأخر عليه اشتراك عدة سنوات فلما طُولِبَ بها في هذا
العام قال: إنه كان دفع الاشتراك عنها سلفًا في تاريخ كذا، فقيل له: إن ما دفعته
يومئذ إنما كان ثمن المجلدات السابقة فقال- ويالله العجب مما قال- بل كانت تلك
المجلدات هدية من صاحب المنار! ! فإن كان قد قال هذا القول معتقدًا صحته فهل
تفكر في السبب الذي حمل صاحب المنار على مساعدته مساعدة تستحق المكافأة
وعلى ترك أخذ ما عرضه عليه منها ثم على إهدائه عدة مجلدات من المنار؟ ولعله
يتفكر فيعلم أن لا سبب يقتضي ذلك ثم ينصف من نفسه.! ! على أننا مع العلم
بهذا الشذوذ من هذا العالم الحيي، وذلك المؤلف الغني، نقول: إن علماء الدين
أمثل من علماء الدنيا وفاء، وأسهل قضاء.
ذكرت في بعض مجلدات المنار السابقة أن علماء الحقوق من القضاة
والمحامين أحسن وفاء من غيرهم. وأن أقل المتعلمين وفاء كتبة الدواوين، وكم من
كاتب صغير خير من قاض أو محام كبير، وإنما الناس معادن، يتفاضلون
بالأخلاق لا بالعلم ولا بالمناصب، أضرب لذلك مثلاً قاضيًا اشتهر بدقة الفهم،
واستقلال الرأي، وحسن الذوق، وانتظام الفكر، وفصاحة القول، وسلاسة الإنشاء،
والجمع فيه بين إقناع الفلسفة وتأثير الخيال، حتى صار يعده المدنيون من رجال
الإصلاح، وكان مع هذا كله يمنع ما عليه من حقوق الأفراد والجمعيات عامدًا
متعمدًا: طلب الاشتراك في المنار بلسانه، ومات وعليه اشتراك عدة سنين أعيا
وكيل المنار تحصيلها منه، وكان مشتركًا في الجمعية الخيرية ومن كبار أعضائها
فأمر الأستاذ الإمام رئيس الجمعية بمحو اسمه من دفاترها بعد امتناعه من دفع قيمة
الاشتراك عدة سنين.
وإن لنا الآن عند بعض القضاة والمحامين اشتراك عدة سنين يئس جابي
المنار منهم، وطلب من الإدارة قطع المنار عنهم، وقد ساءني ذلك؛ لأن منهم مَن
أُجِلُّ نبوغَه ومروءتَه، وألتمس له عذرًا فيما شكا الجابي منه، ويعز عليَّ أن يحشر
في زمرة الماطلين، أو يُدَوَّنَ في سجل الهاضمين.
وأما الماطلون من الأغنياء الذين لم يصقلهم العلم الديني ولا الدنيوي فهم
كثيرون ومطلهم خشن مُشَوَّه. مثاله قول غني من الفيوم اشترك بضع عشرة سنة
لجابي المنار في القاهرة: إنني ابتليت بمصائب تمنعني من المطالعة منها موت
امرأتي، ومجموعات سني المنار محفوظة عندي في الفيوم فأعطني أجرة البريد
لأحضرها لك! !
ولا يسعني السكوت في هذا المقام عن كلمة ثناء على فضل من أنبتت أرض
مصر في هذا العصر، بل على من يندر وجود مثلهم في أي مصر وأي عصر،
وهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والوزير الكبير مصطفى رياض باشا والنابغة
الهمام حسن باشا عاصم، فأما الوزير فقد بينت في فاتحة المجلد الخامس عشر أنه
كان أول من أراد التبرع للمنار فاشترك بعشر نسخ تُوَزَّع على الفقراء ثم جعلها
خمس عشرة نسخة، وقد أقرها بعده ولده محمود باشا سنة ثم قطعها، وفضل
رياض باشا على الأهرام والمؤيد والمقتطف والمقطم مما يعرفه جمهور الأدباء،
وأما حسن باشا عاصم فقد كان على وقف حياته على خدمة الأمة أحسن الناس وفاء
حتى إنه كان يتحرى أن يكون أول من يدفع الاشتراك للجمعية الخيرية في كل عام
على أنه أكثر أعضائها خدمة لها، وكان يدفع اشتراك جميع الجرائد في أول كل
عام أيضًا وكان يجيء في إدارة المنار في بعض السنين حاملاً الدراهم بيده.
