المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذو الحجة - 1334ه - مجلة المنار - جـ ١٩

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (19)

- ‌شعبان - 1334ه

- ‌فاتحة السنة التاسعة عشرة للمنار

- ‌التعريف بكتابيمنازل السائرين، ومدارج السالكينوترجمة مؤلفيهما

- ‌أعظم معركة بحريةبين أعظم أساطيل العالم

- ‌رمضان - 1334ه

- ‌العصبية الجنسية التركية

- ‌حكم الصيام

- ‌حال المسلمين الاجتماعية

- ‌المجمع اللغوي المأمول

- ‌جمال باشا السفاك

- ‌الكتب المعزوة إلى غير مصنفيها

- ‌دعوة اللجنة التحضيرية

- ‌مصابنا بالزهراوي والكيلاني

- ‌مسألة الأزياء والعادات

- ‌شوال - 1334ه

- ‌آراء الخواص في المسألة العربية

- ‌السيد عبد الحميد الزهراوي

- ‌البلاغ الإنكليزي الرسميفي شأن العرب والسلطة الإسلامية

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌ذو القعدة - 1334ه

- ‌مناسك الحجأحكامه وحكمه

- ‌العرب والإسلام

- ‌الإسلام والطورانية الحديثة

- ‌منشور شريف مكة وأميرها

- ‌ذو الحجة - 1334ه

- ‌فوائد شتى [*]

- ‌فتاوى المنار

- ‌قصيدة في مدح الرسول

- ‌جمعية آداب اللغة العربيةبلندن

- ‌الأخبار والآراء

- ‌المحرم - 1335ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الزاروهل اعتقاد تأثير الوليوالعِفريت فيه شرك جلي

- ‌بلاد العربوأحوالها منذ الأعصر الخالية

- ‌المنشور الهاشمي الشريف الثاني

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌صفر - 1335ه

- ‌هل البسملة آية من كل سورة أم لا

- ‌مبايعة شريف مكة وأميرهاعلى ملك العرب

- ‌مبايعة وفود الأقطار الحجازية

- ‌احتضار سورية

- ‌متى يذكر الوطن النُّوَّم

- ‌ربيع أول - 1335ه

- ‌ذكرى المولد النبوي [*](2)

- ‌رحلة الحجاز(2)

- ‌المنشور الهاشمي الشريف الثالث

- ‌عاقبة الحربومكانة بريطانية العظمى منها

- ‌الحركة الطورانية الجديدةفي بلاد تركيا [*]

- ‌تأثير الصحافة في أخلاق الأمة

- ‌جمعية النهضة النسائية بمصر

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ربيع الآخر - 1335ه

- ‌ربح صندوق التوفير

- ‌شق صدر النبي صلى الله عليه وسلموتطهير قلبه من حظ الشيطان

- ‌بدع الجمعة والأذانوختم الصلاة والجنازة

- ‌الجمعيات الاتحاديةلتكوين العصبية التركية

- ‌رحلة الحجاز(3)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌جمادى الآخر - 1335ه

- ‌استدارة الزمان والنسيئة في الحج

- ‌ذكرى المولد النبوي [*](3)

- ‌علماء بغداد في القرن السادسومكانتهم في الوعظ والتذكير

- ‌الدكتور شبلي شميل

- ‌عمران بغداد في القرن الثالثوصف دار الخلافة فيها

- ‌خاتمة السنة التاسعة عشرة للمنار

الفصل: ‌ذو الحجة - 1334ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة التاسعة عشرة للمنار

بسم الله الرحمن الرحيم

سبحانك اللهم وبحمدك أنت المحمود على كل حال، عالم الغيب والشهادة

الكبير المتعال، قوي المِحال عظيم النوال، تعطي من تشاء ولو بغير سؤال،

وتحوّل ما شئت من حال إلى حال، قوة بعد ضعف، وغنى بعد فقر، وعز بعد ذل

وكل ضد يعقبه ضد، فما رفع الله شيئًا إلا وضعه، ولا وضع شيئًا إلا رفعه، وكل

شيء عنده بمقدار {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ

بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) .

نحمدك اللهم بالغدوّ والآصال، ونصلي ونسلم على محمد خاتم رسلك وآله

وصحبه خير صحب وآل، وعلى من تقدمه وتقدمهم من النبيين والمرسلين، ومن

تأخر عنهم من الصديقين والشهداء والصالحين، واهدنا اللهم صراطهم المستقيم في

الدنيا من الأخلاق والأعمال، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلالٌ} (إبراهيم: 31) .

أما بعد: فإن المنار يذكر قُراءه على رأس عامه التاسع عشر، بأن يعتبروا

بما نزل بأقوى أمم البشر، من آثار عزته تعالى وقوته، ومظاهر عدله وحكمته،

الدالة على أنه هو الذي يغير ولا يتغير، ويبدل ما شاء بما شاء ولا يتبدل وأن

الأمن من مكره غرور ووبال، والقنوط من رحمته كفر وضلال، وأن القوة لا تغلب

الحق، ولكنه قد تكون بالحق وللحق ومن الحق، وأن الحق ليس بمجرد دعوى

اللسان، ولا مجرد ما يجري عليه الناس من عرف واصطلاح، فحقق الملك وسياسة

العباد، لا يجب أن يورث عن الآباء والأجداد، وإنما أحق الناس بأمر الناس، من

كان أنفعهم للناس، وإقامة سنن الله تعالى في الاجتماع {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ

أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ

زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا

مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَال} (الرعد: 17) .

ثم يذكرهم على عادته بما طرأ على سير الإصلاح، بعد أن خفتت أصوات

المعارضة في جميع الأقطار، وهو شيء حدث في هذه الديار، ذلك بأن فيها

كغيرها أناسًا اغتروا بمظاهر القوة المادية، فاحتقروا قوى العقائد والفضائل

الروحية، وفتنوا بتقليد الأقوياء بما هو من آفات القوة ومفاسدها، لا من أسبابها ولا

من محامدها، كالسرف في الزينة والترف، والانغماس في الشهوات واللذات،

وأعجب أمرهم أن منهم من يدعون الدعوى إلى الإصلاح، والصعود بالضعفاء إلى

مستوى الأقوياء، أولئك هم الملاحدة المتفرنجون، الذين يفسدون في الأرض ولا

يصلحون، وإنما حجتهم على عامة المسلمين، سوء حال كثير من المعممين،

وتذللهم للأمراء والحاكمين، وذمهم بعصبية الدين، وإن لهؤلاء الملاحدة لقوة من

غيرهم لا من أنفسهم ولكنهم يعتزون بها، وإن منهم من يكيد للمؤمنين مكايد لا

يفطنون لها، وإن للمؤمنين لقوة ذاتية ولكنهم غافلون عنها، وإنما بقاء الباطل في

غفلة الحق عنه، فإذا قذف عليه دمغه، وإن بقاء الباطل لإلى زوال {وَمَا كَيْدُ

الكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ} (غافر: 25) .

قد كان ملاحدة قطرنا هذا أجبن ملاحدة المسلمين وأخوفهم من إظهار الكفر،

على كونهم أجرأهم على الجهر بالفسق، ثم تجرأ أفراد منهم منذ سنين على

التصريح به أو ببعض لوازمه في الجرائد، بعد طول العهد على تصريح الكثيرين

بذلك في المجالس، ومنهم من ألف كتبًا أو رسائل في ذلك؛ ثم بلغنا في العام

الماضي أنهم ألفوا جمعية لأجل التعاون على تشكيك الناس في الإسلام وجذبهم إلى

الإلحاد، والطعن في عقائد الدين وآدابه وأحكامه ولا سيما الآداب والأحكام الخاصة

بالنساء. وأنشئوا لهم صحيفة لدسّ الدسائس، وبث الوساوس، وتوجيه العناية فيها

إلى نابتة المدارس، وبناء دعوتهم على قاعدة التشويه للقديم والصد عنه، والتنويه

بالجديد والترغيب فيه، وإن لهم لأنصارًا في القصور والدواوين، وفي المدارس

وأكبر معاهد الدين، وقد استفادوا من تقييد حرية المطبوعات بسبب الحرب، ما

كفوا به أقلام من تصدّى لإحباط بعض دسائسهم من أهل الحق، وإنهم ليختلبون

ألباب المختبلين من الشبان والشابات، بما ينمقون من زخرف الشبهات {وَمِنَ

النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ

* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ

الفَسَادَ} (البقرة: 204-205) .

فبهذا قد وجب على أهل الإصلاح أخذ الأهبة لجهاد جديد، هو أشد من جهاد

أصحاب الخرافات والتقاليد، فإن أصحاب الخرافات عزل وهؤلاء الملاحدة

مسلحون، وأولئك ضعفاء متفرقون، وهؤلاء أقوياء مجتمعون، وأولئك غافلون

متواكلون، وهؤلاء أيقاظ حذرون، فإذا جاهد أهل الإصلاح أباطيلهم بمثل ما

يجاهدون به الحق، من الاجتماع والتعاون والحزم، كانوا حزب الله الغالبين

{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) ، {إِنَّا

لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ

الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (غافر: 51-52) .

إن هؤلاء الملاحدة لا يخافون من الأزهر وما يَتْبعه من المعاهد الدينية ما

داموا يدّعون الإسلام بألسنتهم، بل لا يعدمون هنالك أولياء وأنصارًا لهم، لما بين

نفاق الاعتقاد ونفاق الأعمال، من رابطة التناسب والاتصال، ويقال: إن لجمعية

الإلحاد الجديدة ركنًا في الأزهر ركينًا، وإنهم بذلك أوشكوا أن يحدثوا فيه حدثًا مبينًا

ولكنهم لم يصيبوا به إلا خذلانًا وفشلاً مهينًا، ولأن كلاً منهما يؤثر المنافع الخاصة

ويتوسل إليها بما في يده من المصالح العامة؛ ولأن أكثر الأزهريين، لا يعنون

بالنظر في مكتوبات المتفرنجين، وما كل من ينظر فيها، يفهم المراد منها، وما

كل من يفهم أن فيها طعنًا على الدين يهتم بالدفاع عنه، وما كل من يهتم منهم بذلك

يقدر عليه، وما كل من يقدر عليه يقوم به. لأجل ذلك كله لا يحسب هؤلاء

الملاحدة للأزهريين حسابًا، وقد يكذّب الأزهر ظنهم فيه كِذابًا، وإنما يخافون من

رجال الإصلاح سواء كانوا من الأزهر أو من غير الأزهر؛ لأنهم أقدر الناس على

إظهار عوارهم، وتقليم أظفارهم، ولأن كل ما يزعمونه ويتقربون به إلى الأمة من

السعي إلى ترقيتها وتمدينها، قد سبقهم إليه طلاب الإصلاح الإسلامي مع المحافظة

على مقوّمات الأمة ومشخصاتها، وإنما أركانها الدين واللغة والعادات والأزياء،

وهم يحاولون هدم ذلك كله بلا استثناء.

واضرب لهم مثلاً ما قاله أحد الظرفاء مفاكها للأستاذ الإمام - وهو في مرض

موته - قال: إن طريقتك في تفسير القرآن قد أضرت الأمة أعظم الضرر! قال

الأستاذ لماذا؟ قال: لأنها أبانت للناس أن الدين موافق للعقل والعلم وركن من

أركان المدنية، فتعذر علينا ما كنا نحاول من هدمه بدعوى أنه عقبة في سبيل

ترقينا في دنيانا. فمن هذه الجملة التي عبر قائلها عن خدمة الأستاذ الإمام العليا

للدين وللمسلمين، ينجلي لنا رأي هؤلاء الملاحدة في الإصلاح والمصلحين {يُثَبِّتُ

اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ

وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 27) .

من أجل هذا كانت مدرسة الدعوة والإرشاد قذًى في أعينهم، وشجًى في

حلوقهم، وطخًا على قلوبهم، وما زالوا يكيدون لها، حتى حالوا دون أعظم إعانة

كانت تنتظرها، وقد كان أشدهم سعيًا وسعاية، أشدهم استهزاء بالدين وزراية،

ذلك الذي كلما عنّ مطعن يلوي عنقه ويهز أكتافه، ويُنغض رأسه ويثني أعطافه،

ويتبسم ساخرًا، أو يُغرب ضاحكًا - ذلك الذي يعلم رئيسه الآن، أنه يأكل لحم

الخنزير جهرًا في نهار رمضان، ولو زدنا في وصفه لعرفه كثير من الناس، وإنما

الغرض بيان الصفات والأعمال، وعلى هذه الشاكلة كل أولئك الصّلال، الذين لم

يرضوا بسكوت المسلمين لهم على الضلال، حتى تصدوا للعدوان والصيال،

{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ} (إبراهيم: 46) .

فهم على ما هم، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ

القَوْلِ} (محمد: 30) وفيما يوجهون إليه القوة والحول، فمنهم من يحاول هدم

الإسلام، بالدعوة إلى استبدال لغة العوام بلغة القرآن، ومنهم من يبتغي التشكيك فيه

بنشر آراء الماديين، من القدماء والأوربيين، ومنهم من يصد عن مَحَجَّته،

بتفضيل ما عرفوا من القوانين على ما جهلوا من شريعته، ومنهم من ينفر عما

حُرِمَه من آدابه الروحية والاجتماعية، تلذذا بما حرَّمه من الشهوات الضارة

والعادات البهيمية، ومنهم من هم أقصر من هؤلاء نظرًا، وأظلم بصيرة وأفسد ذوقًا،

وهم الذين يحتقرون مشخصات أمتهم (كالجبة والعمامة) ويهزءون بها،

ويرغبون في الاستعاضة بالأزياء الغربية عنها، ويتوهمون أنهم قد عرجوا بذلك

إلى مستوى من فلسفة الذوق والجمال، لا يعرفه إلا من حلق في جو الخيال إلى

أوج الكمال، كمخترعات الأزياء الجديدة (المُودَه) من ربات الغنج والدلال، ولو

عقلوا ما تجره هذه الفلسفة النسائية أو الصبيانية من الخزي والنكال، أو قرءوا

وفهموا ما قاله الدكتور سنوك الهولندي في خطبته في مستقبل الإسلام، لودوا لو

كانوا من ربات الحِجال، راجعين عن مذهب السفور ومخالطة نسائهم للرجال،

وإنما يلوذ هؤلاء وأولئك بخلابة المقال {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ

مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة: 212) .

وجملة القول أننا بعد أن فرحنا بنصر الله - تعالى - لحزب الإصلاح على

المبتدعة والدجالين ، قد ابتلينا بتكوين حزب للملاحدة المارقين، يواليه أفراد من

أغرار الشبان وكهول المنافقين، فإذا ترك هؤلاء وشأنهم، وسكت لهم أهل الحق

على ما ينفثون من سموم أباطيلهم تعظم جرأتهم، وتنتشر دعوتهم، وتكبر فتنهم،

وليس الاستظهار عليهم بالأمر العسير، فإن حجتهم داحضة، وغواياتهم متناقضة،

وغاياتهم متعارضة، يخافون الردة الصريحة، أن تحرمهم احترام الأمة وبعض

مناصب الحكومة، فالجريء منهم على التصريح بالكفر على رءوس الأشهاد قليل،

وإنما يصرحون غالبًا بما يظنون أنه يحتمل التأويل، كزعمهم أن النبي عليه الصلاة

والسلام، أقرَّ العرب على بعض عباداتهم الوثنية؛ لأجل استمالتهم كما فعل بعض

البابوات، وهذان من أقبح البهتان، فإن ما أقره الإسلام من مناسك الحج كان من

شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو الذي بنى بمساعدة ولده إسماعيل

البيت العتيق، وطهره للطائفين والعاكفين والركع السجود، وأذنَ في الناس بالحج

فلبوه من كل فج عميق ومن دعائه عليه الصلاة والسلام، {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ

آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} (إبراهيم: 35) .

هذا وإن سواد المصريين الأعظم يغار على دينه، ويذب عنه بشماله ويمينه

حتى إن أكثر المتعلمين في المدارس المتفرنجة والإفرنجية، ليتعصبون له عصبية

سياسية اجتماعية، لا يشعر بمثلها المتعلمون في المعاهد الدينية، فهم يمقتون من

يجعل نفسه داعية للكفر، ويلفظونه كما تلفظ النخامة من الفم، ويعلمون أن ما

يتوخاه هؤلاء من نباهة الذكر عند الأوربيين، والتشبه بمن ناهضوا الكنيسة

ورجال الدين، ليس بالغرض الصحيح الذي يعذرون فيه، ولا العمل المفيد للدنيا

فيساعدهم من لا يؤمن بالآخرة عليه، فهم لا يجدون في الإسلام، ولا في رؤسائه

تلك الأسباب التي حملت بعض كُتاب أوربا وجمعياتها السياسية على مجاهدة

الكنيسة ورجالها والطعن في نفس النصرانية، فالإسلام نفسه أرشد البشر إلى العلوم

العقلية والكونية، وأوجب الفنون والصناعات المدنية، وأخرج البشر من رق

رؤساء الدين والدنيا إلى فضاء الحرية، وأما رجال الدين الرسميين في مصر فلا

مجال لاتهامهم بعصبية دينية، ولا بمقاومة الحرية العلمية ولا العملية، أنَّى وشيخ

الأزهر ومفتي الديار المصرية، وشيخ مشايخ طرق الصوفية، قد اشتركوا في جمع

الإعانة لجمعية الصليب الأحمر، حتى فرضها الأول على جميع أصحاب الرواتب

في الجامع الأزهر، وحضروا ما كانوا يتحامون من المحافل، في معاهد التمثيل

والفنادق؟ وقد حضر المفتي حفلة الصلاة على روح لورد كتشنر في هذه الأيام،

كما حضر الصلاة على روح بطرس باشا منذ أعوام، فلم يبق لهؤلاء الملاحدة ما

ينقمونه من هؤلاء العلماء، إلا عدم مشايعتهم إياهم على السفور ومخالطة النساء،

ولعلهم لا يرضونه منهم إلا أن يغيروا هذه الأزياء {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ

هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَاّ

رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ المِيعَادَ} (آل عمران: 8-9) .

...

...

منشئ المنار ومحرره

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

السنة وصحتها والشريعة ومتانتها

رد على دعاة النصرانية بمصر

تمهيد: في بيان حالنا مع المبشرين:

لا يزال دعاة النصرانية (المبشرون) يطعنون على الإسلام بما ينشرون

من الرسائل والمقالات، وإنني أتعمد ترك قراءة ما يصل إلي من مجلاتهم

ورسائلهم حتى لا أفتح على نفسي باب الرد عليهم، إذ رد الشبهات الموجهة إلى

الإسلام إنما يجب على من علمه وجوبًا كفائيًا، وقد كنت أكره الرد عليهم لولا ذلك،

وإن كانوا يظنون أنه من مقاصد المنار ومشروع الدعوة والإرشاد الذي أكبروا أمره،

على أنه لم ينلهم منه أذًى بقول ولا فعل، وجميع الطلبة في دار الدعوة والإرشاد

من قسم المرشدين الذين يعدون لإرشاد العوام لمقاومة الشرور والمعاصي الفاشية

فيهم، فقد كثرت في هذه البلاد جناياتهم في الأنفس والأموال والزروع، وفشا

فيهم السكر والقمار والفحش.

نعم: إن من مقاصد المنار، رد الشبهات عن الإسلام مقاومة للشك والتشكيك

فيه، وإنما أكره الجدل، وأكره تعمد مناقشتهم أو فتح بابها عليّ؛ لأنهم هم الذين

يتعرضون لها وينتفعون بها، وما أكثرت من محاجة أهل الكتاب في سنتي المنار

الأخيرتين إلا في التفسير؛ إذ اتفق بلوغي فيه إلى سورتي النساء والمائدة

المدنيتين، وأكثر ما في القرآن من محاجة أهل الكتاب في هاتين السورتين وأقله

فيما قبلهما. على أن فيه أيضًا ما أوجبه الإسلام من إنصافهم والعدل فيهم، وبيان

مودة النصارى منهم. وقد انتهينا من ذلك، ووصلنا إلى تفسير السور المكية التي

خوطب بها المشركون وقلما يذكر فيها أهل الكتاب إلا في سياق بيان سنة الله تعالى

في الرسل وأممهم.

لهذا كنا نظن أن باب محاجة أهل الكتاب يكون مقفلاً في المنار إلى ما شاء

الله، ولكن مجلة المبشرين العربية (الشرق والغرب) نشرت في العدد الذي صدر

منها في أول الشهر الماضي (أبريل) مقالة عنوانها (السنة وصحتها) طعنت فيها

على السنة النبوية، وزعمت أن طعنها يوجب الريب في الشريعة، وترك العمل

بها، وأنها لا قيمة لها في نفسها، وقد جاءتنا المجلة فلم نفتحها، ثم علمنا بتلك

المقالة فلم نقرأها، ثم رأينا لهذه المقالة تأثيرًا سيئًا في المسلمين حتى إن منهم من

نقلها عن المجلة وطبع كثيرًا من نسخها بمطبعة الجلاتين، ووزعت على الناس،

ووصلت إلينا نسخة منها، واقترح علينا كثيرون أن نرد عليها فوجب شرعًا إجابة

طلبهم.

ومما أكد وجوب الرد ما رأيناه في المقالة من مطالبة ثلاث مئة مليون من أهل

السّنّة بالجواب عنها! فلا ندع لهم مجالاً أن يقولوا للمسلمين: إنه لم يستطع أحد من

علمائكم أن يدافع عن سننكم وشريعتكم، ولا يرد شيئًا من حججنا عليها!

فها نحن أولاء نرد عليهم ردًّا يعلمون ويعلم الناس به أنهم لم يتحروا الأمانة فيما

نقلوا من كتبنا، ولم يفهموا ما قرءوا منها وما نقلوا عنها، وأن طعنهم في أبي

هريرة رضي الله عنه خطأ، وأنه لو صح لم يترتب عليه بطلان الثقة بالسنة،

ولا ما رتبوه على ذلك من عدم وجوب طاعة الشريعة، وإنما قصاراه أنهم افتحروا

دعاوى نسبوها إلى الإسلام، وردوا عليها بما لا يصلح أن يكون ردًّا.

وقد رأينا أن ننقل كلامهم برمته على ما فيه من الركاكة واللغو والضعف،

وإطلاق بعض الكلم على غير المعاني التي نطلقها عليها، ولكن لا نناقشهم في شيء

من الألفاظ لذاتها، ولا في العبارة من حيث ضعفها، بل في المسائل والمعاني، وقد

كان الغرض الأول من نقل عبارتهم بنصها، وعدم تلخيص مسائلها والرد عليها،

أن لا يتوهم أحد منهم أو من غيرهم أننا تصرفنا في التلخيص تصرفًا يخل بالمعنى

المراد، أو حذفنا منه ما لا يمكن ردّه بنقض ولا انتقاد، واستتبع ذلك بيان أن القوم

لا يوثق بنقلهم ولا بفهمهم.

ومن المعلوم بالضرورة أنهم ليسوا كالفلاسفة، الذين يبحثون في المسائل؛

لأجل استبانة الحق في ذاته، وإنما يتحرون بالبحث ما يرون فيه سبيلاً للطعن

والاعتراض، ومجالاً للتشكيك وإثارة الشبهات، كما يعلم مما يأتي.

***

الجملة الأولى من مقدمة الطاعن

افتتح طاعنهم مقالته بجملة تتضمن عدة دعاوى هذا نصها:

(إن صحة الشريعة قضية لا بد لكل مسلم سني من التسليم بها وذلك متوقف

على صحة السنة، فإذا ارتاب أحد في صحة السنة، فليس ثمة داعٍ منطقي يوجب

إطاعة الشريعة؛ لأن جانبًا قليلاً منها فقط يتوقف على القرآن، والجانب الأكبر

يتوقف على السنة التي اجتمعت في الأحاديث. فإذا ثبت الريب في هذه الأحاديث

تزعزعت أركان الشريعة وأركان تابعيها من حنفيّ ومالكيّ وشافعيّ وحنبليّ.

وعددهم لا يقل عن ثلاث مئة مليون من الأتباع) .

نلخص هذه الجملة من كلامه في ثلاث قضايا ونبين ما فيها.

***

القضية الأولى

(زعمه إذا ارتاب أحد في السنة ينتفي وجوب طاعة الشريعة)

هذه القضية بديهيّة البطلان، فإن الإطلاق في جزاء الشرط يدل على أن

المراد من القضية الشرطية أن ارتياب فرد من الأفراد في صحة السنة، يستلزم

انتفاء وجوب اتباع الشريعة على جميع الأفراد، وإنما المعقول الموافق للمنطق أن

ارتياب الفرد أو ظنه أو علمه، يترتب عليه ما يستلزمه في حق نفسه، ولا يكون

ذلك مؤثرًا في غيره ممن لم يرتب ارتيابه أو لم يعلم علمه، وكذلك ارتياب الأفراد

الكثيرين.

وقد ارتاب بعض علماء أوربة الأحرار في وجود المسيح عليه السلام،

وزعموا أنه شخص خيالي - أو متخيل - لم يوجد، كما زعم بعض المؤرخين مثل

ذلك في هوميروس شاعر أساطير اليونان، فهل استلزم ارتياب أولئك المرتابين فيه

انتفاء إيمان مئات الملايين من المسلمين والنصارى وغيرهم بوجوده عليه السلام.

***

القضية الثانية

(زعمه أن أكثر الشريعة يتوقف على الأحاديث)

هذه القضية غير مسلَّمة، فإن الشريعة عندنا تشمل العقائد والعبرة فيها بالدلالة

القطعية، وجميع العقائد التي تتوقف عليها صحة الإسلام ثابتة بنصوص القرآن

وإجماع المسلمين، وإثبات الألوهية والنبوة منها مؤيد بالبراهين العقلية، ولا يوجد

شيء منها يتوقف على أحاديث الآحاد التي يمكن الارتياب في بعضها، وكذلك

أصول العبادات كلها قطعية، ثابتة بالقرآن والسنة العملية المتواترة التي لا تتوقف

على أحاديث الآحاد.

وما ثبت من أحكام العبادات بأحاديث الآحاد ولم يجمع عليه أئمة العلم فلا

تتوقف عليه صحة الإسلام، وإن كان صحيحًا في نفسه، وإنما هو مزيد كمال في

علم السنة، أما أحكام الشرع في المعاملات، فأكثرها مأخوذ من القواعد والأصول

وكذا الفروع الواردة في القرآن، إما بالنص وإما بدلالة النص وفحواه، ومن القياس

الذي توسع فيه بعضهم كالحنفيّة فالشافعيّة، والمصالح العامة التي توسع فيها المالكيّة

والحنابلة. وأقلها من حديث الآحاد.

وما بقي من أركان الشريعة بعد العقائد والأحكام العملية إلا الأخلاق والآداب،

وجميع ما ورد في الأحاديث من الحكم والفضائل والآداب فهو مستمد من القرآن

الحكيم وشرح له، بل السنة كلها بيان للقرآن لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ

لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة

رضي الله عنها أنها وصفت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بقولها: كان

خلقه القرآن.

وقد اختلف العلماء في أحكام السنة التي لا تستند إلى نص من القرآن فقيل:

إنها بوحي من الله - تعالى -، وإن الوحي لا ينحصر في القرآن، ولكن للقرآن

مزايا ليست لغيره من وحي الله إلى خاتم رسله ولا إلى الرسل قبله، أعظمها

إعجازه والتعبد بتلاوته. وقيل: إن الله - تعالى - أذن لرسوله بأن يحكم، ويشرع

برأيه واجتهاده.

ومن تأمل كثيرًا من الأحكام التي استدلوا عليها بالسنة وحدها، يرى لها مآخذ

من القرآن، كتحريم الجمع بين المرأة وبين عمتها أو خالتها إلى الزواج، وكتحريم

الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وقد بيّنا ذلك في المنار، كما بينا تفاوت

الأفهام في الغوص على دول القرآن، وأين أفهام الناس كلهم فيه من فهمه - عليه

الصلاة والسلام -؟ وقد ثبت مع ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يقضي في

المسائل السياسية والإدارية باجتهاده، ويستشير فيها أصحابه.

***

القضية الثالثة

(زعمه أنه إذا ثبت الريب في الأحاديث تزلزلت أركان الشريعة)

هذه القضية غير مسلَّمة أيضًا، وفيها إجمال وإيهام، فإذا أراد بثبوت الريب

في الأحاديث ما أفادته جملته الأولى من ارتياب بعض الأفراد، ولو واحدًا فقد بينا

أن هذا لا يترتب عليه إلا ما يستلزمه الارتياب في نفس المرتاب وحده، وإذا أراد

ارتياب جميع الناس أو جميع المسلمين في جميع الأحاديث، فهذا ما وقع، ولن يقع

ولا يعقل أن يقع، وسنشرح ذلك على وضوحه في نفسه، فإن فرضنا جدلاً أنه يقع

فإنما يترتب عليه حينئذ الاكتفاء في الدين بما في القرآن والسنة العملية المنقولة

بعمل مئات الألوف وألوف الألوف منذ العصر الأول، ككيفية الصلاة والصيام

والحج وغير ذلك، وبما ثبت بالإجماع والقياس الصحيح، ولا ينقص من كتب

الشريعة حينئذ إلا الأحكام والحكم التي ثبتت بأحاديث الآحاد وحدها كما بيناه في

الكلام على القضية الثانية.

وبهذا وذاك يظهر لك بطلان قوله: (تزعزعت أركان الشريعة وأركان

تابعيها) ، فإن أراد بأركان الشريعة أصول العقائد وقضايا الإيمان التي يكون بها

المرء مؤمنًا، فقد علمت أنه لا يتوقف شيء منها على أحاديث الآحاد، وإن أراد

أركان الإسلام الخمسة فكذلك، فإن معرفة هذه الأركان لا تتوقف على ثبوت

الأحاديث الواردة فيها، فإنها مُجمع عليها معلومة من الدين بالضرورة، سواء صح

ما ورد فيها من الحديث أم لم يصح، على أنه صحيح، ولله الحمد، وإن أراد

بأركان الشريعة أو أركان تابعيها أصولها المستمدة منها عند الأئمة الأربعة فقوله

أظهر بطلانًا، فإن هذه الأركان أربعة -الكتاب والسنة والإجماع والقياس-، وما

ألحق بها عند بعضهم كالمصالح والاستحسان، فالأحاديث جزء من السنة التي هي

ركن من الأركان، فالارتياب في هذا الجزء لا يوجب الارتياب في الجزء الآخر

منها، وهو ما ثبت بالتواتر عملاً أو قولاً، فكيف يوجب الارتياب في القرآن وكله

متواتر، وفي الإجماع والقياس؟

قلنا: إن ارتياب جميع الناس أن جميع المسلمين في جميع أحاديث الآحاد ما

وقع، ولن يقع ولا يعقل أن يقع، وبيان ذلك أن المعهود من البشر في كل زمان

ومكان أن يصدقوا خبر كل مخبر؛ لأن الأصل الغالب في أخبار الناس الصدق،

إلا إذا وجدت علة في الخبر أو المخبر تقتضي الارتياب، كأن يكون الخبر غير

معقول أو يكون المُخبِر معروفًا بالكذب. على أننا نرى الناس يصدقون أكثر أخبار

الجرائد السياسية والشركات البرقية على كثرة ما عرفوا من كذبهما، واعتقادهم أن

لأصحابهما أهواء سياسية يحاولون تأييدها بالحق وبالباطل.

فإذا كان هذا شأن البشر في أمثال هذه الأخبار التي تحوم حولها الشبهات في

أنفسها، وفي سيرة رواتها، فكيف يعقل أن يرتابوا في صحة جميع الأحاديث التي

صححها حفاظ المحدّثين بعد نقد متونها، وإقامة ميزان الجرح والتعديل لكل فرد من

أفراد رواتها، وقد علم أنهم لا يقبلون في الاحتجاج حديثًا منقطع الإسناد، ولا حديثًا

في رواته مجهول، أو أحد ثبت عليه الكذب أو سوء الحفظ أو النسيان أو مخالفة

الثقات الأثبات في روايته؟

ها أنتم أولاء تصدقون أخبار أناجيلكم الأربعة وغيرها من كتبكم، وليس

عندكم سند متصل لشيء منها، وقد اختلف علماؤكم ومؤرخوكم في كُتّابها، وفي

اللغات التي كتبت بها، وفي التواريخ التي كتبت فيها، فلم يتوفر لكم فيها شيء من

النقد والتمحيص الذي توفر لنا في نقل الحديث، أفتعقلون مع هذا، أن نرتاب في

تصديق جميع الأحاديث التي نقلت لنا بدقة، لم يعهد لها البشر نظيرًا في تاريخهم

القديم ولا الحديث، وأنتم ترون أنفسكم، وسائر البشر يصدقون أكبر ما يروى لهم

بلا سند ولا بحث في رواته، بل كثيرًا ما يصدقون أخبار من ثبت عليهم الكذب

مرارًا، كرواة البرقيات والجرائد؟

***

الجملة الثانية من كلام الطاعن

قال: (وسنثبت في الفصول التالية أن من السهل إثبات الشبهات الملقاة على

تلك الأحاديث. ونحن مثبتون في هذا الفصل وهن الاعتماد على بعض الصحابة

التي تتوقف مئات من الأحاديث على شهادتهم حتى قامت عليها الشريعة، ومنها

نشأت السنة، على أن البخاري الذي اشتهر بنقد رجال الحديث، لم يخطر له أن

يرتاب في صدق الصحابة؛ لأنهم كانوا في نظره معصومين من الكذب، وهذا يدلك

على ضعف حجته، فقد ثبت بوجه لا يقبل الشك أن أبا هريرة وابن عباس لم

يكونا مُمَحِّصيْن في رواية الأحاديث.

وغرضنا الآن أن نبين أن الريب في أحاديث أبي هريرة تسرب إلى نفوس

معاصريه ونفوس الذين جاءوا بعده، ومع ذلك فقد نقل عنه البخاري الأحاديث

بالمئات، فتداولتها ألسنة المجتهدين الذين أسسوا المذاهب الأربعة، وبنوا عليها

نظامهم الشرعيّ) .

أقول: نلخص هذه الجملة في قضايا تابعة في العدد لما تقدم، ونبين ما فيها

من الخطإ والأباطيل.

***

القضية الرابعة

(زعمه وهن الاعتماد على رواة المئات الأحاديث من الصحابة كأبي هريرة)

هذه القضية باطلة، فإنها توهم القارئ أن الكاتب يثبت في هذا الفصل مطاعن

في عدالة عدة من الصحابة الذي رووا المئات الكثيرة من الأحاديث حتى إذا ما قرأ

الفصل كله لم يجد فيه إلا روايات في واحد منهم، وهو أبو هريرة - رضي الله

عنه - ويرى أن هذه الروايات لا تسقط عدالته كما نبسطه في هذا المقال. وهذا

مما يؤيد قولنا: إن هؤلاء الناس يكتبون ما لا يفهمون؛ لأنهم اعتادوا الجرأة على

إلقاء المطاعن من غير تفكير ولا روية، فهم ينقضون ما يبنون ولا يشعرون.

***

القضية الخامسة

زعمه أن البخاري

لم يخطر بباله الارتياب في صدق الصحابة لاعتقاده عصمتهم

هذه القضية باطلة أيضًا لأنها حكم بعموم السلب، على شيء يتعلق بالقلب لا

يعلمه إلا الرب، فإن مثل هذا الكاتب لا يناقش في مثل هذا التعبير؛ لأنه لا يفرق

بينه وبين القول بأن البخاري لا يتهم أحدًا من رواة الصحابة بالكذب، ولا بغيره من

العلل القادحة في الرواية، وإنما نريد بيان بطلان زعمه أن البخاري كان يرى أن

رواة الصحابة معصومون.

والصواب أنه كان يرى ويقول: إنهم عدول صادقون ولا معصومون، وما

قال هذا القول هو وغيره من نقاد المحدثين إلا بعد تتبع تاريخهم، كغيرهم من

الرواة، وقد نقل عنه الطاعن ما أراد أن يسقط به عدالة أبي هريرة، وشيئًا من

تمحيصه لما يرويه، فالبخاري كان أعلم من الطاعن بكل ما قيل في أبي هريرة،

وبما رواه أبو هريرة، ولم يره مُسقطًا لعدالته، ولو رآه مسقطًا لها لما روى عنه

في صحيحه.

وقد كان البخاري من أئمة أهل السنة الذين لا يقولون بأن أحدًا من البشر

معصوم من الكذب إلا الأنبياء عليهم السلام، وصدق الرواية لا يتوقف على

العصمة، وإلا لما قبل أحد من البشر قول أحد بعد تبليغ أنبيائهم الوحي، وإنما

يكتفى في تصديق الرواية العلم بعدالة الراوي، وجوده حفظه وضبطه لما يرويه،

ولم ينقل عن أحد من مؤرخي البشر، ونقلة الأخبار مثلما نقل عن البخاري من شدة

التحري في كتابه الجامع الصحيح، فليأتنا هذا الطاعن بمثله أو بما يقرب منهم من

علمائهم، كيف، وكتبهم المقدسة تنسب الكذب وغيره من كبائر المعاصي إلى

الأنبياء - برأهم الله تعالى، وصلى الله عليهم وسلم -؟

وهؤلاء المبشرون وأهل نحلتهم لا يقولون بعصمة الأنبياء، دع عصمة ناقلي

كتبهم بغير أسانيد متصلة، ولكنهم يقبلون ما عزي إليهم، وسنشير إلى المقابلة بين

رجالنا ورجالهم في هذا المقال، ولا حاجة إلى تفنيد قوله بضعف حجة البخاري،

الذي بناه على زعمه أن البخاري، يعتقد عصمة الصحابة، فهو ساقط في نفسه،

وأضعف منه وأسقط ما بناه عليه.

***

القضية السادسة

(زعمه أن الأئمة الأربعة أسسوا مذاهبهم

على ما رواه البخاري عن أبي هريرة)

هذه القضية الباطلة، تدل على مبلغ علم المبشرين الناشرين لهذا المقال،

وعلى درجة تحريهم وصدقهم فيما يقولون وينقلون.

الحافظ البخاري متأخر عن الأئمة الأربعة، أدرك رابعهم الإمام أحمد بن

حنبل وتلقى الحديث عنه. وقد جاء في تهذيب التهذيب عن العقيليّ أن البخاريّ لما

ألف كتابه الصحيح عرضه على علي بن المَدينيّ ويحيي بن مَعين وأحمد بن حنبل

(وكلهم من كبار شيوخه) وغيرهم، فامتحنوه، وكلهم قال: كتابك صحيح إلا

أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة.

والشاهد في هذا النقل أن البخاري أخذ عمن أدرك من الأئمة الأربعة، ولم

يأخذ أحد منهم عنه شيئًا، ولم يكن أحد من المجتهدين يقلد أحدًا في رواية ولا دراية

وإنما يأخذ كل منهم بما صح عنده من الرواية.

ولد الإمام أبو حنيفة سنة 80 وتوفي سنة 150 وولد الإمام مالك سنة 93

وتوفي سنة 179 وولد الإمام الشافعيّ سنة 150 وتوفي سنة 204 وولد الإمام أحمد

162 وتوفي 241 وولد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري سنة 194 وتوفي سنة

256 وقد رحل من بلاده لطلب العلم سنة 210 أي: بعد وفاة الإمام الشافعيّ ببضع

سنين وبعد وفاة مالك بإحدى وثلاثين سنة، وبعد وفاة أبي حنيفة بستين سنة.

فكيف أجاز لهذا الطاعن في السنة والشريعة، دينه وعقله أن يقول: إن

الأئمة الأربعة أخذوا عن البخاري ما رواه من الأحاديث عن أبي هريرة، وبنوا

عليه نظامهم الشرعي؟ وكيف توهم أنه جاء بعلوم وحقائق، تزعزع هذه الشريعة

التي هي أثبت من الجبال الرواسي؟ أبمثل هذه الدعاوى المخترعة تهدم الحقائق

الثابتة؟

***

الجملة الثالثة من كلام الطاعن

الشبهات في أبي هريرة

الشبهة الأولى

(1)

قال الطاعن: الارتياب العام في أبي هريرة (بشهادة نفسه) حدثنا

عبد العزيز بن عبد الله

عن أبي هريرة قال: (إن الناس يقولون: أكثر أبو

هريرة، ولولا آيتان من كتاب ما حدثت حديثًا

إن إخواننا من المهاجرين كان

يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم،

وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر

ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون) .

(البخاري جزء أول كتاب العلم صفحة 37) وكتب في الحاشية ما نصه:

(جاء في الإصابة لابن حجر جزء 7: 23 قوله: (إنكم تزعمون أن أبا هريرة

يكثر الحديث عن رسول الله وقد علل هذا الإكثار برواية غريبة) اهـ كلام

الطاعن.

***

الجواب عن هذه الشبهة

استدل الطاعن بهاتين الروايتين على ما سماه الارتياب العامّ في أبي هريرة،

ويفهم من هذا أنه يوهم قارئ مقالته أن جميع أهل عصره، أو أكثرهم كان يرتاب

في صحة روايته، وهذه دعوى باطلة، ولفظ الناس يصدق بالقليل والكثير، قال

الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (آل عمران:

173) .

روي في التفسير المأثور أن الذي قال ذلك هو نعيم بن مسعود قال: إن أبا

سفيان يجمع لكم الجيش

إلخ، وقيل: إن القائل ركب عبد القيس، فالناس اسم

جنس يطلق على الواحد كما يقال: فلان يركب الخيل: وإن لم يركب إلا فرسًا

واحدًا، ويطلق على الكثير.

وقد ثبت أن بعض الصحابة أنكروا إكثار أبي هريرة من التحديث كما هو

صريح، هذا الحديث الذي اختصره الطاعن من البخاري، وقد صرح في رواية

أخرى له بزيادة ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل حديثه ووجه

الإنكار أن أبا هريرة من متأخري الصحابة، فينبغي أن يكون أقل سماعًا منهم.

ومن المعلوم بالبداهة المتفق عليه من العقلاء، الذين يقضون به في محاكمهم

أن الاستنكار والاستغراب في مثل هذا لا يقتضي الاتهام بالكذب، وأن التهمة لا

تقتضي بمجردها سلب العدالة؛ لأن من التهم ما يبنى على شبهات وأوهام، ومنه ما

هنا.

وقد أجاب أبو هريرة عن الإكثار هنا بأنه كان يلزم الرسول - صلى الله عليه

وسلم - لا يكاد يفارقه؛ إذ لا تجارة له كالمهاجرين، ولا حرث له كالأنصار،

فيشغله هذا أو ذاك، فكان بهذه الملازمة يسمع ما لا يسمعون ويحفظ ما لا يحفظون

ويضاف إلى هذا الجواب أنه حدث بما سمعه وبما رواه، وأجوبة أخرى سيأتي

بيانها، وأجاب عن أصل التحديث بالآيتين الدالتين على وجوب إظهار العلم وحرمة

كتمانه، وهما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ

مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} (البقرة: 159) إلى قوله: {التُّوَّابُ

الرَّحِيم} (البقرة: 160) وقد حذف ذلك الطاعن.

وأما الرواية الثانية، وهي ما نقله الطاعن في الحاشية عن الإصابة لابن

حجر فهي رواية أخرى لهذا الأثر نفسه، رواهما البخاري عن الأعرج -عبد

الرحمن بن هرمز- عن أبي هريرة، وقال الطاعن: إنه علل الإكثار برواية غريبة؛

أي: علل كثرة تحديثه بعلة غريبة أي: عند الطاعن، ولم يذكر هذه العلة! وهي

عين العلة التي في الرواية الأخرى مع زيادة تعدّ من آيات النبي - صلى الله عليه

وسلم - ودلائل نبوته؛ ولذلك لم يذكرها الطاعن، وهي: فحضرت من النبي -

صلى الله عليه وسلم مجلسًا فقال: من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه

إليه فلن ينسى شيئًا سمعه مني فبسط برده عليّ حتى قضى حديثه ثم قبضتها إليّ،

فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئًا سمعته منه بعد، وروى هذا الحديث أحمد ومسلم

والنسائي وغيرهم من طرق.

وقد فهم أبو هريرة من الحديث عموم السلب المطلق، وصدق عليه ذلك،

وإن كان لفظ الحديث يحتمل تقييد العموم بما يقوله صلى الله عليه وسلم مدة

بسط الرداء، وسنذكر بعض ما قاله الأئمة النقاد في حفظ أبي هريرة، ولم يرو عنه

في الصحيح أنه نسي شيئًا حدث به إلا حديث (لا عدوى) فإنه أنكره بعد أن روى

ما يدل على ثبوت العدوى، ولعله كان من مراسيله لا من سماعه، فلا يتعارض مع

قوله: إنه ما سمع شيئًا ونسيه، أي: بعد مسألة الرداء، أو كان من سماعه قبل

بسط الرداء.

***

الشبهة الثانية

(2)

قال الطاعن: تهمة أبي هريرة بالكذب (بشهادة نفسه) : (عن أبي

الرزين قال: خرج إلينا أبو هريرة، فضرب بيده على جبهته فقال: ألا إنكم

تحدثون أني أكذب على رسول الله لتهتدوا وأضل، ألا وإني أشهد لسمعت رسول

الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في الأخرى

حتى يصلحها (جزء 4: 440) لا يخفى ما في هذا من الضعف) .

(3)

ونقل ابن حجر عن أحمد بن حنبل (جزء 7 صفحة 205) قوله:

(قيل: له أكثرت فقال: لو حدثتكم بما سمعت لرميتموني بالقِشع أي: الجلود) وقد

أردف هذا بشكوى أخرى وهي قوله: (أكثر علينا أبو هريرة) .

(4)

نقل ابن حجر عن عائشة (جزء 7 صفحة 205) ما يأتي: قالت

عائشة لأبي هريرة: (إنك تحدث بشيء ما سمعته) فأجابها أبو هريرة بما مؤداه

أنها كانت مهتمة بزينتها فلم تسمع ما سمعه هو.

(5)

عبد الله بن عمرو بن العاص جاء في كتاب أخبار مكة للأزرقي

صفحة 135 قوله: حدثنا أبو الوليد. عن عبيد الله بن سعد أنه دخل مع عبد الله بن

عمرو بن العاص المسجد الحرام والكعبة محرقة حين أدير جيش الحصين بن نمير

والكعبة تتناثر حجارتها، فوقف، ومعه ناس غير قليل، فبكى حتى إني لأنظر إلى

دموعه تحدَّر كحلاً في عينيه ، فقال: يا أيها الناس والله لو أن أبا هريرة أخبركم

أنكم قاتلو ابن نبيكم بعد نبيكم، ومحرِّقو بيت الله ربكم لقلتم: ما من أحد أكذب

من أبي هريرة.

(6)

عبد الله بن عمر جاء في الترمذي جزء 1 صفحة 281 قوله: حدثنا

ابن عمر فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب إلا

كلب صيد، أو كلب ماشية. قيل له: إن أبا هريرة كان يقول: أو كلب زرع.

فقال: إن أبا هريرة له زرع) ، ولا يخفى ما في هذا من التقريع اللطيف.

(7)

عن الإصابة لابن حجر جزء 7 صفة 205. كان أبو هريرة قد روى

حديثًا عن الصلاة لم يعجب مروان فسأل عبد الله بن عمر فقال عبد الله: لقد أكثر

أبو هريرة، فقال له: أتنكر شيئًا مما يقولون؟ فقال: لا، ولكن اجترأ وجبنا.

وبلغ ذلك أبا هريرة، فقال: ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا؟ . ولا نظن قوله:

(اجترأ وجبنا) من قبيل الازدراء، فإن ابن عمر ما كان ينسب الجبن إلى نفسه،

أما الجرأة التي نسبها إلى أبي هريرة، فمعناها التهجُّم والتحدي.

لعل في هذا ما يميط لنا اللِّثام عن مصادر الأحاديث، فإنه يدلنا على عظم

الاستسلام إلى رواة الأحاديث غير المدققين، والأرجح أن عبد الله لم يكن ليجسر

على مقاومة أبي هريرة، وإنما جاهر برأيه بلهجة الازدراء.

(8)

جاء في الإصابة لابن حجر جزء 7 صفحة 205 أن مروان استاء

من كلمة قالها أبو هريرة، فاتهمه بالإكثار من الرواية، وأردف ذلك بقوله: (إنما

قدم أبو هريرة قبل وفاة رسول الله. . بيسير. فقال أبو هريرة: قدمت ورسول الله

بخيبر وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين، فأقمت حتى مات) .

(ملاحظة) : كان محمد في خيبر في سنة سبع هجرية، أي: قبل موته بنحو

أربع سنوات، فالحادثة المذكورة هنا تبين، أن معاصري أبي هريرة أنفسهم كانوا

يرون المدة قصيرة جدًّا، لا تعلل إكثاره من رواية الأحاديث التي كان يستشهد بها

كلما شاء. اهـ كلام الطاعن بحروفه وإشاراته ورموزه، وحذفه من الروايات

وغلطه فيها وهو كثير، ومنه قوله (أتنكر شيئًا مما يقولون) وصوابه (مما يقول)

يعني: أبا هريرة، وقوله:(أجرأ وجبنا) وصوابه (اجترأ وجبُنَّا) ولعل هذا

الخطأ من الطبع، لا من تحريف الناقل، ولكن بعض غلطه من سوء الفهم قطعًا،

كقوله بعد الحديث الذي عزاه إلى أحمد: وقد أردف هذا بشكوى أخرى..إلخ،

والصواب أن هذه الزيادة ليست من حديث أحمد. ومنه ما فهمه من كلام

ابن عمر.

***

الجواب عن هذه الشبهة

نقول: أولاً: ليس في هذه الروايات التي أوردها الطاعن، تصريح من أحد

بأن أبا هريرة قد ثبت عليه الكذب.

وثانيًا: إن التهمة لا تثبت إلا بالبينة والدليل، باتفاق الشرائع والقوانين،

وعرف أهل العقل والعدل من البشر أجمعين، ولم يُقم أحد دليلاً، ولا بينة على أن

أبا هريرة كذب، وإنما عرض لبعض الصحابة شبهة في رواية أبي هريرة، ولو

ثبتت الشبهة، وظلت مجهولة وسببها خفيًّا لصح أن تجعل علة، لعدم إلحاق روايته

برتبة الصحيح احتياطًا، ولكن سبب الشبهة معروف، وهو لا يقتضي سلب العدالة

ولا عدم الثقة بالرواية.

وثالثًا: إن لتلك الشبهة سببين (أحدهما) خاص بكثرة الرواية، وفيه ورد

أكثر الروايات، وحاصلها أن مدة صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ثلاث

سنين وأشهر، وهي لا تتسع للأحاديث الكثيرة التي كان يتوقع التكذيب بها، أو

الإيذاء أو القتل إذا حدث بها؛ لأنها من أخبار الفتن التي أخبر بها النبي - صلى

الله عليه وسلم - قبل وقوعها، وهي ما يسميه النصارى بالنبوات، ولما عرف أهل

الحديث سبب الشبهة ظهر لهم أنها لا تدل على أدنى طعن في عدالة أبي هريرة،

وبيان ذلك من وجوه.

***

أسباب كثرة حديث أبي هريرة

لكثرة حديث أبي هريرة رضي الله عنه أسباب، استخرجناها من عدة

روايات (أحدها) أنه قصد حفظ أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وضبط

أحواله؛ لأجل أن يستفيد منها، ويفيد الناس، ولأجل هذا كان يلازمه ويسأله،

وكان أكثر الصحابة لا يجترئون على سؤاله إلا عند الضرورة، وقد ثبت أنهم كانوا

يسرون إذا جاء بعض الأعراب من البدو وأسلموا؛ لأنهم كانوا يسألون النبي -

صلى الله عليه وسلم.

ومن الدلائل على هذا السبب ما رواه عنه البخاري قال: قلت: يا رسول الله

من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد

أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث) وما رواه أحمد عن أُبيّ بن كعب:

أن أبا هريرة كان جريئًا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

أشياء لا يسأله عنها غيره.

(ثانيها) أنه كان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم، ويتبعه حتى في

زيارته لنسائه وأصحابه ليستفيد منه، ولو في أثناء الطريق، فكانت السنين القليلة

من صحبته له كالسنين الكثيرة من صحبة كثير من الصحابة، الذين لم يكونوا

يرونه صلى الله عليه وسلم إلا في وقت الصلاة، أو الاجتماع لمصلحة

يدعوهم إليها أو حاجة يفزعون إليه فيها، وقد صرح بذلك لمروان، وكما سنبين

ذلك في كلامنا على الشاهد السابع من شواهد الطاعن.

وأخرج البغويّ بسند جيد كما قال الحافظ ابن حجر: عن ابن عمر أنه قال

لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه

وفي الإصابة عنه أنه قال: أبو هريرة خير مني وأعلم بما يحدث، وعن طلحة

بن عُبيد الله: لا أشك أن أبا هريرة سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم

ما لم نسمع.

(ثالثها) أنه كان جيد الحفظ قوي الذاكرة، وهذه مزية امتاز بها أفراد من

الناس كانوا كثيرين في زمن البداوة، وما يقرب منه؛ إذ كانوا يعتمدون على

حفظهم، ومما نقله التاريخ لنا عن اليونان أن كثيرين منهم كرهوا بدعة الكتابة

عندما ابتدءوا يأخذونها، وقالوا: إن الإنسان يتكل على ما يكتب فيضعف حفظه،

وإننا نفاخر بحفاظ أمتنا جميع الأمم وتاريخهم ثابت محفوظ، قال الإمام الشافعيّ:

أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، وقال البخاري مثل ذلك، إلا أنه قال

عصره بدل دهره. وأعظم من ذلك ما رواه الترمذي عن عمر رضي الله عنه

أنه قال لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم

وأحفظنا لحديثه.

(رابعها) بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بعدم النسيان، كما ثبت

في حديث بسط الرداء المتقدم، وهو مروي من طرق متعددة في الصحاح والسنن.

(خامسها) دعاؤه له بذلك كما ثبت في حديث زيد بن ثابت عالم الصحابة

الكبير رضي الله عنه عند النسائي وهو: (أن رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت،

فسأله فقال له زيد: عليك بأبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في

المسجد، ندعو الله ونذكره إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى

جلس إلينا فقال: عودوا للذي كنتم فيه قال زيد فدعوت أنا وصاحبي، فجعل رسول

الله صلى الله عليه وسلم يؤمّن على دعائنا، ودعا أبو هريرة فقال: إني أسألك

مثل ما سأل صاحباي، وأسألك علمًا لا يُنسى ، فقال: سبقكم بها الغلام الدوسي) .

(سادسها) أنه تصدى للتحديث عن قصد؛ لأنه كان يحفظ الحديث؛ لأجل

أن ينشره، وأكثر الصحابة كانوا ينشرون الحديث عند الحاجة إلى ذكره في حكم،

أو فتوى أو استدلال، والمتصدي للشيء يكون أشد تذكرًا له، ويذكره بمناسبة

وبغير مناسبة؛ لأنه يقصد التعليم لذاته، وهذا السبب لازم للسبب الأول من أسباب

كثرة حديثه.

(سابعها) أنه كان يحدث بما سمعه وبما رواه عن غيره من الصحابة كما

تقدم، فقد ثبت عنه أنه كان يتحرى رواية الحديث عن قدماء الصحابة فروى عن

أبي بكر وعمر، والفضل بن العباس وأُبيّ بن كعب، وأسامة بن زيد وعائشة،

وبصرة الغفاري، أي: أنه صرح بالرواية عن هؤلاء، ومن المقطوع به أن

بعض أحاديثه التي يصرح فيها باسم صحابي كانت مراسيل؛ لأنها في وقائع كانت

قبل إسلامه، ومراسيل الصحابة حجة عند الجمهور.

وقد روى أيضًا عن كعب الأحبار وهو من علماء يهود، أسلم في أيام أبي

بكر، وقيل: في أيام عمر، ووثقه المحدثون، ولكن روى البخاري عن معاوية أنه

قال فيه: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن

كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. ولم يروِ البخاري في صحيحه شيئًا لكعب. وقد كان

في نفسي شيء من رواية كعب قبل أن أرى ما قاله فيه معاوية، وأعلم أن كثيرًا من

الناس يتهمونه بالكذب. ثم رأيت للحافظ ابن كثير كلامًا في ذلك.

فمن تدبر هذه الأسباب لم يستغرب كثرة رواية أبي هريرة، ولم ير استنكار

أفراد من أهل عصره لها موجبًا للارتياب في عدالته وصدقه؛ إذ علم أن سبب ذلك

الاستنكار عدم الوقوف على هذه الأسباب.

على أن جميع ما أخرجه البخاري في صحيحه له 446 حديثًا بعضها من

سماعه، وبعضها من روايته عن بعض الصحابة، وهي لو جمعت لأمكن قراءتها

في مجلس واحد؛ لأن أكثر الأحاديث النبوية جمل مختصرة. فهل يستكثر عاقل

هذا المقدار على مثل أبي هريرة أو من هو دونه حفظًا، وحرصًا على تحمل

الرواية وأدائها، فيجاري هذا الطاعن في الشريعة على الطعن في الإمام البخاري

لتخريجها؟ كيف، وهذا الطاعن لا يوثق بنقله ولا بفهمه، ولا بقصده إلى بيان

الحقيقة، بل نعلم علم اليقين أنه يريد التشكيك والطعن؛ لأن هذا هو عمله الذي

يعيش له وبه؟

***

سبب استنكار بعض حديث أبي هريرة:

نقل الطاعن في الشاهد الثاني عن أبي رزين أن أبا هريرة قال على مسمع منه:

(ألا إنكم تحدثون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعزى

هذا إلى (جزء 445: 4) ولم يذكر اسم الكتاب، وظاهر عزوه الشاهد الذي قبله إلى

البخاري أنه يعني أن هذا في البخاري أيضًا، وإنما نعرفه من رواية مسلم. وذكر في

الشاهد الثالث أنه قال: لو حدثتكم بما سمعت لرميتموني بالقِشع. وصوابه: لو

حدثتكم بكل ما سمعت، وذكر في الشاهد الخامس عن كتاب أخبار مكة للأزرقي أنه

قال حين رأى الكعبة محرقة بعد انصراف جيش الحصين بن نمير: يا أيها الناس

لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتِلو ابن نبيكم بعد نبيكم ومحرّقو بيت ربكم، لقلتم ما

من أحد أكذب من أبي هريرة. يعني لو حدثهم قبل إحراق بني أمية للكعبة

بذلك لكذبوه؛ لأن الخبر مما يستبعد تصديقه. فعلم من قوله أنه كان يعلم بهذا الحديث

قبل وقوعه؛ لأنه سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، ودليل هذا أنه قرنه

بخبر مثله في بعده عن الوقوع، ولم يكن قد وقع، وهو أنهم سيقتلون ابن

نبيهم يعني: الحسين عليه السلام وقد وقع ذلك بعد وفاته - رضي الله

عنه-.

كان أبو هريرة يعلم أن كثيرًا من الناس لا يصدقون الروايات التي تستبعد

عقولهم وقوعها، وإن كانت جائزة في نفسها، فيتوقع أن يكذبوه إذا هو حدث بها،

ويظنون أنه عزاها إلى الرسول؛ لأجل قبولها، وكان يعتقد أن بني أمية يقتلونه إذا

هو حدث بكل ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم عن أحداثهم ومفاسدهم،

وهذا هو مراده بقوله الذي رواه عنه البخاري في صحيحه: حفظت من رسول الله -

صلى الله عليه وسلم وعاءين من العلم، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو

بثثته لقُطع مني هذا البلعوم - يشير إلى عنقه.

قال الحافظ في الفتح: وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي

فيها تبين أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه،

ولا يصرح خوفًا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة

الصبيان. يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة،

واستجاب الله دعاء أبي هريرة، فمات قبلها بسنة، وستأتي الإشارة إلى شيء من

ذلك في كتاب الفتن اهـ.

وقد وفَّى الحافظ بوعده هذا في شرح حديث أبي هريرة في أوائل كتاب الفتن

من صحيح البخاري، وهو قوله لسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم بن أبي

العاص بن أمية: سمعت الصادق المصدوق يقول: (هلكة أمتي على يدي غلمة من

قريش) [1]- وفي رواية أحمد والنسائي (إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء

من قريش) فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة. فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول

بني فلان وفلان لفعلت. أي: ولم يكن مروان يعلم حين لعنهم أنهم قومه

وأبناؤه، ولكن أبا هريرة هو الذي يعلم ولم يصرح.

وذكر الحافظ في شرحه لهذا الحديث حديثًا آخر له من المرفوع في بيان معناه

أخرجه علي بن معبد، وابن أبي شيبة عنه وهو: (أعوذ بالله من إمارة الصبيان-

قالوا: وما إمارة الصبيان؟ قال: إن أطعتموهم هلكتم في دينكم، وإن عصيتموهم

أهلكوكم في دنياكم) .

فتبين بهذا أن الأحاديث التي كان يتوقع أبو هريرة تكذيب بعض الناس له فيها

هي ما كان من هذا النوع، وظهر بهذا أن ما أورده الطاعن من الشواهد على اتهامه

بالكذب لا يفيد شيء منه إثبات التهمة، وقد بينا آنفًا أن رواية أبي رزين عند مسلم،

والرواية التي عزاها إلى أحمد، وهي من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة،

ورواية عبد الله بن سعد عن الأرزقي - كلها صريحة في أن أبا هريرة كان يعتقد،

أو يظن أن بعض الناس يكذبونه في بعض أحاديث الفتن إذا هو حدث بها قبل

وقوعها لغرابة موضوعها.

بقي من شواهد الطاعن أربعة (أحدها) قول عائشة له: إنك لتحدث بشيء

ما سمعته. وقد عزا الحافظ هذا إلى تخريج ابن سعد وكتابه ليس في أيدينا، فلا

ندري أذكر سببه بعينه أم لا، والظاهر من جواب أبي هريرة أنها أنكرت حديثًا

رواه؛ لأنها لم تسمعه هي من النبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذا وقع لها

في أحاديث غير واحد من الصحابة لهذه العلة كارتيابها في حديث المعراج، وفي

حديث الرؤية في الآخرة، وفي حديث وفي موت العلماء، واتخاذ الرؤساء الجهال

الذين يَضلون ويُضلون.

ففي صحيح مسلم أن عروة بن الزبير سمع هذا الحديث من عبد الله بن

عمرو، فأخبر به خالته عائشة، فأعظمت ذلك وأنكرته وقالت له: أحدثك أنه سمع

النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ على أنها هي التي أرسلته إليه ليأخذ

عنه الحديث قال: (قالت لي عائشة: يا ابن أختي بلَغني أن عبد الله بن عمرو مارٌّ

بنا إلى الحج فسائله، فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرًا)

ثم إنها مع هذا ومع ما تعلم ويعلم كل الصحابة من ورع عبد الله وعدالته، قد

ارتابت في هذا الحديث، وبقيت مرتباة فيه مدة حول كامل- قال عروة: فلما كان

قابل (أي العام الذي بعد ذلك العام) قالت له: إن ابن عمرو قد قدم فالقه، ثم فاتحه

حتى تسأله عن الحديث الذي ذكر لك في العلم، قال: فلقيته فساءلته، فذكره لي

نحو ما حدثني به مرته الأولى. فلما أخبرتها بذلك قالت: ما أحسبه إلا قد صدق،

أراه لم يزد فيه شيئًا ولم ينقص. والجواب المشهور عند العلماء في مثل هذه

المسألة أن من حفظ حجةٌ على من لم يحفظ.

(ثانيها) حديث عبد الله بن عمر في قتل الكلاب، نقله الطاعن عن

الترمذي، وهو في صحيح مسلم وسنن النسائي وابن ماجه أيضًا. وقد قال العلماء:

إن مراد ابن عمر بقوله: (إن لأبي هريرة زرعًا) هو أن أبا هريرة كان محتاجًا

إلى معرفة حكم اتخاذ الكلب للزرع؛ لأن له زرعًا فسأل عن ذلك وحفظه وعمل به.

