الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الرابع والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ
وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (الإسراء: 111) .
نحمده بما حمد به نفسه، وأنى للعبد العاجز أن يحصي الثناء على ربه،
ونسأله الفضيلة والوسيلة، والدرجة العالية الرفيعة، والمقام المحمود الذي وعده
لصفوة خلقه وخاتم رسله، الذي بعثه من عرب مُضر للأبيض والأحمر،
والأسود والأصفر، ليصلح ما فسد من أمر البشر، ويزيل من بينهم فوارق التقاليد
والغِبَر، ويجعلهم أمة واحدة بعقيدة صحيحة مطهرة للعقل، وآداب عالية مزكية
للنفس، وعبادة خالصة مصفية للروح، ولغة فصيحة مرقية للشعور والعلم، وإلا
فبشريعة عادلة تساوي في أحكامها بين الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء،
والسوقة والملوك، لا تحابي رئيسًا على مرءوس، ولا صاحب منصب في دنيا أو
دين، أقامه حجة على جميع البشر، وجعل أمته شهداء على الأمم، وجعله هو
الشهيد على أمته، إذا انحرفت عن هدايته، أو قصرت في إقامة شريعته {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً
* وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ
أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (الأحزاب: 45-48)
وقد بَلَّغَ - بأبي هو وأمي - الدعوة وأقام الحجة وبيَّن المحجة، فكان
المثل الأعلى في الحق والعدل، والرحمة والفضل، عانده الجبارون المتكبرون،
واستجاب له الفقراء المستضعفون، فنصر الله الفقر على الغنى والثروة، والضعف
على الشدة والقوة، بل نصر غنى النفس على غنى المال، وقوة الحق على قوة
الباطل، وجعل الفوز لجهاد القرآن، على جهاد السيف والسنان، فانتظم عصره
في سلك دينه ما كان مبعثرًا من قبائل العرب، ودان لخلفائه من بعده أعظم شعوب
العجم، وعم النور جميع الأمم، فأحيا الإسلامُ العلومَ والفنون، وابتكر حضارة
طريفة لم تر مثلها عيون القرون، جمعت بين العلم والدين، وألفت بين لذة الجسد
والنفس، ولذة الروح والعقل، وأقامت ميزان العدل بين المختلفين في الدين
والجنس والصفات، وألغت ما كان من التفاضل والامتياز بين الناس في الأنساب
والطبقات، وحصرت الفضل في الإيمان والتقوى وعمل الصالحات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء: 174-175) {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56)
أما بعد، فإن المنار يُذَكِّر قراءه في فاتحة مجلده الرابع والعشرين، بمثل سُنته
في فواتح ما غبر من السنين من العبرة بشئون الاجتماع والعمران، وتنازع
عوامل الصلاح والفساد في الإنسان، وما يناسب ذلك من هداية القرآن حجة الله
البالغة بما فيه من آيات العلم والتبيان المناسبة لكل زمان ومكان، وصفة من هو كل
يوم في شأن، ذلك بأن المنار إنما أنشئ لإيقاظ الشرق وتجديد الإسلام بإعادة
تكوين الأمة وحياة الملة والدولة، لا لفروع الفقه وأصول الكلام، ولا لجدليات
المذاهب الدينية، ولا تأييد العصبيات الجنسية، ولا لنشر ما يجدد في قضايا العلوم
ونظريات الفلسفة، أو مخترعات الفنون وعجائب الصناعة، ولا لقصص التاريخ
ونوادر الفكاهات، ولا لجوائب الحوادث وأخاديع السياسات، بل كل ما يذكر فيه
مما يدخل من هذه الأبواب، فإنما يولي وجهه شطر ذلك المحراب؛ لأن الأمة إذا
حيت أحيت من العلوم ما كان ميتًا، وأنشرت من الفنون ما كان رميمًا، وإذا ماتت
أماتت معها ما كان حيًّا، ودرست ما كان مدروسًا مرويًّا، وإن الغذاء اللطيف قد
يزيد الممعود الدوي دوى، والغذاء الخشن يزيد المتمعدد القوي قوى {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ
بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً * فَلَا
تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} (الفرقان: 50-52) .
ما كل من أعرض عن آيات الله في القرآن، يستطيع أن يعرض عما يصدقه
من آياته في الأكوان، ومن آياته الماثلة أمام الناظرين، فضيحة هذه المدنية المادية
التي فتنت أوربة بها المسلمين، فقد ظهر لهم ما كان خفيًّا من فسادها، وذهب
بهيبتها ما كان من الفظائع في حربها. ومن آياته أن ثَلَّ عروش دولها المقهورة،
وزلزل أركان دولها المنصورة، وضعضع ثروتها، وأوقع الاضطراب في
معيشتها. ومن آياته أن نقض غزل عهودها أنكاثا. واجتث شجرة وحدتها اجتثاثًا.
فبدت خبايا نبائثهم، وفضحت خفايا خبائثهم. ومن آياته أن أذل جبروت أعظم
دولة قاهرة بفئة من أضعف دولة مقهورة. فوطئ بها شم معاطسهم، وطأطأ من
إقماح أرؤسهم، وطأمن من إفراط تغطرسهم. حتى جنحت تلك الدولة العاتية
المتكبرة إلى مصالحة تلك الفئة التي كانت تسميها المشردة المتمردة. واضطرت
إلى الرضى بمساواتها في مؤتمر السلم، بعد أن كانت تستكبر أن توقفها موقف
المجرم لسماع الحكم. ومن آياته أن سخر ما بقي من قوة الأمة الروسية لحفظ ما
بقي من استقلال الدولة التركية بعد أن كانت هي الخطر على استقلالها، والمُجدَّة في
تقطيع أوصالها. ومن آياته أن أبطر الأمم الغالبة بمظهر غلبتها، وإن لم تكن
بمحض قوتها، فأصرت على غيها، واستمرأت مرعى بغيها، لتحق عليها
كلمة الانتقام من الظالمين، وتدمير فسقة المسرفين {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ
وَعَتَوْا عُتُواًّ كَبِيراً} (الفرقان: 21) ? {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا
فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) .
عسى أن يكون الباغون قد بلغوا أوج العلو ولم يبق إلا الهويّ، وأن يكون ما
بلغناه هو منتهى الحدور وما ثم إلا الرقيّ، فإن الوقوف في عالم الحياة محال،
وإنا وإياهم لفي انتقال وإنا كُلاًّ منا لعرضة للغرور فيه والضلال، وإن الغرور
لمحبطة للعمل، وإن الضلال لمدرجة للزلل، وإنا ليعوزنا من القوة والبصيرة في
بطء الصعود، فوق ما يعوزهم من الحكمة والروية في سرعة الهبوط، وإنهم
لأعلم منا بسنن الله في البشر، وبأيديهم ما ليس بأيدينا من وسائل الحذر، وأسباب
اتقاء الخطر، وإنا لا ينبغي لنا أن نغتر بما نرى من تفرق قوتهم، مع ما نعلم
ويعلمون من عدم اجتماع قوتنا، ولا بما انفصم من عروة وحدتهم، ولمَّا نوثق
عروة وحدتنا. فإن عطف بعضهم على بعضنا عطفًا سياسيًّا سلبيًّا، فإن منا مَن
يواليهم على أمته ولاءً إيجابيًّا {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ
بَصِيراً} (الفرقان: 20) {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ
وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 43-44) .
قد كان لنا جامعتان سَعِدَ سلفُنَا بالاعتصام بهما، وشقي خلفُنا بالتفرق
والاختلاف فيهما: جامعة علمية روحية وهي كتاب الله وما بيَّنه من سنة خاتم
النبيين، وجامعة سياسية عملية وهي الإمامة العظمى وما بيَّنها من سيرة خلفائه
الراشدين، وهدي السلف الصالحين، وهذه متممة للأولى ومنفذة لها، وإن الله
يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، تفرقنا في القرآن بالتأويل فذهبنا مذاهب جعلت
الملة الواحدة مللاً، وتفرقنا في الإمامة بالعصبيات فصارت الأمة أممًا والدولة دولاً،
ثم أعرضنا عن كل من الجامعتين كلتيهما، وبطل الاقتداء بالإمامين مع احترام
اسميهما أو كلمتيهما، فجمد بعضنا على ظواهر بعض الكتب التقليدية، وفتن
بعضنا بالقوانين والنظم الأوربية، وروابط شعوبها الجنسية والوطنية، وآدابها
وعاداتها الشخصية والاجتماعية، ومرت القرون وتعاقبت الأجيال ونحن على هذا
الضعف والانحلال، والمدَّعون للإمامة العظمى فينا بين معتزل في شاهق جبل قد
ضاقت به الحيل، لا يعرف مِن أمر مَن وراءه من المسلمين عرفًا ولا نكرًا، أو لا
يعرفون من أمره نهيًا ولا أمرًا. وبين ناعم في قصور جنانه بين قنانيه وقيانه،
مستبد في سلطانه، عاصٍ لربه مطيع لشيطانه، مفقر لرعيته ملن لأخدانه، مستغنٍ
بمدح كَذَبَة الجرائد، وخطباء الفتنة في المساجد، يتلُون بين يديه في كل جمعة {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59)
غشًّا للأمة وتضليلاً، ويسكتون عن قوله تعالى بعده: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ولسان حال الرعايا يجيبهم بقوله عز وجل: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا
أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً
كَبِيراً} (الأحزاب: 67-68) .
كنت كتبت في فاتحة السنة الأولى للمنار، أن من أصول خطته: بيان حق
الإمام على الأمة، وحقوق الأمة على الإمام: فلما قرأتها على الناصح الأمين
مستشيرًا بها، اقترح ترميج هذه الكلمة منها. وقال: إن المسلمين لم يبق لهم
إمام إلا القرآن وإن البحث في الخلافة وما يجب على السلطان فتنة للناس، فواتيته
على حذف الكلمة، ولكن لم يسعني ترك البحث في المسألة بل نشرت في المجلد
الأول بضع مقالات في فساد حال المسلمين واضمحلالهم بإفساد أمرائهم وعلمائهم
ومرشديهم، بينت فيها مثار فساد الدنيا والدين بخروج الخلافة عن الأساس الذي
أقامها عليه الإسلام في عهد الراشدين، وكتبت بعد ذلك مقالات في الإصلاح الديني
المقترح على مقام الخلافة الإسلامية، على العلم بأنها لم تكن إلا اسميَّة أو وهميَّة،
فكان جزاء المنار على أمثال هذه المباحث الإصلاحية: تحريمه على البلاد
العثمانية، وتعذيب آل بيتنا في ديار الشام، وفاقًا لما نصح لنا به الأستاذ الإمام،
بل هي التي صدت الكثيرين عن المنار، الذين كانوا يقدسون السلطان عبد الحميد
في هذه الديار، وفي سائر ما استعبد الأجانب من الأقطار، على حين يعده جميع
مسلمي العثمانيين أفضل الجهاد لإحياء الدولة والدين، ولولا الإخلاص لَعَدَوْنَا ذلك
النَّصَب إلى ذُرى المناصب، والمتْرَبة إلى علو المراتب والرواتب، ولقد دعينا
إليها فأبيناها، وسئلنا الفتنة فما آتيناها، ولقد سئلها كثيرون فآتوها {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا
إِلَاّ يَسِيراً} (الأحزاب: 14) {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً
مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) .
ونحمد الله أن كان من آثار ما أحدثت الحرب العامة من التطور العام أن
وضعت هذه المسألة موضع البحث في هذه الأيام، بعد أن دك أحرار الترك هيكل
تلك الأوهام التي كانت تشبه معابد الأصنام، فكان أهم ما يعنى به المنار من خدمة
الإسلام، أن يوفيها حقها من تحقيق أحكامها الشرعية، وبيان وسائلها العملية،
وموانعها السياسية والاجتماعية، ليكون الساعون إلى إقامتها على بصيرة من أمرهم
فيها، مهتدين بكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم {إِنَّ
هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) .
ألا إن إقامة الإمامة هي التي تحيي هذه الأمة، ولكن أمرها لا يزال عمة ليس
وراءها غمة، وإنها لترهق محاولها صعودًا وتقتحم به كؤدًا وتجشمه منالاً بعيدًا،
يركب فيه الشبهة ويخبط في ديجوره العشوة، وإن أسعد الناس بها لأزهدهم
فيها، وإن أطمعهم فيها لأعجزهم عنها، وإن أقربهم منها لأبعدهم عنها، فلا الوسيلة
ممهدة، ولا السبيل معبدة، وإنما كل الفرصة السانحة أن مسكتي الألسنة قد أنطقوها
وحاظري إجالة الرأي فيها قد أباحوها، أهل الحرص عليها يتخبطون فيها، فوجب
على أهل الحقيقة أن يقولوها وعلى عارفي الطريقة أن يسلكوها، وعلى حاملي
الأمانة أن يؤدوها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً * إِنَّا عَرَضْنَا
الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب: 70-72) .
…
...
…
...
…
...
…
...
…
منشئ المنار
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا الحسيني الحسني
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدعوة إلى انتقاد المنار
ندعو كل من يطلع على المنار أن يكتب إلينا بما يرى فيه من خطأ أو خطل
مبينًا ذلك بالدليل، من غير استطراد ولا تطويل، فإنه من الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وقد أمر الله تعالى به في كتابه، ونحن نعد
بأن ننشر ذلك بشرطه، ونعترف لكل ذي حق بحقه، وليس لنا فيما ننشر هوى
فنُصِر عليه ولا منفعة مادية فنحرص على استبقائها، ولا جاه ولا عصبية فنخشى
إضاعتها، بل لا نزال مستهدفين لخسارة المال، وإسخاط جميع مصادر الجاه،
ولكن في سبيل الله {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى: 36) .
_________
الكاتب: أحمد بك عيسى
الملحق الفني التابع لفتوى طهارة الكحول
في ج9 (م23)
بقلم الطبيب العالم أحمد بك عيسى
الكؤول alcohol كلمة عربية الأصل، أصلها (كحول) وهي المادة الدقيقة
اللطيفة التي يتكحل بها، وقد اقتبسها الإفرنج من اللغة العربية في العصور الوسطى
وأطلقوها مجازًا على المادة اللطيفة المعروفة، ولم يتوصل الباحثون في كيمياء
العرب إلى الآن إلى معرفة الزمن الذي اقتبست فيه، ولا الكتاب الذي اقتبست منه
وأطلقت على هذه المادة، ولا أول من اقتبسها، وقد كتب في ذلك العالم الكيموي
الشهير (بريتلوا) في كتابه المُعَنْوَن (كيمياء العصور الوسطى) والسبب في تسميتها
(اسبرتو) هو أن الكحول كانت في الابتداء تستخرج من النبيذ؛ ولذلك كانت
تسمى روح النبيذ uin aie Espit فأخذت الكلمة الأولى، وعربت (اسبرتو)
بمعنى روح، والكحول هذه مائع شفاف لا لون له طعمه حامز قارص، عطري
الرائحة ساطع، يلتهب ويغلي على درجة 78 مئوية ووزنه النوعي 0.79
وتستخرج الكحول من تقطير الموائع السكرية والمخمرة، ومن المواد السكرية
والنشوية على وجه العموم، وإذا التهب الكحول استحال إلى ماء وكربون، وإذا
خلط بالأحماض الجاويك والكبريتيك والأزوتيك والفسفوريك تولد من خلطها موائع
أخرى تسمى الأثيرات (جمع إثير) .
وللكحول أنواع عديدة بحسب عدد جواهر الكربون والأيدروجين الموجودة فيه
وتستعمل الكحول مذيبة لكثير من المحضرات الإفرباذينية كالأصباغ مثل صبغة
اليود وغيرها كثيرًا جدًّا، وتستعمل كذلك في الأطلية والدهون وفي العطور، وهي
مطهرة من الظاهر مانعة للعفونة وقابضة تقطع الأنزفة، ولها استعمالات أخرى
كثيرة لا يستغنى عنها.
* * *
ملحق آخر
للصيدلي محمد علي بك نصوحي
الكؤول سائل يشبه الماء، شفاف خفيف قابل للالتهاب بسرعة سريع التبخر
يستحصل عليه بواسطة الأنبيق (التقطير) من بعد اختمار العنب، والقصب
والبلح، والخشب والبنجر، وجميع الأثمار المعروفة في العالم.
نستعمل هذه المادة - أي الكؤول - في أكثر السوائل بل جميعها تقريبًا؛ لأن
الصفات والخلاصات المستعملة في فن الطب لا يمكن استحضارها إلا بواسطة
الكؤول.
ويستعمل في دهانات اللوسز، أي على الأخشاب، وفي غالب الروخات
الطبية التي تستعمل للتدليك وللدهان، وله منافع عديدة في فن الطب، والإفرباذين
وكذا الأعطار التي من نوع الكلونيا المعروفة عند القريب والبعيد المتداولة في العالم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
استعمال الذهب والفضة
(س) من صاحب الإمضاء ببيروت:
حضرة صاحب الفضل والفضيلة مولانا الأستاذ المحترم السيد محمد رشيد
أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد فإني أرفع لفضيلتكم السؤال
الآتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه، ولسيادتكم من الله تعالى جزيل الأجر، ومني
عظيم الشكر: جاء في الشرب في آنية الذهب بالجزء الثامن من صحيح الإمام
البخاري رضي الله تعالى عنه من حديث ابن أبي ليلى قال: كان حذيفة بن اليمان
بالمدائن فأتاه دهقان بقدح من فضة فرماه به فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم
ينته، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية
الذهب والفضة. وفي باب آنية الفضة التالي للباب المذكور من حديث ابن أبي
ليلى بطريق غير الطريق الأول قال: خرجنا مع حذيفة، وذكر النبي صلى الله
عليه وسلم قال (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة) وفي حديث أم سلمة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم من الباب المذكور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وفي حديث البراء
ابن عازب التالي لهذا الحديث قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، إلى
أن قال: ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشرب في الفضة، أو قال: آنية
الفضة. وهو والمنصوص في مذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه تحريم
الفضة مطلقًا على الرجال إلا ما استثني من نحو الخاتم، وعلى النساء مطلقًا إلا
للتحلي. وفي الجزء الأول من كتاب الترغيب والترهيب للإمام الحافظ زكي الدين
ابن عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (صحيفة 144 طبعة أولى سنة1324هـ
بالمطبعة الشرفية) ما نصه: وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يُحَلِّق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة
من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقًا من نار فليطوقه طوقًا من ذهب، ومن
أحب أن يُسَوِّر حبيبه بسوار من نار فليسوره بسوار من ذهب، ولكن عليكم بالفضة
فالعبوا بها) رواه أبو داود بإسناد صحيح، وقد نقل صاحب الكتاب المذكور
عن (المحلى) الجواب عن الأحاديث التي ورد فيها الوعيد على تحلي النساء
بالذهب قبل هذا الحديث، ولم يُجِبْ عن هذا الحديث المفيد بظاهره إباحة الفضة
مطلقًا للرجال ولو في غير الخاتم، وللنساء ولو في غير الحلي فتفضلوا - حفظكم
الله - ببيان الجمع بين الأحاديث المذكورة، وحديث أبي داود المذكور على فرض
مساواته لأحاديث البخاري وببيان دليل تحريم غير الشرب من أنواع الاستعمال وبيان
وجه تحريم غير الآنية كساعة الجيب وساعة اليد وأسورتها والأزرار والأنواط ويد
العصا والختم، ونحو ذلك من أنواع الاستعمال ولفضيلتكم الأجر.
…
...
…
عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي - الشافعي مذهبًا - ببيروت
(ج) مذهب الظاهرية نفاة القياس كالإمامين داود وابن حزم وكثير من
فقهاء الحديث الذين يثبتون القياس أن التحريم الديني لا يثبت بالقياس، ولهم في
ذلك أدلة بسطناها في التفسير وفي مواضع أخرى من المنار، منها حديث (وسكت
عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها) فهؤلاء كلهم يبيحون استعمال
الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، وما ورد من حلية الرجال دون غيرها
بقاعدة البراءة الأصلية وأصل إباحة الزينة الثابت بنص قوله تعالى: {قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) الآية،
واستعمال الفضة خاصة بما ذكر من حديث أبي موسى الأشعري وبحديث (ولكن
عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) رواه أحمد وكذا أبو داود من حديث أبي هريرة كما
تقدم في السؤال، وليس عند الشافعية وغيرهم دليل على تحريم كل استعمال للذهب
والفضة في غير حلية النساء وخاتم الفضة للرجل والضبة بشروطها إلا القياس،
والقياس حجة مختلف فيها بين علماء السلف والخلف، وقد بسطنا أدلة المثبتين
والنافين وحقَّقنا المسألة في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ
أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) الآية، فليراجعها السائل إذا أحب أن
يكون على بصيرة في دينه في أمثال هذه المسألة [1] .
وليراجع أيضًا تفسير {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وكلاهما في
سورة المائدة [2] ولعل قلبه يطمئن حينئذ بأن عقائد الدين وعباداته والمحرمات
الدينية إنما تثبت بالنص أو فحواه بشرطه دون القياس، وناهيك بقياس معارَض
بالأصول القطعية ونصوص الكتاب والسنة كتحريم الزينة والطيبات بغير نص
يصلح مخصصًا لعموم الزينة في آية الأعراف. وإنما القياس والاجتهاد في الأمور
القضائية ونحوها من المعاملات التي لا تحصر جزئياتها وتختلف باختلاف
العرف والزمان والمكان ولا سيما السياسي منها.
ومن التعليلات التي يذكرها بعضهم للتحريم: كسر قلوب الفقراء، ومقتضاها
أن الغني يجب أن يكون طعامه ولباسه ومسكنه كالفقير، وهذا أمر مردود بنصوص
الكتاب والسنة ومخالف لكلامهم في النفقات، ويفضي العمل به إلى فساد العمران
فراجع تفسير {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) في المجلد 23 المنار.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تراجع علاوة على تفسير الآية ص 138 - 201 ج 7 تفسير.
(2)
ص 154 - 167 ج 6 تفسير.
