المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مناسك الحجأحكامه وحكمه - مجلة المنار - جـ ١٩

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (19)

- ‌شعبان - 1334ه

- ‌فاتحة السنة التاسعة عشرة للمنار

- ‌التعريف بكتابيمنازل السائرين، ومدارج السالكينوترجمة مؤلفيهما

- ‌أعظم معركة بحريةبين أعظم أساطيل العالم

- ‌رمضان - 1334ه

- ‌العصبية الجنسية التركية

- ‌حكم الصيام

- ‌حال المسلمين الاجتماعية

- ‌المجمع اللغوي المأمول

- ‌جمال باشا السفاك

- ‌الكتب المعزوة إلى غير مصنفيها

- ‌دعوة اللجنة التحضيرية

- ‌مصابنا بالزهراوي والكيلاني

- ‌مسألة الأزياء والعادات

- ‌شوال - 1334ه

- ‌آراء الخواص في المسألة العربية

- ‌السيد عبد الحميد الزهراوي

- ‌البلاغ الإنكليزي الرسميفي شأن العرب والسلطة الإسلامية

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌ذو القعدة - 1334ه

- ‌مناسك الحجأحكامه وحكمه

- ‌العرب والإسلام

- ‌الإسلام والطورانية الحديثة

- ‌منشور شريف مكة وأميرها

- ‌ذو الحجة - 1334ه

- ‌فوائد شتى [*]

- ‌فتاوى المنار

- ‌قصيدة في مدح الرسول

- ‌جمعية آداب اللغة العربيةبلندن

- ‌الأخبار والآراء

- ‌المحرم - 1335ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الزاروهل اعتقاد تأثير الوليوالعِفريت فيه شرك جلي

- ‌بلاد العربوأحوالها منذ الأعصر الخالية

- ‌المنشور الهاشمي الشريف الثاني

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌صفر - 1335ه

- ‌هل البسملة آية من كل سورة أم لا

- ‌مبايعة شريف مكة وأميرهاعلى ملك العرب

- ‌مبايعة وفود الأقطار الحجازية

- ‌احتضار سورية

- ‌متى يذكر الوطن النُّوَّم

- ‌ربيع أول - 1335ه

- ‌ذكرى المولد النبوي [*](2)

- ‌رحلة الحجاز(2)

- ‌المنشور الهاشمي الشريف الثالث

- ‌عاقبة الحربومكانة بريطانية العظمى منها

- ‌الحركة الطورانية الجديدةفي بلاد تركيا [*]

- ‌تأثير الصحافة في أخلاق الأمة

- ‌جمعية النهضة النسائية بمصر

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ربيع الآخر - 1335ه

- ‌ربح صندوق التوفير

- ‌شق صدر النبي صلى الله عليه وسلموتطهير قلبه من حظ الشيطان

- ‌بدع الجمعة والأذانوختم الصلاة والجنازة

- ‌الجمعيات الاتحاديةلتكوين العصبية التركية

- ‌رحلة الحجاز(3)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌جمادى الآخر - 1335ه

- ‌استدارة الزمان والنسيئة في الحج

- ‌ذكرى المولد النبوي [*](3)

- ‌علماء بغداد في القرن السادسومكانتهم في الوعظ والتذكير

- ‌الدكتور شبلي شميل

- ‌عمران بغداد في القرن الثالثوصف دار الخلافة فيها

- ‌خاتمة السنة التاسعة عشرة للمنار

الفصل: ‌مناسك الحجأحكامه وحكمه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مناسك الحج

أحكامه وحكمه

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ

عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) ، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ

البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158) {الْحَجُّ أَشْهُرٌ

مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا

مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة: 197) .

أما بعد: حمدًا لله والصلاة والسلام على خاتم رسله محمد - صلى الله عليه

وسلم - فيقول محمد رشيد بن علي رضا صاحب مجلة المنار: إنني في شهر ذي

القعدة سنة 1334 عزمت على أداء فريضة الحج في خدمة والدتي، وكنت أتمنى

ذلك منذ سنين، ولم يتيسر لي لموانع بعضها من قِبَلها، وبعضها من قِبلي، وقد

خطر لي قبل السفر من مصر بثلاث ليال أن أكتب شيئًا مختصرًا في أحكام المناسك

وحكمها، سهل العبارة، مأخوذًا مما صح في السنة، مع الإشارة إلى أقوى مسائل

الخلاف، وأن أطبعه وأوزعه على من أسافر بصحبتهم من الحجاج، تعليمًا للجاهل،

وتذكيرًا للغافل، ولكن لم يتيسر لي الشروع فيه إلا في منتصف النهار من اليوم

الثاني والعشرين من الشهر - وموعد السفر 24 منه -.

***

الحج والعمرة

الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو عبادة بدنية مالية، والصلاة عبادة

بدنية فقط، وكذلك الصيام، والزكاة عبادة مالية فقط، ومعناه القصد إلى بيت الله

الحرام بمكة المكرمة؛ لأداء النسك فيه وفيما جاوره من الأماكن الشريفة، وهذا

النسك منه أركان وواجبات، وسنن مندوبات ومستحبات.

والعمرة كالحج في أركانه وواجباته وسننه إلا الوقوف بعرفة فإنه ركن من

الحج غير مشروع في العمرة، وتكون في أشهره وفي غير أشهره كما سيأتي.

وهي واجبة عند بعض أئمة العلم، وسنة عند الآخرين ويجوز الجمع بين الحج

والعمرة بأن ينويهما، ويلبي الله - تعالى - بهما معًا عند الإحرام، ويسمى هذا

(قِرانًا) وأن ينوي الحج وحده ويلبي به ثم يدخل عليه العمرة، ويسمى

(إفرادًا) وأن ينوي العمرة وحدها أو مع الحج ثم يتحلل منها بعد أداء أركانها، ثم

يُحرم بالحج بمكة، ويسمى هذا (تمتعًا) لأن صاحبه يتمتع بعد التحلل من إحرامه

بها ويتمتع به غير المُحْرِم من لبس الثياب والطيب وغير ذلك من محرمات الإحرام،

وعليه فدية، وهي ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع من

الحج، أو إطعام ستة مساكين من أوسط طعامه، ككفارة اليمين وزكاة الفطر.

