الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
هل البسملة آية من كل سورة أم لا
؟
(س10) من صاحب الإمضاء في العلاقة (شرقية) .
بسم الله الرحمن الرحيم
تحية من الله مباركة طيبة وسلامه عليكم. وبعد: فلما دلني فضلكم وهداني
الاطلاع على ما خط يراعكم إلى ساحة يمكم الذي يغترف منه القاصي والداني
سجال العلوم والمعارف فتُروى به الظمأى ويسترشد به المسترشدون - تلك مجلة
المنار الغراء التي تتفجر ينابيع الحكمة من بين سطورها - بعثت إليكم رسالتي هذه
أستفتيكم في مسألة متعلقة بالبسملة طال بين الأئمة النزاع والمجادلة فيها، وتلك
المسألة هي هل (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من الفاتحة ومن كل سورة أم لا؟
اختلفوا فيها فذهب كل فريق إلى شق من شقي ذلك الاستفهام ونصب على ما
يدعيه الدلائل غير أنه بالاطلاع على شواهد كل يعلم أنها لا تنتج مدعاه، فلقد تركوا
الأمر مريجًا وظل كلٌّ يعول على ترجيح مذهبه كائنًا ما كان، غير مبالٍ بسرد
الأحاديث المتعارضة، ونقل الآثار المتناقضة، صحيحة كانت أم ضعيفة.
قالوا: انعقد الإجماع على أن البسملة آية من القرآن، ويروى ضمن أدلة فريق
أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما (من ترك البسملة فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله عز وجل مع تصريحهم بأنه لا خلاف في أن البسملة ليست آية من (براءة) حتى لقد نقلوا الإجماع على ذلك، فبين ما رُوي عن ابن عباس
وبين ذلك التصريح التناقض الظاهر، إذ مقتضى قوله: مائة وأربع عشرة آية
أنها آية حتى من (براءة) وفي الأدلة من ذلك التناقض كثير؛ لهذا لم يهتدِ
طالب الحق إليه فبعثت إليكم عسى أن توافوني ببيان شافٍ، وقول فصل تطمئن
إليه النفس، كما هو المعهود فيكم لمثل هذا الموقف، أمدكم الله بسديد الرأي،
وأعانكم على ما يرفع الإسلام وينفع المسلمين ويعزز الحق إنه هو العزيز الحكيم.
(ج) في المسألة أدلة قطعية وأدلة ظنية، والقاعدة في تعارض القطعي مع
الظني أن يُرجح القطعي إذا تعذر الجمع بينه وبين الظني، ولولا التعصب للمذاهب
من قوم وللأسانيد من آخرين لأجمع المحدثون والفقهاء والمتكلمون على أن البسملة
آية من كل سورة غير براءة (التوبة) كما أجمع الصحابة على كتابتها في
المصاحف، وكما أجمع القراء السبعة المتواترة قراءاتهم على قراءتها عند البدء في
كل سورة غير براءة- فهذان دليلان قطعيان أحدهما خطي متواتر والآخر قولي
متواتر يؤيدهما كثير من أحاديث الإثبات الصحيحة، فوجب إرجاع ما ورد من أدلة
النفي الظنية إلى الإثبات وإلا فلا يعتد بها، وإن صح سندها. ومنها ترك بعض
القراء السبعة لتلاوتها في السورة التي توصل بما قبلها.
أما دعوى أنها كتبت في المصاحف للفصل بين السور فلو كانت صحيحة
لكتبوها بين سورتي الأنفال وبراءة (التوبة) أيضًا ، ومن المعلوم بالقطع أن
الصحابة ومن اهتدى بهديهم لم يكتبوا في المصاحف شيئًا غير كلام لله -تعالى-.
وأما حديث ابن عباس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل
السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم) رواه أبو داود والحاكم وصححه
على شرط الصحيحين والبزار بسندين رجال أحدهما رجال الصحيح - فهو حجة
على أن البسملة كانت تنزل مع كل سورة، لا أنها آية كُتبت للفصل بين السور
بالاجتهاد، وقد توفي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر بكتابتها في أول سورة براءة
وعللوا ذلك بنزولها بنقض عهود المشركين وبالسيف.
وأما أحاديث الإثبات (فمنها) حديث (نزلت عليّ آنفا سورة - فقرأ- بسم
الله الرحمن الرحيم. إنا أعطيناك الكوثر) إلخ رواه مسلم والنسائي عن أنس.
(ومنها) : سئل أنس: كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: كانت مدًّا ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم - يمد ببسم الله ويمد بالرحمن
ويمد الرحيم. رواه البخاري.
وفي معناه حديث أم سلمة عند أحمد وأبي داود والدارقطني وقد قرأت الفاتحة
كلها بالبسملة.
(ومنها) عدة أحاديث لأبي هريرة - قال نعيم المجمر: صليت وراء أبي
هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن -الحديث وفيه- ويقول إذا
سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه
النسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: على شرط البخاري
ومسلم، وقال البيهقي: صحيح الإسناد وله شواهد (ومنها) قوله: عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم
رواه الدارقطني وقال: رجال إسناده كلهم ثقات، ولكن اختلف غيره في عبد الله بن
عبد الله الأصبحي من رجاله. ومن الآثار في المسألة أن عليًّا كرم الله وجهه سئل عن
السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين. أي سورة الحمد لله.. إلخ فقيل له: إنما
هي ست، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. رواه الدارقطني وقال: رجال إسناده
كلهم ثقات.
ومنها إنكار الصحابة على معاوية ترك الجهر بها. رواه الشافعي عن أنس
والحاكم في المستدرك وقال: على شرط مسلم قال: صلى معاوية بالناس بالمدينة
صلاة جهر فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر في الخفض والرفع، فلما فرغ
ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية نقضت الصلاة، أين بسم الله الرحمن الرحيم
وأين التكبير إذا خفضت ورفعت؟ فكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن
الرحيم وكبر. ولعل المراد الجهر بذلك وإلا لأعاد الصلاة؛ إذ لا يعذر مثله بجهل
كون البسملة منها. ويحتمل أن يكون أعادها وإن لم يذكر في هذه الرواية.
وأما أحاديث النفي فأقواها حديث أنس: صليت مع النبي -صلى الله عليه
وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم
رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن وله ألفاظ أخرى، ومنها: فكانوا لا
يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. رواه أحمد والنسائي لا القراءة.
وفي لفظ لابن خزيمة: كانوا يسرّون إلخ، وقد أعلّ المثبتون حديث أنس هذا
بالاضطراب في متنه، وبما رُوي من إثبات الجهر بها عنه وعن غيره، وقال
بعضهم: إنه كان نسي هذه المسألة فلم يجزم بها، قال أبو سلمة: سألت أنسًا أكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله
الرحمن الرحيم؟ فقال: إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك.
الحديث رواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح.
ومن أدلة النفي ما صح في الحديث القدسي من قسمة الصلاة بين العبد والرب
نصفين وفسرها صلى الله عليه وسلم بقوله: فإذا قال العبد: (الحمد لله رب
العالمين) قال الله عز وجل: حمدني عبدي إلخ الحديث رواه مسلم وأصحاب السنن
الأربعة. والاستدلال بترك ذكر البسملة فيه على عدم كونها من الفاتحة ضعيف،
ولو صح لصح أن يستدل به على كون سائر الأذكار والأعمال ليست من الصلاة.
والقول الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالبسملة تارةً
ويسر بها تارةً. وقال ابن القيم: إن الإسرار كان أكثر. وذهب القرطبي في الجمع
بين الأحاديث إلى أن سبب الإسرار بها قول المشركين الذين كانوا يسمعون القرآن
منه: محمد يذكر إله اليمامة. يعنون مسيلمة الكذاب لأنه سمي الرحمن أو أطلقوا
عليه لفظ رحمن بالتنكير كقول مادحه:
وأنت غيث الورى لا زالت رحمانا
…
وكانوا يشاغبون النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار تسمية الله -عز
وجل- بالرحمن كما علم من سورة الفرقان وغيرها، فأُمر -صلى الله عليه
وسلم- بأن يخافت بالبسملة. قال الحكيم الترمذي: فبقي إلى يومنا هذا على ذكر
الرسم وإن زالت العلة. روى ذلك الطبراني في الكبير والأوسط، وذكره
النيسابوري في التيسير من رواية ابن جبير عن ابن عباس، وقال في مجمع الزوائد: إن رجاله موثقون.