ويؤيد هذا ويفند زعم الطعن أنه يريد التقريع ما صح عن ابن عمر من

تفضيل أبي هريرة على نفسه، وتقدم بعض كلامه في ذلك، ومنه الشاهد الآتي

الذي عده الطاعن تكذيبًا لأبي هريرة، وهو عين التصديق والتعديل - وهو -:

(ثالثها) ما نقله عن الإصابة -وهو الشاهد السابع- من أن رواية سمع من

أبي هريرة حديثًا لم يعجبه

إلخ ما تقدم، وقد حرف الطاعن الرواية. وهذا

نصها:

وروينا في فوائد المزكي تخريج الدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد عن

الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر

فليضطجع على يمينه فقال مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى

يضطجع على يمينه؟ قال: لا. فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة. فقيل

لابن عمر: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا ولكنه اجترأ وجبنا اهـ بحروفه [2] .

وعبارة المبشر الطاعن توهم أن ما أورده هو نص ما في الإصابة، ولعله

يريد بقوله في الحديث: (لم يعجب مروان) إيهام القارئ أن موضوع الحديث قبيح

أو منكر أدبًا، ثم إنه فسر الجرأة التي وصف ابن عمر بها أبا هريرة بالتهجم

والتحدي، وهذا من أكبر الجرأة على القول بغير علم، فالتحدي معناه المباراة

والمعارضة، ولا محل له هنا، فالطاعن أثبت بهواه معنى غير صحيح، ونفى

معنى صحيحًا، وهو وصف ابن عمر نفسه بالجبن، والمراد به كما تقدم في بيان

السبب الأول من أسباب كثرة حديث أبي هريرة، أنه كان جريئًا على سؤال النبي

صلى الله عليه وسلم، وكان أكثر الصحابة يهابون سؤاله، فلا يكادون يسألونه

إلا لضرورة.

فهذا معنى قول ابن عمر: اجترأ وجبنا. وهو قد صرح هنا بأنه لا ينكر شيئًا

من قول أبي هريرة، ولكن القسيس المبشر يريد أن يقنعنا مع هذا التصريح بأنه

أنكر كلامه وكذبه!! ، وقد فسر ابن الأثير (اجترأ وجبُنا) بقوله: يريد أنه أقدم

على الإكثار من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجبنا نحن عنه،

فكثر حديثه، وقلَّ حديثنا اهـ.

هذا وإن هذا الحديث عن أبي هريرة مطعون في سنده، فإن رواية عبد الواحد

بن زياد ليس ثقة فيما يرويه عن الأعمش عن أبي صالح كما صرح به الذهبيّ في

الميزان، وذكر هذا الحديث من مناكيره عنه، وأما جملة التحدّي التي كتبها

الطاعن بغير فهم، فهي مصحفة عليه من أثر في الإصابة عن عبد الله بن عمر.

قال الراوي: كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلم قال: إنا نعرف ما تقول

ولكنا نجبن وتجترئ. أي: نجبن عن كثرة التحديث، وتجترئ أنت عليه. فيكون

هذا بمعنى رواية عبد الواحد على الوجه الذي فسرها به ابن الأثير. ولكن كلمة

تجترئ صحفت في طبعة الهند للإصابة هكذا (نحتزي) ، ولعل الطاعن رآها في

طبعة مصر مصحفة أيضًا بفعل من التحدي، أو ما يقرب منه، وأنى له أن يعرف

الأصل؟

وهذا يُثبت قولنا: إن هذا الطاعن يكتب ما لا يفهم، وإنه لا ثقة بنقله، ولا

بفهمه، ومن الغريب أنه ترجى أن يكون هذا التفسير الباطل لتلك الكلمة المحرفة

من تلك الرواية المنكرة أصلاً للطعن في جميع الأحاديث، لا لتكذيب أبي هريرة

وحده، فقال: (ولعل في هذا ما يميط لنا اللثام عن مصادر الأحاديث، فإنه يدلنا

على عظم الاستسلام إلى رواة الأحاديث غير المدققين، والأرجح أن عبد الله لم يكن

ليجسر على مقاومة أبي هريرة، وإنما جاهر برأيه بلهجة الازدراء) اهـ.

فليهنأ المسلمون بهذا الطاعن بشريعتهم بمثل هذا الخبط والخلط والتحريف

والدعاوي المضحكة، ومن ذا الذي لا يضحك من ادعاء هذا المبشر أن عبد الله بن

عمر بن الخطاب أمير المؤمنين القرشي ما كان يجسر على تخطئة أبي هريرة

الدوسي الضعيف؟ .

كان ينبغي لك أيها القس المحترم أن تلمَّ قبل تصديك لتشكيك المسلمين في

دينهم، وتهجمك على الطعن بشريعتهم، أن تلمَّ قليلاً بتاريخهم، فإننا نرى عوام

نصارى بلادنا العربية، يعلمون كخواصهم أن حرية النقد واستقلال الرأي عند

الصحابة رضي الله عنهم قد بلغت أوج الكمال، وأن أرقى الأوربيين حرية

كالإنكليز لم يبلغوا درجتهم في ذلك، إنهم يعلمون أن أمير المؤمنين عمر بن

الخطاب الذي كانت تخشى بأسه ملوك الأرض، وتهابه الإنس والجن كان يقول

الكلمة على المنبر في المسجد الجامع فتخطئه بها المرأة أو الأعرابي، فيعترف

بخطئه إذا كان مخطئًا، فهل يقال في هؤلاء: إن أعظمهم مكانة في العلم والشرف لا

يجسر أن يصرح برأيه في تخطئة أضعفهم؟ على أنه كان يكفيك أن تفهم شاهدك

الآتي -وهو-:

(رابعها) ما نقله عن الإصابة محرفًا ناقصًا كالذي قبله -وهو الشاهد

الثامن- ونحن ننقله بنصه ليقابله القراء بما نقله [3] ويروا درجة أمانته.

قال الحافظ: (وأخرج ابن سعد من طريق الوليد بن رباح: سمعت أبا

هريرة يقول لمروان حين أرادوا أن يدفنوا الحسن عند جده: تدخل فيما لا يعنيك.-

وكان الأمير يومئذ غيره- ولكنك تريد رضا الغائب، فغضب مروان، وقال: إن

الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، وإنما قدِم قبل وفاة رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - بيسير. فقال أبو هريرة: قدمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم

بخيبر، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين فأقمت معه حتى مات، و (كنت)

أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأغزو معه وأحج، فكنت أعلم الناس بحديثه،

وقد - والله - سبقني قوم بصحبته فكانوا يعرفون لزومي له فيسألونني عن حديث

كان بالمدينة، وكل من كانت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة،

ومن أخرجه من المدينة أن يساكنه. قال: فوالله ما زال مروان بعد ذلك كافًّا عنه) .

فخلاصة هذه الرواية أن مروان بن الحكم غضب لإنكار أبي هريرة عليه أمرًا

كان لأهل بيته (بني أمية) فيه سياسة -والدولة دولتهم- فلم يجد كلمة يشفي بها

غيظه إلا قول بعض الناس: أكثر أبو هريرة، فلما بين له أبو هريرة سبب إكثاره

أذعن له، ولم يعد إلى مثل ذلك، أليس من العجائب أن يعمد هذا القس المبشِّر إلى

هذه الرواية فيحرِّفها ليستدل بها على كذب أبي هريرة أو تكذيب الناس له، وما هي

إلا حكاية لشبهة الإكثار التي فندها أبو هريرة، وأجبنا نحن عنها بما استنبطناه من

مجموع الروايات المبينة لأسبابها، وهي سبعة؟

وجواب أبي هريرة يدل على جرأته، وعلى سعة حرية العرب حتى في عهد

معاوية أيضًا، فإنه ذكر لمروان نفي النبي صلى الله عليه وسلم لوالده الحَكَم،

وسيأتي بيان ذلك.

***

الجملة الرابعة من كلام الطاعن

شبهات أخرى في أبي هريرة

قال: (1- جاء في مجموعة الرسائل للغزالي في كتاب المؤمل للرد إلى

الأمر الأول صفحة 32 قوله: أقلد جميع الصحابة، ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا

ثلاثة نفر أنس بن مالك، وأبو هريرة، وسمرة بن جندب. . وأما أبو هريرة كان

يروي كلما سمع من غير أن يتأمل في المعنى، ومن غير أن يعرف الناسخ من

المنسوخ) .

(اقتبس كولدزير هذا القول في كتابه (الظاهرية) صفحة 79، ولكن بدون

إشارة إلى القيد المذكور، فأبو حنيفة لم يَرْتَبْ في وثائق أبي هريرة، ولكنه ارتاب

في قيمة أحاديثه باعتبارها أركانًا للشريعة) .

(2- حلقة أبي حنيفة: على أن ارتياب أبي حنيفة، وأتباعه في قبول كلام

أبي هريرة كان مبنيًّا على ارتيابهم في وثائقه، فقد نقل الدميري في كتاب الحيوان،

أنه وقع خلاف بين بضعة من رجال الإفتاء في جامع بغداد، فأنكر الحنفيّون

الاستشهاد بأبي هريرة؛ لاشتباههم في صدق روايته، وكان الخليفة هارون الرشيد

في جانب الفريق المرتاب) اهـ.

هذا ما قاله الطاعن بنصه على ما فيه من الغلط، والتحريف والإيهام من

وجوه:

(منها) أن مجموعة الرسائل ليست للغزالي، وإنما هي رسائل لكثير ممن

قبله وبعده.

(ومنها) أن كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول ليس للغزالي كما توهمه

عبارته.

(ومنها) أن قوله: (أقلد جميع الصحابة)

إلخ منقول في كتاب المؤمل

عن أبي حنيفة ، وظاهر عبارة الطاعن أنه للغزالي؛ لأنه هو الذي سبق ذكره في

كلامه؛ ولهذا يتعجب من يرى لاحق كلامه، وذكره فيه لأبي حنيفة.

(ومنها) أن الأصل (يروي كل ما سمع) لا (كلما سمع) كما كتب

الطاعن، والفرق بينهما معروف لكل من له إلمام بالعربية.

(ومنها) أنه أورد شبهة واحدة؛ وإنما عقد العنوان لشبهات متعددة، ولكنه

قسم هذه الشبهة إلى قسمين:

(أحدهما) ادعاؤه أن أبا حنيفة لا يَحتجّ بالأحاديث التي يرويها أبو هريرة.

(والثانية) أن أتباعه كذلك لا يحتجون بها.

ولعلنا لو راجعنا عبارة حياة الحيوان لاستخرجنا من نقله لها بالمعنى الذي

أراده أغلاطًا، وتحريفات أخرى، والغرض من هذا بيان ما قلناه أولاً من أنه لا

يوثق بنقله، ولا بفهمه، مع القطع بأنه يقصد الطعن لتشكيك المسلمين في الإسلام

لا تمحيص الحقيقة، ولكن بعض خطئه مما لا يهتدي عاقل إلى تعليله، كنسبته

كتاب المؤمل، ومجموعة الرسائل إلى الغزالي!! .

أما الجواب عن هذه الشبهة فهي أن أبا حنيفة لم يطعن في رواية أبي هريرة

بهذه العبارة ولا بغيرها، ولم يتهمه بالكذب، وهذه العبارة التي فسرها الطاعن

بهواه لا بما تدل عليه في عرف الفقهاء لا تنهض حجة له، فالتقليد عند علماء

الشرع هو العمل برأي المقلَّد (بفتح اللام) لا بروايته، لا خلاف بين المذاهب في

هذا. فأبو حنيفة يقول في هذه الرواية عنه: إنه يقدم رأي الصحابي على رأيه -

أي: رأيه الذي يستنبطه من الكتاب أو السنة بالقياس - إلا رأي هؤلاء الثلاثة،

وعلل ذلك بقوله: (أما أنس فاختلط في آخر عمره، وكان يفتي من عقله وأنا لا

أقلد عقله، وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى،

ومن غير أن يعرف الناسخ والمنسوخ) فقد صرح بأنه كان يروي ما سمعه، وهذا

ينفي اتهامه بأنه يكذب، وصرح بأنه ما كان يقصد من الرواية استنباط الأحكام منها

بالتأمل في معاني الأحاديث، والبحث عن الناسخ والمنسوخ منها؛ ليقدم الأول عند

التعارض.

وحاصل ذلك أنه راوٍ غير مستنبط فيؤخذ بروايته لا برأيه وفهمه. وهذا

صحيح، فإن أبا هريرة كان يقصد بحفظ الحديث أولاً روايته والاهتداء به بنفسه،

وثانيًا نشر السنة وإيصالها إلى الناس ليهتدوا بها بحسب اجتهادهم عملاً بوصية

النبي صلى الله عليه وسلم، المشهورة في خطبة حجة الوداع؛ إذ قال (ليبلغ

الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه (وفي رواية: رُب

مبلَّغ أوعى من سامع) وكلتاهما في البخاري وغيره. وفي معنى هذا الحديث ما

رواه الترمذي، والضياء من حديث زيد بن ثابت مرفوعًا (نضَّر الله امرءًا سمع

منا حديثًا، فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب

حامل فقه ليس بفقيه) .

والرواية الأخرى عن أبي حنيفة، وهي الأشهر أنه قال: أقلد من كان من

القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر، وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة،

ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر. -وذكرهم- والمراد بالعبادلة الثلاثة عبد

الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، وقد ترك الطاعن نقل هذه

الرواية من كتاب المؤمل؛ لأنها أظهر في المراد الذي بيناه، وأبعد عن التحريف

الذي ادعاه.

وما زعمه من رد الحنفيّة للاستشهاد بحديث أبي هريرة؛ لاشتباههم في صدق

روايته اعتمادًا على حكاية محرفة نسبها إلى حياة الحيوان، فهو باطل، وهذه كتب

الحنفيّة في الحديث والفقه، تكذب هذه الدعوى، وصاحب الدار أدرى، ومذهب

السواد الأعظم من الفقهاء المجتهدين أن رأي الصحابة ليس بحجة في الشريعة سواء

كانوا فقهاء مستنبطين، أو رواة ناقلين، وإنما الحجة في الرواية إذا صحت.

***

خلاصة الطعن في أبي هريرة، والأجوبة عنه

ينحصر طعنه في أبي هريرة في ثلاثة أشياء:

1-

استكثار بعض الصحابة لروايته، وقد بيّنّا أسبابها المزيلة لاستغرابها.

2-

توقع أبي هريرة لتكذيب بعض الناس له، إذا هو صرح بكل ما سمعه.

وقد بينا أن هذا خاصّ بما سمعه من أخبار الفتن التي أسرّ إليه النبي - صلى

الله عليه وسلم - شيئًا كثيرًا منها، ومثله في ذلك حُذيفة بن اليمان وقد ذكر كل

منهما بعض ما سمع تصريحًا أو تلويحًا، فوقع كما قالا، فكان من دلائل النبوة

التي لا تحتمل التأويل.

3-

أن الحنفيّة لا يحتجون بروايته، وأنهم يعتقدون أنه كان كاذبًا، وهذه

دعوى باطلة تكذبها الألوف من كتب المذهب والملايين من أتباعها، ويعارض هذه

الشبهات الباطلة إجماع أئمة الفقه، ومنهم الأربعة المشهورون على الاحتجاج بما

صح عندهم من أحاديث أبي هريرة المرفوعة -وكذا المرسلة عند الجمهور- وثناء

كثير من الصحابة ومن بعدهم على سعة حفظه وجودة ضبطه، وقد ذكرنا بعضها،

ومن الغريب أن أبا هريرة أغضب مروان بن الحكم الأموي -الذي كان أمير المدينة،

ثم صار أمير المؤمنين، وعرّض أمامه تعريضًا يقرب من التصريح بأن عشيرته

هي التي تفسد على المسلمين أمرهم، ولم يجد مروان كلمة يقولها فيه إلا حكاية قول

من قال: أكثر أبو هريرة. ولما جبهه بتذكيره بنفي النبي صلى الله عليه وسلم

لوالده (الحكم) من المدينة لم يعد إلى تلك الكلمة ولا غيرها، ولو وجد فيه مطعنًا

لما قصر في التشنيع عليه به.

وقد ورد أن مروان امتحنه لعله يعثر عثرة يؤاخذه بها، قال الحافظ في

الإصابة: وقال أبو الزُّعيزعة كاتب مروان: أرسل مروان إلى أبي هريرة فجعل

يحدثه، وكان أجلسني خلف السرير أكتب ما يحدث به، حتى إذا كان في رأس

الحول أرسل إليه، فسأله وأمرني أن أنظر فما غير حرفًا عن حرف اهـ.

فيا ليت شِعري، ماذا كان يقول هذا الطاعن لو نُقِلَ أن أبا هريرة غيَّر أو بدَّل

أو زاد أو نقص في الأحاديث التي حدث بها مروان؟ - وإذًا لعاقبه مروان وشهر

به حتى لا يقبل أحد حديثه- أو لو طعن في دينه وإيمانه غير مروان؟ بل ماذا يقول

هو وسائر دعاة النصرانية، لو نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم طرده كما

طرد المسيح عليه السلام بطرس وسماه شيطانًا، وهو كبير تلاميذه ورسله؟

ففي الفصل 16 من إنجيل متى أنه طوبه، وجعله الصخرة التي يبني عليها كنيسته،

وقال له: (19 وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض

يكون مربوطًا في السماوات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات) .

قال متى: (20 حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد: إنه يسوع المسيح

21 من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر بتلاميذه، أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم

ويتألم كثيرًا من الشيوخ، ورؤساء الكهنة والكتبة.

ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم 22 فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره قائلاً حاشاك

يا رب 22 فالتفت، وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لا تهتم

بما لله، لكن بما للناس.

فهذه الشهادة على بطرس، وهذا اللقب كان على رواية متى بعد تلك المنحة

والخصوصية التي خصه بها، فهل نسختها أم يجوز الجمع بينها؟ ونحن نجل

حواريّ المسيح، ولا نؤمن بهذه الرواية حتى نحتاج إلى الجواب عنها، وفي متى

(14: 31) أن المسيح قال لبطرس أيضًا: (يا قليل الإيمان) وفي 17: 20

وصف التلاميذ كلهم بعدم الإيمان، وأنه ليس لهم منه، ولا مثل حبة خردل. ومثل

هذه الشهادة متعددة في غيره من الأناجيل. حتى إن منها ما جاء بصيغة المستقبل

كقوله لهم بعدما رأوا آية إطعام خمسة آلاف من خمسة أرغفة:

(إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون)، (يوحنا 6: 36) ، وكما وصفهم بعدم

الإيمان، وصفهم بأنهم أشرار وروى ذلك لوقا في (11: 13) من إنجيله.

ثم يا ليت شِعري، لو وصف النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة بمثل

هذين الوصفين - أو لو وصف بذلك في كتاب الله المجيد - ماذا كان يقول فيه في

روايته هذا المبشِّر المحترم والقس الجدل الذي وضعته جمعيته في أشهر البلاد

الإسلامية بالعلم لينصر المسلمين فيها؟

وهل يقبل منا أن نقول له: لماذا تقبل رواية تلاميذ المسيح بلا سند مع

وصف المسيح لهم بما ذكر وهو المعصوم من الخطإ، ولا تسمح لنا بقبول رواية

أبي هريرة، ولم يجرحه من دون المسيح بمثل ذلك؟

(للرد بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هو جمع غلام، ولم يقولوا غلمة مع كونه القياس استثناء عنه بغلمة كما في الفتح، وفي رواية أغيلمة تصغير غلمة والغلام الصبي من حين يولد إلى أن يحتلم قال الحافظ: وقد يطلق الصبي والغُلَيّم بالتصغير على الضعيف العقل والتدبير والدين، ولو كان محتلمًا، وهو المراد هنا فإن الخلفاء من بني أمية لم يكن فيهم من استخلف، وهو دون البلوغ، وكذا من أقروه على الأعمال اهـ المراد منه.

(2)

يراجع نقل الطاعن لهذا الحديث وتحريفه في ص36.

(3)

يراجع نقل الطاعن لهذا في ص36.

ص: 25

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعريف بكتابي

منازل السائرين، ومدارج السالكين

وترجمة مؤلفيهما

بيان وجه الحاجة إلى تحرير التصوف

ومكانة الكتابين والشيخين منه

علماء الإسلام أربعة أصناف: أهل الأثر والمتكلمون والصوفية والفقهاء

والتفسير مشترك بينهم، ففي كل صنف منهم مفسرون. ونقول باعتبار

آخر: إن علماء الإسلام صنفان: علماء الأثر وغيرهم، أو علماء المنقول

وعلماء المعقول، ومن كل صنف مفسرون وفقهاء، ولا يكاد يكون الأثري متكلمًا،

وقد يكون صوفيًا في النادر. والأثري الفقيه إذا احتج بالقياس، فإنما يحتج بما

كانت علته ثابتة في الكتاب أو السُّنة.

ثم إن علم الأثر ينقسم إلى علم الرواية، وعلم الدراية، ولا يتم نفع أحد

العلمين إلا بالآخر، فمن أتقن علم الرواية بحفظ الأثر أو الحديث، وضبطه ومعرفة

رواته وعلله والتمييز بين الصحيح وغيره منه، ولم تكن له دراية بفهمه والاستنباط

كان جل النفع بعلمه لغيره، وهو إذا خاض في معاني الحديث بغير استعداد تام للفهم،

فإنه ربما يضل ويُضل كثيرًا، وفي مثله ورد الحديث الصحيح (نضَّر الله امرءًا

سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب

حامل فقه ليس بفقيه) رواه الترمذي، والضياء من حديث زيد بن ثابت. وفي

معناه حديث (نضَّر الله امرءًا سمع منا شيئًا، فبلغه كما سمعه فرُب مبلَّغ أَوْعَى من

سامع) رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان من حديث ابن مسعود. وأما من لم

يتقن علم السُّنة من المتكلمين والفقهاء والصوفية فضلالهم، وإضلالهم أشد.

وقد وجد في كل طائفة علماء أعلام خدموا الإسلام أجل خدمة، فصالِحو

المتكلمين خدموه بدفع شبهات الملاحدة، وكثير من المبتدعة، على أن بعض الشبه

والبدع ما جاءت إلا مِن علمهم المبتدَع، وإنما ينتفع بعلمهم مَن جمع بينه وبين علم

السُّنة.

وصالِحو الصوفية خدموا الإسلام ببيان حِكَم الشريعة وأسرارها وتربية

الأخلاق والآداب، ولكن البدع التي حدثت من قِبَلِهِمْ أكثر وأرسخ من سائر البدع

التي حدثت في الإسلام، وسبب ذلك الجهل بالسُّنة.

والفقهاء خدموا الإسلام باستنباط أحكام العبادات، والحلال والحرام والأحكام

المدنية والسياسية والتأديبية، وقد جنى الجاهلون بالسُّنن منهم على الإسلام جناية

عظيمة بما أحدثوا بأقيستهم البعيدة عن نصوص الشريعة ومقاصدها من الأحكام

الكثيرة المنافية ليُسر الدين، ورفع الحرج منه.

تفرق المسلمون بهذه العلوم إلى فرَق وأحزاب كثيرة، كلٌّ ينتحل مذهبًا ينتصر

له ويدافع عنه، فكانت جناية الخلاف على الإسلام وأهله أشد ضررًا مما أخطأ

به كل فريق منهم. وقد رد بعضهم على بعض ردودًا كان يعدها كل منهم من

التعصب أو من باب (مَن جهل شيئًا عاداه) والحق أنه قَلَّمَا يخلو رد طائفة على

أخرى من ذلك.

ومنشأ الخطأ والضرر الأكبر هو التزام مذهب والرد على مخالفه، فإن هذا

هو اتباع الهوى، وأهله هم أهل الأهواء، وإن سموا أنفسهم بأفضل الأسماء، أما

أهل الحق الذين لا يدخلون في عموم {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا

لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 32) فهم الذين يجعلون كتاب الله - تعالى - وما بيَّنه

من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الخلاف، بل هو الحَكَم العدل في

الخلاف؛ لأنه - تعالى - أخبرنا أنه أنزل الكتاب {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا

فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ

الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ

مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) .

وأجدر هؤلاء المهديين ببيان التحقيق الذي يزيل الخلاف من كان جامعًا بين

المنقول والمعقول غير متعصب لمذهب من المذاهب التي تُعزى إلى أفراد العلماء.

ولم نر في هذا الصنف أوسع علمًا، وأنهض حجة وأقوى عارضة من شيخ الإسلام

أحمد ابن تيمية، وتلميذه الإمام المحقق محمد بن أبي بكر الشهير بابن القيم، وابن

قيم الجوزية، فقد جمع الله لكل منهما بين الرسوخ في علوم السُّنة حفظًا وفهمًا

واستحضارًا واستنباطًا، وبين التمكن من سائر العلوم التي دونت بالعربية،

ومذاهب الفرق وأدلتها، فبيَّنا في كتبهما الممتعة ما أخطأ فيه الذين انحرفوا عن

الكتاب والسنة من أهل هذه المذاهب، وقد كان ابن تيمية السابق إلى تحرير تلك

المسائل، وتلاه ابن القيم، فكان الموضح المكمل لها، والمستدرك لما فاته منها.

وأهم ما انفرد به ابن القيم - فيما نعلم - الإطالة بتحرير علوم الصوفية

ووضع الموازين القسط لمعارفهم، وأذواقهم ومقاماتهم وأحوالهم بشرحه لكتاب

(منازل السائرين) لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي.

الصوفية ثلاث: صوفية الأرزاق، وصوفية الرسوم، وصوفية الحقائق، وبدع

الفريقَيْن المقلدَيْن يعرفها كل من له إلمام بالسُّنة والفقه. وإنما الصوفية صوفية

الحقائق الذين خضعت لهم رءوس الفقهاء والمتكلمين، فهم في الحقيقة علماء حكماء،

ولكن ضل بما دخل في الإسلام من باب فلسفتهم الروحية أضعاف من ضل بما

دخل على المتكلمين، وغيرهم من باب الفلسفة العقلية، من إلهية وطبيعية.

وسبب ذلك ما بيناه آنفًا من جهل بعض شيوخهم بالسنة النبوية، فمن أصول

الضلالة التي دخلت على المسلمين من باب التصوف المقابَلة بين الحقيقة والشريعة،

وجعل الأمر الكوني القَدَريّ كالأمر الشرعي في كون كل منهما يجب الرضاء به

والإذعان والاستسلام له، ومن مفاسد هذا الأصل قولهم: (من نظر إلى الخلق

بعين الشريعة مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم) ومن مفاسده الرضاء

بعدم مقاومة الأمراض والظلم، وهُضِمَ حقوق الأفراد وحقوق الأمة. ومن مفاسده

الجبر وسلب الاختيار، وناهيك بما يتبعه من المفاسد والمضارّ.

ومن أصول الضلالة التي دخلت من ذلك الباب جعل الذوق والحال من قَبِيل

دلائل الشريعة وأصولها، بل هو عند كثير من غلاتهم الركن الأعظم المقدم على

كل ما يعارضه، ومن فروع هذا الأصل ما ابتدعوه من الأذكار والأوراد والسماع،

وتعظيم القبور وجعلوه من شعائر الإسلام، فإن عمدتهم فيه أنهم ذاقوا ما أثمره لهم

من الحب، والوَجد والخشوع والبكاء والرغبة في الآخرة، ومن أمثالهم (من ذاق

عرف) ، وجهلوا أن مثل هذا الذوق حاصل للكفار فيما يأتونه في عبادتهم من

الأغاني والأناشيد وآلات الطرب، وما يشاهدونه في معابدهم ومقابرهم من الصور

والتماثيل، التي وضعت لسلفهم من النبيين والكهنة وغيرهم من الصالحين عندهم،

فإذا كانت العبادة تشرع بالذوق، فقد هُضِمَ حق الوحي، وعُدِمَ أساس الشرع.

ومن أصول تلك الضلالات دعوى أن للدين ظاهرًا، وباطنًا مخالفًا لما يفهم

الجمهور منه، وهذه الضلالة من ابتداع زنادقة الباطنية، وقد كانت سببا لارتداد

كثير من المسلمين، فكونت منهم طوائف، الإسماعيلية والنُّصيرية والدُّروز،

والبابية البهائية، والأزلية وغيرهم.

ومنها أصل الأصول عند غُلاتهم، وهو ما يعبرون عنه بوحدة الوجود

بالمعنى الذي يمثله الكتاب المسمى (بالإنسان الكامل) وأمثاله، هذا الأصل مخالف

لنصوص القرآن الصريحة، ولنصوص السنة الصحيحة، وفيه مفاسد كثيرة جدًّا،

ولكن من الناس من يفهم وحدة الوجود على غير هذا الوجه.

قد افتتنت كل فرقة انشقت من جماعة المسلمين، وأهل كل مذهب خالفوا

السنة، وما جرى عليه سلفها الصالح بفتنة تأويل، ما يخالف مذاهبهم وآراءهم من

آيات الكتاب العزيز ومتون الأحاديث، حتى إنهم ليؤوّلون السنن العملية، أو

يعارضونها بروايات قولية شاذة أو منكرة، وغلاة الصوفية أبرع الفِرَق في التأويل،

وأشدهم إسرافًا فيه بعد الباطنية، الذين يشتبهون بهم كثيرًا؛ ذلك لأنهم لا

يلتزمون في التأويل ما يلتزمه المتكلمون والفقهاء من عدم الخروج باللفظ عن حقيقته

إلا إلى ضرب من ضروب المجاز أو الكناية، بل يزيدون على ذلك باب الكشف،

وباب الإشارة وباب الرموز؛ ولذلك نرى كلامهم ممزوجًا بالآيات والأحاديث محرفة

عن معانيها الصحيحة التي تدل عليها في اللغة؛ ولأجله نرى كلامهم مقبولاً عند

الجماهير من غير تأمل ولا تفكُّر، حتى إن المتكلمين والفقهاء ما عادوا ينكرون

عليهم شيئًا كما كان السلف ينكرون على كل من يخالف ظواهر النصوص، أو

يبتدع في الدين ما لم يكن في الصدر الأول.

فمن تدبر ما ذكرنا عَلِمَ أن تحرير علم التصوف شيء لا يستطيعه إلا من

كان راسخًا في علم الكتاب والسنة أتم الرسوخ، وعارفًا بالتصوف معرفة علم وذوق

وعمل، وقد ادخر الله - تعالى - هذا للعالِمين العاملين الذائقين المفسرين

المحدِّثين- شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري، ومحقق الإسلام ابن القيم

الدمشقي- فالأول عالم أثري، غلب عليه التصوف، والثاني صوفي ذائق، غلب

عليه علم السُّنة، جمع الأول زُبدة التصوف جمعًا موجزًا في كتابه (منازل

السائرين) وشَرَحه الثاني وبيَّن ما له وما عليه في كتابه (مدارج السالكين) وها

نحن أولاء ننقل من كتب العلماء ترجمة وجيزة لكل من الشيخين، ونقفي عليها

بالتعرف بكل من الكتابين:

***

ترجمة شيخ الإسلام الهروي

جاء في حوادث سنة 481 من كتاب (شذرات الذهب) ما نصه:

وفيها توفي أبو إسماعيل الأنصاري الحنبلي، عبد الله بن محمد بن علي الهروي،

الصوفي القدوة الحافظ أحد الأعلام، توفي في ذي الحجة، وله ثمانون سنة وأشهر.

سمع من عبد الجبار الجراحي، وأبي منصور محمد بن منصور الأزدي

وخلق كثير، وبنيسابور من أبي سعيد الصيرفي، وأحمد السليطي صاحبي الأصم،

وكان قذى في أعين المبتدعة وسيفًا على الجهمية، وقد امتحن مرات. وصنف

عدة مصنفات، وكان شيخ خراسان في زمانه غير مدافَع، قاله في العبر.

ومن شعره:

سبحان من أجمل الحسنى لطالبها

حتى إذا ظهرت في عبده مدحا

ليس الكريم الذي يعطي لتمدحه

إن الكريم الذي يثني بما منحا

وجاء في أول حرف العين من (الكواكب الدرية) في طبقات الصوفية

للمُناوي:

(عبد الله بن محمد بن علي شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي

الحافظ العالم العارف الصوفي صاحب (منازل السائرين) كان إمامًا في التفسير

والحديث، حسن السيرة [1] في التصوف والعربية والتاريخ والأنساب، وغير ذلك

وكان لا يخاف في الله لومة لائم؛ ولذلك.. [2] في هلاكه مرارًا، فحفظ منهم.

وكان آية في التذكير والوعظ. مات سنة إحدى وثمانين وأربعمائة) اهـ.

وذكره الحافظ الذهبي في كتاب (العلو) وجعل عنوانه (شيخ الإسلام

الأنصاري) ولقبه بالإمام الكبير، على كونه لم ينقم منه سوى تأليفه لكتاب

المنازل، وقال فيه ما نصه:

(كان أبو إسماعيل آية في التفسير، رأسًا في التذكير، عالمًا بالحديث

وطرقه، بصيرًا باللغة، صاحب أحوال ومقامات، فيا ليته لا ألف كتاب المنازل،

ففيه أشياء منافية للسلف وشمائلهم، قيل: إنه عقد على تفسير {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ

لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى} (الأنبياء: 101) ثلاث مئة وستين مجلسًا. وقد هدد بالقتل

مرات ليقصر من مبالغته في إثبات الصفات، وليكف عن مخالفيه من علماء الكلام،

فلم يَرْعَوِ لتهديدهم، ولا خاف من وعيدهم، ومات في سنة إحدى وثمانين

وأربعمائة، وله خمس وثمانون سنة، سمع من عبد الجبار الجراحي، وأبي

سعيد الصيرفي وطبقتهما) .

***

ترجمة محقق الإسلام ابن القيم

قال العلامة السيد نعمان خير الدين بن الآلوسي البغدادي في كتابه (جلاء

العينين) :

العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي،

ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي المفسر النحوي الأصولي المتكلم الشهير بابن قيم

الجوزية. قال في الشذرات: بل هو المجتهد المطلق.

قال ابن رجب: ولد شيخنا سنة إحدى وتسعين وستمائة، ولازم الشيخ تقي

الدين ابن تيمية، وأخذ عنه وتفنن في كافة علوم الإسلام، وكان عارفًا في التفسير

لا يُجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيه المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه

ودقائق الاستنباط منه لا يُلحق في ذلك، وبالفقه والأصول والعربية، وله فيها اليد

الطُّولى، وبعلم الكلام والتصوف.

حبس مدة لإنكاره (جد الرحيل إلى قبر الخليل) .

وكان ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، ولم أشاهد مثله

في عبادته وعلمه بالقرآن والحديث وحقائق الإيمان، وليس هو بالمعصوم، ولكن

لم أر في معناه مثله.

وقد امتحن وأوذي مراتٍ، وحبس مع شيخه شيخ الإسلام تقي الدين في المرة

الأخيرة بالقلعة منفردًا عنه، ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ؛ وكان في مدة

حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن، وبالتدبر والتفكر ففتح عليه من ذلك خير كثير،

وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على

الكلام في علوم أهل المعارف والخوض في غوامضهم وتصانيفهم ممتلئة بذلك،

وحج مرات كثيرة وجاور بمكة.

وكان أهل مكة يتعجبون من كثرة طوافه وعبادته، وسمعت عليه قصيدته

(النونية) في السُّنة وأشياء من تصانيفه غيرها، وأخذ عنه العِلم خَلق كثير في حياة

شيخه، وإلى أن مات وانتفعوا به. قال القاضي برهان الدين الزرعي: وما تحت

أديم السماء أوسع علمًا منه، ودرس بالصدرية، وأم بالجوزية، وكتب بخطه ما لا

يوصف كثرةً، وصنف تصانيف كثيرة جدًّا في أنواع العلوم، وحصل له من الكتب

ما لم يحصل لغيره.

فمن تصانيفه: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، وسفر الهجرتين،

ومراحل السائرين، الكلم الطيب، وزاد المسافرين، وزاد المعاد أربع مجلدات،

وهو كتاب جليل، وكتاب نقد المنقول، وكتاب أعلام الموَقِّعين عن رب العاليمن،

ثلاث مجلدات، وكتاب بدائع الفوائد، مجلدان، النونية، الشهيرة بالشافية الكافية،

الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطِّلة، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح،

ونزهة المشتاقين، وكتاب الداء والدواء، وكتاب مفتاح دار السعادة، مجلد ضخم

غريب الأسلوب واجتماع الجيوش الإسلامية، وكتاب الطُّرق الحُكمية، وكتاب عُدّة

الصابرين، وكتاب إغاثة اللهفان، كتاب الرُّوح، وكتاب الصراط المستقيم، والفتح

القدسي، والتحفة المكية، والفتاوى، وغير ذلك.

توفي ثالث عشر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، ودُفن بمقبرة الباب

الصغير بعد أن صُلِّي عليه بمواضعَ عديدة، وكان قد رأى - قبل موته - شيخه

تقي الدين في النوم، وسأله عن منزلته فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر، ثم

قال له: وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة، رحمهم الله

تعالى- انتهى باقتصار.

***

مكانة كتاب منازل السائرين

جاء في كشف الظنون ما نصه:

(منازل السائرين) أوله (الحمد لله الواحد الأحد)

إلخ وهو لشيخ

الإسلام عبد الله بن محمد بن علي أبو إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي الصوفي

المتوفى سنة 481 إحدى وثمانين وأربعمائة. وهو كتاب في أحوال

السلوك.

قال فيه: هذه المقامات يجمعها رُتب ثلاث: الأُولى: أخذ المريد في السير،

الثانية: دخوله في الغربة، والثالثة: حصوله على المشاهدة الجاذبة إلى عين

التوحيد، ألفه حين سأله جماعة من الراغبين في الوقوف على منازل السائرين إلى

الحق من أهل هَراة فأجاب، ورتبه لهم فصولاً وأبوابًا، وجعله مائة مقسومة على

عشرة أقسام، كل منها يحتوي على عشر مقالات.

(وقد شرحه جماعة منهم الشيخ كمال الدين عبد الرزاق الكاشي المتوفى سنة

730 ثلاثين وسبعمائة لغياث الدين محمد بن رشيد الدين محمد بن محمد بن طاهر

الوزير، أوله (الحمد لله الذي خص العارفين بمعرفة ما لا يعرفه إلا هو)

إلخ

وذكر الكاشاني أن النسخ كانت مختلفة، وألفاظها متباينة حتى ساق إليه القدَر

نسخة مقروءة على المصنف موشحة بإجازة بخطه، قال: وهو كتاب فاق على كل

ما صُنِّف في هذه الطريقة.

وشرحه المولى شمس الدين محمد البتادكاني الطوسي المتوفى سنة 891

إحدى وتسعين وثمانمائة، وهو شرح ممزوج بالفارسية، سماه (تسنيم المغربين في

شرح منازل السائرين) .

وشرحه محمود بن محمد الدركزيني المتوفى سنة 743 ثلاث وأربعين

وسبعمائة، سماها تنزل السائرين، ولأحمد بن إبراهيم الواسطي المتوفى سنة

711 إحدى عشرة وسبعمائة شرح نافع.

(ولشمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية الدمشقي

المتوفى سنة 751 إحدى وخمسين وسبعمائة شرح سماه (مدارج السالكين) وهو

شرح مبسوط. وعلق عليه أبو طاهر محمد بن أحمد الفيشي المتوفى سنة 747

سبع وأربعين وسبعمائة، وترجمه الشيخ مصلح الدين، المعروف بابن نور الدين

المتوفى سنة 981 إحدى وثمانين وتسعمائة بالتركية، واختصرته الشيخة عائشة

بنت يوسف الدمشقية وسمته (الإشارات الخفية في المنازل العلية) ، وشرحه

الشيخ الإمام عبد الغني التلمساني.

وشرحه أيضًا الشيخ الإمام سليمان بن علي بن عبد الله التلمساني الصوفي

المتوفى سنة 690 تسعين وستمائة بأمر الشيخ الزاهد ناصر الدين أبي بكر بن فليح،

وهو شرح أوله (الحمد لله الذي روحنا بالحمد)

إلخ اهـ.

***

مكانة كتاب مدارج السالكين

مصنفات ابن القيم في كتب علماء الإسلام نادرة، وكتاب مدارج السالكين في

كتب ابن القيم نادرة، فإذا كان كل كتاب منها ممتازًا بتحقيق وإحاطة في مباحث

العلوم، فلا يُستغنى عنه بغيره في الجملة، فكتاب المدارج أولى بأن لا يُستغنى عنه

بغيره في الجملة، ولا في التفصيل. ذلك بأن مباحث كل كتاب من تلك الكتب قد

توجد مجملة أو مفصلة في كتبه الأخرى أو كتب شيخه وغيرهما من المحققين ،

وأما مباحث المدارج فما يوجد منها في تلك الكتب قليل جدًّا، فهو الكتاب الذي قد

انفرد بتحرير علوم الصوفية، ووزنها بميزان الكتاب العزيز والسنة النبوية، وما

كان عليه صفوة المسلمين في الصدر الأول.

قدر الله - تعالى- أن يجمع مباحثها له إمام من أكبر أئمتهم المعتدلين في

أوجز عبارة، وألطف إشارة، يعزّ على غيره الحكم له أوعليها، بل يقلّ في الناس

مَن يفهم الغايات التي ترمي إليها، وإنما أحجم غير ابن القيم من علماء السنة

الأعلام عن شرح كتاب المنازل بمثل ما شرحه به، أو إنشاء كتاب مستقل في

موضوعه؛ لأن الصوفي القح منهم - وهو قليل - لا يُرجى منه أحسن مما جاء به

الهروي، والبعيد عن التصوف منهم لا يفهم رموزهم ومقاصدهم، ولا يدرك

أحوالهم وأذواقهم، فهو إما أن يحكم عليهم بالتضليل، أو يعذرهم بضرب من

التأويل؛ ألم تر إلى الحافظ الذهبي كيف تمنى لو لم يؤلف الأنصاري كتاب المنازل؟

ولو لم يكن من أكبر علماء التفسير والحديث، ومقاومي الجهمية وغيرهم من أهل

التعطيل والتأويل، لضلله بهذا الكتاب تضليلاً.

إذا كان لكتاب المدارج عيب يوقيه من العين، فعيبه أن أكثر ما فيه من

الأحاديث غير معزوٍّ إلى مواضعه من دواوين السنة، خلافًا لعادة مؤلفه وأمثاله،

كأن العَدْوى سَرَتْ إلى مصنّفه من كُتب التصوف، ولكن لم يصل فعلها فيه إلى

إيراد الأحاديث الموضوعة، أو الاستدلال بالأحاديث المنكرة والضعيفة، فإن هذا لا

يأتي من أثري محقق مثل ابن القيم.

وجملة ما نقول في هذا الكتاب أنه أفضل ما عرفنا وسمعنا به من كتب

التصوف والأخلاق الدينية، وقد فند ما ذكرنا، وما لم نذكر من دخائل كتب

التصوف وبِدعها، فهو غاية الغايات في هذا الباب، والله أعلم بالصواب. والحمد

لله الذي وفقنا لطبعه ونشره، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

_________

(1)

لعله: سقط شيء من هنا.

(2)

ههنا كلمة ممحوة في الأصل لعلها: سعى علماء الكلام.

ص: 50

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أعظم معركة بحرية

بين أعظم أساطيل العالم

نشرت الحكومة الإنكليزية في3 يونيو1916 بلاغًا رسميًّا في مصر هذا نصه:

كما نشر في المقطم وغيره:

أعلنت وزارة البحرية البريطانية أنه بعد ظهر يوم الأربعاء في 31 مايو

حاول الأسطول الألماني الأكبر أن يخترق نطاق الحصر البحري الذي ضربناه على

ألمانيا فجاء من جهة بحر كاتغات قاصدًا دخول البحر الشمال، وكان هذا الأسطول

مؤلفًا من أساطيل الدردنوطات والطرادات الكبرى والطرادات والمدمرات

إلخ.

فانبرى له أسطول من الطرادات البريطانية الكبرى تعززه الطرادات

والمدمرات واحتدم القتال بين الفريقين وأسفرت المعركة عن خسارة عظيمة من

الجانبين.

وبعد مدة وجيزة وصل أسطول الدردنوطات البريطانية إلى مكان المعركة

فكف العدو عن القتال وعادت بوارجه قاصدة الموانئ الألمانية.

وقد أُغرقت البوارج الألمانية التالية وهي:

بارجة دردنوط من طرز (كيزر) نسفت نسفًا، وبارجة أخرى من الطرز

عينه أُغرقت بنار المدافع.

أما الطرادات الألمانية الثلاثة الكبرى التي قاتلت في المعركة - وبينها الطراد

العظيم لنزوف، والطراد العظيم درفلنجر على ما يظن - فقد نُسف واحد منها

وعُطل الثاني، ووقف عن الحركة، ورُئِيَ الثالث مصابًا بعطل كبير.

ورُئِيَ طراد ألماني من الطرادات الخفيفة وهو يغرق، ومما يجدر ذكره أن

الألمان اعترفوا بضياع ثلاثة من طراداتهم الخفيفة، وهي فرونلوب وفسبادن

وبومون، وغرقت ست مدمرات ألمانية، ونطحت غواصة ألمانية فأغرقت.

هذه الخسارة التي أرسل القائد العام للأسطول البريطاني خبرها كما رُئِيَتْ

ولكن ثلاث بوارج ألمانية من البوارج الكبرى أصيبت بعطب كبير، والمرجح أن

العدو أصيب بخسارة أخرى لم يستطع أسطولنا رؤيتها بسبب صعوبة الرؤية من

جراء الأحوال الجوية.

والظاهر أن المعركة دارت في آخر الأمر والبوارج الألمانية تجدّ في السير،

وقد ساقها البريطانيون أمامهم من السكو إلى مصب نهر الألب.

أما خسارة الأسطول البريطاني فهي من الطرادات الكبرى (كوين ماري)

و (أندفيتجابل) و (أنفنسبل) ، والطراد (واريور) و (وسبرهوك)

و (أردنت) وثلاث مدمرات أخرى ضاعت، ولم يغرق للبريطانيين شيء من

بوارج الدردنوط ولا من الطرادات الخفيفة.

وقد وقع عبء القتال قبل وصول الأسطول البريطاني الأكبر على قسم من

أسطول الطرادات الكبرى البريطانية، فقاتل هذا القسم أسطول العدو الأكبر

وأصيب بالخسارة المتقدمة، وهو يقاتل أسطولاً يفوقه كثيرًا في قوة البوارج

وعددها اهـ.

وقد شرح كل من المقطم والأهرام هذا البلاغ شرحًا، صرحا فيه بأن

الطرادات الكبرى التي غرقت من نوع الدردنوط أيضًا، وقد آثرنا شرح الأهرام

للخسائر، وهذا نصه:

***

خسائر الألمان

جاء في البلاغ البريطاني أن الألمان فقدوا بارجتين من طراز (كيزر)[1]

إحداهما نسفت نسفًا، والأخرى أغرت بنار المدافع. ومحمول كل بارجة من هذه

البوارج 24700 طن، وهي من بوارج الدردنوط الألمانية وسلاحها 10 مدافع

قطر 12 بوصة، و14 مدفعًا قطر 6 بوصات، و12مدفعًا ثقل 24 رطلاً و4

ثقل 24 رطلاً، وهي لمقاومة الطيارات، وفيها 5 أنابيب، للطوربيد (الواحدة

20 بوصة) مغمورة بالمياه 4 منها في جانبها، وواحدة في المؤخرة.

وقد بنيت بوارج الدردنوط الألمانية التي من طراز (كيزر) (لقب

الإمبراطور) سنة 1912- 1913 وعددها خمس، وهي (كيزر) و (فردريك

درجروس) و (كيزرين) و (برنس رجنب لويتبولد) و (كوينج ألبرت) ، فإذا

كانت اثنتان قد دمرتا على ما جاء في البلاغ يكون الباقي عند الألمان من هذا

الطراز ثلاث.

وليس عند الألمان أكبر من هذه البوارج سوى ثلاث، محمول الواحدة منها

28 ألف طن، وهي (أرزتس فردريك الثالث) ، وأرزاتس ورث و (T) وأربع

محمول الواحدة 25 ألف طن، وهي (أرزاتس براندنبرج) و (كوينج)

و (جروس كورفرست) و (مرجراف) .

وأما الطرادات الألمانية التي يقول البلاغ إن منها لنزوف ودرفلنجر، فهي من

طرادات القتال الكبرى، وليس لدى ألمانية منها سوى ثلاثة وهي (درفلنجر)

و (لنزوف) و (أرزاتس هرثا) ، ومحمولها 28 ألف طن وسلاحها 8 مدافع قطر

12 بوصة و12 مدفعًا قطر 6 بوصات، و12 مدفع ثقل 24 رطلاً و5 أنابيب للطوربيد (22بوصة) مغمورة بالمياه أربعة منها في الجوانب وواحدة في

المؤخرة.

أما الطرادات الثلاث التي يعترف الألمان بضياعها فهي.

1-

بومرن ومحمولها 12200 طن، وسلاحها 4 مدافع قطر 11 بوصة و14

مدفعًا قطر6،7 بوصة و 20 مدفعا ثقل 24 رطلا و4 ثقل رطل واحد (أي ثقل

مقذوفها) وأربع مدافع رشاشة و6 أنابيب للطوربيد مغمورة بالمياه، في جوانبها

وفي المقدمة والمؤخرة. وللألمان من هذا الطراز أربع بوارج أخرى، وهي

(دتشلند) و (هنوفر) و (شلسويج هولستين) و (شلسين) .

2-

فرونلوب وهو طراز صغير محموله 2715 طنا وسلاحه 10 مدافع 4

بوصات و10 مدافع ثقل رطل، و4 مدافع رشاشة، وأنبوبان للطوربيد مغموران

تحت الماء

3-

(وستفالن) وهي دردنوط كبيرة ومن طراز (نساو) ومحمولها 1800

طن وسلاحها 12 مدفعًا قطر 11 بوصة و12 قطر 6 بوصات و16 ثقل 24 رطلاً

و6 أنابيب للطوربيد في المقدمة والمؤخرة والجانبين مغمورة تحت الماء.

ولألمانيا من هذه الطراز أربع بوارج فقط وهي (وستفالن. ونساو. وبوزن

ورينلاند) .

وخسر الألمان عدا ما تقدم ست مدمرات لم تُذكر أسماؤها، هذه خسارة

الأسطول الألماني ولا نستطيع تقدير خسارة الأنفس لعدم التحقق من عدد البوارج

والطرادات التي أغرقت تماما بمن فيها، على أنا إذا سلمنا بأنه لم يغرق سوى

بومرن وفرونلوب ووستفالن، وهي الثلاث التي اعترف الألمان أنفسهم

بضياعها فلا تقلّ خسارتهم في الرجال عن ألف رجل في وستفالن و800 في بومرن

و250 في فروتلوب (أي 2050) .

***

خسارة البريطانيين

أما خسارة الاسطول البريطاني، فإذا بحثنا فيها فإنما نذكر أمورا صحيحة

إعتمادا على البلاغ الذي لدينا، فلا وجه للحدس والتخمين وللظن والشك، وهذا

بيان الخسائر على ما جاء في البلاغ. وقد ذكرنا سلاحها منذ يومين فلا نعود إلى

ذكره اليوم.

محمولها

...

...

سرعتها

... عدد

طن

...

...

... عقدة

... رجالها

كوين ماري

28000

...

28

... 1000

أنديقا تجبل

18750

...

25

790

انفنسيل

17250

... 26

... 780

دفنس

14600

... 23.5

... 850

بلاك برنس

13550

... 32.65

... 704

وريور

13550

... 22،9

... 704

ــ

...

...

... 4828

والبارجة كوين ماري هي من أحدث الدردنوطات الكبرى، ولا يوجد أكبر منها

في الأسطول البريطاني من حيث المحمول سوى ثلاث قطع، وهي البارجة (ثيجر)

ومحمولها 28 ألف طن والبارجة (وورسبيت) والبارجة (فليانت) والبارجة

(كوين إليزابث) ومحمول كل منها 27500 طن على أن (كوين ماري) تمتاز عن

الثلاث بوارج الأخيرة بسرعتها، فهي تجتاز 28 عقدة في الساعة بينما (كوين

إليزابث) و (وورسبيت) و (فليانت) سرعة الواحدة منها لا تزيد على 25 عقدة

مثل (كوين ماري) وقد كانت البارجة (كوين ماري) من فرقة الطرادات الكبرى

في الأسطول الأكبر.

ويظهر أن عبء القتال في هذه المعركة، وقع على الأسطول البريطاني الذي

كان في البحر الأبيض المتوسط وهو الآن في البحر الشمالي فإن الطرادات

(انديفاتجبل) و (انفنسبل) و (دفنس) و (بلاك برنس) و (ووريور) جميعها

كانت من هذا الأسطول، ولضباط هذه البوارج أصدقاء عديدون في الإسكندرية

وبورسعيد والسويس وغيرها من موانئ البحر المتوسط، سيحزنون لِما أصابهم،

ويأسفون أشد الأسف لفقدهم.

وقد ظل (بلاك برنس) مدة طويلة في مياه البحر الأحمر وخليج السويس

بعد شبوب هذه الحرب وأسر جملة بواخر من بواخر الأعداء في أوائلها.

أما المدمرات الإنكليزية التي غرقت وهي (فرتشون) و (سباروهوك)

و (أردنت) و (تيبراري) ، فهذه جميعها من المدمرات الأوقيانوسية، وقد بنيت

عام 1913 وطول الواحدة منها 260 قدما، ومحمولها 935 طنا، وسرعتها 3.7

عقدة في الساعة وسلاحها 3 مدافع قطر 4 بوصات وأنبوبان للطوربيد، وعدد

رجال الواحدة منها مئة رجل.

ولعل الثلاث المدمرات الأخرى التي ضاعت، ولم يذكر اسمها في البلاغ من

نوعها أيضًا فتكون خسارة البريطانيين من الرجال في المدمرات نحو 700 اهـ

شرح الأهرام.

(المنار)

ظاهر البلاغ الرسمي أن خسارة الأسطول الإنكليزي أكبر من خسارة

الأسطول الألماني. وقد ورد في البرقيات أن الألمان تبجَّحوا وافتخروا بهذه المعركة،

وخطب قيصرهم خطبة قال فيها: الآن ألقينا الرعب في أعماق قلوب أعدائنا. ثم

وردت برقيات أخرى بأن خسارة الألمان كانت أعظم مما ورد في البلاغ الإنكليزي،

وفي بلاغاتهم الرسمية.

وقد قال ناظر البحرية البريطانية: إنه جازم بأن خسارة العدو لم تكن أقل من

خسارتهم، وإن لم يسهل بيان ذلك بالتفصيل. وصرح هو وغيره بما لا مراء فيه

وهو أن الأسطول البريطاني لا يزال صاحب السلطان الأعلى على البحار.

***

المنار

الدعوة إلى انتقاده

جرت عادتنا بأن ندعو قراء المنار في أول كل سنة إلى انتقاد ما يرونه

منتقدًا فيه بالشروط التي كررنا بيانها، ونعني بقراء المنار هنا كل من اطلع

عليه وقرأ شيئًا فيه، لا المشتركين خاصة، ونعِد بأن ننشر كل ما يكتب إلينا

في ذلك بشروطه، وأهم الشروط أن ينتقد القارئ للكلام ما يراه خطأ، ويبين

ذلك بالدليل من غير استطراد ولا تطويل.

***

حجم المنار في هذه السنة

ذكرنا في الجزء الماضي بأن قلة الورق اضطرتنا إلى أن نجعل كل

جزء من أجزاء هذه السنة ثمانية كراريس (ملازم) وأننا إذا ظفرنا في أثناء

السنة بورق كافٍ نجعل السنة اثني عشر شهرًا، فيكون حجم مجلد هذه

السنة من سني الحرب كمجلد التي قبلها.

***

مباحث هذا الجزء

ضاق هذا الجزء عما وعدنا به فيما قبله، من كتابة مقالة في حال

المسلمين الاجتماعية، وحال أغنيائهم وسائر أصنافهم في التعاون على

الأعمال النافعة، وسننشر المقالة - إن شاء الله - في الجزأين الثاني

والثالث.

_________

(1)

المنار: تعريب كيزر قيصر، والألمان يطلقون لقب قيصر على عاهلهم كالروس.

ص: 59

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العصبية الجنسية التركية

وعاقبة قتل نابغي العرب بسورية

لعلنا قد سبقنا جميع الكتَّاب إلى بيان خطر العصبية الجنسية على الدولة

العثمانية في عصر الدستور فإننا أشرنا إلى ذلك في أول مقالة كتبناها عند حدوث

الانقلاب وإعلان الدستور إذ كان جميع العثمانيين يصفقون طربًا ويحسبون أنهم نالوا

السعادة صفوًا من كل كدر، آمنينَ من كل خطر، تلك المقالة التي جعلنا عنوانها

(عيد الأمة العثمانية بنعمة الدستور والحرية) ، ونشرناها في (ج 6 م 11) الذي

صدر 29 جمادى الآخرة سنة 1326 (28 يوليو و15 تموز) أي بعد إعلان

الدستور بأربعة أيام، وقد جاء فيها بعد بيان مزايا هذه النعمة ما نصه:

إن أمامنا عقبات كثيرة (منها) ما يتوقع من مقاومة بعض الحكام

الظالمين للحرية الجميلة التي يرقص لها طلاب الدستور طربًا ويهيمون بها

شغفًا (ومنها) ما هو أقرب إلى الوقوع كالنزاع بين الأحرار المستقلين، وبين

المتعصبين والمقلدين، (ومنها) مسألة الجنسية العثمانية، وما يقف في

طريقها من جنسيات الشعوب التي يتألف منها جسم الدولة العلية، فمن

المطالب بالنظر في ذلك؟ .

ثم أنشأنا بعد شهر مقالة أخرى نشرناها (ج7 م 11) أوضحنا فيها

خطر اختلاف الأجناس وشدة الحاجة إلى تكوين جنسية عثمانية تتحد فيها

جميع الأجناس والملل، وبينا أن الواجب على أحرار الترك وعقلائهم أن يبدأوا

بالدعوة إلى ترك العصبية الجنسية (اللغوية) ولا سيما زعماء جمعية الاتحاد

والترقي منهم، لأن دعوتهم هي التي يرجى أن تسمع ويستجاب لها، ثم

كررنا الكتابة في ذلك كثيرًا.

وقد راءى الاتحاديون عقب الانقلاب بإظهار الرغبة في الوحدة العثمانية

وكراهة العصبية الجنسية فحمدنا ذلك لهم كتابة وخطابة ولكنهم ما عتموا أن

نزعوا ثوب الرياء الشفاف بعد أن استقرت سلطتهم، فنبذوا الجنسية العثمانية

وراء ظهورهم، ونهضوا بالجنسية التركية بغلو وإسراف وعجلة خارجة عن

طور العقل، فنصحنا لهم أولاً بالكتابة وبينا لهم أن تحويل العربي عن عربية

والألباني عن ألبانيته والأرمني عن أرمنيته والرومي عن روميته مما يستحيل

في هذا العصر، وأنه لو كان ممكنا لعذرناهم في محاولة تتريك جميع الشعوب

العثمانية سياسة لا دينًا.

ثم قصدت إلى الآستانة للسعي إلى منع التفرق بين العرب والترك

وتأسيس مدرسة الدعوة والإرشاد فيها، ونشرت في جرائدها مقالات العرب

والترك المعروفة لقراء المنار فجعلتها تمهيدًا للسعي في الوفاق ومنع سريان

التفرق الجنسي، إذ بينت فيها ضرورة اتحاد هذين العنصرين مع محافظتهما

على لغتهما، وأنه يجب أن يكونا كعنصري الهواء أو الماء في تكوينهما لحقيقة

واحدة، أعني الجنسية السياسية العثمانية، وبينت فيها أسباب الخلاف

ومثاراتها في الآستانة، وما أخطأَتْ به وزارات الدولة وجرائد العاصمة

وجمعياتها في ذلك فنقم العرب منها، فكان أول من شكر لي هذا السعي،

واهتم به ووعد ببذل نفوذه لتلافي الخلاف حسين حلمي باشا الصدر الأعظم

في ذلك العهد، وكان من سوء الحظ أن أجل صدارته لم يطل، ولا تزل،

أزمة الحكومة بيده، فكان يعدني بتخصيص وقت للبحث معي في هذه المسألة

وانقضت السنة التي قضيتها في الآستانة ولم يف بوعده، على أنه وفى لي

بعدة جلسات في داره وفي الباب العالي للنظر في المسألة الأخرى، أي

مشروع التعليم والإرشاد، ولكن لم يكن لذلك ثمرة.

وقد علمت في أواخر أيامي في الآستانة أن الاتحاديين قد صمموا على

حل مسألة الجنسيات بالقوة القاهرة، وأنهم بدأوا بالتنكيل بالأرنؤط وسيتلوهم

الأرمن والعرب والأكراد، وقد كان هذا أحد الباعثين لي على تلك الحملات

الشديدة التي حملتها على جمعية الاتحاد والترقي في المنار، والباعث الثاني

هو الديني ولا أبحث فيه الآن.

لم أكن أنا الذي قاومت الجمعية بالكلام وحدي بل كانت المقاومة لهم

بالقول والعمل على أشدها في الآستانة وسائر بلاد الترك حتى آلت إلى تسلل

الألوف من جمعيتهم، ثم إلى قيام الأحزاب في مجلس الأمة عليهم، ثم إلى

تأييد الجيش لحزب الحرية والائتلاف في إسقاط وزارتهم، ومما يجب أن يذكر

أنهم اعترفوا في أثناء ذلك الجهاد وبعده بأنهم كانوا يريدون تتريك جميع

عناصر الدولة وأنهم رجعوا عن ذلك.

ولما عادت الوزارة إليهم باغتيال ناظم باشا ناظر الحربية في الباب

العالي والقبض على كامل باشا الصدر الأعظم فيه هالنا الأمر وخفنا من وقوع

الفوضى في الآستانة والدولة في حال حرب مع البلقان غُلبت فيه على أمرها،

ولكن وزارة كامل باشا لم يكن لها حزب يؤيدها، إذ كان حزب الحرية

والائتلاف غير متفق معها، ثم عقدت الوزارة الاتحادية الصلح وأنشأت تعقد

مع الدول الكبرى الاتفاق تلو الاتفاق على جعل البلاد العثمانية مناطق نفوذ

اقتصادي لهن، وتقترض عشرات الملايين منهن، وبدأت بالعراق العربي

فاعترفت للإنكليز فيه بما طلبوا من النفوذ والحقوق، فأنكرنا ذلك عليهم أشد

الإنكار، ولم يمنعهم ذلك طبعًا من الاتفاق مع فرنسة على نفوذها في سورية

إلخ.

على أننا لما رأينا البلقانيين قد انتصروا على الدولة في الحرب حتى

كادوا يستولون على الآستانة علمنا أن الخطر على الدولة أقوى وأسرع مما

كنا نخشى، وأن الدولة إذا كانت قد عجزت عن حفظ الرومللي وهو سياج

الآستانة وحصنها أمام البلقان، ومعظم قوتها الحربية هنالك وباقيها على حدود

الروس، فلا بد أن تعجز بالأولى عن الدفاع عن بلادنا العربية إذا هجمت

عليها دولة قوية. إذ ليس في بلادنا حصون ولا سلاح، وكان هذا الأمر منبها

لكثير من أهل الغيرة والفهم من العرب إلى ما سبقهم بعض أذكياء الترك إلى

الدعوة إليه وهو وجوب إدارة الدولة من نوع اللامركزية؛ لأن ذلك أدعى إلى

عمران كل قطر واستعداده للدفاع عن نفسه عند عجز المركز العام عن الدفاع

عنه.