واختلف علماء السلف والخلف في الأفضل، وأقوى الأقوال في ذلك أن التمتع

أفضل مطلقًا، أو لمن لم يَسُق (الهدي) إلى الحرم. و (الهدي) ما يُهدى إلى

الحرم من الأنعام ليُذبح فيه تقربًا إلى الله - تعالى -، فمن ساقه من بلده أو

طريقه فالأفضل له القِران. وعلى هذا يكون التمتع هو الأفضل والأيسر لأمثالنا -

من الحجاج المصريين وغيرهم ممن لا يسوق معه هديًا - أن نُحْرِم بالعمرة وحدها

أو مع الحج، ثم نأتي بأركان العمرة كما يأتي بيانه، ثم نتحلل منها فنستبيح

كل ما يباح لغير المحرم، ونذبح شاة إذا كان يوم (التروية) - وهو الذي قبل يوم

عرفة - نُحْرِم بالحج من مكة، ولمن أحرم بالحج وحده أو بالحج والعمرة معًا أن

يتحلل بعمرة، ثم يحرم بالحج كذلك.

***

الإحرام والتلبية

لكل قطر من الأقطار مكان يسمى (ميقات الإحرام) لا يجوز تجاوزه بغير

إحرامٍ الحاجُّ ولا المعتمر، وفي غيرها كقاصد الحرم للتجارة خلاف، فمتى بلغ

الميقات أحرم عنده، بأن ينوي الحج والعمرة أو أحدهما، ويلبي بما نواه بأن يقول:

لبيك اللهم عمرة أو بعمرة، أو لبيك اللهم حجًّا، أو لبيك اللهم حجًّا وعمرة، أو

بحج وعمرة.

وتقدم أن الأفضل لأمثالنا الإحرام بالعمرة فقط. ومن أحرم إحرامًا مطلقًا

قاصدًا النسك الذي فرضه الله - تعالى - في حرمه من حيث الجملة جاهلاً هذا

التفصيل صح إحرامه، وعند أداء المناسك يأتي بواحد من الثلاثة التي ذكرناها.

والإحرام بالمعنى الذي ذكرناه - وهو نية النُّسك من حج وعمرة فرض فيهما، وهو

ركن عند الجمهور وشرط على الراجح عند الحنفية.

ويستحب الاغتسال للإحرام، ولو لحائض ونُفَساء، وكذلك التطيب قبله،

وأن يكون بعد صلاة، إما صلاة فرض، وإما صلاة تطوع، وأن يحرم في ثوبين

نظيفين - وكونها أبيضين أفضل - وفي نعلين لا يستران الكعبين، وأن يكون أحد

الثوبين إزارًا، يُلف على النصف الأسفل من البدن والآخر رداء، يوضع على

العاتق ويستر النصف الأعلى منه دون الرأس فإنَّ ستره حرام على الرجال. فلا

يجوز للمحرِم لُبس العمامة ولا غيرها مما يوضع على الرأس، ولا لبس القميص

والقباء (القُفطان) والبرنس والجُبَّة والسراويل والخف والحذاء، الذي يسمى

الجزمة أو الكندرة. ولا ما في معنى ذلك من الثياب المفصلة المخيطة، ومن لم

يجد الإزار والرداء أو النعلين لبس ما وجده؛ ففي صحيح مسلم عن ابن عباس أنه

سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بعرفات يقول: (السراويل لمن

يجد الإزار والخفان لمن يجد النعلين) ولا فِدية عليه عند الشافعي وأحمد لأنه لبس

ذلك للضرورة، فإذا زالت الضرورة في أثناء النسك، بأن وجد الإزار والنعلين

وجب عليه نزع السراويل والخف ونحوهما، فان لم ينزعها وجبت عليه الفدية،

وهي شاة يذبحها. وعند أبي حنيفة ومالك تجب عليه الفدية، وإن لبس ذلك

للضرورة. ولا بأس بشد المنطقة أو الهميان الذي توضع فيه النقود في الوسط.

ولا بأس بعقد الإزار في وسطه أيضًا، وإذا كان يخاف سقوطه بغير عقد يتأكد العقد.

والأصل في هذه المسألة حديث ابن عمر في الصحيحين: أن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال: لا يلبس القميص

ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس

الخفين وليقطعهما أسفل الكعبين. ولا تلبسوا شيئا من الثياب مسه الزعفران ولا

الورس هذا لفظ مسلم. وفي حديث ابن عباس المرفوع، أنه - صلى الله عليه

وسلم - لم يشترط في ترخيصه بلبس الخفين لمن لم يجد النعلين قطعهما. فبعض

العلماء حل هذا الإطلاق على حديث ابن عمر، وقال: لا بد من قطعهما، وبعضهم

قال: إن حديث ابن عباس ناسخ لحديث ابن عمر؛ لأنه بعده.

ولا يجب على الرجل كشف غير الرأس من بدنه، ويجوز له أن يستظل

بالمظلة (كالشمسية) وغيرها مما لا يمس رأسه، ولكن يستحب له أن يعرض

رأسه للشمس ما لم يتأذَّ بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه -

رضي الله عنهم لم يكونوا يستظلون في الإحرام، وقد رأى ابن عمر رجلا ظُلِّلَ

عليه قال له: أيها المحرم أَضْحِ لمن أحرمت له. أي ابرز للشمس لأجل من أحرمت

له، ويقال: ضَحَى الرجل، يَضْحَى ضُحًى، وضحا، يضحو، ضَحْوًا، وضَحْيًا،

إذا برز للشمس أو أصابته الشمس.

وأما المرأة فلم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن وضع النِّقاب

على الوجه، ولبس القُفّازين في اليدين، فإحرامها في وجهها ويديها والنقاب ما

تستر به المرأة وجهها، فلا يبدو منه إلا محاجر العينين، ومثله البُرْقُع.

قال العلماء: فإن سترت وجهها بشيء لا يمسه فلا بأس. وأما ستره عن

الرجال بمظلة ونحوها فلا شبهة في جوازه، ويجب إذا خِيفت الفتنه من النظر.