وصفوة القول: إن أحاديث الإثبات أقوى دلالة من أحاديث النفي. وأولى
بالتقديم عند التعارض، وإذا فرضنا أنها تعادلت وتساقطت أو ربح المنفي على
المثبت خلافًا للقاعدة جاء بعد ذلك إثباتها في المصحف الإمام في أول الفاتحة وأول
كل سورة ماعدا براءة (التوبة) وهو قطعي ينهزم أمامه كل ما خالفه من الظنيات،
وقد أجمع الصحابة على أن كل ما في المصحف فهو كلام الله -تعالى- أثبت كما
أنزل سواء قرئت الفاتحة في الصلاة بالبسملة جهرًا أو سرًّا أم لم تقرأ، ولا عبرة
بخلاف أحد بعد ذلك ولا برواية أحد يزعم مخالفة أحد منهم لذلك. ولا حاجة مع هذا
إلى تتبع جميع ما ورد من الروايات الضعيفة والآثار والآراء الخلافية، ومن ذلك
أثر ابن عباس المذكور في السؤال، ولولا التطويل الممل بغير طائل لأوردنا كل ما
ورد في المسألة رواية ودراية.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ذكرى المولد النبوي
كتبنا رسالة في ذكرى المولد النبوي الشريف بيَّنَّا فيها كيفية نشأة المصطفى
عليه أفضل الصلاة والسلام، ومعنى اصطفاء الله تعالى له ولأهل بيته ولقومه
ولأمته، وحكمة ظهوره في العرب الأميين دون شعوب المدنية في عهده، وخبر
البعثة والدعوة الإسلامية. وسنجعل لها مقدمة نبين فيها ما ينبغي بيانه نطبعها معها
على حدة، وهذا نص الذكرى:
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم حمد الشاكرين، أن بعثت فينا محمدًا خاتم النبيين والمرسلين،
وأرسلته رحمة للعالمين، واختصصت بمنتك به الأميين وسائر المؤمنين،
واستجبت به دعوة إبراهيم، وحققت به بشارة عيسى والنبيين {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (البقرة: 127-129) {وَإِذْ قَالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُّبِينٌ} (الصف: 6) {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ
ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى
ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81)
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل
عمران: 164) {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * ذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الجمعة: 3-4)
نحمدك اللهم ونصلي على هذا النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه الذين أقاموا
الدين، ومن تبعهم في هداهم وهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد فإن الاحتفال بذكرى المولد النبوي في شهر ربيع الأول، عادة أحدثها
في القرن السابع الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل، من البلاد التابعة الآن
لولاية الموصل، ثم انتشرت هذه العادة في الأقطار، وقد بَزَّت مصر بها جميع
الأمصار، والفائدة التي ينبغي أن تُتَوَخَّى [1] في هذا اليوم الذي فَضَلَ الأيام، هي
التذكير بخلاصة تاريخ النبي عليه أفضل الصلاة والسلام؛ ليتذكر المؤمنون منة الله
عليهم ببعثته، وتتغذى أرواحهم بزيادة الإيمان وكمال محبته، ويحرصوا على إقامة
دينه وإحياء سنته. وها نحن أولاء نُشَنِّف الأسماع بفرائد من نسبه وحسَبه [2]
ومزايا قومه وعشيرته، وأخبار مولده وتربيته، وكيفية معيشته في نفسه، وزواجه
وسيرته مع أهله، تمهيدًا لبيان المقصد الأهم الأعظم، وهو نبأ بعثته صلى الله
عليه وسلم؛ مستمدين ذلك من الكتاب العزيز والسنة الثابتة عند المحدثين، وما
تمس الحاجة إليه مما أثبته ثقات المؤرخين، معرضين عن الروايات الموضوعات،
والواهيات والمنكرات، التي عُني الكثيرون بنقلها لما فيها من الخوارق والغرائب،
مبالغة فيما أجازه العلماء من قبول الأخبار الضعيفة في المناقب، ولما يُرْجَى من
حسن تأثيرها في قلوب العوام، مع الغفلة عما يُخْشَى من ضد ذلك في نابتة هذه
الأيام، على أن لنا فيما لا يُحْصَى من الفضائل والمناقب المشهورة والمتواترة، ما
يُغني عن جميع الروايات الضعيفة والمنكرة، وبذلك يعرف قدر الإصلاح العظيم،
الذي أرسل الله به هذا النبي الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
***
قومه ونسبه صلى الله عليه وسلم
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل
عمران: 33) إذ جعل فيهم النبوة والهداية للمتقدمين والمتأخرين، ثم اصطفى
كنانة من آل إسماعيل بن إبراهيم، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من
قريش بني هاشم، واصطفى سيد ولد آدم من بني هاشم، فكان آل إسماعيل أفضل
الأولين والآخرين، كما كان بنو إسحاق أفضل المتوسطين؛ إذ كانت هداية الأنبياء
من بني إسحاق وغيرهم خاصة، وهداية هذا النبي من آل إسماعيل عامة، فبه
أكمل الله تعالى الدين، وأتم نعمته على العالمين، كما اقتضته سنته تعالى في
النُشوء والارتقاء، التي كانت في البشر أظهر منها في سائر الأحياء.
كيف كان اصطفاء الله تعالى لهذه الأصول من الأمة العربية، الذي ثبت في
صحيح مسلم وغيره من كتب السنة السنية؟ وبماذا امتاز قوم خاتم الرسل الكرام،
فَفَضَلوا به غيرهم من الأقوام، حتى استعدوا به لهذا الإصلاح الروحي المدني العام،
الذي اشتمل عليه دين الإسلام، على ما طرأ عليهم من الأمية وعبادة الأصنام،
وما أحدثت فيهم غلبة البداوة من التفرق والانقسام؟
الجواب:
كانت العرب ممتازة باستقلال الفكر وسعة الحرية الشخصية، أيام كانت الأمم
تَرْسُفُ [3] في عبودية الرياستين الدينية والدنيوية، محظورًا عليها أن تفهم غير ما
يلقنها الكهنة ورجال الدين من الأحكام الدينية، وأن تخالفهم في مسألة عقلية أو
كونية أو أدبية، كما حظرت عليها حرية التصرفات المدنية والمالية.
كانت العرب ممتازة باستقلال الإرادة في جميع الأعمال، أيام كانت الأمم
مذللة مُسَخَّرة للملوك والنبلاء المالكين للرقاب والأموال، يستخدمونها كما
يستخدمون البهائم، ويُصرفونها كما يصرفون السوائم [4] لا رأي لها معهم في سلم
ولا حرب، ولا إرادة لها في عمل ولا كسب.
كانت العرب ممتازة بعزة النفس، وشدة البأس، وقوة الأبدان، وجرأة الجنان،
أيام كانت الأمم مؤلفة من رؤساء أفسدهم الإسراف في الترف، ومرؤوسين
أضعفهم البؤس والشظف [5] وسادة أبطرهم بغيُ الاستبداد، ومسودين أذلهم قهر
الاستعباد.
كانت العرب أقرب إلى فضيلة المساواة بين الأفراد، من غير شرائع تُحْتَرَم
بالاعتقاد، ولا قوانين تكفلها قوة الأجناد. أيام كانت الأمم تنقسم إلى طبقات، يرتفع
بعضها على بعض عدة درجات، لا بفضائل ذاتية، من علمية أو عملية، بل بحكم
وراثة الخلف الطالحين [6] للسلف المستكبرين، باستبداد الملك أو تقاليد الدين.