تأسس حزب اللامركزية بمصر في أثناء حرب البلقان وسرت دعوته في

المملكة العثمانية كلها، ولم يكن للحكومة الاتحادية وجه للشكوى منه؛ لأنه

حزب عثماني يحاول الوصول إلى غايته من الطريق القانوني الذي ينتهي إلى

مجلس الأمة، وتأسست في أثناء ذلك الجمعية الإصلاحية في بيروت بإذن

الحكومة فشذت في موضوع ما طلبته من تعيين مستشارين ومراقبين للحكومة

من الأجانب وأنكرنا عليها شذوذها في المنار، ثم أنشئت جمعية أخرى في

البصرة صارح رئيسها طالب بك النقيب حكومة الاتحاديين بالإنكار بل بالعداء،

وقد كادت الجمعية له فحاولت اغتياله فلم تظفر، ثم حاسنته وكلفته السعي

للتوفيق بينها وبين الأمير ابن سعود فبذل جهده في ذلك.

ثم تعلقت رغبة كثير من أذكياء العرب بعقد مؤتمر عربي في باريس

لإظهار مطالب العرب الإصلاحية للعالم كله، وعهدوا بذلك إلى حزب

اللامركزية فعقد المؤتمر وحضره مندوبون من البلاد العربية والجمعيات

العربية واختير لرياسته السيد عبد الحميد الزهراوي أحد مندوبي حزب

اللامركزية، وكان المؤتمر في غاية الاعتدال في مباحثه وقراراته.

حينئذ اهتمت جمعية الاتحاد والترقي وحكومتها بأمر العرب وأوفدت

مندوبا من زعمائها إلى باريس للاتفاق مع رئيس المؤتمر على إجابة العرب

إلى ما يطلبونه من الإصلاح المعقول، وعقدا ذلك الاتفاق المشهور، ثم قرر

مجلس الوكلاء، وصدرت الإرادة السلطانية ببعض مواد ذلك الاتفاق مع الوعد

بأن تعطى العرب حقوقًا أخرى بالتدريج، وكل ذلك مدون في كتاب (المؤتمر

العربي الأول) ونشر في المنار وفي الجرائد العربية المشهورة، ولكن ما

تقرر من ذلك لم يرض جمهور المطالبين بالإصلاح من العرب، وقد عده

أكثرهم خديعة مؤقتة من الاتحاديين، وكان فريق منهم أشهرهم الزهراوي

وعبد الكريم قاسم الخليل يرجحون إخلاص الاتحاديين وعزمهم على إرضاء

العرب دائما، وقد كان من إظهار الاتحاديين الميل إلى العرب أن صار أكبر

زعمائهم كطلعت بك يحضرون الاحتفالات التي يقيمها أعضاء المنتدى الأدبي

في الآستانة.

هذه خلاصة ما كان من أمر الخلاف والوفاق بين العرب والترك أو

الاتحاديين منهم خاصة قبل هذه الحرب، فلما وقعت الحرب بين الدول الكبرى

وعلم طلاب الإصلاح من العرب أن دولتهم تريد أن تستفيد منها وتوقعوا أن

تدخل فيها، كفوا جميعًا عن المطالبة بالإصلاح، وأظهروا الميل إلى تأييدها

في كل ما تقرره وإن لم يعتقدوا أنه الصواب حذرًا من المنازعات الداخلية،

وقد حبذنا عملهم هذا بمقالة نشرناها في جريدة الأهرام التي صدرت في سادس

ذي القعدة 1332 (16 سبتمبر سنة 1914) أي قبل دخول الدولة في الحرب،

ثم في منار ذي الحجة أي بعد دخول الدولة في الحرب، وقد قلنا في أول تلك

المقالة وهي خطاب لمسلمي سورية ما نصه:

ثم أشكر لكم ما أظهرتموه من النجدة والهمة، في الإخلاص والطاعة

للدولة، وبذل الأنفس والأموال والثمرات لها، والكف المؤقت عن طلب

الإصلاح منها، وتقديركم الحال الحاضرة قدرها، حتى أنكم ساهمتم في هذا

أرقى أمم الأرض التي سكتت عن جميع مطالبها ومنازعاتها الداخلية. إلخ.

وماذا جرى بعد ذلك؟ ولى الاتحاديون جمال باشا أحد زعمائهم منصب

القيادة العامة في سورية فأظهر الميل التام إلى العرب وصار يقرب إليه أذكياء

المتعلمين منهم ويحثهم على الاستمساك بعروة عروبيتهم وعثمانيتهم معا،

فصدقوه وازدادوا حماسة ورغبة في بذل دمائهم وأموالهم في سبيل الدولة،

حتى إذا ما تم له ما أراد من الاختبار، نزع عنه ثوب الرياء والمكر، ولبس

لهم جلد النمر، وقتَّلهم تقتيلاً، ونكل بهم أحد عشر شابًّا من خيار شبان

المسلمين منهم النابغة محمد الحمصاني وأخوه عبد الكريم قاسم الخليل الذي

كان رئيس المنتدى الأدبي في الآستانة، ثم اتصل بالاتحاديين وجعل جُل سعيه

إقناع العرب بالإخلاص لهم، فلم نصدق الخبر إلا بعد أن وصل إلى مصر

بعض الفارين من الشنق وبعض الأسرى من الجيش وأثبتوا لنا الخبر، ولكننا

مع ذلك لم نكتب كلمة إنكار على جمال باشا ولا على شيعته لأجل العلة التي

أشرنا إليها آنفا.

ثم تواترت الأنباء بشنق أناس آخرين من دمشق وغيرها بتهمة السياسة

وقتل آخرين بالرصاص ونفي بيوت كثيرة إلى الأناضول، فثبت عندنا حينئذ

أن الاتحاديين اغتنموا فرصة الأحكام العرفية في البلاد، والقبض على

الأرزاق والأعناق، لأجل القضاء المبرم على النهضة العربية وإكراه العرب

بالقوة القاهرة على ترك لغة أمتهم ودينهم، وعدم المطالبة بحق من حقوقهم،

ولكن الثابت في سنن الاجتماع وتاريخ الأمم أن هذه الطريقة من الاضطهاد

تؤدي إلى ضد ما يراد منها، وقد كنا قلنا من قبل: إن الإسلام قد أمات

العصبية الجنسية في بلاد العرب الحضرية فلا يقدر على إحيائها أحد إلا

حكومة الآستانة، ويمكننا أن نقول الآن إنها قد كونت الجنسية العربية الجديدة

وجعلتها خالدة، لأنها زرعتها في البدو والحضر وسقتها بالدم، وبالدم استقل

من استقل من جميع الأمم، وكنا نخاف منهم هذه العجلة في هذه الأيام لئلا

تجيء منافية لمصلحة الإسلام، إذ يخشى أن تكون هذه القسوة في اضطهاد

العرب في سورية سببًا ليأس الأمة العربية كلها من الدولة وجزمهم بأنه

يستحيل عليهم أن يحافظوا على وجودهم تحت سيادتها، وأن يحمل ذلك عرب

الجزيرة على الخروج عليها، خوفًا أن يحل بهم شر مما حل بغيرهم، فإن

الترك يحاربون اليمن وعسير ونجد منذ قرون فكل حكامها الحاضرين قد

قوتلوا، وأمير مكة لا ينسى لهم ما فعله معهم وهيب بك قبل هذه الحرب إذ

حاول الفتك به وسلب امتياز الشرفاء من الحجاز وجعله كولايات الشام، ولما

ظهر عليه الأمير أظهرت الدولة الاستياء مما حصل ونسب إلى الدفتردار.

واسترضى الصدر الأعظم الشريف بالاعتراف له بجميع حقوق أمراء مكة

التي كانت في عهد السلطان سليم، ولكن الشريف يعرف ظواهر هذه الأمور

وبواطنها، بل لا يخفى على أحد من العقلاء أن الدفتردار لا يجرؤ على إحداث

أمر كبير في الحجاز بدون أمر رئيسه (الوالي) وأن الوالي لا يجرؤ عليه

بدون أمر الآستانة، وأوامر الآستانة في عهد الاتحاديين قسمان: أوامر

الجمعية وهي الحاكمة، وأوامر الحكومة وهي المنفذة، على أنه يقيس وفاء

الحكومة بما كتبه إليه الصدر الأعظم على وفائها العرب بالاتفاق الذي عقد مع

رئيس المؤتمر العربي وما قررته في مجلس الوكلاء وصدرت به الإرادة

السلطانية من المطالب العربية.

كان يجب على دولة الاتحاديين في هذا الوقت أن تتودد للعرب أكثر مما

كانت تتودد اليوم بعد حرب البلقان، وأن تتم بالفعل ما بدأ به أنور باشا من

استمالة أمراء الجزيرة بالكتابة، وذلك بإرسال السلاح والذخيرة والضباط من

العرب إليهم لأجل أن يكونوا ذخرًا لها إذا استظهر الروس عليها في الأناضول،

فإذا كان مثل إنكلترة وألمانية تحسب الحساب لوصول أعدائها إلى بلادها

وتعد الآلات والجيوش لأجل الدفاع عنها، أفليس الترك أجدر بذلك وهم لولا

الألمان لم يستطيعوا حربًا في ميدان ما من ميادين هذا القتال، وحسبهم أنهم

فقدوا بحرب البلقان كل ما كان عندهم من ذخيرة وسلاح، وهل يوجد لهم ملجأ

يلجئون إليه إذا غلبوا في بلادهم إلا العرب وبلاد العرب، بل العرب وبلاد

العرب هي الملجأ للإسلام، ولذلك جاء في الحديث الصحيح (إذا ذلت العرب

ذل الإسلام) وأنى يبالي بالإسلام وعز الإسلام، من ينشرون في دار سلطتهم

أمثال كتاب (قوم جديد) و (صوك كتاب) التي يفضلون فيها زعانفهم

الغاوين، على الخلفاء الراشدين وعلى من دونهم من الأولياء الكرام، ومن

فوقهم من الأنبياء حتى خاتمهم عليهم الصلاة والسلام.

وأما العرب الذين أوجد الله بهم الإسلام، فإنهم أجدر الناس بالغيرة على

المسلمين ودار الإسلام، ولولا ذلك لما سكتوا على الضيم كل هذا الزمان،

ونخشى أن يكون قد زال ما كانوا يحذرون، ويئسوا من كل خير كانوا

يرجون، فيبدو للمنافقين ما كانوا يحذرون، كما نخشى أن تكون عاقبة ذلك

لغيرهم وهم لا يشعرون.

إنما يحرص سواد المسلمين الأعظم على حياة هذه الدولة؛ لأنه يهم كل

مسلم أن يكون للإسلام دولة مستقلة قوية وهي أمثل دول المسلمين في ذلك،

وإن كانت لا تقوم بدعوة الإسلام ولا تحيي علومه ولا تحمي شعوبه ولا أفراده

ممن يريد بهم سوءًا، ولكن لا يرضي أحدًا من المسلمين أن تجني على لغة

القرآن، وأن تضطهد العرب وتذلهم، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام:

(إذا ذلت العرب ذل الإسلام) رواه أبو يعلى من حديث جابر بسند صحيح،

وهذا الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ظهرت في هذا الزمان

ظهورا بيناه فإن الدولة قد تعرضت لخطر الزوال وفقد الاستقلال غير مرة،

وإنما كان يقيها منه تنازع أوربة على اقتسامها، فإذا زال التنازع بزوال

التوازن عقب هذه الحرب زالت الدولة بزواله، وأكبر المصائب على الإسلام

حينئذ أن تعد بلاد العرب تابعة لها، ومعدودة فيما يقسم بين الغالبين من تراثها،

إذ يكون المسلمون حينئذ أدنى حالاً من اليهود، إذ يزول استقلالهم الديني

والسياسي وهم في فقر مدقع لا يستطيعون معه عملاً، ولا توجد بقعة في

الأرض تمثل استقلال الإسلام غير بلاد العرب، ولولا جعل جزيرة العرب

تحت سيادة الدولة العثمانية بعضها بالاسم وبعضها بالفعل لما تسنى لها أن

تجعل نفسها دولة الخلافة ويعترف لها الناس والدول بذلك.

فجملة القول أن مصلحة المسلمين عامة أن تكون بلاد العرب قوية بنفسها،

غير محتاجة إلى قوة من خارجها لحمايتها، وقد بينا ذلك مرارًا، ولا خطر

في ذلك على الدولة إذا كان فيها من جراثيم الحياة ما يكفي لبقاء استقلالها،

وإنما الخطر كل الخطر في إضعاف العرب وجعل بلاد العرب عالة على

غيرها، وستظهر الأيام صدق هذا الكلام، ونسأله تعالى أن يكون بما فيه عز

الإسلام.

حاشية: كتبنا هذه المقالة لجزء الشهر الماضي فلم يتيسر نشرها فيه، ثم

جاءنا روتر بنبأ إظهار أمير مكة الشريف حسين الاستقلال في الحجاز

وسنفصل القول فيه في الجزء التالي لهذا إن شاء الله.

_________

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حكم الصيام

وجناية تاركيه على أنفسهم

وعلى المسلمين والإسلام

الصيام عبادة روحية جسدية، قد شرع لما فيه من المنافع الشخصية

والاجتماعية، فهو يروض الأجساد، كما تعطش الزروع وتضمر الجياد، فيفني

الرطوبات والمواد الرواسب فيها، التي تصلب الشرايين وتعيق حركة الدم فيها،

ويعيد المِعَد المصابة بالتمدد إلى تقلصها وتغضنها، حتى قال بعض الأطباء: إن

صيام شهر واحد (كرمضان) يصلح ما أفسده التمدد طول العام، ويمرن المرء

على احتمال الجوع والعطش بالاختيار، فيسهلان عليه إذا ألجأه إليهما الاضطرار،

في سفر أو سجن أو مجاعة أو قتال، ويشعر الأغنياء المترفين بحاجة الفقراء

المعوزين، ويساوي بينهم في هذه العبادة وآثارها كما يساوي بينهم في سائر شعائر

الدين.

وهو فوق ذلك المربي الأعظم للإرادة، وإنما يتفاضل أعاظم الرجال بما في

الإرادة من قوة العزيمة، فلولاها لما استسهل صعب، ولا ثبت شجاع في حرب،

ولما أقدم المصلحون على تغيير المنكرات، ولا سيما مقاومة الظلم والاستبداد، ولما

ثبت عامل على عمل حتى يتقنه، ولما صبر ذو مصاب على مصابه حتى يأمن

خطره، ولما احتفظ أمين بالأمانة، إلا بقدر ما يخاف في الدنيا من عقوبة الخيانة،

وناهيك بأمانة الأعراض، والمحافظة على شرف النساء.

وهو فوق ذلك مراقبة لله عز وجل وتقرب إليه بما يرضيه من تزكية النفس،

وتوجه إلى الكمال الأعلى، والحياة الروحية الفضلى، حياة النبيين والصِّدِّيقين، بل

الملائكة المقربين.

إن الصائم المسلم هو الذي يحكم سلطان الإرادة بقانون الإيمان على هوى النفس

فيمنعها من التمتع بأعظم الشهوات شأنًا عندها، فينال منه الجوع والطعام بين يديه،

ويبرح به الظمأ والماء البارد أمام عينيه، ويشتد شوقه إلى ملامسة زوجه وهي

منه على طرف التمام وحبل الذراع، فيعرض عن كل ذلك ويتركه بوازع الإيمان،

ابتغاء لمرضاة الله تعالى وتحصيلاً للفوائد التي شرع لها الصيام.

ألم تر أن الذي يربي إرادته ويحكمها في أشد شهواته وأقواها مدة شهر كامل

في كل عام على الأقل جدير بأن لا تنزعه نفسه أكل شيء من أموال الناس بالباطل

ولا العبث بشيء من أعراضهم، أو ليس الذي يقدر على ترك أعظم ضروريات

الحياة مما أحد الله له وقرب منه متناوله يكون أقدر على ترك ما حرم الله عليه من

جنسها ومما هو أدنى منها، وأجدر بأن يغلب هوى النفس الذي يغريه بها، بلى،

وإن من الأمثال الإسلامية المشهورة في بعض الأقطار، (إن الذي يزكي لا يُسرق)

وهذا أمر معقول كسابقه، فإن الذي يخرج المال من جيبه أو صندوقه طائعًا

مختارًا ويؤتيه الفقراء والمساكين ويضعه في غير ذلك من المصارف الشرعية لوجه

الله وابتغاء مرضاته بنفع عباده، جدير بأن لا يعصي الله تعالى بتكلف سرقة مال

غيره، وهو يعلم أن ذلك سبب لسخط الله تعالى، ولو كان لا يبالي بسخط الله ولا

برضوانه بل يؤثر عليه حب المال لحفظ ماله في صندوقه ولم يخرج زكاته فذلك

أسهل من إحراز المال بالسرقة.

علل الله تعالى فرض الصيام علينا، بأنه هو الذي يعدنا ويؤهلنا للتقوى،

فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ

تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) وإنما التقوى ملكة يقدر صاحبها بوازعها النفسي على

اتقاء كل ما يدنس نفسه ويدسيها من ترك واجب، أو اقتراف محظور، ولذلك قالوا:

إنها عبارة عن القيام بالواجبات وترك المحرمات، وهذه الملكة كسائر الملكات،

تكتسب بالأعمال النفسية والبدنية التي يقوى بها سلطان الإرادة على نزعات الأهواء

كما سبق القول، وقد فطن لهذا بعض حكام الغرب، فقال في كتاب صنفه في

(تربية الإرادة) : إنه لا مربي للإرادة كالصيام، ولأجل هذا شرع في جميع

الأديان.

إن أحق الناس بتحصيل هذه الملكة وبسائر فوائد الصيام الروحية والاجتماعية

والجسدية من جمعوا بين حكم الله وحكمته فيه وراعوا ذلك حق رعايته، فالإسلام

علم وتربية، بنيا على أساس الحكمة والفلسفة، وذلك نص قوله تعالى: {وَمَا

أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم

مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151) وقد يستفيد كثير من الناس حكمة العبادة

ويجنون ثمرتها، وإن لم يتلقوا بالتعليم أن ذلك هو المصلحة التي شرعت لأجلها،

كما يستفيد بعض الناس من شيء يأكله أو يشربه، فيكون من حيث لا يدري شفاء

من مرض ألمَّ به أولئك الذين أخلصوا دينهم لله فكان لهم من العلم بكل عبادة أنها

تُرضي الله تعالى وأنَّ ترْكها يؤدي إلى سخطه واستحقاق عذابه.

ومن الناس من يؤدي العمل تقليدًا ومجاراة لمن نشأ فيهم فيكون عادة له كسائر

العادات الشخصية والاجتماعية، لا ينوي به قربة، ولا يشعر له بفائدة، ولا يفكر

في حكمة الشارع فيه، فلا يكون لصيامه أثر كبير في عباداته ولا معاملاته ولا

عاداته، قد يصوم ولا يصلي، وقد يصوم ويصلي وهو مصرّ على المعاصي، فهو

الذي يصدق على صيامه ما قاله بعض الأوربيين في تعريف الصيام، من أنه عبارة

عن تغيير مواعيد الطعام، بجعلها في الليل بدلاً من النهار، وإنما كمال الصيام

بجعله جنة ووقاية من جميع الآثام، قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة فإذا

كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني

صائم إني صائم) رواه الشيخان في الصحيحين وأصحاب السنن الأربعة، والرفث

صريح الكلام في الوِقاع أو ما يتحدث به الزوجان في تلك الحال، والصخب الجلبة

والصياح، فإذا كان مثل هذا مما يمنع في الصيام، فما شأن اقتراف كبائر الآثام؟

على أن مثل هذا الصائم خير من تارك الصيام ولا سيما المجاهر به، فإذا كان مثله

كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، فإن مثل تاركي الصيام من أمثال الفساق كمثل من

يهدمون القصور والأمصار.

يترك الصيام في هذه البلاد أناس كثيرون من طبقتين أو ثلاث طبقات، تتفق

وتختلف في بعض الأعمال والصفات: طبقة تحوت الغوغاء الأرذلين، وطبقة

أسرى الشهوات المترفين، وطبقة أدعياء المدنية المقلدين، فأما أولئك التحوت

السفهاء فإنهم لا يشعرون بقيمة لأنفسهم يشاركون بها سائر طبقات الأمة في

شعائرهم الدينية، دع ما هو أرقى من ذلك كالشعور بما يجب من شكر رب العالمين

الرحمن الرحيم والتقرب إليه والاستعداد للرضوان الأكبر في دار الكرامة عنده،

وغاية ما ورثوه من تقاليد الأديان التي كان عليها آباؤهم الأولون والآخرون تعظيم

بعض الموتى ذوي الأضرحة التي خذلت سنة الدين بتشريف بنائها، وجعلها مساجد

يصلى إليها ويطاف بها، وبناء القباب عليها واحتفالات الموالد التي هي أعياد

ومواسم يحشر الناس إليها بجوار تلك القباب، وزيارة الجماهير للمقابر في ليالي

الأعياد وجمع رجب وأيام أخرى من السنة، يرحل فيها إلى القرافات النساء

والرجال والأطفال، مشاة حفاة ركبانًا على الحمير والجمال، وما في ذلك من

المنكرات الكثيرة المعروفة.

وأما هؤلاء المترفون (فمنهم) ملاحدة المتفرنجين الذين هم شر على هذه

الأمة من كل عدو لها (ومنهم) أسرى الشهوات الذين ليس لهم من قوة الإرادة ما

يقدرون به على مغالبة الهوى وعصيان داعي اللذة، أو حبس النفس على عمل شاق،

وهم أشد الناس حاجة إلى الصيام، فإن هذا الإفراط في الترف يضعف البدن كما

يضعف النفس، وإذا كثر هؤلاء في أمة فقدت الاستعداد لدفع الأعداء عنها، وللقيام

بالأعمال المتبعة التي ترقى بها الأمم والثبات عليها، وقضي عليها أن تكون

مستعبدة لغيرها، وأي عار على الفتى الجذع، أو الكهل أو الشيخ الذي لم يدركه

الهرم، أكبر من عار الاعتراف بعدم الطاقة على احتمال الجوع والعطش بضع

عشرة ساعة يعد له بعدها الشراب المبرد وألوان الطعام الفاخرة، أيها الجذع الناشئ

أيها الكهل القارح، أولى لك فأولى، وغير هذا كان بك أولى، كان أولى بك أيها

الفتى أن تفخر بالتربية على صفات الرجولية، واعتياد التقشف الاختياري في

المعيشة، ومنه أن لا تسرف في التعميم المباح في ليالي رمضان، وأن تصوم من

كل شهر عدة أيام، كان أولى بك أيها الكهل أن تكون قدوة صالحة لولدك وأولاد

المسلمين، في المحافظة على شعائر الدين، وعلى الآداب والأعمال، التي يبلغون

بها درجة الكمال، وأهمها ركوب الصعب، واكتساب ملكة الصبر، وتوطين النفس

على مصارعة الحوادث، ومقارعة الكوارث ألا وإن الصيام جد الصيام أول

مقدماتها، وأيسر وسائلها.

وأما أدعياء المدنية المقلدون فهم الذين يفطرون جهرًا ليقول فيهم غير

المسلمين والمنافقون من المسلمين: إنهم (متمدنون) وهذه الطبقةأخس الطبقات

فلا ينتحل لها عذر ولا يوجه إليها برهان.

عذر الملحد المارق عند نفسه في ترك الصيام أنه فقد الباعث الديني، ولم

يترجح عنده باعث تهذيبي، وعذر المترف الشهواني عند نفسه، عجزه عن كبح

جماح لذاته، لتحكم الهوى فيها، وضعف الوازع الديني عنها، والجهول السافل من

تحوت الناس له عذر هذين الفريقين وعذر آخر وراءهما، وهو أنه لا يخطر في

باله ولا يصل علمه إلى ما يعلمه كثير من أفرادهما من معنى كون الصيام ركنًا

للدين الذي ينسب إليه، وشعارًا للأمة التي هو منها، وإن العاقل الذي يرى لنفسه

قيمة في الوجود يرى شرفه بشرفهما وذله بمهانتهما، وأنه مطالب دينًا وعقلاً

بحقوق لهما عليه، وأن دين الأمة من مقومات وجودها، فمن فاته الإيمان الباعث

على إقامة أركانه لأجل سعادة الآخرة، لم يسقط عنه احترام شعائره التي هي أقوى

روابط الأمة؟ فبهذا العلم يؤاخذ ويطالب كل من أوتي نصيبًا منه، وترتفع المؤاخذة

عمن كان نصيبه منه الجهل المطلق حتى إن نفسه لا تتوجه إلى طلبه، ومنهم من

يعتذر بأن الصيام يضره وإن كانوا أصحاء الأجسام، بترك ما اعتادوا من النظام في

مواعيد الطعام، والصواب أن ما يتوهمون من الضرر في ذلك هو عين النفع؛ لأن

التزام تلك العادات أضعف أبدانهم وأنفسهم، حتى صار تغييرهما يؤلمهم أو

يضجرهم، وإنما هذا الألم والضجر عرضان لمرض الترف، والصيام علاج له لا

مضاعفة.

إذا صح أن يكون في الإلحاد عذر للملحد، وفي ضعف الإرادة عذر للمترف،

وفي تغيير العادة إيلام للمهفهف، فيا ليت شعري بم يعذر نفسه أو يعتذر عنها من

يجاهر منهم بالفطر؟ المجاهرة بالذنب شر من ارتكاب الذنب، لأن ارتكابه سرًّا

يجعل ضرره قاصرًا على من اقترفه، وأما المجاهرة به فضررها يتعدى المذنب

إلى غيره؛ لأنه يكون قدوة سيئة لمن كان مستعدًّا لاقتراف ذلك الذنب تجرئه على

اقترافه، ولأن في الجهر به إذا كان من الشعائر الملّية، كالصيام، احتقارا للملة

والأمة التي ينسب المفطر إليها، وإضعافًا لرابطة قوية من الروابط التي تمتاز بها

الأمة على غيرها.

ها هنا يضحك القارئ من هؤلاء الملحدين، لا تضحكوا إلا على أنفسكم بل

ابكوا عليها إن كنتم تعقلون يقولون: إن الملحد ليس من أهل الملة ولا من أفراد

الأمة فيُرمى بهذا اللوم ويطالب بالاعتذار عن عمل لا يراه واجبًا عليه، وإنه يعدّ

الجهر بالإفطار في رمضان من الشجاعة الأدبية والإسرار به من الضعف والنفاق

ونقول: كيف يصدق هذا الكلام على ملاحدة بلادنا وكلهم منافقون يدعون الإسلام

ويلتزمون من أحكامه وشعائره، وعادات أهله ما لا ينافي أهواءهم، ولا يعارض

شهواتهم، كالأحكام والشعائر، وكذا العادات المتعلقة بالزواج والموت والأعياد،

ويخضعون لشريعته في أحكام الزواج والإرث، فإذا ادعى أحد منهم الشجاعة

المعنوية بهتك شعار الصيام، فقل له كذبت في دعواك، فإن كنت شجاعًا فصرح

على رءوس الأشهاد بالردة عن الإسلام واترك كل ما هو إسلامي، ولا تتزوج نساء

المسلمين ولا تأكل تراثهم، ولا تتول الأعمال والوظائف الخاصة بهم بدعوى أنك

منهم، وأما إخفاء معصية الإفطار فليست مع صحة العقيدة من النفاق، بل من

إخفاء العيوب والعورات.

قد يقول بعضهم: إن الإسلام جنسية اجتماعية كجنسية اللغة وجنسية النسب،

وإن العقائد الدينية والعبادات البدنية من الشئون الصحية التي يجب أن يكون الناس

أحرارًا فيها، ولا ينبغي أن يتوقف عليها تحقق الجنسية بعد أن ينالها صاحبها

بالوراثة أو بتسمية نفسه مسلمًا.

ونحن نقول: إن هذا الكلام مغالطة بديهية البطلان فإن الإسلام في الحقيقة

دين وهو جنسية لمن يدينون الله به، ولو في الظاهر كإقامة أركانه من صلاة

وصيام وزكاة وحج وتحليل حلاله وتحريم حرامه، فهو من حيث هو دين لا تحقق

له إلا بصحة العقيدة وما يتبعها من الأعمال، ومن حيث هو جنسية يتحقق بالتزام

شعائره وأحكامه الظاهرة إلا ما يقع من الإخلال بها شذوذًا كما كان المنافقون يعملون

في الصدر الأول فمن لا يؤمن بما جاء به رسوله ولا يقيم شيئًا من أركانه فلا حظ

له من جنسيته، فكيف إذا كان مع هذا مجاهرًا بهدم هذه الأركان بلا خوف من الله

ولا احترام لأهل هذه الجنسية.

على أن كل منتمٍ إلى جنس يجب عليه أن يعد جميع من يشاركونه فيها

إخوانًا له وأن يحترم كل ما يشترك فيه معهم من مقومات الجنسية ومشخصاتها،

وإلا كان عاقًّا لها، مستحقًّا للطرد والإبعاد عنها، بدلاً من مشاركة أهلها في منافعها

الصورية والمعنوية، وهؤلاء المجاهرون بالفطر في رمضان لا يشعرون بمعنى

الأخوة الإسلامية العامة، ولا يقومون بشيء من حقوقها، كما أنهم لا يحترمون

الشعائر والأعمال التي لا تعرف الجنسية الإسلامية إلا بها.

الحق أقول: إن لبعض الذين يفطرون في رمضان عذرًا طبعيًّا، ولا يحمد

عذر طبعي إلا أن يكون شرعيًّا، كعذر المريض والمسافر والعاجز عن الصيام لهرم

مثلاً، ولكن لا عذر لأحد في الجهر بالإفطار؛ لأنه احتقار للإسلام وإهانة لأهله،

لا تصدر اختيارًا إلا من عدو له ولهم، أو ممن لا شعور له بمعنى الأمة والملة

وشرفهما كبعض الكناسين والزبالين لا كلهم، وكم يوجد من أمثالهم في المتعلمين

المتفرنجين الذين يظنون أنهم ممتازون في الأمة بارتقائهم في الشئون الاجتماعية،

وأنهم يشعرون من ذلك بما لا يشعر به الجمهور، وأن الخير للأمة أن تكون مثلهم

في ترك أركان الدين وامتهان شعائره والاهتمام بالتمتع بالشهوات، وحسبهم شرفًا

وارتقاء ما يتوهمون من عدّ غير المسلمين لهم من المتمدنين أو المتنورين ويا شقاء

أمة يكثر فيها أمثال هؤلاء المترفين، فإنها لا ترتقي بهم إلا إلى أسفل سافلين.

_________

ص: 82

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حال المسلمين الاجتماعية

ومكان الأغنياء وسائر الطبقات منها [1]

(1)

الإنسان عالم اجتماعي لا يصل فرد من أفراده ولا شعب من شعوبه إلى كماله

المقدر له إلا بالأعمال الاجتماعية التي يتعاون عليها أفراد العشيرة وأهل البلد

والوطن وسائر الناس، وعلى قدر هذا التعاون يكون أقرب من الكمال الاجتماعي

والبعد عنه، فالأمم بالأفراد والأفراد بالأمم، فهنيئًا للأمة التي تتسم بسعي أفرادها

غارب العز والسيادة، وتتنسم ريح القوة والسعادة (ويا ويْح الرجل الذي ليس له

أمة) [2] وما كل جمع كبير يستحق أن يسمى أمة، لولا سعة المجاز في الكلام،

كقولنا في صور الناس وتماثيلهم: هذا فلان وهذا فلان.

المسلمون جمع كبير يطلق عليه اسم الأمة الإسلامية بحسب صورته أو

باعتبار ما كان عليه، وإن كان لا يقوم بالأعمال الاجتماعية التي تتحقق بها مقومات

الأمم ومشخصاتها، وتحفظ بها مصالحها ومنافعها، وللمنار مقالات كثيرة في بيان

هذا الموضوع يطلب أقدمها عهدًا من المجلد الأول منه، ومن أشهرها مقالة في

المجلد التاسع عنوانها: حال المسلمين في العالمين، ودعوة العلماء إلى نصيحة

السلاطين، كان لها تأثير في الشرق والغرب، وترجمها بالتركية أحد فضلاء

الآستانة وطبعها في رسالة مستقلة باللغتين.

وقد نطلق على المسلمين اسم الأمة باعتبار ما نرجو أن تئول إليه حالهم،

فباعتبار أن ذلك الاستعمال من مجاز الكون بينَّا غير مرة في تلك المقالات أن

الإصلاح الإسلامي ينحصر في كلمة تكوين الأمة إذ لا أمة في الحقيقة، وباعتبار

أن ذلك الاستعمال من مجاز الأول يتسع مجال الإطلاق، وكثيرًا ما بينا الكلام على

تحقق الرجاء، وصرحنا بأن الأمة قد ولدت ولادة جديدة، وأنها الآن في سن

الطفولة، وأن ما تتصدى له من الأعمال الاجتماعية إنما كان صغيرًا وعرضة

للفشل في الأكثر؛ لأنه من قبيل أعمال الأطفال، وقد شرحنا هذا الموضوع في

مقالات نشرت في المجلد الثاني وغيره) [*] وذكرنا في المجلد الرابع أمثلة لطفولية

الأمة، وقد حدث بعد ذلك ما هو أعظم منها، وناهيك بسقوط جريدة اللواء العربية

وأختيها الفرنسية والإنكليزية، وموت مصطفى كامل باشا مؤسسهن بأموال الأمراء

والأغنياء غارقًا في الدَّيْن، وبيع أثاثه ورياشه بالمزاد، ثم سقوط جريدة المؤيد

وموت صاحبها غارقًا في الدين أيضًا، ثم سقوط الجريدة وهي جريدة حزب كبير

من الأغنياء.

فهذه أكبر الجرائد التي أسسها المسلمون في مصر، وكان لكل منها شركة

وحزب ورأس مال مؤلف من ألوف الجنيهات وأنصار من أغنياء الأمة وأصحاب

الأقلام فيها، وقد بينا وجه العبرة في شأن هذه الجرائد بعد موت الأولى وتبريح

الداء بالأخريين في ترجمة الشيخ علي يوسف من المجلد السابع عشر ص 69.

وما لي لا أذكر وأذكر في هذا المقام بتلك الفاتحة الوجيزة للمنار التي كانت

أول ما كتب منه، ونحمد الله تعالى أنها كانت صورة مصغرة له، قد ارتسمنا ما

رسمناه له فيها فلم نخرج عنه، وقد أشرنا فيها إلى سوء حال المسلمين ورغبة

سوادهم الأعظم عن ما نقصد إليه بإنشاء المنار من الجد والإصلاح، وإلى وجود

أفراد تنبهت أنفسهم لإصلاح الخلل، وتوجهت هممهم لمداواة العلل، وإلى أن

الغرض من إنشاء المنار أن يكون لسان حال هؤلاء وحادي ركبهم في سبيل التجديد

المطلوب. ثم ظهر لنا أن رجالنا في هذه الفئة كان أكبر منها في نفسها.

تيسر لنا بهذا المنار أن نختبر حال المسلمين اختبارًا لا يكاد يتيسر بوسيلة

أخرى، وقد كان هذا الاختبار الطويل والعلم التفصيلي مؤيدًا لما كنا عليه قبلهما من

الوقوف بين الخوف والرجاء وترجيح الأمل على اليأس ترجيحًا يبعث على الجهاد

والثبات على العمل، وهو ما صرحنا به في فاتحة المنار في العدد الأول للسنة

الأولى.

كان موضوع ذلك الأمل الأول مَنْ أيقظتهم حوادث الزمان وأثرت في قلوبهم

آثار حكيم مصر وحكيم الأفغان، ومن على مشربهما من دعاة الإصلاح.

ثم زاد عدد هؤلاء المحبين للإصلاح بتأثير المنار، ومنهم صاحب الرسالة

التي نشرناها في آخر الجزء الماضي فاستتبعت كتابة هذا المقال، فهو قد اشترك

في المنار منذ أنشئ وكان تلميذًا في المدارس، وقد أُشرب قلبه حب الإصلاح فهو

فيه على علم ووجدان وإخلاص، ولكنه على علمه وسعة اختياره لما في هذه البلاد

من الفسق وفساد الأخلاق أقوى منا رجاء في مسلميها وفي غيرهم، وإننا نخشى أن

يضعف ويضمحل هذا الرجاء أو يزول ويحل محله اليأس إذا رأى أن رسالته لم

تؤثر، ودعوته لم تجب، فأحببنا أن نذكره بما أشرنا إليه آنفًا مما نشرنا في خوالي

السنين، ونؤيده بما في معناه من بيان حقيقة حال المسلمين، لعله يذهب بغرور

المبالغ في التفاؤل، ويمسك رمق الرجاء على المهوي إلى اليأس، وينفخ نسمة

الرجاء في اليأس، فنقول:

إن في المسلمين كثيرًا من بقايا الفضائل الموروثة التي هي تعد من دلائل

الحياة الاجتماعية، وكثيرًا من الرذائل والأمراض الروحية الموروثة والحادثة التي

هي سبب ما حل بدولهم وأممهم من الرزايا التي يئن منها كل من شعر بها بقدر

شعوره، وقد استيقظ في بعضهم هذا الشعور منذ مئة سنة أو أكثر، وتصدى

بعض حكامهم وبعض أفرادهم إلى إصلاح ما فسد، وتجديد ما اخلولق وبناء ما انهدم،

كما بينا ذلك في فاتحة المجلد السابع عشر، وإنما لم يفلح أحد منهم؛ لأن

الحكام القادرين على تنفيذ الإصلاح لا يعرفون طريقه، والأفراد الذين يعرفون

كُنْه الإصلاح لا يقدرون على تنفيذه.

إنما تنهض الأمة بالإصلاح إذا وجد الاستعداد في الجمهور، ووجد الزعيم

القادر على استخدام ذلك الاستعداد، ويمكن بيان هذا الاستعداد العظيم بكلمة واحدة

من اصطلاح كتاب الجرائد وغيرهم من المعاصرين وهي التضحية، وما التضحية

إلا بذل الأموال والأنفس في سبيل المصلحة العامة وهو ما يعبر عنه القرآن بكلمة

الجهاد.

ما قام أمر اجتماعي عظيم كالدين والدولة إلا ببذل المال والنفس فمن لم يبذل

في سبيل دينه أو دولته ووطنه ما يحتاجان إليه من مال أو نفس فلا دين له ولا دولة

ولا وطن، ولذلك جعل الله تعالى هذا الجهاد آية الإيمان بمثل قوله: {إِنَّمَا

المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ

اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .

نحن لسنا بصدد إصلاح يحتاج فيه إلى بذل النفس، والتعرض لإراقة الدم،

وإنما الإصلاح الذي أسس له المنار ثم مدرسة الدعوة والإرشاد إصلاح علمي

تهذيبي يقوم بالمال، وإنما أنشأنا هذه المقالة لبيان حال من دعاهم ذلك المخلص

الغيور في رسالته إلى النهوض بمشروع الدعوة والإرشاد ومساعدة المنار.

ألا وإن الأغنياء أول من يخطر بالبال، في كل مقام يذكر فيه بذل المال وإن

أكثر أغنياء بلادنا بل أمتنا كلها أغبياء سفهاء الأحلام، مسرفون في الفسق، بخلاء

حتى بما وجب من الحق، أشحة على الخير، لا يكاد يخرج المال من أيديهم إلا

على مائدة قمار، أو في حانة خمَّار، أو لبغي وقواد، أو رشوة لحاكم شرير، أو

تزلفًا إلى سلطان أو أمير أو مدير، فأكثر ما بذله أغنياؤنا في هذا العصر للجمعيات

الخيرية أو المدارس أو جمعية الهلال الأحمر أو جمعية الصليب الأحمر فهو رياء،

وتزلف للحكام والأمراء، وهذا مما يعلمه الكاتب وغير الكاتب علمًا ضروريًّا أو

كالضروري.

وأما غير الفساق المرائين من الأغنياء فهم كسائر الناس، والناس فيما نحن

بصدده فريقان: فريق لا يرجى منه خير للإسلام بل يخشى شره، وفريق قلما

يُرجى الخير من غيره، فأما الفريق الأول فثلاثة أصناف: ملاحدة المتفرنجين،

ومنافقو المعممين، وتحوت الفقراء الجاهلين، الذين لا يكادون يفقهون حديثًا، ولا

يعقلون للأمة والملة معنى، وقد بينا في فاتحة هذه السنة من الجزء الأول أن من

أولئك الملاحدة والمنافقين من تصدى لمقاومة مدرسة الدعوة والإرشاد ينفث سموم

السِّعاية لمنع إعانة وزارة الأوقاف وغير الأوقاف، كما سعى أمثالهم وأقنالهم من

قبل في الجمعية الخيرية الإسلامية، حتى زعموا أنها تمد مهدي السودان بالمال

لقتال مصر والدولة البريطانية.

وأما الفريق الثاني وهو الوسط في شئونه العقلية والنفسية، أو شئونه

الاجتماعية أو المعاشية، فيتألف من أصناف يقل فيها الغني الموسع، كما يقل فيها

الفقر المدقع، والأغنياء منه ثلاثة أصناف.

صنف تربى تربية إسلامية بحسب ما عليه جمهور المسلمين في القرون

الأخيرة من مزج السنن بالبدع، والخرافات بالحقائق، فهم لا يفقهون من بذل المال

في سبيل البر إلا بناء مسجد ولو في مكان تزيد فيه المساجد على حاجة المصلين،

وإنما يكون هذا من الخير إذا لم يبن المسجد على قبر أحد من الصالحين، وإلا كان

صاحبه ملعونًا على لسان خاتم النبيين، أو وقف أرض تنفق غلتها على تشييد

القبور أو البناء عليها أو حولها وما يكون من المواسم عندها في الأعياد وجمع

رجب، وكل ذلك من المعاصي وبدع الضلالة المنكرة التي لا يجوز الوقف عليها،

وإن تضمنت إطعام بعض الفقراء الطعام المبتدع لأجلها، فهذا الصنف قلما يرجى

منه الآن فائدة للأعمال الإصلاحية كمشروع الدعوة والإرشاد.

وصنف آخر تربى أفراده على التفرنج ولكن لم يكونوا كجماهير المتفرنجين

الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا تقليد الإفرنج في عاداتهم الخاصة بالزينة والطعام

والشراب والتمتع باللذة واللهو واللعب كتربية الكلاب والسير بها والركوب معها،

بل أودع في نفوسهم الميل إلى الاقتداء بهم في بذل المال للمنافع العامة، لا رياء

للجمهور، ولا تزلفًا لحاكم أو أمير، بل لأن ذلك عندهم من اللذات النفسية، أو

الشرف والكمال الإنساني، وبهذا ارتقوا عن جمهور الأغنياء الأغبياء السفهاء،

ولعل هذه البلاد لا تخلو من أفراد منهم، ومن عساه يوجد منهم فقد يبذل المال

للمساعدة على تعليم الموسيقى والتصوير أو الألعاب الرياضية، وقلما يحفل

بالإصلاح الديني العلمي إلا إن كان له نزعة دينية أو تهذيبية، وأنى لجماعة الدعوة

والإرشاد بالاهتداء إلى مثل هذا وإقناعه بأن مقصدها الأول من مدرستها بث

المرشدين في أنحاء البلاد لتعليم العوام ما يزجرهم عن المعاصي والمنكرات،

ويزكيهم من أدران البدع والخرافات، حتى تستفيد المدرسة من مساعدته؟

وصنف ثالث هم الوسط الصحيح وهم الذين أوتوا نصيبًا من التربية الدينية

والعلم الإسلامي الصحيح، ونصيبًا من حال هذا العصر وما يحتاج إليه المسلمون

فيه من الإصلاح، والغني في هذا الصنف أندر منه في سائر الأصناف، والرجاء

في مثله لمساعدة الدعوة والإرشاد، أقوى وأشد منه في سائر الناس، إلا أن يغلبه

على دينه وعقله البخل الفاحش والشح المطاع، وإيثار وعد الشيطان بالفقر على

وعد الله بالمغفرة والإخلاف، وإذا كان الصنفان المذكوران قبل هذا وهما كالطرفين

له، مما يصعب إقناع أفرادهما بوجوب المساعدة على الإصلاح الديني العلمي فهذا

الصنف لا يحتاج إلى إقناع، ولا يخفى عليه وجود ما يوجد منه في البلاد.

ومن أغنياء هذا الصنف من غلب عليهم الترف ودب إلى دينهم الوهَن،

فضعفت غيرتهم على إسلامهم الديني، دون إسلامهم الاجتماعي والسياسي، فهم

يودون إصلاح حال المسلمين، ويعتقدون أن ذلك لا يرجى إلا من طريق الدين،

وإنما يودون أن ينهض بالإصلاح غيرهم، ولا تسمو بهم الهمة إلى المساعدة عليه

بأموالهم ولا بأنفسهم.

تلك أصناف الأغنياء الذين يصح أن يتعلق بهم الرجاء، بما في أنفسهم من

هدي الدين أو علو الهمة، أو العناية بأمر الأمة، وقد علم أن من يوجد في هذه

البلاد منهم قليل، وأن الرجاء في هذا القليل ضعيف.

فلم يبق من فريق المعتدلين الذين يرجى رفدهم إلا المستورون الذين لا

يقدرون على مساعدة الإصلاح إلا بما يوفرون من كسبهم بالاقتصاد في النفقة اللائقة

بأمثالهم، كصاحب الرسالة التي دعتنا إلى كتابة هذا المقال، ولا غناء في مساعدة

هذا الصنف إلا إذا كثر أفراد الباذلين منه، وفاقًا للقاعدة المقررة: القليل من الكثير

كثير، وما أظن أن الظفر بهذا الكثير عندنا ميسور.

فعلم مما شرحناه أن من يرجى منهم بذل شيء من فضول أموالهم في سبيل

الإصلاح الديني والاجتماعي قليلون، وأن ما يرجى بذله من هؤلاء القليلين في

بلادنا قليل لا غناء فيه، لأن أكثر الأنفس أُحضرت الشح، واستحوذ عليها الصَّغار

والذل، وكذبت وعد الله بالإخلاف على المنفق، وصدقت وعد الشيطان له بالفقر،

ثم إن بذل المال الكثير في هذه السبيل إنما يصدر عن عرفان ووجدان، عرفان

بالمصلحة فيه وشدة الحاجة إليها، ووجدان إيمان راسخ تنال به سعادة الدنيا

والآخرة، أو وجدان شرف باذخ تنال به سعادة الأولى فقط، على أن باعث الشرف

وباعث الإيمان قد يتلاقيان ويتصافحان، وإنني أوضح هذا المقام بأمثال، أشير

بها إلى أعظم من رجوت هنا من الرجال.

كان أرجى أغنياء مصر عندي لمشروع الدعوة والإرشاد ثلاثة أصرح باسم

واحد منهم وهو رياض باشا تغمده الله برحمته، ذلك الرجل الذي انفرد في كبراء

مصر وأغنيائها بأنه لم يكن يخيب فيه رجاء، ولا يفوته مساعدة عمل من أعمال

الخير، ولو عرف كنه مشروع الدعوة والإرشاد لما اكتفى بالتبرع له بمائة جنيه،

وإنما عرف منه أنه مدرسة خيرية، فنفحه بمثل ما نفح به مدرسة محمد علي

الصناعية، وهي المدرسة التي تولى رياسة جمع الإعانات لها، على أن الخديوِ

وارث ملك محمد علي التي أنشئت المدرسة إحياء لاسمه وتذكارًا لمرور مائة سنة

على ملكه لم ينفحها بأكثر من ذلك، فهذا عذر رياض باشا في عدم صدق رجائي

كله في مساعدته لهذا العمل.

وأما اللذان لا أصرح باسمهما فقد كان رجاؤنا في أحدهما أكبر من رجائنا في

رياض باشا، وهو أوسع منه ثروة، وفهم من كُنْه المشروع ما لم يفهمه، بل قال

فيه كلامًا يؤثر ويدون له (منه) أنه طالما فكر فيه، وتعجب من إحجام المسلمين

عن القيام به إلى اليوم، وأنه يود لو يكون عضوًا عاملاً فيه، وإنما يمنعه من

وضع يده في أيدي أعضاء إدارته عدم ثقته بثباتهم، اللهم إلا واحدًا منهم، وعلل

ذلك بأن أهل بلادنا هذه يقولون ولا يفعلون، ويبدأون بالأعمال ولا يَثبتون (ومنه)

أن هذا العمل سيلقى صعوبات، وتوضع في طريقه العقبات، وأنه لا يقول هذا

تثبيطًا أي بل تنبيهًا، ولا تنصلاً من المساعدة فإنه سيساعد بالمال، ثم إنه أكد هذا

الوعد غير مرة لنا، وذكره لغيرنا، وقد كان آخر عهدنا بالسعي لاستنجازه شهر

رجب الماضي.

وأما الثالث فهو غني معروف بالعلم والفضل والتدين، وقد كان منانًا لأحد

أصدقائه بأنه سيتبرع للمدرسة بمائة جنيه غير ما يفرضه على نفسه من الاشتراك

السنوي، وذكر لنا صديق آخر له عزمه على المساعدة من غير تحديد، وقد بلغنا

أن ما يجب عليه من زكاة النقد كل سنة أضعاف ما يملكه صاحب الرسالة التي

نتكلم في موضوعها، وقد ذكرناه في هذا العام بشدة حاجة المدرسة إلى ما تنتظر من

مساعدته لانقطاع إعانة الأوقاف عنها، ونفاد ما قد جمع لها، فاعتذر بما يعتذر به

أكثر الناس في هذا العهد، وهو العسرة التي جاءت بها هذه الحرب.

فإذا كان وعد أرجى من نرجو من أغنى أغنيائنا، واشتراك من يشترك في

مثل هذا المشروع من أفضل فضلائنا، لا يوثق بهما ولا يتكل عليهما في استئجار

دار لمدرسة خيرية، فهل يظن (م. ن) صاحب تلك الرسالة أن ما جاء به من

النصيحة والتذكير يبسطان الأيدي المغلولة، وينبهان [3] الأنفس المفسولة [4] ، فتتدفق

الدنانير على مدرسة الدعوة والإرشاد اليوم كما تدفقت على جمعية الصليب الأحمر

بالأمس، وعلى جمعية الهلال الأحمر من قبل؟ إن كان يظن ذلك فما نحن بظانين،

ولا نحن من فضل الله وحياة المسلمين يائسين، ولكننا بعد طول اختبار لا نغتر

بوعد واعد، ولا بثبات متبرع ولا واهب، وإن كان هذا أو ذاك، ممن اشتهروا

بالسخاء، فإن أكثر أصحاب هذه المظاهر، مصداق لقول الشاعر:

يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما

لكنها خطرات من وساوسه

كلا إنه لا يرجى في هذا القطر جمع مال كثير بالتبرع يكون رأس مال

لمدرسة كمدرستنا أو مدرسة دونها إلا بنفوذ الأمراء والحكام، وقد كان بعض

هذا ممكنا لنا من قبل ولم نطرق بابه، وأما اليوم فلا يرجى كله ولا بعضه، فأما سبب

بذل المال تقربًا إلى الأمراء والحكام فمعروف، وأما إمساكه عن المصالح العامة

فسببه ضعف الإيمان، وضعف وجدان الشرف وحب الكمال، والحرمان مما يولدان

من المقاصد العالية والآمال العظيمة، وليس في تربية الأمة ما يحيي ذلك

في نابتتها.

هذا وإننا بعد هذا البيان نقول لصاحب تلك الرسالة وغيره من أهل الغيرة: إن

هذا المشروع لا يرجى أن ينفذ بحسب نظامه المعروف إلا إذا نجحنا فيما سعينا إليه

في الآستانة ثم في مصر من تقرير إعانة له كبيرة ثابتة من وزارة الأوقاف فبهذا

يستقر ويوثق بثباته واستمراره ويشتهر نفعه في الأمصار والأقطار، ويرجى بعد

ذلك أن يتبرع له ويقف عليه العقار والأراضي كثير من أهل الخير، ولا سيما بعد

أن يتخرج في مدرسته من يحسنون القيام بما فرضه الله تعالى على المسلمين بقوله:

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) فإذا ظفرنا بإعانة ثابتة من وزارة

الأوقاف فذاك، وإلا جعلنا المدرسة خارجية، وأنفقنا عليها مما آتانا الله من كسب

ومساعدة أهل المروءة والإخلاص مهتدين بقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ

وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ

بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذه المقالة الموعود بها.

(2)

هذه الكلمة لشيخنا الإمام.

(*) راجع مقالة (طفولية الأمة وما فيها من الحيرة والغمة) في ص737 م2 ومقالة (الحيرة والغمة ومناشئها في الأمة) في ص753 م2.

(3)

للتنبيه هنا معنيان أحدهما جعل الخامل نبيه الشأن، وثانيهما: إيقاظ الغافل.

(4)

المفسول الضعيف الخامل الذي لا مروءة له.

ص: 89

الكاتب: محمد رشيد رضا

السنة وصحتها والشريعة ومتانتها

رد على دعاة النصرانية بمصر

(2)

(تتمة واستدراك - استنكار المتأخرين لبعض متون أبي هريرة)

قد علم مما تقدم أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه راوية ثقة عدل وأنه من

نوابغ البشر في الحفظ والضبط لما يحفظ وقوة الذكر (الذاكرة) وعلم أيضا أنه

انفرد بأحاديث كثيرة كان بعضها موضع الإنكار أو مظِنَّته لغرابة موضوعها

كأحاديث الفتن وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببعض المغيبات التي تقع بعده،

ويزاد على ذلك أن بعض تلك المتون غريب في نفسه، ولو انفرد بمثله غير

صحابي لعُدّ من العلل التي يتثبت بها في روايته، كما هو المعهود عند نقاد الحديث

أهل الجرح والتعديل، ولذلك ترى الناس ما زالوا يتكلمون في بعض روايات أبي

هريرة كما رأى القراء في دروس سنن الكائنات للدكتور محمد توفيق صدقي، وأول

كلمة طرقت سمعي في ذلك كانت من تلميذ مسلم في مدرسة غير إسلامية ببلاد الشام،

وكان ذلك في أوائل العهد بطلبي للعلم، ومن عرف ترجمة أبي هريرة معرفةً تامةً

يجزم بعدالته وبراءته من الكذب على أحد من الناس، بله الكذب على رسول الله

صلى الله عليه وسلم الذي روى هو وغيره عنه أنه قال: (من كذب علي متعمدًا

فليتبوأ مقعده من النار) وقد صرحوا بأن هذا الحديث متواتر.

ولعل قراء المنار يتذكرون ما علقته على كلام محمد توفيق صدقي في حديث

الذباب، وتطرقه فيه إلى الارتياب في رواية أبي هريرة، إذ بينت بالإيجاز أنه لا

مجال للطعن في أبي هريرة نفسه وأن حديث الذباب وأمثاله مما يستبعد أن يكون

مسموعًا من النبي صلى الله عليه وسلم لا يظهر علة نقلها عن أبي هريرة إلا إذا

أحصيت تلك الروايات ولا سيما ما انفرد به أبو هريرة منها، ودقق النظر في

أسانيدها ومتونها، وما يمكن طروؤه من الاحتمالات فيها، وأمهات هذه الاحتمالات

أربعة:

أحدها: أن يكون في رجال السند إلى أبي هريرة من هو مجروح وإن صُحح.

ثانيها: أن يكون ذلك الحديث أو الأثر مرويًّا عنه بالمعنى، وقد وقع الغلط

من أحد الرواة في فهمه فنقله كما فهمه.

ثالثها: أن يكون ما روي حديثًا رأيًا لأبي هريرة أو غيره ممن روى عنه

وعده بعض الرواة حديثًا لاجتهاده بأن مثله لا يقال بالرأي، فما قاله العلماء من أن

قول الصحابي إذا كان لا يقال مثله بالرأي له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه

وسلم لا يصح على إطلاقه، والناس يتفاوتون في فهم ذلك، فما يعده بعضهم منه لا

يعده الآخر منه.

رابعها: أن يكون رواه عن أهل الكتاب بالسماع ممن أسلم منهم ككعب

الأحبار أو رآه في كتبهم وهو مما لا مجال للرأي فيه فيعده من قَبيل المرفوع من

يأخذ ذلك القول قاعدة عامة، وقد ثبت أن أبا هريرة روى عن كعب الأحبار وأن

معاوية قال في كعب الأحبار: إنهم كانوا يبلون أي: يختبرون عليه الكذب، وقد

تقدم ذلك في هذا المقال نقلاً عن البخاري، وإنني كنت أسيء الظن في روايات

كعب الأحبار قبل أن أرى ما رواه البخاري عن معاوية فيه، وكذا وهب بن منبه.

ثم إنني بعد كتابة ما تقدم وقبل طبعه رأيت في تفسير سورة النمل من تفسير

الحافظ ابن كثير بعد ذكر عدة روايات عن الصحابة في قصة ملكة سبأ مع سليمان

عليه السلام ما نصه:

والأقرب في مثل هذه السياقات أنها مُتلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في

صحفهم كراويات كعب ووهب، سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من

أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن، ومما

حرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ

ولله الحمد والمنة اهـ.

فجملة القول في هذه الأحاديث المشكلة إذا كانت مرفوعة إلى النبي صلى الله

عليه وسلم أو موقوفة على أحد رواة الصحابة رضي الله عنهم أبي هريرة أو غيره

أن يدقق النظر في أسانيدها أولاً، فإذا كان في الاحتجاج ببعض رجالها مقال كُفينا

أمرها، وكذا إذا كان فيها انقطاع أو إرسال، وإلا نظرنا إلى غير ذلك من الوجوه

التي يكون بها المخرج كغلط الرواة بسبب النقل بالمعنى أو غيره من الأسباب،

وأدهى الدواهي أن يكون الحديث مأخوذًا عن بعض أهل الكتاب بالقبول ولم يُعز

إليه، ولا يغرنك قولهم: إن مراسيل الصحابة حُجة، وإن الموقوف الذي لا مجال

للرأي فيه له حكم المرفوع، فإذا ثبت أن أبا هريرة مثلاً كان يروي عن كعب

الأحبار وأن الكثير من أحاديثه مراسيل، فالواجب أن يتروى في كل غريب لم

يصرح فيه بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان من الإسرائيليات أو ما

في معناها احتمل أن يكون قد رواه عن كعب وكان هذا الاحتمال علة مانعة من

ترجيح إسناد كلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يوقع في الإشكال.

لا يتسع هذا الموضع لتحرير هذا البحث بالتفصيل، ولكنا نذكر أهل العلم

بحديث يرون فيه أكبر عبرة في هذا المقام وهو حديث الجساسة الذي حدث به تميم

الداريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه مسلم في صحيحه مرفوعًا من

طرق يخالف بعضها بعضًا في متنه، فهذا الخلاف في المتن علته من بعض رواة

الصحيح، ولا يظهر حمله على تعدد القصة، ثم إن رواية الرسول صلى الله عليه

وسلم له عن تميم الداري إن سلم سندها من العلل هل تجعل الحديث ملحقًا بما حدث

به النبي صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه فيجزم بصدق أصله، قياسًا على

إجازته صلى الله عليه وسلم أو تقريره للعمل إذ يدل حله وجوازه؟ الظاهر لنا أن

هذا القياس لا محل له هنا، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم الغيب فهو

كسائر البشر يحمل كلام الناس على الصدق إذا لم تحف به شبهة، وكثيرًا ما صدق

المنافقين والكفار في أحاديثهم، وحديث العُرَنيين وأصحاب بئر معونة مما يدل على

ذلك، وإنما كان يعرف كذب بعض الكاذبين بالوحي أو ببعض طرق الاختبار أو

إخبار الثقات، ونحو ذلك من طرق العلم البشري، وإنما يمتاز الأنبياء على غيرهم

بالوحي، والعصمة من الكذب وما كان الوحي ينزل إلا في أمر الدين وما يتعلق

بدعوته وحفظه وحفظ من جاء به، وتصديق الكاذب ليس كذبًا، وحَسْبك أن تتأمل

في هذا الباب عتاب الله لرسوله إذ أذن لبعض المعتذرين من المنافقين في التخلف

عن غزوة تبوك وما علله به، وهو قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ

لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) .

وإذا جاز على الأنبياء المرسلين أن يصدقوا الكاذب فيما لا يخل بأمر الدين

ولا يترتب عليه حكم شرعي ولا شيء ينافي منصب الرسالة، أفلا يجوز على من

دونهم أن يصدقوا الكاذب في أي خبر لا تقوم القرينة على كذبه فيه، ومن صدَّق

شيئًا يجوز أن يحدِّث به من غير عَزْو إلى من سمعه منه، ولكن هذا كان قليلاً في

الصدر الأول من الإسلام، فقد ظل المسلمون عدة قرون ينقلون كل شيء بالرواية

وإن كان بيت شعر أو كلمة مُجون.

تنبيه مهم:

إن الأحاديث المشكلة الصحيحة الإسناد قليلة فما رواه أبو هريرة منها قليل من

قليل، وما انفرد به منه أقل من ذلك القليل، ولا يتوقف على شيء منها إثبات

أصل من أصول الدين، والحمد لله رب العالمين.

***

الجملة الخامسة الخاتمة لكلام الطاعن

(استنتاجه من جملة دعاويه أن الشريعة لا قيمة لها في نفسها ولا في روايتها)

قال بعد سرد ما تقدم عن الشبهات على رواية أبي هريرة ما نصه:

هذا هو الرجل الذي وضع مع ابن عباس الشريعة، ولكن ما هي قيمتها؟ إن

السؤال مهم جدًّا، ويطلب الجواب عليه من الثلاث مائة مليون سُنّي الموجودين في

العالم اهـ بحروفه.

اشتملت هذه الخاتمة على دعوى باطلة، واستفهام إنكاري تهكمي، ووجه هذا

السؤال فيها إلى ثلاث مئة مليون سني [1] أي إلى كل فرد من أفراد أهل السنة الذين

يسكنون في جميع الأقطار، ويتكلمون بعشرات من اللغات، ولماذا؟ لأن السؤال

مهم جدًّا في نظر القسيس المبشر المتصدي هو وجمعيته لتنصير كل هؤلاء

المسلمين بعد عجزهم عن هذا السؤال المهم جدًّا، بَخٍ بَخٍ.

***

الجواب عن الدعوى

هذه الدعوى ظاهرة البطلان عند المسلمين وعند من له أدنى إلمام بشريعتهم

وتاريخهم من النصارى وغيرهم، سواء أراد بأساس الشريعة أصول أدلتها التي

تستنبط منها، وهو الأقرب، أو أصول مقاصدها وهي العقائد والأحكام والآداب،

ونستغني عن بيان ذلك بما قلناه في مسألة أركان الشريعة الذي فندنا به القضية

الثالثة من قضايا الجملة الأولى من مقاله راجع ص 28 ج1 ثم نقول:

إن أبا هريرة وابن عباس ما وضعا أساس الشريعة ولا أركانها، ولا أصولها،

ولا فروعها، وإنما رويا لنا كغيرهما من الصحابة الكرام الكثير الطيب من سنة

الرسول، وهي ثابتة الأسس والأصول.

وقد بينا أن البخاري خرَّج لأبي هريرة 446 حديثًا في صحيحه، ونقول هنا:

إنه خرَّج فيه لابن عباس 217 حديثًا، وهذا القدر من روايتهم للأصول

الموصولة من الأحاديث لم ينفردا به وإنما شاركهما في رواية الكثير منه غيرهما،

ولو أحصينا ما انفرد بروايته أبو هريرة وحده من أحاديث الأحكام الشرعية لرأيناه

قليلاً جدًّا، وعلمنا أنه لو لم يروه لما نقصت كتب الأحكام شيئًا كثيرًا، وأن ما

عسى أن تنقصه يمكن أن يعرف حكمه من قواعد الشريعة الثابتة وأصولها القطعية،

كقاعدة رفع الحرج والعسر، وإثبات اليسر وترجيحه، وقاعدة كون الأصل براءة

الذمة وكون الأصل في كل الخبائث والمضرات الحرمة، وفي كل الطيبات الحِلّ،

وكون الضرورات تبيح المحظورات، وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله في هذا الرد.