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتب ابن تيمية وابن القيم
والشوكاني والسيد حسن صديق
(س2) ومنه: ما قولكم - رضي الله تعالى عنكم - في مؤلفات وفتاوى
الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية الحنبلي، والشيخ شمس الدين أبي عبد الله
محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية الحنبلي، والشيخ محمد بن علي
الشوكاني اليماني، والعلامة السيد أبو الطيب صديق بن حسن بن علي بن لطف الله
الحسيني القنوجي البخاري: هل هي من الكتب المعتمدة المتلقاة كغيرها بالقبول أم
هي من الكتب المطروحة التي لا يُعَوَّل عليها، ولا يجوز النقل عنها والإفتاء بما
فيها؟ تفضلوا حقِّقُوا لنا ذلك، فإن المطلوب النقل منها وهي موجودة لدينا، فقال
بعض أهل العصر: هذه الكتب لا يعول عليها ولا يلتفت إليها، بل هي من الكتب
غير المعتمدة. تفضلوا أفيدونا، ولفضليتكم من الله تعالى جزيل الأجر ومنا عظيم
الشكر.
(ج) قد سئلنا من عهد قريب عن كتب الشيخين الأولين وأجبنا عنه، ونقول
الآن: إن كتب هؤلاء العلماء الأعلام من أفضل ما اطلعنا عليه من كتب علماء
الإسلام، من حيث إنهم جمعوا بين العلم بالكتاب والسنة رواية ودراية وبين الاطلاع
على كتب مذاهب علماء الأمصار الذين يقلدهم الناس وغيرهم، ولم يلتزموا التعصب
لإمام معين ولا لأهل مذهب، بل محَّصوا الأدلة ورجَّحوا ما كان دليله أقوى. فكتبهم
أحق بالاستفادة من كتب المقلدين لمذهب معين يتمسكون بأقوال أهله وإن خالفت
النصوص الصريحة والأحاديث الصحيحة، وأكثرها خلو من الأدلة مطلقًا أو أدلة
المخالف.
وقد طبعت هذه الكتب وقرَّظها بعض كبار العلماء، ولا يزل أهل العلم
الصحيح وطلابه يتنافسون فيها، وسوقها أروج من غيرها ومنها ما تكرر طبعه.
وقد كان (نيل الأوطار) يباع بجنيهين وهو يساوي الآن بضعة جنيهات، وقلما يوجد.
وإنما ينهى بعض المقلدين للمذاهب المشهورة عنها كما ينهون عن العمل والفتوى
بمذاهب الصحابة والتابعين بغير حجة إلا ما نذكره قريبًا من الاعتذار عن ذلك.
ولو خرج أحد الأئمة الأربعة من قبره ورأى هذه الكتب لفضَّلها على جميع
كتب المقلدين له؛ لأنها قلَّمَا تخالف غيرها إلا بترجيح حديث صحيح على ضعيف
أو على قياس، وهذا أصل مذاهبهم كلهم رضي الله عنهم، ولكن المنتمين إلى
مذاهبهم اتخذوا أقوالهم وأقوال كبار أصحابهم أصولاً في التشريع ودلائل على حكم
الله، ويوجبون تقليدهم في كل ما روي عنهم، وإن خالفت نصوصُ الشارع أصولَهم
التي بنوا عليها مذاهبهم، وكلهم يتبرأ من ذلك، وهذا كتاب مختصر المزني
صاحب الإمام الشافعي قد افتتحه بعد البسملة بقوله: (اختصرت هذا الكتاب من
علم محمد بن إدريس الشافعي لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده
وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه) لمثل هذا النظر والاحتياط استنبطوا
وألفوا، وهو ما نقتدي بهم فيه عند النظر في الكتب المسئول عنها فلا نتبع
أصحابها في فهمهم تقليدًا بل نستعين بها ككتب الأئمة الآخرين على معرفة الراجح
في مسائل الخلاف.
وقد اعتذر بعض علماء التقليد عن هذا التحكم بحصر العمل والفتوى في
مذاهب الأئمة الأربعة عند أهل السنة بأن مذاهبهم هي التي دونت واستمر العمل
عليها، ووسعت مباحث الفروع فيها فاستغني بها عن غيرها من المذاهب المندرسة
مع الاعتراف بالاجتهاد لأهلها.
وأجبنا عن هذا: (أولاً) بأن السنة وآثار الصحابة قد نقلت نقلاً أصح
من نقل المذاهب بالأسانيد التي وضعت لها كتب الجرح والتعديل وعلل الحديث
وشروحه، وهي أصل هذه المذاهب كلها بعد القرآن، فلماذا لا يكون العمل بها هو
المقدم على كتب الفقه التي تكثر فيها أدلة الأقيسة والرأي التي اختلف علماء
السلف في الاحتجاج بها، ولا سيما قياس الشَّبه، وما فيه من مسالك العلة التي
يتعذر إثبات شرعيتها. وثمة مذاهب أخرى منقولة مدونة ويعمل بها ملايين من
المسلمين كمذاهب آل البيت النبوي.
(وثانيًا) بأنهم قالوا: إن اختلاف العلماء رحمة للأمة، فلماذا نضيق باب هذه
الرحمة عليها بحصر الاستفادة بواحد تحرم الاستفادة من غيره بتسميته تلفيقًا،
ونخالف السلف الصالح الذين كان عوامهم يستفتون كل عالم يوثق بعلمه.
مثال ذلك أن الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى كانا شديدي الورع، وكانت
حضارة الإسلام قد اتسعت في زمانهما، ولا سيما في بغداد ومصر مصدر علمهما،
فكان لهذين الأمرين تأثير عظيم في اجتهادهما في مسائل الطهارة والنجاسة، على
سعة علمهما بالسنة وبما كان عليه الصحابة في عصر التشريع من الضيق وقلة الماء،
حتى إن مقلديهما يكثر فيهم الحرج والوسواس في الطهارة، فلماذا تحجر على
الأمة أن تطلع على فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال بعض العلماء في
استحضاره لنصوص الكتاب والسنة عند بحثه في كل مسألة: كأنها قد كتبت في
كفه؟ وأن تأخذ بما أثبته بعد بيان أدلة المذاهب الأربعة وغيرها من طهارة كل ماء
ومائع لم يتغير بالنجاسة التي تصيبه وهو قول طائفة من كبار علماء الصحابة
والتابعين وعلماء الأمصار المجتهدين كابن مسعود وابن عباس والزهري وأبي
ثور والظاهرية، وهو يميل إلى مذهب الإمام مالك في مسائل النجاسات ككثير من
محققي المذاهب الأخرى ومنهم الغزالي من الشافعية، ومالك لم يأخذ علمه في أمثال
هذه المسائل العملية من الاستنباطات اللفظية فقط، بل كان مرشده فيها عمل أهل
المدينة من التابعين الذين تلقوا عن الصحابة رضي الله عنهم، وما من مجتهد إلا
وقد انفرد بمسائل ردها عليه غيره، وما زال العلماء المنصفون يعذر بعضهم بعضًا
في المسائل الخلافية التي لم يجمع عليها أهل الصدر الأول، وأولى الجميع بأن
يُرَجَّح كلامه مَن لا يقول إلا بدليل، ولا يكلف أحدًا أن يعمل إلا بما يظهر له صحة
دليله كأصحاب الكتب المسئول عنها، والله قد أرشدنا إلى اتباع الأحسن، وهو لا
يُعلم إلا بالنظر في الأدلة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجامعتان الإسلامية والشرقية
دعوة السيد الأفغاني إليهما، تأثير دعوته بعد جيل كامل في الشعوب
الأعجمية، جمود جزيرة العرب واضطراب العراق وسورية، الإنكليز مثيرو الفتنة
وعليهم تقع تبعتها.
كانت فكرة الجامعة الإسلامية خيالاً لاح في أذهان بعض رجال السياسة في
أوروبا فطفقوا يبحثون فيه، ويصورون لأقوامهم قوادمه وخوافيه، حتى صار
الكثيرون منهم يحسبون أنه حق لا ريب فيه.
أثار هذا الخيالَ في تلك الأدمغة كثرةُ التفكر في تاريخ الشعوب الإسلامية التي
أسرعت أوروبا في ثَلِّ عروشها، واستعباد أمرائها وملوكها، والتمتع بخيرات
بلادها، فإن المطَّلع على ذلك التاريخ الفيَّاض بما كان لها من العزة والبأس في
الحرب، والعلم والحكمة وإقامة العدل جدير بأن يحسب لانتقاضها على المستذلِين
لها ألف حساب، وإن استحوذ عليها الجهل، وحرقتْ نسيجَ وحدتها العداوات
الجنسية والمذهبية، فصار بأسها بينها شديدًا، وقيادها للأجانب لينًا سلسًا، ولئن
نبهت مباحث أولئك السياسيين بعضَ الأذكياء إلى هذا الأمر العظيم، فلم يكن في
استطاعتها أن تحفز همة أحد من أمرائهم ولا من كبراء الهمم والعقول فيهم إلى
السعي له والدعوة إليه، ولئن وُجد أفراد - منهم السلطان عبد الحميد - أحبوا أن
يستفيدوا من حذر الأوروبيين منه بإيهامهم إياهم أنهم يعدون له عدته، ويتخذون له
أهبته، فقد كان من تأثير هذا الإيهام مبادرة أولئك الحازمين إلى قطع طرقه،
والإسراع بالقضاء على ما بقي لتلك الشعوب من ماء الاستقلال ورمقه.
إي وربي ! إن الشعوب الإسلامية لم تنجب من بعد الحروب الصليبية رجلاً
عظيمًا عالي الهمة، يسعى إلى جمع كلمة المسلمين وتوحيد قواهم المتفرقة، لدفع
عوادي الذل والاستعباد عنهم، لا بدعوة علمية اجتماعية، ولا بتأليف قوة عسكرية
عصرية، إلا (السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني) حكيم الشرق، وحافزه
لتحرير نفسه من الرق، فهو الذي اهتدى بذكائه ونظره البعيد وفكره الوقاد إلى
تدارك الإسلام وإنقاذ الشرق من الاستعباد، بالسعي إلى هذا الاتحاد، فطاف
لأجله البلاد، ونادى به على رءوس الأشهاد؛ فلم تكن دعوته في عصره صرخة في
واد، أو نفخة في رماد، بل كان في خلل الرماد وميض نار طار شرارها كل مطار،
حتى عم بعده الأقطار.
ألقى بذور دعوته الأولى بمصر وكانت عنايته فيها موجهة إلى إحياء الشعب
المصري لتكون مصر مركز الدعوة العامة، وتكون دولة وادي النيل هي الدولة
القوية التي تعتز بها الأمة، وتكون النواة لتنفيذ مذهبه السياسي في إعزاز الإسلام
وتقليص ظل الدولة البريطانية عن رءوس المسلين.
وبعد أن نُفي بتأثير الدسائس الإنكليزية من مصر، ومن أجل بث الدعوة ألَّف
جمعية العروة الوثقى، وأنشأ جريدتها في باريس للدعوة العامة إلى الوحدة تحت لواء
الخلافة الإسلامية، وكان جُل سعيه وعمله فيما وراء الغاية العامة الدفاع عن مسألة
مصر عقب الاحتلال، وقد عني عناية خاصة بجمع الكلمة والتأليف بين الشعبين
المتجاورين اللذين نشأ هو وكثير من آبائه وأجداده في بلادهما، أعني الشعب الأفغاني
والشعب الإيراني، وقد بيَّنتْ جريدة العروة الوثقى التي كانت تتجلى بها آراؤه بقلم
مريده وصديقه شيخنا الأستاذ الإمام (رحمهما الله تعالى) الغاية، وأشرعت السبيل
وبينت الوسائل، وأرشدت إلى إزالة الموانع، وكان من رأيه أن تكون مكة المكرمة
هي مركز الدعوة.
كان لهذه الدعوة تأثير عظيم في العالم الإسلامي حتى كان العقلاء وأهل الرأي
من قرائها في الأقطار المختلفة يعتقدون أنها لا تلبث أن تحدث انقلابًا عظيمًا في
الشرق. سمعنا هذا من شيخنا الشيخ حسين الجسر الشهير في طرابلس، ورواه لنا
محمد علي بك المؤيد عن الزعيم الكبير السيد سلمان الكيلاني نقيب بغداد في ذلك
العهد، بيد أن مصادرة الدولة البريطانية للجريدة، ومنعها من مصر والهند
وغيرهما من أقطار المشرق كانت سببًا لترك الاستمرار على إصدارها، فكان كل ما
صدر منها 18 عددًا، ولكنه لم يترك الدعوة والسعي إلى الغاية، بل بثها في البلاد
الفارسية ثم في القسطنطينية، ثم قضى السيد وما قضى منها وطرًا، ولم يقم بعده
أحد بالدعوة والسعي لها بمثل تلك القوة، بل ضعفت الرابطة الإسلامية، بما
تغلب عليها من العصبية الجنسية، ولا سيما في الشعوب الأعجمية، بيد أن القوي
في الضار قد يكون قويًّا في النافع، فهذه الشعوب التي كانت في غاية التعادي
الجنسي، وكانت قبل ذلك فيما هو أشد منه من التعادي المذهبي: هذا سُني وهذا
شيعي - ثابَتْ الآن إلى رُشدها، وعلمت كل منها أن الوحدة هي التي تحفظ جنسها
ودينها ومذهبها، فمد كل منها يده إلى الآخر يصافحه مصافحة الأخ لأخيه،
ويعاهده معاهدة الولي لوليه.
تعاقد الترك والفرس والأفغان، وشدوا معاقد حلفهم ببخارى وخيوة وأذريبجان،
وبنوا دعاية الولاية والبراءة في سائر الشعوب الإسلامية في الشرق، يؤيدها بالمال
والرجال مسلمو الهند، بل شدوا أواخيّ الجامعة الشرقية بوثنيي الهند ونصارى
الروسية البلشفية التي سخرها الله لجهاد تأليه الثروة والعظمة الأوروبية،
والغرض العام لهذه الأمم كلها تحرير الشرق من رق الجزيرة البريطانية، التي
طمحت باستعبادها له إلى منازعة الربوبية، وما يتلو ذلك من تحرير سائر الشعوب
المستضعفة.
كل هذا والشعب العربي الذي ضعفت رابطته الجنسية بتعاليم الإسلام،
ووحدته الدينية باختلاف المذاهب وتنازع الحكام مُصِرٌّ على تَفَرُّقِهِ غافلٌ عما يُرَاد
به، حتى في مهد الإسلام من جزيرته، وقد رأى سوء عاقبة ذلك في سلب الأجانب
لاستقلال أخصب بلاده، ومحاولة إنشاب براثنه في باقيها، والإحاطة بها من
أطرافها، وهو مع ذلك في غمة من أمره لا يدري كيف يخرج منها، وإنما الذنب
في ذلك على ملوكهم وأمرائهم الجاهلين بكُنْهِ تأثير دسائس أعدائهم، وتسخيرهم
لمنع الجامعات الإسلامية والشرقية والعربية جميعًا من حيث لا يشعرون، ولكن هذه
السياسة الخبيثة ستنتهي بالخيبة، ولن ينقذ الإنكليز من سوء عاقبة عداوتها للإسلام،
اصطناع بضعة رهط من زعماء العرب بعضهم لبعض عدو، وودهم كله سيبلى،
وهم عاجزون عن إقناع شعوبهم بصداقة الإنكليز لهم، مع احتلالها لأخصب
بلادهم وإلقائها للفتن بينهم، ولا هم قانعون بذلك فيقنعوا غيرهم، بل كل واحد منهم
يكابر نفسه ويتأول لها، ويخفي مودته ويتعذر عما ظهر منها، وإنما تنقذ الإنكليز
سياسة أخرى عَمُوا عنها وصَمُّوا وقد نُصحوا وأُنذروا، لا أقول سياسة الصدق
والوفاء للعرب ! بل التحول عن محاولة استعبادهم من حدود برقة إلى العراق
وعمان، وقتل الإسلام في مشرق نوره ومواطن حضارته، مع القضاء على بلاد
الترك أمنع حصونه وأمضى أسلحته، فإن كان الترك قد أفلتوا من الشرَك الذي وقع
فيه وحيد الدين، فسيفلت العرب مما وقع فيه أمثاله المخدوعين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ
حِينٍ} (ص: 88) .
* * *
] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا [[*]
من مقالات العورة الوثقى في الحث على الجامعة الإسلامية نشر منذ 40
سنة [1] .
إن للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتًا على يقينهم، يباهون
بها من عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض.
ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم
كفالة لسعادة الدارين، ومن حرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم
أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة كما هي
في علمائهم متمكنة في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من
بقاع الأرض - عالمًا كان أو جاهلاً - أن واحدًا ممن وسم بسمة الإسلام في أي قطر،
ومن أي جنس صبأ عن دينه، رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرق وتأسف
يلهج بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على من نزلت به،
بل وعلى جميع من يشاركه في دينه، ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ
وقرأها قارئهم بعد مئين من السنين، لا يتمالك قلبه من الاضطراب ودمه من
الغليان، ويستفزه الغضب ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدِّث عن غريب أو
يحكي عن عجيب.
المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة مطالبون عند الله بالمحافظة
على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم
وبعيدهم، ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على
كل واحد منهم، إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام.
وحفظ الولاية: بذل الأموال والأرواح، وارتكاب كل صعب، واقتحام كل
خطب، ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال حتى ينالوا الولاية
خاصة لهم من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على من يخالفهم
إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره، لوجبت عليه الهجرة من دار
حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية، يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها
تأويلات أهل الأهواء وأعوان الشهوات في كل زمان.
المسلمون يحس كل واحد منهم بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره بما تطالبه به
الشريعة وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات دينه،
ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يلم بالبعض
الآخر، ولا يألمون لما يا لم له بعضهم، فأهل بلوجستان كانوا يرون حركات
الإنكليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم ولا يجيش لهم جأش ولم تكن لهم نعرة
على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون الإنكليز في بلاد فارس ولا يضجرون ولا
يتململون. وإن جنود الإنكليز تضرب في الأراضي المصرية ذهابًا وإيابًا تقتل
وتفتك ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري مائهم، بل
السامعين لخريرها من حلاقيمهم الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين أيديهم
وتحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
تمسُّكُ المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم مع هذه الحالة
التي هم عليها مما يقضي بالعجب، ويدعو إلى الحيرة ويسوق إلى بيان السبب،
فخذ مجملا منه:
إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية، وسائر المعلومات والمدركات والوجدانيات
النفسية وإن كانت هي الباعثة على الأعمال، وعن حُكمها تصدر بتقدير العزيز العليم
- لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس وتطبع الأنفس عليها، حتى يصير
ما يعبر عنه بالمَلَكَة والخُلُق وتترتب عليه الآثار التي تلائمها.
نعم إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده، إلا أن ما ينعكس إلى مرايا عقله من
مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكرًا، وكل
فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل ثم يعود من العمل إلى الفكر،
ولا ينقطع العقل والانفعال بين الأعمال والأفكار ما دامت الأرواح في الأجساد،
وكل قبيل هو للآخر عماد.
إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل، ولا أثر لها في الاعتصاب
والالتحام لولا ما تبعث به الضرورات، وتلجئ إليه الحاجات، من تعاون الأنسباء
والعصبة على نيل المنافع، وتضافرهم على دفع المضار، وبعد كرور الأيام على
المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذًا يصرفه في آثارها بقية الأجل،
ويكون انبساط النفس لعَوْن القريب وغضاضة القلب لما يصيبه من ضَيْم أو نكبة
جاريًا مجرى الوجدانيات الطبيعية، كالإحساس بالجوع والعطش، والري والشبع،
بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعده طبيعيًّا، فلو أهملت صلة النسب بعد ثبوتها
والعلم بها، ولم تدع ضرورات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما يمكن تلك الصلة
ويؤكدها، أو وجد صاحب النسب من يظاهره في غير نسبه، أو ألجأته ضرورة
إلى ذلك، ذهب أثر تلك الرابطة النسبية، ولم يبق منها إلا صورة في العقل تجري
مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات، وعلى مثال ما ذكرنا في رابطة
النسب - وهي أقوى رابطة بين البشر - يكون الأمر في سائر الاعتقادات التي لها
أثر في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض. إن لم يصحب العقد
الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الداعية إلى عمل تنطبع عليه الجارحة وتمرن عليه
ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئة للروح وشكلا ًمن أشكالها - فلن يكون
منشأ لآثاره، وإنما بعد في الصور العقلية له رسم يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه
كما قدمنا.
بعد تدبر هذه الأصول البينة، والنظر فيها بعين الحكمة، يظهر لك السبب
في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم، والعلة في تباطؤهم عن
نصرة إخوانهم، وهم أثبت الناس في عقائدهم، فإنه لم يبق من جامعة بين
المسلمين في الأغلب إلا العقيدة الدينية مجردة عما يتبعها من الأعمال، وانقطع
التعارف بينهم، وهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل. فالعلماء وهم القائمون
على حفظ العقائد وهداية الناس إليها لا تواصُل بينهم ولا تراسل، فالعالم التركي في
غيبة عن حال العالم الحجازي فضلاً عمن يبعد عنهم، والعالم الهندي في غفلة عن
شئون العالم الأفغاني، وهكذا بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم، ولا
صلة تجمعهم إلا ما يكون بين أفراد العامة لدوعٍ خاصة من صداقة أو قرابة بين
أحدهم وآخر، أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم، بل لا أنساب بينهم، وكل ينظر
إلى نفسه ولا يتجاوزها، كأنه كون برأسه.
كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء كانت كذلك بين الملوك
والسلاطين من المسلمين، أليس بعجيب أن لا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش
ولا لمراكش عند العثمانيين؟ ! أليس بغريب أن لا تكون للدولة العثمانية صلات
صحيحة مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في المشرق؟!
هذا التدابر والتقاطع وإرسال الحبال على الغوارب عم المسلمين حتى صح
أن يقال: لا علاقة بين قوم منهم وقوم، ولا بلد وبلد، إلا طفيف من الإحساس بأن
بعض الشعوب على دينهم، ويعتقدون مثل اعتقادهم، وربما يتعرفون مواقع
أقطارهم بالصدفة إذا التقى بعض ببعض في موسم الحجيج العام. وهذا النوع من
الإحساس هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم
على يد أجنبي عن ملته. لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته.
كانت الصلة كجسم عظيم قوي البنية صحيح المزاج فنزل به من العوارض ما
أضعف الالتئام بين أجزائه فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على
حدة وتضمحل هيئة الجسم.
بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة
العلمية عن رتبة الخلافة وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا
شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الراشدون
رضي الله عنهم، كثرت بذلك المذاهب، وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث
من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة
فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية
في أطراف الأندلس. تفرقت بهذا كلمة الأمة وانشقت عصاها، وانحطت رتبة
الخلافة إلى وظيفة الملك فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج طلاب الملك والسلطان
يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة ولا يرعون جانب الخلافة.
وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده،
وتيمورلنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلاً وإذلالاً حتى أذهلوهم عن أنفسهم
فتفرق الشمل بالكلية وانفصمت عرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا، وانفرد
كل بشأنه وانصرف إلى ما يليه، فتبدد الجمع إلى آحاد، وافترق الناس فرقًا كل
فرقة تتبع داعيًا إما إلى ملك أو مذهب، فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو إلى
الوحدة وتبعث على اشتباك الوشيجة، وصار ما في العقول منها صورًا ذهنية
تحويها مخازن الخيال، وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النفس من
المعلومات، ولم يبق من آثارها إلا أسف وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل
المصائب ببعض المسلمين بعد أن ينفذ القضاء، ويبلغ الخبر إلى المسامع على
طول من الزمان، وما هو إلا نوع من الحزن على الفائت كما يكون على الأموات
من الأقارب، لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة ولا دفع الغائلة.
وكان من الواجب على العلماء - قيامًا بحق الوراثة التي شُرِّفُوا بها على لسان
الشارع - أن ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك
بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم
ومدارسهم، حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطًا لروح حياة الوحدة، ويصير
كل واحد منها كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف
الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم
ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شئون وحدتهم،
ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعوا أطراف
الوشائج إلى معقد واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة - وأشرفها معهد بيت الله
الحرام - حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام
بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل، وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من
شأنها ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع، فإن
إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدع
أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارك بدعته ومحوها قبل فشوها بين العامة، وليس
بخافٍ على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها، واقتدارها على
دفع ما يغشاها من النوازل.
إلا أنا نأسف غاية الأسف إذ لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين
إلى هذه الوسيلة وهي أقرب الوسائل، وإن التفتت إليها في هذه الأيام طائفة من
أرباب الغيرة، ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن
يؤيدوا هذه الفئة، ولا يتوانوا فيما يوحد جمعهم ويجمع شتيتهم، فقد دارستهم
التجارب ببيان لا مزيد عليه، وما هو بالعسير عليهم أن يبثوا الدعاة إلى من يبعد
عنهم، ويصافحوا بالأكف من هو على مقربة منهم، ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما
يعود على دينهم وملتهم بفائدة، أو ما يخشى أن يمسها بضرر، ويكونون بهذا العمل
الجليل قد أدوا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باقٍ والآمال مقبلة وإلى الله المصير.
_________
(*) آل عمران: 103.
(1)
نشرت في العدد الخامس الذي صدر بباريس في 14 جمادى الآخرة سنة 1301 هـ.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية [*]
(2)
تتمة الكلام في الشورى في الإسلام:
(ومنها) ما رواه الطبراني في الأوسط وأبو سعيد في القضاء عن علي، قال:
قلت: يا رسول الله إن عرض لي أمر لم ينزل قضاء في أمره ولا سنة كيف
تأمرني؟ قال: (تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين ولا تقضِ فيه
برأيك خاصة) .
(ومنها) ما في صحيح البخاري عن ابن عباس: وكان القراء أصحاب
مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شبابًا، وذكر واقعة في رجوع عمر إلى قول
من يذكِّره بالقرآن، وقال: وكان وقَّافًا عند كتاب الله عز وجل.
وما في الصحيحين وغيرهما من استشارة عمر في مسألة الوباء لما خرج إلى
الشام وأخبروه إذ كان في (سرغ) أن الوباء وقع في الشام، فاستشار المهاجرين
الأولين ثم الأنصار فاختلفا، ثم طلب من كان هنالك من مشيخة قريش من مهاجرة
الفتح، فاتفقوا على الرجوع وعدم الدخول على الوباء، فنادى عمر بالناس: إني
مصبح على ظَهر (أي مسافر، والظهر: الراحلة) فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة:
أفِرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نَفِرُّ من قدر الله
إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان: إحداها خصبة
والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة
رعيتها بقدر الله؟ ثم جاء عبد الرحمن بن عوف فأخبره بالحديث المرفوع الموافق
لرأي شيوخ قريش.
* * *
9-
التولية بالاستخلاف والعهد:
اتفق الفقهاء على صحة استخلاف الإمام الحق، والعهد منه بالخلافة إلى من
يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة فيه [1] أي في الإمام الحق، فالعهد والاستخلاف
لا يصح إلا من إمام مستجمع لجميع شروط الإمامة لمن هو مثله في ذلك، هذا
شرط العهد إلى الفرد، واستدلوا على ذلك باستخلاف أبي بكر لعمر، وأما العهد
إلى الجمع وجعله شورى في عدد محصور من أهل الحل والعقد، فاشترطوا
فيه أن تكون الإمامة متعينة لأحدهم، بحيث لا مجال لمنازعة أحد لمن يتفقون عليه
منهم، وهو الموافق لجعل عمر إياها شورى في الستة رضي الله عنهم قال
الماوردي: وانعقد الإجماع عليها أصلاً في انعقاد الإمامة بالعهد، وفي انعقاد البيعة
بعدد يتعين فيه الإمامة لأحدهم باختيار أهل الحل والعقد ا. هـ (آخر ص11) .
وقد تمسك بهذا أئمة الجور وخلفاء التغلُّب والمطامع ولم يراعوا فيه ما راعاه
من احتجوا بعمله من استشارة أهل الحل والعقد والعلم برضاهم أولاً، وإقناع من
كان توقف فيه، والروايات في هذا معروفة في كتب الحديث، ومِن أجمعِها (كنز
العمال) وكتب التاريخ والمناقب. وأي عالم أو عاقل يقيس عهد أبي بكر إلى عمر
في تحري الحق والعدل والمصلحة بعد الاستشارة فيه ورضاء أهل الحل والعقد به
على عهد معاوية واستخلافه ليزيد الفاسق الفاجر بقوة الإرهاب من جهة ورشوة
الزعماء من أخرى؟ ثم ما تلاه واتبعت فيه سنته السيئة [2] من احتكار أهل الجور
والطمع للسطان، وجعله إرثا لأولادهم أو لأوليائهم كما يورث المال والمتاع؟ ألا
إن هذه هي أعمال عصبية القوة القاهرة المخالفة لهدي القرآن وسنة الإسلام.
ذكر الفقيه ابن حجر في (التحفة) اختصاص الاستخلاف بقسميه (الفردي
والجمعي) بالإمام الحق واعتماده، ثم قال: وقد يشكل عليه ما في التواريخ
والطبقات من تنفيذ العلماء وغيرهم لعهود بني العباس مع عدم استجماعهم للشروط،
بل نفذ السلف عهود بني أمية مع أنهم كذلك، إلا أن يقال: هذه وقائع محتملة أنهم
إنما نفذوا ذلك للشوكة وخشية الفتنة لا للعهد، بل هو الظاهر. اهـ
وقال الماوردي في العهد المشار إليه في أول هذه المسألة: ويعتبر شروط
الإمام في المُوَلَّى من وقت العهد إليه. وإن كان صغيرًا أو فاسقًا وقت العهد وبالغًا
عدلاً عند موت المُوَلِّي، لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته اهـ.
ونقل الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث (عُبادة) في المبايعة وقد تقدم: إنه لا
يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، وإن الخلاف في الخروج على الفاسق فيما إذا كان
عادلاً وإمامته صحيحة ثم أحدث جورًا. اهـ.
وقد علم مما أسلفنا أن العهد والاستخلاف بشروطه متوقف على إقرار أهل
الحل والعقد له، واستدلالهم يقتضيه، وإن لم يصرحوا، وأما المتغلبون بقوة
العصبية فعهدهم واستخلافهم كإمامتهم، وليس حقًّا شرعيًّا لازمًا لذاته، بل يجب
نبذه، كما تجب إزالتها واستبدال إمامة شرعية بها عند الإمكان والأمان من فتنة
أشد ضررًا على الأمة منها، وإذا زالت بتغلب آخر فلا يجب على المسلمين القتال
لإعادتها.
***
10-
طالب الولاية لا يُوَلَّى:
من هدي الإسلام أن طالب الولاية والإمارة لأجل الجاه والثروة لا يولى. فقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين طلبا أن يؤمرهما: (لن نستعمل على عملنا
من أراده) وفي رواية (إننا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه) رواه
الشيخان: البخاري بهذا اللفظ، ومسلم بلفظ: (إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا
سأله ولا أحدًا حرص عليه) وفي رواية للإمام أحمد: (إن أَخْوَنَكم عندنا من يطلبه)
فلم يستعن بهما في شيء حتى مات. وسبب هذا المنع القطعي المؤكد بالقسم أن
طلاب الولايات - ولا سيما أعلاها وهي الإمامة - والحريصون عليها هم محبو
السلطة للعظمة والتمتع والتحكم في الناس، وقد ظهر أنهم هم الذين أفسدوا أمر هذه
الأمة، وأولهم من الجماعات بنو أمية، وإن كان فيهم أفراد، بل منهم رجل الرجال
وواحد الآحاد عمر بن عبد العزيز خامس الراشدين، ولكنه لم يكن حريصًا على
الإمامة ولو أمكنه لأعادها إلى العلويين.
وذكر الحافظ في شرح الحديث المذكور آنفًا كلمة حق في معناه عن المهلب
قال: الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء
واستبيحت الأموال والفروج، وعظم الفساد في الأرض بذلك. وهنالك أحاديث
أخرى.
ولو حافظ المسلمون على أصل الشرع الذي قُرر في عهد الراشدين في أمر
الخلافة، لَمَا وقعت تلك الفتن والمفاسد، ولعم الإسلام الأرض كلها. وقد قال عالم
ألماني لشريف حجازي في الآستانة: إنه كان ينبغي لنا أن نضع لمعاوية تمثالاً من
الذهب في عواصمنا؛ لأنه لو لم يحول سلطة الخلافة عما وضعها عليه الشرع
وجرى عليه الراشدون، لَمَلَكَ العرب بلادنا كلها وصيروها إسلامية عربية.
***
11-
إمامة الضرورة والتغلُّب بالقوة:
اتفق محققو العلماء على أنه لا يجوز أن يبايَع بالخلافة إلا مَن كان مستجمعًا
لما ذكروه من شرائطها، وخاصة العدالة والكفاءة والقرشية، فإذا تعذر وجود بعض
الشروط تدخل المسألة في حكم الضرورات، والضرورات تقدر بقدرها، فيكون
الواجب حينئذ مبايعة مَن كان مستجمعًا لأكثر الشرائط من أهلها، مع الاجتهاد والسعي
لاستجماعها كلها،قال الكمال بن الهمام في المسايرة: والمتغلب تصح منه هذه الأمور
للضرورة كما لو لم يوجد قرشي عدل أو وجد ولم يقدر على توليته لغلبة الجورة
ا. هـ. [3] قال هذا ردًّا على جماعة الحنفية في استدلالهم على عدم اشتراط العدالة
في الأئمة بقبول بعض الصحابة للولاية والقضاء من ظلمة بني أمية كمروان
وصلاتهم معهم، فمراده بالأمور: القضاء والإمارة والحكم، كما قاله شارح المسايرة.
وقال السعد في شرح المقاصد: وههنا بحث، وهو أنه إذا لم يوجد إمام على
شرائطه وبايع طائفة من أهل الحل والعقد قرشيًّا فيه بعض الشرائط من غير نفاذ
لأحكامه، وطاعة من العامة لأوامره، وشوكة بها يتصرف في مصالح العباد
ويقتدر على النصب والعزل لمن أراد - هل يكون ذلك إتيانًا بالواجب؟ وهل يجب
على ذوي الشوكة العظيمة من ملوك الأطراف المتصفين بحسن السياسة والعدل
والإنصاف، أن يفوضوا إليه الأمر بالكلية، ويكونوا لديه كسائر الرعية؟ وقد
يُتَمَسك بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ
مِنكُمْ} (النساء: 59) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يعرف إمام
زمانه مات ميتة جاهلية) فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي الحصول [4] . اهـ.
وإنما فرض أن المبايعين في هذه الصورة بعض أهل الحل والعقد؛ لأنه إذا
بايعه جميعهم ومنهم الملوك الذين ذكرهم تمت شوكته ونفذ حكمه قطعًا، وهذه
الصورة تصدق على بعض خلفاء بني أمية وبني العباس الذين كانت تنقصهم العدالة
أو العلم الاجتهادي، وكان الجمهور يوجبون طاعتهم، ويصححون للضرورة
إمامتهم إذا لم تتيسر بيعة أمثل منهم، وإن كان موجودًا والمعتمد عند الحنفية أن
إمامتهم صحيحة مطلقًا لأن العلم والعدالة عندهم ليست من شروط الانعقاد كما تقدم
في محله. قال الكمال بن الهمام محقق الحنفية في (المسايرة) تبعًا للغزالي:
(الأصل العاشر) لو تعذر وجود العلم والعدالة، فمن تصدى للإمامة بأن تغلَّبَ عليها
جاهل بالأحكام أو فاسق وكان في صرفه إثارة فتنة لا تطاق - حكمنا بانعقاد إمامته كي
لا نكون كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، وإذا قضينا بنفوذ قضايا أهل البغي في بلادهم
التي غلبوا عليها لمسيس الحاجة، فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند لزوم الضرر
العام بتقدير عدمها. وإذا تغلب آخر على ذلك المتغلب وقعد مكانه انعزل الأول وصار
الثاني إمامًا. اهـ.
وقال السعد في شرح (المقاصد) بعد ذكر شروط الإمامة، وآخرها النسب
القرشي ما نصه: وأما إذا لم يوجد في قريش من يصلح لذلك أو لم يقتدر على
نصبه لاستيلاء أهل الباطل وشوكة الظلمة وأرباب الضلالة - فلا كلام في جواز تقلد
القضاء وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وجميع ما يتعلق بالإمام من كل ذي شوك، كما
إذا كان الإمام القرشي فاسقًا أو جائرًا أو جاهلاً، فضلاً عن أن يكون مجتهدًا.
وبالجملة مبنى ما ذكر في باب الإمامة على الاختيار والاقتدار، وأما عند العجز
والاضطرار، واستيلاء الظلمة والكفار والفجار، وتسلط الجبابرة الأشرار، فقد
صارت الرئاسة الدنيوية تغلبية، وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالإمام
ضرورة، ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط، والضرورات تبيح
المحظورات، وإلى الله المشتكى في النائبات، وهو المرتجى لكشف الملمات ا. هـ
بحروفه [5] .
والفرق بين هذه الخلافة وما قبلها بعد كون كل منهما جائزًا للضرورة أن
الأولى صدرت من أهل الحل والعقد باختيارهم لمن هو أمثل الفاقدين لبعض الشرائط،
ولذلك فَرَضَه المحقق التفتازاني قرشيًّا؛ إذ القرشيون كثيرون دائمًا، وأما الثانية
فصاحبها هو المعتدي على الخلافة بقوة العصبية لا باختيار أهل الحل والعقد له؛
لعدم وجود من هو أجمع للشرائط منه، فذاك يطاع اختيارًا، وهذا يطاع اضطرارًا.
ومعنى هذا أن سلطة التغلب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة، تنفذ
بالقهر وتكون أدنى من الفوضى. ومقتضاه أنه يجب السعي دائما لإزالتها عند
الإمكان، ولا يجوز أن توطن الأنفس على دوامها، ولا أن تجعل كالكُرة بين
المتغلبين يتقاذفونها، كما فعلت الأمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم لجهلها
بقوتها الكامنة فيها، وكون قوة ملوكها وأمرائها منها، ألم تر إلى من استناروا بالعلم
الاجتماعي منا كيف هبت لإسقاط حكوماتها الجائرة وملوكها المستبدين، وكان آخر
من فعل ذلك الشعب التركي، ولكنه أسقط نوعًا من التغلب بنوع آخر عسى أن
يكون خيرًا منه، وإنما فعله تقليدًا لتلك الأمم الأبية؛ إذ كان جماهير علماء الترك
والهند ومصر وغيرها من الأقطار، يوجبون عليهم طاعة سلاطين بني عثمان، ما
داموا لا يظهرون الكفر والردة عن الإسلام، مهما يكن في طاعتهم من الظلم والفساد
وخراب البلاد وإرهاق العباد، عملاً بالمعتمد عند الفقهاء بغير نظر ولا اجتهاد،
وهذا أهم أسباب اعتقاد الكثير منهم أن سلطة الخلافة الشرعية تحول دون حفظ
الملك والحياة الاستقلالية، وسنفصل الكلام في هذا بعد، وفيما يجب لجعل الحكم
شرعيًّا إسلاميًّا.
***
12 -
ما يخرج به الخليفة من الإمامة:
قال الماوردي بعد بيان ما يجب على الإمام، وقد تقدم: وإذا قام الإمام بما
ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم
حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله.
(والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما جَرح في
عدالته، والثاني نقص في بدنه، فأما الجرح في عدالته فهو على ضربين (أحدهما)
ما تابع فيه الشهوة (والثاني) ما تعلق فيه بشبهة، فأما الأول منهما فمتعلق
بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات، تحكيمًا
للشهوة وانقيادًا للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا
طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة، لم يعد إلى الإمامة
إلا بعقد جديد.
وأما الثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد والمتأول بشبهة تَعرض فيتأول لها خلاف
الحق - فقد اختلف العلماء فيها: فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة
ومن استدامتها، ويخرج بحدوثه منها.. إلخ (ص16) .
(المنار: وبعد تفصيل الخلاف في هذه المسألة - وهي الابتداع بالتأول -
ذكر القسم الثاني مما يمنع من الخلافة وهو نقص البدن فجعله ثلاثة أقسام: نقص
الحواس ونقص الأعضاء ونقص التصرف. وقسمها أيضًا إلى أقسام، وأطال في بيان
أحكامها والذي تقتضي الحال نقله منه نقص التصرف، وقد عقد له فصلاً خاصًّا قال
فيه ما نصه) :
(وأما نقص التصرف فضربان: حَجْر، وقهر، فأما الحَجْر فهو أن يستولي
عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية، ولا مجاهرة
بمشاقة، فلا يمنع ذلك من إمامته، ولا يقدح في صحة ولايته، ولكن ينظر في
أفعال من استولى على أموره، فإن كانت جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل
جاز إقراره عليها، تنفيذًا لها، وإمضاء لأحكامها؛ لئلا يقف من الأمور الدينية ما
يعود بفساد على الأمة. وإن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل لم
يجز إقراره عليها، ولزمه أن يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه) .
(وأما القهر فهو أن يصير مأسورًا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص
منه فيمنع ذلك من عقد الإمامة له؛ لعجزه عن النظر في أمور المسلمين، وسواء
كان العدو مشركًا أو مسلمًا باغيًا، وللأمة فسحة في اختيار من عداه من ذوي القدرة،
وإن أُسِرَ بعد أن عقدت له الإمامة فعلى كافة الأمة استنقاذه لما أوجبته الإمامة من
نصرته، وهو على إمامته ما كان مرجو الخلاص مأمول الفكاك، إما بقتال أو فداء.
(فإن وقع الإياس منه لم يخلُ حال مَن أسره مِن أن يكونوا مشركين أو بغاة
المسلمين، فإن كان في أسر المشركين خرج من الإمامة لليأس من خلاصه، واستأنف
أهل الاختيار بيعة غيره على الإمامة) .
وهنا ذكر مسألة عهده بالإمامة إلى غيره، وما يصح منها وما لا يصح،
ثم قال:
(وإن كان مأسورًا مع بغاة المسلمين: فإن كان مرجو الخلاص فهو على
إمامته ويكون العهد في ولي العهد ثابتًا وإن لم يصر إمامًا، وإن لم يرج خلاصه لم
يخل حال البغاة من أحد أمرين: إما أن يكونوا نصبوا لأنفسهم إمامًا أو لم ينصبوا،
فإن كانوا فوضى لا إمام لهم فالإمام المأسور على إمامته؛ لأن بيعته لهم لازمة،
وطاعته عليهم واجبة، فصار معهم كمصيره مع أهل العدل، إذا صار تحت الحَجْر،
وعلى أهل الاختيار أن يستنيبوا عنه ناظرًا يخلفه إن لم يقدر على الاستنابة، فإن
قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم. فإن خلع المأسور نفسه أو مات لم
يصر المستناب إمامًا لأنها نيابة عن موجود فزالت بفقده.
وإن كان أهل البغي قد نصبوا لأنفسهم إمامًا دخلوا في بيعته وانقادوا
لطاعته، فالإمام المأسور في أيديهم خارج عن الإمامة بالإياس من خلاصه؛ لأنهم
قد انحازوا بدار تفرد حكمها عن الجماعة، وخرجوا بها عن الطاعة فلم يبق لأهل
العدل بهم نصرة، ولا للمأمسور معهم قدرة، وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن
يعقدوا الإمامة لمن ارتضوه لها، فإن خلص المأسور لم يعد إلى الإمامة بخروجه
منها) (ص19، 20) .
ومن المعلوم أن كل هذا التفصيل في الإمام الحق المستجمع للشروط القائم
بالوجبات، وأما إمامة التغلب فكلها تجري على قاعدة الاضطرار المتقدمة (رقم
11) .
وما ذكره من انعزال الإمام بالفسق قد اختُلف فيه، والمشهور الذي حققه
الجمهور أنه لا يجوز تولية الفاسق، ولكن طروء الفسق بعد التولية لا تبطل به
الإمامة مطلقًا وبعضهم فصَّل: قال السعد في شرح المقاصد: وإذا ثبت الإمام بالقهر
والغلبة ثم جاء آخر فقهره انعزل وصار القاهر إمامًا، ولا يجوز خلع الإمام بلا
سبب، ولو خلعوه لم ينفذ وإن عزل نفسه، فإن كان يعجز عن القيام بالأمر انعزل
وإلا فلا، ولا ينعزل الإمام بالفسق والإغماء وينعزل بالجنون وبالعمى والصم
والخرس وبالمرض الذي ينسيه العلوم. (ص272 ج2) .
وقد استدل من قال يخلع بالكفر دون المعصية بحديث عبادة بن الصامت في
المبايعة عند الشيخين قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ
علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة
علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان) .
وقد ذكر الحافظ في شرح قوله (إلا أن تروا كفرًا بواحًا) روايات أخرى
بلفظ المعصية والإثم بدل الكفر، ثم قال: وفي رواية إسماعيل بن عبد الله عند أحمد
والطبراني والحاكم من روايته عن أبي عبادة (سيلي أموركم من بعدي رجال
يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون. فلا طاعة لمن عصى الله)
وعند أبي بكر بن أبي شيبة من طريق أزهر بن عبد الله عن عبادة رفعه:
(سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون ويفعلون ما تنكرون، فليس لأولئك
عليكم طاعة) .
