المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (24)

- ‌جمادى الأولى - 1341ه

- ‌فاتحة المجلد الرابع والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌الملحق الفني التابع لفتوى طهارة الكحولفي ج9 (م23)

- ‌استعمال الذهب والفضة

- ‌كتب ابن تيمية وابن القيموالشوكاني والسيد حسن صديق

- ‌الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية [*](2)

- ‌وصف استقلال العراق

- ‌رد على الرسالة الرملية فيما سمته العقائد الوهابية

- ‌أهم أخبار العالم

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌جمادى الآخرة - 1341ه

- ‌التصوير واتخاذ الصور والتماثيل

- ‌فتاوى المنار

- ‌الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية(3)

- ‌وصف ثورة الهند السياسية السلبيةوانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*](2)

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌نبأ عن النهضة الأفغانيةوكونها دينية مدنية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌رجب - 1341ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌وصف ثورة الهند السياسية السلبيةوانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية*(3)

- ‌أقدم كتاب في العالمأثر مصري

- ‌منشور عامفي المسألة العربية العامة والفلسطينية خاصة

- ‌وفاة عالم عربي

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌شعبان - 1341ه

- ‌إماطة اللثام عما علق بأذهان بعض المنتسبينإلى العلم من الأوهام

- ‌رسائل الطعن في الوهابية

- ‌رمضان - 1341ه

- ‌النفس التي خلق منها البشر

- ‌الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنجليزيةالعالم العلامة الأستاذ أبو الكلام(2)

- ‌الخوارج والإباضية

- ‌وفاة زعيم عربي علوي عظيمالسيد محمد علي الإدريسي

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تقريظ للمنار

- ‌شوال - 1341ه

- ‌الحلف بالطلاق - وأنواط النقود

- ‌ليلة نصف شعبان والاكتساب بالقرآن

- ‌خطاب مفتوح من روح الإسلام والجامعة العربيةإلى الشعب الإنجليزي والحكومة البريطانية

- ‌دعوة عامةمن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطينلعمارة الحرم القدسي الشريف

- ‌صفة المسجد الأقصى الشريفوخلاصة تاريخية له [1]

- ‌فاتحة كتاب الخلافةأو الإمامة العظمى

- ‌المراسلة والمناظرة

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ذو القعدة - 1341ه

- ‌التصرف في الكونوحكم من ادعى أن الله أعطى حق التصرف في ملكهللسيد البدوي

- ‌المعاهدة البريطانية الحجازيةوخدعة الوحدة العربية(2)

- ‌نص البيانالذي أصدره المؤتمر الفلسطيني السادس عن المعاهدة

- ‌منشور للإمام يحيى حميد الدين

- ‌اللورد فاروق هدلي وخوجه كمال الدين

- ‌وفاة رجل كبير ومحسن شهيرهو الحاج مقبل الذكير

- ‌ذو الحجة - 1341ه

- ‌الراتبة القَبلية للجمعةالقياس في العبادات، والتردد في نية الصلاةومن صلى غير ما نوى [*]

- ‌المسيحية الإسلامية القاديانيةالملقبة بالأحمدية

- ‌الأستاذ الخوجه كمال الدين

- ‌حقيقة الوهابية ومنشأ الطعن فيها

- ‌الاستفتاء في مَلك الحجاز

- ‌جهاد مسلمي الهند في سبيل الخلافة الإسلاميةوتحرير الجزيرة العربية

- ‌الخلاف بين مصر والحجاز

- ‌رجل مات والرجال قليلالأستاذ محمد وهبي

- ‌مصاب مصر بعالمها الأثري الأكبرأحمد كمال باشا

- ‌منشور الإمام يحيى والإنجليز

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌المحرم - 1342ه

- ‌هل كان النبي صلى الله عليه وسلميعرف لغة غير العربية

- ‌حركة الأرض وجريان الشمس لمستقر لها

- ‌حكم الصائم الذي يغطس في الماء

- ‌حقيقة الإيمان والكفر وشُعبهما

- ‌بطل العرب والإسلام العظيمالقائد الكبير محمد عبد الكريم

- ‌الخلافة والسلطان القوميوجهة نظر الترك إلى هذه المسألة الكبرى

- ‌انتقاد المنار لكتاب خلافت وحاكميت ملية

- ‌العرب في إيطالية في القرون الوسطى

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌ربيع الأول - 1342ه

- ‌أسئلة في حقيقة الخمر والسبيرتووما يدخل فيه من أدوية وغيرها

- ‌لغة الإسلامواللغة الرسمية بين الممالك الإسلامية

- ‌الخلافة الإسلامية

- ‌بعثة تنصير المحمديينوبرنامج كيدها للإسلام والمسلمين

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌خاتمة المجلد الرابع والعشرين

الفصل: ‌رجب - 1341ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الرابع والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ

وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (الإسراء: 111) .