***

قيمة الشريعة الإسلامية

الجواب عن الاستفهام التهكمي

لا أرى شبهًا لسؤال القس الطاعن عن قيمة الشريعة الإسلامية إلا السؤال عن

الشمس وما فائدتها للدنيا؟ وعن العافية ما فائدتها للناس؟ وعن الماء والهواء ما

فائدتهما للنبات والحيوان؟ سواء كان السؤال سؤال إنكار وتهكم أو سؤال استفهام،

وإننا نجيب عن هذا السؤال بجواب مجمل وجيز؛ لأن التفصيل لا يأتي إلا

بتصنيف كتاب كبير، فنقول:

(1)

إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي ثبتت نبوة من جاء بها

بالبرهان العقلي العلمي الثابت الدائم، وملخصه أنه رجل أميّ نشأ بين قوم أُمِّيين بلغ

الكهولة ولم يقرأ كتابًا، ولم يكتب سطرًا ولا حرفًا، ولا قال شعرًا ولا ارتجل

خُطبة، ولا رَأَسَ قبيلة ولا ساس قرية، ولا انتحل كهانة ولا عَرافة، ولا عرف

شيئًا من شرائع الأمم وأديانها، ثم قام في سن الكهولة بدعوى النبوة، وأيد دعواه

بكتاب اشتمل على أخبار الغيب الماضية والمستقبلة، وسنن الله في الدين والمدنية،

وعلى أصح علوم العقائد الإلهية، المؤيدة بالبراهين العقلية والعلمية، وأصلح

علوم الأخلاق والفضائل النفسية والعبادات الجامعة بين المنافع الروحية

والجسدية، وأعدل قواعد الشرائع السياسية والمدنية إلخ، ثم إنه اجتث بهداية

هذا الكتاب جراثيم الوثنية، وطهَّر الأمم من الخرافات التقليدية وأخلاق الجاهلية،

فكان للناس بذلك دين كامل وشريعة عادلة وأمة مؤلفة من جميع الشعوب والقبائل،

ودولة أحيت الحضارة وامتدت من المشرق إلى المغرب في جيل واحد.

فكان مثل محمد النبي الأمِّيّ صلى الله عليه وسلم كمثل رجل جاء بلدًا مصابًا

بالأوبئة المجتاحة والأمراض المعضلة، وادَّعى أنه طبيب وأيد دعواه بكتاب في

الطب والعلاج طهَّر به ذلك البلد كلها من الأمراض والأوبئة، فأصبح أهله متمتعين

بكمال الصحة والعافية.

فكما يجزم كل عاقل بأنه يستحيل على غير الكامل في علم الطب أن يؤلف كتابًا

في الطب يزيل بالعمل به الأوبئة ويشفي المرضى، كذلك يستحيل بالأولى أن

يقدر رجل أمي على الإتيان بأخبار الغيب وعلوم الدين والشرائع والآداب فيصلح

بها أديان أمم كثيرة وآدابها وأخلاقها وأحكامها وسياستها، إلا أن يكون نبيًا مؤيدًا

بوحي الله وعنايته العليا، بل يستحيل صدور مثل هذه العلوم والأعمال من واحد

أو من جماعة تعلموا جميع علوم البشر وعلوم الأديان في أعلى مدارس هذا العصر

الجامعة، دع إعجاز القرآن ببلاغته وأسلوبه وسائر معجزات النبي صلى الله عليه

وسلم.

(2)

إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة الجامعة بين هداية الدين الإلهي

الحق، وبين ثمرات عقول العلماء المجتهدين، الواقفين على مصالح البشر وما

يقوم به العدل بينهم، وما سواها فإما ديني محض لا مجال فيه لعقل ولا رأي، وإما

وضعي ناقص لا يحترم في السر كما يحترم في الجهر.

(3)

إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي تواتر كتابها تواترًا حقيقيًّا،

ورويت سنتها رواية متصلة الإسناد، ودُوِّنَ تاريخ رواتها تدوينًا مبنيًّا على ركني

النقد والتمحيص، الذي يميَّز به بين الصحيح وغير الصحيح.

(4)

إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي حررت البشر وأعتقتهم من

رق رؤساء الدين، الذي أرهق الغابرين، فلم تجعل لأحد سيطرة روحية على أحد،

فليس فيها كهنة ولا قسيسون يمتازون بمناصبهم الدينية على غيرهم، أو تتوقف

إقامة شيء من أمر الدين عليهم، وإنما خوطب البشر بها على سواء فهم يتفاضلون

فيها بعلومهم وأعمالهم الكسبية، لا بمناصبهم الموروثة ولا أنسابهم الشريفة.

(5)

إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي أعتقت البشر من رق

الملوك المستبدين الذين انتحلو لأنفسهم حق الحكم بمحض الهوى والإرادة، وحق

وضع الشرائع والقوانين بالذات أو بالنيابة، وحق الامتياز في الحقوق الشرعية

على غيرهم من أفراد الأمة، فجعلت أمر الأمة شورى بين أهل الحَلّ والعقد، ومن

أهل العلم والرأي، الذي يولون عليها من يرونه أصلح لتنفيذ شريعتها، ولم تجعل

للخلفاء أو السلاطين امتيازًا على أحد من الفقراء والصعاليك، لا في حكم من

الأحكام المدنية، ولا في عقوبة من العقوبات الجزائية، وقد وافقتها بعض الأمم في

بعض هذه الأصول أو اقتبستها منها، بعد أن ترك المتغلبون على المسلمين إقامتها،

ولكن لم يبلغ أحد شأوها إلى هذا اليوم، وإنما صار بعضهم أقرب إليها ممن يسمون

أنفسهم أهلها.

(6)

هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي ساوت بين أهلها المؤمنين بها،

وبين الكافرين بها إذا تحاكموا إليها، سواء كانوا من أهل ذمتها، أو من الأجانب

المعاهِدين لحكومتها، أو الحربيِّين الداخلين في أمان أحد من أهلها فلا فرق بين

أحكامها القضائية بين أبناء الرسول وأمراء المؤمنين، وبين أضعف أهل الكتاب

الوثنيين، ونحن نرى أرقى الإفرنج وأشهرهم بالعدل يميزون أنفسهم على غيرهم،

فلا يرون المصري والهندي مساويًا للإنكليزي، ولا الآسيوي مساويًا للأمريكي.

(7)

إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي رفعت شأن النساء

وأعطتهن حقوق الاستقلال التام في التصرف بأموالهن، وساوت بينهن وبين

أزواجهن في جميع الحقوق بالمعروف، إلا رياسة المنزل وزعامة الأسرة، وإن

كلمة وجيزة من كلمات القرآن الحكيم في ذلك لأبلغ من كثير من الأسفار التي ألفت

في المطالبة بحقوق النساء أو ما يسمونه تحرير المرأة، ألا وهي قوله عز وجل:

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228)

وهذه الدرجة التي أعطيت للرجل بحق، وهي رياسة البيت؛ لأنه أقدر على الكسب

والحماية، والمطالَب بجميع النفقة، تشبه الرياسة العامة فيما شرع فيها من الشورى

كما يدل عليه قوله عز وجل في مسألة إرضاع الولد وفطامه: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً

عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (البقرة: 233) وقد اهتدى كثير من

الأمم ببعض هدي هذه الشريعة في هذه المزيَّة ولم يبلغ أحد منها شأوها، ولكن

أهلها قصروا في إقامتها، حتى صاروا حجة عليها عند من يجهلها.

(8)

هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي وضعت للحرب نظامًا حُرِّم فيه

العدوان والتمثيل والتخريب، وقتل من لا يقاتل من النساء والشيوخ والأطفال

والمنقطعين للعبادة، فجعلتها ضرورة تتقدر بقدرها، وأمرت بالجنوح للسلم إن جنح

العدو لها، وقد بين المنار فضلها في ذلك على قوانين أوربة وفضل أهلها في

حروبهم على الأوربيين في مقالة نشرت في مجلد السنة الماضية، وقد أنصفنا أحد

حكماء الإفرنج بقوله: (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) .

فأين منها شريعة التوراة التي بين أيدي اليهود والنصارى وهي التي أوجبت

في الفصل العشرين من سفر تثنية الاشتراع استعباد جميع أفراد الشعب المسالم الذي

يختار الصلح على الحرب، وقتل جميع ذكور الشعب الذي يحارب عند الظفر به

وجعل جميع نسائه وأطفاله وما يملكه غنائم، هذا إذا كان من المدن البعيدة جدًّا عن

شعب التوراة التي لا يسهل عليه سكناها، وأما الشعوب القريبة التي يسهل عليه

امتلاك بلادهم فهذا نصها فيهم: (16 وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب

إلهك نصيبك فلا تَسْتبق منها نسمة ما) .

(9)

هذه هي الشريعة الوحيدة التي فرضت على الأغنياء نصيبًا معلومًا مما

يزيد من أموالهم عن نفقاتهم يصرف لإعانة الفقراء والمساكين العاجزين عن كسب

ما يكفيهم، ولمساعدة الغارمين على ما يحملون من الغرامات للإصلاح بين الناس،

ولأبناء السبيل الذين يسيحون في الأرض فتنفد نفقاتهم قبل عودتهم إلى أوطانهم،

ولغير ذلك من المصالح العامة، ولو أقام المسلمون في هذا العصر هذا الركن كما

كان يقيمه سلفهم الصالح لما وجد فيهم فقير مهين، ولكانت حالهم الاجتماعية أفضل

من حال أرقى الأمم، ولكان السائحون لاكتشاف مجاهل الأرض وخَرْت بقاعها

والاعتبار بأحوال الأمم فيها أكثر من سائحي غيرهم من الأمم، إذ حثهم الله في

كتابه العزيز على السياحة النافعة بمثل قوله في سورة الحج: {أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي

الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الحج: 46) وقوله

في سورة المؤمن: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن

قَبْلِهِمْ} (غافر: 82) وقوله في سورة آل عمران: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ

فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137) إلخ.

(10)

إن الشريعة هي خاتمة الشرائع الإلهية، وحكمة ذلك أن الله تعالى قد

أكمل بها الدين الحق، فجعلها جامعة بين مصالح الروح والجسد، ومنح الأمة حق

الاجتهاد واستنباط الأحكام، بما وهب لها من فضيلة الاستقلال، بعد أن أعد لذلك

بسنة الارتقاء، وبهذين كانت موافقة لمصالح البشر في كل زمان ومكان، خلافًا لما

يجنيه عليها الصديق الجاهل، وما يتجناه عليها العدو العاقل، وقد بينا هذه المسألة

في التفسير وفتاوى المنار ومقالاته مرارًا، كمقالات المصلح والمقلد، والفتاوى

الباريزية، وتفسير:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) وتفسير: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وتفسير:

{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) وطالما فندنا شبهات

المنكرين لذلك.

فهذه بعض مميزات هذه الشريعة التي يعرف قيمتها المنصفون من غير أهلها،

فإن أمكن لهذا المجادل فيها أن يشكك أهلها فيها بما زعمه من ارتياب بعض الناس

في رواية أبي هريرة رضي الله عنه أو بغير ذلك من الدعاوي (ولن يمكن) فلا

يجني من ذلك إلا انصراف ثلاث مئة مليون سني ربما يتبعهم زهاء ثلاثين مليونًا

من الشيعة وسائر الطوائف الإسلامية عن الإيمان بأن المسيح عليه السلام رسول الله

المعصوم وكلمته التي ألقاها إلى مريم الطاهرة البَتُول، إلى مثل اعتقاد ملاحدة

الأوربيين من الإنكليز وغيرهم كمؤلف كتاب (نشوء فكرة الله) ومؤلف كتاب

(أضرار تعليم التوراة والإنجيل) ، وغيرهم من الماديين الذين يطعنون فيه وفي أمه

الطاهرة، ويزعمون أن آداب إنجيله مفسدة للبشر؛ لأنه تعلم الناس الذل بالخضوع

لكل سلطة وإن كانت أجنبية جائرة، وإدارة الخدين لكل من يريد صفعهما، وتدفعهم

إلى الفقر بتحريم الادخار والاهتمام بالمستقبل وحرمان الأغنياء من ملكوت السماء.

لو كان الشك في الشريعة الإسلامية يفضي إلى تنصر الشاكّ فيها حتمًا لكان

للطاعن المشكك فيها، وهو داعية لدينه عذر ظاهر في التشكيك، ولكن لا تلازم

بين الأمرين، بل علمنا بالتجارب والاختبار أن أكثر الذين يمرقون من الإسلام

يكونون ملاحدة معطلين، وأن الأفراد القلائل من المسلمين الذين دخلوا في

النصرانية لا يكاد يوجد واحد منهم كان مسلمًا حقًّا ثم صار نصرانيًّا ظاهرًا وباطنًا،

بل هم في الغالب من العوام الفقراء، الكسالى الذين يظهرون النصرانية للمبشرين

لأجل أن يطعموهم، وهم على جهلهم بحقيقة الإسلام لا يفضل أحد منهم تقاليد

النصرانية على ما عرف من تقاليد قومه، وقلما يفتح لأحد منهم باب للرزق عند

المسلمين إلا ويفر إليه مفضلاً له على الارتزاق بالنفاق، وطالما سعوا إلى ذلك

وطرقوا له الأبواب كلما فتح لأحد منهم باب منها تاب وأناب، فأين هؤلاء الغوغاء،

ممن يدخلون في الإسلام من كبراء الإنكليز وفضلائهم وغيرهم من نصارى

الغرب والشرق كاللورد هدلي.

قال حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني: إن المسلم لا يمكن أن يصير مسيحيًّا

وعلل ذلك بقوله: لأن الإسلام مسيحية وزيادة، أي يتضمن الإيمان بالمسيح

صلى الله عليه وسلم وبما جاء به بالإجمال، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

وبما جاء به بالتفصيل، وعللناه نحن بأن دين الله واحد في أصوله من التوحيد

والإخلاص والفضيلة، إلا أنه سار كسائر الشئون المتعلقة بالبشر على سنة النشوء

والارتقاء فكان كماله في آخره {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي

وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) فالمسلم ينظر إلى ملة كل من نوح

وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام كما ينظر الإنكليزي إلى

القوانين التي كان عليها قومه في القرن السادس عشر والسابع عشر، إلى القرن

العشرين، ولكنه لا يترك ما ارتقى إليه من القوانين المناسبة لحال زمنه هذا إلى ما

ارتقى عنه من قوانين القرون الخالية، ولا يَعُدّ نفسه بما ارتقى إليه قد خرج عن

كونه إنكليزيا، وكذلك المسلم يؤمن بجميع الأنبياء وبحقية أديانهم وشرائعهم

ومناسبتها لأزمانهم وبأن الشريعة المحمدية كانت هي الخاتمة المتممة المكملة

الناسخة، والمسلمون يعظمون جميع الرسل {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285) ولكنهم يتبعون الأخير منهم.

وإننا نرى المبشرين يحاولون إقناع المسلمين بدلالة القرآن على تفضيل

عيسى على محمد عليهما الصلاة والسلام، ولو تم لهم هذا لما أفادهم شيئًا، فإن

المسلمين لا يفرقون بين الرسل من حيث إنهم رسل، وإنما فضل الله بعضهم على

بعض بكثرة المزايا ودرجة انتفاع البشر برسالتهم، وقد فَضَلَهم خاتمهم محمد صلى

الله عليه وآله وسلم بعموم بعثته وإكمال الدين المطلق بما جاء به وكثرة من اهتدى

به، ونعتقد أن عيسى لم يبعث إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة كما قال عن

نفسه (مت15: 24) ولو فرضنا أن عيسى أفضل بما امتاز به في خلقه

وخصائصه لما كان ذلك موجبا لترك الثابت عندنا من شريعة محمد صلى الله عليه

وسلم العامة المكملة الخاتمة الناسخة لما قبلها إلى ما لم يثبت عندنا من شريعته

الخاصة المنسوخة، وعلماء الأصول منا يفضلون إبراهيم على موسى وعيسى

صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لا يقولون: إنه كان يجب على بني إسرائيل

ترك شريعة التوراة إلى ما خلافها من شريعته كما أن من يفضل محمد علي باشا

الكبير على أحفاده بخصائصه الفطرية لا يرى ذلك موجبًا لترك قوانينهم إلى

قوانينه، على أن القاعدة عندنا أنه قد يوجد في المفضول من المزايا ما لا يوجد

في الفاضل كما يفضل بعض أحفاد محمد عليّ جدَّهم بالعلم وبعض الأخلاق

والأعمال.

الحق أقول لكم أيها المبشرون المحترمون إن مجادلاتكم وطريقتكم في دعوة

المسلمين إلى دينكم قد جاءت إلى اليوم بضد ما تريدون وتريد جمعياتكم، فهي تزيد

المسلمين استمساكًا بدينهم وبعدًا عن دينكم، وأكبر ضررها الديني في المسلمين أنها

حملت كثيرًا منهم على ضد ما يجب عليهم شرعًا من حب سيدنا عيسى وأمه

وحواريه والثناء عليهم بما أثنى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن كثيرًا

من العوامّ صاروا يعتقدون مما يسمعون منكم ويقرءون أو يُقرأ عليهم من كلامكم

ضد ما يقرره الإسلام من كون الرسل إخوة يجب الإيمان بهم وحبهم جميعا، بل

أرى هذا التأثير قد دب إلى خواص المتعلمين على الطريقة الإفرنجية حتى

المشهورين منهم بالتساهل الديني.

ومن العجيب أن واحدًا من كبار هؤلاء علمًا ورتبة صرح أمامي بأنكم بغضتم

إليه المسيح، فقلت له: لا ينبغي لمثل سعادتك أن يسترسل مع وجدانه إلى هذا الحد،

ولا يخفى عنك أن بغض المسيح عليه السلام كفر، فقال: إن هذا قد ثبت في

نفسه ولا يستطيع دفعه.

أيها المبشرون المحترمون إنكم تريدون تشكيك الناس في الشريعة بالطعن في

عدالة أبي هريرة، وقد علمتم أن الطعن في أبي هريرة لو كان صادقًا ما حط من

قدر هذه الشريعة شيئًا فكيف وهو باطل، ولو لم يُخلق أبو هريرة لما نقصت

الشريعة شيئًا، ولكن كثيرًا من المسلمين المتعلمين على المنهج الإفرنجي يرون أن

أكبر الشبهات على الإسلام، ما أثنى القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم به على

المسيح وأمه عليهما السلام، حتى إنني قلت منذ سنين: إن أقوى الحُجج للمسيح

شهادة القرآن له، وأقوى الشبهات على القرآن شهادته للمسيح، فهل رأيتم قول

القرآن فيه: {إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ

وَرُوحٌ مِّنْهُ} (النساء: 171) قليلاً حتى طمعتم بإقناع المسلمين بأن يقولوا كلمة

أكبر من ذلك، ورأيتم قوله فيه:{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} (البقرة: 87) قليلاً

أيضًا فطمعتم بأن نقول فيه كما تقولون ، وإن لم نفعل ذلك ولم يقم عليه برهان

مبين.

أيها المبشرون الغيورون إنكم تعلمتم أن اشتغال الناس بالفلسفة المادية والمدنية

المادية قد فَتن كثيرًا من المسلمين بملاحدة الأوربيين الماديين الذين مرقوا من

النصرانية وطعنوا فيها أشد الطعن لأن تعاليم الأناجيل أشد التعاليم وأقساها على

الماديين إذ هي روحانية محضة، وأما الإسلام فهو دين وسط، جامع بين حقوق

الروح وحقوق الجسد، فلا تؤثر فيه دعوة النصرانية؛ لأنه كما تقدم مسيحيةٌ وزيادةٌ

وإنما يخشى على الجاهلين بحقيقته من تيار المادية، وحرية الشهوة الحيوانية،

فمدارسكم الإفرنجية الدينية منها وغير الدينية، هي التي تكفل لكم التشكيك في

الإسلام، لا الطعن في أبي هريرة، ولا ابن عباس، فتعالوا نتعاون على مجاهدة

هذه التعاليم المادية، التي كانت آفتها شديدة على الإسلامية ولكنها على النصرانية

أشد، ودليل ذلك أنها لم تمنع كثيرًا من المتعلمين الباحثين من ترك النصرانية إلى

الإسلام، وأن الملاحدة منا أقل من الملاحدة منكم.

ما رأيت كلامًا لأحد من الأوربيين المستشرقين في الإسلام والمسلمين بني

على الخبرة والمعرفة ككلام الدكتور سنوك الهولندي، وقد بيّن في خطبته التي

ألقاها منذ سنين في مدرسة كليفورنية الجامعة في الولايات المتحدة أن القضاء على

الإسلام الديني بالتبشير المسيحي محال، وأن المسلمين لن يكونوا نصارى أبدًا،

وإن طريقة اللاتينيين في بث التعليم المادي في المسلمين، أفعل في زلزال الإسلام

من طريقة البروتستانت في بث دعوة الدين، واعتبروا مع هذا ما ترونه من

تفضيل أكثر المسلمين للإنكليز والأمريكان على اللاتين.

أنا لا أخاف على المسلمين من مجلاتكم ولا من كتبكم ورسائلكم، إنما أخاف

على المسلمين من الفلسفة المادية والمدنية الشهوانية، ومن منافقيهم وعباد الشهوات

منهم، فهم الذين يجنون على دينهم ودنياهم، وإنما أوصيكم بأن تتجنبوا فيما تقولون

في مجامعكم التبشيرية، وما تطبعون في رسائلكم وصحفكم الدورية، كل ما يثير

العصبية ويخدش المودة الوطنية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ

لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ

جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48) {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ

فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) .

_________

(1)

قد اشتهر منذ عشرات من السنين أن المسلمين ثلاث مئة مليون وأول أوربي اشتهر عنه هذا القول عاهل ألمانية غليوم الثاني، والظاهر أن أهل السنة وحدهم صاروا يبلغون هذا العدد كما قالت مجلة الشرق والغرب، وثم عشرات الملايين من الشيعة وغيرهم.

ص: 97

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المجمع اللغوي المأمول

دعوة إلى هذه الأمنية وخطوة جديدة على ذكرى بلوغ المقتطف سن الأربعين

من حياته المفيدة

طالما تشوفت أنفس أهل العلم والأدب من المشتغلين بالتصنيف والإنشاء

والترجمة بلسان العرب إلى إنشاء مجمع لغوي للتعاون على خدمة اللغة العربية

بالطرق التي تقتضيها حال هذا العصر، وطالما تحدثوا بهذا في أنديتهم وسمارهم،

وكثر ما هموا ولم يفعلوا، وما أقدموا ثم أحجموا، وما بدأوا ثم لم يثبتوا، وقد كان

عدم تيسر المكان اللائق بهذا العمل من الموانع العائقة لكثير من الذين تمنوه وتحدثوا

بشأنه عن مواصلة المذاكرة فيه ومعاودة الاجتماع لأجله، فلما أنشأ الأساتذة

المتخرجون من مدرسة دار العلوم ناديهم منذ سنين قليلة تعلقت آمال كثير من الناس

بهم، وكان اختيار حفني بك ناصف رئيسًا لناديهم، مقويًا للرجاء فيهم، ثم ما عتم

هذا النادي أن خبت ناره، وأطفئت أنواره، ولكن بعد ترك حفني بك لإدارته

ومغادرته مدينة القاهرة مرتقيًا في منصبه.

لاح لنا أمس بارق أمل جديد، عسى أن نصل في نوره إلى ما نريد، فيكون

ذلك من بركات المقتطف المفيد.

صدر الجزء الأول من مجلة المقتطف في مثل هذا اليوم أول مايو من سنة

1876 فتم له أمس أربعون سنة، وقد كان مما يخطر على بال كثير من أهل

العلم وأنصار النهضة العربية أن يجعلوا هذا اليوم عيدا للمقتطف يحتفلون به

الاحتفال اللائق بخدمته للعلوم والفنون بهذه اللغة الشريفة التي لا حياة لنا إلا بحياتها

العلمية والفنية، ولكن الحرب الأوربية العامة جعلت العالم كله في مأتم ولا تكون

المآتم أعيادًا.

وقد كان في مقدمة الذين شعروا بوجوب الاحتفال بالمقتطف صديقنا الأديب

الخطيب الشهير إسماعيل بك عاصم المحامي، وقد رأى أن ما يمنع من إقامة

الاحتفالات العامة، لا يمنع من اجتماع خاص لتهنئة خاصة، فأعد أمس في دارها

الزاهية مأدبة لصاحبي المقتطف دعا إليها صاحب الدولة رئيس الوزارة حسين

رشدي باشا وصاحب المعالي عدلي باشا يكن وزير المعارف وصاحب الفضيلة

الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية وصاحبي السعادة يحيى باشا إبراهيم رئيس

الاستئناف الأهلي وأحمد زكي باشا كاتب سر مجلس النظار وحضرة صاحب العزة

أحمد بك لطفي السيد مدير دار الكتب السلطانية، وبعض أصحاب المجلات العربية

المشهورة.

انتظم عقد هذه الجماعة عشاء في تلك الدار، المتألقة بالأنوار فكانت سامرًا

علميًّا من أرقى السمار، افتتحها حضرة صاحب الدعوة بهذه الأبيات:

يا بدورًا قد تجلى

في سماء العليا سناكم

حاكت الأفلاك داري

حين حياها نداكم

فاقبلوا مني دعاء

أسعد الله مساكم

وبعد مسامرات كان جلها في مناقب العرب وما سبق لهم من ترقية العلوم

والفنون تحلقوا حول تلك المائدة، فأصابوا مما طيف عليهم به من ألوانها الفاخرة، ثم

نهض الداعي الوفي الكريم فألقى خطبة نفيسة في الثناء على المقتطف المفيد، وعلى

منشئيه الفيلسوفين الكبيرين الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر، بين فيها

خدمته الجليلة للعلم والعربية وذكر أنه أنشئ في بيروت ثم جذبته مصر إليها، وذكر

مقالتين نشرتا في الجزء الأول كانتا كالمرآة التي تجلى فيها كماله، مقالة في عمل

الزجاج ومقالة في القمر وتشكله منذ يبدو هلالاً إلى أن يكون بدرًا كاملاً، قال:

وكذلك كان المقتطف فإنه كالزجاج في صفائه وبهائه، وهو كالقمر بدأ

هلالاً ثم صار بدرًا كاملاً وأسأل الله حفظه من المحاق.

ثم ذكر بدء معرفته لمنشئ المتقطف من زهاء ثلاثين سنة، وذكر من فضلهما

وأخلاقهما ما هو معروف، وأشار في خطابه إلى ما سبق من احتفاله المشكور

ببلوغ مجلة المنار عشر سنين، وذكر المنار في سياق الاستدراك على وصف

المقتطف بالسبق في خدمة العلوم، ثم قام كاتب هذه السطور فاستأذن الوزير الأكبر

بإلقاء كلمة في الموضوع خلاصتها:

ورد في الحديث الشريف (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) وقد رأيت

صديقنا الفاضل إسماعيل بك عاصم استدرك على ما وصفه المقتطف بأنه المجلة

العربية الوحيدة التي قامت بما قامت به من خدمة العلم فذكر المنار وقرنه بالمقتطف

وقال: إن للمقتطف فضيلة السبق وذكر أنني أعترف له بذلك كما اعترف لابن

معطٍ ابنُ مالك إذ قال في فاتحة الألفية:

وهو بسبق حائز تفضيلا

مستوجب ثنائي الجميلا

نعم أعترف للمقتطف بالسبق والتبريز في العلم، وأزيد على ذلك

الاعتراف بأنني قد استفدت من المقتطف من أول عهدي بطلب العلم ولا أزال

أستفيد منه.

إنني لما دخلت المدرسة الوطنية في طرابلس الشام وذلك أول عهدي بطلب

العلم رأيت أستاذنا الشهير الشيخ حسينًا الجسر مشتركًا في المقتطف ومواظبًا على

قراءته، فكانت تلك أول معرفتي بالمقتطف وصرت أستعيره بعد ذلك وأقرؤه،

فاستفدت من مباحثه فوائد عقلية وصحية واجتماعية، ولا أزال أعتمد على ما يكتبه

في معرفة أطوار التجدد العلمي العصري.

إن المقتطف في نظري مدرسة جامعة سيارة يستفيد منها العالم العربي في كل

بلد يقرأ فيه فإن الذين يتعلمون مبادئ العلوم العصرية باللغة العربية، يحتاجون إلى

الوقوف على ما يتجدد فيها بالبلاد الغربية، ولا سبيل إلى هذا إلا بالاطلاع على

الكتب والمجلات الأوربية التي تصدر في كل عام وهذا لا يتيسر إلا لبعض الأغنياء

المتقنين لبعض لغات العلوم الأوربية، فالمقتطف يلخص لنا في كل شهر ما لا

يستغني عنه قراء العربية.

من حق المقتطف على الأمة العربية أن تحتفل به في الوقت المناسب ونرجو

أن يكون ذلك على رأس الخمسين من حياته النافعة.

احتفل فريق من المصنفين ببلوغ مطبعة المعارف سن العشرين في خدمة

الصناعة وإتقانها فإذا جرينا على سنتهم كان علينا أن نقيم للمقتطف عشرات من

الاحتفالات. كان على مروِّجي الصناعة أن يقيموا للمقتطف مثل هذا الاحتفال لا

لأن له مطبعة أخرجت للناس من المطبوعات النافعة ما لم يخرجه غيرها فحسب،

بل لأن للصناعة بابًا في المقتطف فهو مرشد إلى ترقيتها بجميع فروعها، وكان

على المجتهدين في ترقية الزراعة أن يقيموا له احتفالاً آخر لأن للزراعة بابًا فيه

مثل باب الصناعة، ومثل هذا يقال في كل علم وفن ولكن صديقنا إسماعيل بك

عاصم جمع لنا في هذه الليلة صورة مجملة لما يجب على الأمة مفصلاً.

إن أكبر منقبة للمقتطف ومنشئيه أنهما حجة اللغة العربية على من يتوهمون

أنها لا تتسع لجميع العلوم العصرية ولا يسهل تعليمها بها، فهذان العالمان الكبيران

تعلما العلوم باللغة العربية واشتغلا بالكتابة والتأليف فيها مدة أربعين سنة فأفادا العلم

ما لم يفده أحد من المتعلمين منا باللغات الأجنبية.

هذا ملخص ما قلته، ثم ألقى أحمد زكي باشا خطبة نفيسة في فضل المقتطف

ومنشئيه في خدمة العلم باللغة العربية افتتحها بما هو معروف في الفقه الإسلامي من

تقسيم الواجب إلى فرض عين وهو ما يطلب من كل فرد من الأفراد كالصلاة

والصيام، وفرض كفاية وهو ما إذا قام به بعض الأفراد سقط الطلب عن الباقين

كالفنون والصناعات التي لا يستغني الناس عنها في معايشهم، وقال: إن صاحبي

المقتطف هما اللذان قاما بفرض الكفاية من خدمة العلوم والفنون، ثم ذكر أول عهده

بالمقتطف وأنه أرسل إليه سؤالاً إلى بيروت ثم عهده برؤية منشئيه وما يحمد من

صحبته لهما.

وقام أيضا الشاب النجيب إميل أفندي زيدان صاحب مجلة الهلال الغراء فأثنى

على المقتطف وذكر أنه تلميذ لتلاميذ منشئيه العلامتين وذكر أن والده وهو أستاذه

الأول كان تلميذهما، وكذلك كان أساتذته في المدرسة الكلية من تلاميذهما.

ثم قام صاحب مجلة المفتاح الغراء توفيق أفندي عزوز فخطب خطبة أثنى

فيها على المقتطف بما هو أهله وذكر استفادته منه كغيره وقال: إن منشئيه

العلامتين الفاضلين قد أفادا بأخلاقهما كما أفادا بمجلتهما فهما باتفاقهما وتكافلهما

وإخائهما قدوة صالحة لهذه الأمة التي تشكو من التفرق والاختلاف وقلة الثبات ما

هو أعظم عائق لها عن القيام بالأعمال النافعة.

وبعد ذلك قام العلامة الدكتور فارس نمر فألقى خطابًا بليغًا قال في فاتحته:

إنه بلسانه ولسان شريكه وأخيه الدكتور صروف يشكر أولاً لسعادة إسماعيل بك

عاصم عنايته بهذه الدعوة ويعتب عليه أنه جعلها بصورة احتفال ومما قاله:

إن حضرة رب هذه الوليمة شرف إدارتنا منذ بضعة أيام وهنأنا بمرور أربعين

عامًا على مجلتنا المقتطف ودعانا إلى تناول الطعام مع جماعة من علماء مصر

وأرباب المجلات العربية الذين دعاهم احتفالاً بذلك فأبنا لحضرته أن الوقت لا

يصلح للاحتفالات ولا خدمتنا تستحق هذه العناية ولكن أبت مكارمه ومكارمكم أيها

السادة إلا أن تخصونا بالنصيب الأوفر من محاسن هذه الليلة وأن تتحفونا بهذا المدح

الذي لا نستحقه فلحضرة صديقنا الفاضل صديق العلم والأدب رب هذه الدار ولدولة

الوزير الكبير رئيس الوزراء ولمعالي وزير المعارف ولفضيلة مفتي الديار

المصرية ولسعادة رئيس الاستئناف الأهلي ولسعادة سكرتير مجلس النظار وسائر

الذين تكرموا بالثناء على المقتطف وذكروه بالخير ولبوا هذه الدعوة إكرامًا له جزيل

الشكر من هذين العاجزين.

ثم قال: إن المقتطف وإن كان قد أنشئ في القطر السوري فقد كان معظم

انتشاره في القطر المصري، وقد لقي من أعاظم مصر أعظم عضد وأرحب صدر

حتى أن وزير مصر الشهير المرحوم رياض باشا كان يكاتبه منذ بدء إنشائه، ولما

نقلناه من سورية إلى مصر رحب به رحمه الله كما رحب به الوزير الكبير شريف

باشا والعالم المرحوم شفيق بك منصور وغيرهم من أعاظم مصر وأكابر علمائها،

والأمل وطيد أن خدمة المقتطف على ما بها من الضعف تجد من تأييدكم أيها السادة

ما يقويها ويزيدها أضعافا مضاعفة بمؤازرة سائر المجلات والجرائد العربية في

عصر مولانا السلطان المعظم الذي حق لنا أن نباهي به سلاطين الشرق والغرب

معا على حبه للعلم وإكرامه للعلماء ورغبته في إعلاء منار الأدب وغيرته على نشر

المعارف وجوده في سبيل التربية أدامه الله للأمة العربية فخرًا وأدامكم للغة العربية

فخرًا.

ثم دارت بعد ذلك المذاكرة في مسائل علمية ولغوية أفضت إلى الكلام في شدة

الحاجة إلى إنشاء مجمع لغوي في مصر فقال أحمد لطفي بك السيد مدير دار الكتب

السلطانية إن أحمد زكي باشا كان قد اقترح علي أن أخصص مكانًا من دار الكتب

لذلك، وإني أجبت إلى ذلك فلديّ الآن في المكتبة مكان لائق كانت الجرائد ذكرت

أننا فرشناه وأعددناه لراغبات المطالعة من السيدات وليس عندنا سيدات يغشين دار

الكتب للمطالعة فنعد لهن مكانًا.

فسر جميع الحاضرين بهذا وقابلوه بالثناء ورأوا أن قد زالت به عقبة من

عقبات الشروع في تأسيس المجمع اللغوي الذي بينا مكانته من النفوس في أول هذه

النقلة وزادهم سرورًا ما رأوه من ارتياح الوزير الأكبر ووزير المعارف للشروع في

تأسيس المجمع اللغوي بدار الكتب السلطانية، وأرجو أن نبشر قراء العربية في

مقال آخر بتأسيس هذا المجمع بالفعل.

وقد امتد هذا السمر المفيد إلى منتصف الليل فانصرف السامرون مثنين على

رب المنزل أطيب الثناء.

_________

ص: 110

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمال باشا السفاك

كان جمال باشا من آحاد الضباط الكثيرين المنتمين إلى جمعية الاتحاد والترقي

فلم يلبث أن ترقى فوق الهام والرءوس إلى مقام الزعماء على حين قد تدهور أمير

الألاي صادق بك عن منصة الزعامة العليا لها وسقط كثير من الضباط وغيرهم

ممن مكاناتهم عالية، وإنما ترقَّى جمال بك ببراعته وجرأته على سفك دماء خصوم

الجمعية، فهو الذي دبر مكيدة المذبحة الأولى في أدنه إذ كان واليًا لها بعد الدستور،

وهو الذي قتل الجم الغفير من كبراء الآستانة المخالفين للجمعية عقب اغتيال

محمود شوكت باشا، ولأجل هذا اختارته الجمعية لقيادة فيلق سورية بعد الحرب

على كونه لا يزال ناظرًا للبحرية، وما سمعنا في أخبار دولة من الدول أن أحد

وزرائها يعطى وظيفة دون الوزارة في بلاد بعيدة عن العاصمة فيكون فيها عدة

سنين في أشد أوقات الحاجة إلى قيامه بشئونها وناهيك بوزيري الحربية والبحرية

في وقت الحرب ولكن زعماء الجمعية يأخذون المناصب العليا بعلومهم في الجمعية

لا بخدمتهم للدولة.

نعم إن الجمعية اختارت جمال باشا لأجل أن يتم تنفيذ ما توعدت به سورية

من بضع سنين في جريدتها طنين وعبرت عنه بالدش البارد وإنما كانت مذبحة

الكرك وتعذيب العرب برضخ رءوسهم بالصخور هي الرشة الأولى من هذا الدش

وإننا على علمنا بهذا الإنذار وبما هو أشد منه وأوضح وعلى ذكرنا بعض تلك النذر

في مقالات العرب والترك، وغيرها في المنار، قد ارتبنا في أول خبر بلغنا عن

شنق جمال باشا لبعض نابغي المسلمين في بيروت، ولا يزال أكثر المصريين

يكذبون أخبار التقتيل والنفي التي تكررت بل تواترت، وقد ظفرت جريدة المقطم

ببيان لجمال باشا نفسه نشرته في اليوم السابع من شهرنا هذا يصرح فيه بعمله

ويحتج له، وهذا ما نشرته:

***

بيان من جمال باشا

نشر جمال باشا القائد العثماني في سورية البيان التالي بإمضائه في 5 رجب

سنة 1334 الموافق 7 مايو سنة 1916 وهذا هو نصه العربي كما نشر بحروفه:

لما جرى القصاص على بعض الأشخاص المنتسبين في الحزب المتشكل في

مصر والممالك العثمانية تحت تمويه عنوان حرب اللامركزية والذين حوكموا في

ديوان الحرب العرفي بعاليه كنت كتبت في البيان الذي نشرته في أوائل أوغستوس

سنة 1331 أن التحقيقات جارية بصورة دقيقة بحق أعوانهم الأشرار الذين لم يكن

قبض عليهم قبلا.

إن الوثائق السياسية التي عثرنا عليها واعتراف عبد الغني العريسي صاحب

المفيد الذي ألقي القبض عليه أخيرًا بعد أن ذكرنا في البيان قراره واعتراف سيف

الدين الخطيب عضو محكمة بداية حيفا السابق ورفيق رزق سلوم ضابط الاحتياط

ورفقائهم الآخرين قد نور المسألة من جميع أطرافها وسيق إلى ديوان حرب عاليه

الأشخاص الذين ظهر أن لهم علاقة في هذه المسألة بدرجات متفاوتة مع من تبين أن

لهم دخلاً في المساعي الخائنة بتنفيذهم ترتيبات الجمعية وتشبثاتها وأعمالها، وفي

ختام التحقيقات والمحاكمات التي أجراها الديوان العرفي في عاليه صدرت الأحكام

المقتضاة بحق المظنون فيهم من الموقوفين والفارين كل على حسب اشتراكه في

ترتيبات هذه الجمعية التي غايتها ومقصدها سلخ سورية وفلسطين والعراق عن

راية السلطة العثمانية وجعلها إمارة مستقلة، فحكم على شفيق بن أحمد مؤيد العظم

والأمير عمر ابن الأمير عبد القادر، وعمر بن مصطفى حمد، ورفيق بن موسى

رزق سلوم، ومحمد بن حسين الشنطي، وشكري بن بدري علي العلي، وعبد

الغني بن محمد العريس، وعارف بن محمد الشهابي، وتوفيق بن أحمد البساط،

وسيف الدين بن أبي النصر الخطيب، والشيخ أحمد بن حسين طبارة، وعبد

الوهاب بن أحمد الإنكليزي، وسعيد بن فاضل عقل، وبتروباولي، وجريج بن

موسى الحداد، وسليم بن محمد سعيد الجزائري، وعلي بن محمد حاجي عمر،

ورشدي بن أحمد الشمعة، وأمين لطفي بن محمد حافظ، وجلال بن سليم البخاري

بالإعدام لثبوت اشتراكهم في هذه التشبثات بالدرجة الأولى بصورة فعلية، وعلى

من تبين دخولهم في الدسيسة بصورة فرعية سالم بن مصطفى مظلوم بالاعتقال

بالقلعة خمس سنين وتوفيق بن محمد الناطور ويوسف بن نحيبر سليمان بعشر

سنين، وحسين بن خليل حيدر بخمس عشرة سنة، وعلى رياض بن رضا الصلح

بنفي مؤبد، وعلى الأمير طاهر بن أحمد الجزائري بعشر سنين في الكريك، وعلى

الذين مع كونهم لم يقيموا المقصد والتشبث الحقيق وثبت وجود مساع لهم مع هذه

الجمعية بصورة محسوسة إما بسائق الجهل أو التصلف وإنما لم يوجد عليهم وثائق

تنور وجدان الهيئة الحاكمة وتثبت مجرميتهم واشتراكهم وهم رضا الصلح وأسعد

حيدر بإعادتهما إلى منفاهما، وأعطي القرار بمنع محاكمة وبراءة كل من محمد

أفندي كامل الهاشم، إبراهيم القاسم سامي العظم، الشيخ جمال الدين الخطيب، عبد

الحميد معلم الرسم، محيي الدين فريحة البيطار حسين صبري، رشدي الغزي،

عاصم بسيسو الغزي، عزت الأعظمي، مصطفى الكيلاني، عبد الرحيم حنون،

الدقتور حسام الدين، نجيب شقير، الشيخ فتح الله، الدقتور أحمد قدري، سليم

الطبارة، جميل الحسيني، المفتي سعيد أفندي الباني، سليم الشمعة، سليم البخاري،

فائز الخوري، رشيد الخشيمي، عمر الأتاسي، البكباشي علي رضا، الدقتور

أمين قازما، سعيد عدوه، الدقتور عبد الحفيظ اليوزباشي جميل، فريد باشا اليافي،

عثمان العظم.

ومن الذين صدر بحقهم حكم الإعدام وهم شفيق المؤيد، الأمير عمر، شكري

العسلي، عبد الوهاب الإنكليزي، رشدي الشمعة، رفيق رزق سلوم، جرى

إعدامهم هذا الصباح في الشام، والآخرون جرى إعدامهم في بيروت، وسائر

المجرمين صار سَوْقهم إلى منفاهم وحبوسهم وعلى هذه الصورة تقرر إذًا في سورية

وفلسطين السكون والأمن المحتاج إليهما إلى الأبد.

وها أنا ذا أنشر الآن من الوثائق المهمة التي كانت أساسًا لهذه التحقيقات ما

يكشف الغطاء عن حزب اللامركزية الحقيقي وسيُنشر كتاب حاوٍ جميع الوثائق على

حدة مع اعترافات المجرمين المهمة وتاريخ صغير لهذه المسألة.

ومن إمعان النظر في هذه الوثائق يفهم أولاً أن هؤلاء الأشخاص قد ضحوا بلا

تردد جميع ما لديهم من المقدسات الدينية والوطنية لقاء منافعهم الخسيسة والمادية،

إن هؤلاء الأشخاص قد أشركوا مساعيهم ونفوذهم وقدرتهم أعداء الدولة وسعوا في

إعداد الطاعة في الداخل تجاه تجاوزات الأعداء في الخارج.

ومما هو جدير بالتقدير أن إدارة هذه التشبثات لم تتسع بالنظر لما جبل عليه

العنصر العربي النجيب من الصداقة والطاعة والصلابة الدينية العارية عن شوائب

الظنون والشكوك بأسرها، بل حصرت بين بعض أشخاص مسلمين ومسيحين لا

أهمية لهم ولا يكاد يتجاوز عددهم المائتين من المحكوم عليهم حديثًا وقديمًا وجاهًا

وغيابًا.

وبناءً على الصلاحية التي تخولني إياها المادة الثانية من القانون المؤرخ في

14 مايو سنة 1331 المتضمن التدابير التي ينبغي للجهة العسكرية التوسل بها في

وقت النفير العام ضد الخارجين على الحكومة وإجراءاتها فإني ساعٍ في إبعاد أولئك

الأشخاص الذين يتخذون حقوق الدولة ومقدساتها ملعبة في سبيل منافعهم الشخصية

مع من لهم علاقة معهم من أسرهم وعائلاتهم من قريب أو بعيد إلى بعض ولايات

الأناضول، وقد اتخذت الأسباب الكافلة لإعاشة هذه العائلات ورفاهيتهم في المحال

التي ينفون إليها تحت عناية الحكومة السنية وعاطفتها، وسيعطون هناك أراضي

وأملاكًا قيمتها تعادل أملاكهم وأراضيهم التي يملكونها في سورية، وإني أوصي

جميع الأهلين في سورية وفلسطين بالسكينة والطمأنينة، على أنه من الآن فصاعدًا

لم يبق محل لإجراء التعقيبات والإبعاد إلى الولايات العثمانية في حق أحد مطلقًا ما

لم تظهر وثائق قوية تدل على خيانته.

... قومندان الفيلق الرابع وناظر البحرية

...

...

...

...

... أحمد جمال

(المنار)

كل ما احتج به جمال باشا لسفكه الدماء وإجلائه الناس عن أوطانهم

أباطيل، وقد قتل بعد من ذكرهم هنا عددًا ليس بقليل، منهم السيد عبد

الحميد الزهراوي الشهير، وأول أباطيله تسمية القتل برأيه ورأي ديوانه العرفي

قصاصًا، وإنما القصاص في شرع الله أن يقتل الجاني بمن قتله بغير حق، ومعناه

في اللغة يدل على المساواة والمماثلة.

ثم إنه يقول: إن التهمة الموجبة للقتل والنفي هي الاشتراك في جمعية غايتها

جعل العراق وسورية وفلسطين مملكة مستقلة بعد سلخها من راية الدولة، ونحن

نعتقد بطلان هذه التهمة بأدلة كثيرة (منها) أن الحزب الذي جعله أصلاً، للتهمة

التي رمى بها هؤلاء الناس له برنامج معروف مطبوع ينطق بكذب تلك التهمة،

(ومنها) أن هؤلاء الذين اعترف الباشا بقتلهم في هذا البيان لا يوجد فيهم إلا واحد أو

اثنان من الداخلين في هذا الحزب، (ومنها) أننا نعلم باختبارنا لبعضهم واختبار

من تثق به للآخرين أنهم لا يجمعهم رأي ولا مودة ولا سكنى ولا معرفة فكيف

يتفقون مع ذلك على أمر عظيم كالذي اتهموا به؟ وأما الجرم الأكبر الذي يجمعهم

وبه استحقوا العقاب هو أنهم من أذكياء العرب الذين يقولون بوجوب محافظة قومهم

على لغتهم وأن يكون لهم حظ من مشاركة الحكومة في إدارة بلادهم، وأن لبعضهم

ذنوبًا سابقة لا يغفرها الاتحاديون كإهانة شفيق بك لطلعت بك، والسعي لعدم

إقراض أوربة للاتحاديين عشرات من الملايين، يضيعونها وتبقى البلاد رهينة بها

للدائنين، وتوثيق أعضاء المنتدى الأدبي في الآستانة عُرى الإخاء بين طلبة العرب

في مدارس الحكومة فيها، وإهانتهم لصاحب جريدة إقدام التركية في نشر تلك

المقالة التي قال فيها كاتبها: إن الطريقة المثلى للتنكيل بعرب الجزيرة إغراء

بعضهم بقتال بعض بالمال؛ لأن العرب تبيع كل شيء بالمال حتى العرض

والناموس.

ثم إنه يصرح بأنهم أُخِذُوا بالظن فلم تثبت عليهم تلك التهمة باليقين، ولو

ثبتت لما جاز قتل أحد منهم بها شرعًا ولا قانونًا؛ لأنها عبارة عن رأي سياسي لم

يدع قاتلهم أنهم شرعوا في تنفيذه بالخروج على الدولة في أثناء النفير العام الذي حاكمهم بقانونه، وكيف يعقل أن يقوم نفر قليل كهؤلاء بالخروج على الدولة والسواد

الأعظم من قومهم يخالفهم فيه باعتراف جمال باشا نفسه والدولة تحكم بلادهم

بالأحكام العرفية القاسية وجميع شبان الأمة وكهولها جنود مسلحون بين يديها؟ ويا

ليت شعري ما تلك المنافع المادية الخسيسة التي ضحى أولئك الأذكياء الفضلاء دينهم

ووطنهم لأجلها؟ إن كانت ما ذكره من غاية جمعيتهم المزعومة، فتلك غاية

سياسة عالية لا مادية خسيسة، وإن كانت غيرها فما هي؟

_________

ص: 115

الكاتب: أبو الأشبال

‌الكتب المعزوة إلى غير مصنفيها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد

وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد فكثير ما طبعت كتب ونسبت إلى أكابر علماء الإسلام، وهم براء منها،

إما غلطًا وإما قصدًا لتكون نافقة في البيع أو لإدخال أشياء في دين الإسلام ليست

منه، ولا يكون لقائلها من ثقة المسلمين به ما يؤهله لقبول قوله عندهم، فيختبئ

وراء اسم أحد الأئمة المقبولين عند المسلمين، وينحله كتابه، وذلك لما ضاق

بالزنادقة الأمر وحصرت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين

معروفة، وبين فيها الصحيح من غيره، فلم يتمكنوا من وضع الأحاديث عليه كما كانوا يفعلون في أول الإسلام قبل تدوين الحديث، ومفسدة هذه الكتب ظاهرة

للعيان.

رأيت كل هذا فعزمت بحول الله تعالى وقوته على بيان الأغلاط الواقعة في

نسبة بعض الكتب المطبوعة إلى غير أهلها نصيحة للمسلمين، وتزكية لأئمة الدين،

وخدمة للتاريخ، فكلما عثرت بشيء منها نشرته في مجلة المنار الغراء.

ثم إني لا أقصد ببياني هذا طعنًا في أحد من طابعي هذه الكتب فلا يحرجنهم

ذلك فإنما قصدي بها وجه الله تعالى، والله الموفق لا هادي إلا هو.

(1)

من الكتب الدخيلة الموضوعة قصدًا كتاب يسمى (سر العالمين)[1]

ألفه أحد الزنادقة من الفرقة الباطنية، ونحله حجة الإسلام أبا حامد الغزالي رضي

الله عنه، وأدخل فيه كثيرًا من عقائد الباطنية التي كان الغزالي أشد أعدائها، ومن

أكثر العلماء ردًًا على معتقديها، وأدخل فيه كثيرًا من علوم السحر، ثم أراد أن

يحقق نسبة الكتاب إلى الغزالي فصار دائما يحيل في بعض المسائل على كتب

الغزالي كالإحياء والرد على الباطنية وغيرهما، ويقول: فيما كتبناه في كتاب كذا،

أو نحوه، ويذكر كتابًا من تصانيف الغزالي، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن

يفضحه ويبين كذبه كرامة للغزالي وغيرة على حجة الإسلام فإنه قال في صحيفة

83 من الطبعة المصرية: أنشدني المعرِّي لنفسه وأنا شاب، إلخ، وهذا كذب

فاضح، فإن أبا العلاء المعري مات سنة تسع وأربعين وأربعمائة، أي قبل أن يولد

الغزالي بسنة أو سنتين، فإنه ولد سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين

وأربعمائة فليحذر الناس من الثقة بهذا الكتاب وأمثاله فهي مفسدة للدين، وليتق الله

طابعوها ولا يغرروا بعامة المسلمين وليتحر أحدهم صحة نسبة الكتاب إلى المنسوب

إليه.

(2)

من الكتب المنسوبة قصدًا للنِّفاق كتاب يسمى (كتاب الفوائد المشوق

إلى علم القرآن وعلم البيان) نسب إلى الإمام الجليل شمس الدين ابن القيم رضي

الله عنه، وهو كتاب لا بأس به فيه فوائد أدبية، ونكت بلاغية، فصيح العبارة،

ويظهر أن مؤلفه كان من الكتاب المنشئين، لا العلماء المحققين، أمثال إمامنا ابن

القيم، فإن له في بعض المسائل تحقيقات واختيارات سخيفة لا يقولها من شام للعلم

بارقة.

لو لم يكن لشمس الدين ابن القيم بين أيدينا كتب غير هذا لقلنا كاتب يتسخف

ويظن أنه محقق، وأحمق يتكايس ويظن أنه عاقل، ولكن كتب ابن القيم تنادي بقوة

نظره، ودقة بحثه، وكثرة علمه، وبُعد غوره، ولله دره من إمام جليل، وحاش

لله أن يقول في إعجاز القرآن كما قال مؤلف هذا الكتاب فإنه قال في صحيفة

(255)

بعد أن حكى الأقوال في وجه الإعجاز ما نصه: قال المصنف عفا

الله عنه: والأقرب من هذه الأقاويل إلى الصواب قول من قال: إن إعجازه

بحراسته من التبديل والتغيير والتصحيف والتحريف والزيادة والنقصان، فإنه ليس

عليه إيراد ولا مطعن، هذا اختياره وحكايته مثل هذا تُغْني عن رده وضرب

الأمثال على بطلانه [2] .

وأغرب من هذا القول قوله في الصحيفة نفسها بعد أسطر: وقال قوم:

إعجازه من جهة أن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة قائمة بالذات وأن

العرب إذا اتحدوا بالتماس معارضتهم له والإتيان بمثله أو بمثل بعضه كلفوا ما لا

يطاق، ومن هذه الجهة وقع عجزهم وهذا القول أيضا حسن، هذا كلامه بنصه،

وإني أترك للقارئ فهم معنى التحدي بالصفة القديمة فذلك مما يقصر على من أدركه.

وقد اتصل بي أن النسخة الخطية التي طبع عنها هذا الكتاب كانت نسبته فيها

إلى ابن القيم مكتوبة عليها بخط جديد غير خط الأصل فقيل لطابعه لا تنسبه لابن

القيم فلعل كاتب هذه لم يتحر النسبة خصوصًا وأن الكتاب غير معروف في كتب

ابن القيم، فأبى ونسبه إليه فحسبنا الله ونعم الوكيل.

(3)

ومما يلحق بهذا وإن لم يكن منه تمامًا ما وقع في مختصر البخاري

للزبيدي المسمى التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، فقد كتب على طرته في

النسخ المطبوعة بالمطبعة الأميرية والمطبوعة بالمطبعة الخيرية والمطبوعة

بالمطبعة الميمنية ما نصه: للحسين بن المبارك الزبيدي، وهذا غلط فإن مؤلفه هو

أحمد بن المبارك الزبيدي فشيخ ذكره المؤلف نفسه في خطبة كتابه في إسناده إلى

البخاري، وبين المؤلف وبينه ثلاثة شيوخ، والغريب أن كاتب الحواشي التي

بهامش النسخة الأميرية ذكر في أول صحيفة منها اسم المؤلف على الصواب، فلا

أدري كيف كتب هذا وغفل عما في طرة الكتاب، وأما المطبعتان الأخيرتان فتبعتا

المطبعة الأميرية من غير تحرٍّ ولا نظر، وحصل مثل هذا في نسخة شرح الشرقاوي

عليه الذي طبع بالمطبعة الميمنية فإنهم طبعوا بهامشه المتن ونسبوه في طرته

إلى الحسين بن المبارك الزبيدي مع أن الشارح في أول الخطبة ذكر اسم المؤلف

على الصواب انتهى.

...

...

...

...

...

كتبه

...

...

...

...

... أبو الأشبال

...

...

...

...

... عفا الله عنه

_________

(1)

طبع في الهند ثم طبع في مصر سنة 1327.

(2)

طبع أيضًا في مصر سنة 1327.

(3)

المنار: مزية حفظ القرآن من التغيير لم تظهر بمرور الزمن، فلا يتحدى النبي صلى الله عليه وسلم بها العرب.

ص: 120

الكاتب: أحمد زكي أبو شادي

‌دعوة اللجنة التحضيرية

لمشروع جمعية آداب اللغة العربية بلندن

تتشرف اللجنة التحضيرية لمشروع جمعية آداب اللغة العربية بلندن بتوجيه

نظركم إلى منافع هذا العمل المسطورة بإيجاز في ذيل هذا الكتاب آملاً من غيرتكم

التعضيد المادي والأدبي قدر جهدكم حتى إذا اجتمعت الإعانات الضامنة للنجاح منكم

ومن أمثالكم أبرز المشروع إلى حيز الوجود في القريب العاجل تحت رعاية الجمعية

الملوكية الآسيوية التي هي من أعظم الهيئات العلمية الباحثة في آداب الشرق، ولا

يخفى على حضرتكم المظهر الجليل والفائدة الكبرى من تحقيق هذه الأمنية في أكبر

عواصم العالم، وقد لاحظنا أن للمعضدين ميولاً مختلفة ما بين عامل أدبي أو علمي

أو وطني وديني، فلعلكم مدفوعون بعامل أو أكثر من هذه العوامل لخدمة آداب اللغة

الفصيحة العربية، والسعي في نشرها بواسطة هذه الجمعية الدولية التي تعمل

اللجنة على تأسيسها وتوطيد دعائمها.

هذا ولو أن الظروف الحاضرة الاستثنائية ربما عدت غير ملائمة، إلا أن

فَلاح مثل هذا العمل كما تبين لنا بعد درسه يستدعي بذل مجهولات كثيرة تستغرق

زمنًا غير وجيز فمن الصواب إذن عدم التأجيل فحبذا لو ظفرنا بمؤازرتكم لنا،

فجلائل الأعمال إنما تقوم بمساعي الجماعة وتساند الأفراد.

رئيس اللجنة التحضيرية

كاتب سر اللجنة

د. س. مرجليوث

...

...

... أحمد زكي أبو شادي

مقاصد الجمعية

(1)

أن تخدم آداب اللغة العربية بجميع الوسائل التي تسمح بها مالية

الجمعية.

(2)

أن تشجع تعلم العربية السليمة في بريطانيا العظمى وأن تنمي في

أعضاء الجمعية ملكة الترجمة من وإلى العربية وسواها من اللغات حبًّا في الفائدة

العامة.

(3)

أن تكون واسطة تعارف بين الناطقين بالضاد في بريطانيا العظمى

والمستعربين بها، وكذلك بينهم وبين علماء العربية في جميع أقطارها وبين

المستعربين في الممالك الأخرى لتبادل المنفعة الأدبية اهـ.

_________

ص: 123

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مصابنا بالزهراوي والكيلاني

فجعتنا الجرائد المصرية في يوم واحد بنعي الصديقين الوفيين المصلحين

السيدين الجليلين عبد الحميد الزهراوي شهيد بغي الاتحاديين، ومحمد وجيه

الكيلاني شيخ إسلام الفلبين، جاءتنا بذلك في إثر تلك الأنباء التي شقت المرائر،

واستنفدت الدموع من المحاجر، أنباء تقتيل جمال باشا لصفوة أبناء سورية

وأركان النهضة الاجتماعية فيها، فالآن قد صار الفؤاد في غشاء من نبال، فإذا

أصابته سهام أخرى تكسرت النصال على النصال.

خسرت أمة الإسلام وديار الشام وحزب الإصلاح بالزهراوي والكيلاني

رجلين من أفضل رجال العصر عقلاً وذكاء، وأخلاقًا وعلمًا وأدبًا واهتمامًا

بالمصلحة العامة وتقديمًا لها على المصالح الخاصة، وبهذه المزايا تنهض الأمم،

وبفقدها تسقط في مهاوي العدم.

نبت كل منهما في بيت من أكرم بيوتات القطر السوري شرفًا وسؤددًا

وعلمًا ومجدًا، وتربى كل منهما في نشأته الأولى تربية علمية دينية، وأوتي

نصيبًا من العلوم والفنون العصرية، واختبر حال الزمان وأهله، وعرف شدة

حاجة بلاده إلى التأليف بين المختلفين فيها بالأديان والمذاهب والآراء والمشارب

فكانا ركنين من أركان الوفاق، وعاملين من أنفع عوام الإصلاح.

فهذا ما اتفق معنا فيه هذان الصديقان الكريمان، وأما ما اختلف فيه

نشأتهما وسيرتهما فهو أن السيد الزهراوي قد تمرس بالسياسة في حداثته فغلبته

على الاشتغال بغيرها مما كان مستعدًا له كالتوسع والتصنيف في الفلسفة وعلوم

الأخلاق والاجتماع، فكان أفضل ما يرجى نفعه فيه ما وصل إليه من انتخاب

أهل بلاده إياه نائبًا عنهم في مجلس المبعوثين، ولا أقول ثَمَّ تعيين الحكومة إياه

عضوًا في مجلس الأعيان، لأن هذا قد كان بعد جعل الاتحاديين مجلس الأمة

بقسميه آلة لجعل ما تقرره جمعيتهم قوانين نافذة، وأعمالاً منسوبة إلى الأمة،

وكان الغرض منه خديعته وخديعة العرب به، إلى أن تسنح الفرصة لتنفيذ ما

قررته الجمعية من قبل من التنكيل بالعرب والفتك بزعمائهم كما أشرنا إليه في

موضع آخر وسنعود إلى بيانه.

وأما السيد الكيلاني فقد تخرج بالأعمال الإدارية الشرعية فكان من موظفي

مشيخة الإسلام في الآستانة، وبهذا وما سبق من مزاياه كان أفضل من يختار

لما اختير له من جعله شيخا للإسلام في جزائر الفلبين، وكان يتقي شر السياسة

بالمداراة حتى إنه لما عرج على مصر في ذهابه إلى الفلبين تجاهل معرفة

المنار وصاحبه، وهو على مذهبه الإصلاحي ومشربه، لأنه كان يرجو

المساعدة من الخديو وحكومته، وكان الخديو مغاضبا لصاحب المنار من بضع

سنين، وقد أخبرني بعد ذلك أنه كان يفضل طلب المنار من صديقنا السيد محمد

بن عقيل المقيم في سنغافورة على طلبه من مصر، وأنه قد تجدد له من الحاجة

إليه في منصبه الجديد ما لم يكن يعلمه من قبل، وسنعود إلى الكلام في سيرة

هذين الصديقين إن شاء الله.

_________

ص: 124

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مسألة الأزياء والعادات

من مشخصات الأمم

زي الأمة من مشخصاتها ينبغي لها أن تحافظ عليه وأن تحترمه وتحتقر من

يحتقره كما تحترم العلم الذي هو شارة حكومتها، فالعلم لا يحترم لشكله ولا للونه أو

ألوانه، وليس من العقل ولا من الحكمة أن تذم الأعلام أو تُمدح لشكلها أو ألوانها،

وكذلك أزياء الأمم من حيث هي أزياؤها، ولكن بين الزي والعلم فرقًا واحدًا وهو أن

الزي يُقصد به من المنفعة ما لا يقصد بالعلم، فإذا اشترك مع العلم في أن كلاً

منهما مشخص للأمة مهما يكن شكله ولونه وصفته فإنهما يفترقان في أن بعض الأزياء

لا تفي بما يقصد بها من وقاية الجسم من أذى الحر أو البرد أو سهولة القيام

بالأعمال العسكرية والصناعية والزراعية.