وأما الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى فقد كان أحرص الناس على مساعدة المنار
بكل ما تصل إليه طاقته، وكان كثير من الناس يظن في مساعدته له الظنون البعيدة
حتى إن منهم من كان يظن أنه هو الذي يكتب ويحرر أكثر ما ينشر فيه، وقد علمنا
هذا مما كاشفنا به بعض القراء حين كتبنا في المجلد الرابع أن كل ما ينشر في
المنار غير معزو إلى أحد فهو لمنشئه، ومن الناس من لم يرجع عن هذا الظن إلا
بعد وفاة الأستاذ.
بعد كتابة ما تقدم نظرت في مذكراتي التي كتبتها قبل إنشاء المنار فإذا فيها
أنني جئته على موعد في مساء اليوم السادس من شعبان سنة 1315 فعلمت منه أن
سليم أفندي الأنسي أخبره بأن بعض الناس جاءوا من طرابلس الشام لإنشاء جريدة.
وأنه أجابه بقوله: هل علموا أن الجرائد هنا قليلة؟ وكتبت يومئذ في ذلك ما يأتي:
(فعند ذلك كاشفته بعزمي وأخبرته أنه جاءني خبر من طرابلس بأن والي
بيروت بلغه أني جئت مصر لأنشئ جريدة أطعن فيها بوكلاء (وزراء) الدولة.
وقلت له: المقصد أعلى من الكلام في الشخصيات وإن وكلاء الدولة مُدِحُوا كثيرًا
وذُمُّوا كثيرًا فماذا كان من نتيجة المدح والذم؟
(فشرح لي الأستاذ حالة الجرائد في مصر (كما فهمته واختبرته) وقال:
إن المصريين أقامتهم الظروف في حالة جعلت أفكارهم موجهة إلى شيء واحد من
الجرائد وهو أخبار الحكومة المحلية، وماذا يقال عن الخديوي، وعن الإنكليز ولا
يلتفتون إلى ما وراء هذا. وهذا الأمر قد قامت به ثلاث جرائد المقطم والمؤيد
والأهرام
…
[1] وإذا كتبت في المواضيع الأدبية كالتربية والتعليم أو آداب اللغة لا
يلتفت إلى كلامك الناس، فإني لا أعرف أحدًا في مصر من طلبة الأزهر أو
المدارس مشتغلاً باللغة وآدابها إلا أن يكون في الزوايا مَن لم يعرف. نعم إن هذا
الأمر مهم ومفيد لكنه لا يأتي منه ما يكفي لنفقاته ولا ينبغي التعب وإنفاق المال هكذا.
(وفيها أنني ذكرت له هنا ما ذكره لي صاحب الهلال من كثرة مشتركيه
وأنه ارتاب في ذلك، وقال: إن المشتركين الذين يدفعون الدراهم قليلون وما كل
من يكتب اسمه في دفاتر أصحاب الصحف كذلك. ثم كتبت ما نصه) :
(ثم انتقلنا إلى موضوع الأمة ومرضها وأن أنفع الوسائل في معالجتها
التربية والتعليم ونشر الأفكار الصحيحة، فقلت: هذا ما حدا بي لإنشاء الجريدة،
وإني أسمح أن أنفق عليها سنة وسنتين من غير أن أكسب شيئًا
…
فقال: إن كان
هذا فهو حسن، وهذا أشرف الأعمال وأفضلها، وأنا إذا كنت على ثقة من مشرب
الجريدة فإني أساعدها بكل جهدي) اهـ.