نحمده بما حمد به نفسه، وأنى للعبد العاجز أن يحصي الثناء على ربه،

ونسأله الفضيلة والوسيلة، والدرجة العالية الرفيعة، والمقام المحمود الذي وعده

لصفوة خلقه وخاتم رسله، الذي بعثه من عرب مُضر للأبيض والأحمر،

والأسود والأصفر، ليصلح ما فسد من أمر البشر، ويزيل من بينهم فوارق التقاليد

والغِبَر، ويجعلهم أمة واحدة بعقيدة صحيحة مطهرة للعقل، وآداب عالية مزكية

للنفس، وعبادة خالصة مصفية للروح، ولغة فصيحة مرقية للشعور والعلم، وإلا

فبشريعة عادلة تساوي في أحكامها بين الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء،

والسوقة والملوك، لا تحابي رئيسًا على مرءوس، ولا صاحب منصب في دنيا أو

دين، أقامه حجة على جميع البشر، وجعل أمته شهداء على الأمم، وجعله هو

الشهيد على أمته، إذا انحرفت عن هدايته، أو قصرت في إقامة شريعته {يَا

أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً

* وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ

أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (الأحزاب: 45-48)

وقد بَلَّغَ - بأبي هو وأمي - الدعوة وأقام الحجة وبيَّن المحجة، فكان

المثل الأعلى في الحق والعدل، والرحمة والفضل، عانده الجبارون المتكبرون،

واستجاب له الفقراء المستضعفون، فنصر الله الفقر على الغنى والثروة، والضعف

على الشدة والقوة، بل نصر غنى النفس على غنى المال، وقوة الحق على قوة

الباطل، وجعل الفوز لجهاد القرآن، على جهاد السيف والسنان، فانتظم عصره

في سلك دينه ما كان مبعثرًا من قبائل العرب، ودان لخلفائه من بعده أعظم شعوب

العجم، وعم النور جميع الأمم، فأحيا الإسلامُ العلومَ والفنون، وابتكر حضارة

طريفة لم تر مثلها عيون القرون، جمعت بين العلم والدين، وألفت بين لذة الجسد

والنفس، ولذة الروح والعقل، وأقامت ميزان العدل بين المختلفين في الدين

والجنس والصفات، وألغت ما كان من التفاضل والامتياز بين الناس في الأنساب

والطبقات، وحصرت الفضل في الإيمان والتقوى وعمل الصالحات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ

قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ

وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء: 174-175) {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56)

أما بعد، فإن المنار يُذَكِّر قراءه في فاتحة مجلده الرابع والعشرين، بمثل سُنته

في فواتح ما غبر من السنين من العبرة بشئون الاجتماع والعمران، وتنازع

عوامل الصلاح والفساد في الإنسان، وما يناسب ذلك من هداية القرآن حجة الله

البالغة بما فيه من آيات العلم والتبيان المناسبة لكل زمان ومكان، وصفة من هو كل

يوم في شأن، ذلك بأن المنار إنما أنشئ لإيقاظ الشرق وتجديد الإسلام بإعادة

تكوين الأمة وحياة الملة والدولة، لا لفروع الفقه وأصول الكلام، ولا لجدليات

المذاهب الدينية، ولا تأييد العصبيات الجنسية، ولا لنشر ما يجدد في قضايا العلوم

ونظريات الفلسفة، أو مخترعات الفنون وعجائب الصناعة، ولا لقصص التاريخ

ونوادر الفكاهات، ولا لجوائب الحوادث وأخاديع السياسات، بل كل ما يذكر فيه

مما يدخل من هذه الأبواب، فإنما يولي وجهه شطر ذلك المحراب؛ لأن الأمة إذا

حيت أحيت من العلوم ما كان ميتًا، وأنشرت من الفنون ما كان رميمًا، وإذا ماتت

أماتت معها ما كان حيًّا، ودرست ما كان مدروسًا مرويًّا، وإن الغذاء اللطيف قد

يزيد الممعود الدوي دوى، والغذاء الخشن يزيد المتمعدد القوي قوى {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ

بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً * فَلَا

تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} (الفرقان: 50-52) .