ومن أَضَرّه لباس الإحرام، فله أن يتقي الضرر، ولو بتغطية الرأس، ومتى زالت

الحاجة إلى ذلك تركه.

وأما التلبية فصيغتها المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لبيك

اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)

وكان صلى الله عليه وسلم يلبي من حين يحرم، يرفع بها صوته، فرفع

الصوت سُنة للرجل، فيرفع المحرم صوته بحيث لا يجهد نفسه، والمرأة ترفع

صوتها بحيث تسمع نفسها، وكذا جارتها.

ومعنى التلبية المبالغة في إجابة دعوة الداعي إلى الحج، ولا يزال العرب

يجيبون من يدعوهم إلى شيء بكلمة لبيك، وأول من دعا الناس بأمر الله إلى هذه

العبادة إبراهيم - عليه وعلى آله الصلاة والسلام -. وذلك قوله تعالى له: {وَأَذِّن

فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج:

27) والرجال هنا جمع رَاجِل، وهو الماشي على رجليه، أي يأتوك مشاةً

وراكبين على الرواحل الضامرة البطون التي تأتي من الفِجاج والطرق البعيدة.

فمعنى (لبيك اللهم) أنني أجيب الدعوة إلى هذا النُّسُك خاضعا لأمرك متوجها

إليك مقيما لخدمتك المرة بعد المرة. والتلبية واجبة عند المالكية، ومسنونة عند

الجمهور.

وهذه التلبية المأثورة هي العبادة القولية التي تتكرر من أول الإحرام بالنسك

إلى الانتهاء منه. ويستحب تجديدها بتجدد الشئون والأحوال كالصعود والهبوط

والركوب والنزول واجتماع الناس وتلاقي الرِّفاق.

***

دخول مكة والطواف

يستحب الاغتسال لدخول مكة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم

يغتسل له وكان يبيت (بذي طُوى) وهو موضع عند الآبار التي يقال لها: آبار

الزاهر، فمن تيسر له المبيت فيه والاغتسال فقد أصاب السنة.

والأفضل دخول مكة نهارًا، وأن يقصد المسجد الحرام تَوًّا، والأفضل أن

يدخل من باب بني شيبة؛ وروي في حديث ضعيف أن النبي - صلى الله عليه

وسلم - كان يقول إذا رأى البيت - أي الكعبة المعظمة -: (اللهم زد هذا البيت

تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً، وزد من شرفه وكرّمه، ممن حجه أو اعتمر

تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبِرًّا) وروي أن عمر رضي الله عنه كان إذا نظر

إلى البيت قال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام) .

واعلم أن ما يُذكر في المناسك من الدعاء والثناء، وما يلقنه المطوفون

للحجاج قلما يصح فيه حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه ما

هو من أقوال الصحابة وغيرهم من سلف الأمة.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع أصحابه يدعون الله - تعالى -

ويثنون عليه في النسك بما يلهمهم الله - تعالى - فيقرهم على ذلك. فعُلم من ذلك

أن ما لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لا يكلفه أحد ولا يمنع

منه، ولكن لا يجعل شعارًا عاما يلقنه كل الحجاج ويلتزمونه دائما بصفة خاصة؛

لأن الشعائر لا تثبت إلا بنص الشارع، والظاهر أن الشارع ترك هذا الأمر للناس

ليدعو كل منهم ويثني بما يلهمه الله ويخشع له قلبه. ويُسن أن يصلي بعد الطواف

ركعتين.

والثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد الحرام يبدأ

بالطواف، والطواف الأول من الحاج أو المعتمر يسمى طواف القدوم، وهو واجب

عند المالكية، وسنة عند الأئمة الثلاثة.

ويراعى في الطواف شروط الصلاة كالوضوء وطهارة البدن والثياب وستر

العورة، لما رواه الشافعي والترمذي - واللفظ له - من حديث ابن عباس مرفوعا

إلى النبي صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون

فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ووردت آثار في النهي عن كثرة الكلام في

الطواف، أي: وإن كان بخير لم تمس إليه الحاجة؛ لأنه يشغل القلب عن الخشوع

في هذه العبادة.

ولما كانت الطهارة شرطا لصحة الطواف، امتنع الطواف على الحائض

والنفساء، فهي تؤدي جميع أعمال الحج سواه، فتتربص به إلى أن تطهر، ويبتدئ

من الحجر الأسود: يستقبله ويستلمه ويقبّله، إن أمكن من غير إيذاء نفسه أو إيذاء

أحد بالمزاحمة، وإلا اكتفى باستلامه بيده - أي مسحه بها - وتقبيلها، فإن لم يمكن

أشار إليه بيده. ثم يشرع في الطواف فيجعل البيت عن يساره، فيطوف به سبعة

أشواط أي: مرات. ويستلم من الأركان الركنين اليمانيين؛ لأنهما على قواعد

إبراهيم عليه الصلاة والسلام دون الشاميين؛ لأنهما في داخل البيت.

والركنان اليمانيان هما الجنوبيان، ويسمى الذي فيه الحجر الأسود منهما

(الركن الأسود) إذا ذُكر وحده، وإذا ذُكر الآخر وحده قيل: الركن اليماني.

والشاميان هما الشماليان، فإذا ذُكر كل منهما وحده قيل:(الركن الشامي) وهو

المقابل لبلاد الشام (والركن العراقي) وهو المقابل لبلاد العراق، وإنما يقال في

تثنيتهما: اليمانيان والشاميان من باب التغليب.

هذا، وإن في الحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم الذي ذكرناه، وطواف

الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج باتفاق الأئمة، ووقته بعد الوقوف بعرفة،

وطواف الوداع، وهو واجب عند الجمهور ومندوب عند المالكية، وللحاجّ وغيره

أن يكثر من طواف التطوع ما استطاع.

***

السعي بين الصفا والمروة

السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة عند الجمهور، وعند

الحنفية واجب غير ركن، ويشترط أن يكون بعد الطواف. وعند الملكية يجب ذلك

وليس بشرط، ويجب عندهم الموالاة بينه وبين الطواف، وقال الجمهور: إنه سنة

لا واجب. ويطلق على السعي اسم الطواف والتطوف، كما ثبت في القرآن

والأحاديث؛ واختار الفقهاء اسم السعي للتفرقة بينه وبين الطواف بالبيت.