ومن الناس من يرجع في اختيار الأزياء إلى مراعاة الذوق والجمال، ولكن

هذا ليس له قاعدة ثابتة، وإنما يستحسن جماهير الرجال في كل أمة ما يختاره

كبراؤها وحكامها، وإنما يعنى بالذوق والجمال في زي النساء وهن في كل آونة

يستحدثن زيًّا جديدًا يبطلن به ما كان قبله مستحسنًا، ولا يرجع ذلك إلى فضيلة في

زي اليوم على زي أمس تثبت بدليل علمي أو عقلي، وإنما فائدة الجديد لهن جذب

الأنظار إلى السابقات إليه، وفائدته المالية لتجار الأنسجة وصناعة الخياطة لا تخفى

ويقابل ربح هؤلاء من الأزياء خسارة المسرفات فيها، فكم من بيوت خربت بمثل

هذا الإسراف.

من أكبر جنايات الأفراد على أمتهم أن يحتقر أحد منهم زيها، ويستبدل به

زي أمة أخرى تقليدًا وتفضيلاً لها، فإذا كان بعض أزيائها ضارًّا بها، فالواجب في

استبدال غيرها به أن يكون برأي أهل الحل والعقد فيها، الذين يراعون في التغيير

المنفعة دون التقليد الذي يبث في الأمة الشعور بمهانتها وتفضيل غيرها عليها، وقد

وفينا هذا الموضوع حقه من البيان في المنار وقبل المنار في كتابنا الحكمة الشرعية

الذي كتبناه في عهد طلب العلم، واقتبسنا منه نبذا في المنار إذ طرقنا باب هذا

البحث مرارًا.

ولست أبحث الآن في أزيائنا هل يحسن تغيير شيء منها وكيف ينبغي أن

يكون التغيير، وإنما أريد أن أقول: إن بعض الإفرنج ينفرون من أزياء الشرقيين

ويكرهون أن يأكل في مطاعمهم الخاصة بهم وبالأغنياء المتفرنجين منا من لا يلتزم

عاداتهم وآدابهم في الطعام، ومنهم من يرى أن كل من لا يلبس الزي الإفرنجي لا

ينبغي أن يأكل في تلك المطاعم، ولهم في ذلك أعذار ومآرب، وقد روت جريدة

وادي النيل الإسكندرية أن اثنين من المعممين دخلا مطعمًا إفرنجيًّا فطُردا منه لأنهما

معممان ، وقالت في لومهما: إنه لا يبعد أن يكونا ذهبا منه إلى آخر مثله لعله

يقبلهما. وأشارت أيضا إلى انتقاد صاحب المطعم الإفرنجي، أما نحن فإننا نختص

باللوم فريقين من أمتنا: فريق الذين يتصدون لمؤاكلة الإفرنج في مطاعمهم، وهم

لا يلتزمون آدابهم وعاداتهم ، ومنهم من لا يلتزم الآداب الإسلامية التي هي أرقى

الآداب، وفريق المتفرنجين الذين يحتقرون زي أمتهم وعاداتها وآدابها، ويستبدلون

بها غيرها تقليدًا للأغيار وتفضيلاً لهم على أنفسهم، ويكونون آلة لإضعاف

مشخصات أمتهم ومقوماتها وهم لا يشعرون بما وراء ذلك كما يشعر به غيرهم،

ومن أراد أن يعرف رأي الإفرنج في ذلك فليقرأ خطبة الدكتور سنوك المستشرق

الهولندي في الإسلام ومستقبله التي ألقاها في جامعة كولومبيا من الولايات المتحدة،

وقد نشرنا ترجمتها في المجلد السابع عشر من المنار مع تعليق طويل عليها [1] ،

ومن أراد أن يعرف قيمة هؤلاء المتفرنجين في نفس الإفرنج فليقرأ ما كتبه في

شأنهم لورد كرومر في كتابه (مصر الحديثة) .

من أهان أمته باحتقار شيء من مقوماتها أو مشخصاتها بإزاء احترام ما يقابل

ذلك من أمة أخرى فقد احتقر نفسه أشد الاحتقار، وما قيمة الرجل الذي ليس له أمة

محترمة في نفسه، ومن ذا الذي يكرم من يحتقر نفسه باحتقار أمته.

ومن لم يكرم نفسه لم يكرم

إذا ما أهان امرؤ نفسه

فلا أكرم الله من يكرمه

يجب على كل من أوتي نصيبًا من الفهم أو حظًّا من الشرف أن يقاوم جهد

طاقته كل ما فيه احتقار لأمته مهما يكن رأي المحتقر وقصده، ومن ذلك أن لا يأكل

أحد من المصريين في مطعم يهين أصحابه مصريًّا لزيه أو عادته أو غير ذلك، ولا

أن يشتروا شيئًا من تاجر يهين مصريًّا، ويجب على أمثال هؤلاء أن يبذلوا جهدهم

لمنع الإهانة عن أمتهم وإغنائها عن معاملة كل من يقصر في احترامها، وإنما

يتيسر هذا بتعاضد الأندية والجمعيات الأدبية والشركات التجارية.

كانت شركات البواخر الإفرنجية في الخط الذي بين الهند وخليج فارس

وشط العرب تحتقر المسافرين فيها من العرب والفرس ولا تسمح لهم بالأكل على

مائدة الدرجة الأولى فلما أنشأ تجار العرب في بومبي شركة البواخر العربية زال

ذلك الاحتقار وبطلت تلك المعاملة.

واتفق لي منذ بضع عشرة سنة أنني دخلت مطعمًا سوريًّا في القاهرة وقت

العشاء وجلست إلى مائدة من موائده فطلب رجل إنكليزي أن أترك تلك المائدة؛ لأنه

يجلس إليها للطعام ولا يحب أن يأكل مع شيخ أزهري، فلم أبالِ بطلبه، فطلب من

صاحب المطعم ذلك فاعتذر إليه بأنه لا يمكنه ذلك، وقد سألت عن اسم الرجل

وعمله وذكرت ذلك لصديقي مستر متشل أنس الذي كان وكيلاً لنظارة المالية وقتئذ

فاستاء من ذلك وكتب كتابًا إلى رئيس ذلك الرجل في مصلحة السكة الحديدية كلفه

فيه أن يلزمه الاعتذار إليّ، وأخذت الكتاب بنفسي وعدت راضيًا مكرمًا.

ولا يخفى على عاقل أن ما نحتاج إلى اقتباسه من علوم أوربة وفنونها

وصناعاتها لا يقتضي هذا التفرنج الذي نذمه ولا يأتي من طريقه بل ينافيه؛ لأن

التفرنج تقليد في الأزياء والعادات يحدث التفرق في الأمة وانحلال روابطها واقتباس

العلم النافع والعمل الرافع يجب أن يكون بطريق الاستقلال لا التقليد، وأن تراعى

فيه حاجة الأمة في العمل ويقصد به ترقية ثروتها وعزة دولتها، ولم نرَ هؤلاء

المتفرنجين من الترك والمصريين ساروا على ذلك الدرب وصلوا إلى هذه الغاية،

بل هم الذين نسفوا ثروة بلادهم وقطعوا روابطها حتى وصلت إلى ما هي عليه،

وليس في بلادهم شيء من العمران إلا وقد كان بعمل الأجانب ومعظم فائدته لهم،

وإنما سار على ذلك شعب اليابان الذي شرع في اقتباس الفنون الأوربية بعد الترك

والمصريين منا، فكل طلاب العلوم منهم في أوربة يتلقون العلوم العملية، إذ يتلقى

الطلاب منا العلوم النظرية والسياسية، وكانوا مثال الجد والعمل والاقتصاد، إذ كان

أكثر طلابنا مظهر الفسق والسرف والفساد.

وإليك من العبرة هذا المثال: كان بعض الأوربيين والأوربيات مع بعض

اليابانيين في بلاد اليابان فخلع ياباني نعله في المجلس، فأنكر عليه ذلك بعض

الأوربين؛ لأن خلع النعال أو الجلوس بغير نعلين مستهجن في عاداتهم ولا سيما

حيث يوجد النساء، فقال الياباني: أنا ياباني لا أوربي وهذه البلاد يابانية لا أوربية

فبأي حق تطالبوننا باتباع عاداتكم في بلادنا والواجب عكسه؟ أو قال كلاما بهذا

المعنى، فهذه هي الوطنية لا ما يتشدق به المتفرنجون الذين لا يعقلون عاقبة ما

يأتون وما يدعون.

قلنا: إن اقتباس الفنون النافعة من الغربيين، وكذا ما يستلزمه من اعترافنا

بجهلنا وبحاجتنا إلى علمهم، لا يعد احتقارًا للأمة بل إصلاحًا، ونقول أيضًا: إننا

في حاجة إلى الإصلاح في كثير من العادات الضارة، وإن ذلك لا يعد احتقارًا للأمة

وطالما كتبنا في ذلك، ومن أبواب المنار الواسعة باب: البدع والخرافات والتقاليد

والعادات، وإنما الواجب أن نعتمد في هذا الإصلاح على شريعتنا وهي أكمل

الشرائع وآداب ديننا وهي أكمل الآداب.

_________

(1)

راجع ص201 و268م17.

ص: 125

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌آراء الخواص في المسألة العربية

واستقلال الشريف في الحجاز

في ليالي رمضان وأيام عيد الفطر، تيسر لي أن أعرف من آراء أهل العلم

والرأي بمصر في المسألة العربية، واستقلال الشريف أمير مكة في الحجاز ما لم

يكن يتيسر في وقت آخر من السنة، لكثرة التزاور في هذه الليالي والأيام، وتوسّع

الناس فيها بالكلام كتوسعهم بالطعام، وقد جرت فيما بيننا وبين كثير من أساتذة

الأزهر والمدارس العليا وكبار القضاة والمحامين والأطباء، وغيرهم من أهل الرأي

مذاكرات، ومحاورات طويلة في هذه المسألة جديرة بأن تنشر وتدون؛ لأنها ربما

كانت أهم مسائلنا الحاضرة، ووقائع تاريخنا التي نحفظها لأعقابنا الآتية، فرأينا أن

ننشر في المنار أطول محاورة منها وأجمعها للمقاصد، ثم نلخص في الخاتمة صفوة

الآراء كلها، وبذلك تتم الفائدة من تلك الأحاديث بغير تكرار ولا عبث، وهذه

المحاورة كانت بيننا وبين أستاذ معروف باعتدال الفكر واستقلال الرأي؛ وقد وقعت

في اليوم الثاني بعد عيد الفطر، وها هي ذي - ونعبر عن الأستاذ بحرف (ذ)

وعن نفسنا بحرف (د) .

ذ - ما رأي الأستاذ في استقلال الشريف أمير مكة بالحجاز، فإني رأيت

كثيرًا من إخواننا، ومعارفنا لا يعد ذلك أمرًا ذا بال، ومنهم من لم يصدق أخبار

الجرائد، حتى إن أخانا الشيخ (أ) قال لي في إحدى ليالي رمضان عقب نشر

البلاغ الرسمي عن استقلال الشريف: إنه لا يعرف أحدًا صدق هذا الخبر من قبل،

أو؛ لأنه هو لم يصدقه أيضًا إلا بعد نشر البلاغ الرسمي.

وإن من الناس من لا يصدق البلاغ الرسمي نفسه! وما أظن أن الأستاذ على

رأي هؤلاء، ولا أنك تقول: إن هذا الأمر ليس بذي بال.

د- صدقت، إن هذا الأمر لذو بال، وإنه قد شغل مني البال، وهيج البلبال.

وإنني مخالف لهؤلاء الناس الذين أصبحوا لا يهتمون بشيء من الأشياء، ولا

يصدقون من الأنباء إلا ما يلذ لهم، ولا يقبلون من الآراء إلا ما يوافق أهواءهم؛

ولذلك راج بينهم رأي تلقوه بالقبول، وهو أن الشريف لم يعلن الاستقلال إلا

لضرورة إنقاذ البلاد من المجاعة، التي أوقعها فيها الحصر البحري أو كاد؛ فقد

امتنع بذلك وصول الأقوات إليها من مصر والسودان والهند، وجل قوتها من هذه

البلاد، حتى قيل: إن إردب القمح صار في مكة ببضعة جنيهات، فعذر الشريف

في إظهار دعوى الاستقلال جلي ظاهر؛ وهو لا يزال مخلصًا للحكومة التركية في

الباطن، وليس له غرض في إيجاد حكومة عربية، ولا طمع في خلافة قرشية،

ولولا ذلك لقاتلته الدولة، هذا هو الرأي الرائج في البلد.

أما أنا فلا أجزم بقبول هذا الرأي ولا برده، وإن كان معقولاً في نفسه؛ لأني

أعلم أنه قد وجد في عالم السياسة مسألة تسمى المسألة العربية، ولكن لم أقف

على كنهها، ومبلغ قوتها، ولا على مكانها من الشريف، ومكان التشريع منها،

وأعلم أيضًا أن الحجاز ليس فيه الاستعداد المطلوب لإنشاء دولة، ولا القوة التي

يتوقف عليها استقلال الخلافة، وحياة أهله موقوفة على الدولة التي تملك التصرف

في البحار، والدولة ذات السيادة على بلاد الشام، فإذا مُنع عنه القوت من هنا

وهناك مات أهله جوعًا، ثم إن المشهور أن أمراء جزيرة العرب وزعماءها

متحاسدون متباغضون {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} (الحشر: 14) ولولا سيطرة الدولة

العثمانية عليهم لأفنى بعضهم بعضًا.

والشريف - إذا كان يأمن بطش الدولة الآن، فهو لا يجهل أنها إذا بقي لها

استقلالها بعد هذه الحرب أمكنها الانتقام منه، وإزالة إمارة الحجاز، وجعلها ولاية

عثمانية محضة. وإذا زال استقلالها، وفرضنا أنه أمن على استقلاله من صاحب

عسير وصاحب نجد فإنه ليس بالذي يكون الملك المستقل الذي يطلبه العرب، ولا

بالذي يجدد الخلافة الإسلامية التي يحرص على استقلالها جميع مسلمي الأرض؛

لأن الاستقلال بأمر الملك والخلافة يتوقف على الثروة والقوة، وأين هما من الحجاز

وأين الحجاز منها؟

فلهذه الأفكار تراني مضطربًا في هذه المسألة، وأنا أعلم أن عند (السيد) من

أخبار هذه المسألة والاختبار فيها ما ليس عندي، ولا عند أحد من المصريين، فهو

أعلم منا بشئون جزيرة العرب وشئون أمرائها، وأعلم منا بظاهر الحركة العربية،

وباطنها وأحوال أحزابها وجمعياتها.

كما أنه أوسع منا علمًا بأحوال الدولة العلية، وأوسع اختبارًا لها وأكثر تتبعًا

لما يتجدد من أخبارها، يعترف له بهذا من يقرأ بروية وإمعان ما يكتبه في هذه

المسائل في مجلته، وإنني أود أن أقف على ما عنده في مسألة الحجاز من رأي

ورواية بالتفصيل، وقد تعرضت لهذا غير مرة فلم تكن حالة المجلس أو الوقت مما

يسمح للسيد بالإفاضة في ذلك؛ فعسى أن نستفيد الآن ما فاتنا من قبل.

د - لم أنس أن باب الحديث في هذه المسألة قد فتح بيننا مرتين قبل هذه المرة،

فكان الكلام فيها وجيزًا لضيق وقته، على أن الحديث شجون، والإنسان يتذكر

في وقت ما ينساه في آخر، فإذا ذكره محدثه تذكر، وإنني لا أبخل على الأستاذ بما

عندي في هذه المسألة من رأي أو خير أرى فيهما فائدة له، فإذا حدثته بشيء لم يره

كافيًا فله أن يستزيدني من الحديث بالسؤال عما يريد منه، ولا بأس بإعادة شيء

مما كنا ألهمنا به من قبل؛ وأبدأ ببيان ما عندي في مسألة استقلال الشريف فأقول:

إن الشريف لم يدَّع ملكًا ولا خلافة، فلا كلام لنا في ذلك، وما ذكرته لي من

الرأي الذي دار بين كثير من المصريين في سبب استقلاله في الحجاز وتلقوه

بالقبول، قد سمعته من غيرك أيضًا. وهو رأي - كما قلت - معقول، وعذر

الشريف فيه مقبول، ولا سيما إن كان الاستقلال صوريًّا كما تظنون، فإنه مسئول

عند الله، وعند الناس عن إنقاذ سكان حرم الله - تعالى - وحرم رسوله - صلى

الله عليه وسلم - من الهلاك، وإزالة الموانع التي منعت أكثر المسلمين من الحج

إلى بيت الله الحرام، ولا سبيل إلى هذا وذاك إلا بإزالة الحصر البحري عن ثغور

الحجاز، الذي كان سببه وجود الجنود التركية فيها، فإن دولة إنكلترا كانت

صرحت باستثناء سواحل الحجاز من الحصر البحري الذي ضربته على جميع

السواحل العثمانية؛ وسمحت بنقل الأقوات من الهند، وغيرها إلى تلك البلاد

المقدسة ، ثم إنها لما علمت بإرسال أنور باشا لكثير من الجنود التركية إلى الحجاز

منعت إرسال الأقوات إليه؛ لأن الجنود يستفيدون منها، وقد كان من المستغرب

تموينها لبعض بلاد أعدائها، ولكن تموينها لجيوشها غير معقول، وإنما المعقول

ضده، ولولا احترامها للبلاد المقدسة لضربت سواحلها بمدافع أسطولها ولجعلتها من

ميادين الحرب أيضًا، ولكن إزالة الشريف أمير مكة للسبب الذي أوجب الحصر،

ومنع القوت والحج، مناوأة للدولة التركية أو الاتحادية؛ لأنه تصدٍ لقتال جنودها،

ورفع سيادتها عن البلاد التي هو أميرها.

فالشريف قد اضطر إلى الاستقلال بالأمر في الحجاز ونبذ سيادة هذه الحكومة

الاتحادية ظهريًا، ونحن نخالف مَن يرى أن هذا الاستقلال صوري وأنه كان

بالتواطؤ بينه وبين الدولة، ومن يرى أنه لا يزال مخلصًا لهذه الحكومة، وأنها هي

راضية عن فعله وعاذرة له فيه؛ لأننا نعلم أن إزالة منع القوت ومنع الحج ليس هو

الباعث على هذا الاستقلال، ولكنه من لوازمه، وهنالك بواعث وأسباب أخرى له

سنلم بها في حديث.

ذ - إذاً لماذا لم تجرد الدولة جيشًا لقتاله؟ ولماذا حاصر هو الجيش التركي

حصارًا، ولم يناجزه القتال؟

د - أما الشريف فيمنعه دينه من الإقدام على سفك الدم في أرض الحرمين

الشريفين من غير ضرورة ملجئة لا مندوحة عنها، وأما الدولة فالمانع لها من

إرسال جيش جديد لقتاله، إما العجز وإما العقل. أما العجز فهو الآن غير بعيد؛

لأن جنود الدولة متفرقون في عدة ميادين من أوربة وعدة ميادين في الأناضول

وإيران والعراق وسورية وسيناء فهي لا تستغني عن جيش كبير يصلح ما عطل

من سكة حديد الحجاز، ويبقى قسم منه في مواضع متفرقة من الطريق لحمايتها،

ويسير قسم منه لإنقاذ حامية المدينة، ثم الزحف منها إلى مكة مع حفظ طرق

مواصلاته من مركز تموينه وإمداده في الشام إلى مكة.

وأما العقل فيقتضي عدم التصدي لقتال الشريف الآن، حتى في حال القدرة

وانتفاء العجز؛ لأن قتاله يُضعِف الدولة في الميادين الأخرى، وربما يستتبع خروج

عرب الجزيرة كلهم أو جلهم عليها، فيتسع الخرق على الراقع والسكوت عنه لا

يضر الدولة الآن، فإن انتهت الحرب بظَفَرها مع أحلافها، أمكنها أن تتصرف في

الحجاز بما تشاء، وإن انكسرت مع أحلافها فلا معنى لاهتمامها بأمر استقلال

الحجاز، يفرق المنتصرون حينئذ شمل وحدتها، ويخشى أن يزيلوا ما كان من

استقلالها، بل المعقول أن يتمنى كل مسلم من تُرك الدولة كعربها أن تسلم بلاد

الحجاز، وسائر بلاد العرب في أيدي الاتحاديين لرجحنا أن العقل يمنعها من قتال

الشريف إن لم يمنعها العجز.

وأما الاتحاديون فقد جعلوا من أصول سياستهم إضعاف العرب حتى لا يكون

لهم حقوق مع الدولة إن بقيت، ولا استعداد للاستقلال بأنفسهم إن سقطت؛ ولسان

حالهم مع العرب في هذه الحالة يقول:

اقتلوني ومالكًا

واقتلوا مالكًا معي

وقد سمع من أفواههم كثير من طلاب الإصلاح من العرب ما يدل على مثل

هذا من مقاصدهم عندما كانوا يتكلمون معهم في حقوق العرب في الدولة وفي أحوال

أخرى، ألا ترى أنهم اتخذوا حالة الحرب ذريعة لتنفيذ مقاصدهم في العرب؟ فكان

المعقول أن يثبتوا لعرب الولايات صدق وُعودهم بالإصلاح ويفوا لهم بعهودهم التي

عقدوها مع السيد الزهراوي عقب عقد المؤتمر العربي، ويزيدوهم على ذلك من

الإصلاحات الداخلية ما يملكون به قلوبهم كما ملكوا أبدانهم وأموالهم، فاستعملوها

في هذه الحر ب كما شاءوا وفي أمثالنا العربية (عند الشدائد تذهب الأحقاد) ولكن

أمثالها لا تصدق على طباعهم وأخلاقهم، بل تضادها وتناقضها، فالشدائد كانت

عندهم مظهرة للأحقاد في أقبح مظاهرها وأشنع مناظرها، فبعد أن جنّدوا جميع

شبان سورية والعراق وفرقوهم في الميادين البعيدة عن بلادهم كالدردنيل والبلقان

والأناضول.

وبعد أن صادروا الأموال والغلال في تلك البلاد، طفقوا يقتلون أولي العلم

والعرفان وكبار الضباط، وسائر أرباب العقول والأفكار في كل من القطرين)

السوري والعراقي (وينفون الكبراء والأغنياء، ويستولون على ديارهم وأموالهم.

وبعد أن رأوا مأربهم هذا قد تحقق بغير معارضة ولا مقاومة ولَّوْا وجوههم

شَطر الحجاز، لا لأجل الصلاة إلى المسجد الحرام، ولا لأجل الطواف بين الرُّكن

والمقام، فإنهم لم يكونوا من الطائفين ولا المصلين، ولكن ليفعلوا في الحجاز ما

فعلوا في العراق والشام، حتى إذا تم لهم هذا الأرب، أجهزوا على بقية جزيرة

العرب.

ذ - إني أعلم أن السيد سيئ الاعتقاد في دين هؤلاء الاتحاديين، وفي

سياستهم، وقد قرأت كل ما كتبه في السنين الخالية عنهم، ولكنني رأيته قد سكت

عن ذلك الطعن الشديد فيهم بعد حرب البلقان، ثم تنسمت عطفه عليهم من بعض ما

كتبه قبيل دخولهم هذه الحرب وفي أثنائها، وكنت أظن أنه كجمهور المصريين لم

يصدق أخبار المقطم والأهرام، عن فظائع جمال باشا في بلاد الشام، حتى قرأت

المقالة التي نشرتموها في الشهر الماضي، فعلمت أنكم مصدقون لتلك الأخبار،

وتتوقعون أن يكون لها تأثير سيئ في الحجاز، وسائر جزيرة العرب.

د - نعم: إنني تركت تلك الحملات على الاتحاديين بعد حرب البلقان، وفي

أثناء هذه الحرب؛ لأن الحملة عليهم تعد حملة على الدولة، ولا ينبغي ذلك في

أثناء الحرب، وإن كان بِنية صالحة، وبقصد الإصلاح كما بينت ذلك في المقالة

التي نصحت بها بمثل هذا لمسلمي سورية قبيل دخول الدولة في الحرب، ثم إنني

صدقت ما أتوه من التنكيل بالعرب في الشام؛ لأنه ثبت عندي بالتواتر، فكتبت تلك

المقالة، وأطلعت عليها بعض إخواننا قبل أن تجيئنا البرقيات بنبأ استقلال الشريف،

وإن نشرت بعد ذلك، ثم علمت بعد نشرها أن أنور باشا ما زار سورية والحجاز

في أوائل هذا العام إلا ليتولى بنفسه إرسال الجند والسلاح إلى الحجاز للقضاء على

سلطة الشرفاء فيه.

وإن قيل: إنه جاء بصنيعة جمعيته الشريف علي حيدر من الأستانة إلى الشام

أو المدينة ليجعله خلفًا للشريف حسين أو أميرًا للحجاز في المدينة، فإذا هذا الخبر،

فالغرض الصحيح منه أن يضربوا الحديد بالحديد لما في ذلك من المفاسد الكثيرة

التي يطلبونها، فإذا أمكن للشريف حيدر وأخيه الشريف جعفر أن يؤلبا بعض عرب

الحجاز على الشريف حسين بمال الدولة الذي يؤيدان به نفوذهما، سهل على قائد

الجنود التركية بعد إضعاف عرب الحجاز أن يستبد بالنفوذ في الحجاز من غير

خسارة تذكر ولا صيت قبيح ينشر، ثم إنهم بعد الفتك بالشريف حسين، وأولاده

يفتكون بالشريفين حيدر وجعفر، كما فتكوا بصديقي الشريف حيدر (عبد الكريم

قاسم الخليل والسيد الزهراوي) بالمجيء من باريس إلى الأستانة بعد أن أنذر المرة

بعد المرة، بأن في ذهابه إليها خطرًا على حياته، ولم يكن الشريف ضامنًا له الأمن

على حياته فقط، بل كان ضامنًا له الإصلاح الذي وعد به الاتحاديون وأكثر مما

وعدوا، وقد رغب إلي هو وعبد الكريم أن أكتب إلى الشريف حيدر كتاب شكر

لحُسن سعيه في هذا السبيل.

إنني على ما أعلم من سوء نية الاتحاديين، وخبث ما أضمروه للعرب قد

كنت أحسنت الظن بأنور باشا عند ما جاءنا المقطم بخبر زيارته لسورية والمدينة

المنورة، ولعل الأستاذ يتذكر أنني قلت له حينئذ: إن أنور باشا ما جاء سورية

وفلسطين والمدينة إلا ليصلح ما أفسده جمال باشا حتى لا يصل سوء تأثيره إلى

جزيرة العرب، وليستعين بعرب الحجاز وغيرهم على هذه الحرب، فإن أنور باشا

هو الذي تولى في أول هذه الأزمة استمالة عرب الجزيرة بما كتبه إلى أمرائهم

وزعمائهم من المكتوبات العربية المزينة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقد

اطلعت على صور بعض هذه المكتوبات العامة والخاصة، ومنها الكتاب الذي حمله

رسول خاص إلى عدوهم الذي لم يعترفوا له بصفة رسمية قط -أعني السيد

الإدريسي - وهو يعظمه فيه ويبجله، ويظهر الثقة به.

ثم علمت في هذه الأيام أنه كان طلب من الشريف أمير مكة المكرمة نجدة

عربية لمساعدة حملة سيناء على مصر، وأن الشريف أرسل الحملة إلى المدينة

المنورة، وهي التي تحاصرها الآن، فإن الشريف لما رأى الجنود التركية ترسل

إلى الحجاز بعشرات الألوف، وتوزع في مدنها وثغورها، وهو يعلم كما نعلم وتعلم

الدولة أن الحجاز ليس عليه أدنى خوف من الدول الأوروبية، فلم يبق لإرسال

الجنود إليه سبب يُعقل -والدولة في أشد الحاجة إلى الجنود - إلا التنكيل بعربه

والفتك بشرفائه إتمامًا لبرنامج جمعية الاتحاد والترقي الذي يعرفه الشريف كما

نعرفه، وقد كانوا حاولوا البدء بالشريف قبل هذه الحرب؛ إذ أرسلوا الضابط

وهيب بك أحد غلاتهم المتحمسين خفية إلى الحجاز، وبعد وصوله إلى مكة أظهر

التقليد الرسمي الذي معه بولاية الحجاز، وقيادة حاميتها، وكان من أمر خذلان

عسكره في التحرش بقتال العرب ومحاولة الفتك بالشريف ما هو مشهور؛ فلهذا

تحولت الحملة الحجازية التي ألفت إجابة لطلب أنور باشا للقتال مع جنوده في

سيناء إلى حملة تحاصر جنوده في المدينة المنورة، وتقاتلهم إذا قاتلوها.

ذ - إذا كان الشريف عالمًا من قبل بما تضمره جمعية الاتحاد والترقي للعرب

عامة، وله ولأهل بيته خاصة، فلماذا كان ينصر الاتحاديين حتى إنه حارب السيد

الإدريسي لأجلهم، وكاد يحارب أمير نجد ابن السعود كذلك.

د - لا أدري متى عرف ذلك معرفة لا تحتمل التأويل، وقد كان أولاً يتأول

للاتحاديين، ويرجو صلاحهم حتى كان بعض رجال النهضة العربي يتهمونه

بمشايعتهم وبكراهة السيد الإدريسي أن يكون ذا سلطة في عسير، وينقل عنه،

وعن أهل بيته أنهم يقولون: إنهم لا يؤيدون الاتحاديين فيما تقوم به جمعيتهم من

الأعمال، وإنما يؤيدون الدولة نفسها فيما تقرره ويرون أن الاعتصام بها، وإن

جارت على العرب، وغيرهم أرجح من مقاومتها، ولو سرًّا لئلا تفضي المقاومة

إلى التفرق الذي يضيع به العرب مع الترك، وإن الطريقة المثلى لتلافي ما يرى

ضارًا من أعمالها، إنما هي طريقة السعي لديها والاجتهاد في إقناعها بضرر الضار

ونفع النافع، وهذا الرأي والمسلك لم يكن مرضيًا عند الأحزاب السياسية العربية

من كل وجه، بل كانوا يرون أنه كان يجب أن يكون الشريف أمير مكة مخلصًا

للدولة ومؤيدًا لها فيما صار في حيز الأمور التنفيذية فقط إلا قتال العرب.

وأما ما لم يصل إلى حيز التنفيذ فينبغي أن يكون حزبه فيه معارضًا لحزب

الاتحاديين بعد ظهور عصبيتهم الجنسية وظلمهم للعرب، ولكن نجله مبعوث مكة

المكرمة كان مع سائر مبعوثي الحجاز من الاتحاديين، وكذلك أخوه الشريف ناصر

العضو في مجلس الأعيان من حزبهم ولم يغن كل هذا شيئًا، ولا صد الاتحاديين

عن محاولة تنفيذ ما كانوا يضمرون للشريف الأكبر وأهل بيته، وإنما يكرهون هذا

الشريف وأولاده؛ لأن لهم من النفوذ في عرب الحجاز ما ليس لغيرهم من الشرفاء.

قلت آنفًا: إننا لا ندري متى عرف الشريف الأكبر حقيقة حالهم، ويئس من

صلاحهم؟ وقد ظهر لنا أنه يئس من بقاء الدولة العثمانية أيضًا، ولعله لولا هذا

اليأس ما نهض بهذا الأمر.

ذ - إن من الناس من يرى أن الدولة ما سلمت من خطر اليأس، وعظم

الرجاء فيها إلا بدخولها في هذه الحرب؛ إذ صارت به ركنًا من أركان أحد

الحِلفين العظيمين الذيْن تتألف منهما الدول الأوروبية الكبرى، ومشايعاتها من الدول

الصغرى، وقد نقل إلينا (المقطم) أن من شروط محالفتها لألمانية أن لا تقبل هذه

صلحًا إلا بشرط حفظ استقلالها، والصلح لا بد فيه من رضاء الفريقين، وإن كان

أحدهما مغلوبًا، فاستقلال الدولة العلية مضمون على كل حال؛ فكيف يعقل أن

ييأس منه الشريف، وهو من أركان الدولة الذين هم أعلم منا بحالها وبشروط

محالفتها التي منها ما ذكر.

د - إذا كان في الناس من يرى أن استقلال الدولة مضمون، وإن غلبت مع

أحلافها في هذه الحرب، وكان أعداؤها هم المقررين لشرط الصلح، فإن في الناس

من يرى أن هذا الاستقلال قد زال بالفعل، وإن انتصر الألمان مع أحلافهم،

وتحكموا في شروط الصلح، أما بقاء استقلال الدولة بعد انكسارها وانكسار أحلافها

فغير معقول، وأما الرأي الذي يقابله في الغرابة، وهو زوال استقلالها في حال

انتصارها وانتصارهم، فلأصحابه وجه جدير بالتأمل، وهو أن الدولة قد غرقت

في بحر لجِّيّ من الديون، وخسرت أكثر الشبان العاملين في المملكة، وأفقرت

الأمة كلها بمصادرة أموالها واستنزافها بأسماء متعددة، وكان عجز ميزانيتها قبل

حرب البلقان، وهذه الحرب اللتين أفقرتاها وأفقرتا أمتها يسد باقتراض الملايين في

كل عام؛ وقد زادت ديونها الآن زيادة كبيرة حتى صار ربا الديون يستغرق معظم

الميزانية، التي لا بد أن تنقص عما كانت نقصًا فاحشًا.

ومن البديهي أنها لا تجد بعد الحرب من يُقرضها كما كانت تجد قبلها؛ وليس

أمامها من الأمم الغنية إلا الأمة الألمانية، وقد ذهبت قروض الحرب لدولتها ودول

أحلافها بمعظم ثروتها، فلن تُقرَض دولة وصلت ماليتها إلى حد الإفلاس ما تلم به

شعثها إلا إذا جعلت مالية الدولة، وجميع موارد الثروة في المملكة تحت تصرف

دولتها، يديرها الألمان الماليون والفنيون.

فإذا تدبرنا هذا وعلمنا أيضًا أن الدولة قد جعلت حربيتها وبحريتها في أيدي

الألمان، وجعلت تعلم لغتهم إجباريًّا في جميع مدارس المملكة الأميرية وغيرها،

وتذكرنا أن الألمان يملكون عشرين كيلو مترًا على جانبي سكة حديد بغداد في خط

يمتد من ضفاف البوسفور إلى بغداد، فأي استقلال يكون للدولة بعد قبض الألمان

على إدارة المالية والحربية، والمعادن والمناجم مع امتلاك هذه الأراضي الواسعة

التي تضاهي مساحة مملكتهم؟

كان لبعض الألمان المقيمين في بلجيكا قبل الحرب ملعب أو ملاعب للكرة

يلعب فيها أهل البيت والعيال، فلما اقتحم الجند الألماني بلاد البلجيك المضمون

استقلالها منهم، ومن سائر الدول الكبرى ظهر أن ملعب الكرة إنما بُني بطريقة فنية

هندسية، ليكون مركزًا للمدافع الضخمة المكتوم خبرها عن غير أركان الحرب من

الألمانيين، وأن المسافة بين الملعب، وبين الحصون البلجيكية هي مسافة مرمى

تلك المدافع التي دَمرت تلك الحصون.

فإذا كنا قد استفدنا من عبر هذه الحرب أن ملعب الكرة لعيال ألماني في زمن

السلم كان خطرًا على الدولة التي ملك الألماني في بلادها ذلك الملعب مع أن دولته

ضامنة لاستقلالها، فهل نتصور أن تسلم من الخطر دولة يملك الألمان التصرف في

جميع قواها المالية والحربية والعلمية والفنية، ويملكون في قلب مملكتها تلك الألوف

من الأميال، التي هي محل العمران المنتظر فيها؟

ولدينا عبرة أكبر من هذه العبرة، وهي ما نقله إلينا (المقتطف) في جزء

مارس من هذه السنة من مقالة للكونتس ورك (الأميرة الإنكليزية) عنوانها (ملك

الإنكليز وإمبراطور الألمان) قالت فيها عن الملك إدوارد ما نصه:

(وزارني مرة قبل وفاته بثلاثة أشهر لتناول الشاي عندي؛ وتكلم عن

الإدارة الألمانية، فقال: (لو كانت بلادنا تدار كما تدار ألمانية لاستفدنا فائدة كبيرة،

ويا حبذا لو حَكَمَنَا الألمان المدة الكافية لإصلاح إدارتنا) ، قال ذلك وصمت قليلاً،

ثم قال وهو يضحك: (ولكن المصيبة أنهم إذا أتوا ليحكمونا تعذر علينا الخلاص

منهم) وهذا آخر حديث جرى لي معه؛ لأني لم أره بعد ذلك) اهـ واستدلت

الأميرة بهذا الحديث على أن الملك لم يكن يضمر العداء لألمانية. وإثبات هذه

القضية هو الذي كتبت لأجله المقالة.

فإذا كان هذا الملك السياسي العظيم، يقول: إن دولته التي هي أعز الدول

وأعظمها دعاءً وتدبيرًا، يتعذر عليها الخلاص من الألمان إذا دخلوا عاصمتها

لتنظيم الإدارة، وهي في جزيرة يحميها أقوى أسطول عرفته البحار منذ خلقها الله -

تعالى -، فهل يتيسر للدولة العثمانية الضعيفة الخلاص منهم بعدما ذكرنا من

تصرفهم المنتظر بعد الحرب إن كان لهم الظفر، وما تصرفهم فيها الآن بقليل؟

هذا وإن علة الحرب الحقيقية هي التنازع الاستعماري، ولم يبق للبلاد القابلة

للاستعمار ما يُشبع مطامع ألمانيا، ويتسع مجاله لشعبها الكثير، وفنونها وصناعاتها

إلا البلاد العثمانية، وقد كانت دول الأحلاف تعارضها في استعمارها الاقتصادي مع

إبقاء الدولة العثمانية على استقلالها السياسي الصوري، فإذا انتصرت في هذه

الحرب لم يبق لها معارض من الترك ولا من الأوربيين.

ذ- والله إن هذا الكلام معقول في نفسه، ولكن لا يعقل أن يجهله الاتحاديون،

فكيف رضوا إذًا بموالاة الألمان؟ أيعقل أن يكون في يد أناس ملك عظيم فيبذلوا

دماءهم وأموالهم لأجل إضاعته؟

د- لو كان رجال البيت السلطاني، وكبراء علماء الدولة وسرواتها من قدماء

الوزراء والأعيان، هم الذين قرروا بالتشاور بينهم القتال مع ألمانية وتحكيمها في

الدولة لكان هذا السؤال أكثر اتجاهًا، والجواب عنه متعسرًا ولا أقول متعذرًا. أما

وزعماء الاتحاديين هم القائمون بذلك، وهم أوثاب لا تُعرف لغير الإسرائيلي

الأصل منهم أنساب، وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الاستبداد بهذا الملك بمساعدة

اليهود الجرمانيين - فالجواب سهل، وللناس فيهم رأيان يؤخذ من كل منهما

جواب.

***

سبب تسليم الاتحاديين الدولة للألمان

(الرأي الأول) : رأي سمع كثيرًا من خصومهم، وهو أنهم جماعة من

طلاب المال والثروة، علَّمهم أعلم البشر بطرق تحصيلها -وهم اليهود- كيف

يكونون من أغنى أهل العصر بسلب ثروة هذه الدولة، ثم ببيعها لدولة الألمان

الغنية؟ ويستشهد أصحاب هذا الرأي على صحته بأنهم لو كانوا يريدون بقاء

الدولة وتعزيزها، لبدءوا علمهم فيها بوضع ماليتها على أساس ثابت، يكثر به

الدخل، ويقل الخرج، ولو أرادوا ذلك لكانوا أقدر الناس عليه بمساعدة أساتذتهم

وإخوانهم من اليهود الأصليين والدونمة (الذين منهم جاويد بك الذي جعلوه ناظر

المالية، وفوضوا إليه عقد القروض) ولكنهم اغتنموا فرصة ما سموه (حركة

الارتجاع) فعزلوا السلطان عبد الحميد ونهبوا من أمواله وجواهره وتحفه ما

تقدر قيمته بالملايين الكثيرة، وقد حدثني الثقات من أهل الأستانة، أنهم كانوا

يدخلون قصر (يلدز) فيملئون جيوبهم من تحفه المرصعة بالجواهر، حتى إن

بعض ضباطهم رئي بعد امتلاء جيوبه يضع العلب والمسدسات المرصعة،

وأمثالها في حذائه الطويل (جزمة السواري) ثم اغتنموا فرصة وصول جيش

البلغار إلى شطاجة فسلبوا ما هو أعظم من ذلك من جواهر ملوك آل عثمان وتحفهم

المحفوظة في قصر قسطنطين إذ زعموا أنهم إنما يريدون إخراجها من مأمنها،

وإرسالها إلى الأناضول لئلا يدخل البلغار الأستانة فيغتنموها، وقد عقدوا القروض

بعشرات الملايين، ولهم من كل قرض سمسرة مشهور أمرها، وكثر الكلام في

الأستانة فيها، ثم إن ما يصل إلى الخزينة منها يتصرفون فيه بضروب من

التصرف منها النفقات السريعة التي لا تذكر في الميزانية، وأعظمها ما يخصص

للحربية والداخلية، وهم يشترون السلاح والذخائر والثياب والأحذية للعسكر بثمن،

ويقيدونه في دفاتر الحربية بثمن آخر فيربحون من ذلك مبالغ كبيرة.

والدليل على هذا أنهم أنفقوا في نِظارة الحربية خمسين مليونًا من الجنيهات

قبل حرب البلقان، ثم كان أهم أسباب انكسار جيش الدولة في البلقان قلة الذخائر،

وقلة الطعام وسائر ما يتوقف عليه القتال. وقد أذكرتنا مصادرتهم للأمة في هذه

الأيام بما كانوا يصادرون به الأغنياء منذ صار أمر الدولة في أيديهم - إذ كانوا

يهددون كل غني بالانتقام منه؛ لأنه من الحزب الحميدي الارتجاعي - إلا أن يفتدي

نفسه بما يناسب مقدار ثروته (فأخذوا من علي رضا باشا الذي كان ناظر الحربية

في العهد الحميدي مئتي ألف ليرة، ومن زهدي باشا 30 أو 40 ألف ليرة وعلى

ذلك فَقِسْ) ثم إنهم فوضوا على كل من دخل جمعيتهم دفع اثنين في المئة من جميع

دخله، وذلك فوق ما فرضه الله من الزكاة على الأغنياء فيما فضل عن نفقاتهم،

وبلغ النصاب وحال عليه الحول.

نعم: إن الألوف من الذين انتسبوا إلى الجمعية، كانوا يكتمون عنهم ما يمكن

كتمانه من دخلهم، ومما لا يمكن كتمان شيء منه، رواتب موظفي الحكومة، وقد

دخل كلهم أو جلهم في الجمعية، وقد باعوا البوسنة والهرسك وطرابلس الغرب

بعدة ملايين.

فالذين يعرفون سيرتهم هذه بالتفصيل يعتقدون أن زعماء الجمعية، لا هَمَّ لهم

من حياتهم إلا جمع الثروة، وهم لا يضمنون بقاء الدولة لهم ولذريتهم من بعدهم؛

فلذلك باعوها للألمان بهذه الصفة التي استعملوا فيها جميع قوى الدولة في قتال

أعدائهم، وستكون كذلك في أيدي الألمان إن انتصروا يستعملون نفوذ الاتحاديين،

وقوتهم على السلطان ودولته في استعمار المملكة العثمانية، ويؤيدون الاتحاديين

على خصومهم السياسيين من الترك والعرب إلى أن تنشب براثنهم في كل شيء،

ويستغنون عن الاستفادة من اسم الدولة ونفوذها الديني، ويأمنون معارضة الدولة

فيصرحون بإزالة هذا الاستقلال الصوري الخادع.

(الرأي الثاني) : رأي أصدقاء الاتحاديين - وهو مبني على رواية لا يكاد

يعرفها إلا قليل منهم، سيذكرها في بيان هذا الرأي - وهو أنهم لم يبيعوا المملكة

بيعًا، ولم يفرطوا بشيء من حقوقها، وكل ما أخذوه من الأموال للجمعية، قصدوا

به أن تكون الجمعية غنية؛ لتتمكن بقوة الثروة من الفوز على خصومها من رجال

العهد القديم المحافظين على التقاليد العتيقة المنافية لما يريدون من التجديد المدني

للدولة والأمة، وخصومها من الأحزاب السياسية المخالفة لها في مذهبها السياسي

والاجتماعي، كتتريك العناصر وغير ذلك، وأما ما أعطي لبعض زعماء الجمعية

كالدكتور ناظم وأحمد رضا فهو تعويض عما خسروا في سبيل الجمعية، وما عدا

ذلك، كسمسرة القروض والامتيازات فهو قانوني.

ولما رأوا أن الدولة ضعيفة فقيرة لا يُرجى أن تنهض بنفسها، والأمة التركية

جاهلة متعصبة للقديم، ولا سيما إذا كان من أمر الدين فلا يُرجى أن يكون نهوض

الدولة من قبلها، ولا يمكن ترقيتها هي أيضًا من قِبل الدولة، والدولة كلها

على هذه الحالة - لما رأوا أن الدولة والأمة - كما ذكر - جزموا بأن العلاج الوحيد

للدولة التركية، والأمة التركية هو أن تتولى دولة أوروبية قوية تنظيم الدولة وترقية

الأمة وجعلها كالدول الأوروبية والأمم الأوروبية من كل وجه، ولم يجدوا دولة من

الدول العظمى، ترضى بأن تقوم بهذه الخدمة للترك إلا ألمانية - وهي أرقاهن علمًا

وقوة عسكرية - فمازالوا يخطبون ودها حتى عقدوا معها اتفاقًا سريعًا قبل هذه

الحرب بسنين على تكوين دولة تركية جديدة على طراز الحكومات، وغيرها مما لم

نعلم تفصيله، وإنما نعلم منه بالإجمال أن الترك يكونون من الألمان بمنزله أبناء

عمهم المجر من النمسا ولذلك تُكثر جرائدهم من المقابلة بين الترك والمجر،

وتتساءل عما قدم أولئك وأخّرهم، وهم من أصل واحد!

ومن المعلوم بالبداهة أن مثل هذا الإنفاق لا يمكن تنفيذه بصفة رسمية إلا إذا

صدق عليه مجلس الأمة من المبعوثين والأعيان، وأن الاتحاديين ما كانوا يتجرءون

على عرضه على المجلس، خوفًا من انتقاض أكثر أفراد حزبهم عليهم،

وانضمامهم إلى الأحزاب المعارضة، وبذلك يقضى عليهم قضاء لا مرد له، فكانوا

يمهدون السبيل إلى جعل مثل هذا رسميًّا بأعمال كثيرة لا تتم عادة إلا في سنين

كثيرة؛ لأن السواد الأعظم من الأمة يراه خطرًا بل قضاءً على استقلال الدولة،

وعلى دين الأمة، وقد كان المعارضون في المجلس أقوياء، ومعظم الأمة على

مذهبهم؛ ولذلك أسقطوا الاتحاديين وانتزعوا منهم السلطة، ولكن حزب الحرية

والائتلاف الذي انتزعها لم يتول أمرها، ولا تيسر له أن يكفل وزارتي الشيخين

مختار باشا وكامل باشا، فلذلك تيسر للاتحاديين بقوة ثروتهم وتكافلهم، ومساعدة

اليهود وألمانيا لهم أن يعودوا إلى انتزاع السلطة من وزارة كامل؛ ومن الغريب أن

إنكلترا وروسيا وفرنسا المعارضات لسياسة ألمانية في الدولة لم ينصرن الأحزاب

المعارضة للاتحاديين، ولا وزارتي مختار باشا، وكامل باشا، فكان هذا ضعفًا

منهن من حيث هو رجحان للسياسة الألمانية في الدولة، وقد كان الميالون إلى

تفضيل مودة إنكلترا، ومن عساه يكون معها من الدول على مودة ألمانيا وأحلافها

أكثر عددًا وأرسخ في الدولة قدمًا، ولكنهم خذلوا بخذل الدول التي يميلون إليها

للدولة في حرب البلقان.

والكلام في إيضاح هذا الرأي وتفصيل المسائل التي تتعلق به يطول فنكتفي

منه بما لا نخرج به من موضوعنا، وملخصه أن الاتحاديين متفقون مع الألمان من

قبل هذه الحرب بسنين على وضع زمام الدولة بأيديهم ليرقوها بعلومهم وفنونهم

العسكرية وغيرها، فكانت هذه الحرب وسيلة لتنفيذ ذلك الاتفاق السري الذي كان

يُظن أنه لا يمكن تنفيذه إلا بعد تمهيد السنين الطوال كما قلنا آنفًا. وإنني قد سمعت

خبر هذا الاتفاق السري في الأستانة؛ إذ كنت فيها سنة 1328 ممن يظن اطلاعهم

على مثل ذلك وهم قليل، والمخالفون منهم للاتحاديين كانوا يظنون أن تنفيذه

مستحيل؛ ولهذا كنت جازمًا عند وقوع الحرب بأن الدولة ستدخل فيها قطعًا؛ إذ

كان سفير الإنكليز في الأستانة ورجال حكومتهم في لندن يظنون أن بين زعماء

الاتحاديين خلافًا في ذلك، وأن بعضهم يميل إليهم وإلى أحلافهم، كما علمنا ذلك من

الكتاب الأبيض بعد فكان خداعهم للأحلاف في هذه الحال وخداعهم لفرنسا قبله؛ إذ

أقرضتهم عشرات الملايين مما يفخرون به، وما هم في هذا الفخر بملومين.

***

مكان زعماء الاتحاديين من الدين

ذ- يظهر أن زعماء الاتحاديين قد أوتوا حظًّا عظيمًا من الذكاء فكيف خفي

عنهم ما قررت من الخطر على الدولة في تسليم أزمَّة أمورها للألمان؟ وكيف خفي

عنهم الفرق بين الترك والمجر، حتى ظنوا أنهم يمكن أن يكونوا من الألمان بمنزلة

المَجريِّين من النمسا؟ ألم يعلموا أن المجر يشاركون النمساويين بأعظم المقومات

الاجتماعية، وهو الدين؟ فلا يمكن أن يكون الترك المتعصبون في الإسلام الذين

تمثل دولتهم الخلافة الإسلامية متحدين بالألمان المتعصبين في دينهم المجدين في

تنصير المسلمين في مستعمراتهم الإفريقية، ومنع انتشار الإسلام فيها كما علم ذلك

من الأوراق التي اكتشفها الإنكليز هذا العام في تواصي الحكام الألمان بذلك؛ وقد

تذكرت بها كلامًا لقيصر الألمان في هذا المعنى، نشرته الجرائد منذ سنين أظن أنه

في الحث على اتفاق مبشري الألمان البروتستنت مع الكاثوليك على تنصير

المسلمين [1] .

د- اعلم أيها الأستاذ أن زعماء الاتحاديين الذين كلامنا فيهم ملاحدة لا يدينون

دين الإسلام ولا غيره، وهذا ثابت من أقوالهم وأفعالهم يعرفه جماهير العلماء

والكبراء في الأستانة وغيرها، وجميع السياسيين في أوروبا، وهم يتمنون خروج

الشعب التركي من الإسلام، ولو بالتدريج الممكن إلى الوثنية بشرط أن يبقى تركيًّا؛

لأنهم يظنون أن الإسلام هو العلة المانعة من مساواته للشعب المجري وغيره من

الشعوب الأوروبية. ويشاركهم في هذا الرأي غيرهم من ملاحدة الترك.

ولما كنت في الأستانة نشرت جريدة (إقدام) الشهيرة -وكانت معارضة

للاتحاديين- مقالة في المقابلة بين الترك والمجر، وتساءلت عن سبب ما بينهما من

الفرق في العلم والمدنية مع الاتفاق في النسب، ورغَّبت الترك في التشبه بالمجر،

وسلوك طريقتهم والاتحاد بهم.. وقد رغبت يومئذ إلى السيد الزهراوي رحمه الله

تعالى - في كتابة ردّ عليها يقال فيه: إن أعظم الفروق بينهما الدين واللغة، فهل

تنصح الترك بأن يتركوهما معًا ليكونوا كالمجر في كل شيء أو يتركوا الدين

الإسلامي أو اللغة التركية لأجل ذلك؟

فقال: إن الحكومة لا ترضى بنشر مثل هذا. وكان الاتحاديون يتقربون إلى

الأوربيين بالإلحاد وبمكاشفتهم باعتقادهم، أن البقاء على الإسلام مانع من ترقي

الترك. واجتهدوا في استمالة نصارى السوريين إليهم بهذا وبإيهامهم أن العرب

المسلمين لن يتفقوا معهم لتعصبهم الديني.

أما مذهب الاتحاديين السياسي فهو إنشاء دولة تركية محضة متحدة بالتحالف

الجرماني، وأن الترك لا يمكن أن يندغموا في الجرمان بسبب هذا الاتحاد بحيث

يفنون فيهم، لأن المحافظة على اللغة التركية تمنع من فناء الشعب التركي المؤلَّف

من عشرات الملايين في الشعب الألماني أو غيره.

ذ- أين عشرات الملايين من الترك والمشهور أنهم لا يكادون يبلغون في

الدولة ستة ملايين؟

د- إنهم يعدون مسلمي القوقاز وتركستان منهم، ويظنون أنهم سيأخذون هذه

البلاد بقوة ألمانية، وأنهم لا بد أن يكرهوا جميع الشعوب العثمانية على ترك لغاتهم

إلى اللغة التركية حتى العرب، وبذلك يكون لهم إمبراطورية كبيرة منظمة على

النمط الألماني، ومن أمانيهم في هذا الخيال أن يملكوا مع الألمان الشرق كله أو

العالم كله. وأما الخلافة الإسلامية فيستخدمون نفوذها الديني في سياستهم وحروبهم

إلى أن يتم لهم إفناء الأمة العربية وتكثير النابتة التركية التي يربونها على الإلحاد

وتحريف الإسلام عن أصله بجعل القرآن تركيًّا وتفسيره بمثل ما رأيناه في كتاب

(قوم جديد) وغيره من كتبهم، ويستغنوا عن مخادعة المسلمين والاستفادة منهم باسم

الخلافة والإسلام، فعند ذلك ينبذونها نبذ النواة، ويجعلون يوم إلغائها عيدًا من

الأعياد، فحاجتهم إليها مؤقتة كحاجة أحد ظرفاء السوريين إلى البرنيطة.

ذ- بعيشك فَكِّهْنَا بخبر برنيطة هذا السوري الظريف، لعله يدفع عني الرعب

الذي كاد يساورني من تصور هذا الخيال التركي الاتحادي الغريب.

د- هو الدكتور.. قال: إنه يلبس البرنيطة، لأنها تزيد في ربحه، وفي

احترامه، كما ثبت له ذلك بالتجربة، وإنه يتمنى أن يستغني عنها، وقد وعد

أصدقاءه بأن يدعوهم عندما يثبت عنده ذلك الاستغناء إلى احتفال عظيم حتى إذا ما

انتظم عقد اجتماعهم يوقد نارًا يحرق بها البرنيطة أمامهم ويرثيها بأحسن مما رثى

به الفارياق حماره، ويسمى ذلك الاحتفال احتفال إحراق البرنيطة.

ذ- أود أن تخبرني ببعض ما لديك من الدلائل التي لا تحتمل التأويل على

كفر زعماء الاتحاد، فإن بعض ما يدل على ذلك قد يحتمل التأويل، وهذه مسألة لا

يجوز الأخذ فيها إلا باليقين.

د- إن ما عندي في ذلك كثير جدًّا، إذا أردت بسطه ودفع ما يمكن أن يورد

عليه من الشبهات فلا يتم لي ذلك إلا بتأليف سِفْر كبير.

وإذا أردت أن أحصي في هذا الباب جميع ما أعلم من أقوالهم وأفعالهم للدين،

وما نشروه في كتبهم الجديدة وصحفهم من العبارات المنفِّرة عن الإسلام أو الدالة

على مذهبهم السياسي الذي ذكرته آنفًا - فلا بد لي من تأليف عدة أسفار، ولا بد أن

تكون قد قرأت ما ترجمناه من كتاب (قوم جديد) في - ص539-544 م17 -

سنة 1322 من المنار [2] ورأيت كيف حرَّف فيه القرآن، وجعل القيام والصلاة

والحج والزكاة، والعمل بكتب فقه الأئمة الأربعة، هو دين قدماء المسلمين الذين

يعبر عنهم بكلمة (قوم عتيق) ، وصرح بعدم جواز العمل بتلك الكتب، وعلل ذلك

بأنها مملوءة بالنفاق والشقاق، وبين في مقابل ذلك أركان دين (قوم جديد) وهي

العقل وكلمة الشهادة والأخلاق الحسنة والجهاد مالاً وبدنًا والسعي لإعداد لوازم

الحرب بالاتحاد تحت راية الخلافة الإسلامية العثمانية.

وصرح بكفر جميع المسلمين من رعايا دول النصارى، والذين تحت حمايتهم،

وبأن المسلمين الحقيقيين هم الذين حاربوا في البلقان (تحت إمرة أنور ورضا

وأسعد وجاويد ورءوف - صلى الله تعالى عليهم - وبقية رجال جمعية الاتحاد

والترقي المقدسة) ثم صرح بأن عدد الذين ينتمون إلى الجمعية في حرب البلقان لا

يتجاوز مئة ألف، وهم المسلمون الحقيقيون.

قال (أما الباقون فكانوا من المرتدين المنتمين إلى الائتلاف) أي: حزب

الحرية والائتلاف (والبطر كخانات، وهو بفضل أنور وطلعت وجمال وغيرهم

من زعماء الجمعية على الخلفاء الراشدين، وجميع الأئمة والأولياء الصالحين، بل

هو يقدس جميع الترك التابعين لهؤلاء الزعماء بمثل ما تراه في تلك النبذة المترجمة

منه (ص 54 م17) فإنه بعد مخاطبته للترك بأن الله قدمهم، وبأن تعظيمهم لخلفاء

العرب، ووضع أسمائهم في المساجد يعد إذلالاً لخلفاء الترك) الذين قدستهم

الأحاديث النبوية - بزعمه -، وبعد إنكاره عليهم تعظيم الأولياء من العرب

كالجيلاني، والبدوي وغشهم للترك بأنه سيخرج من العرب مهدي.

بعد تفصيل هذا، وزعمه أنه تحقير للترك قال (أما سمعتم الآية

{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} (العاديات: 1) فإن الله قدس بهذه الآية الجيوش التركية،

فخيل هذه الجيوش هي أشرف وأقدس أضعافًا مضاعفة من شرافة وقداسة رؤساء

وأشراف الشعوب الأخرى الذين تقدسونهم وتحترمونهم) اهـ وليس هنالك الذين

ذكر أنهم يعلقون أسماءهم في المساجد وهم: النبي صلى الله عليه وسلم

والخلفاء الراشدون. الأربعة والحسن - رضوان الله عليهم-.

وقد جعل الاتحاديون عبيد الله أفندي مؤلف هذا الكتاب مدرسًا في جامع آيا

صوفية لينشر هذه الأفكار في شهر رمضان، وجعلوا حوله الجلاوزة والشُّرَطَة

(البوليس والضابطة) يحمونه من اعتداء المسلمين عليه، ولكن من يطعن في

جمعيتهم أو بعض زعمائهم فلا جزاء لهم إلا القتل اغتيالاً، أو صبرًا أو بمحاكمة

قضائية أو عُرفية.

ذ- إن مؤلف هذا الكتاب مجنون أو معتوه، وتحريفه للقرآن أشد تشويهًا

وأظهر بطلانًا من تحريف الباطنية، فكيف يظن هو وزعماء الاتحاديين أن مسلمي

الأتراك يتلقونه بالقبول فيؤثر في نفوسهم؟

د- حقًّا إن هذا الرجل يكاد يكون مجنونًا، ويحتمل أن يكون سبب غلوه هذا

عن خبث ودهاء، والذي يظهر لي أن لهم في مثله غرضين (أحدهما) فتح باب

الجرأة للملاحدة الترك على التصريح بالكفر قولاً وكتابة، ليكون مجال القول عندهم

واسعًا في الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وفي الخلفاء الراشدين، وأئمة

آل البيت النبوي، وأئمة الفقه والصوفية، ولهم كُتّاب آخرون سلكوا غير هذه

الطريقة في هذا الباب، كالدكتور عبد الله بك جودت صاحب مجلة (اجتهاد)

التركية، وأحد مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي الأولى، فإنه يترجم بالتركية

مطاعن (كايتاني) المؤرخ الإيطالي في النبي صلى الله عليه وسلم ونشر

كتابه في هذه السيرة التي شوه جمالها، وانتقص كمالها ببهتانه وسوء تأويله، فكان

له رواج وتأثير قبيح عند طلبة مدرسة الطب وغيرهم في الأستانة.

(والغرض الثاني) نشر ذلك بين عوام الترك الذين لا يعرفون من الإسلام

إلا اسمه؛ لعلمهم بأنهم يقبلون كل كلام يقرأ عليهم في كتاب، وتؤيد فيه المسائل بما

يسند إلى الله ورسوله من الآيات والأحاديث مهما تكن محرمة والكلام في هذه

المسألة يطول، فأكتفي منه في هذا المجلس الذي طال عليك بروايتين من علماء

الأستانة، وبعض القضاة الاتحاديين.

(الرواية الأولى) كان إسماعيل حقي المناسترلي - رحمه الله تعالى - من

أشهر علماء الترك في الأستانة في دار الفنون (المدرسة الجامعة التركية) وهو

الذي صلى بالسلطان محمد رشاد إمامًا للجمعية في (قصره) عند زيارته لها،

وكان استماله الاتحاديون بعد الدستور بجعله عضوًا في مجلس الأعيان، وجعل ولده

كاتب السر لطلعت بك، فكان جمهور علماء الأستانة يصفونه بالنفاق بدعوى أنه

مال إلى الاتحاديين، وأنه لا ينكر عليهم، فيظن العوام أنه راضٍ عنهم، ولكن هذا

الشيخ الكبير لما عرفني حق المعرفة، ووثق بي كان لا يعبر عن الاتحاديين في

الحديث معي بداره إلا بلقب (الملاحدة) .

وقد سألني عن رأيي في فطين أفندي: أمسلم هو أم زنديق ملحد؟ فقلت: ما

الذي أثار هذه الشُّبهة في نفسك حتى شككت في إيمان رجل من أهل العلم؟ قال: يا

سيدي يظهر لنا أن الجمعية تثق به ثقة تامة. فهذا العالم الجليل المختبر لهم حق

الاختبار كان يعتقد أنهم لا يثقون ثقة تامة بمؤمن مسلم، فصار مديرًا للمرصد

الفلكي الذي أنشئ في ضواحي الأستانة وهو ذو همة ونشاط.

وظني فيه أنه كان يريد استخدام نفوذ الجمعية لبعض المقاصد التي يراها نافعة

فيخدمها لهذا خدمًا نافعة، ويتوهم أنه قد يقوّم بعض اعوجاجها كما يعلم من

الواقعة التي أقصها عليك:

لقيت فطين أفندي مرة يتكلم مع (الدكتور ناظم) المرخص المسئول للجمعية،

وأعظم رجالها نفوذًا فيها، فلما أقبلت عليهما. قال الدكتور: هذا فلان يحكم بيننا،

ثم قص علي أنه اختلف مع الدكتور في مسألة مهمة قال: الدكتور يقول: إنه

يستحيل علينا الترقي المطلوب إلا إذا نبذنا كل قديم، واتبعنا خطوات فرنسة (؟)

في تجديد شباب الدولة والملة 0 أي: الأمة) وأنا أقول: إننا محتاجون إلى اقتباس

الفنون عن الأوروبيين عامة، لا من فرنسا خاصة؛ لأجل ترقية صناعتنا وحربيتنا

وماليتنا، وأما الأمور المعنوية كالآداب والفضائل والشرائع، فإننا نقتبسها من ديننا وما عندنا فيه أكمل مما عند غيرنا، وهو خير لنا.