وقال في شرح قوله: (عندكم من الله فيه برهان) أي من نص آية، أو
خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم
يحتمل التأويل. قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا
تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محقَّقًا
تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأَنْكِرُوا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم ا
هـ وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا يُعترض على السلطان إلا إذا
وقع في الكفر الظاهر. والذي يظهر: حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة
في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر. وحمل رواية
المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه
في المعصية بأن ينكر عليه برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل
ذلك إذا كان قادرًا، والله أعلم.
ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إذا قدر
على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب ، وإلا فالواجب الصبر. وعن بعضهم: لا يجوز
عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورًا بعد أن كان عدلاً فاختلفوا في جواز
الخروج عليه، والصحيح: المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه. اهـ.
وقد تقدم التحقيق في المسألة ونصوص المحققين فيها، وملخصه أن أهل
الحل والعقد يجب عليهم مقاومة الظلم والجور والإنكار على أهله بالفعل، وإزالة
سلطانهم الجائر، ولو بالقتال إذا ثبت عندهم أن المصلحة في ذلك هي الراجحة
والمفسدة هي المرجوحة، ومنه إزالة شكل السلطة الشخصية الاستبدادية، كإزالة
الترك لسلطة آل عثمان منهم، فقد كانوا على ادعائهم الخلافة الإسلامية جائرين
جارين في أكثر أحكامهم على ما يسمى في عرف أهل هذا العصر بالملكية المطلقة،
فلذلك بدأ الترك بتقييدهم بالقانون الأساسي تقليدًا لأمم أوروبا، وسبب ذلك جهل
الذين قاموا بهذا الأمر بأحكام الشرع الإسلامي (كمدحت باشا وإخوانه) ثم قام
الكماليون أخيرًا بإسقاط هذه الدولة، ورفض السلطة الشخصية بجملتها وتفصيلها.
***
13-
دار العدل ودار الجور والتغلب:
دار الإسلام وما يقابلها من دار الحرب معروفان، ولهما أحكام كثيرة. وقد
تكرر فيما نقلناه عن العلماء من أحكام الخلافة ذكر دار العدل، وهي دار الإسلام
التي نصب فيها الإمام الحق، الذي يقيم ميزان العدل، تُسمى بذلك إذا قوبلت بدار
البغي والجور، وهي ما كان الحكم فيها بتغلب قوة أهل العصبية من المسلمين،
وعدم مراعاة أحكام الإمامة الشرعية وشروطها، وأهل دار العدل هم الذين يسمَّون
الجماعة، وهم الذين يجب على جميع المسلمين اتباعهم واتباع إمامهم اختيارًا،
وعدم اتباع من يخالفهم إلا اضطرارًا، وهذان الداران قد توجدان معًا في وقت واحد،
وقد توجد إحداهما دون الأخرى، ولكل منهما أحكام.
أما دار العدل فطاعة الإمام فيها في المعروف واجبة شرعًا ظاهرًا وباطنًا،
ولا تجوز مخالفته إلا إذا أمر بمعصية لله تعالى ثابتة بنص صريح من الكتاب
والسنة دون الاجتهاد والتقليد، ويجب قتال من خرج عليه من المسلمين أو بغى في
بلاده الفساد بالقوة، كغيره من القتال الواجب شرعًا، وتجب الهجرة من دار الحرب
ومن دار البغي إلى هذه الدار على من استضعف فيهما فظلم أو منع من إقامة دينه،
وعلى من تحتاج إليهم دار العدل لحفظها ومنعها من الكفار أو البغاة، ولغير ذلك من
المصالح الواجبة لإعزاز الملة، إذا توقف هذا الواجب على هذه الهجرة. وأما دار
البغي والجور فالطاعة فيها ليست قربة واجبة شرعًا لذاتها، بل هي ضرورة تقدر
بقدرها، وتقدم تفصيل القول فيها.
ومن الظلم الموجب للهجرة منها على من قَدَرَ إلى دار العدل - إن وُجدت -
حمل المتغلبين من يخضع لهم على القتال لتأييد عصبيتهم والاستيلاء على بعض بلاد
المسلمين، فمن قدر على التفصي من ذلك وجب عليه، فأمرها دائمًا دائر على قاعدة
ارتكاب أخف الضررين، والظاهر أن يفرق بين قتالهم لأهل العدل فلا تباح الطاعة
فيه بحال، وبين قتال غيرهم كأمثالهم من المتغلبين، وفيه تفصيل لا محل لبيانه هنا.
وأما الجهاد الشرعي فيجب مع أئمة الجور؛ ومنه دفاعهم عن بلادهم إذا اعتدى عليها
الكفار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة
فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى
عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقِتلةٌ جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها
وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست
منه. وفي رواية: يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي) رواه مسلم
والنسائي من حديث أبي هريرة. والعمية بضم العين وكسرها (لغتان) وتشديد الميم
وفسروها بالكبر والضلال، والمراد بها عظمة القوة والبطش، والتغلب الذي لا
يراد به الحق، ولذلك بينه بأنه يغضب للعصبة، وهي بالتحريك: قوم الرجل
الذين يعصبونه ويعتصب بهم، أي يقوى ويشتد، وفي رواية (العصبية) وهي نسبة إلى العصبة.
وأنت تعلم أن المتغلبين ما قاموا ولا يقومون إلا بالعصبية، المراد بها عظمة
الملك العمية، لا يقصدون بقتالهم إعلاء كلمة الله، ولا إقامة ميزان الحق والعدل
بين جميع الناس، وما أفسد على هذه الأمة أمرها، وأضاع عليها ملكها إلا جعل
طاعة هؤلاء الجبارين الباغين واجبة شرعًا على الإطلاق، وجعل التغلب أمرًا
شرعيًّا كمبايعة أهل الاختيار من أولي الأمر وأهل الحل والعقد للإمام الحق،
وجعل عهد كل متغلبِ باغٍ إلى ولده أو غيره من عصبته لأجل حصر السلطان
والجبروت في أسرته - حقًّا شرعيًّا وأصلاً مرعيًّا لذاته، وعدم التفرقة بين
استخلاف معاوية لولده يزيد الفاسق الفاجر بالرغم من أنوف المسلمين، وبين عهد
الصديق الأكبر للإمام العادل عمر بن الخطاب ذي المناقب العظيمة بعد مشاورة أهل
الحل والعقد فيه وإقناعهم به، والعلم بتلقيهم له بالقبول.
***
14-
كيف سُن التغلب على الخلافة:
كان سبب تغلُّب بني أمية على أهل الحل والعقد من الأمة أن قوة الأمة
الإسلامية الكبرى في عهدهم كانت تفرقت في الأقطار التي فتحها المسلمون وانتشر
فيها الإسلام بسرعة غريبة وهي مصر وسورية والعراق، وكان أهل هذه البلاد
قد تربوا بمرور الأجيال على الخضوع لحكامهم المستعمرين من الروم والفرس،
فلما صارت أزمَّة أمورهم بيد حكامهم من العرب استخدمهم معاوية الذي سن سنة
التغلب السيئة في الإسلام على الخضوع له بجعل الولاة فيهم من صنائعه الذين
يؤثرون المال والجاه على هداية الإسلام وإقامة ما جاء به من العدل والمساواة،
وصار أكثر أهل الحل والعقد الحائزين للشروط الشرعية محصورين في البلدين
المكرمين (مكة المكرمة والمدينة المنورة) وهم ضعفاء بالنسبة إلى أهل تلك
الأقطار الكبيرة الغنية التي تعول الحجاز وتغذيه.
أخذ معاوية البيعة لابنه الفاسق يزيد بالقوة والرشوة، ولم يلق مقاومة تذكر
بالقول أو الفعل إلا في الحجاز، فقد روى البخاري والنسائي وابن أبي حاتم في
تفسيره - واللفظ له - من طرق أن مروان خطب بالمدينة وهو على الحجاز من قِبَل
معاوية فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين في ولده يزيد رأيًا حسنًا، وإن يستخلفه فقد
استخلف أبو بكر وعمر وفي لفظ: سنة أبي بكر وعمر - فقال عبد الرحمن بن أبي
بكر: سنة هرقل وقيصر! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده إلخ. وفي
رواية: سنة كسرى وقيصر، إن أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما. ثم حج
معاوية ليوطئ لبيعة يزيد في الحجاز، فكلم كبار أهل الحل والعقد أبناء أبي بكر وعمر
والزبير فخالفوه وهددوه إن لم يردها شورى في المسلمين، ولكنه صعد المنبر وزعم
أنهم سمعوا وأطاعوا وبايعوا يزيد، وهدد من يكذبه منهم بالقتل.
وأخرج الطبراني من طريق محمد بن سعيد بن زمانة أن معاوية لما حضره
الموت قال ليزيد: قد وطأت لك البلاد ومهدت لك الناس ولست أخاف عليك إلا
أهل الحجاز، فإن رابك منهم ريب فوجه إليهم مسلم بن عقبة فإني قد جربته وعرفت
نصيحته. قال: فلما كان من خلافهم عليه ما كان، دعاه فوجهه فأباحها ثلاثًا، دعاهم
إلى بيعة يزيد وأنهم أعبُدٌ له وقِنٌّ في طاعة الله ومعصيته.
وأخرج أبو بكر بن خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء: سمعت أشياخ
في المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل
المدينة يومًا فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإني عرفت نصيحته إلخ. ذكره
الحافظ في الفتح. أباح عدو الله مدينة الرسول ثلاثة أيام فاستحق هو وجنده اللعنة
العامة في قوله صلى الله عليه وسلم عند تحريمها كمكة (من أحدث فيها حدثًا أو آوى
مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفًا ولا
عَدْلاً) أي فرضًا ولا نفلاً. متفق عليه. فكيف بمن استباح فيها الدماء والأعراض
والأموال؟
وكان الحسن البصري يقول: أفسد أمرَ الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم
أشار على معاوية برفع المصاحف - وذكر مفسدة التحكيم - والمغيرة بن شعبة. وذكر
قصته إذ عزله معاوية عن الكوفة فرشاه بالتمهيد لاستخلاف يزيد فأعاده. قال الحسن:
فمن أجل هذا بايع هؤلاء الناس لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة
اهـ. ملخصا من تاريخ الخلفاء.
وهذا الذي قاله الحسن البصري - من أئمة التابعين - موافق لما قاله ذلك
السياسي الألماني لأحد شرفاء الحجاز من أنه لولا معاوية لظلت حكومة الإسلام على
أصلها، ولساد الإسلام أوروبا كلها، وقد تقدم.
وقد اضطرب أهل الأهواء ومن لا علم لهم بشيء من حقيقة الإسلام ونشأته
إلا من أخبار المؤرخين وهي أمشاج لم يكن يميز صحيحها من ضعيفها وحقها من
باطلها إلا الحفاظ من المحدثين، فنجد من هؤلاء من يميل إلى النواصب أو
الخوارج ومن يرجح جانب غلاة الشيعة ، وكان أستاذنا الشيخ حسين الجسر ينشد:
من طالع التاريخ مع أنه
…
لم يتمسك باعتقاد سليم
أصبح شيعيًّا وإلا فقُل: يخرج عن نهج الهدى المستقيم
ولذلك نجد في المصريين وغيرهم من المنتمين إلى مذاهب السنة - على غلو
دهمائهم في تعظيم آل البيت - مَن هو ناصبي يفضل بني أمية على العلويين، ويزعم
أنهم أعزوا الإسلام وأقاموا الدين، والتحقيق أن فتح الإسلام لكثير من البلاد في
أيامهم الذي هو حسنتهم العظيمة كان أمرًا اقتضته طبيعة الإسلام والإصلاح الذي
جاء به لإنقاذ البشر، ولم يكن لغير عمر بن عبد العزيز منهم عمل انفرد به في
إقامة الدين نفسه، ولم يكن لهم عمل في ذلك مختص بدولتهم بحيث يقال: إنه
لولاهم لرجع الإسلام القهقرى في العلم والعمل أو الفتح، وما كان لهم من عمل
حسن في هذه الأمور، فقد كان لمن بعدهم من العباسيين مثله، وكلاهما تابع في
الدين للخلفاء الراشدين لا متبوع. وأما الأمور المدنية التي استتبعت الفتح الإسلامي
فلكل من الفريقين فيها عمل، وإنما سيئة الأمويين التي لا تغفر ما سنوه في قاعدة
حكومة الإسلام، فهي انتخابية شورى في أولي الاختيار من أهل الحل والعقد، وقد
نسخوها بالقاعدة المادية: القوة تغلب الحق، فهم الذين هدموها، وتبعهم من بعدهم
فيها.
ومن اطلع على كتب السنة يعلم أن الله تعالى قد أطلع رسوله صلى الله عليه
وسلم على مستقبل أمته، وأن ما وقع كان مما تقتضيه طباع البشر بحسب قدر الله
وسنته، وقد أخبر بذلك بعض أصحابه بالتلميح تارة وبالتصريح أخرى، ومنهم أبو
هريرة الذي روى عنه في الصحاح والسنن والمسانيد عدة أحاديث وآثار في ذلك،
وأنه كان يستعيذ بالله من إمارة الصبيان ومن رأس الستين، وهي السنة التي ولي
فيها يزيد (وقد مات قبلها) وكان يقول: لو قلت لكم: إنكم ستحرقون بيت ربكم
وتقتلون ابن نبيكم لقلتم: لا أَكذَبَ من أبي هريرة. يعني قتل الحسين وقد وقع بعده.
وأخرج البخاري وغيره من طريق عمر بن يحيى بن سعيد بن العاص الأموي قال:
أخبرني جدي قال: كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
ومعنا مروان (هو ابن الحكم بن أبي العاص وكان أمير المدينة لمعاوية) قال أبو
هريرة: سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول: (هلكة أمتي على
أيدي غلمة من قريش) فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو
شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت. فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان
حين ملكوا الشام فإذا رآهم غلمانًا أحداثًا قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم، قلنا:
أنت أعلم اهـ. وإنما أهلكوا الأمة بإفساد حكومتها الشرعية الإصلاحية، وإلا فقد
وسعوا ملكها بتغلب العصبية.
قال الحافظ في شرح الحديث: قال ابن بطال: وفي هذا الحديث حجة لما تقدم
من ترك القيام على السلطان ولو جار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم أبا هريرة
بأسماء هؤلاء ولم يأمرهم بالخروج عليهم، مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم،
لكون الخروج أشد في الهلاك وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم، فاختار أخف
المفسدتين، وأيسر الأمرين اهـ.
ونقول: ما ذكر من القاعدة صواب، وما قبله من تطبيق النازلة عليها لا
يصح، فقد قاوم أهل الحجاز فغُلبوا على أمرهم، والصواب ما بيناه من قبل من تفرق
جماعة الإسلام العالمة العادلة في الممالك، وكون من بقي منهم بالحجاز ضعفاء بالنسبة
إلى المملكة الإسلامية الجديدة، فلم يكن أمر الخروج ممكنًا إلا بعصبية كعصبيتهم كما
فعل بنو العباس، وقد مهَّد أكثر العلماء السبيل للاستبداد والظلم بمثل هذا الإطلاق في
الخضوع لأهلهما، وقد تكرر بيان التحقيق فيه.
ثم قال الحافظ: يُتعَجَّب من لعن مروان الغلمة المذكورين مع أن الظاهر أنهم
من ولده، فكأن الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشد في الحجة لعلهم يتعظون.
وقد وردت أحاديث في لعن الحَكَم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني وغيره
غالبها فيه مقال وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك
اهـ. وقوله: (من ولده) يصدق على الأكثر وإلا فإن يزيد بن معاوية أول من
كان يعني أبو هريرة بالغلمة والصبيان.
وجملة القول: أن مرادنا من هذا البحث بيان مفسدة إخراج الخلافة الإسلامية
عما وضعها عليه الإسلام، وجعلها تابعة لقوة العصبية والتغلب، فهذه المفسدة هي
أصل المفاسد والرزايا التي أصابت المسلمين في دينهم ودنياهم. وقد كررنا ذكرها
لتحفظ ولا تنسى.
ومن أغرب الغرائب أن قصّر المسلمون عن غيرهم من أهل الملل التي كانوا
قد فاقوها في العلم والعمل، بأن لم يقم أحد منهم بعمل منظم لإعادة حكم الإسلام كما
بدأ، بل رضوا بالتفرق والانقسام والظلم والاستذلال مِن كل مَن تولى الأمر في
قطر من أقطارهم، حتى سهل عليهم مثل ذلك من غيرهم، فكانوا كما قلنا في
المقصورة:
من ساسه الظلم بسوط بأسه
…
هان عليه الذل من حيث أتى
ومن يهن هان عليه قومه
…
وماله ودينه الذي ارتضى
أفلم يأتهم نبأ ما فعل البابوات من تنظيم الجمعيات وجمع القناطير من الدنانير
لأجل إعادة سلطانهم الديني؟ ألا إننا قلدنا غيرنا فيما يضر، ولم نقلد ولا استقللنا فيما
ينفع في هذا الأمر، ولا يزال فينا من يجدّ في نبذ ما بقي من قشور سلطان الخلافة
الإسلامية بعد ذهاب لبابها، ويظنون أن وجودها هو الذي أضعف ملكنا وإنما أضعفه
ذهابها. فإن ما لا نزال ندعيه منها للمستبدين كذب على الإسلام، ولو استمسكنا
بعروتها الوثقى لكنا سادة العالمين، وقد عرف هذا كثير من علماء الأجانب ولم يعرفه
أحد من زعمائنا السياسيين.
***
15-
وحدة الخليفة وتعدده:
أصل الشرع أن يكون رئيس الحكومة - وهو الإمام - واحدًا، وهذا أمر
إجماعي
عند جميع الأمم كالمسلمين، وسببه معروف وهو أن أمر الحكومة أولى من كل أمر
عام له شُعب كثيرة بأن تكون له جهة واحدة يُضبط بها النظام وتُتقى الفوضى. قال
الكمالان في (المسايرة) وشرحها [6](ولا يولى) الإمامة (أكثر من واحد) لقوله
صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) رواه مسلم من
حديث أبي سعيد الخدري، والأمر بقتله محمول كما صرح به العلماء على ما إذا لم
يندفع إلا بالقتل، فإذا أصر على الخلاف كان باغيًا، فإذا لم يندفع إلا بالقتل قتل،
والمعنى في امتناع تعدد الإمام أنه منافٍ لمقصود الإمامة من اتحاد كلمة أهل الإسلام
واندفاع الفتن، وأن التعدد يقتضي لزوم امتثال أحكم متضادة (قال الحجة - حجة
الإسلام الغزالي: فإن ولي عدد موصوف بهذه الصفات فالإمام من انعقدت له البيعة من
الأكثر، والمخالف باغٍ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق وكلام غيره من أهل السنة
اعتبار السبق فقط فالثاني يجب رده) ا. هـ ودليل الجمهور نص الحديث.
وقال الماوردي (في ص7) : (وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم
تنعقد إمامتهما؛ لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم
فجوزوه) اهـ. وأقول: إنما جوَّزه من جوَّزه في حال تعذر الوحدة، وهذا هو
الخلاف الذي نقله العضد في المواقف، إذ قال: (ولا يجوز العقد لإمامين في صقع
متضايق الأقطار، أما في متسعها بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد)
قال شارحه السيد الجرجاني: لوقوع الخلاف.
واعتمد الجواز مُحشّيه الفناري وهو من أشهر علماء الروم أو الترك. وأما
في حال إمكان الوحدة فلا نعلم أن أحدًا من العلماء الذين لعلمهم قيمة قال بجواز
التعدد، وقول من قال بالتعدد للضرورة أقوى من قول الجمهور بإمامة المتغلب
للضرورة، إذا كان كل من الإمامين أو الأئمة مستجمعًا للشروط مقيمًا للعدل، فإن
كان في هذه تفرق فهو في غير عدوان ولا عداوة، وفي تلك بغي وجور ربما يفسد
الدين والدنيا معًا، بل أفسدهما بالفعل.
وقد بسط ترجيح هذا القول السيد صديق خان بهادر في آخر كتابه الروضة
الندية [7] قال:
(وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به
كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم - فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد
ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة. وأما إذا بايع كلَّ واحد منهما
جماعةٌ في وقت واحد، فليس أحدهما أولى من الآخر، بل يجب على أهل الحل
والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما. فإن استمرا على
التخالف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا
تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك) .
(وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار
في كل قطر من أقطار [8] الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار
كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو أقطاره التي رجعت إلى
ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، وتجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة
على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا
قام من ينازعه في القطر الذي ثبت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل
إذا لم يتب [9] ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته
لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يُدرى
مَن قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق، وهذا
معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد، فإن أهل الصين والهند لا
يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلاً عن أن يتمكنوا من طاعته، وهكذا
العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن، وهكذا
العكس. فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة،
ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في
أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر ذلك فهو مباهت
لا يستحق أن يخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها، والله المستعان) اهـ.
هذا أوجه تفصيل قيل في جواز التعدد للضرورة، وهو اجتهاد وجيه،
ويشبهه عند بعض الأئمة تعدد الجمعة في البلد الواحد، فالأصل في الشرع أن
يجتمع أهل البلد كلهم في مسجد واحد؛ لأن للشارع حكمة جلية في الاجتماع، فإن
تعددت فالجمعة للسابق، والمتأخر لا يعتد بجمعته، فمتى علم أنها أقيمت في مسجد لم
يجز أن تقام ثانية فيه ولا في غيره من ذلك البلد، ومن أقامها كانت صلاتهم باطلة
وكانوا آثمين ولا تسقط عنهم صلاة الظهر، وجوَّز التعدد للضرورة بقدرها أشد
المانعين حظرًا له في حال الاختيار.