ولما كتبت فاتحة العدد الأول أعجبه ما بينته فيها من خطة المنار ومقاصده ولم
ينتقد منها إلا كلمة واحدة في حقوق (الأمة على الإمام) قال: إن المسلمين ليس
لهم الآن إمام إنما إمامهم القرآن. فتركت تلك الكلمة لأجله. ولم أطلعه على شيء
قبل طبعه مما لا يتعلق بشخصه والحكاية عنه إلا بتلك الفاتحة. ثم كانت تزداد ثقته
بالمنار وصاحبه (ولا محل لشرح ذلك هنا) ولكنه لعزة نفسه ومحافظته على قيمة
كلامه كان يكتفي من الترغيب في المنار غالبًا بمدحه، والشهادة بفائدته ونفعه،
دون التصريح بالدعوة إلى الاشتراك فيه، وقلما كان ذلك يجدي؛ لبُعْدِ الناس
الموسرين عن الاهتمام بأمر الإصلاح الديني والاجتماعي، قد اشترك في المنار
عقب ظهوره الأفراد من أصدقائه ومريديه بترغيبه، واشترك المئات من غيرهم
بغير ترغيب من أحد ولم يكن في ذلك غناء، وما زاد دخل المنار على نفقته إلا في
السنة الخامسة، وقد كان لمقالاته (الإسلام والنصرانية) تأثير في ذلك. ولم أعلم
أن عشرات من المشتركين طلبوا الاشتراك بتأثير ثنائه عليه إلا في تلك السنة وكان
هؤلاء المشتركون من مديرية الدقهلية وما جاورها، سمعوا منه ذلك الترغيب في
بلادهم أيام كان فيها يوزع الإعانات على الذين نكبوا بالحريق، ولا أتذكر أني
طلبت منه المساعدة تصريحًا ولا تلميحًا إلا في أوائل تلك الأيام، فإنني كتبت إليه
كتابًا أشرت فيه إلى الشكوى من قلة الإقبال على المنار- وكان في المنصورة-
فكتب إليَّ كتابًا قال فيه هذه الكلمة التي كانت أحب إليَّ من كل ما تجدَّد من طلب
الاشتراك؛ لأنها بينت رأيه في المنار كتابة وهي:
(الناس في عماية عن النافع وفي انكباب على الضار، فلا تعجب إذا لم
يسرعوا بالاشتراك في المنار، فإن الرغبة في المنار تقوى بقوة الميل إلى الحاضر،
بما هو أصلح للآجل وأعون على الخلاص من شر الغابر، ولا يزال الميل في
الأغنياء قليلاً، والفقراء لا يستطيعون إلى البذل سبيلاًَ، ولكن ذلك لا يضعف الأمل،
في نجاح العمل) .
وأذكر أيضًا أن وجيهًا من أسرة كبيرة غنية في بعض المديريات كان يُعَدُّ من
حزب الأستاذ طلب مني بحضرته إرسال المنار إلى بضعة عشر مشتركًا من أقاربه
وأصحابه على أنه هو الكافل لهم، والملتزم لتحصيل قيمة الاشتراك منهم، فأرسلناه
إليهم، وبقي عدة سنين لا يدفع عن نفسه ولا عن أحد منهم شيئًا حتى في حياة
الأستاذ، ثم بعد المطالبة وصل إلينا منه ومن غيره اشتراك بعض السنين من
بعضهم، ويئسنا من الآخرين فمحونا أسماءهم.
وأما أصحاب النفوذ والوجاهة من أصدقائه- الذين كانوا أقدر منه على نشر
المنار لو أرادوا؛ لتصريحهم بما لا يصرح هو بمثله- فلم أعلم لأحد منهم مساعدة
تُذْكَر إلا من مصطفى بك الباجوري رحمه الله تعالى طلب المنار لجماعة في طنطا
أكثرهم من أصدقائه المحامين. على أن كثيرًا من جماعة الأستاذ ما كانوا يدفعون
قيمة الاشتراك ولا كنا نحن نطالبهم بها لأجله، وهو لم يأمر بإرساله إلى أحد بغير
ثمن إلا إلى اثنين من أصدقائه (أحدهما شيخ صوفي صالح مشهور في الوجه القبلي
(وثانيهما) قاض شرعي من إخوانه مريدي السيد جمال الدين في الوجه البحري،
رحمهم الله أجمعين) .
وجملة القول أن الأستاذ قدس الله روحه صرَّح لي بما حقيقته أنه لم يعمل
للمنار ما يحب عمله له، بل قال لي مرة أو أكثر من مرة: إنني لم أعمل شيئًا.