كانت العرب ممتازة بالذكاء واللوذعية، وكثير من الفضائل الموروثة
والكسبية. كقِرَى الضيوف، وإغاثة الملهوف، والنجدة والإباء، [7] وعلو الهمة
والسخاء والرحمة والإيثار [8] وحماية اللاجئ وحرمة الجار. أيام كانت الأمم مرهقة
بالأثرة والأنانية [9] والأنين من ثقل الضرائب والأتاوى [10] الأميرية، ورؤساؤها
منغمسين في الشهوات البهيمية، وفساد الأخلاق قد عمَّ الراعي والرعية.
كانت العرب قد بلغت أَوْج الكمال، في فصاحة اللسان وبلاغة المقال،
وكادت تتحد لغات قبائلها أو لهجاتها العربية، وتسود المُضَرِيَّة منها على الحِمْيَرِيَّة،
بما كان لقريش وغيرها من الرحلات التجارية، والأسواق الأدبية، فاستعدت
بذلك للوحدة القومية وللتأثر والتأثير بالبراهين العقلية والمعاني الخطابية والشعرية
وللتعبير عن جميع العلوم الإلهية والشرعية، والفنون العقلية والكونية أيام
كانت الأمم تنفصم عُرَى وحدتها بالتعصبات الدينية والمذهبية، وتتفرق
وشائجها [11] بالعداوات الجنسية، وتتمزق دولها بالحروب الأجنبية والأهلية.
فتلك أمهات مزايا الأمة العربية، التي أعدها الله تعالى بها للبعثة المحمدية،
والسيادة الدينية والمدنية، بعد أن طال العهد على مدنيتهم العادية، واستعمارهم
للبلاد الكلدانية البابلية، والبلاد الفينيقية (السورية) والمصرية، التي تشهد له
سيادة لغتهم للُّغات السامية، وبقاياها في اللغة الهيروغليفية [12] وبعد أن غلبت عليهم
الأمية، وخرافات الوثنية، وعصبية الجاهلية.
وجملة مزاياهم أنهم كانوا أسلم الناس فطرة، على كون أمم الحضارة كانت
أرقى منهم في كل فن وصناعة. والإصلاح الإسلامي مبني على تقديم إصلاح
الأنفس باستقلال العقل والإرادة وتهذيب الأخلاق على إصلاح ما في الأرض من
معدن ونبات وحيوان؛ أي إن الله تعالى كان يُعِدُّ هذه الأمة بهذا الإصلاح العظيم،
الذي جاء به محمد عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
***
اصطفاء كنانة وقريش وبني هاشم
أما اصطفاء الله لكنانة الشيخ الجليل، من سلالة نبيه الذبيح إسماعيل،
فيفسره ما كانت تحفظه العرب من أخبار كرمه ونبله، ومنها أنه كان على سُنة جده
إبراهيم الخليل لا يأكل وحده. وقد نقل الحافظ في شرح البخاري أنهم كانوا يحجون
إليه لعلمه وفضله. ومما يؤثر عنه من الحِكَم الجلية، كما روي في السيرة الحلبية:
رب صورة تخالف المخبرة، قد غرت بجمالها، واختبر قُبح فعالها، فاحذر الصور،
واطلب الخبر. فهذا دليل على ما وصف به من العلم والحكمة، وأما حج العرب
إليه فإنه دليل على أنه كان بمثابة التعارف، ومعقد رابطة الاجتماع والتآلف.
وأما اصطفاء الله تعالى لقريش الميامين الغُرُّ، وهم ذرية فهر بن مالك، وقيل:
جده النضر. فقد كان بما آتاهم الله من المناقب العِظَام، ولا سيما بعد سكنى مكة
وخدمة المسجد الحرام؛ إذ كانوا أصرح ولد إسماعيل أنسابًا، وأشرفهم أحسابًا
وأعلاهم آدابًا، وأفصحهم ألسنة، وهم الممهدون لجمع الكلمة. فقد نقل أهل
السير أن مالك بن النضر كان ملك العرب، وأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه
ويعظهم يوم الجمعة، وكانوا يسمونه يوم العَرُوبَة، وأنهم كانوا يُجِلُّونه في حياته،
ثم إنهم أرَّخُوا بموته، وأن قُصَيًّا هو الذي جمع شمل قبائل قريش بمكة؛ إذ كان
هو الوارث لمن كانوا يتولونه من خزاعة [13] . وقد تَمَلَّك عليهم فَمَلَّكُوه، إلا أنه قد
أقر للعرب ما كانوا عليه. وذلك أنه كان يراه دينًا في نفسه، لا ينبغي له تغييره ولا
لغيره من بعده (قال ابن إسحاق) وهو الذي أنشأ الندوة، وجعل بابها إلى الكعبة،
وقد أجمعت قريش على طاعته وحبه، فكانت إليه الحِجَابة والسقاية والرفادة والندوة
واللواء، ثم وزعت المناصب بعده على الزعماء [14] .
وأفضل من ذلك كله ما وُقِّفُوا له في حداثة الرسول من التحالف الذي عُرِف
بحلف الفضول؛ إذ تعاقدوا وتعاهدوا أن لا يجدوا بمكة مظلومًا إلا قاموا معه،
وكانوا عونًا له على من ظلمه، إلى أن تُرَدَّ مظلمته. وفي حديث الزبير بن العوام
عند الطبراني، ومثله حديث أم هانئ في معجمه الأوسط كتاريخ البخاري (فضَّل
الله قريشًا بسبع خصال: فضَّلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبد الله إلا
قرشيّ [15] وفضَّلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون. وفضَّلهم بأنه نزل فيهم
سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين، وهي {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (قريش: 1) - وفضلهم بأن فيهم النبوة والخلافة، والحجابة والسقاية) .
كان ذلك كله من ارتقاء قريش واستعداد العرب للإسلام، ولكن هذه القوى
المعنوية كلها وجهت لمعاداته عليه أفضل الصلاة والسلام.
***
وأما اصطفاء الله تعالى لبني هاشم، فقد كان بما امتازوا به من الفضائل
والمكارم، فقد روى أبو نعيم من حديث المستورد الفهري رضي الله عنه: (إن
فيهم خصالاً أربعًا: إنهم أصلح الناس عند فتنة، وأسرعهم إقامة بعد مُصيبة.
وأوشكهم كَرَّةً بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم، وأمنعهم من ظلم الملوك) . وكان
جدهم هاشم صاحب إيلاف قريش، الذي أخذ لهم العهد من قيصر الروم على
حمايتهم في رحلة الصيف، وروي أنه هو الذي سَنَّ الرحلتين، وأخذ العهود
بها من الحكومتين، حكومة اليمن العربية، وحكومة الشام الرومية، فاتسعت
بهما معيشة قريش، وأمنوا في تجارتهم من كل خوف، وقد امتن الله عليهم بذلك في
القرآن، بما عُدت به التجارة من أشرف أعمال الإنسانية، وإنما أطلق لقب
هاشم على عمرو بن عبد مناف؛ لأنه أول من هشَّم الثريد للمسنتين العجاف [16] ،
وكان يُشبع منه كل عام أهل الموسم كافة، كما أشبع منه قومه في سنة القحط
والمجاعة، على أن مائدته كانت منصوبة لا تُرْفَع في السراء ولا في الضراء، وزاد
عليه ولده عبد المطلب فكان يُطعم الوحش وطير السماء، وكان أول من تحنث بغار
حراء، وروى أنه حرَّم الخمر على نفسه، وجعل ماء زمزم للشرب
فحرَّم أن يُغْتَسَل به.
فجملة ما امتاز به آله صلى الله عليه وسلم على سائر قومه الأخلاق العلية،
والفواضل والفضائل النفسية، وكانوا أبعد من سائر قريش عن الكِبْر والأَثَرَة
والأمور الحربية، ولذلك غلبوا على الرياسة حتى بعد الإسلام، وحكمة ذلك ظاهرة
لأولي الأحلام، فهو أنفى للشُّبَه عن رسالته عليه أفضل الصلاة والسلام.