وظاهر كلام الجمهور الذين أطلقوا منع تعدد الإمام الحق، أن المسلمين الذين
لا يستطيعون اتباع جماعة المسلمين في دار العدل لبعد الشقة وتعذر المواصلة،
يعذرون في تأليف حكومة خاصة بقطرهم، ويكون حكمهم فيها حكم من أسلموا
وتعذرت عليهم الهجرة إلى دار الإسلام لنصرة الإمام، ولا تكون دارهم مساوية لدار
العدل وجماعة الإمامة الذين أقاموا الشرع قبلهم، بل يجب عليهم اتخاذ الوسائل
للالتحاق بها، وجمع الكلمة ولو باستمداد السلطة منها، ونصرة إمامها وجماعتها
بقتال من يقاتلهم عند الإمكان، كما يجب على الجماعة مثل ذلك لهم في حال
الاعتداء عليهم، وإذا صح أن يكون حكمهم كحكم من لم يهاجروا إلى دار الإسلام،
فالحكم في نصرهم يدخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن
وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَاّ عَلَى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} (الأنفال: 72) على القول المختار بأن هذه الآية في
الولاية العامة، لا فيما كان من ولاية التوارث خاصة.
وجملة القول: أن جمهور المسلمين على أن تعدد الإمامة الإسلامية غير جائز،
ومقتضاه أن الحكومة الإسلامية التي تتعدد للضرورة وتُعذر في ترك اتباع
الجماعة هي حكومة ضرورة تعتبر مؤقتة وتنفذ أحكامها، ولكن لا تكون مساوية
للأولى، وإن كانت مستجمعة لشروط الإمامة مثلها، وظاهر القول الآخر الذي
عدوه شاذًّا أنها إذا كانت مستجمعة للشروط كانت إمامة صحيحة، وهذا هو التعدد
الحقيقي، ولكن لم يختلف اثنان في أنها للضرورة، فإذا زالت وجبت الوحدة،
ولهذه المسائل أحكام كثيرة لا محل هنا للبحث فيها.
ولكن لا بد من البحث في ثبوت هذه الضرورة، فإن بُعْدَ الشقة بين البلاد،
وتعذر المواصلات التي يتوقف عليها تنفيذ الأحكام، مما يختلف باختلاف الزمان
والمكان، فلا يصح أن يجعل عذرًا دائمًا لصدع وحدة الإسلام، وقد تقارب الزمان
في عهدنا هذا مصداقًا لما ورد في بعض الأحاديث المنبئة بالأحداث المستترة في
ضمائر الغيب، فاتصلت الأقطار النائية بعضها ببعض، في البر والبحر،
بالبواخر والسكك الحديدية، ثم بالمراكب الهوائية (الطيارات والمناطيد) التي
صارت تنقل البرد والناس مسافة مئات وألوف من الأميال في ساعة أو ساعات،
دع نقل الأخبار بقوة الكهرباء من أول الدنيا إلى آخرها في دقائق معدودات، ولو
كانت هذه الوسائل في عصر سلفنا لملكوا العالم كله (هو ما يطمع به بعض الأمم
اليوم، وهذه شعوب الشمال في أوروبا قد سادت معظم شعوب الجنوب والشرق،
وبين الفريقين منتهى أبعاد العمران من الأرض) .
ولكن المسلمين قصروا في هذه الوسائل، فبعض بلادهم محرومة منها كلها،
وما يوجد في بعضها فهم عالة فيه على الإفرنج، وإن شرعهم يفرضها عليهم فرضًا
دينيًّا من وجوه: أهمها أن كثيرًا من الفرائض والواجبات تتوقف عليها أو لا تتم إلا
بها، كحفظ المملكة والدفاع عنها، والإعداد لأعدائها ما نستطيع من قوة كما أمرنا
كتابنا، وقد صار هذا من الفرائض العينية علينا؛ لاستيلائهم على أكثر بلادنا،
ويتحقق الوجوب العيني على الرجال والنساء باستيلاء الأعداء على قرية صغيرة
منها، دع توقف وحدة السلطة عليه بالخضوع لإمام واحد يقيم الحق والعدل فينا،
منفذًا به أحكام شرعنا.
فأمام وحدة الإمام الواجبة واجبات كثيرة قد فرط فيها المسلمون من قبل،
بقبولهم أحكام التغلب التي أضاعت جل ما جاء به الإسلام لإصلاح البشر في شكل
حكومتهم وصفاتها وغير ذلك، فأي واجب منها أقاموا حتى يطالبوا بهذا الواجب.
***
16-
وحدة الإمامة بوحدة الأمة:
وحدة الإمامة تتبع وحدة الأمة، وقد مزقت العصبية الجنسية الشعوب
الإسلامية بعد توحيد الإسلام إياها برب واحد وإله واحد وكتاب واحد، وشرع
واحد، ولسان واحد، فأنى يكون لها إمام واحد، وهي ليست أمة واحدة؟
لا أقول: هذا محال في نفسه، وإنما أقول: إنني لا أعرف شعبًا من شعوب
المسلمين ولا جماعة من جماعاتهم المنظمة تقدره قدره، وتسعى إليه من طريقه،
فهم في دركة من الجهل والتخاذل والتفرق المذهبي والتعصب الجنسي وضعف
الهمة تقعد بهم عن التسامي إلى مثل هذا المثل الأعلى في الكمال الديني
والاجتماعي. وحمل البلاد الإسلامية ذات الحكومات المستقلة على الخضوع لرئيس
واحد بالقوة العسكرية مما لا سبيل إليه في هذا الزمان، ولا سبيل أيضًا إلى إقناع
حكومات هذه البلاد باتباع واحد منهم بالرضا والاختيار.
والحكومات المستقلة الآن هي حكومات الترك والفرس والأفغان ونجد واليمن
العليا - وهي النجود وما يتبعها - واليمن السفلى والحجاز، وقد استقلت بعض
الأقطار الإسلامية التي كانت تابعة لروسية القياصرة كبخارى وخيوة، ولكن استقلالها
لم يستقر بعد، على أنه قد اعترف به في المعاهدة التركية الأفغانية، ومثلهما أذريبجان
ودونهما كردستان، وهذه الحكومات الصغيرة تجزم الدولة التركية بأنها ستسودهن
وتدغهن في جامعتها الطورانية. وكذا سائر شعوب القوقاس الإسلامية، ولا توجد
حكومة منهم يمكن أن تدعي الخلافة الدينية، فبقي الكلام في الحكومات العربية،
والدول الثلاث الأعجمية.
فأما أهل اليمن العليا فيعتقدون أن الإمامة الشرعية الصحيحة محصورة فيهم
منذ ألف سنة ونيف لأن أئمتهم ينتخبون انتخابًا شرعيًّا تُرَاعى فيه جميع الشروط
الشرعية التي يشترطها أهل السنة مع زيادة مراعاة مذهبهم الزيدي، وأن هذه
الزيادة لا تعارض مذهب أهل السنة، وأنهم يحكمون بالشرع ويقيمون الحدود.
ومذهبهم في الفروع قلما يخالف مذاهب السنة الأربعة، ولا سيما مذهب
الحنفية، فلا مطمع في إقناعهم باتباع غيرهم، وقد قاتلهم الترك عدة قرون ولم
يستطيعوا إزالة إمامتهم، ولكن جيرانهم من العرب وسائر المسلمين لا يعتدون
بإماماتهم، وهم لا يدعون إليها ولا يستعدون لتعميمها، وقد اعترف بصحتها إمام
حفاظ السنة، وقاضي قضاة مصر وشيخ مشايخ الإسلام في أزهرها لعهده: الحافظ
أحمد بن حجر العسقلاني في شرحه لحديث: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي
اثنان) من صحيح البخاري.
وأما السيد الإدريسي فهو على كونه حاكمًا مستقلاًّ. وسيدًا علويًّا وفقيهًا
أزهريًّا، ومرشدًا صوفيًّا، لم يدَّع منصب الخلافة فيما نعلم، ولم يدْع رؤساء
إمارته إلى مبايعته بها، ولكن أهل بيته وجماعته يعتقدون أنه أحق بها من شرفاء
الحجاز، ويلقبونه بالسيد الإمام، ولقبه بعضهم بصاحب الجلالة الهاشمية، وقد نقل
لنا الثقات أن الملك حسينًا اجتهد في استمالته للاعتراف بالتبعية للحجاز في السياسة
الخارجية أو بالاسم فقط - فلم يفلح كما أنه لم يفلح سعيه لدى الإمام يحيى كذلك،
وقد استغرب كل منهما هذا السعي. وبلغنا أن السيد الإدريسي كان يفضل
الاعتراف بسيادة الترك السياسية على بلاده في الأمور الخارجية هربًا من دسائس
الإفرنج وتقوية للروابط الإسلامية. وأما حكومة الحجاز فهي جديدة ولا يُعرف لها
نظام ثابت، وإنما ملك الحجاز هو هنالك الحكومة وكل شيء، وقد بايعه أهل
مكة على أنه ملك العرب ثم بايعه آخرون من سورية وغيرها بالخلافة وإمارة
المؤمنين على عهد وجود ولده فيصل فيها قبل إعلان استقلال دمشق، وذلك كما
يبايع أمثالهم في سورية ومصر الخليفة في الآستانة، ويظهر أن ولده فيصل ملك
العراق وولده عبد الله أمير شرق الأردن مُصرَّان على بذل نفوذهما لجعله هو
الخليفة، وأخذ المبايعة له من سورية والعراق عند سُنُوح الفرصة، وقد نشر في
جريدة القبلة مقالات قديمة وحديثة في بطلان خلافة خلفاء الترك في الآستانة
وتكفيرهم وتكفير حكومتهم. وقد كان في عمان مسجد متداع فأمر الأمير عبد الله
بتجديد بنائه فوضع له قاضيه الشيخ سعيد الكرمي تاريخًا في أبيات من الشعر
نقشت على لوح من الرخام وضع فوق بابه، قال في أولها:
حسين بن عون من بنى مجد عدنان
…
فصار أمير المؤمنين بلا ثاني
أعاد له حق الخلافة بعد ما
…
ثوت زمنًا بالغصب في آل عثمان
وقد جعل هذا القاضي بناء حسين لما سماه مجد عدنان سببًا لصيرورته أمير
المؤمنين الذي لا ثاني له في بلاد الإسلام، وهو لم يبن لعدنان مجدًا، ومجد عدنان
ليس سببًا للخلافة، وإنما يرضي الناظمُ بذلك أميرَه الذي كان ولا يزال يسعى
لتحقيق جعل والده خليفة، ولكنه طعن في إمامة يحيى حميد الدين الذي يخطب
أميره ووالد أميره الملك وده، لا في خلافة أعدائه الترك فقط، ولا يستطيع أحد أن
يقرن به أحدًا من شرفاء الحجاز وأمثالهم ممن يرون أنفسهم أهلاً للإمامة بأنسابهم
فقط، فإنه على تواتر نسبه الهاشمي العلوي، وصراحته بخلوه من شوائب الرق
غير الشرعي: عالم مجتهد، شجاع مدبر، ذو شوكة ومنعة يقدر بهما على حفظ
استقلاله، وقد بويع بالإمامة منذ عشرات من السنين، والمعترفون بإمامته يزيدون
على عدد أهل الحجاز، وكذا على أهل سورية كلها والعراق.
ليس من غرضنا هنا مناقشة هؤلاء ولا غيرهم في دعاويهم ولا أغراضهم، بل
بيان الواقع في البلاد الإسلامية المستقلة، وهو أن ملك الحجاز وأولاده يعتقدون أن
الخلافة حقهم بنسبهم ومركزهم في الحجاز، وأنهم ينالونه بمساعدة الدولة اللبنانية
لهم، وقد قال أحدهم - عبد الله أمير شرق الأردن في الإسكندرية: إن الخلافة لنا.
ونقلت الجرائد المصرية هذا عنه ورُدَّ عليه في بعضها.
وأما أهل نجد فحنابلة سلفيون وهم يسمون أميرهم إمامًا، ولا يسمونه خليفة
ولم يبلغني أنه يدعي الخلافة العامة، ولكنهم يعتقدون أنه لا يوجد أمير مسلم يقيم
دين الله كما أنزله غيره، وأن بلادهم دار العدل وجماعة المسلمين والهجرة إليها
واجبة بشروطها. فلا مطمع في اتباعهم لغيرهم. وقد اتهموا بانتحال مذهب جديد
نَفَّرَ منهم غيرَهم، وهم لا يبالون ما يقال فيهم، ولا يدعون أحدًا إلى اتباعهم، إلا
البدو المجاورين لهم، الذين لا يعرفون من الإسلام عقيدة ولا عملا، فيدعونهم إلى
التدين وترك البداوة واتباع حكومتهم الإسلامية التي تقيم شرع الله وحدوده على
مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل.
فهذا ملخص ما نعلم من حال البلاد العربية المستقلة، وتركنا ذكر حكومة
عمان الإباضية؛ لأن نفوذ الإنكليز فيها كبير فأهلها لا يهتدون سبيلاً إلى الارتباط
بغيرهم، ومذهب أكثرهم إباضي، فهم من الخوارج الذين لا يقيدهم مذهبهم بشرط
القرشية، وقد علمت من سلطان مسقط السابق أنه كان يتمنى الارتباط بالدولة
العثمانية.
وأما الدول الأعجمية المستقلة: فالإيرانية منها شيعة إمامية، والإمامة عندهم
للإمام محمد المهدي المنتظر، فلا تعترف بإمامة أخرى لغيره وإنما ترتبط بغيرها من
الدول الإسلامية بنوع المخالفات السياسية.
والأفغانية سنية، وقد اعترفت في المحالفة التي عقدت بينها وبين الحكومة
التركية الجديدة في أنقرة بأن الدولة التركية دولة الخلافة، ولكن لم تعترف لها
بسيادة ما عليها. بل كانت محالفتها محالفة الند للند.
وقد كان نص المادة الثالثة من هذه المحالفة التي وضعت في (أنقرة) قد
جعل الدولة الأفغانية في مكان التابع من الدولة التركية، وهذه ترجمته التي نشرت
في جريدة الأخبار المصرية لمراسلها في (كابل - عاصمة الأفغان) .
(تصدق الدولة الأفغانية بهذه المناسبة على أنها تقتدي بتركيا التي تخدم
خدمات جليلة وتحمل علم الخلافة الإسلامية) أي تقر وتعترف بهذه القدوة.
وذكر المراسل أن أمير الأفغان لم يقبل هذا النص بل غيَّرَه (بأن الدولة
الأفغانية لا تقتدي بالدولة العلية التركية، وإنما عليها أن تعترف بأنها دولة الخلافة)
وقد كان هذا قبل الانقلاب التركي الأخير، وذكر في بعض الجرائد أن الأفغان
أنكروا منه جعل الخلافة روحية لا شأن لها في السياسة والأحكام، وإذا آل الأمر إلى
اعترافهم بصحة الخلافة العثمانية التركية شرعًا فلا مندوحة لهم عن اتباع الخليفة
لأنهم قوم مسلمون مستمسكون بدينهم استمساكًا عظيمًا.
ولكن الظاهر أن جميع الذين يعترفون للعثمانيين من الترك بالخلافة ولا
يتبعون حكومتهم فإنما يعترفون لهم بلقب من ألقاب الشرف، لصاحبه نفوذ معنوي
لدى الدول. وإلا فلا معنى لكون الرجل خليفة المسلمين إلا أنه إمام دينهم ورئيس
حكومتهم الذي تجب طاعته عليهم. وتباح دماؤهم في الخروج عليه والاستقلال
بالحكم دونه. وأما المتغلب الذي لا يطاع إلا بالقهر فلا يجوز لغير من قهرهم
الاعتراف له بالخلافة، وإن من العبث بالإسلام أن تجعل إمامته الكبرى مجرد لقب
من ألقاب المدح والشرف.
هذا، وأما البلاد الإسلامية الرازحة تحت أثقال السيطرة الأجنبية كمصر وسائر
أقطار أفريقية الشمالية وسورية والعراق - فليس لها من أمر حكمها أو حكومة دينها
شيء، وليس فيها جماعة تتصرف في ذلك بحل ولا عقد، فلو أن رؤساء الحكومة
والشعب في قطر منها - وهم الذين كانوا لولا السلطة الأجنبية أهل الحل والعقد فيها -
أرادوا أن يبايعوا خليفة في بلاد الترك أو العرب مثلاً مبايعة صحيحة، وهي ما
توجب عليهم أن يكونوا خاضعين لسلطانه، مطيعين في أمورهم العامة لأمره ونهيه،
ناصرين له على من يقاتله أو يبغي عليه - لما استطاعوا أن يمضوا ذلك
وينفذوه بدون إذن الدولة الأجنبية المسيطرة عليهم، وهي لن تأذن وإن كانت تدعي
أنها لا تعارض المسلمين في أمور دينهم، وأنها تاركة أمر الخلافة إليهم.
وأما الأفراد والجماعات الذين ليس لهم رئاسة ولا نفوذ في قيادة الشعب، ولا
يستطيعون أن يطيعوا إذا بايعوا، كأن ينفروا إذا استنفروا، وينصروا إذا
استنصروا - فقد يسمح لهم في بعض هذه الأقطار أن يقولوا ماشاءوا، وفي بعضها
لا يسمح لهم بذلك. ورأي السواد الأعظم من المسلمين في كل قطر من هذه الأقطار
مخالف لرأي الدولة المسيطرة عليه، ومن ذلك مبايعة بعض الأفراد والجماعات
المصرية والهندية للخليفة التركي الجديد، ولو أراد مثل ذلك أهل تونس والجزائر
لما أبيح لهم مع عِلم فرنسة المسيطرة عليهم أن هذه المبايعة لا يترتب عليها اتباعهم
لحكومته التركية. وأن هذه الحكومة نفسها غير تابعة لخليفتها، بل هو تابع لها
وموظف عندهم وهي التي تحدد عمله ووظيفته.
وصفوة القول أن الشعوب الإسلامية المقهورة بحكم الأجانب ليس لها من
أمرها إلا ما يجود به عليها الأجانب القاهرون لها. ولا يمكنها أن تساعد على وحدة
الأمة التي تتوقف عليها وحدة الإمامة، إلا من طريق بث الدعوة وبذل المال، وأن
الشعوب المستقلة لا مطمع الآن بجمع كلمتها بترك التعصب لمذاهبها ولجنسيتها،
وإيجاد خلافة صحيحة قوية توحد حكومتها. وأقرب منه عقد موالاة ودية أو
محالفات سياسية عسكرية بينها، وقد بدأ بذلك الأعاجم منها. وأما العربية فقد عز
إلى اليوم التأليف بينها، فإذا يسره الله تيسر اتفاقها مع غيرها، وكان ذلك تمهيدًا
للإمامة العامة التي تجمع كلمتها كلها.
ومن ذا الذي يطالب بإعادة تكوين الأمة الإسلامية المنحلة العُقَد المفككة
المفاصل، وبإعادة منصب الخلافة إلى الموضع الذي وضعه الشارع فيه؟ أهل
الحل والعقد - أهل الحل والعقد. ومن وأين هم اليوم؟
***
(استدراك أو تصحيح)
كنا عند كتابة ما تقدم تركنا الكلام على الخلافة العثمانية التركية؛ لأن أصل
السياق فيها، والبحث موجه إلى بيان حالة المسلمين وحكومتهم المستقلة التي لا
يمكن تعميم الخلافة بكفالة الترك لها إلا باتفاقهن عليها، ثم بدا لنا أن نكتب كلمة
فيها ليكون بحثنا تامًّا جامعًا لكل ما تنجلي به المسألة من الجهة الشرعية ومن جهة
المصلحة العملية. وهذا نص الكلمة ومحلها في السطر الثالث من ص 55:
(وأما الدول الأعجمية المستقلة فأولها التركية، وكان المشهور أن الخلافة
انتقلت إلى سلاطينها بنرول آخر خلفاء العباسيين عنها للسلطان سليم الذي أسره
بمصر وحمله إلى الآستانة وتسلسل ذلك فيهم بعد ذلك بالعهد والاستخلاف، حتى
كان من أمرهم في هذه الأيام ما كان، ويقال: إن السلطان محمد وحيد الدين
المخلوع ما زال يدعي الخلافة التي آلت إليه بنظام الوراثة، والحق ما بيَّناه من قبل،
وأن الخليفة العباسي الذي أسره السلطان سليم لم يكن يملك الخلافة ولا النزول
عنها ولو لأهلها، ولو كان يملكهما لاشتُرط في نزوله الحرية والاختيار، ولم يكن
يملكها، ومثله السلطان وحيد الدين الآن، فلذلك لا يُعتد بما توقعه بعضهم من نزوله
عنها لملك الحجاز، وإذا كانت خلافة الترك العثمانيين بالتغلب فلا فرق بين اختيار
الأمير عبد المجيد الآن بعد انقطاع سلسلة العهد والاستخلاف بخلع محمد وحيد الدين
أو قبله، وبين اختيار من قبله عملاً بذلك النظام، هذا إذ جعلته حكومة أنقرة خليفة
بالمعنى الشرعي المعروف، ولكنها اخترعت نوعًا جديدًا من الحكومة ونوعًا آخر
من الخلافة، ووضعت للأولى قانونًا أساسيًّا عرفناه، ولمَّا تضع للثانية قانونًا لنعلم
منه كنهها، فإن كانت خلافة روحية لا سلطان لها في سياسة الأمة وحكومتها فهي
غير الإمامة التي بيَّنا أحكامها، على أن ما يضعونه لها من النظام إن كان موافقًا
للشرع حمدناه، وإن كان مخالفًا له أنكرناه، ولا يضرنا تسمية هذا العمل خلافة
فمثله معهود عند أهل الطريق ولا مشاحَّة في الاصطلاح، وسنبين في كل وقت ما
يجب علينا وعليها للإسلام.
***
17-
أهل الحل والعقد في هذا الزمان وما يجب عليهم في أمر الأمة والإمام:
فرغنا مما قصدنا إلى بيانه من أحكام الإمامة العظمى في الإسلام، ونُقفي عليه
ببيان ما يجب من السعي للعمل بهذه الأحكام، بإعادة تكوين الأمة ووحدتها،
ونصب الإمام الحق لها. الذي بينا في المسألة الثانية أنه واجب عليها شرعًا، تأثم
كلها بتركه، وتعد حياتها وميتتها جاهلية مع فقده، فالأمة كلها مطالبة به، وهي
صاحبة الأمر والشأن فيه كما بيَّنَاه في المسألة الرابعة، وإنما يقوم به ممثلوها من
أهل الحل والعقد كما حرَّرْناه في المسألة الثالثة، فأهل الحل والعقد هم المطالبون
بجميع مصالح الأمة العامة، ومسألة السلطة العليا خاصة.