أي ما يعده هو شيئًا يُذْكَر. ولا سيما بعد ما رأى من مقاومة أعدائه له، وعدم قيام
أصدقائه بما كان يحب من مساعدته، على ما رأوا من شدة ميله ورغبته، وقد كان
هو يقوم بموافاة رغائبهم وقضاء حوائجهم بمجرد الشعور بها، ولا ينتظر منهم
إلحاحًا ولا تصريحًا بطلبها، وكان يجب أن يكون كل فرد منهم أولى بذلك بِمَنِّه؛ لا
لأنه له الفضل عليهم، والمقام الأعلى فيهم، بل لأنه أشدهم حياء وأرقهم شعورًا.
فلا ينبغي لمن عرف طباعه وأخلاقه العالية أن يكلفه ما لا يليق بها، كالتصريح
بطلب الشيء بلسان المقال، مع العلم به من دلالة الحال، على أنه هو لم يكن
يكلف صديقه مثل ذلك، وإن كان ذلك الصديق لا يستحي منه، ولا يثقل مثله على
طباعه وأخلاقه.
من أجل هذا كانت مقاومة أعداء الأستاذ للمنار أعظم من مساعدته له، وإنما
كانوا يقاومونه لتنويهه به، وإذاعته لعلمه وفضله، وإنني أذكر في هذا المقام كلامًا
للشيخ علي يوسف صاحب المؤيد عفا الله عنه فيه عبرة لصاحب الرسالة التي
أوجبت كتابتنا لهذا المقال، ولغيره ممن يعتبرون بوقائع الأحوال.
قال لي الشيخ علي يوسف مرة: إنك أنت رجل غير عادي فلقد أوتيت من
العلم والبصيرة ومعرفة حكم الدين وأسراره وما يحتاج إليه المسلمون من الإصلاح
في هذا العصر ومن حسن البيان ما جعل مجلتك من الحاجات الضرورية التي لا
غنى للمسلمين عنها إذا أرادوا أن يرتقوا في هذه الدنيا مع المحافظة على دينهم،
وكان يجب أن يوجد المنار في كل بيت من بيوت المسلمين، ومصر مستعدة لرواج
هذه الأفكار فيها، وأنت ههنا غريب ليس لك أعداء ولا حُسَّاد؛ إذ لا يعدك أحد فيها
مزاحمًا له في جاهه وَصِيته. إلا أنك التزمت في المنار إطراء الشيخ محمد عبده
والتنويه به، وهو أهل لذلك إلا أنه غير محتاج إليه؛ إذ لا يزيد في قدره عند
عارفي فضله الكثيرين ولا يقنع غيرهم من مبغضيه، وإن للشيخ أعداء كثيرين لهم
نفوذ في البلاد، وأنت بهذا التنويه به تجعلهم خصومًا للمنار يقاومونه وينفِّرُون
الناس منه، وأكثر من يسمع ذلك منهم يأخذه بالقبول، فخير لك أن تترك هذه
الخطة وتسلك في ذكر الشيخ طريق المؤيد بأن تعبر عنه إذا اقتضت الحال ذكره
بأحسن ما يقرن بأسماء كبار العلماء وهو لقب (فضيلة الأستاذ فلان- أو بزيادة-
العلامة فلان) فبهذا تأمن كيد أعداء الشيخ لك المفضي إلى حرمان أكثر المسلمين
بمصر من الاستفادة من المنار. اهـ.
فقلت له: إنني أعلم قدر ما في هذا الكلام من النصيحة، وإنني قد علمت
بالاختبار أن أعداء الشيخ يصدون عن المنار، وقلما يوجد من يعارضهم في ذلك.
ولكن المنار أنشئ للإصلاح لا للتجارة، ودعوة الإصلاح لا يُرْجَى أن تنجح وتبقى
إلا إذا كان للإصلاح زعيم يُرْجَع إليه ويُعَوَّل عليه، ولا أعرف أحدًا من المسلمين
أهلاً لهذه الزعامة بعلمه وبصيرته وإخلاصه وأخلاقه إلا هذا الرجل، فأنا أقصد
بالتنويه به ترشيحه لزعامة الإصلاح في العالم الإسلامي كله لا في مصر فقط.
وهذا الغرض ركن من أركان الإصلاح يرجح على كثرة قراء المنار في القطر
المصري. فقال إذا كان الأمر كذلك فأنت أدرى بشأنك.