***
سرد نسبه صلى الله عليه وسلم
بعد هذا التذكير بمناقب قومه، والتفسير لاصطفاء الله تعالى لقبيله وآل بيته،
نُشَنِّفُ الأسماع بنسبه المحفوظ بالتفصيل، المتواتر اتصاله بنبي الله إسماعيل،
فنقول: هو سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب واسمه شيبة الحمد، ابن هاشم
واسمه الذي سماه به أبوه عمرو، ابن عبد مناف واسمه المغيرة، ابن قصي
ولُقِّب بمُجَمِّع؛ إذ جمع قريشًا في تلك الحظيرة ابن حكيم الذي لُقِّبَ ّبكلاب،
والكلاب مصدر كالمكالبة، ومعناه المجاهرة بالعداوة والمناصبة، ابن مرة والمراد به
الجلد القوي ابن كعب وهو منقول من كعب الرمح الرُّدَيني، ابن لؤي، وهو تصغير
لواء أو لأي أو لأي [17] ابن غالب بن فهر ومعناه الحجر الصغير [18] وهو
قريش على المعتمد عند الجماهير، ابن مالك بن النضر واسمه قيس، والنضر هو
الحسن المشرق الوجه، ابن كنانة ومعناه وعاء السهام من الجلد، ابن خزيمة وهو
تصغير اسم المرة من الخزم [19] ، ابن مدركة واسمه عامر أو عمرو، ابن إلياس بن
مضر وهو معدول عن ماضر، ومعناه اللبن الأبيض أو الحامض الخاثر، ابن نزار
من النزر ومعناه القليل، ولعله سمي به تفاؤلاً بقلة وجود مثله في ذلك الجيل، ابن
معد وهو مشتق من المعد، وهو الجذب السريع والذهاب في الأرض، وورد في
الحديث المرفوع وفي نصيحة عمر للجيش: (تعمددوا) أي تشبهوا بمعد في
خشونة العيش، ابن عدنان، وهو من عدن بمعنى أقام في المكان.
وفي حديث ابن عباس (كان عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد على
ملة إبراهيم فلا تذكروهم إلا بخير) [20] وروى الزبير بن بكار من وجه آخر مرفوعًا: (ولا تسبوا مُضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين)[21] فهذا ما كان يسرده
الرسول من نسبه كالدر النظيم، وهو واسطة عقده عليه أفضل الصلاة والتسليم.
نسب تحسب العُلا بحُلاه
…
قلدتها نجومها الجوزاء
حبذا عقد سُودد وفخار
…
أنت فيه اليتيمة العصماء
***
زواج عبد الله بآمنة والحمل بالنبي وولادته
صلى الله عليه وسلم
انحصر نسل هاشم في عبد المطلب فلم يكن له سواه، ووُلد لعبد الطلب أبو
طالب والعباس وحمزة وعبد الله. وقد زوَّج عبد الله آمنة ابنة وهب بن عبد
مناف بن زهرة، زهرة أخو جده قصي بن حكيم بن مرة، وقد بنى عليها في بيت
أهلها وأقام معها فيه ثلاثة أيام، فلم تلبث أن حملت بالنبي عليه الصلاة والسلام،
ولم تجد في حمله ثقلاً ولا وحمًا كما هو شأن المحصنات الصحيحات الأجسام، وقد
روى الحاكم وصحَّحه البيهقي في مراسيل خالد بن معدان، أن الصحابة سألوه
صلى الله عليه وسلم عن هذا الشأن، فقالوا: يا رسول الله خَبِّرْنا عن نفسك. وفي
حديث أبي أمامة عند ابن سعد وأحمد وغيرهما: ما كان بدءُ أمرك؟ فقال:
(دعوة أبي إبراهيم [22] ، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج
منها نُور أضاءت له بصرى من أرض الشام) وقد ثبت أن هذه رؤيا كانت في
المنام، ولكنها رؤيا صادقة لا أضغاث أحلام، وصحَّح ابن حبان أن ذلك النور
تمثل لعينيها حين أخذها المخاض فوضعته عليه أفضل الصلاة والسلام.
***
تاريخ ولادته وخبر رضاعته وحضانته
صلى الله عليه وسلم
وُلد صلى الله عليه وسلم سَوِي الخلق، جميل الصُورة صحيح الجسم، وكانت
ولادته في عام الفيل، في الليلة الثانية عشرة أو التاسعة من شهر ربيع الأول
الموافقة للعشرين من شهر إبريل، وكان ذلك العام هو الحادي والسبعين بعد
الخمس مائة من مولد المسيح عليهما الصلاة والسلام، وقد تُوفي والده وهو حمل،
فكفله جده شيبة الحمد، فأرضعته أمُّهُ ثلاث أيام، وكذا ثويبة مولاة أبي لهب عدة
أيام، وكانت نساء قريش لا يرضعن الأولاد فعهد جده بإرضاعه إلى حليمة السعدية،
وجعله في قبيلتها بالبادية؛ لينشأ في العيشة الخلوية، ثم ردته حليمة إلى أُمه بعد
أربع سنين، فحضنته إلى أن تُوفيت وله ست سنين، فأصبح صلى الله عليه وسلم
يتيم الأبوين، فكفله بعدها جده عبد المطلب سنتين، ثم تُوفي بعد أن أوصى به أبا
طالب عمه، فحاطه بعنايته كما يُحوط ولده وأهله، إلا أنه كان لفقره يعيش عيشة
القشف، فلم يتعود صلى الله عليه وسلم نعيم الترف، وذلك من عنايته تعالى بتربية
هذا المُصلح العظيم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
***
معيشته في الحداثة وكسبه وزواجه
صلى الله عليه وسلم
وُلد صلى الله عليه وسلم يتيمًا، ونشأ في قومه فقيرًا، ومات والده في سن
الشباب، ولم يترك له مالاً إلا خمسة جمال وبضع نعاج، وكان قد أَلِفَ رعي الغنم
مع إخوته في الرضاع، فصار يرعى لأهل مكة، فيوفر على كافله أبي طالب بما
يأخذ على ذلك من الأجرة، ثم سافر مع عمه أبي طالب في تجارته إلى الشام، وله
من العمر اثنتا عشرة سنة وشهران وعشرة أيام، وهنالك رآه بحيرا الراهب،
وبشر به عمه أبا طالب، وحذره من اليهود عليه، بعد أن رأى خاتم النبوة بين
كتفيه، ثم إنه سافر إلى الشام مرة ثانية، مُتَّجِرًا بمال خديجة تجارة المضاربة،
فأعطته أفضل ما كانت تعطي غيره؛ إذ جاءت تلك التجارة بأرباح مضاعفة، بل
جاءت بسعادة الدنيا والآخرة.
كانت خديجة بنت خويلد بن عبد العزى بن قصي، أعقل وأجمل امرأة في
قريش، كانت تُدعى في الجاهلية [الطاهرة] ، لما لها من الصيانة والفضائل
الظاهرة، ولمَّا حدَّثها غلامها ميسرة بما رأى منه عليه الصلاة والسلام في رحلته
معه إلى الشام، من الأخلاق العالية، والفضائل السامية، وما قاله بحيرا الراهب
لعمه أبي طالب، تعلقت رغبتها بأن تتخذه بعلاً، بل تَرَقَّتْ أفكارها إلى ما هو
أعلى [23] فتم ذلك الزواج الميمُون، وكان هو ابن خمس وعشرين وهي ابنة
أربعين، وتُوفيت بعد البعثة بعشر سنين، ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم عليها،
ولا أحب أحدًا مثلها، وكان طول عُمُره يذكرها، حتى كانت عائشة تغار منها ولم
ترها، قالت من حديث لها: فذكرها يومًا من الأيام، فأخذتني الغيرة فقلت له عليه
الصلاة والسلام: هل كانت إلا عجوزًا قد أبدلك الله خيرًا منها؟ فغضب ثم قال: لا
والله ما أبدلني خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس،
وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من
النساء) [24] وفي صحيح مسلم عنها (أنها ما غارت على امرأة كما غارت على
خديجة وهي لم ترها) ، وعللت ذلك بكثرة ذكره إياها. قالت: وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول: (أرسلوا إلى أصدقاء خديجة) فأغضبته
يومًا وقلت: خديجة! فقال: (إني قد رُزقت حبها) وفي رواية عزاها الحافظ في
الإصابة إلى الصحيح أنه قال: (إني لأحب حبيبها)[25]- فهذا هو الوفاء الكامل
اللائق بذلك النبي الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تتوخى: تتعمد وتخص بالطلب والقصد.