قلنا: إن أهل الحل والعقد هم سراة الأمة وزعماؤها ورؤساؤها، الذين تثق
بهم في العلوم والأعمال والمصالح التي بها قيام حياتها، وتتبعهم فيما يقررونه بالشأن
الديني والدنيوي منها، وهذا أمر من ضروريات الاجتماع في جميع شعوب البشر،
تتوقف عليه الحياة الاجتماعية المنظمة، قال شاعرنا العربي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة
…
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وإذا صلحت هذه الفئة من الأمة صلح حالها وحال حكامها، وإذا فسدت فسدا،
ولذلك كان مقتضى الإصلاح الإسلامي أن يكون أهل الحل والعقد في الإسلام من
أهل العلم الاستقلالي بشريعة الأمة ومصالحها السياسية والاجتماعية والقضائية
والإدارية والمالية، ومن أهل العدالة والرأي والحكمة، كما بيناه في المسألة الرابعة،
وهي ما يشترط في أهل الاختيار للخليفة.
فذكر أهل الحل والعقد قد تكرر في مسائل أحكام الخلافة ولم نجعله عنوانًا إلا
لهذه المسالة التي عقدت للكلام فيهم أنفسهم وأين يوجدون اليوم، وما يجب عليهم
لأمتهم في هذا العصر، فإن الحكومات غير الشرعية من أجنبية ووطنية تُعنى بإفساد
زعماء الشعوب التي تستبد في أمرها، ليكونوا أعوانًا لها على استبدادها، ومن
تعجز عن إفساده على قومه بالترغيب ثم بالترهيب تكيد له أو تبطش به، فأهل
الحل والعقد من قِبَل الأمة قلما يوجدون إلا في الأمم الحرة، وأكثر الرؤساء في
الأمم المقهورة يكونون من قِبَل حكامها، وهم الذين توليهم رئاسة بعض الأعمال
والمصالح فيها، فيكون ما بيدهم من الحل والعقد مستأجرًا، وقد تُغَش الأمة ببعض
رجاله، وقد يكونون في نظرها من الخونة المستحقين للعقاب، وقد يوجد فيهم من
يكون أهلاً للثقة، وتعرف له الأمة ذلك أو تجهله، وإذا سكتت عن إظهار احتقارها
لصنائع المستبدين فيها؛ لتفرقها في وقت الانقياد والدعة، فإنها تظهره في وقت
الاجتماع بالاضطراب والثورة، وقد أظهرت لنا الثورة المصرية في هذه السنين،
كراهة الأمة واحتقارها لأفراد من رؤساء مصالح الدنيا والدين، وترئيس أفرادًا
آخرين عليها، وآية هذه الزعامة المصنوعة المستأجرة للحكومة أن صاحبها إذا
خرج من منصبه، تجد جمهور الأمة لا يحفل به، ولا يعده زعيمًا له، وربما
أظهر له الاحتقار والإهانة، وقد رأينا الأجانب الغاصبين لبعض بلادنا في هذه
السنوات النحسات يقودون بعض هؤلاء الزعماء الذين أفسدوهم على الأمة أو
رأسوهم عليها إلى عواصم بلادهم ويتواطؤن معهم على توطيد سلطتهم فيها (أي
الأمة) ويستخدمون بعضهم في البلاد للاستعانة بهم على استعمارها، وكذلك كان
يفعل السلاطين والأمراء في استمالة العلماء والوجهاء بالرتب والأوسمة والهبات، ثم
هب الترك والمصريون يطلبون سلطة الأمة بمجالس النواب، وهذه المجالس بمعنى
جماعة أهل الحل والعقد في الإسلام، لا أن الإسلام يشترط فيهم من العلم والفضل،
ما لا يشترطه الإفرنج ومقلدتهم في هذا العصر.
وقد صار أهل الجمعية الوطنية في أنقرة أصحاب الحل والعقد بالفعل،
وبالرغم من السلطان الذي ناصبهم فباء بالخزي والعزل، وحلوا محل مجلس
المبعوثين ومجلس الوزراء وشخص السلطان جميعًا، وقد ذكرني هذا ما قاله لي
الغازي أحمد مختار باشا في الآستانة لما سألته عن رأيه في الحكومة الدستورية،
قال: عندنا مجلس وليس عندنا سلطان، ولابد من الكفتين في وجود الميزان.
وأما البلاد المقهورة بالاحتلال الأجنبي كمصر والهند، فلا مجال فيها لمثل ما
فعل الترك، وإنما يظهر فيها فرد بعد فرد، إلى أن تبلغ الأمة سن الرشد.
ولقد وصل الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى إلى مقام الزعامة في هذه الأمة
ومرتبة أهل الحل والعقد في الأمور الدينية والدنيوية من سياسية وغيرها، بل
قارب أن يكون زعيم الأمة الإسلامية كلها، ولكن بالقوة لا بالفعل؛ لأن الأمة لم
تكن قد تكونت تكونًا يؤهلها للسير في الخطة التي يختطها لها ولذلك كان يقول: يا
ويح الرجل الذي ليس له أمة وقد كان أمير بلاده ينهى عنه وينأى عنه، على أنه
كان يرجع في المهمات وحل المشكلات إليه.
وقد بلغ ربيبه سعد باشا زغلول مقام الزعامة السياسية في هذه السنين التي
تكون فيها قومه، فلما تصدى للعمل بقوة الشعب، كان جزاؤه النفي بعد النفي،
ويوجد في الهند رجال من المسلمين والهنود رفعتهم أحداث الزمان إلى مقام الزعامة
في الأمة بإظهارها ما هم عليه من الكفاءة وعلو الهمة، وهم الآن في غيابات
السجون، ومنهم (غاندي) عند الهندوس وأبو الكلام ومحمد علي وشوكت علي
عند المسلمين، ويلي هؤلاء جماعاتهم كالوفد المصري عندنا، وجمعية الخلافة
عندهم.
وأما الجماعات القديمة، فإن هيئة كبار العلماء في الأزهر بمصر وفى جامع
الفاتح والسليمانية من الآستانة وجامع الزيتونة بتونس ومدرسة ديونبد بالهند - فإن
جمهور الأمة يثق بأن حكم الله ما قالوا، ولكن أكثر المتفرنجين - ومنهم أكثر
الحكام والقواد والأحزاب السياسية - قلما يقيمون لأحد منهم وزنًا إلا من كان ذا
منصب أو ثروة أصاب بها بعض الوجاهة، ولا يوجد في علماء أهل السنة
مجتمعين ولا منفردين من يبلغ في الزعامة واتباع الشعب له مبلغ مجتهدي علماء
الشيعة، ولا سيما متخرجي النجف منهم، فأولئك هم الزعماء لأهل مذهبهم حقًّا،
ويقال: إنهم أفتوا في هذه الآونة بتحريم انتخاب الجمعية الوطنية، التي أمرت بها
حكومة الملك فيصل لإقرار المعاهدة بين العراق والدولة البريطانية، فأطاعها البدو
والحضر من الشيعة، وقد كان ميرزا حسن الشيرازي - رحمه الله تعالى - أصدر
فتوى في تحريم التنباك فخضع لها الشعب الإيراني كله، وتركوا استعمال التنباك
وزرعه، وهو بالنسبة إلى صادرات بلادهم كالقطن في القطر المصري، وكان الذي
حمله على إصدار هذه الفتوى موقظ الشرق السيد جمال الدين الأفغاني قدس الله روحه
بسبب إعطاء حكومة إيران امتيازًا بالتنباك لشركة إنكليزية، فاضطرت الحكومة
لفسخ الامتياز في مقابلة تعويض للشركة قدره خمسمائة ألف جنيه إنكليزي، ولو لم
تفسخ هذه الشركة لفعلت في إيران ما فعلت شركة الجلود الإنكليزية في الهند، أي
لملكت أمتها تلك البلاد وضمتها إلى إمبراطورية الهند.
قلت: إن الحكومات المستبدة تجتهد في إفساد من يظهر من الزعماء في
الشعوب التي تتولى أمرها. على أنها تعنى قبل ذلك بالأسباب التي تمنع وجود
الزعامة فيها بإفساد التعليم ومراقبته، وقد أبعدوا علماء الدين عن السياسة وعن
الحكومة، فصار أكثر أهلها وأنصارها من الجاهلين بالشريعة، وتولى هؤلاء أمر
التعليم وإعداد عمال الحكومة له، وانكمش العلماء وأرِزوا إلى زوايا مساجدهم، أو
جحور بيوتهم، ولم يطالبوا بحقوقهم، ولا استعدوا لذلك بما تقتضيه حال الزمان،
وطبيعة العمران، ولا عرفوا كيف يحفظون مكانتهم من زعامة الأمة بتعريفها
بحقوقها، وقيادتها للمطالبة بها، فأضاعوا حقهم من الحل والعقد فيها، وتركوها
لرؤساء الحكام وللأحزاب والجمعيات السياسية التي يتولى أمرها في الغالب من لا
حظ لهم من علوم الدين، ولا من تربيته التي لا نظام لما بقي منها عند بعض
المسلمين.
فإذا أريد السعي - والحال هذه - لما وحب في الشرع من إمامة الحق والعدل
العامة، فلا بد قبل ذلك من السعي لوجود جماعة أهل الحل والعقد المُتحلِّين
بالصفات التي اشتُرطت فيهم كما تقدم في المسألة الخامسة، فإنهم هم أصحاب الحق
في نصبه بنيابتهم عن الأمة، وبتأييده في حمل الأمة على طاعته، والمطلوب قبل
نصب الإمام العام للأمة كلها، أو للبلاد المستقلة منها أن تتحد شعوب هذه البلاد،
وترجع عن جعل اختلاف المذاهب والأجناس واللغات، موانع للوحدة والاتفاق.
وإنا نتساءل هنا: هل يوجد في البلاد الإسلامة من أهل الحل والعقد من يقدر
على النهوض بهذا الأمر؟ وإذا لم يكن فيها من لهم هذا النفوذ بالفعل أفلا يوجد من
له ذلك بالقوة؟ ثم ألا يمكن للمسلمين وضع نظام لجعل النفوذ بالقوة نفوذًا بالفعل؟
بلى إنه ممكن عسر، وقوة العزيمة تجعل العسر يسرًا، وقوة العزيمة تتبع قوة
الداعية، ومن ذا الذي يُرْجَى أن يضع النظام ويشرع في العمل؟ ألا إنه حزب
الإصلاح الإسلامي المعتدل.
***
18 -
حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل:
قد علم مما تقدم أن العمل لوحدة الأمة الإسلامية بقدر الإمكان ينحصر اليوم
في الشعبين الكبيرين - العربي جرثومة الإسلام. والتركي سيفه الصمصام - وأن
أمر البلاد العربية المستقلة بيد أئمتها وأمرائها، فالتأليف بينهم مقدم على كل شيء
فيها، ونقول هنا:
إن المتصدرين للزعامة السياسية ومقام الحل والعقد في غير جزيرة العرب
من البلاد الإسلامية أزواج ثلاثة: مقلدة الكتب الفقهية المختلفة - ومقلدة القوانين
والنظم الأوربية - وحزب الإصلاح الجامع بين الاستقلال في فهم فقه الدين وحكم
الشرع الإسلامي وكنه الحضارة الأروبية، وهذا الحزب هو الذي يمكنه إزالة
الشقاق من الأمة على ما يجب عمله في إحياء منصب الإمامة، إذا اشتد أزره وكثر
ماله ورجاله، فإن موقفه في الوسط يمكِّنه من جذب المستعدين لتجديد الأمة من
الطرفين. وهو الحزب الذي سميناه في المقالة الثالثة من مقالات (مدنية القوانين)
بحزب الأستاذ الإمام؛ إذ كان المنار يمهد السبيل لجعل الأستاذ زعيم الإصلاح في
جميع بلاد الإسلام، وإنا نعرف أفرادًا من هؤلاء المصلحين المعتدلين في الأقطار
المختلفة، ولا سيما العربية والتركية والهندية، ونشهد أن مسلمي الهند في جملتهم
أرجى لشد أزر هذا الحزب بالمال والرجال، ولكنهم لا يستطيعون العمل إلا باتحاد
عقلائهم مع عقلاء سائر الأقطار لتكوين جماعة أهل الحل والعقد بما يتفقون عليه
من النظام لأجل قيادة الرأي العام، ولتكوين مؤتمر عاجل لأجل تقرير ما يتخذ من
الوسائل الآن، فإن مسألة الخلافة كانت مسكوتًا عنها، فجعلها الانقلاب التركي
الجديد أهم المسائل التي يبحث فيها، ولولا كثرة التخبط وتضليل الرأي العام بأكثر
ما كتب فيها لآثرنا السكوت على القول مع السعي إلى ما نرى من المصلحة فيها
بالعمل، ولكن وجب التمهيد له ببيان الحقائق، وإن جعلت موضع البحث والمراء
باختلاف الآراء والأهواء، وحسبنا أن نذكر حزب الإصلاح بما يعتنُّ له من
العقبات من حزبي التقاليد والعصبيات، وبما يجب أن يعد للعمل من القواعد
والبينات.
***
19 -
حزب المتفرنجين:
بيَّنَّا في المقالة الثالثة من مقالات (مدنية القوانين) مرادنا من التفرنج وأهله
وأن منهم المرتدين المجاهرين بالكفر والمُسرِّين به، ومداركهم في حكومة الإسلام
وشريعته. ونقول هنا أيضا:
إن ملاحدة المتفرنجين يعتقدون أن الدين لا يتفق في هذا العصر مع السياسة
والعلم والحضارة، وأن الدولة التي تتقيد بالدين تقيدًا فعليًّا لا يمكن أن تعز وتقوى
وتساوي الدول العزيزة. وهؤلاء كثيرون جدًّا في المتعلمين في أوربة وفي المدارس
التي تدرس فيها اللغات الأوربية والعلوم العصرية، ورأي أكثرهم أنه يجب أن تكون
الحكومة غير دينية، وحزبهم قوي ومنظم في الترك وغير منظم في مصر، وضعيف
في مثل سورية والعراق والهند، ورأيه أنه يجب إلغاء منصب الخلافة الإسلامية من
الدولة، وإضعاف الدين الإسلامي في الأمة، واتخاذ جميع الوسائل لا ستبدال الرابطة
الجنسية أو الوطنية، بالرابطة الدينية الإسلامية، والترك من هؤلاء أشد خصوم إقامة
الإمامة الصحيحة في الدولة التركية.
وقد بثت جمعياتهم الدعوة في الأناضول - مهد النعرة الإسلامية - إلى العصبية
العمية بالأساليب التي لا يشعر الجمهور بالغرض منها، وقد أشرنا من قبل إلى
بعضها، فكان لها التأثير المطلوب: كان التركي هنالك إذا سئل عن جنسه قال:
مسلم والحمد لله. وبذلك يمتاز من الرومي والأرمني. وأما الآن فصار يجيب بأنه
تركي. وكان لا يفهم من وجوب الخدمة العسكرية إلا طاعة خليفته وسلطانه في
الجهاد في سبيل الله، فبثت فيه فكرة القتال في سبيل الترك ووطن الترك لمجد
الترك، وقد اطلعنا في هذه الأيام على قصة (قميص من نار) للكاتبة الإسرائيلية
النسب التركية السياسة والمذهب، خالدة أديب وزيرة المعارف في حكومة أنقرة،
وقد أنشأتها لبيان كُنْه الحركة الوطنية في الأناضول التي أنشئت لمقاومة سلطة
الآستانة وإخراج اليونان من البلاد وتأمين استقلالها، فألفيناها مصوِّرة لما ذكرنا، لم
نر فيها كلمة واحدة تدل على فكرة الجهاد الإسلامي ولا الروح الديني الذي كنا نعهد.
على أن فريقًا من هؤلاء المتفرنجين يرى أن وجود منصب الخلافة في الترك
يمكن الانتفاع به من بعض الوجوه السياسية والأدبية وغيرهما إذا كانت الخلافة
صورية أو روحانية لا سلطان لها في التشريع ولا في التنفيذ، بل ينحصر نفوذها
في الدعاية السياسية للدولة من طريق الدين، كسلطة البابا والبطارنة وجمعيات
التبشير، وأكثر هؤلاء من أصحاب العصبية الطورانية، الذين يتفقون من بعض
الوجوه مع طلاب الجامعة الإسلامية، فإنهم يطمعون في تأليف أمة كبيرة من
شعوب الشرق الأعجمية المسلمة بجعهلهم كلهم تركًا؛ لأنه ليس لأحد منهم لغة
علمية مدونة إلا الفرس الإيرانيون والأفغانيون، وكذا لغة الأوردو في مسلمي
الهند، على أن اللغة التركية فاشية في أكثر بلاد إيران، ومن لم يمكن إدغامه في
الأمة التركية باسم الوحدة الطورانية ورابطة اللغة التركية، فإن من الممكن إدغامه
فيها بالتبع للخلافة الإسلامية، ثم يكون أولاد هؤلاء تركًا بالتعليم والتربية تبعًا
للحكومة. وحزب العصبية التركية المحضة معارض لحرب العصبية الطورانية
العامة؛ إذ يخاف أن يضيع الترك فيها كما ضاعوا في الجامعة العثمانية أو الإسلامية
بزعمه. وليس من غرضنا هنا تحقيق هذه المسائل ولا انتقادها، بل التذكير بما فيها
من معارضة الإمامة الإسلامية بأوجز عبارة، ولا نيأس من إقناع الكثيرين منهم
بالجمع بين الجنسية والإسلامية.
وهنالك فريق من المتفرنجين - ومنهم بعض المتدينين أكثر من غيرهم -
يرون أن إقامة الخلافة الإسلامية وجعل رئيس الدولة هو الإمام الحق الذي يقيم الإسلام
،متعذر في هذا الزمان في دولة مدنية، فإما أن تكون الخلافة في الدولة التركية اسمية
كما كانت في الدولة العثمانية يُنتفع بها بقدر الإمكان ويُتقى شر استبداد الخليفة وتكون
الحكومة مطلقة من قيد التزام الشرع في الأحكام التي لا يمكن العمل بها في هذا
العصر؛ وإما أن يُستغنى عنها ألبتة، واستمالة حزب الاصلاح لهؤلاء أيسر من
استمالته لغيرهم.
***
20-
حزب حشوية الفقهاء الجامدين:
إن جميع علماء الدين وأكثر العامة المقلدين لهم يتمنون أن تكون حكومتهم
إسلامية محضة، والترك يُحَتِّمُونَ أن تكون تابعة لفقه المذهب الحنفي، ومنهم من
لا يرى مانعًا من الأخذ في بعض الأحكام بفقه غير الحنفية من مذاهب أهل السنة،
ولا يبالون بما خالف ذلك من مدنية العصر، ولكن هؤلاء العلماء يعجزون عن جعل
قوانين العسكرية والمالية والسياسية مستمدة من الفقه التقليدي ويأبون القول بالاجتهاد
المطلق في كل المعاملات الدنيوية، ولو فوض إليهم أمر الحكومة على أن ينهضوا
بها لعجزوا قطعًا، ولما استطاعوا حربًا ولا صلحًا.
طالما بينا في المنار أن تقصير علماء المسلمين في بيان حقيقة الإسلام والدفاع
عنه بما تقتضيه حالة هذا العصر هو أكبر أسباب ارتداد كثير من متفرنجة المسلمين
عنه، وأنهم لو بيَّنوه كما يجب لدخل فيه من الإفرنج أنفسهم أضعاف من يخرج منه
بفتنتهم. وإن سبب ذلك أو أهم أسبابه أنه ليس للمسلمين إمام ولا جماعة تقيم ذلك
بنظام ومال كما يفعل إمام الكاثوليك (البابا) وجمعيات التبشير في بلاد النصرانية،
على أن السلاطين والأمراء وأتباعهم قد أفسدوا العلماء وأبطلوا عليهم زعامتهم
للأمة إلا فيما يؤيد ظلمهم واستبدادهم كما ذكرنا آنفًا.
ولو كان للمسلمين خليفة قائم بأعباء الإمامة العظمى لما أهمل أمر الدفاع عن
الإسلام والدعوة إليه حتى كثر الارتداد عنه، وغلب على الدولة العثمانية من لا علم
لهم به. أليس من الغريب أنني لما وضعت مشروع الدعوة والإرشاد للقيام بهذه
الفرائض التي هي أول ما يجب على إمام المسلمين وجماعتهم - لم يوجد في وزراء
الدولة ولا رؤسائها من تجرأ على إجازة هذا الاسم؟ وأن الذين استحسنوا المشروع
اتفقوا على تسمية جمعيته بجماعة العلم والإرشاد؟ ! نعم إن مستشار الصدارة قال
لحقي باشا الصدر الأعظم أمامي: إذا نفذنا هذا المشروع ألا نلقى مقاومة من الدول
العظمى؟ فأجابه: إن لدولة البلغار مدرسة عندنا لتخريج الدعاة إلى النصرانية،
أفتكون دولة الخلافة في عاصمتها دون دولة البلغار حرية في دينها؟ ولكن هذا
الصدر الأعظم لم ينفذ المشروع ولم يساعدنا فيه أدنى مساعدة، وإنما اغتنمنا فرصة
سفره إلى إيطالية وسفر طلعت بك وزير الداخلية وزعيم الاتحادية إلى أدرنة لتقرير
المشروع رسميًّا، وأعانني على ذلك انعقاد مجلس الوكلاء برئاسة شيخ الإسلام
موسى كاظم أفندي أحد أنصاره، فما زلت ألح عليه حتى أصدر رحمه الله قرارًا
من المجلس بتنفيذه، ثم جاء طلعت بك فأفسد الأمر.
وكان الذي يسمونه السلطان و (الخليفة) في قفصه، مغلوبًا على أمره، لا
يكاد يصحو من سكره، ولا ترجو المشيخة الإسلامية منه قولاً ولا عملاً في هذا
الأمر ولا غيره، ولماذا كان نفوذ مثل طلعت وناظم أغلب عليه من نفوذ شيخ
الإسلام وشيوخ دار الفتوى؟ أليس لعجز هؤلاء الشيوخ وأعوانهم عن إدارة أمور
الدولة وعن إظهار كفاية الشريعة، وعن إثبات أصول الاعتقاد والعمل بها بالحجة،
ودفع كل ما يرد عليها من شبهة؟ أليس لأنهم غير متصفين بما اشترطه أئمة
الشرع في أهل الحل والعقد، من العلم والسياسة والكفاية والكفاءة؟
على أن نفوذ علماء الدين في بلاد الترك أقوى منه في مثل سورية ومصر،
ولكن خصومهم من المتفرنجين أقوى منهم، وكل من الفريقين يعد الآخر سبب
ضعف الدولة وتقهقر الأمة، والحق أن الذنب مشترك بينهما، وأن نصب الإمام
الحق وجعل الدولة التركية كافلة لمنصب الخلافة، لا يتم إلا بجمع حزب الإصلاح
لكلمة المسلمين المتفرقة، بجذب أكثر أصحاب النفوذ إليه، حتى تنحصر صفات
أهل الحل والعقد فيه، وإنما يكون ذلك بتحويل العلماء منهم عن جمود التقليد
وعصيبة المذاهب، وكشف شبهات المتفرنجين على الدين والشرع، وبيان الخطأ
في عصبية الجنس، فإن كان إقناع السواد الأعظم بذلك غير مستطاع الآن، فحسب
هذا الحزب من النجاح الرجحان على سائر الأحزاب، واستعداده لذلك بما سنبينه
من الأسباب.