ما كل من أعرض عن آيات الله في القرآن، يستطيع أن يعرض عما يصدقه

من آياته في الأكوان، ومن آياته الماثلة أمام الناظرين، فضيحة هذه المدنية المادية

التي فتنت أوربة بها المسلمين، فقد ظهر لهم ما كان خفيًّا من فسادها، وذهب

بهيبتها ما كان من الفظائع في حربها. ومن آياته أن ثَلَّ عروش دولها المقهورة،

وزلزل أركان دولها المنصورة، وضعضع ثروتها، وأوقع الاضطراب في

معيشتها. ومن آياته أن نقض غزل عهودها أنكاثا. واجتث شجرة وحدتها اجتثاثًا.

فبدت خبايا نبائثهم، وفضحت خفايا خبائثهم. ومن آياته أن أذل جبروت أعظم

دولة قاهرة بفئة من أضعف دولة مقهورة. فوطئ بها شم معاطسهم، وطأطأ من

إقماح أرؤسهم، وطأمن من إفراط تغطرسهم. حتى جنحت تلك الدولة العاتية

المتكبرة إلى مصالحة تلك الفئة التي كانت تسميها المشردة المتمردة. واضطرت

إلى الرضى بمساواتها في مؤتمر السلم، بعد أن كانت تستكبر أن توقفها موقف

المجرم لسماع الحكم. ومن آياته أن سخر ما بقي من قوة الأمة الروسية لحفظ ما

بقي من استقلال الدولة التركية بعد أن كانت هي الخطر على استقلالها، والمُجدَّة في

تقطيع أوصالها. ومن آياته أن أبطر الأمم الغالبة بمظهر غلبتها، وإن لم تكن

بمحض قوتها، فأصرت على غيها، واستمرأت مرعى بغيها، لتحق عليها

كلمة الانتقام من الظالمين، وتدمير فسقة المسرفين {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ

وَعَتَوْا عُتُواًّ كَبِيراً} (الفرقان: 21) ? {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا

فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) .

عسى أن يكون الباغون قد بلغوا أوج العلو ولم يبق إلا الهويّ، وأن يكون ما

بلغناه هو منتهى الحدور وما ثم إلا الرقيّ، فإن الوقوف في عالم الحياة محال،

وإنا وإياهم لفي انتقال وإنا كُلاًّ منا لعرضة للغرور فيه والضلال، وإن الغرور

لمحبطة للعمل، وإن الضلال لمدرجة للزلل، وإنا ليعوزنا من القوة والبصيرة في

بطء الصعود، فوق ما يعوزهم من الحكمة والروية في سرعة الهبوط، وإنهم

لأعلم منا بسنن الله في البشر، وبأيديهم ما ليس بأيدينا من وسائل الحذر، وأسباب

اتقاء الخطر، وإنا لا ينبغي لنا أن نغتر بما نرى من تفرق قوتهم، مع ما نعلم

ويعلمون من عدم اجتماع قوتنا، ولا بما انفصم من عروة وحدتهم، ولمَّا نوثق

عروة وحدتنا. فإن عطف بعضهم على بعضنا عطفًا سياسيًّا سلبيًّا، فإن منا مَن

يواليهم على أمته ولاءً إيجابيًّا {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ

بَصِيراً} (الفرقان: 20) {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ

وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ

أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 43-44) .