(2)
الحسب: ما يُعد من مفاخر الآباء.
(3)
ترسف: تمشي مشية المقيد- يشبه تصرفها في استعباد الرؤساء لها بمشي الأسير في قيوده.
(4)
السوائم: المواشي الراعية.
(5)
الشظف: بفتحتين ضيق المعيشة.
(6)
الخلف: بسكون اللام الذين يخلفون غيرهم في الشر، والطالحون بالطاء: الفاسدون فهو ضد الصالحين.
(7)
النجدة: مضاء عزم يبعث على المضي فيما يعجز عنه غيره، والإباء: الترفع عن الخسائس.
(8)
الإيثار: تقديمك غيرك على نفسك بما تحتاج إليه مما تملك.
(9)
الأثرة: تقديم نفسك على غيرك ولو ما هو أولى به منك فهي ضد الإيثار، والأنانية: المبالغة في حب النفس الحامل على الأثرة، وهو نسبة إلى كلمة (أنا) .
(10)
الضرائب: جمع ضريبة وهي ما يضرب على العبيد ونحوهم من المال يؤدونه أقساطًا، ومنها الجزية، وضريبة الأرض الخراج والأتاوى جمع إتاوة وهي الرشوة، وتطلق على الخراج ونحوه.
(11)
الوشيج والوشيجة: اشتباك القرابة وتداخل بعضها في بعض وأصله شجر الرماح ونحوه مما يشتبك.
(12)
أقدم مدنية وحضارة عرفها التاريخ مدنية الكلدانيين والبابليين في العراق والمصريين في مصر والفينيقيين في سورية وقد ثبت لدى بعض علماء العاديات (الآثار القديمة) أن أهلها من بلاد العرب.
(13)
قد كان ذلك بتزوجه لحبى بنت حليل الذي كان آخر من ولي منهم قال ابن إسحاق: فلما انتشر ولد قصي وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل، فرأي قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر وأن قريشًا قرعة إسماعيل بن إبراهيم وصريح والده، ثم قال بعد بيان ما كان في ذلك من أمره، فولي قُصي البيت وأمر مكة إلخ.
(14)
كان لقريش من المناصب غير تلك الخمسة الأشناق والعمارة والسفارة والأعنة والقبة، والأموال المحجرة للمعبودات كالأصنام، والأيسار الذي منه الاستقسام بالأزلام، الذي يرجح به بين الإقدام والإحجام وقد عابهم عليها الإسلام:(فالحجابة) هي السدانة أي خدمة المسجد الحرام (والسقاية) توزيع الماء المحلى والقراح على جميع الحجاج (والرفادة) إسعاف الفقراء والمساكين ولا سيما الحجاج المنقطعين (والندوة) الشورى لإجالة الرأي في الأمور العظام التي اجتمعوا فيها بعد البعثة للائتمار بالنبي عليه الصلاة والسلام (واللواء) راية قريش وكانت تسمى العقاب، (والأشناق) تحمل الدايات والمغارم لمنع انتشار التعادي والتخاصم (والعمارة) حفظ بناء المسجد الحرام قيل وحفظه من اللغط وهجر الكلام (والسفارة) قيادة الفرسان في أيام الطعان أو الرهان، (والقبة) الخيمة الرسمية التي تنصب وقت الحرب ويجتمع فيها ما يجهز به الجيش.
(15)
أي لا يعبده ويوحده أحد؛ لأن أناس منهم إذ كانوا على ملة إبراهيم وكانت الوثنية قد شملت العرب كلهم كما شملت غيرهم.
(16)
المسنتون اسم فاعل من أسنت القوم أصابتهم السنة والقحط، والعجاف جمع أعجف وعجفاء وهم الذين ضعفوا وهزلت أبدانهم، العبارة مأخوذة من قول ابن الزبعري في مدح هاشم:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه
…
ورجال مكة مسنتون عجاف.
(17)
اللواء معروف واللأي الثور الوحشي ويكنى به عن حسن العينين واللأي البطء.
(18)
الفهر الحجر الذي يؤخذ باليد عادة ويدق به الشيء وقيل: مطلقًا.
(19)
الخزم: نظم اللآلئ في السلك.
(20)
عزاه الحافظ في فتح الباري إلى تخريج أبي جعفر بن حبيب في تاريخه المحبر قوله: وربيعة ومضر؛ أي ابن نزار بن معد، قوله: وأسد هو ابن خزيمة.
(21)
قال الحافظ: وله شاهد عند ابن حبيب من مرسل سعيد بن المسيب أي ومراسيله أصح المراسيل.
(22)
أي أنا مصداق دعوته التي حكاها الله عنه في قوله {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} (البقرة: 129) الآية- ومصداق بشرى عيسى برسول يأتي من بعده.
(23)
روى الفاكهي في كتاب مكة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة، فأذن له وبعث بعده جارية يقال لها: نبعة، فقال: انظرى ما تقول له خديجة، قالت نبعة: فرأيت عجبًا، ما هو إلا أن سمعت به خديجة فخرجت إلى الباب فأخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها، ثم قالت: بأبي أنت وأمي والله ما أفعل هذا الشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الذي يبعثك لي، قالت فقال لها:(والله لئن كنت أنا هو قد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدًا، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدًا) ويؤيد هذا ما ورد في كيفية بدء الوحي في الصحيح، أن خديجة قالت له حين خاف على نفسه عاقبة ما أصابه من المجهد، عندما ظهر له الملك (كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) وكذا ما ثبت من أنها كانت تعد له الزاد، لينقطع إلى التحنث في غار حراء، وروى الواقدي بسنده إلى نفيسة بنت أمية أخت يعلى قالت: كانت خديجة امرأة شريفة جلدة كثيرة المال، ولما تأيمت كان كل شريف من قريش يتمنى أن يتزوجها، فلما سافر النبي صلى الله عليه وسلم في تجارتها ورجع بربح وافر رغبت فيه، فأرسلتني دسيسًا إليه، فقلت له ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال (ما في يدي شيء) فقلت: فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة؟ قال: (ومن؟) قالت: خديجة، فأجاب.
(24)
وفي رواية (إذ حرمني أولاد النساء) رواه ابن عبد البر في الاستيعاب وكذا الدولابي في الذرية الطاهرة من طريق وائل بن داود - وقد وثقه أحمد- عن عبد الله البهي - وهو مقبول- عنها قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئة أبدًا.
(25)
كذا في الإصابة ورواية الاستيعاب عنها: (وإن كان ليذبح الشاة فيتتبع بذلك صدائق خديجة يهديها لهن) والصدائق جمع صديقة.
الكاتب: محمد توفيق صدقي
مدرسة الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(16)
الالتهاب الرئوي الباسيلي
ذكرنا فيما سبق أن الميكروبات التي تُحْدِث التهاب الرئة باسيلا اكتشفه [فرد
لندر Friedlander] وهذا النوع من الالتهاب شديد جدًّا خطر على الحياة،
ويُشَاهد ميكروبه كثيرًا في حويصلات الرئة، وقد تتقيح منه أو تصاب بالغنغرينة
(الموت) .
***
الدوسنطاريا
DYSENTERY
كلمة يونانية وضعها أبقراط ثم عُرِّبَت ومعناها [مرض الأمعاء] ويسمى
بالعربية الخالصة (الزحار) لأنه يحدث الزحير.
وهذا الداء عبارة عن التهاب الأمعاء الغليظة أو القولون، وهو نوعان:
(الأول) يحدث في جميع بقاع الأرض خصوصًا في زمن الحرب أو القحط
وينشأ من باسيل مخصوص، وهو النوع المراد بالكلام هنا.