إن الإسلام هداية روحية ورابطة اجتماعية سياسية، فالكامل فيه من كملتا له،
والناقص فيه من ضعفت فيه إحداهما أو كلتاهما، وقد فقدهما معًا الملاحدة من
غلاة العصبية الجنسية، فهؤلاء لا علاج لهم، لا عند أنصار الخلافة ولا عند
غيرهم، لكن بيان حقيقة الإسلام وما فيه من الحِكَم والأحكام الكاملة لأرقى معارج
المدنية والعمران، مع الخلو من كل ما في المدنية المادية من الشر والفساد، على
الوجه الذي سنشير إليه في أبحاثنا هذه - يفل من حدهم، ويقفهم عند حدهم، بل يهدي
من لم يختم على قلبه من أفرادهم، وهو بهداية الكثير من غيرهم أقوم، ونجاح الدعوة
فيهم أرجى.
حسبنا هذه الإشارة إلى ما يجب من السعي لهذا العمل في الترك، وأما الشعب
العربي الذي هو أصل الإسلام وأرومته، ولا حياة إلا بلغته، ولا تتم أركانه إلا
بفريضة الحج التي تؤدى في بلاده، وهو الركن الاجتماعي الوحيد الجامع بين
شعوبه، ولا يمكن أن تكون الإمامة الصحيحة العامة بمعزل عنه - فهو شعب كله
متدين، ليس في جزيرته إلحاد ولا تفرنج، وإنما آفته الجهل بطرق إدارة البلاد
وعمرانها وبالعلوم والفنون التي يتوقف حفظ الاستقلال وعزة الملة عليها، وتعادي
الأمراء، ودسائس الأعداء، فكل ما يجب له على حزب الإصلاح إقناع أمرائه بما
يجب من الاتحاد، ومساعدتهم على ما يجب من إعداد وسائل القوة والعمران، وها
نحن أولاء نذكره بما يجوز نشره من برامج الأعمال وأساليب الاستدلال.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) تابع لما في الجزء العاشر م23.
(1)
آخر ص 9 من الأحكام السلطانية.
(2)
سنذكر بعض الروايات في استخلاف يزيد بن معاوية.
(3)
ص 278 و 279.
(4)
ص 275 ج2.
(5)
ص 277 منه.
(6)
ص 280 وتقدم أن (المسايرة) للكمال بن الهمام الحنفي، وأما شرحها المسمى (بالمسامرة) فهو للكمال بن أبي شريف الشافعي.
(7)
ص 413 من النسخة المطبوعة بالمطبعة الأميرية بمصر سنة 1296.
(8)
كان ينبغي حذف هذا الجمع هنا وفيما بعده.
(9)
يأتي هنا التفصيل السابق في الإمام الحق، وإمام الضرورة والمتغلبين، وداري العدل والجور.
الكاتب: أبو الكلام
خطاب أحد زعماء النهضة الإسلامية الهندية
الذي قدَّمه عند محاكمته للمحكمة الإنكليزية
ومقدمة مترجمه في وصف ثورة الهند السياسية السلبية
وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*]
المقدمة:
إن الجهاد العظيم الذي قامت به الهند المستعبدة منذ خمس سنوات متواليات
لصون الخلافة الإسلامية، وحرية البلاد العربية - يكاد يكون فذًّا في تاريخ العالم، لا
لأنه جهاد بلاد استعبدت استعبادًا شديدًا، وحكمت بالنار والحديد أجيالاً، وصبت
على رأسها المصائب تلو المصائب، ودهمتها الدواهي - بل لأن أصوله جديدة،
وطرق عمله عجيبة، ومظاهراته سلمية، وروحه العاملة فيه خالية من كل حقد
وشدة، وليس فيه إلا الإيثار وهضم النفس وكظم الغيظ وتقديم المُهج، وتحمل
الشدائد. القائمون به يُقْتَلُون ولا يَقْتُلُون، يُضرون ولا يَضرون [1] ، يصابون ولا
يصيبون، يقاومون القوة لا بالشدة والبطش، بل بالصبر والحلم والسلم، ويحاربون
الاستبداد لا بالسيف والرمح، بل بالإيمان واليقين والثقة بالله ربهم، فهو جهاد
سلمي حقًّا، وحرب روحانية مدنية، لا شائبة فيها من القوة والغلظة، بل هو في
الحقيقة صحيفة عِبر، وكتاب بصائر لسائر الأمم المستضعفة يبين لها أن الفوز
والنصر لا يتوقف على بسطة الجسم والقوة المادية، بل منبعه الحقيقي من القوة
المعنوية وروحانية القلوب التي في الصدور، وهو أول مثال للمقابلة السلمية
للقوات المتسلحة القتالة، وإنه ليهب سلاحًا ماضيًا صائبًا من الإيمان والصدق
للشرق المسكين، ليحارب به الغرب الجائر المتسلح بالقوات المادية، فهل يقبله
الشرق وينجو به من الخزي والعار؟
ألا لا يتهمني أحد بأني أبالغ في هذا الجهاد، أو أهيم بوصفه في وديان
الخيال، أو أتخيل كالشعراء في المحال. بل أُبين كُنه الحال، وأتكلم عن حقيقة
وبرهان، فإنه جهاد زعزع أساس الدولة البريطانية في البلاد، وتركها في حيرة
وارتباك، فظلت طول هذه المدة مغلولة الأيدي مع ما تملك من القوة والسلاح، ولم
تستطع قهره ومقارعته بما أوتيت من البطش والجلاد، ولكن هل سمعت سيفًا يقتل
روحًا، وأن صُرَعة يصرع قلبًا، نعم قهرت بريطانية عدوتها ألمانية؛ لأنها كانت
أقوى منها وأدهى [2] ، ولكنها ما كان لها أن تقهر هذا الجهاد السلمي؛ لأنه ليس
أمامها قوة مادية مثلها فتكسرها، ولا يد فتاكة فتجذمها، وإنما كل ما هنالك عنق
للقتل وقلب للحياة، وجسم للصلب، وروح للبقاء، فما أعجب هذا الجهاد، وما
أسلم هذا العراك!
ولقد كان من نتائج هذا الجهاد أن اضطرت بريطانيا على رغم أنفها أن تخفف
وطأتها عن الإسلام، ولا تصر على إظهار العداوة للخلافة الإسلامية، والتمادي في
حماية ربيبتها الدولة اليونانية، فإن الحكومة الهندية الإنكليزية لما أرسلت بلاغها
الرسمي الشهير في فبراير سنة 1922 إلى الحكومة المركزية في لندن تؤكد فيه
المطالب الهندية في مسألة الخلافة، وتحذرها من سياستها الخرقاء في معاداة الدولة
العثمانية والبلاد الإسلامية، تأثر به الرأي العام الإنكليزي أيَّمَا تأثر، حتى
تدحرجت وزارة المستر لويد جورج القاهر لألمانيا، وسقطت سقوطًا مخزيًا،
وكانت قد امتازت بعداوة الأتراك والمسلمين واستعمار البلاد الإسلامية المحتلة باسم
الوصاية.
نعم قد تم هذا، ولكن الأيام حبلى ولا ندري ما يكون وراء مؤتمر الصلح،
ومهما يكن من الأمر، فسيظل هذا الجهاد حتى تتحرر البلاد الإسلامية، ويغادر كل
جندي محتل أرض الشام وفلسطين والعراق ومصر والقسطنطينية، فتصبح كلها
حرة مطلقة من قيودها تحكم نفسها بنفسها كيف تشاء.
وإن مما يُحزن القلب، ويُبكي العين أن هذه البلاد الإسلامية التي تلتهب الهندُ
غيرة عليها، وتتفانى في حبها، وترخص كل غال وثمين لأجلها - لا تعلم عن هذا
الجهاد إلا شيئًا لا يُذْكَر، مع أن سيل المصائب الذي غمر العالم الإسلامي قاطبة
كان يجب أن يعرّف به المسلمون بعضهم بعضًا، ويتعاونوا ويتناصروا ويبحثوا
عن خطة مشتركة للنجاة من هذه الورطة، وللفوز والفلاح والحياة في المستقبل.
وهذا الذي دعاني إلى أن أقدم إلى مسلمي مصر والشام والعراق وسائر البلاد
العربية والإسلامية، الخطاب الجليل الذي خاطب به المحكمةَ الإنكليزية زعيمُ الهند
الحلاحل الهمام (الشيخ أبو الكلام أحمد) عندما حوكم فيها؛ لأنه فوق ما فيه من
البصائر والعبر، يبين مقاصد ذلك الجهاد، وطرق السير فيه بأحسن بيان غير أنه
لا بد لإيضاح كُنْه هذا الخطاب من بيان وجيز لحركة اللاتعاون السلمي التي سببته
هذه الواقعة.
***
(حركة اللاتعاون السلمي في الهند)
قامت حركة هذا الجهاد بعد هدنة الحرب الكبرى مباشرة، فظلت زمنًا
محصورة في قيام المظاهرات وحشد المحافل واجتماع المؤتمرات، وإرسال الوفود
إلى إنكلترا وأوروبا، وغيرها من الطرق السياسية المعهودة، ولما لم تنتج هذه
الأعمال شيئًا، تشاورت جمعية الخلافة والجمعية الوطنية الكبرى في وضع خطة
للعمل، ثم أعلنتا في أغسطس سنة 1920 (اللاتعاون السلمي) الذي هو داخل تحت
الأوامر الشرعية؛ لأنه قسم من أقسام ترك الولاء للمحاربين، والذي يسمى بالإنكليزية
OPERATION - EA - NON MONUIOLENT ومعنى (كوابريشن)
المساعدة والمشاركة في العمل، فكان الغرض منه أن تقطع عن بريطانيا جميع تلك
العلائق التي تساعدها في حكمها واستبدادها وقيامها في البلاد؛ لأن الهند ليس في
وسعها أن تقوم بحركة مسلحة؛ ولأنها تريد أن تقدم مثالاً عمليًّا لمقاومة القوة بالطرق
السلمية، فلذا جعل عنوان هذه الحركة أن تكون سلمية بالمرة، فلا تقابل القوة المادية
بقوة مثلها، بل بالحلم والتضحية والثبات على الحق، تتعب القوة من الظلم والعسف،
ولا يتعب أصحاب الحق من الصبر والتضحية وكانت لائحة عملها كما يلي:
(1)
تُرد إلى الحكومة جميع مناصبها وألقاب شرفها وأوسمتها.
(2)
تقاطع جميع مدارسها وكلياتها، وتؤسس للصبيان المدارس الوطنية،
والشبان يشتغلون بنشر الحركة وترويجها.
(3)
تقاطع جميع المحاكم العدلية، فلا يذهب إليها المحامون ولا أصحاب
الدعاوى، بل تؤسس المحاكم الوطنية فتفصل فيها الدعاوى على الطرق البسيطة.
(4)
تقاطع إصلاحات الحكومة التي تمن بها على البلاد، فلا يرشح
أحد نفسه للمجالس النيابية، ولا ينتخب لها أحد.
(5)
تقاطع البضائع الإنكليزية، ولا سيما القماش منها، ويجب على
الوطنيين أن يغزلوا القطن بأيديهم، فينسج منه القماش، وهو الذي يستعمله
الناس.
(6)
يجب ترك الخدمة العسكرية لأن الدولة البريطانية تستعمل الجيش
الهندي لاستعباد هذه البلاد وغيرها من البلاد الحرة.
(7)
يجب أخيرًا أن يمنع كل ما يدفع إلى الحكومة من أموال الضرائب
وغيرها فلا يؤدى إليها فلس واحد، وإن سجنت وعذبت.
لا يخفى خطر هذه اللائحة، فإنها لم تكن إلا دعوة إلى الإيثار وهضم النفس
وتحمل الخسائر، والتعرض للنوائب؛ إذ لا يلبيها أحد إلا وينفض يده من وسائل
معيشته، فيذر نفسه وأهله للضنك والفقر والفاقة، ثم يعرض عن كل ما عند
الحكومة من الرتب والمنافع والشرف والفخار، وبعد ذلك يعرض نفسه للحبس
والتعذيب، وقد يلقى إلى القتل والصلب، إلا أن البلاد رحبت بها وتقبلتها بقبول
حسن، فأخذت جماعات تاركي التعاون تظهر من كل جهة وتعلن هذه الأمور وتعمل
بها، والحكومة تراها بعينها ولا تعرف كيف تصد تيارها.
(مقاطعة ولي العهد)
ولما رأت الحكومة أن الحركة لا تزال تتقوى وتنتشر، وأنها لا تقدر على
قهرها لجأت إلى الحيل السياسية، فدبر الوالي العام الجديد اللورد ريدنج الداهية
الشهير، سياحة لولي عهد إنكلترا في البلاد الهندية، ظنًّا منه أن البلاد لا تأبى
استقباله والترحيب بضيفها لأن العائلة الملكية تعتبر عندهم فوق المنازعات
السياسية، فتضعف الحركة وتعود المياه إلى مجاريها.
ولكن سرعان ما خاب أمله، فإن الأمة ما سمعت بهذه السياحة إلا وقررت
مقاطعتها، وأعلنت جمعية الخلافة وجمعية العلماء أن هذه السياحة تنوب (عن)
الإمبراطورية البريطانية، التي تحارب الخلافة والبلاد الإسلامية، وتريد استعبادها
واستعمارها، فلذا لا يجوز لأحد من المسلمين أن يشترك في استقبال ولي العهد،
ولا في الاحتفالات التي تقيمها الحكومة له.
ولقد قامت المنازعات الشديدة في البلاد بعد هذا الإعلان، فكانت الحكومة
في جهة تجدُّ وتكدُّ بجميع وسائلها الكثيرة ومواردها العظيمة لإنجاح هذه السياحة،
وفي جهة أخرى كان زعماء البلاد الذين لا حول لهم ولا قوة إلا قوة الأمة مصرين
على مقاطعتها، وكانت النتيجة مدهشة جدًّا، كانت هزيمة شنيعة تسجل في التاريخ
على أقوى دول الأرض أمام الرأي العام لبلاد ضعيفة الجسم، قوية الروح، فلقد
رأى نجل إمبراطور العالم بعيني رأسه منظرًا مدهشًا، لم يُشَاهد مثله من قبل، وربما
لم يخطر في باله، فإنه ما دخل مدينة إلا وجد الأسواق فيها معطلة والدكاكين مقفلة،
والأبواب موصدة، والشوارع مهجورة، المدينة كلها في سكون كسكون المقابر،
كأنه لم يغن فيها أحد بالأمس! وقد شاهد ما شاهد عم أبيه (الدوق أوف كوت) مثل
ذلك في سياحته التي تقدمت سياحته بسنة، وصفه أحد مكاتبي الجرائد في باريس
قائلا: (إن الهند اليوم مثل ما كانت باريس عند دخول الجيوش الألمانية إياها في
حرب السبعين) .
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) صاحب الخطاب هو الزعيم الهمام، الأستاذ العلامة الكاتب الخطيب الشيخ أبو الكلام، والمترجم صاحب المقدمة هو الشاب النجيب، وغصن دوحة الإصلاح الرطيب: الشيخ عبد الرزاق المليحي الهندي تلميذ دار الدعوة والإرشاد بمصر.
(1)
فيه احتباك، أي: يُضَرُّون ولا يَضُرون من يضرهم، ويُضربون ولا يَضربون ضاربهم.
(2)
إنما غلبتها بالدهاء الذي سخرت به أكثر أمم الأرض لمساعدتها وآخرهن الولايات المتحدة الأميركية التي كانت أقوال رئيسها سبب الثورة الألمانية.
الكاتب: معروف الرصافي
وصف استقلال العراق
بقلم شاعره معروف أفندي الرصافي
لنا (ملك) وليس له (رعايا)
…
و (أوطان) وليس لها (حدود)
(وأجناد) وليس لهم (سلاح)
…
و (مملكة) وليس لها (نقود)
ويكفينا من الدولات أنا
…
تُعلَّق في الديار لنا البنود
و (أنا) بعد ذلك في (افتقار)
…
إلى ما (الأجنبي) به (يجود)
تسود سياسة (الهندي) فينا
…
وأما ابن البلاد فلا (يسود)
إذًا (فالهند) أشرف من (بلادي)
…
و (أشرف) من بني قومي (الهنود)
وكم عند الحكومة من (رجال)
…
نراهم (سادة) وهم (العبيد)
وليس (الإنجليز)(بمنقذينا)
…
وإن (كُتبتْ) لنا منهم (عهود)
متى شفق (القوي) على (ضعيف)
…
وكيف (يعاهد) الخرفانَ (أسيد)
ولكن نحن في يدهم (أسارى)
…
وما كتبوه من عهدٍ (قيود)
أما والله (لو كنا قرودًا)
…
لما رضيت بعيشتنا (القرود)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رد على الرسالة الرملية فيما سمته العقائد الوهابية
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة أستاذنا العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر،
أرجو نشر ما يأتي في المنار بيانًا للحقيقة التي أخفاها المحترم صاحب مجلة الإسعاد
وصاحبه الأستاذ المحترم الشيخ تاج الدين في حادثة الرمل؛ إذ كتب الثاني رسالة
أسماها (الرسالة الرملية في الرد على مروجي بعض العقائد الوهابية في ثغر
الإسكندرية) ونشرها صاحب المجلة المذكورة وأسماها (الرسالة الجليلة) وعقَّبَها
بخبر غير صحيح لم يعزه إلى مصدره الحقيقي بل عزاه إلى نفسه ليوهم أنه كان
حاضرًا ويُلَبِّس على القراء.
وقد نُشرت الرسالة المذكورة في عدد 5 من المجلد 3 من مجلة الإسعاد وكتبنا
ردًّا عليها فأبى نشره وطلب غيره خوفًا على كرامة الأستاذ المؤلف كما يقول. فكتبنا
غيره وأردفناه بمؤاخذته على الخبر الذي نشره غير معزو إلى صاحبه طالبين
منه نشره ظانين أنه كأصحاب المجلات الحرة التي تنشر ما لها وما عليها وترد بالحق
كالمنار الذي يطلب كل حين من قرائه أن يوافوه بكل ما يرونه منتقدًا معززًا بالأدلة
والبراهين. وقد نشر بعضه مبتورًا أوله، ورد عليه بالباطل الذي طالما لغط به
المقلدون وفنده المهتدون، إسعادًا لصاحب الرسالة علينا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أما ملخص الحادثة الرملية: فهو أن أئمة المساجد منعوني من إلقاء المواعظ
والدروس في المساجد التي احتكروها بالوظائف والمرتبات، فاتخذنا مسجدًا آخر
بنيناه بأيدينا في ملك بعض مريدينا، وصرنا نصلي فيه ونقرأ الدرس بعد العشاء
لمن يحضر من الإخوان فاجتمع عندنا خلق كثير، وهداهم الله حتى تابوا عن
الكبائر التي كانوا منغمسين فيها ليلاً ونهارًا. فحقد أولئك الأئمة وصاروا يفترون
علينا الكذب وينبزوننا بالألقاب ويشيعون بين الناس أننا ننكر الوسيلة والشفاعة
ونَسُبُّ الأئمة وننكر الوحي ويخطبون في مساجدهم بهذا، ويقسمون بالله جهد
أيمانهم ليصدقهم العوام. ثم كتبوا لمشيخة الإسكندرية شكوى عَزَوْا إلينا فيها كل هذه
المفتريات وختَّموا كثيرًا من العوام عليها زورًا، وطلبوا من المشيخة إرسال وفد
يخطب معهم في الإغراء بنا وتنفير الناس عنا، ولكن المشيخة - وفقها الله - لم تُرِد
ذلك لِما بلغها أننا براء من كل ما نسبوه إلينا بشهادة بعض الكبراء وبعض العلماء الذين
يعرفوننا حق المعرفة. ولما أكثروا من الشكوى، وأرسلوا وفودهم إلى المشيخة تترى
كلفت بعضهم بتحقيق المسألة، وكان المنتظر من ذلك الوفد المؤلف من ثلاثة علمائهم
أن يحضروا إلى محل الحادثة ويجمعوا الأئمة الشاكين والمشكو منهم في بيت بعضهم
بعيدًا عن العامة، وفي حفلة خاصة بهم ولكنهم - أرشدهم الله - لم يفعلوا وجاءوا بعد
شهر ألفوا فيه رسالة ردًّا على شخص لا وجود له إلا في خيالهم ينكر الوسيلة والشفاعة
وكرامات الأولياء وما استحسنوه من البدع، وجاءوا يوم جمعة في ربيع الأول من سنة
1340 هـ في بعض مساجد الظاهرية وبعد صلاة الجمعة قعد القوم واحتشدوا حتى
ملاأوا ما هو له من الفضاء والطرقات وقعد أحد الثلاثة الموفدين وهو الأستاذ الشيخ
تاج الدين وأخرج رسالته بعد أن نَوَّهَ الخطباءُ بفضل الوفد وعلمه وعناية المشيخة
بإيفاده، وأن قوله هو القول الفصل والدين العدل، واسترعَوْا الأسماع لقراءة الرئيس
رسالته فقرأها وأنا حاضر في المسجد لا أقدر أبدي ولا أعيد من كثرة الصياح،
وارتفاع الأصوات، وتحرش العوام، وكلما هممت برد الباطل أسكتني العوام من
حولي، ولما قرأ الأستاذ مسألة الشفاعة وأثبتها على الوجه الذي نعتقده استطعت أن
أرفع صوتي بالموافقة في بعض المواضع التي لا خلاف فيها، ثم انتهى الشيخ ولم يكد
حتى قام ثاني الوفد الشيخ شريف وخطب وخصني بالكلام تحاملاً إذ قال: يا فلان اتق
الله (يكررها) ولا تفرق الناس، ونحو ذلك، ثم قام آخر وارتقى المنبر بغير دعوة
وصار يحرض الناس ويثير الفتنة يسب ويشتم تصريحًا وتلويحًا والعلماء حاضرون
وأكثر العوام والخصوم، فقمت من بينهم بعد أن أشهدتهم ورددت عليه، وقلت: والله
إنا كنا على الحق ولا زلنا على الحق والله لأنصرن السنة ما دمت حيًّا إن شاء الله،
وما كدت أخرج من باب المسجد حتى ابتدرني العوام ضربًا ولكمًا ولم ينقذني من بينهم
إلا رجال الشرطة وبعض الإخوان.