قد كان لنا جامعتان سَعِدَ سلفُنَا بالاعتصام بهما، وشقي خلفُنا بالتفرق

والاختلاف فيهما: جامعة علمية روحية وهي كتاب الله وما بيَّنه من سنة خاتم

النبيين، وجامعة سياسية عملية وهي الإمامة العظمى وما بيَّنها من سيرة خلفائه

الراشدين، وهدي السلف الصالحين، وهذه متممة للأولى ومنفذة لها، وإن الله

يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، تفرقنا في القرآن بالتأويل فذهبنا مذاهب جعلت

الملة الواحدة مللاً، وتفرقنا في الإمامة بالعصبيات فصارت الأمة أممًا والدولة دولاً،

ثم أعرضنا عن كل من الجامعتين كلتيهما، وبطل الاقتداء بالإمامين مع احترام

اسميهما أو كلمتيهما، فجمد بعضنا على ظواهر بعض الكتب التقليدية، وفتن

بعضنا بالقوانين والنظم الأوربية، وروابط شعوبها الجنسية والوطنية، وآدابها

وعاداتها الشخصية والاجتماعية، ومرت القرون وتعاقبت الأجيال ونحن على هذا

الضعف والانحلال، والمدَّعون للإمامة العظمى فينا بين معتزل في شاهق جبل قد

ضاقت به الحيل، لا يعرف مِن أمر مَن وراءه من المسلمين عرفًا ولا نكرًا، أو لا

يعرفون من أمره نهيًا ولا أمرًا. وبين ناعم في قصور جنانه بين قنانيه وقيانه،

مستبد في سلطانه، عاصٍ لربه مطيع لشيطانه، مفقر لرعيته ملن لأخدانه، مستغنٍ

بمدح كَذَبَة الجرائد، وخطباء الفتنة في المساجد، يتلُون بين يديه في كل جمعة {يَا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59)

غشًّا للأمة وتضليلاً، ويسكتون عن قوله تعالى بعده: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ

فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ولسان حال الرعايا يجيبهم بقوله عز وجل: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا

أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً

كَبِيراً} (الأحزاب: 67-68) .

كنت كتبت في فاتحة السنة الأولى للمنار، أن من أصول خطته: بيان حق

الإمام على الأمة، وحقوق الأمة على الإمام: فلما قرأتها على الناصح الأمين

مستشيرًا بها، اقترح ترميج هذه الكلمة منها. وقال: إن المسلمين لم يبق لهم

إمام إلا القرآن وإن البحث في الخلافة وما يجب على السلطان فتنة للناس، فواتيته

على حذف الكلمة، ولكن لم يسعني ترك البحث في المسألة بل نشرت في المجلد

الأول بضع مقالات في فساد حال المسلمين واضمحلالهم بإفساد أمرائهم وعلمائهم

ومرشديهم، بينت فيها مثار فساد الدنيا والدين بخروج الخلافة عن الأساس الذي

أقامها عليه الإسلام في عهد الراشدين، وكتبت بعد ذلك مقالات في الإصلاح الديني

المقترح على مقام الخلافة الإسلامية، على العلم بأنها لم تكن إلا اسميَّة أو وهميَّة،

فكان جزاء المنار على أمثال هذه المباحث الإصلاحية: تحريمه على البلاد

العثمانية، وتعذيب آل بيتنا في ديار الشام، وفاقًا لما نصح لنا به الأستاذ الإمام،

بل هي التي صدت الكثيرين عن المنار، الذين كانوا يقدسون السلطان عبد الحميد

في هذه الديار، وفي سائر ما استعبد الأجانب من الأقطار، على حين يعده جميع

مسلمي العثمانيين أفضل الجهاد لإحياء الدولة والدين، ولولا الإخلاص لَعَدَوْنَا ذلك

النَّصَب إلى ذُرى المناصب، والمتْرَبة إلى علو المراتب والرواتب، ولقد دعينا

إليها فأبيناها، وسئلنا الفتنة فما آتيناها، ولقد سئلها كثيرون فآتوها {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا

إِلَاّ يَسِيراً} (الأحزاب: 14) {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً

مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) .

ونحمد الله أن كان من آثار ما أحدثت الحرب العامة من التطور العام أن

وضعت هذه المسألة موضع البحث في هذه الأيام، بعد أن دك أحرار الترك هيكل

تلك الأوهام التي كانت تشبه معابد الأصنام، فكان أهم ما يعنى به المنار من خدمة

الإسلام، أن يوفيها حقها من تحقيق أحكامها الشرعية، وبيان وسائلها العملية،

وموانعها السياسية والاجتماعية، ليكون الساعون إلى إقامتها على بصيرة من أمرهم

فيها، مهتدين بكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم {إِنَّ

هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ

أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ

يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) .