و (الثاني) كثير الحصول في بلاد الشرق، ويمتاز بطول مدته وبتضاعفه
بخراج الكبد، وبكونه ينشأ من نوع من الأميبا (خلية حيوانية وليست نباتية
كميكروب النوع الأول) . وهذا النوع سنتكلم عليه إن شاء الله في باب الأمراض
التي تنشأ عن الميكروبات الحيوانية.
***
الدوسنطاريا الباسيلية
تنشأ - كما قلنا- من باسيل اكتشفه [شيغا Shiga] في بلاد اليابان سنة
1897 وبعد ذلك وجد مثله [كروس Kruse] في ألمانيا، لذلك يسمى بميكروب
[ميكروب شيغا كروس] ثم وجد غيرهما أنواعًا أخرى من باسيل الدوسنطاريا مثل
[فلكنز] و [سترنج] .
هذا الباسيل عديم الحركة ولا حبيبات له، والحرارة التي درجاتها 58- 60
سنتيغراد تقتله سريعًا وكذلك المطهرات، ويعيش في الهواء وفي غيره. ويقتصر
وجوده في المرض على أغشية الأمعاء المخاطية ولا يصل إلى الدم. ومن الجائز
أن يبقى في الأمعاء مدة بدون أن يحدث ضررًا فيها، ولكنه في العادة يفرز سمًّا
يمتص في الدم ثم يفرز منه بواسطة الأغشية المخاطية للأمعاء فيحدث فيها المرض،
ومن هذا السم جزء يؤثر في المجموع العصبي فيحدث التهابًا في الأعصاب.
الأسباب- هذا النوع من الدوسنطاريا، وإن كان كثير الحصول في البلاد
الحارة، إلا أنه قد ينتشر في أوقات مختلفة بشكل وبائي في أي بقعة من بقاع
الأرض. ومما يهيئ الجسم لقبول المرض كل ما يضعف البنية كالتعرض للبرد أو
البيئة الفاسدة الهواء أو الإصابة بحمى النافض (الملاريا) أو إدمان الخمر أو أكل
المواد العسرة الهضم كالفواكه غير الناضجة أو المتعفنة وكذلك الازدحام، ولذلك
يكثر هذا المرض بين الجنود وفي السجون والتكايا ونحوها. ومن مضعفات البنية
التي تهيئ لهذا المرض ضعف العقل - ولذلك ينتشر بين المجانين- والإمساك
المتعاصي.
ينتقل الميكروب من المصاب بواسطة البراز الملوث به إلى الشراب أو
الطعام أو إلى الأواني وغيرها فيصل إلى أمعاء الآخرين ويُحدث فيهم المرض،
فهو في عدواه يشبه الحمى التيفودية سواءً بسواء. ومما ينشره أيضًا بين الناس
الذباب والعواصف، فإنها تنقل الميكروب من البراز وتثيره مع الغبار إلى الطعام
أو الشراب وغيرهما. ولهذا الداء أيضًا حملة أصحاء كالذين ذُكِروا في باب الحمى
التيفودية والدفتيريا.
الأعراض- مدة التفريخ تتراوح بين بضعة أيام وأحد عشر يومًا. ويبدأ
المرض بالإسهال فيتبرز المصاب من مرتين إلى ست برازًا سائلاً مصفرًّا أو يميل
إلى السمرة ويحس بألم في بطنه وتوعك عام وفقد في شهوة الطعام. وبعد ثلاثة أيام
أو أربعة تكثر فجأة مرات التبرز حتى تصل إلى عشر أو عشرين بل أربعين فستين
أو أكثر. ويكون قدر البراز في كل مرة قليلاً جدًّا يخالطه مخاط ومصل ودم
وصديد وبعض أجزاء من الغشاء المخاطي للأمعاء، وقل أن يُشَاهد فيه شيء من
مواد البراز الطبيعية، وقد يكثر النزف حتى يتبرز المصاب دمًا خالصًا بسبب
احتقان الغشاء المخاطي وتمزق عروقه في أول الأمر ثم بسبب تقرحه بعد ذلك،
ويكون له رائحة مخصوصة، ويشتد المغص ويكثر الزحير ويلتهب باب البدن
(الشرج) ويكثر بسبب ذلك التبول أيضًا أو يحصل فيه الزحير أيضًا فيميل المصاب
إلى إخراج بوله نقطة فنقطة بحيث لا يمكنه الصبر على تجمع القدر المعتاد من
البول في المثانة.
وهذه الأعراض تؤثر في بنية المريض فينحف ويضعف ويصفر لونه ويبيض
لسانه وترتفع حرارته ويصيبه الصداع والدوار والإقهاء والعطش.
وفي الحالات البسيطة تخف وطأة المرض بعد ثمانية أيام أو عشرة، أما في
الحالات الشديدة فتزداد الأعراض حتى تُنهك قوى المريض ويتقرح الشرج وما
حوله من المقعدة، ويصاب بالهمود فتغور عيناه وتزرق أطرافه ويضعف صوته
ونبضه حتى يموت.
ويكثر في أول الأعراض أن يصاب الشخص بالقيء ويستمر معه بشدة حتى
النهاية. ويقل البول أيضًا ولكن لا يوجد فيه زلال غالبًا.
وفي بعض الإصابات يزمن المرض فيكون البراز أحيانًا طبيعيًّا وأحيانًا مركبًا
من مخاط وصديد ودم مع الرائحة المخصوصة المذكورة، وتستمر تلك الحال أشهرًا
عديدة، أو سنوات كثيرة فينحف المريض ويضعف وقد يموت- إذا لم يُعَالج-
بنهاكة القوى أو بالمضاعفات كالالتهاب البريتوني من انخراق الأمعاء، أو يصاب
بضيق فيها بسبب انقباض آثار التحام القروح.
وقد وصف [القصطلاني Castellani] (وهو عالم إيطالي شهير له مؤلف
ضخم في أمراض البلاد الحارة باللغة الإنكليزية) نوعًا من هذا المرض سماه
[البارادوسنطاريا] وهو أخف من الدوسنطاريا المعتادة وله باسيل قريب من باسيلها.
ويحدث المرض بسبب تأثير سم الميكروب في أنسجة القولون كما قلنا أثناء
إفرازه من البنية فتموت أجزاء من الغشاء المخاطي وغدده وبعض الأنسجة العضلية
التي في جدر الأمعاء فتتقرح، وقد يصل الالتهاب والتقرح إلى الغشاء البريتوني
فيلتهب ويلتصق بأجزاء أخرى أو يخترق ويكون سببًا في الموت السريع.
زد على ذلك أن المعدة والأمعاء الدقاق قد تصاب أيضًا بنزلة وتلتهب غدد
المساريقا وتنتفخ الكبد وتحتقن.
المضاعفات- التهاب الأعصاب بسبب تأثير السم فيها والتهاب المفاصل
والأخرجة في أجزاء الجسم المختلفة والالتهاب البريتوني من الانثقاب والنزف
المعوي الشديد.
الإنذار- عدد الوفيات من 30 إلى 80 % ومما ينذر بالخطر سقوط أجزاء
كثيرة من أغشية الأمعاء في البراز والنزف الشديد وكثرة القيء والهمود. والمرض
قتال للأطفال والشيوخ والضعفاء ومدمني الخمر.
المعالجة- يجب على المريض أن يلتزم الراحة في الفراش ويرتاح جيدًا حتى
يدفأ وتخصص له آنية التبرز فيها لكيلا يتعب نفسه في الانتقال. فيكون غذاؤه
سائلاً سهل الهضم مشتملاً على المواد التي يحتاج إليها الجسم، فيغلى له اللبن
خالصًا أو ممزوجًا بماء الجير ويعطى له المرق، ولا بأس من تحلية اللبن بالسكر
أو خلطه بقليل من النشا الصافي الذي يطبخ به، أو إعطائه اللبن الخاثر (لبن
الزبادي) ولا يجوز أن تكون هذه المواد شديدة البرودة فإنها تهيج الأمعاء،
والأفضل أن تدفأ.