وأما الرسالة فقد احتوت على إثبات الشفاعة التي لم ينكرها أحد؛ ليقال: إنه
رد على من ينكرها، وليدخل أو يلصق بها ما يسمونه اليوم بالتوسل، والمراد دعاء
الموتى وسؤالهم قضاء الحاجات، وقد بنى إثبات هذه الوسيلة على حياة الأموات في
قبورهم وسماعهم مَن يخاطبهم واستجابة دعائه، وردهم عليه السلام، واستدل ببعض
الأحاديث الضعيفة وبالآية الواردة في حياة الشهداء وحديثين من أحاديث الصحيح
في سؤال القبر والزيارة وهي حجة عليهم لا لهم لو كانوا منصفين، ثم قاس على
حياة الشهداء - التي أثبتها القرآن لشهداء الصحابة في بعض الغزوات - حياة جميع
من يسمونهم الأولياء، وبنى على هذا جواز دعائهم والاستغاثة بهم في تفريج الكروب
وقضاء الحاجات؛ لأنه لا فرق عندهم بين رد الميت السلام على من سلم عليه
وبين استجابته الدعاء وإجابة سؤال من توجه إليه، ولا سيما إذا قدم له هدية من
صدقة وقرآن (كذا قال الشيخ تاج الدين) في رسالته وذكر واقعة حال جرت بينه
وبين وليه أبي العباس وكفى بها مصورًا لعقائد أمثاله، وهذا نصها نقلا عن مجلة
الإسعاد وهو:
(كم من منح ونفحات، ونوال وإغاثات، شوهدت بسبب الزيارات
والتوسلات، بأصحاب هذه المقامات: فمما وقع للفقير جامع هذه الكلمات أني
اضطررت (تأمل) وقتًا إلى الانتقال من مسكن إلى آخر بمدينة الإسكندرية وكاد
الحصول على المطلوب يتعسر أو يتعذر (تأمل) لضيق الجهة التي أريد السكنى
بها بسكانها، فتوجهت (تأمل) لزيارة سيدي أحمد المرسي أبي العباس رضي الله
عنه، فبعد أن سلمت ووهبت لروحه الكريمة (تأمل) ما تيسر من القرآن، توسلت
به إلى الله تعالى في ذلك المطلوب (تأمل) وشكوت له هذه الضائقة (تأمل) كأني
أكلم حيًّا أشاهده (تأمل) وأخاطبه، وكان من كلامي له رضي الله عنه هذه العبارة:
(إن كان لكم كرامات فَلِمَ لَمْ تكن لأمثالنا وقد جئنا لتعليم العلم) ثم خرجت فاعترضني
بجوار ضريحه أحد كناسي البلدية فسألته عن مسكن فأشار إلى دار بهذه الجهة تدعى
بدار الحاج علي الخولانى وقرع بابها فنزل صاحبها المذكور باسِمَ الوجه تُرى عليه
لوائح الاستبشار بالطارق وأدخلنا ما أعده للإيجار من هذه الدار فقدرت أجرته في
نفسي بما يقرب من ضعف ما خصصه لأجرة السكنى فأردت التخلص لذلك، ولما
ظهر لذلك الرجل حقيقة الأمر لم يسعه إلا القبول بما أستطيع فأوقعني تساهله هذا في
ريب وحذر من أن يكون بالمسكن عيب خفي عليَّ فاستأجرته مشاهرة بدل المسانهة
التي هي العادة الغالبة بالمدينة فقبل أيضًا وبعد تمام الاتفاق والتوقيع من الجانبين على
الأوراق قال: إن سبب هذا الإكرام أني ساعة قرعكم الباب كنت نائمًا فرأيت أبا
العباس واقفًا على سطح مقامه يناديني بـ (يا علي إني مرسل إليك من يسكن بدارك
فأكرمه) فأيقظني قرع الباب فأحببت أن أقابل هذا الطارق بنفسي، لعله المرسل من
قبل السيد المرسي، فتحققت ما رجوت لأني رأيتك كثيرًا بمسجده (تأمل) وعزمت
على إكرامك بكل ما يمكنني إجابة لهذا الولي الذي لم أره في منامي مدة حياتي غير
هذه المرة) قال الشيخ: فشكرته إلخ.
هذه الحكاية تمثل لنا عقيدة الشيخ الذي يرد على الوهابية، وتمثل لنا أيضًا
عقيدة صاحب مجلة الإسعاد الذي نصب نفسه لإفتاء الناس وكتب على مجلته عنوان:
أكبر المجلات الإسلامية الإصلاحية
…
ثم هو يصف هذه الرسالة القبورية بالجليلة راضيًا بما فيها ويرد على من قام
يدفع عن نفسه تهمة الكذب التي ألصقها به الجاهلون، فالإصلاح عند هؤلاء
المصلحين تضليل من يهتدي بهدي السلف الصالح، وإقناعه بالنظريات والتأويلات
لاتباع خرافات القبوريين وأصحاب الموالد إلخ.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... عبد الظاهر
(المنار)
قد تكرر تقنيدنا لخرافات (الجبت) الوثنية، فنكتفي هنا بتذكير طلاب الحق
بالمسائل الآتية المفصلة في المنار من قبل، وهي:
(1)
أن ما ورد من النصوص في عالم الغيب كحياة الشهداء وسماع أرواح
المؤمنين والكفار كلام أهل الدنيا - يجب الإيمان بما صح منه كما ورد بلا زيادة ولا
نقصان ولا يجري فيه القياس، بل هو مبني على السماع. وهذه مسألة لا خلاف
فيها ولكن أدعياء العلم عندنا يدرسون بعض كتب الكلام والأصول لأجل المناقشة
في عباراتها استعدادًا للامتحان ولا يعقلون منها شيئًا.
(2)
أن هذه مسألة اعتقادية لا تقوم الحجة عليها إلا بالأدلة القطعية ولو كان
الصالحون يقضون حاجات الناس بعد موتهم وكان طلب ذلك مشروعًا لبيَّنه الله في
كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيانًا لا شبهة فيه ولتواتر فعله
عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ولكن لم يرد فيه نص قطعي ولا خبر
صحيح ظني.
(3)
أن الرؤى والأحلام لا يثبت بها حكم من أحكام الفروع الشرعية التي
يكتفون فيها بالأدلة الظنية، فضلاً عن العقائد وأصول الإيمان التي يترتب عليها
السعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي، فرجل مشغول الخيال بأمر من الأمور تخيله في
نومه واقعًا على ما يحب في صورة مطابقة لعقيدته في ميت وافق تخيله الواقع،
هل يثبت بهذا أصل من عقائد الدين أو أي شيء يعتد به شرعًا؟ ! أو يعد من
خوارق العادات؟ كلا إن مثل هذا يقع كثيرًا لأهل كل ملة، ولا سيما الوثنيين،
والروايات عن المتقدمين والمتأخرين فيها كثيرة، ولكن أدعياء العلم عندنا لا
يعرفون من أمر العالم ولا من تاريخه شيئًا يعتد به. وإن علماء النفس المتأخرين قد
أثبتوا أن بعض الناس يشعرون في المنام أو اليقظة ببعض ما تتوجه إليه أنفسهم من
الأمور وينقلون وقائع كثيرة في ذلك. فلا يبعد على هذا أن تكون نفس صاحب
الدار قد شعرت وهو نائم بأن رجلاً في مسجد المرسي سيطلب منه أن يسكن في
داره فصور له الخيال أن المرسي هو الذي أرسله ويطلب إكرامه. فهل نرتب
على هذا المنام الذي تكثر أمثاله في كل أمة وملة أن المرسي سمع دعاء الشيخ
اللاجئ إليه واستجاب له وتمثل لصاحب الدار في منامه وأخبره بما أخبره وأمره بما
أمره، ثم نجعل هذا دليلاً على شرعية الذهاب إلى القبور التي اتخذت مساجد،
فاستحق متخذوها لعنة الله على لسان خاتم رسله في آخر حياته وندعوهم بأن يقضوا
حاجاتنا، خلافًا لكتاب ربنا وسنة نبينا وسيرة سلفنا الصالح: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (آل عمران: 8){رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أهم أخبار العالم
إن أنباء مؤتمر الصلح بين الشرق والغرب في لوزان ما زالت تشيل وتهبط بها
كفة الميزان، ولن تعتدل حتى يعتدل الفريقان، والظاهر أن السياسة البريطانية قد
فازت في هذا الطور على السياسة الفرنسية، فإذا تم للورد كرزون استمالة الترك
فالويل للعرب عامة، ولمصر خاصة، ولن يتم ذلك إن شاء الله، وإنما نرجو أن يتم
الصلح على قاعدة الاعتراف بحرية الأمم واستقلالها، وإلا فلا سلام في الأرض حتى
ينتقم الله من الباغين انتقامًا آخر يتوبون به إليه من استعباد خلقه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
كان شقيقنا السيد صالح - رحمه الله تعالى - قد اختص نفسه بتقريظ
المطبوعات الجديدة في السنين الأخيرة، فكان يأخذ أكثر ما يُهدَى منها إلى المنار
ويضعه في مكتبه ويتخير للتقريظ ما شاء منها متى شاء ويحيل علينا أقله أحيانًا. ولم
يتيسر لنا بعد وفاته أن نحصي ما ترك تقريظه وإنما جمعنا بعضه فننوه به من غير
مراعاة للتأريخ، ولا لمكانة هذه الكتب والصحف في التقديم والتأخير.
(مسند الإمام زيد المسمى بالمجموع الفقهي)
قد طبع هذا الكتاب المسمى بهذا الاسم في العام الماضي بمصر سنة
1340 هـ.
الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب هو أحد
أئمة أهل البيت الأعلام، عليهم التحية والسلام، وهو الذي ينتمي إليه الزيدية،
روى الحديث عن أبيه وأخيه محمد الباقر وأبان بن عثمان بن عفان وعروة بن
الزبير وعبد الله بن أبي رافع، وروى عنه ابناه حسين وعيسى وابن أخيه جدنا
جعفر الصادق والزهري والأعمش وشعبة وكثيرون منهم أبو خالد عمرو بن خالد
الواسطي الذي روى هذا الكتاب الموسوم بالمجموع الفقهي الذي يسمونه مسند الإمام
زيد أيضًا، وهذه التسمية ليست على اصطلاح المحدثين، فإنما الكتاب مجموع
أخبار وآثار مرتبة على أبواب الفقه ككتب السنن، والأخبار المرفوعة فيه على
كثرتها قد رواها بصيغة: حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم
السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا. ولديهم مجموع آخر
يسمى المجموع الحديثي من رواية أبي خالد أيضًا.
فأما الإمام زيد فلا خلاف بين علماء الحديث وغيرهم في توثيقه وعلمه
وفضله وصلاحه، وهو الذي رفضه غلاة الشيعة لتوليه أبا بكر وعمر رضي الله
عنهما؛ إذ قالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نبايعك. فقال: لا أتبرأ منهما،
فقالوا: إذن نرفضك، قال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فلزمهم هذا اللقب. وأما أبو
خالد الواسطي فقد جرحه في الرواية الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو داود
والحاكم، ويجيب بعض علماء الزيدية عن ذلك بأنه من قبيل طعن أهل كل مذهب في
كل مخالف لمذهبهم. ولا يصدق هذا على أمثال هؤلاء الأئمة فإنهم لم يكونوا
يحاربون أحدًا ولا يتعصبون لمذاهب معينة ولا يتحاملون على أحد في الجرح
والتعديل، وقد رووا عن كثير من مخالفيهم في بعض المسائل لما ثبت عندهم
عدالتهم، على أن المذهب الذي قيل أنهم يجرحونه لأجله هو مذهب الإمام زيد، وهم
متفقون على عدالته وفضله. وللحاكم منهم نزعة تشيع معروفة. وكان أقرب من هذا
العذر أن يقولوا: إنه انفرد برواية أحاديث لم يروها أحد منهم فظنوا فيه أنه هو
الذي وضعها، أو وجدها مكتوبة ولم يسمعها، وقد احتاط البخاري في ذلك فوصفه
بأنه يروي المناكير، وهم لم يطعنوا فيه بشيء آخر غير هذه الأحاديث التي لم
تعرف عن أحد غيره من رجال طرقهم، وقد أشار بعضهم إلى أن جرحه من قبيل
أقوال بعض المعاصرين بعضهم في بعض، وما قلنا أقرب إلى ذهن المستقل؛ لأنه
لم يكن ممن يظهر فيهم أنه من أقران من تكلموا فيه.
هذا وإن أكثر أحاديث الكتاب مخرَّجَة في غيره من كتب الحديث المشهورة،
ومذهب الزيدية أو العترة ليس مبنيًّا عليه وحده، بل هو مبني على الاجتهاد
الصحيح، وقد أنبتت أرض اليمن في القرون الأخيرة التي مات فيها العلم الاستقلالي
في أكثر بلاد الإسلام أئمة لا يستطيع أحد رأى كتبهم أن يماري في اجتهادهم أو أن
يفضل عليهم قرينًا من علماء سائر المذاهب في أمصار الإسلام سواء المذاهب
المنسوبة إلى السنة والمنسوبة إلى الشيعة الإمامية، ومن يماري في اجتهاد ابن
المرتضى وابن الوزير والمقبلي والشوكاني؟ دع الذين جمعوا بين إمامة العلم وإمامة
الحكم كالهادي والناصر ويحيى والمتوكل، وهم يشترطون في الإمام الأعظم (خليفة
المسلمين) ما يشترط أهل السنة من الاجتهاد في الدين ولذلك بقي الاجتهاد فيهم،
وسيبقى إن شاء الله تعالى وإن ضعف العلم في هذا الزمان.
وقد طبق الحافظ ابن حجر على أئمتهم حديث (سيبقى هذا الأمر في قريش ما
بقي من الناس اثنان) وهو يدل على اعترافه بصحة إمامتهم، وتبعه في ذلك غيره
كالقسطلاني فذكره في شرحه للبخاري من غير عزو، ولو أنهم كانوا يُعنون بالدعوة
إلى الإسلام وإلى إقامته في البلاد والقبائل التي درست رسومه فيها من جزيرة
العرب وغيرها كما فعل الشيخ محمد عبد الوهاب وخلائفه في نجد وما حولها -
لأحيوا الإسلام وعمت إمامتهم جزيرة العرب كلها، مهما يكن من مقاومة الدولة لهم
فيها.
***
(القصائد والصحائف)
كتابان في مجلد واحد لداعية العصبية العربية أبي الفضل الوليد بن طعمة
الشهير، وقف هذا العربي الأبي الكاتب الشاعر حياته على إحياء العصبية العربية
وتجديد مجد العرب وملكهم، فأنشأ أولاً جريدة سماها (الحمراء) تذكيرًا بمجد العرب
في الأندلس ثم كان يكتب في جريدة النهضة العربية (وكلتاهما صدرتا في
الأرجنتين) ولم تكن الصحيفتان قبل احتجابهما تتسعان لمخدرات أفكاره، فكان
ينشر شعره ونثره في دواوين خاصة، وقد طبع ديوانه الأول الطبعة الثالثة في
(سان باولو - البرازيل) سنة 1915 وكان في سن الحادية والعشرين ثم طبع في
سنة 1916 مجموعة مقالات أدبية سماها (نفحة الورد) ختمها بمقالة في الدعوة
العربية التي تتجلى في مقالات كثيرة منها، وكان يدعو إلى اتحاد النصارى مع
المسلمين في القومية العربية على القاعدة التي يدعو إليها السياسيون المتدينون،
وهي أن الدين لا يمنع من اتفاق المختلفين فيه على مصالحهم الدنيوية المشتركة،
بل قال: إن كانت الوحدة العربية تتوقف على توحيد الدين فهو يدعو أهل ملته
النصارى إلى الإسلام لأجل تحقيق تلك الوحدة.
وأما هذه القصائد والصحائف التي كانت آخر ما نشره من نظمه ونثره فهي
إسلامية عربية يدعو فيها إلى تجديد مجد الإسلام بالعرب ومجد العرب بالإسلام، فقد
كتب على طرتها أنه (طبعها بنفقته وعنايته لخدمة الدين والأمة والوطن) وأنه
ألفها في سنتي 1337 و 1338 هـ وطبعها في سنة 1339 هـ وقد صرح فيها
بإسلامه وافتتحها بالبسملة، ولكنه بنى دعوته على شفا جرف هارٍ، بنى عليه
قصورًا من الخيال، دونها الحمراء والزهراء، في البهجة والجمال، وحصونًا من
الأماني دونها الأبلق الغرد، بل جزيرة (هيلو جلند) ذلك بأنه اغتر بثورة الحجاز
والمملكة العربية فيه فطفق يدعو سائر العرب والمسلمين إلى مبايعة ملكه، وهو لا
يدري أنه قد قيد نفسه بوصاية دولة إذا مرت ببلد أو أكلت أو شربت فيه أو دفن أحد
من بنيها في أرضه تزعم أنه صار ملكًا لها وزال كل حق لأهله منه إلا ما تمنحه
هي لمن تستخدمهم في استعباده. وهو لا يدري كنه استعداد الحجاز وأهله للحكم
والملك، ولا ولا
…
إنما هو أديب مخلص، وشاعر مؤثر، وغيور على أمته،
ولكنه أضاع جهاده بوضعه في غير موضعه نتمنى أن لا تثنيه خيبة الأمل من هذا
الطريق على سلوك غيره في جهاده ونصائحه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عقود ضمان الحياة والمال من التلف والمكوس
وقراءةالعامي للحديث
(س3-5) من صاحب الإمضاء في بيروت:
حضرة الأستاذ الفاضل واللوذعي الكامل مولانا السيد محمد رشيد أفندي
رضا صاحب مجلة المنار الغراء، لا زال منارًا للإسلام، وكهفًا للأنام، أتقدم إلى
موائد علمكم الشريف بالأسئلة الآتية:
رجل ضمن محل تجارته من الحريق في إحدى شركات الضمان
(السيكورتاه) على مبلغ معين من المال، وقدر الله واحترق ذلك المحل، فهل
يجوز له شرعًا مطالبة شركة الضمان بهذا المبلغ، ويكون حلالاً له أم لا؟ وهل كل
أنواع الضمانات ضد الحريق والحياة والغرق والسرقة شرعية يجوز عملها أم لا؟
وهل الرسوم الجمركية التي تؤخذ على البضائع التجارية هي من المكوس
المحرمة التي لا يجوز أخذها؟
وإذا كانت حراما أيجوز للإنسان دفعها ولا يأثم على ذلك أم لا؟ وهل يجوز
للعامل الذي لا يعرف نحوًا ولا صرفًا أن يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم مع اللحن فيه أم لا؟
تفضلوا بيِّنوا لنا ذلك، والله يجازيكم على نشر أحكام شرعه أحسن الجزاء.
…
...
…
...
…
... السائل محمد طاهر اللادقي ببيروت
(ج) 1- كل ما في السؤال الأول فهو من المعاملات المالية غير المشروعة
في الإسلام، فلم يرد بها نص من الشارع ولم يقررها بالاجتهاد إمام عادل، وإنما
هي من العقود الحادثة عند أولي المدنية المادية في هذا العصر. ومن التزمها في
غير دار الإسلام والعدل لزمته شاء أم أبى، وإنما هو مخير في أخذ ما ثبت له دون
ما ثبت عليه، وللمؤمن في غير دار الإسلام أن يأكل مال أهلها بعقودهم ورضاهم
فهو لا يكلف معهم التزام أحكام دار الإسلام التي لا يلتزمونها، ولكن عليه أن يحاسب
نفسه على إضاعة ماله باختياره فيما له مندوحة عنه، وليس له أن يخون الحكومة
غير الإسلامية بدارها في المكوس المقررة عندها في نظامها، وأما إذا استطاع
إسقاطها أو تخفيها بغير السرقة والخيانة فلا بأس.
2-
وأما المكوس في دار الإسلام فقد ورد في السنة ما يدل على تحريمها،
وهو معروف، وجماهير الفقهاء يحصرون مال الحكومة الإسلامية بما يذكرونه في
كتب الفقه: كالغنائم والخراج وزكاة أموال المسلمين وجزية الذميين، وما يستخرج
من الأرض من الدفائن والمعادن، ولكن بعض المحققين بيَّنوا أنه يجوز للإمام
العادل استحداث ضرائب جديدة إذا توقف عليها القيام بأمر الملك وحاجة الجند.
قال الإمام الشاطبي في المثال الخامس للمصالح المرسلة من كتابه الاعتصام
(ص95 ج2) ما نصه: (إذا قررنا إمامًا مطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد
الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند
إلى ما لا يكفيهم (أي بيت المال) فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما
يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر [1] مال بيت المال. ثم إليه النظر في توظيف
ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك
…
(قال) : وإنما لم ينقل ذلك عن الأولين
لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى ووجه
المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت
ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار، وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله، فالذين
يحذرون من الدواهي أو تنقطع عنهم الشوكة يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها،
فضلاً عن اليسير منها) إلخ.
ونقول: إن حاجة الجند في زمن المؤلف رحمه الله، وهو من علماء الأندلس
في القرن الثامن لا تذكر بالنسبة إلى حاجتهم في زماننا هذا الذي تنفق الدول فيه
أكثر أموالها في الجندية وحاجتها، فقد صارت العلوم والفنون والأسلحة البرية
والبحرية والجوية فيها أوسع علوم البشر وأعمالها، ويتعذر إقامة حكومة إسلامية
صحيحة تلتزم أحكام فقه لا تكون مراعاة المصالح المرسلة من قواعده. ولا يكون
إمامها (الخليفة) وأهل الشوى لديه أو بعضهم من العلماء المجتهدين في أحكام
الشرع.
3-
يجوز للعامي أن يطالع كتب السنة للاستفادة منها، فإن عوام العرب
يفهمون كثيرًا منها فهمًا صحيحًا، وإذا أراد أن يحفظ حديثًا ليرويه ويفيد الناس به
فعليه أن يعتمد على بعض أهل العلم في ضبط ألفاظه وفهم معناه، ودرجته في
الصحة وما يقابلها.
_________
(1)
لعله: يكثر.