هذا، وإن هذا القول من الشيخ علي يوسف قد كان قبل اشتداد غضب الأمير
على الأستاذ الإمام وإظهاره للناس وما ترتب على ذلك من التقاطع الأخير بين
الأستاذ والشيخ علي، ومن سعي كثير من كبار المقربين للأمير للتفريق بيني وبين
الأستاذ رحمه الله تعالى، إذ كان ممن كلَّمه في ذلك الوزير الشهير بطرس باشا
غالي، وممن كلَّمني فيه نقيب الأشراف وشيخ مشايخ الطرق الشيخ توفيق البكري.
ولا حاجة إلى شرح ذلك في هذا المقال.
إن صاحب الرسالة (م. ن) يعلم ما لا يعلمه إلا الأقلون من تاريخ المنار
وما لقي من المقاومة، وكونها على قوتها لم تكن مانعة من انتشاره واحترام كبراء
الأمة - حتى خصومه- له ولمنشئه، وأنه على كثرة ما كان يَنْتَقِد العلماء ويُلْقِي
عليهم من تبعة فساد دين الأمة ودنياها لم يتصد أحد منهم للرد عليه مع دعوته إياهم
إلى انتقاد ما يرونه منتقدًا فيه على رأس كل عام، ويعلم أيضًا أن مقاومة الأمراء
والكبراء من العلماء وزعماء الحزب الوطني وغيرهم لم تكن صادَّة لمن دونهم في
الجاه كمحمد أفندي عمر من الدعوة إلى الاشتراك في المنار ومن استجابة كثير من
الناس له، ذلك بأن الحرية الشخصية قد رسخت في البلاد، حتى صارت مستعدة
لقبول كل دعوة وانتشارها بقدر من يقتنع بفائدتها من الأفراد. ولكن الدعوة لا تنجح
بنشر مقالة أو مقالات معدودة، بل يشترط لنجاحها أن يكون لها دعاة دائبون،
وتأثير القول فيها أكبر من تأثير الكتابة، ولا بد من المواظبة والتكرار، كما علم
من سنن الله تعالى في كل دعوة إلى إصلاح أو إفساد، فهذا هو سبب حكمنا على
رسالته بأنها لا تفضي إلى نَيْل المُرَاد، فالأقوال والأفعال العارضة المؤقتة ضعيفة
التأثير في الأمور العامة، وإنما العمدة فيها على الدعوة الدائمة، فقد أيَّد المنار أقوى
من أنبتت هذه الديار حجة وتأثيرًا روحيًّا ولم يكن نجاحه بتأييده وتنشيطه، وخذله
وثبط عنه أعظم من فيها نفوذًا ولم يخب بخذله وتثبيطه، وقد زالت ولله الحمد تلك
المناهضة، فلا يخشى أن يلقى الداعي بعدُ أذًى ولا معارضةً.
ثم ليعلم صاحب تلك الرسالة أن المنار ثابت بفضل الله تعالى وإن انقطع عنه
منذ بدأت الحرب الأوروبية كل مدد كان يأتيه من البلاد العثمانية والروسية ومن
المغرب الإسلامي، وكذا من المشرق والجنوب إلا قليلاً - وإن محت إدارته أيضًا
أسماء مئات من مشتركي القطر المصري، بعضهم بحق وبعضهم بغير حق بل
بشهادة غير عادلة من الجباة- وكان هذا في فترة بضع سنين لم أنظر فيها شيئًا من
أمر الإدارة وقد قضيت كثيرًا منها في الأسفار- وأن المتأخر من مال الاشتراك على
الثابتين من المشتركين يزيد على ألف جنيه مصري. وإني لأعترف بأن جُلَّ التبعة
في ذلك على تقصير الإدارة وتركها مطالبة الكثيرين منهم لا على من طُولِبُوا فلووا
ومطلوا، وإنا لنرجو أن توفق إدارتنا فيما شرعتْ فيه من الإصلاح إلى اقتضاء
حقوقنا بالحسنى، فقلما يوجد في مشتركي المنار من يستحل أكل ماله بالباطل
وهضم حقه بغير عذر، ولكن يثقل على بعض من عليهم اشتراك عدة سنين أن
يؤدوها دفعة واحدة، ولا يضرنا تأديتها أقساطًا متعددة، وإن منهم أفرادًا يطمعون
بأن نترك لهم شيئًا مما عليهم برضًا منا، ومن هؤلاء من يتوسل إلى ذلك بأن بعض
الأجزاء لم يصل إليهم، وحجتنا أنه كان ينبغي لهم أن يطلبوها في وقتها وإذًا
لأرسلت إليهم بغير ثمن حسب الشرط، وإنا نعلم بالاختبار أن كثيرًا من المشتركين
تضل عندهم الأجزاء أو يأخذها بعض أصدقائهم من مكاتبهم أو بيوتهم من حيث
يدرون أو من حيث لا يدرون، أو تضيع بانتقالهم من مكان أو بلد إلى غيره، ثم
يتوهمون أنها لم تصل إليهم ألبتة.