ولكن الدكتور قال: إن هذا كله قد صار رثًّا باليًا لا ينفع فلا بد من التجديد

في كل شيء، هذا ملخص حديثهما، ولا حاجة إلى بيان ما أيدت به رأي فطين

أفندي، بل أقول لك: إنني أكبرته من ذلك اليوم، ولكن العبرة في شك الشيخ

إسماعيل حتى في عقيدته؛ لأنه رأى أن زعماء الجمعية يثقون به وإن لم يعرف

درجة هذه الثقة، وقد عرفت رأي جمهور علماء الأستانة في إسماعيل حقي هذا،

وكذلك رأيت كثيرًا من المتدينين يعتقدون أن زعماء الجمعية كلهم ملاحدة، لا دين

لهم، ومن هؤلاء كثيرون كانوا محافظين على الانتساب إلى الجمعية، يرون أن في

هذا خيرًا لهم أو مصلحة للدولة والأمة، ومنهم ألوف تركوها إلى حزب الحرية

والائتلاف.

(الرواية الثانية) لما جئت بيروت عائدًا من الهند إلى مصر من طريق

العراق، وسوريا زارني قاض من قضاة الترك الأهليين ببيروت اسمه (شوكت

بك) كان كثير اللهج بالجامعة الإسلامية، وإيهام مسلمي بيروت وغيرهم أن

الاتحاديين يرمون بسياستهم إلى هذه الجامعة، وكان ذلك في عهد وزارة مختار باشا،

والناس يجاهرون بلعن الاتحاديين، ولا سبيل إلى استمالتهم إليهم إلا بإيهامهم أنهم

يخدعون الإسلام ويجتهدون في جمع كلمة أهله، فكان أول حديث شوكت بك معي -

بعد مجاملة السلام - السؤال عن مسلمي الهند، وإظهار الاهتمام بشأنهم.

وانتقل من ذلك إلى مسألة الجامعة الإسلامية، وما يزعمه من ميل الاتحاديين

إليها، فقلت له: إن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان الاتحاديون أنفسهم ملاحدة غير

مسلمين إلا في الاسم فقط، فكيف يقومون بهذه الخدمة في الإسلام؟

قال: إن الحكم عليهم جميعهم بالإلحاد فيه مبالغة، ولعل الملحدين منهم لا

يزيدون على ثلاثين في المائة. قلت: الظاهر أنك أسوأ ظنًا مني فيهم، فأنا أعني

بمن حكمت عليهم بالإلحاد زعماءهم لا جميع من انتمى إلى الجمعية، فإن لي

أصدقاء كثيرين ممن دخلوا في هذه الجمعية لا ريب عندي في إسلامهم ولا في

صلاحهم، منهم من تركها بعد العلم بحقيقة حالها ومنهم من يرى من المصلحة

العامة أو الخاصة بقاءه فيها. وقد صرح لي بذلك كثير منهم. وذكرت له أنني

اختبرت أكبر أولئك الزعماء بنفسي في الأستانة، ووقفت على ما كان من اختبار

أصدقائهم وغير أصدقائهم لهم، وذكرت له رأي الزعيم الأكبر الدكتور ناظم الذي

ذكرته في الرواية الأولى، قال: نعم؛ إن الزعماء لا دين لهم (دين سر) ولكن

مسألة الجامعة الإسلامية تفيد الدولة فائدة سياسية عظيمة، فهم لذلك يهتمون بأمرها

قلت: إنني أعلم أنهم يشتغلون بتأسيس جامعة تركية لا إسلامية عامة، وقد بثوا

دعاتهم لهذه الجامعة في القوقاز وتركستان.

ولو كانوا يريدون الجامعة الإسلامية لاهتموا بتعليم اللغة العربية ونشرها،

ولكنهم يجتهدون على إماتتها، وكيف يتعارف المسلمون بغير لغة يتفاهمون بها.

إنني طفت كثيرًا من ممالك الهند فلم أدخل بلدًا منها إلا ووجدت فيه كثيرين يتكلمون

معي بالعربية، ولا يكاد يوجد فيها أحد يعرف التركية، ولا توجد داعية تحفِّزهم

لتعلمها، وأما اللغة العربية فداعية تعلُّمها الدين، وهي تزداد في هذه الأيام انتشارًا

في الهند وجاوه

إلخ.

***

خلاصة المحاورة، وفصل الخطاب فيها

ذ- لقد أطلت عليك، وأخذت حظًّا عظيمًا من وقتك، وقد اقتنعت مما سمعت

منك بأن هؤلاء الاتحاديين ملاحدة لا يدينون بدين، وأنهم مقهورون يسول لهم

الغرور أنهم يستطيعون أن يهدموا بناء هذه الدولة وهذه الأمة، ثم يبنونهما بناء آخر

زينه لهم اليهود، ووضع رسمه لهم الألمان، وأن ذلك يتم لهم في سنين معدودة،

ولذلك لم يسلكوا طريقة التدريج التي مضت بها سنة الله في خلق الأرض

والسماوات؛ وأحب أن تلخص لي كلامك بجمل مختصرة.

د - (1) إن الشريف أمير مكة المكرمة يعتقد أن الاتحاديين ملاحدة يكيدون

للدين الإسلامي على ما لهم فيه من المنافع السياسية والمالية، فمثلهم كمثل المعتصم

في حصن لعدو له، وهو يرى أنه لا بد له من تركه ويخشى أن يصير إلى عدوه،

فهو على انتفاعه ببنائه وبما فيها من الخبرات يضع الألغام تحته لينسفه عند إرادة

تركه.

(2)

إنه يعلم أيضًا أنهم أشد الناس عداوة للعرب، وأن بغضهم لهم أشد من

بغضهم للروم والأرمن لسببين، أحدهما: أنهم أعظم أركان الإسلام وأنصاره،

وثانيهما: أنهم أكبر الشعوب العثمانية وأكثر عددًا، وأنه قد وجد في بلادهم

الحضرية كثير من أصحاب المعارف العصرية والأفكار النيرة، وما زالت بواديهم

والبلاد التي هي أقرب إلى البداوة ذات بأس شديد وقوة حربية لا يستهان بها. فلا

يتم لهم ما يتخيلونه من تأسيس دولة تركية لا دين لها لأمة تركية محضة إلا إذا

أبادوا هذا الشعب العربي الكبير الناصر للإسلام ولذلك عقدوا النية على ترك بلاده

الخصبة المتعلمة بالقوة القاهرة، وعلى إذلال أهل الجزيرة العربية الأشداء

بإضعافهم، ونزع السلاح منهم وإلقاء العداوة بينهم، وجعل بلادهم المقدسة تحت

سلطة عسكرية اتحادية لا دين لها حتى لا يستطيعوا أن يقوموا بعمل ديني ولا

دنيوي.

(3)

إن الشعب التركي غيور على الإسلام، وشديد التعصب له، وقد

عرف عنه المبالغة في التعصب ما لم يُعرف مثله عن العرب، ولكن خضوعه للقوة

التي تسود عاصمة بلاده أتم من خضوع سائر الشعوب العثمانية؛ بل هو شعب لا

يعمل إلا بالقوة العسكرية، ولا تعمل به إلا القوة العسكرية، وقد غلب حزب ملاحدة

الاتحاديين حزب العلماء، وجميع الأحزاب السياسية العثمانية بقوة الجند والمال،

كما علم من كلامنا السابق، فلم يعد الشريف يرجو من إسقاط قوة الاتحاديين أعداء

الإسلام والعرب بقوة الأحزاب التركية ما كان يرجوه من قبل، فانحصر وجوب

مقاومتهم في العرب وحدهم.

(4)

إن الشريف يعلم، كما يعلم العارفون وكل من له إلمام بأموال الدولة

أن ملاحدة الاتحاديين قد سلبوا سلطان الدولة وخليفتها نفوذه وجميع حقوقه، حتى ما

هو مدوّن في قانونهم الأساسي، فأصبح المسلمون بغير إمام شرعي لا حقيقي

مستوفٍ للشروط الشرعية، ولا متغلب يطاع لضرورة جمع الكلمة، وإنما

المتصرف في الدولة جمعية الاتحاد والترقي الملحدة، فالسلطان محمد رشاد لا نفوذ

له الآن في المملكة ولا في قصره، ويسميه أهل الأستانة (المهردار) للجمعية؛ أي:

صاحب الختم الذي وظيفته أن يختم لها كل ما تأمر بختمه من الأوراق، وهم لا

يسمحون له بأن يختار رئيس الكتاب وأمين السر له.

حدثني سعدي بك أحد سَراة الأستانة الكبار عن رجل من أصحاء البيت

السلطاني أنه كان يقرب السلطان في حفلة قراءة المولد النبوي الشريف في قصر

(ضولمه بغجه) فرأى (الباشكاتب) قد جلس متكئًا، والسلطان منتصب بغاية الأدب

على سمته وكِبر سنه، فلما رآه السلطان قد اتكأ قال متبرمًا: إذا كان هذا

(نسيت اللقب القبيح الذي ذكره به) لا يحترمني، أفلا يحترم حضرة فخر

الكائنات- صلى الله عليه وسلم؟

(5)

إن الشريف يعلم أن هؤلاء المتهورين، قد عرَّضوا استقلال الدولة

للزوال، وأن الخطر عليها في انتصار الألمان أشد من الخطر عليها في انتصار

الحُلفاء، فإن الظواهر أن الحلفاء يرضون باستقلال بلاد العرب، ويظن أيضًا أنهم

يرضون بجعل الولايات التركية إمارة، أو سلطنة تركية مستقلة، فغاية انتقامهم من

هذه الدولة أن يجعلوها أجزاء بعضها مستقل بنفسه تمام الاستقلال، وبعضها مستقل

تحت حماية بعض الدول، كالولايات الأرمنية، الظاهر أنها تكون تحت حماية

روسية، ويقال: إنهم لا بد من أخذ شيء منها لأنفسهم، وتختلف الآراء في مصير

الأستانة، وليس هذا موضوع حوارنا.

(6)

إن ملاحدة الاتحاديين شرعوا في تنفيذ خطتهم بإذلال العرب التي هي

مقدمة، أو علة لإذلال الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح عند أبي يعلى (إذا

ذلت العرب ذل الإسلام) فبدءوا بالعراق والشام، ثم مدوا براثنهم إلى الحجاز،

فاضطر الشريف إلى دفع شرهم عن العرب بمقاومتهم في الحجاز، واستقلاله

بالسلطة فيه من دونهم لمجموع ما تقدم من الأسباب.

ذ - يظهر مما قررته أنه لا يعد مقاومته للاتحاديين خروجًا على السلطان ولا

عداء للدولة نفسها؛ لأنه يرى أنهم جانون على الدولة والسلطان قبل جنايتهم على

العرب في الحجاز وغيره.

د - نعم: هذا هو الظاهر بل المتيقن، ومن وقف على الحقائق يرى أن

الشريف قام بأعظم خدمه للإسلام والمسلمين، وذلك أنه لما رأى الخطر قد أحاط

بالدولة، كما هو واضح مما شرحناه كان من الضروري أن يخاف وقوع القضاء بها

فجأة، فيكون حرم الله وحرم رسوله، وسياجهما من جزيرة العرب مما يسقط

بسقوطهما، وتزول السلطة الإسلامية عنهما وعن غيرهما مدة أطول منها يكون

الحَرَمان وغيرهما فيها من قبيل التراث الذي يحكم فيه الفاتحون بما يشاءون.

فهو باستقلاله هذا قد جعل الحجاز تحت سلطة إسلامية خالصه، ويوشك أن

يكون هذا مقدمة لدولة عربية إسلامية كبيرة، وما ذكره الأستاذ في أوائل حديثه من

تعادي أمراء جزيرة العرب، وكونه يحول دون تأسيس دولة عربية عزيزة غير

مسلَّم، فالموادة بين أمراء الجزيرة، وزعمائها لم تكن منذ قرون كثيرة منها الآن،

فلم يبق بين أحد منهم شيء من ذل العداء إلا ما بين إمام اليمن والسيد الإدريسي،

ويُرجى أن يقدر الشريف على تلافي ذلك، وعقد اتفاق بين الجميع على قاعدة

(اللامركزية) .

وصفوة القول أن استقلاله هذا لا ضرر فيه على الدولة العثمانية، ولا على

الأمة التركية، وإنما هو كبح لجِماح هذه الجمعية الباغية على الإسلام والدولة

والعرب، فإن سقطت الدولة في هذه الحرب لم يكن استقلال أمير الحجاز أحد

أسباب سقوطها، وإن سلمت من الحرب ومن هؤلاء الملاحدة وعادت دولة إسلامية

قوية لم يكن ما تقدم من استقلال الشريف مانعًا من العودة إلى الوفاق والاعتصام،

وهذا ملخص ما عندي في هذه المسالة، فإذا كان لديك أسئلة أخرى فلتكن في زيارة

أخرى،.

انتهت المحاورة مع الأستاذ بما ذكرنا من الإقناع، وكذلك المحاورات الأخرى

في الجملة.

فخلاصة ما وقفنا عليه من الآراء في المسألة العربية واستقلال الشريف الأكبر

أن المسلمين هنا لا يرتاحون إلى هذا الاستقلال إلا إذا أمكن أن يستتبع تأسيس

دولة عربية قوية مستقلة تمام الاستقلال لا نفوذ فيها لدولة أجنبية يضعف استقلالها،

ولكن منهم من يشك في إمكان ذلك، ومنهم من يشك في سهولة حصوله دون إمكانه،

ولكل منهم دلائل نظرية لا يتسع هذا الجزء لبسطها، إن كان من الممكن نشرها.

ثم إن كل فرد ممن تكلمنا معهم أنصف الشريف في استحسان وقوفه بهذا

الاستقلال عند حد منع الضرر عن أهل الحرمين وغيرهم من العرب عملاً بما ثبت

عنده من سوء نية الاتحاديين بحيث كان استقلاله غير مضعف للدولة إلا بقدر ما

يجني عليها الاتحاديون، إذا أرادوا الاستمرار على قتاله بجيوشها المنظمة وتيسر

لهم ذلك، فعمل الشريف يصدق عليه أنه إما أن ينفع نفعًا عامًّا أو خاصًّا بالحجاز،

وإما أن لا يضر؛ ولا يوجد عاقل ينكر مثل هذا أو يذمه، وكل مسلم عرف كنه

سياسة الاتحاديين في الإسلام صار عدوًّا لهم، وأقدم أعدائهم في هذا، علماء

الأستانة والمتدينون فيها، وفي سائر بلاد الترك، وما كان صلحوا العرب إلا

متأخرين عنهم في ذلك. وكل عربي مصري أو غير مصري عرف كُنْه سياستهم

في العرب صار عدوًا لهم، وأقدم من عرف ذلك السوريون المسلمون، ثم غيرهم

عنهم ومن العرب، ولو كان المصريون يصدقون أخبار (المقطم والأهرام) عن

فظائعهم في سورية لأجمعوا على ذلك وقد انفتحت لهم أبواب أخرى للاقتناع. وما

قلت لأحد منهم إن ما أتاه جمال باشا من التقتيل والتصليب والترغيب عن الوطن

ثبت عندي من طريق الأسرى العثمانيين، ومن طريق أمريكه وأوربه، ثم من

طريق الحجاز إلا قبلوه مذعنين، ولعنوا جميع الاتحاديين، وسيأتي يوم يصدق فيه

الجميع هذه الأخبار، ولعله ليس ببعيد.

_________

(1)

المنار: إننا نشرنا في ص 720 م7 أنه كتب إلينا من بعض المستعمرات الألمانية أن ألمانية تُكره الناس هنالك على التنصر، وتغري العداوة بين العرب المهاجرين إلى تلك المستعمرة وبين الأهالي؛ لأن العرب أشد تمسكًا بالإسلام وجذبًا إليه، وجعلنا هذا العمل مرشدًا إلى تفضيل إنكلترا على ألمانيا ثم نشرنا في ص 799 منه أنه كتب إلينا من دار السلام أن حكومتها الألمانية هدمت مسجدين للمسلمين، وتضطهد العرب وتمنعهم من ركوب السيارات الحسنة ومن الغريب أن الوكالة الألمانية السياسية بمصر بلغتنا بعد نشر ما ذكر ببضعة اشهر أنها كتبت إلى دار السلام تسأل حكومتها عن حقيقة ما عُزي إليها، وأنها أجابت بأن منع العرب من ركوب المركبات لا أصل له، وأن هدم المسجد كان بطلب المسلمين لبعده عن بيوتهم، وأن الحكومة بدلتهم به مكانًا آخر قريبًا وأعطتهم مالاً وفيرًا ولكنها لم تكذب خبر التنصير بالإكراه الذي نشر في جزء آخر.

(2)

نشر المقطم مقالة لبعض العرب العثمانيين في هذه السنة ذكر فيها بعض الجمل من هذا الكتاب فظن بعض الناس أن ذلك قول مخترع، وقد ذكر هذا الكتاب في الجزء الثاني من منار سنة 1322 الذي صدر في يناير سنة 1914.

ص: 144

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السيد عبد الحميد الزهراوي

كان الشهيد السعيد نابغة من نوابغ السوريين، لا يكاد يلزّ به في مجموعة

مزاياه قرين، ما عرفت بلاده كنهه، ولا قدَّرته قدره على أنها لم تقصر في تعظيمه

وتكريمه، وفي الاحتفال له والحفاوة به أيام سفره وأيام قدومه، إذ عرف الجمهور

منه في أواخر سِنِي حياته كما كان يعرف الآحاد.

إنه أحد أشراف البلاد المنصرفين لخدمة الأمة بكفاءة، واستعداد من معرفة

المصلحة وفصاحة اللسان، والحجة وجرأة الجنان، وما كان لعقل الجمهور أن يدرك

كُنه المزايا والفضائل التي بها كان الزهراوي في حقيقة جوهره من الحكماء

الربانيين، والفلاسفة الاجتماعيين؛ وإن قضت عليه الأيام بالانتظام في سلك

السياسيين، تلك الفضائل التي عرفها له كل من عرفه من العقلاء المنصفين؛ وهي

استقلال الرأي وصدق القول وقوة الإرادة والإخلاص في العمل وإيثار الحق على

الهوى، وتوجيه الهمم والهمة إلى المصالح العامة، وترجيحها عند التعارض على

المنافع الخاصة، بل لم نعلم عنه أنه اشتغل في طور من أطوار حياته لمنافعه

الخاصة، وإنما نعلم عنه أنه بدأ حياته العملية منذ بلوغ الرشد بإنشاء (جريدة

المنير) السرية التي كان يطبعها في حمص بمطبعة الجلاتين، ويوزعها في البلاد

السورية سرًّا لخدمة جمعية الاتحاد والترقي الأولى والسعي معها لإنقاذ الدولة من

الإدارة الحميدية المستبدة، فتعلق بالسياسة من ذلك الحين، وظل مشتغلاً بها طول

حياته.

كان بيننا وبين هذا الصديق العزيز تشابه في النشأة والتربية، ومشاكلة في

الاستعداد والغريزة، وتقارب الفكر والرأي، تعارفنا به بالمكاتبة قبل اللقاء ثم كان

بعد اللقاء كالمحبة والوِداد، ولم يزدد بالمُعاشرة إلا ثباتًا ورسوخًا، كان كل منا ميالاً

إلى الاشتغال بالصلاح الديني والاجتماعي، وعلاقة ذلك بالسياسة لا تخفى، ولكن

تيسر لكل منا من أمر الاشتغال بالسياسة أو الإصلاح ما لم يتيسر للآخر، إذ كانت

هجرتنا إلى مصر وهجرته إلى الأستانة.

وفي سنة 1315 التي أنشأنا فيها المنار كان محررًا في إدارة جريدة

(معلومات) العربية في الأستانة؛ وكان ما يكتبه فيها موافقا لمشرب المنار، ووقع

بيننا ما يشبه المناقشة في المسائل الإصلاحية (راجع ص 950 من الطبعة الثانية

لمجلد المنار الأول) ثم نفته أفكاره من الأستانة إلى وطنه، وفي سنة 1319 كتب،

وهو في دمشق الشام تحت المراقبة السياسية رسائله الاصلاحيه الثلاث (الفقه

والتصوف) التي نشرنا أولها في المجلد الرابع من المنار، ثم قرظنا فيه المجموع

لما طبع على حدته في مصر، وقد كانت هذه الرسائل أشد مما كنا نكتبه في

موضوعها نقدا على سعة الحرية هنا، وشدة الضغط هنالك، فهاجت عليه حَمَلة

العمائم في دمشق، وأشد ما أنكروا عليه فيها القول بالاجتهاد وبطلان التقليد،

فهيجوا عليه الحكومة فاعتقلته في الشام، ثم أُرسل إلى الأستانة.

ولم يكن سبب ذلك التشديد عليه، والإغضاء عمن اتهموا بالقول بالاجتهاد

وإبطال التقليد معه غيرة من الحكومة على الفقهاء والصوفية أن يوجَّه إليهما انتقاد،

ولا مجرد الإرضاء لمصبية الحشوية الجامدين في الشام، وإنما سببه الباطن أنه

كان نشر في المقطم مقالة في الخلافة بإمضاء (ع. ز) وهو إمضاؤه الرمزي لكل

ما كان ينشره بمصر، وقد وُجِدَتْ تلك المقالة معه عند القبض عليه، وحاول

تمزيقها. وقد أشار الأستاذ الإمام إلى هذه الواقعة في فصل (الإسلام اليوم) من

كتاب (الإسلام والنصرانية) وإننا نذكر عبارته هنا لما فيها من تأييد هذا الصديق

الشهيد وهي:

ألم يسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية، كتب مقالاً في

الاجتهاد والتقليد، وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافه، ومقالاً بيَّن فيه

رأيه في مذهب الصوفية، وقال: إنه ليس مما انتفع به الإسلام، بل قد يكون مما

رُزِئَ به، أو ما يقرب من هذا، وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله، فلما

طبع مقاله في مصر تحت اسمه، هاج عليه حَمَلة العمائم وسَكَنة الأثواب والعباعب

وقالوا: إنه مرق من الدين، أو جاء بالإفك المبين ثم رفع أمره إلى الوالي،

فقبض عليه، فألقاه في السجن، فرفع شكواه إلى عاصمة الملك، وسأل السلطان أن

يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلق عليه بين يدي عادل لا يجور،

ومهيمن على الحق لا يحيف إلى آخر ما يقال في الشكوى، فأجيب طلبه لكن لم

ينفعه ذلك كله، فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه، ولم يُعف عنه إلا بعد شهر،

مع أنه لم يقل إلا ما يتفق مع أصول الدين، ولا ينكره القارئ والكاتب، ولا الآكل

والشارب) اهـ. أرسل الرجل إلى الأستانة، فاعتقلته السلطة الحميدية هناك أشهرًا،

بعد جعله تحت مراقبة الجواسيس زمنًا، ثم أرسل إلى بلده (حمص) ليكون مقيمًا

فيها تحت المراقبة لا يبرحها (ويسمى مثله في عرف الدولة الرسمي (مأمور إقامة)

فبقي فيها إلى أن فر إلى مصر سنة 1324 وبقي فيها يشتغل بالتحرير في

(المؤيد) ثم في الجريدة إلى أن أُعلن الدستور سنة 1327 فعاد إلى سورية

فانتخب مبعوثا عن لواء حماه وكان من أمره في المجلس وبعده ما كان.

لو كان الزهراوي من طلاب المنافع الشخصية لأمكنه أن ينال منها في عهد

عبد الحميد ما نال من كانوا دونه من أرباب الأفكار، وحملة الأقلام الذين استمالهم

السلطان عبد الحميد وأعوانه وغمروهم بالأموال والرتب وأوسمة الشرف، ولم يكن

جهاده القانوني للاستبداد الذي انقلبت إليه جمعية الاتحاد والترقي بعد الدستور

بأضعف من جهاده للاستبداد الحميدي مع الجمعية في إبان صلاحها، ومع غير

الجمعية أيضا نصرها في الأيام الأولى من عهد الدستور كما نصرها قبله، وجاهدها

بعد أن صار أمر الدولة كله في يدها.

ولو كان من طلاب المنافع الشخصية لنال بمسايرة الجمعية منها ما كان يعلم

أنه لا ينال بمعارضتها، وما كنت أرى - وأنا في الآستانة - أحدًا من المعارضين

للجمعية يرى قوتها فوق ما كانت عليه إلا الزهراوي، كان من أشدهم معارضة

لحزب الجمعية في المجلس، وفي جريدة الحضارة التي أسسها في الأستانة، على

كونه من أشدهم اقتناعًا بقوة الخصم وبُعدًا عن الغرور بما كان يروى عن ضعفه،

فجمله القول فيه: أنه بدأ حياته بخدمة الأمة والدولة، وثبت على ذلك طول

حياته، وأن جل عمله كان مع جمعية الاتحاد والترقي؛ فهو بعد تلك المعارضة في

زمن المبعوثية، اعتقد أن الدولة صارت بعد الجمعية؛ وأنه لا يوجد في الأمة

حزب يُرجى أن ينتزعها منها، فلم يَبق من طريق لخدمة الدولة والأمة إلا طريقها،

وهذا الاعتقاد هو الذي حمله على قبول منصب الأعيان أخيرًا، كما سنبينه

بالبرهان، وكان جزاؤه من الجمعية التي أفنى حياته في خدمتها أن قتلته شر قتلة،

وأبقت جثته مصلوبة في الشام 12 ساعة ليعلم كل عربي يراها، أو يسمع خبرها

كيف تكون عاقبة العربي العالم المفكر والخطيب المؤثر والكاتب المحرر عند هؤلاء

القوم، الذين جعلوا من أصول سياستهم محو العربية من سورية والعراق، وحتم

البداوة على عرب الجزيرة وإيقاع الشقاق الدائم بينهم إلى أن يبيد بعضهم بعضًا؟

كان قبول السيد الزهراوي لمنصب الأعيان من الحكومة الاتحادية مثيرًا

لاستياء جمهور طلاب الإصلاح ومحبي الإصلاح للأمة العربية العثمانية وسببًا

لسوء الظن فيه، وكثر القول بأنه تحول عن سيرته التي كان عليها طول عمره،

فآثر منفعته الشخصية على مصلحة أمته العربية، فتحول ذلك الجمهور الذي كان

ينوه به ويصفق له إلى الخوض فيه، ولو كان عقل الجمهور يدرك كثيرًا تلك

الفضائل التي وصفناه بها بحق، لما صدق أن مثله يتحول بعد سن الخمسين من

عمره إلى ضد ما ثبت عليه من أول نشأته، وما الذنب على العامة في ذلك، وإنما

الذنب ذنب خواص الأذكياء والمتعلمين الذين سارعوا إلى الخوص فيه فتبعتهم

العامة، وكان يجب عليهم التروي والتثبت في أمر هذا الحدث الجديد.

ألهذا العامل المستقل عذر فيه واجتهاد أم لا؟ ثم التثبت والتروي في الطعن

بمثل هذا الرجل منهم، إن ثبت لهم أنه مجرم سياسي متعمد، لا مجتهد مصيب أو

مخطئ، فإن أول نتائج الطعن في مثله- وقل أن يوجد مثله في طهارة سيرته

الشخصية والسياسية- هي زوال ثقة الأمة من زعمائها بقياس أنزه الصادقين على

أخس المنافقين، وما أولئك الطاعنون إلا حاسد يذم من الزهراوي ما يتمنى مثله

لنفسه، أو نفعي ساء ظنه لسوء نيته وفعله، أو غيور شديد العصبية، قليل الروية،

يبادر إلى إرضاء حميته، ولا يحسب حسابًا لعاقبة قوله وعمله.

لم يكن الزهراوي من أهل الأهواء، الذين يجعلون مصلحة الأمة والدولة تبعًا

للأغراض، وعرضة للعواطف والأحقاد، بل كان يحب العمل المبني على القواعد

المعقولة والرغائب المأمولة، فلما رأى أن الاتحاديين يحاولون إصابة أغراضهم

الضارة بالأمة العربية وبوحدة عناصر الدولة، بقوة مجلس المبعوثين، أحب أن

يحاربهم بسلاحهم، فكان من المؤسسين للحزب المعتدل ثم لحزب الحرية والائتلاف

الذي تكون من هذا الحزب الذي أكثر أفراده من العرب، ومن حزب الأهالي الذي

أكثر أفراده من الترك، وكان الزهراوي وكيل الرئيس في هذا الحزب، وقد ظفر

هذا الحزب بالاتحاديين، فجذب إليه الجم الغفير من مفكريهم وضباطهم، ثم أسقط

وزارتهم، واستبدل بها وزارة مختار باشا التي لم تكن هي ولا وزارة كامل باشا

التي جاءت بعدها ائتلافية ولا اتحادية، وإنما كانتا على كراهتهما لسيرة الاتحاديين

غير معتصمتين بعروة الائتلافيين، ولا موافقتين لهم في كل شيء، ولذلك سهل

على الاتحاديين إسقاط وزارة كامل باشا، وقد أخطأ الائتلافيون بعدم جعل الوزارة

من حزبهم.

وقعت حرب البلقان في أيام وزارة مختار باشا، فانكسرت الدولة فيها، وألفت

وزارة كامل باشا لتتدارك أمر الدولة بالصلح، وفي أثناء ذلك جاء الزهراوي مصر

قاصدًا الذهاب إلى الأستانة لقرب موعد فتح مجلس المبعوثين وقد أقنعناه بأن لا

يتعجل السفر، لما يُخشى من وقوع الفتن بالأستانة، وقد وقع ما كنا نتوقعه بهجوم

الاتحاديين على الباب العالي، وقتلهم ناظر الحربية فيه وإسقاطهم وزارة كامل باشا،

والقبض على أزِمَّة الحكومة، ولكن صاحبنا كان يصر على السفر، يظن ظنًا كاد

أو كان يسميه يقينًا بأن الاتحاديين لا يثبتون أسبوعًا حتى تسقطهم الأمة، وتستبدل

بهم غيرهم فأقنعناه بأن يصبر حتى تصدق الأيام ظنه أو تكذبه، وما اقتنع منا إلا

بإدلال الصداقة، على أنه كان يرجع عن رأيه إلى رأي صديقه، هذا كما نص على

ذلك في كتابه الآتي وإنما صرحت بهذا؛ لأنه من مقدمات الحجة التي أذكرها بعد

نشر ذلك الكتاب.

وفي أثناء حرب البلقان تأسس حزب اللامركزية بمصر، ولم يدخل هو في

الحزب؛ لأنه لم يكن ينوي الإقامة بمصر، وإنما رشحه الحزب لرياسة المؤتمر

العربي، لمكانته العلمية والاجتماعية، وموافقته للحزب في مقاصده الإصلاحية،

فانتخب رئيسًا في باريس، وعقد معه الاتحاديون ذلك الاتفاق المشهور.

كان في مدة إقامته في باريس أيام المؤتمر، وبعدها يكاتب حزب اللامركزية

ويعمل برأيه، ولم يسافر إلى الأستانة إلا بعد إذنه، فقد استشار الحزب فخيره بين

مصر والأستانة، وكان هو يرجح الثانية، والحزب يرجح الأولى، وكان يكتب من

الأستانة إلى رئيس الحزب كل ما يدور هناك في مسألة إعطاء العرب حقوقهم من

الإصلاح والوظائف، ويكتب إلى صديقه (كاتب هذا) مثل ذلك، وما وراء ذلك

مما كان يكتمه عن البعض، أو عن كل أحد، كما يعلم من كتابه المطول الآتي.

كان من فضائل الزهراوي الشخصية التي تُعد عيوبًا في السياسيين أنه لحُسن

نيته وصفاء سريرته، يبالغ في حسن الظن بكل أحد يُظهر له إرادة الخير والحق،

فلما قال الاتحاديون: إنهم يعترفون بما كان من خطئهم في تنفير العرب منهم، وفي

محاولتهم تتريك جميع العناصر العثمانية، وأنهم يرغبون في إصلاح ما أفسدوا في

ذلك؛ لتوقف تجديد قوة الدولة عليه- صدقهم في ذلك؛ لأنه معقول عنده، وعد

توجيههم منصب الأعيان إليه على ما كان من شدة معارضته لهم برهانًا على صدقهم،

وصار يرى أنه ينبغي لطلاب الإصلاح المخلصين أن يمدوا أيديهم إليهم،

ويساعدوهم على الإصلاح وأنهم إذا أحجموا حل محلهم المنافقون وطلاب المنافع،

وكان متفقًا مع صاحبه عبد الكريم الخليل على ذهاب المنار ورفيق بك العظم إلى

الأستانة لهذا الغرض.

أما أنا فكان يغلب على ظني أن جعله من الأعيان أحبولة يريدون بها اصطياد

المخلصين من طلاب الإصلاح في خارج المملكة؛ ليفتكوا بهم بعد جلبهم إليهم جملة

واحدة، وإن وجوده وحده هنالك واقٍ له، وفيه فوائد منها أنه تجربة للاتحاديين،

وحجة عليهم.

قبل منصب الأعيان بتلك النية الصالحة من غير مشاورة للحزب، ولا لأحد

من أصدقائه، وإنما أخبرنا بما كان ونيته فيه، فلُمْناه على تعجله، ولكن الحزب

أجاز عمله، واتفق الرأي على أن يمضي في هذه التجربة، وأن لا ينضم إليه أحد

من المقيمين خارج المملكة، وكان أول ما كتبه إلي في ذلك قوله من كتاب مؤرخ

في 6 صفر سنة 1322 (6 يناير سنة 1914) ما نصه:

(أخوكم عُيِّن - بعون الله وعنايته - عضوًا لمجلس الأعيان فبشروني بأنكم

راضون عن قبولي بها، والله يشهد إنني إنما قبلت؛ لإتمام العمل، وتعلمون قلة

الرجال عندنا يا أخي، يعترض بعض المعجلين، فالأمر في هذا متروك لحكمتكم

وهمتكم. بل أرى أن تقديم شكر للصدارة يكون مؤيدًا لإتمام العمل، ومَنَّ الله

سبحانه التوفيق) .

وقد كتب إلى الحزب بنحو هذا، فأجيب طلبه؛ لأن غرض الحزب الإصلاح لا

المشاغبة ولا عداوة الدولة، ولكن لم يكن يحسن الظن بالاتحاديين أحد، وقد دار

بيننا وبين هذا الصديق في هذه المسألة، وما يتعلق بها مكاتبات ومعاتبات لم تخل

من عدة مغاضبات، وإنني أنشر الآن منها كتابًا مطولاً، كتبه في 16 صفر سنة

1332 وكتب في أعلاه (مكتوم كله عن كل أحد) وهذا نصه بعد العنوان:

***

كتاب سري من السيد الزهراوي

سيدي الأخ الرشيد الولي الحميم الحميد:

تحية من الله ومن أخيك، ولا برحت المكرمات تحييك، لقد عظم شوقي أيها

الأخ، ومضت الأيام، وأنا أمني النفس بقرب التلاقي، ومازلت راجيًا ذلك.

يظهر يا عزيزي أن عتبك على تأخري هنا عظيم، عرفت هذا من كتابك إلى

الأخ الأستاذ.. . ويظهر أن قطعك الكتاب عني عمد، استنبطت هذا من طول مدة

القطع، وقد حملت هذا على كثرة عملك التي أعرفها، ثم تذكرت ما أعهد من وفرة

نشاطك - والحمد لله -، وأن كثرة عملك من تلك الوفرة من النشاط لا تقف في

سبيل ما تعزم عليه، فاستنتجت من هذا القياس- سامحني الله على رأي ابن حزم -

أنك تعمدت عدم العزم في الكتابة أو عزمت على عدم الكتابة.

وقد ظهرت هنا شائعة أن اللامركزيين في مصر مشمئزون من بقائي هنا،

وأنهم قطعوا علاقتهم بي ومكاتبتهم لي، أنا لم أصدق هذه الشائعة، وإنما خشيت أن

يكون بعض العجولين هناك يصرح ثمة مثل هذه التصريحات وكدت أخشى أن

يكون.. . مثلاً قد شاهد شيئًا من تأففكم لتأخري فبنى على مشاهدته كلامًا كتبه إلى

بعض معارفه هنا، فشطّر ههنا وخمّس.

هذه كلها ظنون، وأستغفر الله - تعالى - منها، وأرجوكم مسامحتي عليها،

ومن الشرح يظهر لكم سر تقديمها بين يدي هذه التفاصيل المهمة التي جاء أوانها:

كنت قد فصلت لكم؛ إذ جئت باريس كيف وجدت أمر مؤسسي فكرة المؤتمر

فوضى؟ وكيف تعبنا في ستر الأمر وإيجاد المؤتمر مرونقًا - وبتوفيق من الله

تعالى - فوق المأمول؟ وبعد انقضاء المؤتمر تفرق الجمع الذي لفق تلفيقًا، ثم بعد

قليل نفد صبر البيروتيين فذهبوا إلى بلادهم عن طريق إستنبول، وبقيت - يا

عزيزي - وحدي أمثل الفكرة، وبقي خليل زينية وأيوب ثابت وهما لم يرشفا من

مشرب الجامعة العربية ولا قطرة واحدة، حتى ولا من الجامعة السورية، وإنما

همهما بيروت وحدها لا شريك لها، ولكن لأنهما متعلمان سايراني وسايرتهما،

وتوادينا جيدًا حتى سفري، ولم يكن مثل هذا التواد، ولا رُبعه بينهما وبين رفقتهم

البيروتيين المسلمين.

لو عجلت تلك الأيام، ورجعت على الفور إلى مصر لبقيت المسألة مقطوعة

بَتْراء، إذًا يكثر استهزاء الأفراد والجماعات والأقوام بأشخاصنا وبجماعتنا وقومنا،

لكن الله - سبحانه - سلم من هذا، وأقدرني على الصبر هناك ممثلاً للفكرة مدة

خمسة أشهر- وما هي بالقليلة ولا الكثيرة - ونِعمت المدة كانت، وقفت فيها على

كثير، وعظم فيها اختباري لأوروبا، وما أحوجنا إلى مثل هذا الاختبار، جئت بعد

ذلك إلى إستنبول؛ لأرى ما جدَّ فيها لأن المعرفة بالقديم لا تغني، والمعرفة عن بُعد

كثير من مآخذها غير صحيح، وما أضر العلم المبني على مأخذ غير صحيح.

بعد وصولي بقليل عرفت كثيرًا من الأحوال الحاضرة هنا، وبعد مدة أخرى

عرفت أكثر، وكدت أظنني اكتفيت، وأحطت كل الإحاطة، ولكن الآن تبين لي أنه

لولا الصبر والتأني اللذان مكنني الفاطر - سبحانه - منهما لرجعت بمعرفة غير

كافية؛ ولذلك أصبحت لا أجسر أن أقول: تمت إحاطتي وإنما أقول: أصبحت

يجوز لي أن أفصل، وأشرح بشيء من الطمأنينة، وإن تأخير هذا التفصيل

والشرح كان أنفع، وجاء اليوم في وقته.

الشرح ههنا يتعلق بثلاثة مواضيع (أو موضوعات) :

(1)

أوربا والعثمانية.

(2)

الاتحاديون وغيرهم.

(3)

رجال الإصلاح الحقيقي وأبناء العرب هنا، وفي الجهات الأخرى.

وإني أبدأ لكم بالأول لقِصر البحث فيه، وأشفع بالثاني، وأخرت الثالث لطوله

وطوَّلته لتوقف التفاهم وكثير من أعمالنا على الإحاطة بهذه الحقائق المشروحة فيه.

(أوربا والعثمانية) لقد كشفت أوروبا آخر ستار من ستر السياسة في

المسألة العثمانية، وقررت التداخل في سائر شئونها، وإنما لا يزالون مختلفين

بعض الاختلاف في كيفية هذا التداخل وكميته وصورة توزيعه فيما بينهم، وليس

في أوروبا اليوم موضوع مقدم على هذا الموضوع، ولا يمضي ثلاثة أشهر حتى

تتمخض الليالي، فتلد ذلك الشكل الجديد الذي يتفقون عليه، والذي أظنه أن الدولة

ستبقى بعد ذلك، وتعيش أحسن مما كانت عائشةً؛ لأن بعض التداخل طب، ولست

مغاليًا إذا ذهبت إلى أن الموت أقرب إليها مع عدم التداخل ألبتةَ منه مع شيء من

ذلك، فإنا إذا قلنا بعدم التداخل ألبتة؛ فحينئذ تخلق كل واحدة سببًا لنشوب الحرب

عليها، فتؤخذ بداء السكتة دفعةً واحدةً.

الاتحاديون وغيرهم: الاتحاديون معروفون، فمن غيرهم لا يوجد الآن حزب

سياسي آخر إلا أن يكون خفيًّا، ولم أشم شيئًا من هذا، وحينئذ لا نجد مقابل

الاتحاديين إلا جماعات الأجناس، كجماعات الروم وجماعات الأرمن وجماعات

العرب.

نعرف أن للروم جماعات وللأرمن جماعات، فهل للعرب مثل هذا؟ هلم

ننظر:

أولاً: الروم كلهم جماعة واحدة، يرأسهم البطرك، ولكيلا يستبد ربطوه

بمجلسين روحاني وجسماني، وهكذا الأرمن، أما العرب فليس لهم مثل ذلك.

ثانيًا: الروم والأرمن لهم جمعيات سياسية منظمة مرتبة غنية، وليس للعرب

مثل ذلك، اللهم إلا جماعتنا في مصر وجماعتنا في بيروت؛ إذن غير الاتحاديين

هم الروم والأرمن، وجماعتنا في مصر وجماعتنا في بيروت.

فالاتحاديون هم أولياء الأمر مباشرة، وهم اليوم يتسلحون بعزائم شديدة

ماضية، وناوون نيةً قاطعة أن يجددوا شباب الدولة بقدر ما تسمح الظروف،

ويشتهون أن يخلص إليهم العرب ويساعدهم فضلاؤهم في هذا السبيل، ويعترفون

بخطيئاتهم الماضية، وينوون أن لا يعودوا إلى مثلها بقدر الإمكان أنا مؤمن بنيتهم

وأقوالهم هذه كل الإيمان، لأدلة كثيرة ظهرت لي، ولكنني مرتاب من جهة قابليتهم

لتطبيق العمل على النية، وعلى كل حال أرى أن عدم تركهم وحدهم خير من

تركهم، ويرجى به أن تقوى قابليتهم، فإن شئتم أن تخطئوني بتحسين الظن إلى

هذه الدرجة- كما أشرتم إلى ذلك في كتاب. فإني لا أخطئكم بالتخطئة؛ لأني أُجِلُّ

رأيكم أكثر من رأيي، وإنما أرجو أن يكون في خطئي شيء من البركة، أرجو ذلك

من مصداق قوله سبحانه: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) هذا وصف الاتحاديين بما هم عليه اليوم.

أما الروم فقد قلوا في المملكة، وقصاراهم أن يحافظوا على ما بيدهم من

امتيازات البطركية وحق المبعوثية، وسيقل الالتفات إليهم، وأما الأرمن فهم اليوم

آلة بيد روسية وسيتم لهم في المبعوثية حظ قريب مما يأملون، وأما نحن معشرَ

العرب، فإن أخاكم الآن يعتبر ممثل جماعتنا، وقد فصلت ما تم على يدي في

الكتاب الذي أرسلته إلى الأخ الرفيق في البريد الماضي، وههنا سأزيد.

(3)

رجال الإصلاح الحقيقي وأبناء العرب هنا وفي الجهات

الأخرى:

ما أظنكم- أستغفر الله - ما أعتقد أنكم في حاجة إلى بيان أن رجال الإصلاح

الحقيقيين غير كثيرين، وما أعتقد أنكم تعرفون منهم أكثر من ثلاثة أو أربعة،

أعني برجال الإصلاح الحقيقيين، من جمعوا في موضع الإصلاح بين صدق النظر

وصدق العمل، مَن كثرت تجاربهم، ومرنت رويتهم وصحت عزيمتهم، وشهد

ماضيهم، مَن كثر اختلاطهم بمختلف الطبقات، ووقوفهم على متباين النزعات،

وصبرهم على متنوع العقبات، من امتزجت روحهم بحب النظام الذي يحبه الله،

وكره الفساد الذي يكرهه الله، وامتزجت سيرتهم بأخبار مَعَامِع الجهاد الإصلاحي،

من أُشربت أفكارهم فهم معنى الرابطة، وأفئدتهم محبتها وتعشقها.

فنحن لقلة هؤلاء واقعون أمام حاجتين عظيمتين (الحاجة إلى تكثيرهم،

والحاجة إلى اشتغال هؤلاء مع من ليس من جنسهم وطبيعتهم) . ثم نحن مع قلتهم

وصعوبة اشتغالهم مع غيرهم أمام مشكلين عظيمين، الأول السُّبات الذي الأمة فيه،

والثاني الجشع الذي أوروبا فيه.

أترك تفصيل هذا الإجمال لحكمتكم، وحسبُنا هي في كل موضوع، وآخذ

الآن بحكاية حال أبناء العرب هنا، لأنكم علقتم الأمل مرارًا على صنف منهم ههنا.

العرب هنا ثلاثة أصناف: متاجرون ومتعلمون ومأمورون، فالصنف الأول

لا في العير ولا في النفير من جهة السياسة والإصلاح، ثم هو في غاية القلة،

والصنف الثاني أولاد في ناشئة العمر لا يليقون للسياسة ولا تليق لهم، والصنف

الثالث أربعة أقسام: الضباط والمأمورون المنصوبون في بعض الوظائف

والمأمورون المتقاعدون المقيمون هنا والمأمورون المعزولون الذين جاءوا لينصبوا.

فأما الضباط فلا تجربة لهم في هذه المسالك ألبتة والأَوْلى عدم دخولهم فيها،

فإن هذه التجربة القليلة التي سأقصها الآن زهدتني في كل سياسة يشترك فيها

الضباط منا: ذلك أن.. . ناقم اليوم على الحكومة، فيشتهي لأجل هذا زعزعة

الدولة ونسفها نسفًا، وهو لأجل ذلك ناقم على ائتلافنا مع الحكومة ومضاد له؛ لأنه

على زعمه يؤخر حركات العرب، ولا أدري ما هي حركات العرب، وأين تسير

وأين ترسي، وهذا يجتهد أن يجمع حوله بعض أولئك الأولاد وينفرهم منا، ومن

صنيعنا، ولكن لا ينجح بحوله - تعالى -، ومن جهة أخرى هو يحافظ على ظاهر

الصداقة بيننا، وقد أردت اختباره فوجدته يجنح إلى مصالحة أولياء الأمور،

وحينئذ يرضى عن كل شيء، فانظر يا عزيزي إلى الذين يعدون أنفسهم في

مصاف رجالنا.

أما المأمورون المتقاعدون، فمثلهم كمثل العجائز لا يرضيهن شيء ولا

يستطعن عمل شيء، وأما المأمورون المنصوبون فلا هَمَّ لهم إلا حفظ المنصب.

وأما طلاب المأموريات فَجِيَاع مساكين لا يفهمون من الإصلاح إلا المأمورية،

إن جاءت فقد جاء الإصلاح، وإن لم تجئ فقد منع الإصلاح، ومن هذا التفصيل

يظهر لك أن العاصمة في حالتها الحاضرة ليس فيها أبناء عرب تستطيع جماعتنا أن

تعتمد على أحد منهم، أو أن تعمل صلة أو رابطة مع أحد منهم، اللهم إلا أن يكون

(فلان وفلان) وكل ما أخبركم عنه (فلان) فهو سراب بِقِيعة جاءه أخوكم الظمآن

فلم يجده شيئًا. وبعض أولئك الأولاد يحسدون الشاب عبد الكريم، وبعضهم لم

يتمكن من إنالتهم أربًا لأبيهم أو أخيهم أو ابن عمهم مثلاً، فمِن هنا أكثروا عليه من

قيل وقال، وكله هُراء وهواء.

وأما العرب في الجهات الأخرى، فهم أهل سورية وأهل العراق وأهل

الجزيرة الخُلَّص، فالسوريون والعراقيون حَضَر قد ألفوا الذل وتعودوا الاستخذاء

والاستكانة لا يفهمون ولا يريدون أن يفهموا، لا يساعدون ولا ينوون أن يساعدوا،

لا يهبون ولا يَرُوق لهم أن يُوقَظوا. وأما أهل الجزيرة الخُلَّص، فهم الأهل -

وفاهم الله الخير وشد سواعدهم - أولئك يجب وصل الرابطة بهم من غير أن نقطعها

من الحضر على قلة غنائهم. وقد فهمت من كتاب الأخ (فلان) كثيرًا واستنبطت

كثيرًا.

ولو كان في وسع البشر أن تتوزع أرواحهم على أمكنة متعددة لكانت روحي

أوزاعًا على اليمن وعسير والحجاز ونجد وحضرموت، ولكن نظرية الصوفية

في هذا الباب لا يمكن تطبيقها [1] . انظر يا عزيزي، أنا لازم لهناك كما تشير،

ولازم إلى هنا، فإن هنا محل عمل ليس بقليل، فإني أرجو أن يكثر بوجودي هنا

عدد رجالنا الذين يعتمد عليهم، فإن رضيت عن هذا الرأي فعليك عملان مُعَجَّلان

وعمل يمشي مع الزمان، وأنا معك فيه على بعد المقر، فالأول من المُعَجَّلين

تبشيري بتلغراف عن رضائك خاصة وهو الأهم، ورضاء الرفاق عامة وهو مهم،

والثاني منهما حملك الرفاق على تقديم تلغراف للصدارة، يحبذون فيه هذا التعيين

ويجعلونه دليل إقدامهم على تنفيذ الرغائب كلها بعبارة رقيقة تشويقية، أما الثالث،

فهو ما بيننا من أمر إيجاد الرجال الذين يعتمد عليهم وتوزيعهم بقدر ما يساعد

الزمان والمكان لبث الإصلاح العلمي والعملي.

وإن لم ترض عن هذا الرأي فاكتب إليّ مفصلاً ومبينًا كل جهة من جهات

الموضوع، وأنا من عهدت مَنْ يَدَعُ رأيه أخيرًا إلى رأي وليه.. هذه هي

الخلاصة المفصلة، وإليك خلاصة الخلاصة، وهي أن اليأس لا يجوز بحال من

الأحوال، ولكن الأمة في كل أطرافها ليست بحالة يُعتمد عليه في شيء، وأنه مع

هذا لا يجوز إهمالها، وكذا لا يجوز إهمال من بيدهم أمر المملكة وتركهم وحدهم،

وأنه لا بد لنا من رجال ههنا، وأن أكثر ما يتصرف به الرواة من الأخبار غير

صحيح، وإني منتظر أمركم بسرعة، وإن شوقي عظيم.

والسلام على الأخ السيد صالح وجميع المعارف، سلم الله - تعالى - الجميع.

عبد الحميد الزهراوي

(المنار)

من هذا الكتاب وكتب أخرى بمعناه يعلم رأي الرجل الذي يبني عليه اجتهاده

ومنه أنه مؤمن بحسن نية الاتحاديين، وتمنيهم الاتفاق مع العرب، وبهذا كان

يحاول إقناعنا، ولم يكن يخفي هذا على الاتحاديين؛ ولذلك نجزم بأنهم قتلوه، لأنه

من أنجب نجباء العرب لا لذنب آخر {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: 4) .

وإنما نشرت هذا الكتاب السري من كتبه بنصه، فلم أحذف منه إلا أسماء

الأحياء ليكون حجة على فريقين من الناس- فريق الذين قد يظنون أن الاتحاديين ما

قتلوا مثل هذا السيد الجليل بعد أن رفعوه إلى مقام الأعيان إلا لأنهم عرفوا له ذنبًا

كبيرًا كالخيانة للدولة أو للجمعية المتصرفة في الدولة. وفريق الذين ظنوا أنه خان

قومه العرب بتركه الدفاع عن حقوقهم بمنصب الأعيان الذي رشاه به الاتحاديون،

وإنما يتم ظهور هذه الحجة، ببيان ما كان بيني وبين هذا الصديق الصدّيق من

الصلة والرابطة.

يرى قارئ كتابه أنه قال لي فيه عن نفسه: (وأنا من عهدت من يدع رأيه

أخيرًا إلى رأي وليه، وقد أشرت إلى هذه الكلمة في المقدمة التي قدمتها على هذا

الكتاب، وأقول: إنه يعني بهذا أنني إذا حتمت بعد المناقشة معه في الموضوع

وجوب تركه لمنصب الأعيان، واشتغاله بعمل آخر في غير الأستانة فإنه يقبل ذلك.

وقد كانت طريقتنا فيما يختلف رأينا فيه أن يدلي كل منا بحجته، فمن نهضت

منا حجته قبلها الآخر، فإذا لم ترجح إحدى الحجتين، وكانت المسألة مما يترتب

عليها عمل يرجع هو في العمل إلى رأي أخيه. ويدل على مكانة هذا الأخ عنده

جعله رضاءه عنه في هذا الأمر أهم من رضاء الحزب الذي كان سبب ذلك، وهو

صادق في قوله هذا وقوله ذاك، لا ريب عندي في صدقه، وما قلت هذا في بيان

كلمتيه إلا ليعلم المطلع عليه أن الرجل لو كان يكذب ويخدع لم يكن يكذب علي ولا

يخادعني، ولو كان يفعل ذلك لحاول إرضائي بأنه يعامل الاتحاديين بمثل ما

يعاملوننا به من الخِلابة السياسية ليستفيد منهم في طور ضعفهم وحاجتهم إلى

استرضاء العرب بعض الحقوق، وما كان يكتب إليَّ- وهو معتقد أنني ساخط عليه،

ومتعمد ترك الكتاب إليه- أنه مؤمن بحسن نية الاتحاديين وصدقهم في هذه المرة

ولكنه كتب هذا وهو يعلم أنني أعدّه سذاجة منه وغلوًّا في حسن الظن.

وأزيد على هذا أنني عاتبته على بعض ما جاء في هذا الكتاب وغيره عتابًا

ثقيلاً جاءت فيه كلمة جارحة، فكتب إلي رقعة أوْدعها كتابًا له قال فيها ما نصه:

كلمات بيننا

(في كتابكم الأول كلمة لا أكتم عنكم أنها كسرت قلبي، إذ لو كتبت هذا لكان

خيانة للإخاء النظيف الصافي، ذلك أنكم بنيتم على نظرية إغراقي بحسن الظن

بالقوم أن هواء الأستانة طمس على عقلي وقلبي.

أخوكم يا عزيزي قد عرفتموه بعد أن كان عاش في هذا البلد سنين،

وعرفتموه في الآستانة نفسها، فلولا ذلك لرجعت إلى نفسي؛ لأرى تغلغل أثر

البوسفور فيها.

ولكن كما لم أكتمكم هذه الحقيقة أتحدث أمامكم بما مَنَّ الله - تعالى - به من

حَمْل حدتكم القلمية هذه على ما يشابهها من حدتكم اللسانية التي نأنس بها أنسنا

بِحِلْمِكُمْ الذي هو أغلب وأصدق دلالة على كرم قلبكم. على أنني أؤكد بشرفكم أن

انكسار القلب الذي أشرت إليه كان أنينًا وأعقبه تذكر حقيقتكم العالية. أما تأخير

كتبنا فقد كان عامًّا حتى شمل الوالد، فلا تحملوه على ذلك السبب، ولكن أبى

كرمكم إلا يطيب القلب فأخصكم بشكر على هذا) اهـ.

فمن كان بينهما مثل هذه الحرية في الخطاب والعتاب لا يغش أحدهما الآخر، لو

كان من دأبهما الغش. وأحمد الله - تعالى - أنني لم أُبْتَلَ بهذه الرذيلة،

وإنني أبرئ منها صديقي الشهيد السعيد كما أبرئ نفسي.

هذا وإنني لم أكتف بما دار بيني وبينه - قدس الله روحه - من المكاتبات في

هذه المسألة بل دعوته إلى زيارتنا بمصر فأجاب، وكنت أعقد معه مجلسين

للمناقشة في كل يوم وليلة: مجلسًا قبل النوم ومجلسًا في الصباح. فرأيته بعد ذلك

كله معتقدًا أن الاتحاديين عازمون على إرضاء العرب، وأنه يحب مسايرة العقلاء

منا لهم على ذلك، وأننا ننال بهذا من الحقوق ما لا يُرجى أن نناله بالسعي مع

مجافاتهم.

وقد وافقته على بقائه في منصب الأعيان والاستمرار على هذا السعي؛ لأنه

إما أن ينفع وإما أن لا يضر.

***

المشانق في سورية - شنق الزهراوي

جاء في جريدة الأهرام تحت هذا العنوان ما نصه: تلقت المقدمات التي يوثق

بروايتها أن السيد عبد الحميد الزهراوي حوكم في دمشق أمام المجلس العسكري،

فحكم عليه بالموت شنقًا، فشنق. ولربما خفف من لوعة الأسى عليه، شنق من

تقدموه من عظماء الأمة السورية وأمراء المسلمين على وجه التخصيص كالأمير

عمر الجزائري ابن الأمير عبد القادر وشفيق بك المؤيد من أكبر رجال سورية

ورشدي بك الشمعة من صفوة أعيانها، وشكري بك العسلي، وعبد الوهاب بك

ومحمد المحمصاني، وسليم بك الجزائري وعبد الغني العريسي.. . إلخ.

ولكن الزهراوي كان يمثل طائفة خاصة، وفكرة نابتة وحياة جديدة تتراوح

بين طائفة علماء الدين الإسلامي وغيره من الطوائف الراقية، والبحث في شئون

طائفة الزهراوي في سورية، وبلاد العرب من المباحث الخطيرة الجليلة التي تبين

الصلة بين الماضي والحاضر والقديم والحديث، بل تظهر التدريج الذي كان ينتظر

على يد أولئك الذين أزهقت الحبال أرواحهم، وأودت بعملهم وعلمهم، وأماتت

غرسهم قبل أن ينبت وبما نبت منه قبل أن يزهر ويثمر.

فالمسلمون في سورية تأخروا عن إخوانهم النصارى واليهود والدروز في

طلب العلم؛ لأن القدماء من أكابرهم وأغنيائهم كانوا يعتقدون أن طلب العلم إنما

يراد لطلب الرزق، والوجيه الكبير المتوافر رزقه كان يعد من العار على أبنائه أن

يطلبوا العلم للارتزاق (من شق القصبة) وضاعف في ذلك أن المدارس كلها كانت

نصرانية، إما للأجانب وإما للمسيحيين، الذين تأدبوا بآداب الأوروبيين فحذوا

حذوهم، وساروا في العلم سيرتهم. وقد لقيت هذه الفكرة تشجيعًا من الحكومة، بل

ربما غرست الحكومة نفسها هذه الفكرة في الصدور حتى يظل المسلمون على حالهم

فلا يطلبون إصلاحًا ولا يطالبون بحق، وليس للمسيحيين وسواهم ممن يتعلمون

تأثير أو نفوذ؛ لأنهم الأقلية، ولهذا السبب لم يتمتع أحد من أبناء مسلمي سورية

بذلك الإنعام الذي أنعم به إبراهيم باشا بن محمد علي باشا على لبنان وسورية بأن

يعلم طائفة منهم في مدارس مصر العالية، وانحصرت تلك النعمة حتى عهد

الاحتلال بأبناء المسيحيين السوريين وحدهم.

وظلت الحال على هذا المنوال، ولا مدارس ولا مكاتب للمسلمين في سورية

حتى إن دَخْل أوقاف المدارس والمكاتب فيها كان يجيء للآستانة، إلى أن زاد

احتكاك القوم بالأوروبيين، ورأوا بأعينهم ومسوا بأيديهم فائدة التعليم فطلبوه لأبنائهم

إما في مدارس الأجانب في بلادهم، وإما في مدارس الأستانة، حتى إن بعض

طلبة العلوم الدينية، سبقوا إلى ذلك سواهم أو ماشوهم في هذا السبيل، ولكن على

غير رغبة الحكومة وإرادتها، فكانت تسبغ النِّعَم على من يذم العلم وعلماء الأجانب

كالشيخ النبهاني الشهير بذم مدارس النصارى.

ومن هؤلاء الطلبة الدينيين السيد عبد الحميد الزهراوي من أشراف حمص،

وسلالة بهوتها الكبيرة. بدأ علمه في بلده، وأتمه في الأستانة، وتعلم هناك من

السُّفطاء الترك الاهتمام بالشئون السياسية والاجتماعية، فكان أول ظهوره برسالة

ألفها في المعتقد الديني لم تَرُقْ في عيون مشايخ الطرق، فسعوا به إلى السلطان عبد

الحميد حتى نفاه، وأقصاه إلى دمشق [2] .

ولكن الوسطاء توسطوا له - وكان الظلم في ذلك العهد يدفع بالوساطة خلافًا

لما نراه اليوم - فتركه حرًّا، وأطلقه من كل يد، فعاد السيد الزهراوي إلى الأستانة،

وأشترك بالمظاهرة الودية التي قام بها فريق من العلماء والكتاب أمام السفارة

الإنكليزية بعد انتصار الإنكليز على البوير في الترنسفال، فلم يغفر له ولرفاقه

السلطان عبد الحميد تلك المظاهرة، لا لأنهم هنئوا إنكلترا بنصرها، بل لأنهم مثلوا

الأمة العثمانية والشعب، ولم يكن يُغضبه أمر كهذا الأمر، حتى إن رقباء الصحف

والمطبوعات (المكتوبجيه) حذفوا من قواميس اللغة كلمة (وطن) و (شعب)

و (أمة) و (جمهور) .. . إلخ، وما شاكل ذلك من الألفاظ، فصبر السلطان على

أولئك المتظاهرين مدة، ثم فرق شملهم وأرسل كل واحد منهم إلى جهة، إلى أن

تمكن السيد الزهراوي من الفرار إلى مصر كما فر قبله السيد عبد الرحمن الكواكبي

وكل حر في تلك البلاد من عربي وتركي وغيرهم.

ويمتاز الزهراوي وأمثاله من رجال الدين المصلحين على سواهم، من

المتعلمين أنهم خير صلة بين طوائف الشعب وفرقه، فهم يحترمون التقاليد المقدسة

لكل طائفة، وهم في الوقت ذاته يؤيدون المصلحين في إصلاحهم، فقد كانت طائفة

الإسماعيلية في سورية تَجْمَع العُشور والنذور وترسلها إلى أغاخان في الهند لأن

معتقدها ومذهبها يقضي عليها بذلك، فحدث بعد إعلان الدستور أن هذه الطائفة

الصغيرة جمعت ما تبلغ قيمته نحو عشرة آلاف ليرة فصادرتها الحكومة، ولكن

السيد الزهراوي الذي كان يومئذ من أعضاء مجلس النواب انتصر لتلك الطائفة

وقاوم الحكومة، وجاهد في هذا السبيل حتى قرر مجلس النواب أن تنفق تلك

الأموال في تعليم تلك الطائفة، ولا تصادر لخزانة الحكومة كما فعلت وزارة

الداخلية، ولكن القرار لم يتجاوز الورق.

وكان السيد الزهراوي يقول باتحاد الطوائف العربية بعامل اللغة والمنفعة

والأصل والسلالة، فأنشأ جريدة الحضارة لهذا الغرض، وكان من محرري جريدته

رزق أفندي سلوم الذي شُنق في دمشق، وهو فتًى من حمص كان قد ترهب، ولكنه

خلع ثوب الرهبنة، وسار على آثار مواطنه بحتة، ووحد الاثنان كلمتهما في هذا

السبيل، فكأنهما جمعا لسانين دينين على دعوة واحدة وطنية، وكان الزهراوي ككل

أديب في بلاده اتحاديًّا بحتًا على مذهب الاتحاديين الأولين الذين نالوا الدستور

(للاتحاد والترقي وللنجاح) ولكن لما ذهب أولئك الاتحاديون الأولون، ومُزق شملهم

وخولفت مبادئهم ومذاهبهم، اتفق مع الخوجة شكري أفندي الذي تُوفي في مصر منذ

عهد قريب على تأليف حزب الأهالي.