وكيفيته أن يبدأ بالصفا فيصعد إليها ويستقبل البيت (الكعبة) فيهلل ويكبر

ويدعو الله - تعالى - ثم ينزل ويذهب إلى المروة فإذا انتهى إليها توجه إلى جهة

المسعى ليكون مستقبلاً للبيت ويدعو الله - تعالى - كما دعاه عند الصفا؛ فهذه مرة،

ثم يعود إلى الصفا ثم المروة إلى أن يتم سبعة أشواط، يرمل في ثلاثة منهن بين

الميلين الأخضرين (وهما عمودان في جدار الحرم) .

والرمَل سرعة في السعي، ولا يشترط في السعي ما يشترط في الطواف من

الطهارة ولكن يستحب، ويجوز السعي راكبًا وماشيًا والمشي أفضل للقادر عليه.

روى مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا

من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: 158) وقال: أبدأ

بما بدأ الله به، وفي حديثه عند النسائي (ابدءوا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا، فرقي

عليه حتى إذا رأى البيت استقبل القبلة فوحد الله، وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده،

أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بعد ذلك، فقال مثل هذا،

ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة) الحديث.

وفيه أنه فعل في المروة كما فعل في الصفا. فينبغي أن يحفظ هذا، وأن

يدعو الساعي بعده بما يفتح الله به عليه لنفسه وأهله وإخوانه وأمته.

***

تنبيه

إن المكان الذي كان يرقى النبي صلى الله عليه وسلم إليه على الصفا،

قد بُني عليه، والصعود إليه ليس شرطًا لصحة السعي، فمن وصل إلى أسفل البناء

هناك وسعى ولم يصعده أجزأه ذلك، ولكن الأفضل أن يصعده لموافقة السنة في

الصعود.

***

الوقوف بعرفة

يخرج الحجاج من مكة (يوم التروية) وهو الذي قبل عرفة ويسميه العوامّ

بمصر والشام (يوم العرفة) ويسمون يوم عرفة (يوم الوقفة) محرمين؛ لأن من

كان متمتعًا يحرم في ذلك اليوم كإحرامه من الميقات، والسنة أن يحرم كل واحد من

المكان الذي هو نازل فيه، وله أن يحرم من خارج مكة إن كان غير مكي، فإن

المكي إنما يحرم من أهله، والسنة أن يبيتوا بمِنًى، ولا يخرجوا منها حتى تطلع

الشمس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يسيروا منها إلى

(نمرة) عن طريق (ضب) من يمين الطريق، وهو موضع في حدود عرفة

(ببطن عُرنة) . فيقيموا فيها إلى الزوال ثم يسيروا منها إلى بطن الوادي، وهو

الذي صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه الظهر والعصر قصرًا وجمعًا،

وخطب، فيصليها الحُجَّاج كذلك ويخطب بهم الإمام.

وهناك مسجد يقال له: مسجد إبراهيم بني في أول دولة بني العباس ثم

يذهبون إلى عرفات والعدول عن هذه الطريق إلى طريق (المأزمين) ودخول

(عرفة) قبل الزوال كلاهما مخالف للسنة، ولكن لا يجب به شيء لأنه ليس تركًا

لشيء من واجبات الإحرام.

ويقفون بعرفات إلى غروب الشمس، فإذا غربت خرجوا من بين العلمين أو

من خارجها. ويجتهد الحاجّ في الذكر والدعاء في هذه العشية فهي أفضل الأوقات

لهما وأرجاها للمغفرة والرحمة. ولم يعين النبي صلى الله عليه وسلم لعرفة

دعاءً ولا ذكرًا ليجتهد كل إنسان في ذلك بقدر معرفته وحسب حاجته. فيهلل ويكبر

ويدعو ما شاء الله من الأدعية الشرعية. ويُسن الغُسل يوم عرفة، ولا يسن

الصعود إلى الجبل الذي هناك الذي يسمى جبل الرحمة، - وهو جبل إلال - ولا

دخول القبة التي فوقة، التي يقال لها: قبة آدم ولا الصلاة فيها.

والسُّنة أن يُفيضوا من عرفات عند الخروج على طريق (المأزمين) فإن

النبي صلى الله عليه وسلم خرج منها على هذه الطريق؛ لأنه دخلها من

طريق (ضب) فسنته في المناسك كسنته في الأعمال والمواسم، إذا جاء من طريق

رجع من أخرى، كما كان يدخل المسجد من (باب شيبة) ويخرج بعد الوداع من

(باب حرورة) .

***

المبيت بمزدلفة

ورمي الجمار بمنى

يُسن المبيت بمزدلفة بعد عرفة، فهي المشعر الحرام الذي قال الله فيه:

{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} (البقرة: 198)

والوقوف عند (جبل قزح) أفضل، ثم يفيضون من المزدلفة بعد صلاة الفجر،

فإذا أتوا منى رموا (جمرة العقبة) بسبع حصيات، ولا يرمون يوم النحر غيرها.

وكيفية الرمي أن يستقبل الجمرة بحيث يكون البيت عن يساره ومنى عن

يمينه، ويرفع يديه بالرمي ويكبر مع كل حصاة. وإن شاء قال مع ذلك: اللهم

اجعله حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا. ويستحب تكرار التلبية بين

المشاعر كالذهاب من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى، ولم يصح في السنة

التلبية في عرفة ولا مزدلفة، فإذا شرع في رمي الجمرة استبدل التكبير بالتلبية -

أي: جعل التكبير للعيد بدلاً من التلبية للحج؛ لأنه حينئذ يشرع في التحلل الذي

تنتهي به المناسك. ومتى رمى جمرة العقبة، نحر هديه إن كان معه هدي. وكل

ما سيق من الأنعام من الحِل إلى الحرم فهو هدي بالاتفاق، ويسمى أُضْحِيَّة أيضًا،

وأما ما يُشترى في منى أو غيرها من أرض الحرم، ويذبح فيها فهو ليس بهدي عند

المالكية، وعند الأئمة الثلاثة يسمى هديًا. ويقول عند نحر الإبل وذبح غيرها:

بسم الله والله أكبر. اللهم منك ولك، اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك.