وقد عزمنا على أن نبذل جهدنا في حسن الاقتضاء، راجين من الأكثرين
حسن القضاء، وعلى أن نكتب بعد ذلك ما نرى فيه الفائدة من الاختبار، ومنه
التصريح بأسماء المحسنين والمسيئين في القضاء، ليكونوا عبرة للمعتبر بحال
المسلمين، ونؤكد البشارة لأخينا (م. ن) الداعي إلى مساعدة المنار خوفًا من
سقوطه بما أحدثته الحرب من العسرة أن ما على خيار المشتركين في القطر
المصري وحده يزيد على ما يحتاج إليه من النفقات فلا يضره انقطاع المدد عنه من
الخارج، فإذا كان يحب زيادة انتشاره لأجل تعميم فائدته فالطريق إلى ذلك هي
الدعوة إلى منهجه الإصلاحي، ولكل دعوة أهل، ولكل مجتهد نصيب، ودعوة
الإصلاح بالحق أحق أن تستجاب، ولا سيما إذا رُوعِيت فيها الحكمة وفصل
الخطاب، {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَاّ يَهِدِّي إِلَاّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (يونس: 35) .
_________
(*) تابع لما نشر في الجزء الثاني ص 89.
(1)
هذا نص ما في المذكرة بحروفه ونقطه وأتذكر أنه ذكر لي مشرب هذه الجرائد فأشرت إليه بالنقط لأنه لا ينسى.
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلة الحجاز
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله - تعالى - أن وفقني في هذا العام لتلبية دعوة أبينا إبراهيم - عليه
وعلى آله الصلاة والتسليم - بأداء فريضة الحج وإكمال المناسك بالعَجّ والثَّجّ، ثم
أحمده عودًا على بدء أن وفقني للوفاء لوالدتي بالحج معها. بعد أن حالت دونه
الأقدار بالأعذار تارة من قِبَلي، وتارة من قِبلها، بل أحمده قبل ذلك كله أن سخّر
من سخّر من الدول لإزالة ما أحدثته الحرب الأوروبية العامة من موانع السفر
بالبحار إلى الحجاز، ولتكلف إعداد السفن لحمل الحُجاج، بعد أن وُفق الشريف
أمير مكة للقيام بأمر استقلال العرب في تلك الأقطار، ولمعاهدة تلك الدول
المتصرفة في جميع البحار، فسبحان من سخّر من شاء لما شاء بتوفيق أقدار لأقدار
وأظهر حُجته على الخلق في كل عصر من الأعصار، من آيات يزداد بها إيمان
المؤمنين، ويحق بها القول على الجاحدين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم
النبيين والمرسلين، الأمي الذي أرسل لتعليم الأُميين والكاتبين، العربي المبعوث
لتوحيد الأمم باللغة والدين، وعلى آله وأصحابه الكِرام، الذين أخذوا عنه المناسك
وأحيوا شعائر الإسلام.
أما بعد: فإن ركوب الألوف من المسلمين لمُتون البحار، وجذبهم من أقصى
المغرب والمشرق لأداء فريضة الحج في هذا العام، يصح أن يُعد من تأييد الله -
تعالى - للإسلام، ومن المعجزات الدائمة لخليليه إبراهيم ومحمد - عليهما الصلاة
والسلام - ومصداقًا لحديث (إن الله سيؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله) وقد
ورد بلفظ آخر صرحوا بصحة سنده.