وتبدأ المعالجة الدوائية بإعطاء المسهلات كزيت الخروع أو الملح الإنكليزي
وهو الأفضل، ومن الأطباء من يعطي هذا الملح بمقادير صغيرة كدرهم كل ساعة
ليلاً ونهارًا حتى تكثر مواد البراز ويزول منها الدم والمخاط وتنخفض الحرارة
ويزول الألم والزحير. ويمكن الاستمرار على تعاطي الملح بهذه الكيفية يومًا أو
ثلاثة، ومن النادر أن يحتاج إلى أكثر منها، ثم يكمل العلاج بإعطاء مركبات
البزموت [1] والأفيون وبعض المطهرات كالسالول.
ويجوز في الحالات الشديدة حقن المريض بالمصل المضاد للزحار كمصل
معمل (لستر lister) فيحقن منه 20 سنتيمترًا مكعبًا مرتين في اليوم في الأحوال
المعتادة، وفي الأحوال السيئة يجوز الحقن إلى ثلاث أو أربع مرات، ويتكرر ذلك
مدة يومين أو ثلاثة. وقد اكتشف حديثًا بعض كيماوي مصر حقنة أخرى يقال: إنها
نافعة كثيرًا.
والحقن في الشرج نافع في كثير من الحالات، فيحقن الماء المغلي بعد أن
تصير حرارته فوق حرارة الجسم الطبيعية بقليل جدًّا، ويحقن كذلك دافئًا محلول
البوريك 1% أو محلول حامض الصفصافيك بنسبة واحد إلى خمسمائة وغيرها.
وحقن محلول ملح الطعام الدافئ بنسبة 7 إلى ألف نافع جدًّا ومقدار ما يحقن في كل
مرة لتر. وهناك محقونات كثيرة لا حاجة إلى استقصائها.
فإذا اشتد الألم والزحير يلبس في الشرج أقماع مركبة من الأفيون أو المورفين [2]
مع زبدة الكاكاو، ومحلول ملح الطعام المذكور نافع أيضًا لإزالة هذا الزحير،
والجلوس في الماء الساخن مريح أيضًا من الزحير وكذلك وضع اللبخ والكمادات
الساخنة ونحوها على الشرج. والأفيون يسكن ألم البطن واللبخ الساخنة وإذا أصاب
المريض الهمود أعطي المنعشات المنبهات كالقهوة والشاي والخمر، وغير ذلك مما
ذكر مرارًا.
فإذا تحسنت الحال يزاد طعام المريض تدريجًا كأن يأكل قليلاً من الخبز الهش
الإسفنجي الجاف واللحم المفروم جيدًا، وهكذا يزاد الطعام حتى يصير كالمعتاد.
وفي طور النقاهة يُعطى له مركبات الحديد والمواد المرة كالكيني بمقادير صغيرة
لتقويته.
الوقاية - تكون بما يأتي
(1)
بعزل المرضى وتطهير مواد برازهم بالمطهرات الطبية أو بحرقها
ويجب أن تغطى أوانيها بخرقه مبتلة بمحلول مطهر منعًا من نقل الذباب للعدوى.
(2)
بمنع الناقهين من الاختلاط بالناس حتى تعلم طهارة برازهم من
الميكروب بعد البحث البكتبريولوجي ثلاث مرات في ثلاثة أسابيع.
(3)
بالبحث عن الحملة الأصحاء إذا انتشر الوباء في مكان وعزلهم
ومعالجتهم بالمطهرات للأمعاء أو بالحقن باللقاح ونحو ذلك حتى يزول الميكروب
منهم. وهؤلاء الحملة هم من كانوا أصيبوا بالزحار أو اختلطوا بمصاب به.
(4)
بامتناع الأصحاء من شرب أي ماء إلا بعد غليه أو ترشيحه ومن أكل
أي شيء إلا بعد غليه أو إزالة قشره أو غسله جيدًا بالماء المغلي أو المذاب فيه
كبريتات الصوديوم الحمضية كما سبق. ولا يجوز استعمال الماء غير المغلي حتى
لغسل الأواني أو للضوء.
(5)
بتجنب المواد العسرة الهضم والمسببة لاعتقال البطن، وكذلك يتقى
البرد.
(6)
بإبادة الذباب بقدر الإمكان، وتنظف الطرق وترش جيدًا حتى لا يثار
غبارها.
(7)
من العلماء من يشير على الأصحاء إذا خافوا العدوى بعمل اللقاح،
وهو عمل محمود وقد أفاد في كثير من الأحوال، وأشهر من أشار بذلك القصطلاني.
***
أمراض الفطر
مادورا - أو - قدم مادورا داء
Madura Disease
هو داء منسوب إلى مدينة مادورا في جنوب بلاد الهند ويوجد كثيرًا في
غيرها من البلاد الحارة والمعتدلة.
وينشأ من دخول فطر مخصوص في القدم غالبًا (وأحيانا في اليد) وقد يصعد
الداء من القدم إلى الساق، ومن النادر أن يصيب الجذع، فينمو هذا الفطر في
الجزء المصاب وينشأ من تهيجه للمكان أنسجة مخصوصة تشبه الأنسجة الحمراء
التي تتكون في الجروح ويسميها الأطباء المحدثون (بالأزرار اللحمية) ويتقيح
المكان المصاب وتتلف أجزاؤه وتتآكل، وقد يصل الداء إلى نفس العظام فيحدث بها
النخر وتتكون نواصير يخرج منها صديد وحبيبات سوداء أو سمراء وقد تكون
بيضاء أو بيضاء مصفرة تبعًا لنوع الفطر، فإن له أنواعًا كثيرة. ويكون حجم
الحبيبة كرأس الدبوس وقد يكون كبيرًا كحبة الحمص. وتتألف الحبيبة من خيوط
كثيرة متفرعة ملتف بعضها بالبعض الآخر وهي خيوط الفطر نفسه.
فإذا أصيب القدم بهذا الداء ورم وانتفخ أخمصه كثيرًا حتى يتحدب فترتفع
الأصابع بسبب ذلك عن الأرض ويَسْوَدُّ الجلد وتظهر به حلمات متعددة ونواصير
كثيرة فإذا سُبِرَتْ قد نجدها واصلة إلى العظام النخرة.
وإذا أصيبت اليد أصابها ما أصاب القدم. ولا علاج لهذا الداء في أول الأمر
إلا باستئصال الأجزاء المصابة، فإذا أزمن وجب استئصال القدم كلها.
وتكون الوقاية منه بتجنب كل سحج أو جرح للقدم بقدر المستطاع وتنظيفها
دائمًا (ومن هنا تظهر بعض حِكَم الوضوء) ودوام الاحتذاء فإذا أصيبت القدم بأي
جرح وجب تطهيره بالمطهرات الطبية ومعالجته بحسب الأصول الجراحية حتى
يشفى تمامًا اتقاءً لهذا الداء ولغيره مما ذكر سابقًا كالتيتانوس.
***
السل الكاذب - الأسبارغلوس [3]
Aspergillosis
الأسبارغلوس يطلق على فطر ينتشر في بعض أعضاء الجسم فيتلفها.
ويُشاهد أحيانًا في الرئة فيحدث بها مرضًا يشبه الدرن حتى تتكون فيها كهوف،
ولذلك يسمى هذا الداء بالسل الكاذب. وتكون أعراضه ضيقًا في التنفس وسعالاً
وبصقًا ونفث دم. ولا ينتشر الفطر من الرئة إلى الأعضاء الأخرى. وقد يشفى من
تلقاء نفسه بموت الفطر.
يصيب هذا الداء أحيانًا مربي الحمام ومطعميه بأفواههم لوجود الفطر في
بعض الحبوب التي يضعها المربي في فمه لإطعامه الحمام.
وهذا الفطر قد يصيب أحيانًا العين أو الأذن أو الأنف أو الجروح والقروح
وغير ذلك كأنسجة القدم فيتكون به نوع من أنواع الداء السابق (داء مادورا)
***
الفطر الشعاعي
Actinomycosis
أول من وصف هذا الداء في الإنسان هو إسرائيل الألماني من أهالي برلين
سنة 1877 م وفي سنة 1878 أثبت (يونفيك ponfick) أن النوع الذي يصيب
الإنسان هو عين ما يصيب الأنعام.