***

الحلق أو التقصير

بعد رمي جمرة العقبة يحلق الرجل شعر رأسه أو يقصره، بأن يقص منه

مقدار الأُنملة أو أقل أو أكثر، وتقص المرأة ولا تحلق ولا تزيد على قدر الأنملة.

والحلق أو التقصير ركن من أركان الحج لا يتم إلا به في مذهب الشافعي، وعند

الجمهور واجب لا ركن. وبالحلق أو التقصير يكون التحلل الأول من الإحرام فيحل

به للمحرم ما كان محرمًا عليه بالإحرام إلا النساء.

وبعد هذا يأتي الحاجّ مكة فيطوف طواف الإفاضة، الذي هو طواف الركن

كما تقدم، فإذا طاف هذا الطواف حل له كل شيء مما ذكر حتى النساء.

ثم يرجع إلى منى فيرمي بقية الجمرات، والأفضل أن يرميها في أيام

التشريق الثلاثة، وله أن يرميها في يومين لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ

مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (البقرة: 203) .

ويستحب في رمي الجمار أن يكون بعد الزوال، وأن يبدأ بالأُولى وأن يكبر

مع كل حصاة. ويدعو فيطيل الدعاء. وإذا قال في دعائه: اللهم اجعله حجًّا

مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا - فهو حسن.

***

طواف الوداع

تقدم حكمه، وينبغي أن يكون هذا الطواف آخر عهد حجاج الآفاق بمكة ليكون

مسك الختام.

انتهت الأحكام ولم نشأ نشر (حِكَم المناسك وأسرارها) في هذا الجزء من

المنار؛ لأنها منشورة في (باب الفتوى) من المجلد السادس عشر فليرجع إليها من

شاء في ص 675.

_________

ص: 213

الكاتب: محمد توفيق صدقي

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(13)

الدرن

TUBERCUlOSiS

يراد بهذا الداء تكوُّن أجسام صغيرة في عضو أو أكثر من أعضاء الجسم [1]

ويسمي الأطباء المحدَثون هذه الجسيمات بالدرنات أو الدرن [2] وهي تنشأ من باسيل

اكتشفه العلامة الألماني كوخ سنة 1882 ميلادية.

أوصاف هذا الباسيل: هو عصيات مستقيمة أو منحنية قليلاً طولها نحو 3

ميكرونات وعرضها 5و0 من الميكرن. ذات أطراف مستديرة في كل منها نقطة

لامعة أو أكثر ظُن سابقًا أنها حبيبات للميكروب، والحقيقة أنه لا يتوالد إلا بالانقسام

وهو عديم الحركة ولا أهداب له (خلافًا لما ذهب إليه بعض الباحثين) ويعيش في

الهواء وفي غيره من الغازات، بل في الفراغ، وأحسن حرارة تناسبه ما كانت

درجتها 37 سنتجراد، ولكن نموه بطيء جدًّا.

تركيب الدرن: تتكون كل درنة من خلايا تحيط بها تشبه كريات الدم البيضاء

وفي داخلها خلايا تشبه خلايا البشرة، وفي مركزها خلية أو أكثر كبيرة ذات نويات

عديدة. وقد يوجد بين هذه الخلايا منسوج آخر دقيق جدًّا يؤلف بينها. ويوجد

الميكروب بين هذه الخلايا أو فيها خصوصًا حول الخلية المركزية الكبرى أو فيها

كما في درن الحيوانات. وفي بعض الأحوال تكون هذه الخلية معدومة، وفي

البعض الآخر تكون الخلايا البشرية، كذلك فتتكون الدرنة من خلايا كالكريات

البيضاء فقط. وقطر الدرنة الواحدة عادة مليمتر واحد أو اثنان. وتشاهد الدرنات

في هذا المرض بوضوح في الرئتين أو الكبد أو الكليتين.

وكلما كبرت الدرنة مات وسطها، وذلك إما لعدم وصول أوعية الدم إليه أو

لسموم الميكروب أو للسببين معًا، فإذا مات الوسط صار مصفرًا وقوامه كالجبن،

وهذا الوسط الميت يزداد اتساعًا بينما محيط الدرنة يُغِير على ما أحاط به من

الأنسجة، وهلم جرًّا. وهذه الدرنات تنشأ بسبب تهيج العضو بالميكروب فتتكاثر

الخلايا حوله بانقسامها إلى عدة أقسام. وتهرع إليها الكريات البيضاء لمقاتلتها

فتحيط بها فيصيبها ما ذكر. وباجتماع هذه الدرنات بعضها مع بعض تتكون درنات

كبرى فينشأ من ذلك أخرجة (جمع خراج) في العضو المصاب.

وقد تتحول إلى مادة كلسية (جيرية) برسوب فسفات الكلسيوم فيها على

الأكثر فيموت الباسيل ويُشفى العليل.

وهذه الدرنات تحدث تهيجًا في الأعضاء، وقد يكثر حولها المنسوج الليفي

الضام. ويجوز أن يغير هذا المنسوج على الدرنة ويطبق عليها فتضمر وتتناقص

حتى تستحيل إلى نقطة ليفية، وبذلك يُشفى الدرن أيضًا.

أما إذا كانت قوى المريض ضعيفة فتلتهب الأنسجة حول الدرنات وتزداد حالة

العليل سوءًا فوق سوء، وفي آخر الأمر تتقيح الدرنات وما حولها ويشترك مع هذا

الميكروب ميكروبات أخرى فتتكون أخرجة وكهوف كما يحصل كثيرًا في رئة

المسلولين.

الأسباب: ميكروب هذا الداء منتشر كثيرًا بين الناس وبعض الحيوانات.

ولمعرفة كيفية العدوى به يجب أن نقسم البحث هنا إلى مسألتين:

(الأولى) الاستعداد الشخصي: للوراثة تأثير عظيم في العدوى بهذا الداء

فإنه يغلب حدوث هذا المرض في أولاد المسلولين. ولا يتوهم أحد أن الذي ينتقل

من الوالد إلى ولده وهو الميكروب، بل استعداد خاص فقط، اللهم إلا في أحوال

نادرة جدًّا، ولذلك كثيرًا ما يولد الولد في صحة لا بأس بها أو جيدة، ثم يصاب بعد

ذلك بالدرن وهناك مهيئات كثيرة للعدوى تسبب نهاكة القُوى فيضعف الشخص عن

مقاومة الميكروب فيقهره، وأهم هذه الهيئات:

(أ) الازدحام وفساد الهواء بأي سبب كان.