أوليس خِذلانه - جلت قدرته - لحكومة الاتحاديين الملحدين، بما أقدموا عليه
من التنكيل بالعرب، وانتهاك حرمات الدين، وتوفيقه - عمت رحمته - لأمير مكة
ومن معه من المسلمين، بالخروج على البُغاة المارقين، وتسخيره - بهرت حكمته -
لدولتي الفرنسيس والبريطانيين الكتابِيِّين، بحمل الحجاج من الغرب والشرق إلى
البلد الأمين؟ أليس هذا كله أقدارًا تتابعت وأسرارًا تشايعت، فانجلت عن استجابته -
سبحانه وتعالى لدعوة إبراهيم خليله، وإحياء شريعة محمد عبده ورسوله، بعد
ما كاد يظن أن أسباب الحرب الظاهرة، حالت دون تلك الدعوة الطاهرة؟
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا
الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37) بلى، وإنها لتؤيد ما روي عن ابن عباس، من تلبية الناس
لتلك الدعوة في عالم الأرواح، إذ قام عليه الصلاة والسلام بعد فراغه من بناء
البيت العتيق، ممثلاً قول الله له: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ
ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 27-28)[*] فقد روي عنه ما معناه أن الله تعالى أمره أن ينادي بذلك،
وقال له: عليك النداء وعلي البلاغ، وأنه قام في مقامه (المعروف إلى الآن بمقام
إبراهيم) وقيل: في الحِجر وقيل: على الصفا وقيل: على أبي قُبيس فنادى يا أيها
الناس إن الله قد اتخذ بيتًا فحجوه، فأجابه كل من كتب الله له الحج إلى يوم القيامة
قائلين: (لبيك اللهم لبيك) فإن لم تكن هذه الإجابة حقيقية في عالم الأرواح،
ولا عبارة عن الإجابة بالقوة ولسان الاستعداد، فهي تمثيل لما تظهره مجاري
الأقدار، ومن وراء حُجب الاستقبال، فتشاهده الأجيال في كل حول من الأحوال.
لقد كان النزوع إلى حج بيت الله الحرام، هوى ساكنًا في القلب يحركه
الموسم في كل عام، وتحول موانع الأقدار دون جذبه البدن إلى تلك المشاعر العِظام،
وأهمها ما كان أولى من عدم الأمن على النفس من ظلم الحكومة الحُميدية، ثم ما
هو شر منه وأنكى من إلحاد الحكومة الاتحادية، ومنها ما كان في بعض السنين
من عدم استطاعته السبيل، أو عَجْز السيدة الوالدة عن الرحيل.
فلما دعت الحكومة المصرية المسلمين في هذا العام إلى الحج بألسنة الصُّحف
المنتشرة، والتزمت حمل من يحج إلى جدة ذهابًا وإيابًا بأجرة قليلة، تاركة ما كانت
تتقاضاه من كل مريد للحج من التأمين المالي، وعلمنا أن هذه الدعوة مبنية على
تأمين الشريف أمير مكة للبلاد، وإزالته كل ما كان هنالك من أسباب العبَث والفساد،
صادفت هذه الدعوة في أنفسنا أتم الاستعداد والاستطاعة، وانتفاء جميع الموانع
دون هذه الطاعة، بل تأكدت داعية الفريضة، بما يُرجى في أثناء أدائها من واجب
النصيحة، التي تقتضي الحال الحاضرة أداءها لله ولرسوله ولأئمة المسلمين
وعامتهم، فقد علمنا أن طريق الحج، قد مُهّد لمسلمي الشرق والغرب، الذين حالت
بيننا وبينهم الحرب، فلا سبيل للتواصل بيننا وبينهم من الطاق ولا من الباب، ولا
للتناصح بخطاب ولا كتاب، ونحن الآن أحوج ما كنا إلى التناصح والتواصي
بالحق والتواصي بالصبر، والتعاون على ما يجب من التقوى والبر. فهل نتوانى
في أداء هذه الواجبات، وقد أبيحت لنا في أشرف الأمكنة وأفضل الأوقات، إذ
نؤدي المناسك في بيت الله ومشاعره العِظام منى والمزدلفة وعرفات؟
نعم: إن حكومة هذه البلاد آذنتنا بإباحة الحج في هذا العام، فذكرتنا بإيذانها
به أذان أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام فلبى القلب داعي الله قبل تلبية