هذا الفطر يكون قِطَعًا تُرَى بالعين المجردة صفراء أو سنجابية لامعة مستديرة
قطره 40/1 من البورصة وقد يكون أحيانًا 12/1 منها، فإذا نظرت هذه القطعة
بالمجهر رؤي في مركزها خيوط مشتبكة مع بزور، ويتفرع من هذه الخيوط خيوط
أخرى فتكون كأشعة النور المنبعثة من السراج وتنتهي بانتفاخ أطرافها. وهذا الداء
يصيب الحيوانات الداجنة ولا ينتقل منها إلى الإنسان، وإنما يصاب به الإنسان
والحيوان من أكل بعض الخضر أو الحبوب كالشعير.
فإذا دخل الفطر إلى الجسم لصق بالغشاء المخاطي للأمعاء أو الشعب ثم يثقبها
ويصل إلى الأعضاء الغائرة فيحدث المرض في أجزاء مختلفة من الجسم، وذلك
بتهيجه للمكان المصاب فيلتهب ما حول الفطر وتتكون أنسجة غريبة كالأزرار
اللحمية ثم تتقيح وتتآكل وتستحيل إلى مِدَّة، فينشأ في أول الأمر في العضو
المصاب أورام يكون قطرها نحو ثلاث بوصات أو أكثر، وهذه تتآكل حتى تفسد
العضو. وينتشر الداء بالمجاورة من موضع إلى آخر، ولكن الفطر قد ينتشر
بالأوعية إلى أجزاء الجسم البعيدة أحيانًَا.
الأعراض - تختلف باختلاف العضو المصاب وكثيرًا ما يبدأ المرض بالفم
فيحدث فيه ورم تحت الجلد فوق الفك الأسفل أو فوق حافته يكون صلبًا بطيء النمو
ثم ينتقل تدريجيًّا إلى العنق.
وقد يضمُر جزء من هذا الورم، ولكنه يزداد في الأخرى ويمتد حتى يصيب
الرئة فتلتهب شعبها أو أنسجتها، ومنه ما يصيب الجلد فيدخل من أي جرح أثناء
مس الحبوب أو القش، ولكنه قليل الحصول.
المعالجة -أحسن دواء لهذا الداء هو (يودور البوتاسيوم) فقد ظهر نفعه فيمن
استُعْمِلَ له من الناس والأنعام، ويجب إعطاؤه بمقادير كبيرة حتى تصل إلى أربعة
دراهم في اليوم. وإذا كان الورم في مكان يمكن الوصول إليه أمكننا أن نعاون
الدواء في فعله بالعمليات الجراحية كالكحت أو الاستئصال.
***
القلاع
Aphthae
هو أشهر أدواء الفطر وأكثرها حصولاً للبشر في جميع الأقطار. يُشَاهد هذا
الداء في الأطفال الضعفاء خصوصًا من يربون تربية صناعية أو الذين أصابهم
إسهال مدة طويلة، وقد يُشَاهد أيضًا في الشبان والكهول إذا أصابهم داء أنهك قواهم
كالسل والسرطان والحمى التفودية.
ويُشاهد في المصاب بقع بيضاء لبنية على الأغشية المخاطية للشفتين أو
الخدين أو اللثة أو الحلق أو اللسان وتكون مرتفعة قليلاً عن سطح الغشاء ومحاطة
بخط أحمر دقيق، فإذا نزعت هذه القطع البيضاء وجد الغشاء المخاطي الذي تحتها
محمرًّا وسال منه قليل من الدم، وبعد زمن قصير قد تتكون البقع عليه ثانية. وهي
تتألف من خلايا بشرية مع كريات دهنية ومن بزور الفطر وخيوطه. ينمو هذا
الفطر في طبقات الأبثيليوم الوسطى ومنها يمتد إلى الطبقات العليا والسفلى.
ويصاب الطفل بسببه بالحمى والإسهال ويكثر لعابه ويتعسر أو يتعذر
إرضاعه، وكثيرًا ما يتقرح الشرج بسبب كثرة الإسهال.
المعالجة- يجب تحسين صحة المصاب بجميع الوسائل الممكنة. ومن أول ما
تجب العناية به معالجة الإسهال. ويجب مسح فم الطفل بخرقة مطهرة مغموسة في
الماء العقيم أو في محلول البوريك، ثم يوضع في فم الطفل نحو نصف ملعقة
صغيرة من غلسرين البورق مرتين في اليوم أو ثلاثًَا، فإنه قاتل لهذا الفطر.
الوقاية- يجب على الأم أن تغسل ثديها بعد كل رضاعة وقبله، وأن لا تضع
شيئًا في فم الطفل مطلقًا إلا إذا كان مطَهرًا بالغلي أو غيره كأدوات اللعب
وكالحلمات الصناعية، كذلك لا يجوز مس فمه بالأصابع إلا بعد تطهيرها، وإذا
كان الطفل يُغَذَّى بغير لبن أمه ويجب تطهير طعامه أيضًا بالغلي. وتجب المبادرة
إلى معالجة كل ما يفسد صحة الطفل كالإسهال أو القيء وغيرها.
***
الأرضة
TINEA
تسمى الأَرَضَة بالإفرنجية تينيا. وهي أنواع كثيرة تنشأ كلها من فطر يصيب
الجلد. وهاك أشهر أنواعها: -
(1)
الأرضة المتنوعة الألوان (VERSICOLOR) تصيب الجلد
وتنمو فيه بالعرق والتدفئة وهي كثيرة الحصول للذكور ولا تصيب إلا الأجزاء
المغطاة بالملابس فيشاهد في الجلد بقع مستديرة سمراء مصفرة مرتفعة قليلاً عن
سطح الجلد وتمتد في أجزاء كثيرة منه ولا يحدث منها ضرر سوى بعض أكلان.
المعالجة - تكون بالاستحمام بالصابون (وأحسنه الفنيكي) مع الدلك بشيء
خشن ثم يدهن الجسم ببعض المراهم الكبريتية أو الزئبقية، ولكن يُلاحظ في
المراهم الزئبقية أن لا يُدهن بها سطح متسع من الجلد خوفًا من التسمم. ويجب
غلي الملابس وتطهيرها بعد الاستحمام وكذلك أدواته كالفوط وغيرها.
(2)
الأرضة الحلقية (Circinata) تشاهد حلقات الداء غالبًا في الوجه
والعنق والذراع، وتكون الحلقات قرنفلية مرتفعة قليلاً عن سطح الجلد مغطاة
بقشور رقيقة.
(3)
الأرضة الذقنية (SYCOSIS) تصيب شعر اللحية على الأكثر
فتفسده وتسقطه وتلتهب الذقن بسببها، وهي عسيرة الشفاء.
وعلاج هذه الأنواع يكون بنتف الشعر واستعمال النظافة التامة والتطهير بمثل
اليود أو الكبريت أو مركبات الزئبق. وعلاجها بأشعة رونتجن مؤكد نفعه سريع
التأثير.
***
القراع
Favus
داء مشهور يصيب أي جزء من أجزاء الجلد خصوصًا فروة الرأس. وينتقل
من شخص إلى آخر بالعدوى، وقد ينتقل إلى الإنسان من بعض الحيوانات الداجنة
كالقطط والأرانب والكلاب. وعلاجه يكون بالنتف والتطهير وأشعة رونتجن كما
سبق. وينبغي الاعتناء بصحة المصاب بإرشاده إلى القواعد الصحية، وإعطائه
الأدوية المقوية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
اسم لعنصر معدني شهير، وهو مشتق من كلمة ألمانية مجهولة الأصل.
(2)
اسم لمادة فعالة في الأفيون وهي أهم ما فيه، والكلمة يونانية مشتقة من اسم آلة النوم أو الأحلام عندهم.
(3)
كلمة لاتينية معناها المنبث أو المنتشر.