(ب) قلة الأغذية.

(ج) إجهاد قوى الجسم فوق طاقته بأي عمل كان ككثرة العدْو أو الانهماك

في الجماع أو في السهر وجلد عميرة، أو المطالعات الطويلة والمباحث العقلية

العنيفة خصوصًا إذا صاحبها الفقر وفساد الهواء.

(د) كثرة الحمل والولادة أو الإرضاع.

(هـ) كثرة التردد إلى الأماكن الرطبة المظلمة التي يندر دخول الشمس

فيها.

(و) الحمى التيفودية.

(ز) الإسراف في شرب الخمور.

(ح) البُوال السكري.

(ط) الزُّهَري إذا أهمل حتى أفسد البِنية.

هذه هي المهيئات العامة هناك مهيئات أخرى خاصة بالعضو المصاب

ويسمونها بالمهيئات الموضعية مثل، كثرة النزلات الشعبية أو الرئوية، وتهيج

الرئة ببعض الغازات أو بغبار بعض المعادن وغيرها كما يحصل في المصانع.

وللعمر تأثير كبير أيضًا في العدوى، فترى أن الدرن كثيرًا ما يصيب الصغار

ففي الأطفال تشاهد كثيرًا إصابتهم بدرن السحايا أو البريتون أو الغدد اللمفاوية أو

العظام أوالمفاصل، وفي الشبان كثيرًا ما نشاهد الدرن الرئوي (وهو المسمى

بالعربية السل أو الهُلاس) وأما الأشخاص الذين عمرهم فوق الأربعين فتقل

إصابتهم بالدرن ولا ينافي ذلك أنه يصيب الشيوخ أحيانًا قليلة، وفي تلك الحال

يغلب أن تكون إصابتهم مزمنة أي أن المرض بدأ فيهم قبل الأربعين.

(المسألة الثانية) مدخل الميكروب: يدخل الميكروب الجسم من طريق

الجلد أو الرئتين أو القناة الهضمية.

(أ) طريق الجلد وهو نادر الوقوع غير أنه يشاهد أحيانًا ثُؤلول في أيدي

المشرحين لجثث المسلولين، وفي هذا الثؤلول توجد ميكروبات الدرن وقد تنتشر

منه إلى الرئتين أو غيرهما.

وهناك درن الجلد يسميه الإفرنج [لوبس LUPUS] آخذًا من كلمة لاتينية

معناها (الذئب) لأن هذا الداء يصيب كثيرًا الوجه فتتآكل أجزاء كثيرة منه تآكلاً

يشبه نهش الذئب، ولكن هذا الدرن الجلدي قل أن ينتشر ميكروبه في الأحشاء.

وهذا الطريق الجلدي غير مهم في الغالب.

(ب) طريق الرئة وهو طريق مهم جدًّا. ولا يكفي لحصول الداء من هذا

الطريق مجرد استنشاق بعض نَفَس المسلول أحيانًا، ولكن يحدث المرض إذا كثر

الاختلاط بالمريض والقرب منه حتى يستنشق الإنسان الهواء المشتمل على ذرات

تخرج من صدر المسلول أثناء سُعاله فتنتشر في الهواء المحيط به، أما نفسه الهادئ

فلا يوجد فيه الميكروب. وإذا بصق المريض على الأرض أو غيرها وجف

البصاق تطايرت منه أجزاء فيها الميكروب وتكون خطرًا شديدًا على مستنشقيها.

ويكثر وجود الذرات التي فيها الميكروب على بعد نصف متر من فم المصاب

فإذا بعدت عنه مترًا ونصف متر فقلَّ أن يصيبك منها شيء.

وهناك بعض الحيوانات الداجنة التي تصاب بالدرن كالببغاء، وتكون أيضًا سببًا في

العدوى بهذا الداء من هذا الطريق.

ومن الحيوانات الأخرى الداجنة التي تكثر إصابتها به الخيل، ويقل وجوده

في الكلاب والقطط.

(ج) طريق القناة الهضمية، وهو أهم الطرق، فإن كثيرًا من الحيوانات

التي تؤكل يوجد فيها هذا الداء؛ إذ إنه كثيرًا ما يصيب البقر والخنازير والدجاج

والأرانب وخنازير الهند، أما المعز فقلَّ أن تصاب به، وكذلك الضأْن.

ولبن هذه الحيوانات يشتمل كثيرًا على باسيل الدرن إذا أصيبت ضروعها به

ولما كانت معرفة الضروع المصابة عسيرة في أول الأمر كان من الواجب اتقاء

شرب اللبن إلا بعد غليه مدة خمس دقائق على الأقل. وقد يوجد الميكروب في لحم

هذه الحيوانات وأحشائها. ونظرًا لانتشار الدرن في البقر يُشاهد هذا الداء كثيرًا في

بطون الأطفال الذين يربون بلبنها، وقد دلت التجارب أن الحيوانات الصغيرة إذا

ابتلعت ميكروب الدرن نفذ في جدر أمعائها، وأصاب غدد المساريقا فينشأ عنه

مرض هذه الغدد. أو تدرن معوي أو بريتوني، وقد يصل بعد مضي زمن إلى

أجزاء الجسم الأخرى فيصيب الغدد العنقية ويحدث داء الخنازير، وقليلاً ما يصيب

رئتي الصغار.

أما الشبان فإذا نفذ الميكروب خلال أمعائهم لم يصبها بشيء حتى يصل إلى

الرئتين فيحدث السل الرئوي. وهذا الفرق يشاهد أيضًا بين الصغار والشبان إذا

حقنوا بذرات من الكربون (الفحم) فتبقى في بطن الصغار وتصل إلى رئة الكبار،

ومن ذلك استدل بعض العلماء على أن الرئتين قد تصابان بالسل من طريق البطن

إذا أكل الشخص لحمًا أو لبنًا مصابًا، بل رجح هؤلاء العلماء أن إصابة الرئتين

بالسل من هذا الطريق هي أكثر حدوثًا من طريق التنفس.