ثم ضُمَّت الفرق كلها وأُلف منها حزب الائتلاف على قواعد ومذاهب فرقة

الاتحاد والترقي، كما كانت هي عهد زعامة صادق بك وإخوانه وأقرانه، إلى أن

فشلوا في مهمتهم، فوجه نظره شطر العرب حيث لا أحزاب ولا فرق، بل مطالب

قاعدتها انتفاع البلاد بما يُجْبَى منها من الضرائب وبأوقافها، فرأس المؤتمر العربي

الذي عقد في باريس- لأنه لم يسمح لهم بعقده في بلاد الدولة- وهناك كتب الوثيقة

المشهورة مع مندوبي الاتحاد، وعاد إلى الأستانة مع رسول الاتحاديين عبد الكريم

قاسم الخليل الذي كان أول المشنوقين في سوريا، والهادي الذي تلاه والشيخ أحمد

طباره الذي حكم عليه بالإعدام، فعين الزهراوي في مجلس الأعيان إلى أن شُنق.

ومما امتاز به هؤلاء جميعًا شدة عصبيتهم العربية، وشدة عصبيتهم الجنسية

العثمانية، حتى كان الزهراوي يقول عند ذكر مطمع دولة من الدول في أملاك

الدولة العثمانية: (إن هذا ينال منا بعد أن تزهق أرواحنا) وله في ذلك مغاضبات

شديدة مع أصدق أصدقائه (الصواب مع بعض معارفه لا أصدق أصدقائه) .

نقول هذا لا تأبينًا للسيد الزهراوي بل بيانًا للحقيقة عن تلك البلاد وأهلها

وميول زعمائها الذين ذهبوا جملة لا لجريرة إلا أنهم طلبوا إصلاحًا يقيهم البلاء،

واتقاء مطامع الطامعين في أرضهم وبلادهم، حتى إن الشيخ أحمد طباره لما عاد

من أوربا غيَّر منهج سياسته وبعد أن كان يمتعض لذكر المدنية الأوربية، أخذ

يكتب ويحث أمته على الاقتباس من محاسنها، فكان يكرر قوله: (إنا لا ننقذ بلادنا

ووطننا إلا بالسير على مناهجهم) تلك طائفة ذهبت اليوم، ولكن لهذه الطائفة

مذاهب ومبادئ إذا بقي في قومها وعشيرتها من يحبها ويعمل بها قد تكون نتيجتها

خيرًا وإلا فقد ذهبت الرءوس وبقي القوم كالقطيع من الأغنام بدون راعٍ تُساق فتسير

إلى حيث يراد منها لا إلى حيث تريد؛ لأنها بعد قطع رءوسها باتت بلا إرادة.

(المنار)

هذا ما نشر في جريدة الأهرام عند وصول نبأ شنق السيد الزهراوي إلى

مصر، وفي بعضه نظر أو إبهام، تختلف فيه الأفهام، وقد رأينا من حق صديقنا

رفيق رزق سلوم الذي ذكرته الأهرام في كلامها عن السيد الزهراوي أن نقول في

نشأته كلمة وجيزة، تحفظ في تاريخه ويظهر بها سبب شنقه وشنق جورج الحداد

من شبان نصارى سورية مع من شُنق من زعماء المسلمين ونابغيهم بتهمة السياسة

العربية.

***

رفيق رزق سلوم المحام

نبت هذا الفتى في بيت من أكرم بيوت الروم الأرثوذكس في حمص، وتلقى

التعليم الابتدائي في إحدى مدارس الطائفة فيها، ثم أرسل إلى دير البلمتد بالكورة

(لبنان) فألبس لباس خدمة الدين، ودخل مدرسة الدير الدينية، ولكنه لم يُخلق

مستعدًّا للرهبانية والخدمة الكنيسية، وإنما خُلق كبير الاستعداد للحياة الاجتماعية

السياسية، فلم يُتم مدة المدرسة، بل خرج منها، ودخل المدرسة الكلية الأمريكية

في بيروت، ثم سافر إلى الأستانة بعد الانقلاب العثماني، فدخل أحد مدارسها

الإعدادية، ثم مدرسة الحقوق، وقد أخذ الشهادة الدراسية منها، واختار أن يكون

محاميًا.

كان رفيق مريدًا وتلميذًا للزهراوي في أفكاره الاجتماعية، عاشره فعلم منه،

وهو أنبغ رجل من أشرف بيت في حمص أن في مسلمي البلاد فئة تسعى للإصلاح

الوطني سعيًا لا شائبة فيه للعصبيات والأحقاد الدينية، ولما جاء الأستانة بمساعدة

الزهراوي رأى جميع طلبة المدارس الرسمية العالية، وكلهم من المسلمين على هذا

المشرب الذي شرب كأسه الأُولى من يد الزهراوي، فانتظم في سلك أعضاء

المنتدى الأدبي، وانتخب وكيلاً للرئيس فيه، وكان حظه من اللغة العربية أوفر من

حظوظ جمهور إخوانه أعضاء المنتدى الذين لم يتعلموا شيئًا في غير مدارس الدولة،

فكان خطيبًا مفوهًا وشاعرًا مؤثرًا، ورغَّبه السيد الزهراوي في الكتابة إنشاءً

وترجمة، وكان يصحح له ما ينشره في جريدة الحضارة فحسنت كتابته.

تمكنت النزعة العربية من نفس هذا الشاب المهذب بما كان يسقي غرسها في

نفوسه مما كان يسمعه من كلام مدرسي الترك وطلابهم في مدارس العاصمة من

الحث على العصبية التركية، وما يقولون في العرب والعربية، وما كان يقرؤه في

جرائدهم وكتبهم، وما يقف عليه من أخبار جمعياتهم، فكان يقابل غلو متعصبي

الترك بجنكيز خان وهلاكو خان المفسدين اللذين دمرا المدنية العربية الإسلامية

بنظم القصائد في مدح النبي العربي الأعظم صلى الله عليه وسلم وإنشادها في

احتفال المولد النبوي الشريف في المنتدى الأدبي، فهذا هو السبب الحامل لجمال

باشا السفاك الاتحادي على شنق رفيق رزق سلوم مع السيد الزهراوي وإخوانه

وأخدانه من مصلحي العرب، ولا نعلم له ذنبًا إلا هذا، فإنه قضى حياته السياسية

كلها في الأستانة، وكان على رأي أستاذه الزهراوي في وجوب السعي إلى ترقي

العرب في حجر الدولة العثمانية. وكان جورج حداد على هذا المشرب أيضًا.

ولكنه كان من أعضاء حزب اللامركزية، وكفى بذلك ذنبًا عند جمال باشا يقتضي

القتل والصلب.

_________

(1)

كنت كتبت إلى الأخ الذي أشار إليه ثم إليه هو أن عرب الجزيرة هم صفوة العرب وأعظمهم استعدادًا، فإن هنالك إصلاحًا عربيًّا فيجب أن يكون لهم حظ منه وأن نعتني بشأنهم أكثر من غيرهم.

(2)

(المنار) الصواب في هذه المسألة ما بيناه في هذا الجزء.

ص: 169

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البلاغ الإنكليزي الرسمي

في شأن العرب والسلطة الإسلامية

أرسل قلم المطبوعات البلاغ الآتي إلى الجرائد في القطر المصري

مصر في 28 يوليو سنة 1916 نشر في لندن اليوم البلاغ التالي:

(منذ سنين والعرب المعذبون بسوء الحكم التركي ينتظرون اليوم الذي

يتمكنون فيه من استرجاع حريتهم السابقة، وقد قاموا في الماضي بثورات عديدة

ضد الاستبداد التركي في البلاد العربية.

وقد أدى سوء تصرف الحكومة الحالية في الآستانة وخضوعها التام لسلطة

الألمان إلى دخول تركيا مضطرة في حرب مشئومة، أوصلت الأحوال فيها إلى حد

النهاية، فرأى شريف مكة وغيره من الزعماء في البلاد العربية أن الأوان قد آن

لخلع النِّير التركي عن أعناقهم والمناداة باستقلالهم.

وكانت بريطانيا العُظمى تعطف دائمًا على العرب في أمانيهم، ولكن

صداقتها التقليدية لتركيا اضطرتها في الماضي إلى البقاء على الحياد. أما الآن،

وقد انضمت تركيا إلى صف الدول الوُسطى، فقد أصبحت بريطانيا العظمى حرة

في إظهار عطفها على أولئك العرب الذين انخرطوا في جانب الحلفاء ضد العدو

المشترك.

على أن بريطانيا العظمى ستبقى محافظةً على سياستها الثابتة في الابتعاد عن

أية مُداخلة في الشئون الدينية، وعلى بذل جهدها في بقاء الأماكن المقدسة أمينة من

كل طارئ خارجي.

ومن النقط التي لا تقبل التغيير والتبديل في سياسة بريطانية العظمى هو أن

تبقى هذه الأماكن المقدسة في أيدي حكومة إسلامية مستقلة.

ولا يخفى أن أحوال الحرب الحاضرة تلقي العقبات الكثيرة والأخطار في

سبيل الراغبين في القيام بفريضة الحج، ولكن العمل الذي قام به شريف مكة يجعل

الأمل كبيرًا في اتخاذ التدابير اللازمة التي تمكن الحجاج في المستقبل من زيارة

الأراضي المقدسة بسلام واطمئنان) اهـ.

(المنار)

قد أسمعتنا العاصمة البريطانية عدة أصوات في المسألة العربية والبلاد

الإسلامية المقدسة كان أولها برقية لروتر يؤكد فيها أن إنكلترا لا تنوي أن تأخذ شيئًا

من بلاد العرب، ولا تسمح لأحد بالاعتداء على شيء من البلاد الإسلامية المقدسة.

ثم دار في هذا المعنى، وفي مسألة الخلافة كلام كثير بين أعضاء مجلس الأعيان

والنواب، ولكن لم يكن شيء من ذلك بلاغًا رسميًّا في معنى قطعي يوثق بعدم

الرجوع عنه كالبلاغ الذي نشرناه اليوم دون جميع ما سبقه مما هو جدير بأن يحفظ

أيضًا، وإن لم يبلغ درجة هذا البلاغ في الاعتبار.

في هذا البلاغ تصريح قلما يصدر عن دولة، وهو قد صدر عن أدق الدول

في تحرير العبارات الرسمية وجعلها مقيدة لغيرها بقيود قلما يستطاع التفلت منها مع

بقائها هي في عالم الإطلاق. ألا وهو التصريح بأن من أصول السياسة البريطانية

التي لا تقبل التغيير والتبديل بقاء الأماكن الإسلامية المقدسة في يدي حكومة إسلامية

مستقلة. ومعنى كون هذا لا يقبل التغيير والتبديل أنه متفق عليه من جميع أحزاب

الأمة لا أنه رأي الحكومة الحاضرة، أو حزبها - حزب الأحرار- وحده، فيكون

عُرضة للرجوع عنه بتغير الوزارة أو تحولها إلى حزب المحافظين. وبهذا التفسير

يظهر غلط الذين قالوا: إنه لا يوجد في السياسة شيء لا يقبل التغيير والتبديل،

فيكون هذا النص لغوًا لا معنى له حتى نغتر به. ونقول لهؤلاء: حسبنا أنه لا

يتغير ولا يتبدل إلا بتغير رأي الأمة الإنكليزية كلها وهي أثبت الأمم وأبطؤها تغيرًا

وتحولاً في كل شيء.

على أن أهم ما في هذا التصريح فَحْواه لا نصه، وأعني بفحواه اعتراف

الدولة البريطانية باستقلال الدولة الإسلامية التي تستولي على هذه البلاد إذا زالت

سيادة الدولة العثمانية عنها بما يُخشى أن يحل بها من قدر الله - تعالى -، فهو

يتناول مسألة السلطة الإسلامية في هذه الحالة، وهي أهم ما يهم جميع مسلمي

الأرض، وسنكتب فيها مقالاً نبين فيه ما يسمح لنا الوقت ببيانه - إن شاء الله

تعالى -.

_________

ص: 188

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الانتقاد على المنار

سيدي الأستاذ محرر (المنار) : اطلعت على دعوتكم إلى نقد (المنار)

وعلى فاتحة المجلد التاسع عشر فلم يسعني إلا تحرير هذا الكتاب لفضيلتكم ورائدي

الإخلاص وتعضيد ما ينفع الناس.

فأما عن نقد (المنار) فحسبي أن أقول: إن المجلة التي كادت تبلغ ربع قرن

من حياتها لا بد وأن تكون قد جمعت من أسباب الحياة ما فيه الكفاية، وإن ما ألم بها

أخيرًا من العسر المالي الذي يرجع بعضه إلى أزمة الحرب ليس غير مجرد مرض

عادي إذا عُولج علاجًا ناجعًا عادت إلى المجلة نضرتها السابقة، وعندي أن هذا

المرض محصور في اضطراب إدارة المجلة، وفي عدم تمشيها مع الزمن بخلاف

عادتها في سالف السنين، ولبيان ذلك أقول: إن إدارة المجلة على ما يظهر لي

كثيرة التساهل مع المشتركين، فإني لا أتذكر أني تلقيت أخيرًا من حضرة مدير

(المنار) طلبًا بدفع الاشتراك كما هي عادة جميع المجلات الراقية عربية كانت أم

إفرنجية.

وقد كنت أباهي بشدة تدقيقي في حسابي، ولكن شواغل الحياة متى تعددت

أصابت الإنسان بالنسيان وسلبته بعض نظامه مهما يكن يقظًا، فبت ولا أدري بماذا

أدين إليكم؟ والنفقة التي تنفقونها في سبيل تذكير كل مشترك مرة في السنة بموعد

تجديد اشتراكه لا يساوي شيئًا في جنب الفائدة المادية التي تحصلون عليها. ولولا

أن هذه الطريقة الإدارية ذات نتيجة محسوسة لما استمرت على اتباعها جميع

الصحف المعتبرة، زد على ما تقدم أن المجلة لا تُرسل إليّ بانتظام وهذا ضار

بمصلحتها؛ لأني إذا كنت لا أتردد لحظة في دفع ما تطلبون إلى دفعه حتى، ولو

استلمت عددًا واحدًا فقط منها في السنة كلها. معتمدًا على جميع بقية الأعداد منكم

متى عدت إلى القاهرة، فلا شك عندي أن كثيرين غيري يتنصلون من الدفع بهذه

الحجة، فتكون خسارتكم حينئذ غير قليلة. وهذه نقطة جوهرية يحسن بسادتكم

النظر فيها، لأن نظام العمل من أقوى الدعائم لنجاحه.

مباحث المجلة في تعريفكم ليست قاصرة على فلسفة الدين بل هي تشمل أيضًا

شئون الاجتماع والعمران، ولكنكم قلما تطبقون ذلك. لا أنكر أنكم أحسنتم كثيرًا

بنشر المقالات الصحية المفيدة التي وضعها الدكتور توفيق صدقي، كما أن لكم

جولات رائقة في غير مباحث الدين، ولكني لا أعرف لكم أبوابًا ثابتة في كل عدد

سوى باب تفسير القرآن، بخلاف ما أشاهده في مثل (المقتطف) أو (رعمسيس)

أو (الهلال) وبخلاف ما أشاهده في المجلات الدينية المسيحية الراقية التي تصدر

بالإنكليزية، حتى كأن تلك المجلات الدينية، تخوض في كل علم، وترمي إلى

تطبيق العلم على الدين.

ومثل هذا التطبيق في رأي بعض المفكرين تضليل. ولكني لا أرى ذلك إذا

كان المطبق مخلصًا في عمله؛ لأن رجل الدين متى اعتقد أن العلم هو أحد أركان

الدين، وجب عليه أن يجمع بينهما حتى يخلِّص المعتقدات الدينية من خرافات

الجهلاء المدعين الذين يتاجرون باسمها أو يبنون شهرتهم الكاذبة على حسابها، وقد

لاحظ كثيرون تحاشيكم إيضاح (المنار) بالصور حتى رسوم من تُوُفُّوا من علماء

الإسلام، فعد ذلك دليلاً على كره الإسلام للتصوير في العصر الحاضر أيضًا.

وأما عن دار الدعوة والإرشاد التي تقصدون بها تربية أساتذة لتهذيب العامة،

ونشر المبادئ الأدبية النافعة والقضاء على أباطيل الأولين، فلا يحاربها رجل بعيد

النظر، حتى ولا من أنكر ذات الخالق؛ لأني إذا قلت: إن الطبقة المتعلمة من

الأمة قد تجد من تعليمها العالي المبادئ الأدبية الكافية لصيانة أخلاقها، ولو كانت

غير متدينة بدين سماوي، فيصعب علي جدًّا أن أتصور جواز هذا الحكم على عامة

الناس الذين لا تثمر مبادئ الإلحاد بينهم إلا فوضى أدبية مريعة. فيجب إذن تعضيد

رؤساء الأديان الذين يسيرون بها دائمًا إلى الأمام، وقصدهم التعليم والتربية: وإذا

عد نفر من السنين يتحقق هذا الحلم.

فإذا فرضنا أن تحقيقه في حكم المستطاع - والناس كثيرًا ما يختلفون حتى

على البديهات. وفي خلال كل هذا الزمن، يلبث الدين قرين اللغة من مشخصات

الأمة ومظهر من مظاهرها - فحري بكل ذي وطنية صحيحة أن يمعن النظر في

هذه المسألة الحيوية.

هذا وإني لا أذهب مذهب مكاتبكم الفاضل في خاتمة المجلد السابق، بل لا

أشك في حسن مستقبل الشرق، ولكل أمة دور من صعود وهبوط، ولا خوف

عندي على مثل (المنار) أو (دار الدعوة والإرشاد) فلا بد أن يأتي وقت قريب،

يُعطى فيه خليفة الإمام محمد عبده حقه من الإنصاف على ما خدم به الأمم الإسلامية

من الإرشاد النافع حتى صارت فتاويه مرجع كل مصلح اجتماعي جريء.

وبات (تفسير المنار) معدودًا أعظمَ تفسير للقرآن الشريف لجمعه بين علوم

السلف والخلف، ولما تضمنه من خلاصة العلوم الحديثة، التي يجب أن تكون هُدى

المفسر لكتاب يعد قانون الله الذي خلق الكون ودبره. فما العلوم الطبيعية إلا

خلاصة ما وصل إليه العقل الإنساني في دروس سنن الكائنات بتدقيق وأمانة؛ لهذا

كانت تفاسير القرآن التي خطها الجاهلون بهذه العلوم أولى بالتلف منها بالصيانة،

فإنها عار للعلم والدين معًا.

فاسمح لي إذًا يا سيدي الأستاذ أن أهنئكم على استقبال (المنار) لسنة جديدة

من سِنِي حياته المباركة، راجيًا أن تكون فاتحة رقي متواصل له ونجاح ثابت

ونصرة للفضيلة والآداب.

...

...

... نادي، مستشفى سانت جورج بلندن

...

...

...

أحمد زكي أبو شادي

...

...

...

... (طبيب)

(المنار)

نشرنا رسالتكم برمتها، وإن كان موضوع باب الانتقاد على المنار خاصًّا

بانتقاد مسائله دون إدارته. ونشكر لكم تهنئتكم وثناءكم، وكل ما كتبتم بمداد

الاستقلال والإخلاص، ولا أنكر ما عرض من الخلل على إدارة المنار ولا سيما

إهمال التحصيل، وأذكر من سببه خيانة بعض الوكلاء وتركي الأشراف عليها،

وتعدد من تولى أمرها منذ الانقلاب العثماني الذي فتح لي أبواب الأسفار إلى سورية

ثم الآستانة، ثم الهند وعمان والعراق، والاشتغال بمشروع الدعوة والإرشاد،

وستعود إلى الانتظام في هذا العام - إن شاء الله تعالى -.

وأما سبب قلة تنوع موضوعات المنار كتنوع غيره من المجلات فهو أن

محرره واحد له أعمال كثيرة أخرى، ومحرروها كثيرون. ولا يتسع هذا الجزء

للخوض معكم في سائر المسائل التي أودعتموها في رسالتكم المفيدة.

_________

ص: 190

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مناسك الحج

أحكامه وحكمه

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ

عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) ، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ

البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158) {الْحَجُّ أَشْهُرٌ

مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا

مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة: 197) .

أما بعد: حمدًا لله والصلاة والسلام على خاتم رسله محمد - صلى الله عليه

وسلم - فيقول محمد رشيد بن علي رضا صاحب مجلة المنار: إنني في شهر ذي

القعدة سنة 1334 عزمت على أداء فريضة الحج في خدمة والدتي، وكنت أتمنى

ذلك منذ سنين، ولم يتيسر لي لموانع بعضها من قِبَلها، وبعضها من قِبلي، وقد

خطر لي قبل السفر من مصر بثلاث ليال أن أكتب شيئًا مختصرًا في أحكام المناسك

وحكمها، سهل العبارة، مأخوذًا مما صح في السنة، مع الإشارة إلى أقوى مسائل

الخلاف، وأن أطبعه وأوزعه على من أسافر بصحبتهم من الحجاج، تعليمًا للجاهل،

وتذكيرًا للغافل، ولكن لم يتيسر لي الشروع فيه إلا في منتصف النهار من اليوم

الثاني والعشرين من الشهر - وموعد السفر 24 منه -.

***

الحج والعمرة

الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو عبادة بدنية مالية، والصلاة عبادة

بدنية فقط، وكذلك الصيام، والزكاة عبادة مالية فقط، ومعناه القصد إلى بيت الله

الحرام بمكة المكرمة؛ لأداء النسك فيه وفيما جاوره من الأماكن الشريفة، وهذا

النسك منه أركان وواجبات، وسنن مندوبات ومستحبات.

والعمرة كالحج في أركانه وواجباته وسننه إلا الوقوف بعرفة فإنه ركن من

الحج غير مشروع في العمرة، وتكون في أشهره وفي غير أشهره كما سيأتي.

وهي واجبة عند بعض أئمة العلم، وسنة عند الآخرين ويجوز الجمع بين الحج

والعمرة بأن ينويهما، ويلبي الله - تعالى - بهما معًا عند الإحرام، ويسمى هذا

(قِرانًا) وأن ينوي الحج وحده ويلبي به ثم يدخل عليه العمرة، ويسمى

(إفرادًا) وأن ينوي العمرة وحدها أو مع الحج ثم يتحلل منها بعد أداء أركانها، ثم

يُحرم بالحج بمكة، ويسمى هذا (تمتعًا) لأن صاحبه يتمتع بعد التحلل من إحرامه

بها ويتمتع به غير المُحْرِم من لبس الثياب والطيب وغير ذلك من محرمات الإحرام،

وعليه فدية، وهي ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع من

الحج، أو إطعام ستة مساكين من أوسط طعامه، ككفارة اليمين وزكاة الفطر.

واختلف علماء السلف والخلف في الأفضل، وأقوى الأقوال في ذلك أن التمتع

أفضل مطلقًا، أو لمن لم يَسُق (الهدي) إلى الحرم. و (الهدي) ما يُهدى إلى

الحرم من الأنعام ليُذبح فيه تقربًا إلى الله - تعالى -، فمن ساقه من بلده أو

طريقه فالأفضل له القِران. وعلى هذا يكون التمتع هو الأفضل والأيسر لأمثالنا -

من الحجاج المصريين وغيرهم ممن لا يسوق معه هديًا - أن نُحْرِم بالعمرة وحدها

أو مع الحج، ثم نأتي بأركان العمرة كما يأتي بيانه، ثم نتحلل منها فنستبيح

كل ما يباح لغير المحرم، ونذبح شاة إذا كان يوم (التروية) - وهو الذي قبل يوم

عرفة - نُحْرِم بالحج من مكة، ولمن أحرم بالحج وحده أو بالحج والعمرة معًا أن

يتحلل بعمرة، ثم يحرم بالحج كذلك.

***

الإحرام والتلبية

لكل قطر من الأقطار مكان يسمى (ميقات الإحرام) لا يجوز تجاوزه بغير

إحرامٍ الحاجُّ ولا المعتمر، وفي غيرها كقاصد الحرم للتجارة خلاف، فمتى بلغ

الميقات أحرم عنده، بأن ينوي الحج والعمرة أو أحدهما، ويلبي بما نواه بأن يقول:

لبيك اللهم عمرة أو بعمرة، أو لبيك اللهم حجًّا، أو لبيك اللهم حجًّا وعمرة، أو

بحج وعمرة.

وتقدم أن الأفضل لأمثالنا الإحرام بالعمرة فقط. ومن أحرم إحرامًا مطلقًا

قاصدًا النسك الذي فرضه الله - تعالى - في حرمه من حيث الجملة جاهلاً هذا

التفصيل صح إحرامه، وعند أداء المناسك يأتي بواحد من الثلاثة التي ذكرناها.

والإحرام بالمعنى الذي ذكرناه - وهو نية النُّسك من حج وعمرة فرض فيهما، وهو

ركن عند الجمهور وشرط على الراجح عند الحنفية.

ويستحب الاغتسال للإحرام، ولو لحائض ونُفَساء، وكذلك التطيب قبله،

وأن يكون بعد صلاة، إما صلاة فرض، وإما صلاة تطوع، وأن يحرم في ثوبين

نظيفين - وكونها أبيضين أفضل - وفي نعلين لا يستران الكعبين، وأن يكون أحد

الثوبين إزارًا، يُلف على النصف الأسفل من البدن والآخر رداء، يوضع على

العاتق ويستر النصف الأعلى منه دون الرأس فإنَّ ستره حرام على الرجال. فلا

يجوز للمحرِم لُبس العمامة ولا غيرها مما يوضع على الرأس، ولا لبس القميص

والقباء (القُفطان) والبرنس والجُبَّة والسراويل والخف والحذاء، الذي يسمى

الجزمة أو الكندرة. ولا ما في معنى ذلك من الثياب المفصلة المخيطة، ومن لم

يجد الإزار والرداء أو النعلين لبس ما وجده؛ ففي صحيح مسلم عن ابن عباس أنه

سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بعرفات يقول: (السراويل لمن

يجد الإزار والخفان لمن يجد النعلين) ولا فِدية عليه عند الشافعي وأحمد لأنه لبس

ذلك للضرورة، فإذا زالت الضرورة في أثناء النسك، بأن وجد الإزار والنعلين

وجب عليه نزع السراويل والخف ونحوهما، فان لم ينزعها وجبت عليه الفدية،

وهي شاة يذبحها. وعند أبي حنيفة ومالك تجب عليه الفدية، وإن لبس ذلك

للضرورة. ولا بأس بشد المنطقة أو الهميان الذي توضع فيه النقود في الوسط.

ولا بأس بعقد الإزار في وسطه أيضًا، وإذا كان يخاف سقوطه بغير عقد يتأكد العقد.

والأصل في هذه المسألة حديث ابن عمر في الصحيحين: أن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال: لا يلبس القميص

ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس

الخفين وليقطعهما أسفل الكعبين. ولا تلبسوا شيئا من الثياب مسه الزعفران ولا

الورس هذا لفظ مسلم. وفي حديث ابن عباس المرفوع، أنه - صلى الله عليه

وسلم - لم يشترط في ترخيصه بلبس الخفين لمن لم يجد النعلين قطعهما. فبعض

العلماء حل هذا الإطلاق على حديث ابن عمر، وقال: لا بد من قطعهما، وبعضهم

قال: إن حديث ابن عباس ناسخ لحديث ابن عمر؛ لأنه بعده.

ولا يجب على الرجل كشف غير الرأس من بدنه، ويجوز له أن يستظل

بالمظلة (كالشمسية) وغيرها مما لا يمس رأسه، ولكن يستحب له أن يعرض

رأسه للشمس ما لم يتأذَّ بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه -

رضي الله عنهم لم يكونوا يستظلون في الإحرام، وقد رأى ابن عمر رجلا ظُلِّلَ

عليه قال له: أيها المحرم أَضْحِ لمن أحرمت له. أي ابرز للشمس لأجل من أحرمت

له، ويقال: ضَحَى الرجل، يَضْحَى ضُحًى، وضحا، يضحو، ضَحْوًا، وضَحْيًا،

إذا برز للشمس أو أصابته الشمس.

وأما المرأة فلم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن وضع النِّقاب

على الوجه، ولبس القُفّازين في اليدين، فإحرامها في وجهها ويديها والنقاب ما

تستر به المرأة وجهها، فلا يبدو منه إلا محاجر العينين، ومثله البُرْقُع.

قال العلماء: فإن سترت وجهها بشيء لا يمسه فلا بأس. وأما ستره عن

الرجال بمظلة ونحوها فلا شبهة في جوازه، ويجب إذا خِيفت الفتنه من النظر.

ومن أَضَرّه لباس الإحرام، فله أن يتقي الضرر، ولو بتغطية الرأس، ومتى زالت

الحاجة إلى ذلك تركه.

وأما التلبية فصيغتها المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لبيك

اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)

وكان صلى الله عليه وسلم يلبي من حين يحرم، يرفع بها صوته، فرفع

الصوت سُنة للرجل، فيرفع المحرم صوته بحيث لا يجهد نفسه، والمرأة ترفع

صوتها بحيث تسمع نفسها، وكذا جارتها.

ومعنى التلبية المبالغة في إجابة دعوة الداعي إلى الحج، ولا يزال العرب

يجيبون من يدعوهم إلى شيء بكلمة لبيك، وأول من دعا الناس بأمر الله إلى هذه

العبادة إبراهيم - عليه وعلى آله الصلاة والسلام -. وذلك قوله تعالى له: {وَأَذِّن

فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج:

27) والرجال هنا جمع رَاجِل، وهو الماشي على رجليه، أي يأتوك مشاةً

وراكبين على الرواحل الضامرة البطون التي تأتي من الفِجاج والطرق البعيدة.

فمعنى (لبيك اللهم) أنني أجيب الدعوة إلى هذا النُّسُك خاضعا لأمرك متوجها

إليك مقيما لخدمتك المرة بعد المرة. والتلبية واجبة عند المالكية، ومسنونة عند

الجمهور.

وهذه التلبية المأثورة هي العبادة القولية التي تتكرر من أول الإحرام بالنسك

إلى الانتهاء منه. ويستحب تجديدها بتجدد الشئون والأحوال كالصعود والهبوط

والركوب والنزول واجتماع الناس وتلاقي الرِّفاق.

***

دخول مكة والطواف

يستحب الاغتسال لدخول مكة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم

يغتسل له وكان يبيت (بذي طُوى) وهو موضع عند الآبار التي يقال لها: آبار

الزاهر، فمن تيسر له المبيت فيه والاغتسال فقد أصاب السنة.

والأفضل دخول مكة نهارًا، وأن يقصد المسجد الحرام تَوًّا، والأفضل أن

يدخل من باب بني شيبة؛ وروي في حديث ضعيف أن النبي - صلى الله عليه

وسلم - كان يقول إذا رأى البيت - أي الكعبة المعظمة -: (اللهم زد هذا البيت

تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً، وزد من شرفه وكرّمه، ممن حجه أو اعتمر

تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبِرًّا) وروي أن عمر رضي الله عنه كان إذا نظر

إلى البيت قال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام) .

واعلم أن ما يُذكر في المناسك من الدعاء والثناء، وما يلقنه المطوفون

للحجاج قلما يصح فيه حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه ما

هو من أقوال الصحابة وغيرهم من سلف الأمة.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع أصحابه يدعون الله - تعالى -

ويثنون عليه في النسك بما يلهمهم الله - تعالى - فيقرهم على ذلك. فعُلم من ذلك

أن ما لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لا يكلفه أحد ولا يمنع

منه، ولكن لا يجعل شعارًا عاما يلقنه كل الحجاج ويلتزمونه دائما بصفة خاصة؛

لأن الشعائر لا تثبت إلا بنص الشارع، والظاهر أن الشارع ترك هذا الأمر للناس

ليدعو كل منهم ويثني بما يلهمه الله ويخشع له قلبه. ويُسن أن يصلي بعد الطواف

ركعتين.

والثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد الحرام يبدأ

بالطواف، والطواف الأول من الحاج أو المعتمر يسمى طواف القدوم، وهو واجب

عند المالكية، وسنة عند الأئمة الثلاثة.

ويراعى في الطواف شروط الصلاة كالوضوء وطهارة البدن والثياب وستر

العورة، لما رواه الشافعي والترمذي - واللفظ له - من حديث ابن عباس مرفوعا

إلى النبي صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون

فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ووردت آثار في النهي عن كثرة الكلام في

الطواف، أي: وإن كان بخير لم تمس إليه الحاجة؛ لأنه يشغل القلب عن الخشوع

في هذه العبادة.

ولما كانت الطهارة شرطا لصحة الطواف، امتنع الطواف على الحائض

والنفساء، فهي تؤدي جميع أعمال الحج سواه، فتتربص به إلى أن تطهر، ويبتدئ

من الحجر الأسود: يستقبله ويستلمه ويقبّله، إن أمكن من غير إيذاء نفسه أو إيذاء

أحد بالمزاحمة، وإلا اكتفى باستلامه بيده - أي مسحه بها - وتقبيلها، فإن لم يمكن

أشار إليه بيده. ثم يشرع في الطواف فيجعل البيت عن يساره، فيطوف به سبعة

أشواط أي: مرات. ويستلم من الأركان الركنين اليمانيين؛ لأنهما على قواعد

إبراهيم عليه الصلاة والسلام دون الشاميين؛ لأنهما في داخل البيت.

والركنان اليمانيان هما الجنوبيان، ويسمى الذي فيه الحجر الأسود منهما

(الركن الأسود) إذا ذُكر وحده، وإذا ذُكر الآخر وحده قيل: الركن اليماني.

والشاميان هما الشماليان، فإذا ذُكر كل منهما وحده قيل:(الركن الشامي) وهو

المقابل لبلاد الشام (والركن العراقي) وهو المقابل لبلاد العراق، وإنما يقال في

تثنيتهما: اليمانيان والشاميان من باب التغليب.

هذا، وإن في الحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم الذي ذكرناه، وطواف

الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج باتفاق الأئمة، ووقته بعد الوقوف بعرفة،

وطواف الوداع، وهو واجب عند الجمهور ومندوب عند المالكية، وللحاجّ وغيره

أن يكثر من طواف التطوع ما استطاع.

***

السعي بين الصفا والمروة

السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة عند الجمهور، وعند

الحنفية واجب غير ركن، ويشترط أن يكون بعد الطواف. وعند الملكية يجب ذلك

وليس بشرط، ويجب عندهم الموالاة بينه وبين الطواف، وقال الجمهور: إنه سنة

لا واجب. ويطلق على السعي اسم الطواف والتطوف، كما ثبت في القرآن

والأحاديث؛ واختار الفقهاء اسم السعي للتفرقة بينه وبين الطواف بالبيت.

وكيفيته أن يبدأ بالصفا فيصعد إليها ويستقبل البيت (الكعبة) فيهلل ويكبر

ويدعو الله - تعالى - ثم ينزل ويذهب إلى المروة فإذا انتهى إليها توجه إلى جهة

المسعى ليكون مستقبلاً للبيت ويدعو الله - تعالى - كما دعاه عند الصفا؛ فهذه مرة،

ثم يعود إلى الصفا ثم المروة إلى أن يتم سبعة أشواط، يرمل في ثلاثة منهن بين

الميلين الأخضرين (وهما عمودان في جدار الحرم) .

والرمَل سرعة في السعي، ولا يشترط في السعي ما يشترط في الطواف من

الطهارة ولكن يستحب، ويجوز السعي راكبًا وماشيًا والمشي أفضل للقادر عليه.

روى مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا

من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: 158) وقال: أبدأ

بما بدأ الله به، وفي حديثه عند النسائي (ابدءوا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا، فرقي

عليه حتى إذا رأى البيت استقبل القبلة فوحد الله، وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده،

أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بعد ذلك، فقال مثل هذا،

ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة) الحديث.

وفيه أنه فعل في المروة كما فعل في الصفا. فينبغي أن يحفظ هذا، وأن

يدعو الساعي بعده بما يفتح الله به عليه لنفسه وأهله وإخوانه وأمته.

***

تنبيه

إن المكان الذي كان يرقى النبي صلى الله عليه وسلم إليه على الصفا،

قد بُني عليه، والصعود إليه ليس شرطًا لصحة السعي، فمن وصل إلى أسفل البناء

هناك وسعى ولم يصعده أجزأه ذلك، ولكن الأفضل أن يصعده لموافقة السنة في

الصعود.

***

الوقوف بعرفة

يخرج الحجاج من مكة (يوم التروية) وهو الذي قبل عرفة ويسميه العوامّ

بمصر والشام (يوم العرفة) ويسمون يوم عرفة (يوم الوقفة) محرمين؛ لأن من

كان متمتعًا يحرم في ذلك اليوم كإحرامه من الميقات، والسنة أن يحرم كل واحد من

المكان الذي هو نازل فيه، وله أن يحرم من خارج مكة إن كان غير مكي، فإن

المكي إنما يحرم من أهله، والسنة أن يبيتوا بمِنًى، ولا يخرجوا منها حتى تطلع

الشمس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يسيروا منها إلى

(نمرة) عن طريق (ضب) من يمين الطريق، وهو موضع في حدود عرفة

(ببطن عُرنة) . فيقيموا فيها إلى الزوال ثم يسيروا منها إلى بطن الوادي، وهو

الذي صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه الظهر والعصر قصرًا وجمعًا،

وخطب، فيصليها الحُجَّاج كذلك ويخطب بهم الإمام.

وهناك مسجد يقال له: مسجد إبراهيم بني في أول دولة بني العباس ثم

يذهبون إلى عرفات والعدول عن هذه الطريق إلى طريق (المأزمين) ودخول

(عرفة) قبل الزوال كلاهما مخالف للسنة، ولكن لا يجب به شيء لأنه ليس تركًا

لشيء من واجبات الإحرام.

ويقفون بعرفات إلى غروب الشمس، فإذا غربت خرجوا من بين العلمين أو

من خارجها. ويجتهد الحاجّ في الذكر والدعاء في هذه العشية فهي أفضل الأوقات

لهما وأرجاها للمغفرة والرحمة. ولم يعين النبي صلى الله عليه وسلم لعرفة

دعاءً ولا ذكرًا ليجتهد كل إنسان في ذلك بقدر معرفته وحسب حاجته. فيهلل ويكبر

ويدعو ما شاء الله من الأدعية الشرعية. ويُسن الغُسل يوم عرفة، ولا يسن

الصعود إلى الجبل الذي هناك الذي يسمى جبل الرحمة، - وهو جبل إلال - ولا

دخول القبة التي فوقة، التي يقال لها: قبة آدم ولا الصلاة فيها.

والسُّنة أن يُفيضوا من عرفات عند الخروج على طريق (المأزمين) فإن

النبي صلى الله عليه وسلم خرج منها على هذه الطريق؛ لأنه دخلها من

طريق (ضب) فسنته في المناسك كسنته في الأعمال والمواسم، إذا جاء من طريق

رجع من أخرى، كما كان يدخل المسجد من (باب شيبة) ويخرج بعد الوداع من

(باب حرورة) .

***

المبيت بمزدلفة

ورمي الجمار بمنى

يُسن المبيت بمزدلفة بعد عرفة، فهي المشعر الحرام الذي قال الله فيه:

{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} (البقرة: 198)

والوقوف عند (جبل قزح) أفضل، ثم يفيضون من المزدلفة بعد صلاة الفجر،

فإذا أتوا منى رموا (جمرة العقبة) بسبع حصيات، ولا يرمون يوم النحر غيرها.

وكيفية الرمي أن يستقبل الجمرة بحيث يكون البيت عن يساره ومنى عن

يمينه، ويرفع يديه بالرمي ويكبر مع كل حصاة. وإن شاء قال مع ذلك: اللهم

اجعله حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا. ويستحب تكرار التلبية بين

المشاعر كالذهاب من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى، ولم يصح في السنة

التلبية في عرفة ولا مزدلفة، فإذا شرع في رمي الجمرة استبدل التكبير بالتلبية -

أي: جعل التكبير للعيد بدلاً من التلبية للحج؛ لأنه حينئذ يشرع في التحلل الذي

تنتهي به المناسك. ومتى رمى جمرة العقبة، نحر هديه إن كان معه هدي. وكل

ما سيق من الأنعام من الحِل إلى الحرم فهو هدي بالاتفاق، ويسمى أُضْحِيَّة أيضًا،

وأما ما يُشترى في منى أو غيرها من أرض الحرم، ويذبح فيها فهو ليس بهدي عند

المالكية، وعند الأئمة الثلاثة يسمى هديًا. ويقول عند نحر الإبل وذبح غيرها:

بسم الله والله أكبر. اللهم منك ولك، اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك.

***

الحلق أو التقصير

بعد رمي جمرة العقبة يحلق الرجل شعر رأسه أو يقصره، بأن يقص منه

مقدار الأُنملة أو أقل أو أكثر، وتقص المرأة ولا تحلق ولا تزيد على قدر الأنملة.

والحلق أو التقصير ركن من أركان الحج لا يتم إلا به في مذهب الشافعي، وعند

الجمهور واجب لا ركن. وبالحلق أو التقصير يكون التحلل الأول من الإحرام فيحل

به للمحرم ما كان محرمًا عليه بالإحرام إلا النساء.

وبعد هذا يأتي الحاجّ مكة فيطوف طواف الإفاضة، الذي هو طواف الركن

كما تقدم، فإذا طاف هذا الطواف حل له كل شيء مما ذكر حتى النساء.

ثم يرجع إلى منى فيرمي بقية الجمرات، والأفضل أن يرميها في أيام

التشريق الثلاثة، وله أن يرميها في يومين لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ

مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (البقرة: 203) .

ويستحب في رمي الجمار أن يكون بعد الزوال، وأن يبدأ بالأُولى وأن يكبر

مع كل حصاة. ويدعو فيطيل الدعاء. وإذا قال في دعائه: اللهم اجعله حجًّا

مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا - فهو حسن.

***

طواف الوداع

تقدم حكمه، وينبغي أن يكون هذا الطواف آخر عهد حجاج الآفاق بمكة ليكون

مسك الختام.

انتهت الأحكام ولم نشأ نشر (حِكَم المناسك وأسرارها) في هذا الجزء من

المنار؛ لأنها منشورة في (باب الفتوى) من المجلد السادس عشر فليرجع إليها من

شاء في ص 675.

_________

ص: 213

الكاتب: محمد توفيق صدقي

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(13)

الدرن

TUBERCUlOSiS

يراد بهذا الداء تكوُّن أجسام صغيرة في عضو أو أكثر من أعضاء الجسم [1]

ويسمي الأطباء المحدَثون هذه الجسيمات بالدرنات أو الدرن [2] وهي تنشأ من باسيل

اكتشفه العلامة الألماني كوخ سنة 1882 ميلادية.

أوصاف هذا الباسيل: هو عصيات مستقيمة أو منحنية قليلاً طولها نحو 3

ميكرونات وعرضها 5و0 من الميكرن. ذات أطراف مستديرة في كل منها نقطة

لامعة أو أكثر ظُن سابقًا أنها حبيبات للميكروب، والحقيقة أنه لا يتوالد إلا بالانقسام

وهو عديم الحركة ولا أهداب له (خلافًا لما ذهب إليه بعض الباحثين) ويعيش في

الهواء وفي غيره من الغازات، بل في الفراغ، وأحسن حرارة تناسبه ما كانت

درجتها 37 سنتجراد، ولكن نموه بطيء جدًّا.

تركيب الدرن: تتكون كل درنة من خلايا تحيط بها تشبه كريات الدم البيضاء

وفي داخلها خلايا تشبه خلايا البشرة، وفي مركزها خلية أو أكثر كبيرة ذات نويات

عديدة. وقد يوجد بين هذه الخلايا منسوج آخر دقيق جدًّا يؤلف بينها. ويوجد

الميكروب بين هذه الخلايا أو فيها خصوصًا حول الخلية المركزية الكبرى أو فيها

كما في درن الحيوانات. وفي بعض الأحوال تكون هذه الخلية معدومة، وفي

البعض الآخر تكون الخلايا البشرية، كذلك فتتكون الدرنة من خلايا كالكريات

البيضاء فقط. وقطر الدرنة الواحدة عادة مليمتر واحد أو اثنان. وتشاهد الدرنات

في هذا المرض بوضوح في الرئتين أو الكبد أو الكليتين.

وكلما كبرت الدرنة مات وسطها، وذلك إما لعدم وصول أوعية الدم إليه أو

لسموم الميكروب أو للسببين معًا، فإذا مات الوسط صار مصفرًا وقوامه كالجبن،

وهذا الوسط الميت يزداد اتساعًا بينما محيط الدرنة يُغِير على ما أحاط به من

الأنسجة، وهلم جرًّا. وهذه الدرنات تنشأ بسبب تهيج العضو بالميكروب فتتكاثر

الخلايا حوله بانقسامها إلى عدة أقسام. وتهرع إليها الكريات البيضاء لمقاتلتها

فتحيط بها فيصيبها ما ذكر. وباجتماع هذه الدرنات بعضها مع بعض تتكون درنات

كبرى فينشأ من ذلك أخرجة (جمع خراج) في العضو المصاب.

وقد تتحول إلى مادة كلسية (جيرية) برسوب فسفات الكلسيوم فيها على

الأكثر فيموت الباسيل ويُشفى العليل.

وهذه الدرنات تحدث تهيجًا في الأعضاء، وقد يكثر حولها المنسوج الليفي

الضام. ويجوز أن يغير هذا المنسوج على الدرنة ويطبق عليها فتضمر وتتناقص

حتى تستحيل إلى نقطة ليفية، وبذلك يُشفى الدرن أيضًا.

أما إذا كانت قوى المريض ضعيفة فتلتهب الأنسجة حول الدرنات وتزداد حالة

العليل سوءًا فوق سوء، وفي آخر الأمر تتقيح الدرنات وما حولها ويشترك مع هذا

الميكروب ميكروبات أخرى فتتكون أخرجة وكهوف كما يحصل كثيرًا في رئة

المسلولين.

الأسباب: ميكروب هذا الداء منتشر كثيرًا بين الناس وبعض الحيوانات.

ولمعرفة كيفية العدوى به يجب أن نقسم البحث هنا إلى مسألتين:

(الأولى) الاستعداد الشخصي: للوراثة تأثير عظيم في العدوى بهذا الداء

فإنه يغلب حدوث هذا المرض في أولاد المسلولين. ولا يتوهم أحد أن الذي ينتقل

من الوالد إلى ولده وهو الميكروب، بل استعداد خاص فقط، اللهم إلا في أحوال

نادرة جدًّا، ولذلك كثيرًا ما يولد الولد في صحة لا بأس بها أو جيدة، ثم يصاب بعد

ذلك بالدرن وهناك مهيئات كثيرة للعدوى تسبب نهاكة القُوى فيضعف الشخص عن

مقاومة الميكروب فيقهره، وأهم هذه الهيئات:

(أ) الازدحام وفساد الهواء بأي سبب كان.

(ب) قلة الأغذية.

(ج) إجهاد قوى الجسم فوق طاقته بأي عمل كان ككثرة العدْو أو الانهماك

في الجماع أو في السهر وجلد عميرة، أو المطالعات الطويلة والمباحث العقلية

العنيفة خصوصًا إذا صاحبها الفقر وفساد الهواء.

(د) كثرة الحمل والولادة أو الإرضاع.

(هـ) كثرة التردد إلى الأماكن الرطبة المظلمة التي يندر دخول الشمس

فيها.

(و) الحمى التيفودية.

(ز) الإسراف في شرب الخمور.

(ح) البُوال السكري.

(ط) الزُّهَري إذا أهمل حتى أفسد البِنية.

هذه هي المهيئات العامة هناك مهيئات أخرى خاصة بالعضو المصاب

ويسمونها بالمهيئات الموضعية مثل، كثرة النزلات الشعبية أو الرئوية، وتهيج

الرئة ببعض الغازات أو بغبار بعض المعادن وغيرها كما يحصل في المصانع.

وللعمر تأثير كبير أيضًا في العدوى، فترى أن الدرن كثيرًا ما يصيب الصغار

ففي الأطفال تشاهد كثيرًا إصابتهم بدرن السحايا أو البريتون أو الغدد اللمفاوية أو

العظام أوالمفاصل، وفي الشبان كثيرًا ما نشاهد الدرن الرئوي (وهو المسمى

بالعربية السل أو الهُلاس) وأما الأشخاص الذين عمرهم فوق الأربعين فتقل

إصابتهم بالدرن ولا ينافي ذلك أنه يصيب الشيوخ أحيانًا قليلة، وفي تلك الحال

يغلب أن تكون إصابتهم مزمنة أي أن المرض بدأ فيهم قبل الأربعين.

(المسألة الثانية) مدخل الميكروب: يدخل الميكروب الجسم من طريق

الجلد أو الرئتين أو القناة الهضمية.

(أ) طريق الجلد وهو نادر الوقوع غير أنه يشاهد أحيانًا ثُؤلول في أيدي

المشرحين لجثث المسلولين، وفي هذا الثؤلول توجد ميكروبات الدرن وقد تنتشر

منه إلى الرئتين أو غيرهما.

وهناك درن الجلد يسميه الإفرنج [لوبس LUPUS] آخذًا من كلمة لاتينية

معناها (الذئب) لأن هذا الداء يصيب كثيرًا الوجه فتتآكل أجزاء كثيرة منه تآكلاً

يشبه نهش الذئب، ولكن هذا الدرن الجلدي قل أن ينتشر ميكروبه في الأحشاء.

وهذا الطريق الجلدي غير مهم في الغالب.

(ب) طريق الرئة وهو طريق مهم جدًّا. ولا يكفي لحصول الداء من هذا

الطريق مجرد استنشاق بعض نَفَس المسلول أحيانًا، ولكن يحدث المرض إذا كثر

الاختلاط بالمريض والقرب منه حتى يستنشق الإنسان الهواء المشتمل على ذرات

تخرج من صدر المسلول أثناء سُعاله فتنتشر في الهواء المحيط به، أما نفسه الهادئ

فلا يوجد فيه الميكروب. وإذا بصق المريض على الأرض أو غيرها وجف

البصاق تطايرت منه أجزاء فيها الميكروب وتكون خطرًا شديدًا على مستنشقيها.

ويكثر وجود الذرات التي فيها الميكروب على بعد نصف متر من فم المصاب

فإذا بعدت عنه مترًا ونصف متر فقلَّ أن يصيبك منها شيء.

وهناك بعض الحيوانات الداجنة التي تصاب بالدرن كالببغاء، وتكون أيضًا سببًا في

العدوى بهذا الداء من هذا الطريق.

ومن الحيوانات الأخرى الداجنة التي تكثر إصابتها به الخيل، ويقل وجوده

في الكلاب والقطط.

(ج) طريق القناة الهضمية، وهو أهم الطرق، فإن كثيرًا من الحيوانات

التي تؤكل يوجد فيها هذا الداء؛ إذ إنه كثيرًا ما يصيب البقر والخنازير والدجاج

والأرانب وخنازير الهند، أما المعز فقلَّ أن تصاب به، وكذلك الضأْن.

ولبن هذه الحيوانات يشتمل كثيرًا على باسيل الدرن إذا أصيبت ضروعها به

ولما كانت معرفة الضروع المصابة عسيرة في أول الأمر كان من الواجب اتقاء

شرب اللبن إلا بعد غليه مدة خمس دقائق على الأقل. وقد يوجد الميكروب في لحم

هذه الحيوانات وأحشائها. ونظرًا لانتشار الدرن في البقر يُشاهد هذا الداء كثيرًا في

بطون الأطفال الذين يربون بلبنها، وقد دلت التجارب أن الحيوانات الصغيرة إذا

ابتلعت ميكروب الدرن نفذ في جدر أمعائها، وأصاب غدد المساريقا فينشأ عنه

مرض هذه الغدد. أو تدرن معوي أو بريتوني، وقد يصل بعد مضي زمن إلى

أجزاء الجسم الأخرى فيصيب الغدد العنقية ويحدث داء الخنازير، وقليلاً ما يصيب

رئتي الصغار.

أما الشبان فإذا نفذ الميكروب خلال أمعائهم لم يصبها بشيء حتى يصل إلى

الرئتين فيحدث السل الرئوي. وهذا الفرق يشاهد أيضًا بين الصغار والشبان إذا

حقنوا بذرات من الكربون (الفحم) فتبقى في بطن الصغار وتصل إلى رئة الكبار،

ومن ذلك استدل بعض العلماء على أن الرئتين قد تصابان بالسل من طريق البطن

إذا أكل الشخص لحمًا أو لبنًا مصابًا، بل رجح هؤلاء العلماء أن إصابة الرئتين

بالسل من هذا الطريق هي أكثر حدوثًا من طريق التنفس.

وفي أكثر الأحوال تكون الإصابة بالدرن موضعية في أول الأمر يعني أنها

تكون قاصرة على عضو واحد، ومن ثم قد تنتشر تدريجيًّا إلى الأعضاء الأخرى

إما بسير الميكروب خلال الأنسجة أو بسيره في الأوعية اللمفاوية. وهناك درن عام

تصاب به فجأة أعضاء كثيرة من الجسم دفعة واحدة، ولكن يكثر في مثل هذا النوع

أن يكون مسبوقًا أيضًا بإصابة صغيرة موضعية كدرن الخُصية مثلاً، أو غدد العنق

أو غير ذلك.

ومما سبق يعلم أن أهم أنواع الدرن اثنان - الدرن العام والدرن الرئوي.

***

الدرن العام أو الدخني

سمي هذا النوع بهذا الاسم؛ لأن الدرنات تكون منتشرة في جميع أجزاء

الجسم تقريبًا وتشبه حبات الدَّخن إذا نثرت فيها.

الأعراض: هذه الأعراض تكون في أول الأمر مبهمة فيشتكي المريض من

ضعف عام ونحافة وإقهاء (فَقْد شهوة الطعام) وصداع وحمّى، وقد يوجد أثر من

الزلال في البول وتسوء حال المريض شيئًا فشيئًا، ثم تظهر أعراض أخرى تعين

إصابة الرئتين ككثرة السُّعال والبصق، أو يصاب الشخص بأعراض تعين إصابة

البطن كالإسهال المتعاصي والمغص، أو بأغراض أخرى تعين إصابة السحايا

كالتشنجات والشلل. والمراد بذلك أن تكون أعراض انتشار الدرن في الأعضاء

المذكورة أظهر من انتشارها في غيرها، وإن كانت كلها مصابةً به.

ويحصل الموت في مدة تتراوح بين 3 أسابيع إلى 10، ولا يعلم باليقين أن

أحدًا أصيب بهذا الداء وشُفي منه.

المعالجة: عديمة الجدوى، وإنما تعالج الأعراض فقط، ويعطى المريض

السوائل المغذية وبعض المنعشات مع بعض مرَكَّبات الأفيون لتسكين الألم والسعال،

ومن المنعشات النافعة جدًّا النوشادر، ويجب أيضًا أن تكون سُكنى المريض في

الأماكن التي تكون طلقة الهواء وتتخللها الشمس كثيرًا.

***

الدرن الرئوي أو السل

هذا الداء يصيب الرئتين بسبب تهييج باسيله لمنسوجها فتتكون الدرنات

ويلتهب ما حولها فيتصلب منسوج الرئة، ثم يتقيح ويتحول إلى تجاويف ممتلئة

بمِدة وصديد تسمى بالكهوف. ويكون ميكروب الدرن مصحوبًا بميكروبات أخرى

من الأنواع البزرية غالبًا إذا حدثت هذه التغييرات المذكورة أخيرًا فإنها تساعده في

إحداثها.

الأعراض: سير هذا الداء مختلف فبعضه يكون سريعًا والبعض الآخر يكون

بطيئًا فيمكث عادة من ستة أشهر إلى بضع سنين.

وأهم أعراضه السعال وضيق النفس والبصق الصديدي والنحافة الزائدة

والحُمَّى ونزف الدم من الصدر.

وتبدأ هذه الأعراض بطرق مختلفة، ففي كثير من الإصابات تبدأ بالسعال

وبصق المخاط مع الصديد زمنًا ما، وكثيرًا ما يتوهم الشخص أن داءه من البرد فلا

يَعْبأ به كثيرًا في أول الأمر، وفي حالات أخرى تبدأ بالنزف الرئوي، وفي هذه

الحالات قد يكون الشخص متمتعًا بالصحة فيندهش بمفاجأة النزف الرئوي له بعد

سعال خفيف فيخرج منه بضعة دراهم أو أوقية، وقد يزيد الدم إلى نصف لتر وبعد

زمن تظهر باقي الأعراض، وقد يعاوده النزف عدة مرات. وفي حالات قليلة يبدأ

المرض بشكل التهاب رئوي أو التهاب بليوراوي مع انسكاب في الصدر.

وهناك بعض الحالات التي تبدأ باضطراب في الجهاز الهضمي فيصاب الشخص

بالإقهاء مع القيء المتكرر والنحافة، ثم تتم باقي الأعراض المذكورة.

***

مضاعفات هذا الداء

الجهاز التنفسي: يصاب بالتهاب الحنجرة، فيُبَح صوت المريض، وفي

بعض الأحوال النادرة قد يكون ذلك أول ما يلاحظ على المريض. ويصاب هذا

الجهاز أيضًا بالتهاب البليورا، كما سبق مع الانسكاب المصلي أو الانسكاب

الصديدي أو الدموي أو تخترق الرئة فيدخل الهواء في تجويف الصدر، وبذلك

يبطل تنفس الرئة المصابة.

الجهاز الدوري: يصاب القلب بالضعف والتمدد في الأحوال المزمنة. وقد

يصيب الدرن بعض شرايين الرئة فيفجرها، ويحصل بسبب ذلك نزف شديد قد

يكون سببًا في الموت العاجل.

الجهاز الهضمي: يصاب - كما قلنا - بالإقهاء والغثيان والقيء وعُسر

الهضم والإسهال، وهو كثير الحصول في درجات المرض الأخيرة. وقد يصاب

البريتون أيضًا بالتدرن، وقد تصاب الكبد والطحال والكُليتان والأمعاء

بتغير مخصوص في أنسجتها يسمى عند الأطباء (الارتشاح الشمعي

degeneration waxy) ويُشاهَد أحيانًا ناسور في الشَّرَج بسبب هذا الداء

أيضًا.

الجهاز العصبي: قد يصاب بدرن في السحايا.

وقد تصاب أعضاء أخرى بالدرن فتزيد المرض شدة فوق شدته.

نهاية المرض: يحصل الموت بهذا الداء بالطرائق الآتية: نهاكة القُوى أو

النزف أو اختراق الرئة أو التهاب السحايا أو انثقاب الأمعاء أو التسمم البولي.

الإنذار: إذا اكتشف هذا الداء في أول درجاته فقد ينجح فيه العلاج ويُشفى منه

المريض غير أن أثر الدرنات يبقى في الرئة. وفي بعض الأحوال يسرع الموت

إلى المريض في أشهُر قليلة، وقد يمكث المصاب به عدة سنين قد تمتد إلى

الخمسين.

المعالجة: لا يوجد دواء لهذا الداء محقق النفع، وإنما يتلخص العلاج في

الكلمات الآتية: يوضع المريض في أصح الأهوية وأجودها وأكثرها تعرضًا

للشمس، ويُكثر من الراحة والنوم لتوفير قواه، وكذلك يُكثر من الأغذية الجيدة

السهلة الهضم كاللبن والبيض والعسل واللحوم بأنواعها إلى غير ذلك، وإذا اشتدت

الحمى أو أصاب المريض الإسهال وجب عليه الاقتصار على الأغذية السائلة.

وبالاختصار يجب اتباع جميع القوانين الصحيحة حتى تتقوى البنية فتتغلب على

المرض. ويُعطى المريض الأدوية المقوية كزيت السمك والحديد (بشرط أن لا

تكون حرارة المريض مرتفعةً جدًّا) والزرنيخ والكينين وغير ذلك، وهناك أدوية

مطهِّرة للصدر يعرفها الأطباء فلا حاجة لذكرها هنا.

ويجب أثناء المرض أن يبادر الطبيب بعلاج كافة الأعراض والمضاعفات

بجميع الوسائل الممكنة السريعة التأثير حتى لا تنهك قوى المريض.

الوقاية: تكون بما يأتي:

(1)

يتجنب المريض البصق على الأرض أو في أي مكان يمكن أن يتصل

منه الميكروب إلى الأصحَّاء. ومن أحسن الوسائل أن يُكلَّف المريض بالبصق في

مباصق خاصة (منها ما يحمل في الجيب) ويوضع فيها محلول مطهر كحامض

الفنيك بنسبة 1/20 من الماء. وإذا بصق في منديل وجب حرقه أو غليه غليًا

طويلاً قبل أن يمسه أحد.

(2)

يجب على كل شخص أن يتقي القرب من المريض حتى لا يكون في

طريق الذرات التي تتطاير منه أثناء السعال وغيره، فلا يجوز النوم معه في

الفراش أو الجلوس بالقرب منه. ويجب على المريض أن يتحاشى الزواج خدمة

لنفسه حتى لا تضعف قواه، ولا يأتي بنسل ضعيف وخدمة للأمة بعدم عدوى النساء

وبعدم إيجاد ولد له ضعيفًا أو مصابًا بالسُّل مثله.

(3)

يجب تهوية الأماكن التي يسكنها المسلولون وتعريضها لشعاع الشمس

كثيرًا وتنظيفها دائمًا بالمحاليل المطهرة، وغلي كل ما فيها من أواني وملاءات

وغيرها.

(4)

يجب أن تتقي الأمهات المسلولات إرضاع أبنائهن.

(5)

يجب على الناس كافة طبخ لحوم الحيوانات طبخًا جيدًا وتقطيع اللحم

إلى قطع صغيرة مع إطالة مدة الغلي حتى تصل الحرارة إلى ما قد يكون في باطنها

من ميكروب الداء، فقد ثبت أنه إذا زادت قطعة اللحم عن ستة أرطال فلا تكون

درجة الحرارة في باطنها كافية لقتله. وكذلك يجب غلي اللبن غليًا جيدًا مدة خمس

دقائق على الأقل.

وإذا عُلِمَ أن حيوانًا مصابًا بالدرن وجب اجتنابه وتحاشي أكله أو شرب لبنه

وإبعاده عن الحيوانات الأخرى السليمة. وهناك طريقة لتمييز الحيوانات المصابة

بالدرن عن غيرها، وذلك باستعمال (التيوبركيواين) وسيأتي الكلام على ذلك

تفصيلاً ولْيُلاحَظ عدم الغلو في غلي اللبن كأن يوضع في إناء مغلق وتطول مدة

الغلي فإنه قد ثبت أن ذلك يُفسد بعض مواده الضرورية لحياة الجسم، فإذا اقتصر

الشخص على شرب مثل هذا اللبن المبالَغ في تعقيمه كالأطفال مثلاً فقد يصاب بداء

الكُساح أو بالإسكربوط، فلذا يجب الاعتدال في تطهير اللبن.

وإذا خيف على الطفل من هذين الداءين فيحسن تغذيته بالأشياء الآتية مع اللبن

وهي، القشدة وزيت السمك وعصير البرتقال المُحَلَّى بالسكر أو بالعسل ومرق

اللحم، وإذا كان للطفل بعض أسنان فلا بأس في إعطائه قليلاً من الموز بعد عجنه

ولو باليد النظيفة.

(6)

يجب على كل شخص أن يتجنب كل ما يُنهك القوى ويفسد الصحة

كالسكنى في الأماكن الفاسدة الهواء أو الانهماك في الدخول إلى الأماكن المكتظة

بجماهير الناس كالمسارح و (دور الصور المتحركة) ونحو ذلك ويتجنب السهر

الطويل وإجهاد الجسم أو العقل وكثرة الجِماع أو جلد عميرة وإدمان الخمور،

وينبغي الإكثار من الرياضات البدنية مع الاعتدال، واستنشاق الأهوية النقية-

كالتي في الفلوات والبحار- وتعاطي الأغذية الجيدة السهلة الهضم، والإكثار من

النوم واتقاء شرب الدخان واستنشاق الغازات والأبخرة المتصاعدة من النيران

والمصانع وغيرها، وبالجملة فالواجب التزام قواعد الصحة كافة وعدم التهاون في

شيء منها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

قد يصيب أي عضو من الجسم أو أي جزء منه، وتكثر إصابته للرئتين ويقل للشِّغاف (الغشاء المحيط بالقلب) .