اللسان وسعي الأقدام،: (لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد
والنعمة لك والملك، لا شريك لك) فلم نكن ممن يُثنيهم عن هذه التلبية إرجاف
المُرجفين، ولا خَرْص الخرَّاصين، ولا إفك المذّاعين. الذين أذاعوا في طول
البلاد وعرضها أن من يقصدون الحج في هذا الأوان، يُلقون بأيديهم إلى التهلكة بما
أُعد لهم من مدافع التُّرك وطيارات الألمان، ولا قولهم: إن صاحب المنار مرسل مع
وفد العلماء الذين أرسلهم سلطان مصر لمبايعة شريف مكة بالخلافة، ولا قول
بعضهم: إنه هو الذي يريد ذلك دون العلماء ولا قول بعضهم بالعكس، فالفرائض
والواجبات لا تترك لتقوُّل غوغاء الناس، ولا لأوهام العوام والخواص، وحسبي أن
أعلم أنني أحجّ لوجه الله - تعالى - منفقًا من مالي الذي أعتقد حله، وقد ادخرته
لذلك في هميان منذ سنين، وإنني أبتغي زيادة الأجر عند الله - تعالى - بصحبة
والدتي وخدمتها في هذه السبيل، وبما أبغيه من الازدياد من العلم النافع
والاختبار والاستفادة من أهل العلم والبصيرة، وبما أنويه من النصيحة لكل من أرى
الفائدة في نُصحه من إخواني المسلمين في تلك البِقاع الطاهرة الشريفة، بما
أرى فيه الخير والمصلحة لأمتي في أمري دينها ودنياها، لا أُحابي في ذلك شريفًا ولا
أميرًا، ولا أغش فيه سُوقة ولا فقيرًا، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما
نوى. كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
على أن حبل الكذب - كما تقول العامة - قصير، ولا سيما إذا كان في شيء
كالحج موعده قريب، فسفر الحج في هذا العام كان أقل من خمسة أسابيع، فما
أسرع ما ظهر كذب تلك الأقاويل.
لم يبق أحد في مصر إلا وقد علم أن حجاج بلاده قد دخلوا المسجد الحرام
بمشيئة الله - تعالى - آمنين، وأدوا مناسكهم وقضوا تَفَثَهم محلِّقين رءوسهم
ومقصِّرين، وعادوا إلى أوطانهم سالمين مغبوطين، وأن الشريف لم يدْعُ أحدًا من
الحُجاج إلى مبايعته، ولا يزال الخطباء يدعون للسلطان العثماني في بلاده، وإن
صاحب المنار لم يكن بينه وبين وفد العلماء السلطاني خلاف في أمر المبايعة
المخترعة بمصر ولا في غيره، وإنه عاد مع والدته إلى أهله وولده وموطن عمله
كسائر الحاجّ؛ إذ لم يذهب مدعو إلى منصب قاضي القضاة ولا مشيخة الإسلام،
وها هو ذا يقُصّ خبر رحلته، على جميع من يطلع على مجلته، بما يعهد قراؤها
من صدقه وصراحته؛ إذ كان - ولا يزال - يشرح ما طرأ من الفساد على
الرؤساء والحكام، وما سرى من الضلال والخرافات إلى العوامّ، غير مبالٍ بسخط
الخاصة، ولا مهتم باستمالة العامة {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) التأذين والأذان بالشيء النداء للإعلام به، والرجال جمع راجل وهم المشاة، والمعنى يأتوك
مشاة وركبانًا على كل ضامر من الإبل وغيرها وهو المهزول من طول السفر، ويأتين صفة لكل
ضامر، والفج الطريق والمسلك المنفرج بين الجبال ونحوها، والعميق البعيد الغور أو المدى،
والأيام المعلومات يوم النحر وأيام التشريق بعده، وكذا يوم عرفة في قول، والأمر بالأكل من لحوم
ذبائح الهدي التي تذبح بمنى في تلك الأيام - ومثلها الأضاحي في سائر البقاع - للندب عند الجمهور
وللوجوب عند طائفة، والتفث المناسك، أو التحلل من الإحرام الذي يزال به الوسخ بالخلق والطيب
إذ أصل التفث الوسخ، والمراد بالطواف هنا طواف الإفاضة الذي تتم به أركان الحج فيتم التحلل منه.