وفي أكثر الأحوال تكون الإصابة بالدرن موضعية في أول الأمر يعني أنها

تكون قاصرة على عضو واحد، ومن ثم قد تنتشر تدريجيًّا إلى الأعضاء الأخرى

إما بسير الميكروب خلال الأنسجة أو بسيره في الأوعية اللمفاوية. وهناك درن عام

تصاب به فجأة أعضاء كثيرة من الجسم دفعة واحدة، ولكن يكثر في مثل هذا النوع

أن يكون مسبوقًا أيضًا بإصابة صغيرة موضعية كدرن الخُصية مثلاً، أو غدد العنق

أو غير ذلك.

ومما سبق يعلم أن أهم أنواع الدرن اثنان - الدرن العام والدرن الرئوي.

***

الدرن العام أو الدخني

سمي هذا النوع بهذا الاسم؛ لأن الدرنات تكون منتشرة في جميع أجزاء

الجسم تقريبًا وتشبه حبات الدَّخن إذا نثرت فيها.

الأعراض: هذه الأعراض تكون في أول الأمر مبهمة فيشتكي المريض من

ضعف عام ونحافة وإقهاء (فَقْد شهوة الطعام) وصداع وحمّى، وقد يوجد أثر من

الزلال في البول وتسوء حال المريض شيئًا فشيئًا، ثم تظهر أعراض أخرى تعين

إصابة الرئتين ككثرة السُّعال والبصق، أو يصاب الشخص بأعراض تعين إصابة

البطن كالإسهال المتعاصي والمغص، أو بأغراض أخرى تعين إصابة السحايا

كالتشنجات والشلل. والمراد بذلك أن تكون أعراض انتشار الدرن في الأعضاء

المذكورة أظهر من انتشارها في غيرها، وإن كانت كلها مصابةً به.

ويحصل الموت في مدة تتراوح بين 3 أسابيع إلى 10، ولا يعلم باليقين أن

أحدًا أصيب بهذا الداء وشُفي منه.

المعالجة: عديمة الجدوى، وإنما تعالج الأعراض فقط، ويعطى المريض

السوائل المغذية وبعض المنعشات مع بعض مرَكَّبات الأفيون لتسكين الألم والسعال،

ومن المنعشات النافعة جدًّا النوشادر، ويجب أيضًا أن تكون سُكنى المريض في

الأماكن التي تكون طلقة الهواء وتتخللها الشمس كثيرًا.

***

الدرن الرئوي أو السل

هذا الداء يصيب الرئتين بسبب تهييج باسيله لمنسوجها فتتكون الدرنات

ويلتهب ما حولها فيتصلب منسوج الرئة، ثم يتقيح ويتحول إلى تجاويف ممتلئة

بمِدة وصديد تسمى بالكهوف. ويكون ميكروب الدرن مصحوبًا بميكروبات أخرى

من الأنواع البزرية غالبًا إذا حدثت هذه التغييرات المذكورة أخيرًا فإنها تساعده في

إحداثها.

الأعراض: سير هذا الداء مختلف فبعضه يكون سريعًا والبعض الآخر يكون

بطيئًا فيمكث عادة من ستة أشهر إلى بضع سنين.

وأهم أعراضه السعال وضيق النفس والبصق الصديدي والنحافة الزائدة

والحُمَّى ونزف الدم من الصدر.

وتبدأ هذه الأعراض بطرق مختلفة، ففي كثير من الإصابات تبدأ بالسعال

وبصق المخاط مع الصديد زمنًا ما، وكثيرًا ما يتوهم الشخص أن داءه من البرد فلا

يَعْبأ به كثيرًا في أول الأمر، وفي حالات أخرى تبدأ بالنزف الرئوي، وفي هذه

الحالات قد يكون الشخص متمتعًا بالصحة فيندهش بمفاجأة النزف الرئوي له بعد

سعال خفيف فيخرج منه بضعة دراهم أو أوقية، وقد يزيد الدم إلى نصف لتر وبعد

زمن تظهر باقي الأعراض، وقد يعاوده النزف عدة مرات. وفي حالات قليلة يبدأ

المرض بشكل التهاب رئوي أو التهاب بليوراوي مع انسكاب في الصدر.

وهناك بعض الحالات التي تبدأ باضطراب في الجهاز الهضمي فيصاب الشخص

بالإقهاء مع القيء المتكرر والنحافة، ثم تتم باقي الأعراض المذكورة.

***

مضاعفات هذا الداء

الجهاز التنفسي: يصاب بالتهاب الحنجرة، فيُبَح صوت المريض، وفي

بعض الأحوال النادرة قد يكون ذلك أول ما يلاحظ على المريض. ويصاب هذا

الجهاز أيضًا بالتهاب البليورا، كما سبق مع الانسكاب المصلي أو الانسكاب

الصديدي أو الدموي أو تخترق الرئة فيدخل الهواء في تجويف الصدر، وبذلك

يبطل تنفس الرئة المصابة.

الجهاز الدوري: يصاب القلب بالضعف والتمدد في الأحوال المزمنة. وقد

يصيب الدرن بعض شرايين الرئة فيفجرها، ويحصل بسبب ذلك نزف شديد قد

يكون سببًا في الموت العاجل.

الجهاز الهضمي: يصاب - كما قلنا - بالإقهاء والغثيان والقيء وعُسر

الهضم والإسهال، وهو كثير الحصول في درجات المرض الأخيرة. وقد يصاب

البريتون أيضًا بالتدرن، وقد تصاب الكبد والطحال والكُليتان والأمعاء

بتغير مخصوص في أنسجتها يسمى عند الأطباء (الارتشاح الشمعي

degeneration waxy) ويُشاهَد أحيانًا ناسور في الشَّرَج بسبب هذا الداء

أيضًا.

الجهاز العصبي: قد يصاب بدرن في السحايا.

وقد تصاب أعضاء أخرى بالدرن فتزيد المرض شدة فوق شدته.