(2)

أصل معنى الدرن في اللغة: الوسخ.

ص: 225

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العرب والإسلام

والترك الاتحاديون

إن قراء المنار بعد الانقلاب العثماني يعلمون أن الجرائد الإسلامية الهندية أول

من رمى الاتحاديين بالكفر والإلحاد، وأن المنار كان أول الصحف الإسلامية دفاعًا

عنهم، ولما كثر الخلاف في أمرهم رحلنا إلى الأستانة بعد تمهيد مع جمعية الاتحاد

والترقي المركزية للقيام بمشروع الدعوة والإرشاد في الأستانة وللسعي في التوفيق

بين الترك والعرب، وكانت نواجم الخلاف والتخاصم قد نجمت، وامتدت من

العاصمة إلى الولايات. وقد أقمت في الأستانة سنةً كاملة، اختبرت فيها الاتحاديين

اختبارًا تامًّا لا أزال أرى في كل سنة من الآيات ما يؤيده، وتقنعني بأنني قد سبقت

إلى إدراك ما لم يدركه كله العثمانيون ولا الأجانب.

ولو كنت ممن يبيع دينه وقومه بالمال والجاه كالشيخ عبد العزيز جاويش

لأمكنني أن أنال في الأستانة من الاتحاديين أنفسهم ما لا مطمع لعربي في نيل مثله،

فقد منّاني الاتحاديون أعظم الأماني؛ لأنهم كانوا يظنون أنني ما دافعت عنهم

ورددت على من سبق إلى رميهم بالكفر والإلحاد وإفساد هذه الدولة إلا لأن إسلامي

سياسي يدور مع المنفعة الشخصية أنَّى دارت.

ويعلم قراء المنار أني قد حملت على الاتحاديين بعد عودتي من الأستانة

حملات منكرة لم يحمل عليهم أحد بمثلها في الشدة، كما يعلمون أنني لم أكتب شيئًا

ينافي مصلحة الدولة العثمانية نفسها، ولا شيئًا ينافي الإخاء الديني بين العرب

والترك، فأنا لم أعادِ الدولة ولا التُّرك ببيان فضائح الاتحاديين. بل أعتقد أن كل ما

كتبته كان خدمة للإسلام وللدولة، وأن الموافقين لي عليه من علماء الترك وجمهور

المتدينين فيهم أضعاف الموافقين لي عليه من العرب؛ لأن الذين كانوا يعرفون

مقاصد الاتحاديين الإلحادية من العرب قليلين جدًّا، ولعلهم لم يكثروا إلا بعد أن رأى

من رأى خواص العرب في سورية مصلوبين في أعظم مدنها عُمرانًا، وسمع من

سمع بأخبارهم ثم بما كان من أمرهم مع الشريف الأكبر أمير مكة المكرمة.

وقد كتب بعض العرب العثمانيين من أسرى الحرب وغيرهم مقالاتٍ في

مقاصد الاتحاديين وعداوتهم للعرب وللإسلام نشروها في المقطم والأهرام، ظن

كثير من المصريين أنها مقالات مصنوعة افتحرها كُتَّاب الجريدتين حتى إن منهم

من لم يصدق ما نقل عن كتاب (قوم جديد) وكتاب (اتحاد إسلام) وإنما لم يصدق

هؤلاء هذه الأخبار؛ لأنهم لا يريدون أن يصدقوا ما لا يلذ لهم تصديقه، ولو كانوا

ذوي غَيْرَة على الدولة والدين وحرص على بقائهما كحرصهم على لذتهم وراحة

بَالِهم لتحرّوا وبحثوا عن أصل كل ما يقال في هذا الموضوع؛ ليكونوا على بصيرة

من أمر أعظم الأشياء موقعًا من أنفسهم وأهمها لديهم.

كان مقصد الاتحاديين خفيًّا ثم عُرف رويدًا رويدًا، ثم اشتُهر وتواترت أخباره

في جميع الأمم. وإننا ننقل من ذلك عن جريدة الأهرام ما يأتي:

***

الإسلام والجامعة الطورانية

كيف يسعى الاتحاديون لملاشاة الحضارة الإسلامية؟ [

*]

كتب مراسل شركة (سنترال نيوز) الخاص يقول:

في خلال بضع السنوات الأخيرة بدت في بلاد تركيا طلائع حركة جديدة

تعرف بنهضة (بني طوران) أو (الطورانية الحديثة) ، وغرضها هدم المدنية

الإسلامية وإحياء العصبية التركية على أنقاضها والجمع بين العناصر التركية

التترية والشعوب المنتمية إليها، ومنها الأمة البلغارية. أما القائمون بهذا الحركة

فهم قوم مشهورون بعدائهم للإسلام وتعصبهم عليه، وكثيرًا ما يجاهرون بأقوالهم

وكتاباتهم بذلك الكُره، بحجة أن الإسلام يسعى لقتل العصبية القومية ويحول

دون نشوء المدنية التركية؛ ولذلك فهم يسعون لجعل الجنسية التركية مستقلة عن

الإسلام كل الاستقلال.

ومما يقولونه: إن الإسلام لا محل له في المدنية ولا يمكن أن يعيش طويلاً إلا

إذا أدخلت عليه تنقيحات عديدة تلائم المذاهب التركية القومية.

ولهذه النهضة وجهتان إحداهما أدبية والأخرى سياسية، فغاية الوجهة الأولى

تمجيد الشعوب الطورانية، ونشر تاريخها المجيد، وغاية الوجهة الثانية القضاء

على العصبية العربية. فجنكيز خان هو في نظرهم نموذج الملوك ورجال السياسة

فكل مملكة ينشئونها يجب أن تقوم على المثال الذي رسمه، وأما العرب في

نظرهم فهم مصيبة على الأتراك؛ ولذلك يجب القضاء عليهم أو إدماجهم في

العنصر التركي حتى ينسى العالم تاريخهم وتقاليدهم. أما لغتهم فلا بد من محوها

وإحلال اللغة التركية محلها في كل صقع وناد.

والغريب أن كُتاب الأتراك الحاليين الذين يدّعون بأنهم وطنيون بكل معنى

الكلمة ينشرون اليوم المقالات الضافية ويحثون أبناء قومهم على الطواف بجميع

أنحاء السلطنة للمناداة بهذه البدعة الجديدة، ومن أغرب ما يُروى من هذا القبيل أن

أحد الأتراك طاف حديثًا بسوريا وهو ينادي بهذه الضلالة.

والحكومة الاتحادية تؤيد الآن جمعية (بني طوران) وتعززها بالإعانات

المالية العديدة، وتسمي تلك الإعانات (بإعانات المالية التركية) وجميع كبار

الاتحاديين أعضاء فيها، وهم بعيدون عن الإسلام بُعد الأرض عن السماء،

والمسلمون ينكرونهم لما يرون منهم من الاعتداء على حدود الشريعة الغراء.

ولا يخفى أن الألمان هم الذين يؤيدون الاتحاديين في هذه السياسة الخرقاء،

فقد ثبت لهم الآن أنهم لا يستطيعون إخضاع الإسلام لسياستهم ولا هم نجحوا في

إثارة المسلمين الخاضعين لفرنسا وإنكلترا على هاتين الحكومتين. فانقلب زعمهم

العطف على الإسلام إلى كره شديد له، وأخذوا يسعون ضده مستعينين على ذلك

بالجامعة الطورانية الجديدة. وقد علم العالم أجمع ما كان من أمر المنشورات

الألمانية التي اكتشفها الجنرال (سمطس) في موشي والتي كان غرضها سحق

الإسلام في المستعمرات الألمانية، ولذلك فألمانيا هي أكبر خطر على الإسلام مع

أنها تتظاهر بالغيرة على المسلمين.

ليس من ينكر فضل الإسلام على العالم، وما كان لمدنيته من الآثار المجيدة

أما الشعوب الطورانية فليس في التاريخ ما يدل على أنها عملت عملاً واحدًا أفاد

الإنسانية، بل بالعكس كانت جميع أعمالها تدميرًا وتخريبًا، فالطورانيون لم

يستنبطوا شيئًا للمنفعة، بل كانوا حيثما حلوا أخربوا معالم المدنية ومحوا آثارها،

واستعبدوا الشعوب التي يقهرونها بأساليب هي في غاية الهمجية.

أما ادعاء دعاة الجامعة الطورانية بأن الإسلام قد حال دون نشوء المدنية

التركية فغير صحيح، ولا يخفى أن المدنية العثمانية هي خليط من آثار المدنيات

العربية والفارسية والبيزنطية، والشعوب الطورانية التي لم تدخل في الإسلام لا

مدنية لها على الإطلاق، وإنما هي استعارت شيئًا من الحضارة الصينية، ولو أن

السلطة العثمانية قد اعتمدت على المدنية التركية لكانت قد أصبحت في خبر كان منذ

أجيال عديدة؛ لأن المدنية التركية كما قلنا، هي تخريبية لا تعميرية، والشيء

الوحيد الذي يفوق به الطوراني غيره هو الظلم والجور واضطهاد جميع العناصر

التي لا تسبح بحمد الطورانية وتُحَمْدل. وسبب ذلك اعتقاده بأن جميع تلك العناصر

وقفت حائلاً بينه وبين تركمان آذربيجان، والقوقاز.

هذه رسالة شركة سنترال نيوز، وقد نشرت الصحف الإنكليزية كلها هذه

الرسالة وبسطت فيها الكلام بسطًا ضافيًا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) نشرت في العدد الذي صدر من الأهرام في يوم الخميس 16 ذي القعدة - 14 سبتمبر.

ص: 233

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإسلام والطورانية الحديثة

ما يفعله الاتحاديون لمقاومة الإسلام [*]

نشرنا منذ بضعة أيام فصلاً عن الإسلام والطورانية الحديثة ضمّناه ما نشرته

الصحف الإنكليزية نقلاً عن شركة (سنترال نيوز) الصحافية. وقد وقفنا الآن

على مقالة ضافية في هذا الموضوع، نشرتها مجلة الشرق الأدنى فرأينا أن نورد

خلاصتها لحضرات القراء، قال الكاتب:

بدت طلائع الطورانية في الأستانة في عام 1913 ثم أخذت تمتد وتزداد جلاء

حتى أصبحت نهضة عامة في جميع أنحاء السلطة العثمانية. وخلاصة ما يعرف

عن هذه النهضة أنها تركية محضة غرضها الأصلي الانفصال عن الإسلام، ولها

أغراض أخرى عديدة ينحصر أهمها في ما يأتي:

(1)

جعل الجنسية التركية مستقلة عن الإسلام.

(2)

ترقية الروح العسكري في الأتراك.

(3)

إنشاء علاقات تجارية وغيرها مع مسلمي آذربيجان وروسيا الأسيوية

وروسيا الجنوبية.

(4)

تطهير اللغة التركية من كل ما هو عربي أو فارسي.

(5)

محو الجنسية العربية وإدماجها في الجنسيات الأخرى.

ويرمي القائمون بهذه الحركة إلى جعل التركي يعتقد أنه تركي قبل كل شيء

ومسلم بعد ذلك. ويقوم بمساعدة هذه النهضة جمعية (الملة التركية) التي تؤيدها

الحكومة الاتحادية بالإعانات المالية.

ومن مبادئ هذه النهضة تربية الأجيال الحاضرة والمستقبلة على الروح

الطوراني بإنشاء مدارس طورانية بحتة ، وبناءً عليه يجب التوسع في تعليم التاريخ

باللغة التركية وإنشاء فرقة كشافة (سكوتس) من الأولاد الأتراك تحت

إشراف أنور باشا. وقد أُنشئت الآن هذه الفرقة، وشرع الأولاد الذين يتربون تربية

عسكرية توطئة لدخولهم في الجيش، أما شارات الفرقة وراياتها فمأخوذة عن رموز

ترجع إلى ما قبل الإسلام والأولاد الذين لهم أسماء عربية تُستبدل أسماؤهم

بأسماء تركية بحتة.

ولهذه النهضة وجهة لغوية أيضًا؛ ولذلك أخذ زعماؤها يترجمون كثيرًا من

المؤلفات العلمية والتاريخية إلى اللغة التركية البسيطة، وقد كان في نيتهم أن

يترجموا القرآن أيضًا، ولكن علماء الإسلام قاوموا تلك الفكرة بكل عزم وحالوا دون

تنفيذها.

ويُعزى نشوء هذه النهضة إلى عدة أسباب منها السببين الآتيين وهما:

(1)

اللغة.

لا يخفى أن أحرف اللغة التركية مأخوذة عن الأحرف العربية والاصطلاحات

التركية تزداد كل يوم تعقدًا وصعوبة في نظر الطبقة الساذجة.

(2)

كتاب المسيو (ليون كاهون) عن تاريخ الترك والمغول من أقدم

الأزمنة إلى سنة 1405 للميلاد، وقد توجت الأكاديمية الفرنسية هذا الكتاب. واتفق

أن ناظم بك سكرتير جمعية الاتحاد والترقي العام، قد قرأ هذا الكتاب فوضع

أساسات النهضة الطورانية التي نحن بصددها.

ولا شك أن نهضة كهذه مما تهم العالم الإسلامي قاطبةً، وتهم أيضًا إنكلترا

وفرنسا وروسيا وإيطاليا اللواتي يحكمن على الملايين من المسلمين، والذي يشجع

الاتحاديين على ترويج هذه النهضة اعتقادهم صحة النظرية التي ابتدعها

(فمبيري) وهي أن الإسلام يناقض فكرة الجنسية.

فالاتحاديون يقولون: إن الإسلام بالاتحاد مع العوامل العربية والفارسية

والرومية والبيزنطية قد جعل الأتراك (مسلمين ليفانتيين) وحال دون نشوء

حضارتهم. على أن هذه الدعوة هي عكس الحقيقة تمامًا، فإن الأتراك الذين جاءوا

أصلاً من حدود الصين وانتشروا في مجاهل آسيا حتى ضفاف (الأوكسوس) لم

يكن لهم دين معروف أو حضارة راقية؛ لأنهم كانوا قبائل رُحَّل يؤجرون سيوفهم

لكل من يطلب معونتهم. ولم يحاول أحد من قواد الأتراك أن يخضع جميع القبائل

التركية. نعم: إن (جنكيز خان) كان يحلم بنشر سلطته عليها، ولكنه لم يفعل.

وقد اشتهر بأنه كان يقتبس عن الصين والعجم والعربية وبيزنطة وجرمانيا كل

ما كان يروقه فيها من آثار الحضارة. ولاشك أن أهم ما اقتبسه هو الاسلام فالإسلام

لم يحُلْ دون نشوء الحضارة التركية؛ إذ لم يكن للأتراك حضارة خاصة بهم وكل ما

لدى الأتراك من حضارة هو بفضل الإسلام. ولما كان التركي مشهورًا بروح

الخضوع العسكري لمن يقوده، فقد جعل نفسه سيفًا في قبضة الإسلام.

إن العنصر الطُّوراني لم يشتهر بشيء من قوة الابتداع. وما تاريخه سوى

تاريخ تدمير. فقبائل (بوشي) أخربت مستعمرات بكتريا اليونانية. وقبائل

(الهون) اجتاحت رومية الشرقية ورومية الغربية اجتياحًا همجيًّا وقبائل (أفار)

سعت لسحق الشعوب السُّلافية في مهدها، و (هولاكور) ردم أقنية بابل، وجعل

أخصب بقاع الدنيا بلادًا قاحلة حتى الآن، والعثمانيون أبادوا الحضارة البيزنطية

التي ربوا عليها واكتسبوا منها شيئًا من العلم والمعرفة.

هذه هي القبائل الطورانية التي تباهي (بأتيلا) الذي كان نقمة الله على العالم،

وجنكيز خان الذي سمى نفسه (غضب الله - تعالى -) ولما شرع الألمان

يحاربون البلجيك وغيرها من دول أوروبا رأوا أن يقتبسوا أساليب جنكيز وأتيلا

وتيمورلنك.

ومما يدل على أن العقل التركي ليس عقلاً مستنبطًا أنه لم يأت بمستحدَث في

الإسلام. بل هو اتخذ الإسلام ودان به كما هو، ولو كان مخلوقًا مفكرًا لرأيناه بعد

انتحاله الإسلامية يزيد عليه أو ينقص منه، ولكنه لم يفعل شيئًا من ذلك لعجز

مخيلته عن الاختراع.

إمبراطورية تركية

ومما تسعى إليه نهضة الطورانية الحديثة إنشاء إمبراطورية حربية واسعة

الأرجاء، تضم تحت ألويتها جميع قبائل التتر والمغول الخاضعة لروسيا أو لأية

دولة أخرى. (أما الجنسية العربية فيجب إبادتها وإدماجها في الجنسية التركية

المحضة؛ لأنها خطر كبير على الجنسية التركية ومن،أمثلة الأتراك من هذا

القبيل قولهم: وإذا لم نعامل العرب كما نريد عاملونا بما نستحق) لذلك تراهم

يسعون (لتتريك) العناصر العربية بحسب الأساليب البروسية.

ومما يستحق الذكر أن جلال نوري بك الكاتب التركي الشهير قال في كتاب

حديث ألفه ما يأتي: (إن بلاد العرب ولاسيما اليمن والعراق يجب تحويلها إلى

مستعمرات تركية لنشر اللغة التركية التي يجب أن تكون لغة الدين. ومما لا

مَندوحة لنا عنه للدفاع عن كياننا أن نحوّل جميع الأقطار العربية إلى أقطار تركية؛

لأن الجيل العربي الحديث قد صار يشعر الآن بعصبيته، وهو يتهددنا بنكبة

عظيمة، فيجب أن نحتاط للأمر من الآن) .

وكتب أحمد شريف بك مقالة في (طنين) جاء فيها ما يأتي: (لا يزال

العرب يلهجون بلغتهم، وهم يجهلون اللغة التركية جهلاً تامًّا، كأنهم ليسوا تحت

حكم الأتراك. فمن واجبات (الباب العالي) أن يجعلهم ينسون لغتهم ويجبرهم على

تعلم لغة الأمة التي تحكمهم.

فإذا أهمل الباب العالي هذا الواجب كان كمن يحفر قبره بيديه؛ لأن العرب

لن ينسوا لغتهم وتاريخهم وعاداتهم. بل سيسعون لاسترجاع مجد مملكتهم وإعادة

ترميمها على أنقاض دولة الأتراك) .

وجاء في نبذة وزعها الأتراك في القوقاز: (إن العرب هم بلية علينا مع أن

حصان التركي خير من أي نبي ظهر في العالم) .

هذا وقد علقت مجلة الشرق الأدنى على هذه المقالة بتوجيه نظر العالم

الإسلامي إلى الخطر الذي يتهددهم إن هم تباطئوا عن الاحتياط لدرء ذلك الخطر.

_________

(*) نشرت في العدد الذي صدر من الأهرام في يوم السبت 18 ذي القعدة - 16 سبتمبر.

ص: 237

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌منشور شريف مكة وأميرها

نشرت الجرائد المصرية اليومية في آخر الشهر الماضي منشور شريف مكة وأميرها الذي وجهه إلى العالم الإسلامي، وإنه لَمنشور كُتب بمِداد الحكمة

وأصالة الرأي وشرف الغاية، وملخصه أن الشرفاء (أمراء مكة المكرمة) كانوا

أول من اعترف بسلطة سلاطين آل عثمان الكرام، لما كانت أحكام دولتهم قائمة

على أساس الشرع الإسلامي، حبًّا في الوحدة الإسلامية وكراهة للشقاق وتفرق

الكلمة، وأن صاحب المنشور نفسه قد بالغ في الاستمساك بعُروة الدولة حتى إنه

حمل بجُنده من العرب على العرب وقاتلهم لأجل الدولة.

ثم انتقل من ذلك إلى سيرة فئة الاتحاديين الباغية، فبين أنها قد جنت على

الدين والدولة والأمة فانحرفت عن صراط الشريعة، وأبطلت بعض أركان الإسلام

وغيرت أحكام القرآن، وحجرت على السلطان حتى منعته من التصرف بشئون

خاصته وقصره. ونكلت بالأمة، فلم ترعَ حقوق الإسلام ولا عهود الذمة، وخصت

العرب بالاضطهاد، فصلبت في الشام كثيرًا من أهل العلم والرأي والفضل،

واستحلت مصادرة الأموال وإخراج النساء المخدَّرات والأطفال من ديارهم وأموالهم

ونفتهم إلى بلاد الأناضول من غير ذنب وبغير قيم شرعي. ثم ذكر تقحمهم بالدولة

في هذه الحرب وتعريضهم إياها للخطر، وما جنوه على البلاد بذلك، وذكر ما حل

بالحجاز من جراء ذلك، وأن الضيق قد بلغ بأهل الدرجة الوسطى إلى بيع أثاثهم ثم

بيع خشب بيوتهم حتى الأبواب والسقف.

ثم بيَّن أن بلاد الحجاز اضطرت بسبب تلك الجرائم والمفاسد العامة التي

اخترعها الاتحاديون إلى إعلان استقلالها بنفسها دونهم حرصًا على دينها وعلى

جنسيتها العربية؛ لأن الاتحاديين يتعمدون فساد هذا الدين ومحو هذه الأمة العربية

من لوح الوجود.

وذكر أن الخاصة التي وضعها الاتحاديون بمكة أرادت ألا تتقدم من أهل البلاد

فألقت قذائف مدافعها من حصن جياد على الحرم الشريف فأصابت بيت الله - عز

وجل - وقتلت كثيرًا من الطائفين والمصلين فيه.

قال (وحسبنا برهانًا على ما تكنه صدورهم نحو الدين والعرب رميهم للبيت

العتيق الذي أضافته العزة الأحدية لذاتها السبحانية في قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ

لِلطَّائِفِينَ} (الحج: 26) وهي قبلة المسلمين وكعبة الموحدين بقنبلتين من قنابل

مدافعهم التي بحصن جياد أثناء قيام البلاد بالمطالبة باستقلالها، وقعت إحداهما تحت

الحجر الأسود بنحو ذراع ونصف، والثانية تبعد عنه بمقدار ثلاثة أذرع التهبت

بنارهما أستار البيت حتى هرع الألوف من المسلمين لإطفاء لهيبه بالضجيج

والنحيب، واضطرهم الحال إلى فتح باب البيت والصعود إلى سطحه للتمكن من

إطفاء اللهيب، وما انتهى أمرهم بهذا حتى عززوا الاثنين بثالثة في مقام إبراهيم،

وهذا عدا ما وقع منها في بقية المسجد الذي اتخذوه هدفهم الوحيد في غالب

مقذوفاتهم بالقنابل والرصاص، وما زالوا يقتلون الثلاثة والأربعة في نفس المسجد

كل يوم حتى تعذَّر على العباد القرب من البيت، وفي هذا من الاستخفاف والازدراء

بالبيت وتعظيمه وحرمته ما نترك القول والحكم فيه أيضًا لعموم المسلمين في مشارق

الأرض ومغاربها) .

وهذا المنشور يؤيد ما شرحناه مرارًا في المنار من سيرة هذه الجمعية الباغية

في الدولة والأمة، ومن اطلع عليه من قراء المنار يعجب؛ إذ يرى أكثر مسائله في

المحاورة التي نشرناها في الجزء الماضي، وسبب ذلك أنها حقائق يعرفها جميع

خواص العثمانيين وكثير من عوامهم، فكيف تخفى على أمير مكة المكرمة على

مكانته في الذروة العليا من الأمة والدولة، وأهل بيته منهم الأعضاء في مجلس

المبعوثين كنجله الشريف عبد الله وفي مجلس الأعيان كأخيه الشريف ناصر.

وقد أعجب أهل الفضل بنزاهة المنشور ومحافظته على كرامة الدولة العثمانية

وسلاطينها العِظام، وكرامة الشعب التركي أيضًا وحصره السيئات التي يشكو منها

جميع العثمانيين وكل غيور على الدولة في سيرة الاتحاديين فيها.

ومن حكَّم الروية والإنصاف في سيرة الاتحاديين، يستدل من موافقة هذا

المنشور لكثير من المطاعن التي قيلت على أن أخبارها قد بلغت حد التواتر بكثرة

مصادرها، فالشريف الأكبر لم يستمد ما ذكره في منشوره من الجرائد المصرية ولا

الأوربية، ولعله لم يطلع على شيء منها قبل كتابته، بل يستمد بيِّناته من الأقوال

والأعمال الرسمية. مثل ذلك ما ذكره من الشواهد على جنايتهم على الدين

وجرأتهما على هدم أركانه والعبث بأحكامه. فإنه ذكر منه أمر سلطتهم العسكرية

بإلزام جنودهم المقيمة في الحجاز وغيره من الأمصار الفطر في رمضان، وأمرهم

لقاضي مكة بعدم الاعتداد بشهادة المسلمين، بعضهم على بعض إلا ما كتب منها في

محكمته، وأما أخبار فَتْكهم بأهل الفضل والنيل من مسلمي سورية تقتيلاً وتصليبًا

ومصادرة الأموال، ونفي النساء والأطفال، فلا شك في أخذه إياه من الجرائد

السورية الرسمية وغير الرسمية، وإن لم يصرح بذلك. ودليلي على ذلك أن أول

كتاب جاءني من وكيل المنار في الحجاز قد نقل فيه عن تلك الجرائد أسماء من

قُتِلوا وصُلبوا في الشام من كبراء العرب، ومنهم السيد الزهراوي وشفيق بك

المؤيد وغيرهما.

وقد تذكرت بهذا أنه لما ذكرت الجرائد المصرية أول نبأ عن صلب فضلاء

العرب ببيروت وهم الأحد عشر الذين منهم النابغة محمد الحمصاني وعبد الكريم

قاسم الخليل أرسل لي فؤاد برقية من الخرطوم ذكر فها ارتياعه واستفظاعه للخبر،

وشكه في صحته والرغبة إلي في إرسال برقية إليه ببيان رأي فيه، وقال: إنه لا

يثق به إلا إذا كنت مصدقًا له. فأرسلت إليه برقية قلت فيها: إنني لا أثق بشيء

من ذلك. ثم جاءت جرائد أوروبا فجرائد أمريكة تثبت الخبر، وفي جرائد أمريكة

العربية السورية نقل له عن جرائد سورية. ثم إنني كنت مارًّا مرة بنظارة

الحربية، فرأيت فيها رجلاً قد أسره الإنكليز من سيناء، فسألته عن بلده وعن

أخبار سورية فقال: إنه من القدس، وأخبرني بخبر الذين صلبوا في بيروت،

فقلت هل تعرفهم؟ قال: لا بل أعرف بعضهم بالاسم، قلت: ممن علمت بخبر

شنقهم؟ قال من جريدة القدس الرسمية. لأجل هذا قلت في المحاورة التي نشرت

في الجزء الثالث: إن خبر صَلب من صُلب في سورية، قد ثبت عندي بالتواتر.

لقيت أول من أمس صديقًا لي من رجال القانون، أعرف منه استقلال الرأي

فتكلمنا في هذا الموضع، فقال: إنه يجب أن يجعل نفسه كالقاضي في هذه القضية

فلا يحكم فيها. قلت: بل يجب أن تجعل نفسك بمكان المؤرخ المنصف الذي

يمحص الأخبار، ثم يجزم بالنفي أو الإثبات، فأنا لم أكن خصمًا للاتحاديين بل

كنت صديقًا لهم قبل الدستور وبعده، وكنت أول من دافع عنهم لما حملت عليهم

جرائد الهند الإسلامية ورمتهم بالكفر والإلحاد، وإسقاط خليفة المسلمين السلطان عبد

الحميد لأجل إبطال الحكم الإسلامي، ولما شاع أمر عَبَثهم بالدين وتعصبهم على

العرب وغيرهم تثبت في الحكم عليهم، وذهبت إلى الأستانة فأقمت فيها سنة كاملة

معهم ساعيًا في خدمة الإسلام عامة، وفي التأليف بيت الترك والعرب، وعلمت

بالاختبار الطويل أن كل ما قيل فيهم، دون الواقع كما بينته في المنار.

وجملة القول أن منشور الشريف الذي كان قبل استقلاله في الحجاز أعظم

الأمراء العثمانيين هو أعظم الحُجج على ملاحدة الاتحاديين، كما أنه تأييد من سيد

العرب لطلاب الإصلاح من العرب، لأنهم بنوا سعيهم على أساس المحافظة على

الدولة العثمانية، ومن قواعدهم أن لا يكونوا سببًا من أسباب ضعف الدولة ولا

تمزيق وحدتها. وقد انسلخ من الدولة عدة ممالك وولايات بسوء سياسة الاتحاديين:

البوسنة وهرسك وطرابلس الغرب ألبانية ومكدونية وكريت وجزائر الأرخبيل

الرومي، - دع ولاية البصرة. والولايات الأرمينية والأناضولية التي ذهبت في

هذه الحرب - ولم يكن العرب سببًا في زوال شيء منها. فهذه أكبر حججنا على

هؤلاء المخربين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 241

الكاتب: صالح مخلص رضا

حال المسلمين الاجتماعية

وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

للفاضل الغيور- م. ن - صاحب الرسالة التي نشرت (في ج 10 م 18) .

حضرة حكيم الإسلام السيد الإمام الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة

المنار الإسلامية.

السلام عليكم ورحمة الله. وبعد: فلست صحفيًّا ولا من المشتغلين بالتحرير ولا

يسع وقت فراغي كتابة المقالات، وتنسيق العبارات، فإن في أعمالي اليومية لَشُغلاً

شاغلاً. فإن أكتب إليكم فإنما أكتب مدفوعًا بعامل القيام بفريضة (الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر) التي عفا أثرها بين المسلمين؛ إذ لولا صوت المنار الحي

المرتفع الذي يدوِّي في الآفاق فيفتق أغشية الآذان، ويرقق حُجُب القلوب ويفتح

الأذهان، ويوقظ النائم، وينبه الغافل - لولا ذلك الصوت المنعش للنفوس المحرك

للهمم، لصح أن يقال، ولا عتب في المقال: إن الأمة الإسلامية شبح بلا روح.

كتبت رسالتي الماضية في موضوع الدعوة والإرشاد، ولم يكن لي غرض

سوى العمل بهذه الفريضة، وإقامة الحجة أمام الله - تعالى - على المسلمين الذي

تهاونوا فيه وفي كل عمل إسلامي. وإنه وإن لم يكن لدي كبير أمل في أن يقدّم

المسلمون في الحال، ما يحتاج إليه المشروع من المال، فقد كان رجائي عظيمًا في

النجاح التدريجي الذي يؤدي إلى النجاح التام. ولكني ما كنت أظن أن يكون نصيب

هذه الدعوة الصمت والجمود، اللذان يدلان على شدة ما تعاني الأمة الإسلامية من

أدوائها الاجتماعية.

لذلك حدثتني نفسي بعد طول الانتظار بأن أبعث إليكم بهذه الرسالة الثانية

زيادة في التذكير، وتأكيدًا للإنذار والتحذير، ولأبين أن المسلمين غير معذورين في

البقاء في هذه البؤرة النتنة، وأن وسائل النجاة والحياة في أيديهم والأمر كله متعلق

بمشيئتهم. وهذه هي الرسالة:

دعوت المسلمين في رسالتي الماضية لتنفيذ مشروع الدعوة والإرشاد وما كنت

لأدعوهم إلا إلى حق وأوضحت لهم خطورة الحالة التي نحن فيها وما كان لي أن

أكذب. وأقمت لهم الدليل على أن المشروع كافل لإصلاح الحال، وما كنت إلا

صادقًا. وانتظرت ماذا يكون من أمر هؤلاء وأطلت الانتظار، فألفيتهم صموا عن

النداء، واختاروا البقاء في الشقاء، وما كنت مكرهًا لهم على ما تثاقلت عنه نفوسهم

ولا إكراه في الحق.

إنه لَيحزنني أن تخيب دعوتي، وليس ذلك أنها صادرة مني، فما هي إلا

صدًى لأصوات صاحب المشروع ومن نصروه فيه من قبلي. وإنما حزني وأسفي

لحرمان الأمة الإسلامية من الخير العظيم الذي كان ينتظرها، إن هي أجابتها،

ولكن ما حيلتي، وقد دعوت ونصحت وما فرطت، والأمة أعرضت وجمدت

واستكبرت. وقد فشلت دعوة الكثيرين من أهل الغيرة والإخلاص من قبل فلم ينقص

إعراض الناس عنها من قدر الحق ولا من قيمة ما دُعُوا إليه شيئًا؛ إذ الحق حي بذاته

لا يضره أن يكفر الناس به كما لا يرفعه أن يغلوا فيه. وإن في ضياع صوت أستاذنا

العظيم في فضاء غفلة هذه الأمة الجاهلة لَعبرة، وذكرى للمتشائمين المتسرعين.

إنه لَيقع الإنسان في الحيرة ويأخذه العجب لخيبة دعوة الحق بين المسلمين،

وفيها خيرهم وفلاحهم ونجاح دعوة الشر فيهم، وفي إجابتها هلاكهم وشقوتهم.

فما أشد ظلمهم لأهل الحق الذين يغارون على الأمة ويريدون لها الرشاد

وظلمهم لأنفسهم باتباعهم أهل الضلال الذين يسعون في الأرض بالفساد. ولقد ودّ

المصلحون لو أن الأمة عرفتهم فأنزلتهم منزلتهم وسمعت لقولهم، واقتفت أثرهم

فنهضت بهم.

لا يسأل هؤلاء الأمة أجرًا على عملهم، فالحق والعمل الصالح أعلا من أن

يقوّما بشيء من حُطام الدنيا. وإن أخذوا أجرًا في الظاهر فليس هو في الحقيقة بأجر

وما هو من قبيل ثمنٍ لشيء مباع، ولكنه مال يسدون به عَوَزَهم ويستعينون به على

عملهم الذي يقومون به لخير الأمة وسعادتها. إنما أجرهم على الذي هو

فطرهم، وهو وحده الذي يقدِّر عملهم ويكافئهم عليه في دار غير هذه الدار.

أما أهل الباطل والضلال فهم ينفثون السم في النفوس والأرواح بما ينشرون

من رأي، ويدعون إليه من عمل، ويسلبون أموال الأمة أجرًا على هذه الضلالات،

إنهم لا يرجون عند الله ثوابًا ولا بعد هذه الحياة حياة. فهم لذلك يحتالون على

جمع المال بأي وسيلة تمكنهم منه، فهو غرضهم الذي إليه ينتهي الأمل، والسبب

الوحيد الذي يحركهم للعمل. هؤلاء هم رسل الشهوات وأعوان الهوى وأولياء

الشيطان، وأولئك هم دعاة الفضيلة وناصروا الحق وحزب الرحمن.

فيا ليت شِعري، أي الفريقين خير مقامًا وأهدى سبيلاً، ومن منهما أولى

بالاتباع وأقوم عملاً وأحسن قيلاً؟ فيا خلف خير أمة أخرجت للناس أتستبدلون

الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ وتندفعون إلى الأوهام والضلالات مختاريين

وتستسلمون إلى الشر.

وَدَّ كثير من الناس لو يعرفون سبب هذا الجفاء بين المسلمين وأهل الحق

والصلاح وهم المحبون الصادقون، وعلة هذه المودة بينهم وبين أهل الباطل

والفساد وهم الأعداء الظاهرون. فإنه لا بد لذلك من سبب، ومتى عُرف السبب

زال العجب.

ليس العيب الذي تقدم ذكره هو الوحيد في المسلمين. وإلا فلماذا يعادي هؤلاء

المسلمون أنفسهم، ويعطفون على أعدائهم؟ ولِم يعرضون عن مصالحهم

ويسارعون إلى هلاكهم؟ وما الذي حسَّن إليهم الباطل وبغَّضهم في الحق؟ وأي

شيء سوغ إليهم ارتكاب السيئات وترك الحسنات؟ ولأي سبب يصافحون الشيطان

ويُغضبون الرحمن؟ وما السبب الذي هبط بهذه النفس الإنسانية إلى درك

الحيوانية؟

إنه يوشك أن تكون جميع تصرفات المسلمين مخالفة للعقل والنقل وأحوالهم

مرذولة غريبة الشكل. وإنما هذه التصرفات والأحوال هي أعراض للمرض العام

الذي سكن في جسم هذه الأمة فأضعف قوتها الحيوية وأسدل الحجب على بصيرتها

قبحت ما ليس بالقبيح ورأت حسنًا ما ليس بحسن. فمرض الأمة هو سبب كل ما

ننكر من ميولها وحركاتها وسكَناتها. فإذا عُرف المرض عُرف السبب.

المرض أو السبب هو كما قال السيد الإمام: ضعف استعداد الأمة

وحرمانها من الزعيم. وهو قول حق لا ريب فيه؛ إذ لو وُجد الاستعداد والزعيم

معًا لنهضت الأمة من كَبْوتها وحييت حياتها الطيبة ولفارقها الشقاء، وزال عنها ما

نزل بها من البلاء، ولكن إلى متى نسكت على هذا الضعف فينا ولا نباشر علاج

أنفسنا؟ الآن وقد عرف كُنْه المرض الذي أصابنا وسبب الضعف الذي أنهك قوانا،

فمن السهل معرفة علاج هذه الحالة أيضًا. إنه وقد أمكن تشخيص الداء، فما علينا

إلا أن نَصِف الدواء.

لا علاج لضعف استعداد الأمة إلا في أمر واحد، وهو العلاج القديم الذي ثبت

صلاحه وتأكد نجاحه واتبع في كل زمان وفي كل مكان، وسار على سننه الأنبياء

عليهم الصلاة والسلام في تبليغ رسالات ربهم عز وجل وكذلك الصالحون من

بعدهم. ذلك العلاج هو إقامة فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) .

إن الناس أفلحوا وسعدوا ما عملوا بهذه الفريضة، وخابوا وشقوا ما أهملوها.

فكما أن داءنا في تركها، كذلك علاجنا في إقامتها. وقد جعل الله - تعالى - العمل

بهذه الفريضة شرطًا ضروريًّا لصحة الإيمان، ولهي أعظم ما فرض العليم الحكيم

على أتباع أنبيائه عليهم السلام، فكانت ولا تزال إقامتها عنوانًا على هداية

الناس وسعادتهم، وإهمالها دليلاً على ضلالهم وخسرانهم واستحقاقهم لِلَعْنَتِهِ (لتأمرنّ

بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا

يُستجاب لهم) {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ

مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا

كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) .

تركت الأمة الإسلامية العمل بفريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)

من عدة أجيال، ففقدت بذلك قوتها الحقيقية التي كانت تحمي بها الأموال

والأعراض والعقول والقلوب والأخلاق والدين من فتك الشهوات وهجمات الشياطين

وماذا يفعل الأعزل من السلاح، في ميدان النِّزال والكفاح؟ صار أفراد المسلمين

بعد ذلك - وقد خفَت صوت الأمة، وارتفع صوت الشهوات والهوى والشيطان، كالعِقد الذي تبعثرت حباته، أو كذرات الرمال التي تتجاذبها الرياح والأهواء المختلفة، فضلّ الناس في الفهم والرأي والعمل ولا مُنْكِر ولا مرشد، وانحلت الرابطة وتفرقت الكلمة، وتناكرت العقول والقلوب، وضاعت الفضيلة، وحلت محلها الرذيلة، واستُبدل الجهل بالعلم، وأوشك أن يكون الدين المعمول به عند الجماهير الآن مجموعة خرافات وأوهام وضلالات، وبدع ومنكرات وتقاليد وعادات.

وبالجملة إن الحال قد تحوّل إلى ما يرى كل إنسان، وليس الخبر كالعيان.

تلك عاقبة الذين نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به بإهمال هذه الفريضة فتوالدت بذلك في

الأمة الأمراض والعلل، التي أضعفت استعدادها للفهم والعمل، فضل فيها صوت

المصلح، وخابت دعوة الحق {وَمَا رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .

وإن تعجب فعجب أن يعتذر القادرون على الإصلاح عن إغفالهم ذلك الواجب

العظيم بإعراض الأمة عن الحق والخير وانصراف عقول أفرادها وقلوبهم إلى

الباطل والشر، ونسوا أن الأمة ما سقطت في هذه الهُوة السحيقة إلا بسبب إهمال

هذه الفريضة، كما غفلوا كونها أحوج إلى الإرشاد في هذه الحالة منها في سواها؟ !

إن ما وقع من الأمة من التفريط في جنب الله لا ينبغي أن يُسأل عنه سواها،

وإن عليها أن تتحمل وحدها أثقله وتتجرع مرارته {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) . فلا يصح أن يؤدي تفريط الأمة في واجبها إلى تفريط المؤمن

في واجب سواء استجاب له الناس أم لم يستجيبوا. ما كان ضعف استعداد الأمة

للحياة، أو بعبارة ثالثة ضعف قوتها الحيوية الذي هو نتيجة طبيعية لما كسبت

أيديها، كما تقدم ليغير من موقف المصلح أمامها، فهو مطالب على الدوام بأن

يصدع بالحق، وإن كان غريبًا عن عقول وقلوب أكثر سامعيه، وأن يقرر الحقيقة،

وإن لم يفقهها إلا نفر قليل منهم، ولدعوته مع ذلك حُجة على الطائع والفاسق،

وما الأخير لقلة استعداده بمعذور {كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: 14){وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} (البقرة: 88){لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: 272)

{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ البَلاغُ} (المائدة: 99) .

وقد دعا كثير من أنبياء بني إسرائيل قومهم إلى الحق فكذبوهم وقتلوهم. وما

كذبوهم، وما قتلوهم إلا لأنهم لم يفقهوا دعوتهم أو لم يقبلوها، وكذلك كان شأن

الناس مع كثير من المصلحين. فما من دعوة إلى حق إلا وصادفت في أول أمرها

إعراضًا عظيمًا ومقاومة كبيرة ممن جاءتهم، حتى قيل: إنه لا أمل في قبولها.

ومع ذلك لم يكن ذلك الإعراض وذلك التكذيب وتلك الشدائد لتؤثر في همة أولئك

الهداة وعزمهم، أو تُرجعهم عن قصدهم، فمن ذا الذي يجسر أن يقول: إن عملهم

كان لغوًا؛ لأن الناس لم يكونوا مستعدين له؟ كلا بل هو كل الحق والصواب

وعين ما أمر الله به وأوجبه عليهم، وهو سبب كل ما وجد وما يوجد من خير

وإصلاح في العالمين وعلة الحركة والحياة في الناس أجمعين.

إن كل دعوة لحق تصيب الغرض سواء أجيبت في الحال أم لم تجب وسواء

أدرك لداعي نجاح دعوته في حياته، أم حصل النجاح بعد وفاته، فهي محدثة

أثرها على كل حال. فمَثل الكلم الطيب والعمل الصالح وتأثيرهما في النفوس كمثل

التفاعلات الكيماوية سواء بسواء، فإن التفاعل الكيماوي حاصل، وإن كان أحيانًا

يسير ببطء تبعًا لحالة المواد وطبيعتها وقوة تأثيرها بعضها في البعض الآخر.

وكثيرًا ما تجري الحوادث الكونية بحيث لا تدركها الأبصار ولا تتناولها الحواس،

فإذا مضت الأيام أو الشهور أو السنون أو القرون فوجئ الغافلون بالنتائج الصغيرة

أو الكبيرة التي نشأت عنها. وبالجملة: إنه كما أن لكل حركة أثرًا في مجموع ما

يحيط بها من الأشياء، كذلك لكل كلمة طيبة أو كلمة خبيثة فِعلها في رَدْع الناس عن

الشر أو إغرائهم به. أفليس من الوجوب علينا الإكثار من الكلم الطيب دعوة للخير

ومقاومة لدعوة الشر التي كثرت واستفحل أمرها؟

إن الباطل عدو الحق كما أن الحق عدو الباطل. وهذه العداوة قديمة من عهد

أن عرف حق وباطل، وستبقى مستمرة إلى ما شاء الله - تعالى -. فعلينا أن نفهم

هذه الحقيقة ولا يطمعن أحد في التوفيق بين عدوين هما أكبر خصمين في الوجود.

إنه لا ضرر على الحق من هذه العداوة أو المخاصمة التي لا مفر منها، فالباطل

أضعف من أن يقف أمام حق، والحق أقوى من أن ينازل باطلاً، وما كان لباطل

أن يوجد مع حق في ساحة، فأين وجد حق لا يوجد باطل، وإن الباطل ليتضاءل

أمام أشعة الحق كلما اقترب منه كما تتضاءل الظُّلمة أمام الضوء.

إن الحق ثابت بنفسه والباطل ساقط بذاته أو بعبارة أخرى، إن حياة الحق

مستقلة باستقلال الحق ولا حياة للباطل إلا باستناده إلى الحق فهو أشبه بالخيال منه

بالحقيقة. إنه لا يغلب الباطل إلا الحق، فالباطل قوي ما غاب عنه الحق، وكما

أنه لا سلطان لحق على حق كذلك لا نفوذ لباطل على باطل وكما أن الباطل يذهب

لقدوم الحق فإنه لا يترك مكانه لباطل مثله. فيلزم مواجهة الباطل بالحق على الدوام

فموت الباطل في قرب الحق منه، وحياة الحق في خفاء الباطل.

إن الحق حق ولا يمكن أن يكون إلا حقًّا، والباطل باطل ولا سبيل إلى جعله

حقًّا، فلا بد من الخلاف والتصادم بينهما. ولما كانت مهمة الحق إزهاق الباطل،

ودأب الباطل الفرار من أمام الحق والانتشار في الساحات التي لا سلطان له فيها،

وجب أن يتعقب الحق الباطل أينما حل وسار، ليتم له الانتصار.

لا عيب في الحق، وإنما العيب فيمن يدَّعون أنهم أهله إذا قصروا في القيام

به ونصره، وإلا ففيم يَخشى أهل الحق الباطل، وهؤلاء ضعفاء بضعف ما لديهم

من باطل، وأولئك أقوياء بما لديهم من الحق؟ لا يجوز لأهل الحق أن يَدَعوا

هؤلاء المبطلين آمنين مغرورين بزخرف الباطل مفتونين بظواهره الكاذبة حتى لا

يكون ذلك إقرارًا منهم لباطلهم، بل إن الواجب إقلاق بالهم وقذفهم بالحق دائمًا بدون

رأفة أينما ذهبوا أو حلوا أو وجدوا، في غدوهم ورواحهم، في نومهم ويقظتهم،

في أعمالهم وراحتهم، إلى أن يذهب نور الحق بظلمة الباطل، ويعرفوا أنهم لم

يكونوا إلا واهمين. إن نور الحق متى ظهر للناس لا يستطيعون نكرانه، وإن

استطاعوا إنكاره فلا يقدرون على المجاهرة به.

وإن الإصرار على الباطل بعد أن يفضحه الحق قليل في الناس، وإنما يصر

الأكثرون منهم على ما يصرون جهلاً منهم وتوهمًا أنهم على حق، لا عذر في

السكوت على الباطل، فيجب أن لا يصد داعيًا إلى الحق صادٌّ مهما عظمت المهمة

وبعُدت الشُّقة، وإذا بعُد الناس عن الحق أو قلَّ عدد الراغبين فيه منهم أو فُقدوا في

بعض الأزمنة أو الأمكنة، فإن ذلك لا يجعل الحق غير حق، ولا ينبغي أن يكون

مانعًا من الدعوة إليه؛ إذ الباطل لا يصح أن يُرضى به على أي حال.

إن الحالة قاضية بتنبيه المسلمين إلى الخطر المحدِق بهم، وأن يقال لهم في

وجوههم بصوت جهوري: إنكم في هوة انحطاط سحيقة تجب المبادرة إلى إنقاذ

أنفسكم منها. ولا يمكن أن يقال لهم غير ذلك. ينبغي أن يقال للمسلمين: يا معشر

النساء ويا معشر الرجال، أنتم على باطل وضلال. وإن تقاليدكم وعاداتكم التي

تدينون بها وتحرصون غاية الحرص عليها، إنما هي من مخترعاتكم ومخترعات

آبائكم، وإن العقل ينكرها، وشرع الله يتبرأ منها. وهذه القبور وما حوت من

عظام، والأشجار والأحجار لا يمكن أن تُتَّخذ وسيلة إلى العليم العلام، ولا سببًا

لقضاء الحاجات أو شفاء الأسقام.

وهذه الأفكار الفلسفية والنزعات المادية التي اتبعتم فيها سفهاء الإفرنج

بدعوى المدنية لم تكن إلا نزغات شياطين. وإن خطتكم التي تسيرون عليها لخطة

عوجاء، وهي سبب ما نزل بكم من البلاء. فارجعوا إلى أصل الدين تكونوا من

المهتدين يجب أن يقال ذلك وما شاكله للمسلمين، وأن يبين لهم ما يقال؛ تقريبًا

للعقول والأفهام.

فمن قام بذلك فقد قام بواجبه وليس عليه أن يبحث في مبلغ تأثير كلامه في

نفوسهم فليس عليه هداهم، وإنما الهُدى هُدى الله.

قد يفقه المسلمون القول، ويدركون الغرض المقصود منه في الجملة فيهمون

أن يفتحوا عيونهم للنظر ويتحركوا للعمل، ولكن تغلبهم الشهوات فيعرضون،

ويُوسوس لهم الشيطان فينكِصون، وعن اتباع الحق يعدلون. إنهم عصوا لضعف

استعدادهم، ولكن ما حيلة الداعي وأمر استعدادهم بأيديهم إن شاءوا أصلحوه، وإن

شاءوا زادوه ضعفًا؟ وما ذنبه، والمرء لا ينفعه زجر زاجر ما لم يكن له من نفسه

وازع {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) .

إن الناس مسئولون عن ضعف استعدادهم كما أنهم مسئولون عن ضياع كلمة

الحق بينهم. وإن ضعف استعداد الأمة ناشئ عما ارتكبته من السيئات، فيكفي منها

الإقلاع عنها وعمل الصالحات ليبدلها الله - تعالى - من فضله حسنات. ما عُذر

هؤلاء المسلمين في هذا الانحطاط الذي انفردوا به، وفيهم كتاب الله - تعالى -

وأمامهم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبين أيديهم آثار أهل الحق ورجال

الإصلاح، وتحت أنظارهم الأمثال الحسية على قيمة العمل وعلو الهمم فيما

يشاهدونه حولهم من المجهودات العظيمة التي تقوم بها الأمم العزيزة القوية.

إن المريض، وإن اشتد به المرض قد يجد إلى الشفاء سبيلاً باتباع أوامر

الطبيب والعمل بإرشاده. فلماذا لا تطلب هذه الأمة شفاءها في القرآن الذي ما فرط

الله فيه من شيء ففيه شفاء للناس؟ ولِمَ لا تستوضح ما أشكل عليها من سنة

الرسول صلى الله عليه وسلم والمأثور عن السلف الصالح؟ كل ذلك ميسور

لها سهل عليها. بل ما الذي يمنعها من الإصغاء لنداء أهل الحق والإصلاح الذين

يمن الله - تعالى - بهم على المسلمين من وقت إلى آخر رحمة بهم إذا اشتدت

الحاجة إليهم، وزاد الكرب وضاع اللُّب وبلغت الروح التراقي؟

لقد رزق الله الأمة الإسلامية من هؤلاء في أقل من نصف قرن ثلاثة أقطاب

كل واحد منهم يكفي للنهوض بالأمة وإسعادها، لو وجدوا منها سميعًا وناصرًا مطيعًا

إنه قضى منهم اثنان، وها هو ذا الثالث يقرع بالحُجة ويصدع بالحق تسعة عشر

عامًا، فهل وزن قوله بميزانه، وعُرف له حتى الآن قدره؟

إن صوت المنار لهو حجة الله الناطقة في الناس في هذا العصر، وإنه وإن

ضاع حتى الآن بين أهل الزمان، فإنه لا يضيع عند الله ولا في مستقبل الأزمان.

أفلا ينظر المسلمون إلى حالتهم ويرجعون إلى أنفسهم ليجدوا أنهم ضلوا

ضلالاً بعيدًا! وهل شيء أدل على ضعف دينهم وانحلال قوتهم من قيام قسيس في

هذين اليومين يطعن في السُّنة وأشهَر رواتها وحمَلتها وينشر شبهته في مجلة سيارة

ويدعو إلى الرد عليها ثلثمائة مليون من المسلمين؟

فأي برهان على فقر الأمة من الرجال أقوى وأظهر من سكوت علمائها عن

رد مزاعمه وإبطال شبهاته سوى رجل الإصلاح الأوحد ناصر الإسلام السيد الإمام؟

إن القسيس ما كان ليتحدى برسالته صاحب المنار فهو يعرف من هو، وكان

يتمنى - طبعًا - لو لم يرد عليه بحرف واحد. فهل الأمة كلها صاحب

المنار؟ وهل عدم المسلمون وهم يعدون بمئات الملايين من يستطع إبطال الشبهة

ورد الفِرية سواه؟ قد يكون ذلك صحيحًا، ويا للأسف وقد لا يكون صحيحًا. ولكن

الذي يلزم الاعتراف به هو أن الأمة سكتت لمن ادَّعى أنه هدم الأصل الثاني من

أصول دينها وهو السنة النبوية، وقد وقف أمامها يدعو أفرادها كافة إلى الكلام،

ويطلب منهم، وهو فرد ضعيف الخروج جميعًا إلى الميدان!

فهل نصدق بعد هذا دعاوى من تصدروا لإرشاد الأمة وسموا أنفسهم رجال

الدين وأئمته؟ وهل يغتر الغافلون بتظاهر أهل العمائم والفَرَجيات من علماء هذا

الزمان بالتقوى والصلاح والغيرة على الدين والعمل لمصلحة المسلمين؟ ألا ليت

شِعري، بماذا يعللون سكوتهم، وقد وجب النطق واستنصر الحق؟ وبأي شيء

يؤولون إهمالهم فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهم أولى الناس

بإقامتها؟ لا جواب على ذلك إلا أن الهمم مصروفة إلى غير تلك السبيل، وحسبنا

الله ونِعْم الوكيل.

لم تفقد الأمة الإسلامية استعدادها للعمل فقدًا تامًّا؛ إذ هي لا تخلو من استعداد

لقبول دعوة الخير إلى حد ما وإلا لكانت شرًّا محضًا. ولا يوجد في الكون محض

شر، وإلا لزال على الفور. فالذي نشكوه وعناه السيد الإمام هو ضعف الاستعداد لا

فقده تمامًا. وإنما ترفض الأمة الضعيفة الاستعداد دعوة الحق ولا تلبيها في وقتها

لقصر في النظر وقلة في الفهم، وضعف في القلب، وليست معذورة في ترك العمل

لضعف استعدادها وحرمانها من الزعيم أو الزعماء كما تقدم، فإن ذلك الضعف،

وذلك الحرمان منها وهي التي ولدتهما كما تلد الأم ولدها.

ألا إن الاستعداد لا يوجد في الأمة من نفسه ولا يوهب لها كما يوهب المتاع.

ولكن الأمة هي التي توجده بتمهيد الأسباب له كما أن وجود الزعماء تابع لحركة

الحياة فيها، فهم أبناؤها، وهي التي تلدهم. فالأمة هي التي توجد استعدادها كما تلد

زعماءها، وقد يكون الزعيم موجودًا وهي لا تراه لعلة في باصرتها أو بصيرتها،

فإذا زالت العلة بتقوية الاستعداد للإصلاح والتوجه لطلبه وجدته بين يديها وأمام

عينيها.

فالأمر كله راجع إلى الأمة، وهي التي عليها أن تحضِّر الدواء، وهي التي

عليها أن تتعاطاه. فهي المريض ومنها الطبيب. وبعبارة ثانية إن الأمة متى وجد

فيها الاستعداد للحياة أوجدت طبيبها، واستعدت لقبول دوائه، فهي المطالبة بإعداد

الطبيب أو الأطباء، وهي المطالبة بتجهيز الدواء وباستعماله في مقاومة الداء. إنها

هي المطالبة وحدها بإقامة فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فإن

عجزت فقد عجزت عن الحياة، ولا دواء ولا شفاء.

لست أعني بهذا أني يئست من حياة هذه الأمة، بل مرادي أن أقول: إن

حياتها لا تكون إلا في العمل بهذا الفريضة التي هي العلاج الوحيد لمرضها.

إنه ما كان للسيد الإمام، وهو طبيب الأمة الأوحد أن يباشر علاجها إلا من هذا

الطريق الطبيعي الأمين، وأن يستعمل سلاحًا لقطع عرق الفاسد من أصوله غير

ذلك السلاح الماضي. فلقد أحيا هذه الفريضة ونصرها بلسان المنار، الذي أنشأه،

وبلسانه على منابر الخطابة وفي الجمعيات والحفلات وفي مجالسه العامة والخاصة،

وقد ربى المنار رجالاً يحبون الإصلاح. ولكنه على ارتفاع صوته وعظيم قوته

المستمدة من قوة الحق لا يزال عدد من رباهم قليلاً واستعدادهم ناقصًا. ولا يدل ذلك

على تقصير المنار، بل هو علامة على استفحال الداء في جسم الأمة. ولما رأى

الرجل زاده الله علمًا وهدى أن تيار الفساد يشتد اشتدادًا، وأعوان الضلال وأولياء

الشيطان يزدادون ازديادًا، أدرك أن الأمر يقضي بتربية فئة من المسلمين تربية

علمية أخلاقية دينية عصرية ليجعل منهم سدًّا أمام ذلك السيل الجارف الذي ينذر

بأمر خطير وشر مستطير.

إنه أراد بتأسيسه (جمعية الدعوة والإرشاد) أن يهب الأمة كنزًا ثمينًا لا نفاد

له لتأخذ منه على الدوام حاجتها من الرجال القادرين على إقامة هذه الفريضة التي

لا قوام لها بدونها.

إنه كان حقيقًا بالمسلمين، وقد أصبحوا على حافة الهاوية أن يشتروا حياتهم

بإحياء هذا المشروع. إن الحياة أغلا من أن تقوَّم بالمال. فهل كثُر على المسلمين

أن يشتروا حياتهم بلفس، لو قستم على كل فرد منهم ما أصاب الفرد بارة واحدة؟

إنهم بخلوا بهذه الدُّريهمات؛ ولذلك مات المشروع فماتت بموته آمال عظام. إنه مات

صدقًا، ولكن ذلك لا يفزعنا فسيخلقه الله خلقًا جديدًا، وما ذلك عليه بعزيز.

نعم: مات المشروع بعد أن عاش أربع سنين عيشة مضطربة، ولكنه سيعود

بإذن الله - تعالى - على أيدي أناس آخرين جديرين بإحراز فخر القيام به، إنه

مات ولكنه في الحقيقة لم يمت، فقد مات بشكله الذي أنشئ عليه، وعاد للحياة بعد

تحوير في شكله الأول بقدر ما سمحت به الوسائل لصاحبه وسيبقى - ما شاء الله

تعالى - حاكمًا على الأمة بالضعف وللأستاذ بعلو الهمة والإخلاص. مات المشروع

ليحيا المشروع. مات وحقيقة الأمر أنه حي؛ لأنه من الحق، والحق لا يموت أبدًا

ليكن مات في الظاهر، ولكن صاحبه بفضل الله لم يمت وسيبقى بتوفيق الله تعالى

بالرغم من حسد الحاسدين سيفًا مسلولاً فوق رقاب المفسدين، وحجة الله - تعالى -

على المجرمين.

ليس غرضي الآن أن أعود فأدعوكم إلى نصرة المشروع، وقد رفضتم الدعوة

من قبل وما أغنتكم النذر، وإنما أدعوكم إلى إقامة فريضة (الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر) فانظروا ماذا أنتم صانعون. إني أطالبكم بإقامة هذه الفريضة

التي لا مجال فيها للتأويل، ولا للقال والقيل، إنه في إقامة هذه الفريضة علاجكم

الوحيد، فلا يصح أن تتوانوا في طلبه، وإلا فقدتم حياتكم.

إن الحالة وإن اشتدت وتعاظمت لا يجوز أن ييأس باشتدادها المؤمنون، فإنه

{لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَاّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) نعم: إنكم قطعتم

في سبيل الضلال شوطًا بعيدًا وسقطتم في مهواة الخيبة والخسران سقوطًا شديدًا،

وصرتم أحط أهل الشرق والغرب، وضجت من أفعالكم الأرض، واستغاثت

السماء، وغضب الرب، ولكن العلاج لازال ممكنًا وطريق السلامة أراه مفتوحًا آمنًا

ولا يعوزكم إلا السرعة في العمل، قبل ضياع الأمل.

فإن نار الشهوات والهوى التي أحرقت أجسامكم وأرواحكم تكاد تأكل ما بقي

من رمق فيكم، فاحفظوا هذا الرمق، وانجوا بأنفسكم وإلا هلكتم كما هلك من كان

قبلكم، {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} (الأنعام: 134) .

يؤلمني أنه إذا دعا المسلمين داعٍ لا يعرفون مَن المقصود منهم بالكلام، فكل

ينتحل لنفسه الأعذار ويرى أنه غير معنيّ بقول ولا مكلف بعمل! ذلك بأنه لا

جامعة تجمعهم ولا سائل ولا مسئول! ولكن الله يعلم ورسوله وملائكته وأهل الحق

يعلمون أن لا وظائف في الإسلام ولا رسوم، فكل مسلم مخاطب بكلمة الحق مطالب

بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله، والأمة كلها متضامنة في مسئولية الرضاء بالحالة

الحاضرة، وعلى ذلك فأنا أوجه خطابي إلى الأمة جميعها، وأعني به كل فرد من

أفرادها، وأقصد بنوع خاص أهل العقل والفهم الذين لهم آذان يسمعون بها وقلوب

يفقهون بها.

إني أدعو هذه الأمة إلى إقامة فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)

وأخاطب في شخصها المسلمين كافة، صغيرهم وكبيرهم سواء منهم المعمم

والمطربش، الكبير والحقير، الغني والفقير، التاجر والصانع، صاحب الملك

والمزارع، الخاصي والعامي، البدوي والحضري، العربي والعجمي، إني أطالبكم

جميعًا بإقامة هذه الفريضة، فإن أجبتم فإن الله يعدكم من لدنه مغفرة وأجرًا عظيمًا،

وأن يرفع عنكم هذا البلاء، ويفيض عليكم رزقًا ورحمة من السماء، وإن تتولوا

فحسبكم ما أنتم فيه جزاء في الدنيا {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: 127) .

أدعوكم أيها المسلمون إلى إقامة هذه الفريضة ولا أخيركم بين إجابة الدعوة

ورفضها؛ لأنه ما كان لي أن أخيركم بين الصحة والاعتدال، والهدى والضلال.

ولكم فيما عدا ذلك أن تعدوا وسائل العمل بحسب ما يروق لكم. ولكن ذلك لا

يمنعني أن أكرر النصح لكم بأن أقرَب الطرق إلى إقامتها على وجهها هو تنفيذ

مشروع (الدعوة والإرشاد) الذي دعوتكم إلى تعضيده في رسالتي الماضية. فإن

كنتم في ريب منه فأتوا بمشروع خير منه أو مثله للقيام بهذا الواجب الأكبر،

وتخليص الأمة من هذا الكرب العظيم، إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا فاعلموا أن

ما دعاكم إليه إمامكم هو الحق المبين، وإني لم أكن في ترديده غير ناصح أمين.

نشرنا هذه الرسالة ومنشئ المنار قد ذهب إلى أداء فريضة الحج، فنوجه إليها

نظر المسلمين ونخص صاحب (الانتقاد على المنار) ص 190 ج 3.

...

...

...

...

...

... صالح رضا

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 244