نهاية المرض: يحصل الموت بهذا الداء بالطرائق الآتية: نهاكة القُوى أو

النزف أو اختراق الرئة أو التهاب السحايا أو انثقاب الأمعاء أو التسمم البولي.

الإنذار: إذا اكتشف هذا الداء في أول درجاته فقد ينجح فيه العلاج ويُشفى منه

المريض غير أن أثر الدرنات يبقى في الرئة. وفي بعض الأحوال يسرع الموت

إلى المريض في أشهُر قليلة، وقد يمكث المصاب به عدة سنين قد تمتد إلى

الخمسين.

المعالجة: لا يوجد دواء لهذا الداء محقق النفع، وإنما يتلخص العلاج في

الكلمات الآتية: يوضع المريض في أصح الأهوية وأجودها وأكثرها تعرضًا

للشمس، ويُكثر من الراحة والنوم لتوفير قواه، وكذلك يُكثر من الأغذية الجيدة

السهلة الهضم كاللبن والبيض والعسل واللحوم بأنواعها إلى غير ذلك، وإذا اشتدت

الحمى أو أصاب المريض الإسهال وجب عليه الاقتصار على الأغذية السائلة.

وبالاختصار يجب اتباع جميع القوانين الصحيحة حتى تتقوى البنية فتتغلب على

المرض. ويُعطى المريض الأدوية المقوية كزيت السمك والحديد (بشرط أن لا

تكون حرارة المريض مرتفعةً جدًّا) والزرنيخ والكينين وغير ذلك، وهناك أدوية

مطهِّرة للصدر يعرفها الأطباء فلا حاجة لذكرها هنا.

ويجب أثناء المرض أن يبادر الطبيب بعلاج كافة الأعراض والمضاعفات

بجميع الوسائل الممكنة السريعة التأثير حتى لا تنهك قوى المريض.

الوقاية: تكون بما يأتي:

(1)

يتجنب المريض البصق على الأرض أو في أي مكان يمكن أن يتصل

منه الميكروب إلى الأصحَّاء. ومن أحسن الوسائل أن يُكلَّف المريض بالبصق في

مباصق خاصة (منها ما يحمل في الجيب) ويوضع فيها محلول مطهر كحامض

الفنيك بنسبة 1/20 من الماء. وإذا بصق في منديل وجب حرقه أو غليه غليًا

طويلاً قبل أن يمسه أحد.

(2)

يجب على كل شخص أن يتقي القرب من المريض حتى لا يكون في

طريق الذرات التي تتطاير منه أثناء السعال وغيره، فلا يجوز النوم معه في

الفراش أو الجلوس بالقرب منه. ويجب على المريض أن يتحاشى الزواج خدمة

لنفسه حتى لا تضعف قواه، ولا يأتي بنسل ضعيف وخدمة للأمة بعدم عدوى النساء

وبعدم إيجاد ولد له ضعيفًا أو مصابًا بالسُّل مثله.

(3)

يجب تهوية الأماكن التي يسكنها المسلولون وتعريضها لشعاع الشمس

كثيرًا وتنظيفها دائمًا بالمحاليل المطهرة، وغلي كل ما فيها من أواني وملاءات

وغيرها.

(4)

يجب أن تتقي الأمهات المسلولات إرضاع أبنائهن.

(5)

يجب على الناس كافة طبخ لحوم الحيوانات طبخًا جيدًا وتقطيع اللحم

إلى قطع صغيرة مع إطالة مدة الغلي حتى تصل الحرارة إلى ما قد يكون في باطنها

من ميكروب الداء، فقد ثبت أنه إذا زادت قطعة اللحم عن ستة أرطال فلا تكون

درجة الحرارة في باطنها كافية لقتله. وكذلك يجب غلي اللبن غليًا جيدًا مدة خمس

دقائق على الأقل.

وإذا عُلِمَ أن حيوانًا مصابًا بالدرن وجب اجتنابه وتحاشي أكله أو شرب لبنه

وإبعاده عن الحيوانات الأخرى السليمة. وهناك طريقة لتمييز الحيوانات المصابة

بالدرن عن غيرها، وذلك باستعمال (التيوبركيواين) وسيأتي الكلام على ذلك

تفصيلاً ولْيُلاحَظ عدم الغلو في غلي اللبن كأن يوضع في إناء مغلق وتطول مدة

الغلي فإنه قد ثبت أن ذلك يُفسد بعض مواده الضرورية لحياة الجسم، فإذا اقتصر

الشخص على شرب مثل هذا اللبن المبالَغ في تعقيمه كالأطفال مثلاً فقد يصاب بداء

الكُساح أو بالإسكربوط، فلذا يجب الاعتدال في تطهير اللبن.

وإذا خيف على الطفل من هذين الداءين فيحسن تغذيته بالأشياء الآتية مع اللبن

وهي، القشدة وزيت السمك وعصير البرتقال المُحَلَّى بالسكر أو بالعسل ومرق

اللحم، وإذا كان للطفل بعض أسنان فلا بأس في إعطائه قليلاً من الموز بعد عجنه

ولو باليد النظيفة.

(6)

يجب على كل شخص أن يتجنب كل ما يُنهك القوى ويفسد الصحة

كالسكنى في الأماكن الفاسدة الهواء أو الانهماك في الدخول إلى الأماكن المكتظة

بجماهير الناس كالمسارح و (دور الصور المتحركة) ونحو ذلك ويتجنب السهر

الطويل وإجهاد الجسم أو العقل وكثرة الجِماع أو جلد عميرة وإدمان الخمور،

وينبغي الإكثار من الرياضات البدنية مع الاعتدال، واستنشاق الأهوية النقية-

كالتي في الفلوات والبحار- وتعاطي الأغذية الجيدة السهلة الهضم، والإكثار من

النوم واتقاء شرب الدخان واستنشاق الغازات والأبخرة المتصاعدة من النيران

والمصانع وغيرها، وبالجملة فالواجب التزام قواعد الصحة كافة وعدم التهاون في

شيء منها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

قد يصيب أي عضو من الجسم أو أي جزء منه، وتكثر إصابته للرئتين ويقل للشِّغاف (الغشاء المحيط بالقلب) .

(2)

أصل معنى الدرن في اللغة: الوسخ.

ص: 225