ألا إن إقامة الإمامة هي التي تحيي هذه الأمة، ولكن أمرها لا يزال عمة ليس

وراءها غمة، وإنها لترهق محاولها صعودًا وتقتحم به كؤدًا وتجشمه منالاً بعيدًا،

يركب فيه الشبهة ويخبط في ديجوره العشوة، وإن أسعد الناس بها لأزهدهم

فيها، وإن أطمعهم فيها لأعجزهم عنها، وإن أقربهم منها لأبعدهم عنها، فلا الوسيلة

ممهدة، ولا السبيل معبدة، وإنما كل الفرصة السانحة أن مسكتي الألسنة قد أنطقوها

وحاظري إجالة الرأي فيها قد أباحوها، أهل الحرص عليها يتخبطون فيها، فوجب

على أهل الحقيقة أن يقولوها وعلى عارفي الطريقة أن يسلكوها، وعلى حاملي

الأمانة أن يؤدوها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ

أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً * إِنَّا عَرَضْنَا

الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا

الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب: 70-72) .

...

...

...

...

منشئ المنار

...

...

...

محمد رشيد رضا الحسيني الحسني

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدعوة إلى انتقاد المنار

ندعو كل من يطلع على المنار أن يكتب إلينا بما يرى فيه من خطأ أو خطل

مبينًا ذلك بالدليل، من غير استطراد ولا تطويل، فإنه من الأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وقد أمر الله تعالى به في كتابه، ونحن نعد

بأن ننشر ذلك بشرطه، ونعترف لكل ذي حق بحقه، وليس لنا فيما ننشر هوى

فنُصِر عليه ولا منفعة مادية فنحرص على استبقائها، ولا جاه ولا عصبية فنخشى

إضاعتها، بل لا نزال مستهدفين لخسارة المال، وإسخاط جميع مصادر الجاه،

ولكن في سبيل الله {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى: 36) .

_________

ص: 8

الكاتب: أحمد بك عيسى

‌الملحق الفني التابع لفتوى طهارة الكحول

في ج9 (م23)

بقلم الطبيب العالم أحمد بك عيسى

الكؤول alcohol كلمة عربية الأصل، أصلها (كحول) وهي المادة الدقيقة

اللطيفة التي يتكحل بها، وقد اقتبسها الإفرنج من اللغة العربية في العصور الوسطى

وأطلقوها مجازًا على المادة اللطيفة المعروفة، ولم يتوصل الباحثون في كيمياء

العرب إلى الآن إلى معرفة الزمن الذي اقتبست فيه، ولا الكتاب الذي اقتبست منه

وأطلقت على هذه المادة، ولا أول من اقتبسها، وقد كتب في ذلك العالم الكيموي

الشهير (بريتلوا) في كتابه المُعَنْوَن (كيمياء العصور الوسطى) والسبب في تسميتها

(اسبرتو) هو أن الكحول كانت في الابتداء تستخرج من النبيذ؛ ولذلك كانت

تسمى روح النبيذ uin aie Espit فأخذت الكلمة الأولى، وعربت (اسبرتو)

بمعنى روح، والكحول هذه مائع شفاف لا لون له طعمه حامز قارص، عطري

الرائحة ساطع، يلتهب ويغلي على درجة 78 مئوية ووزنه النوعي 0.79

وتستخرج الكحول من تقطير الموائع السكرية والمخمرة، ومن المواد السكرية

والنشوية على وجه العموم، وإذا التهب الكحول استحال إلى ماء وكربون، وإذا

خلط بالأحماض الجاويك والكبريتيك والأزوتيك والفسفوريك تولد من خلطها موائع

أخرى تسمى الأثيرات (جمع إثير) .

وللكحول أنواع عديدة بحسب عدد جواهر الكربون والأيدروجين الموجودة فيه

وتستعمل الكحول مذيبة لكثير من المحضرات الإفرباذينية كالأصباغ مثل صبغة

اليود وغيرها كثيرًا جدًّا، وتستعمل كذلك في الأطلية والدهون وفي العطور، وهي

مطهرة من الظاهر مانعة للعفونة وقابضة تقطع الأنزفة، ولها استعمالات أخرى

كثيرة لا يستغنى عنها.

* * *

ملحق آخر

للصيدلي محمد علي بك نصوحي

الكؤول سائل يشبه الماء، شفاف خفيف قابل للالتهاب بسرعة سريع التبخر

يستحصل عليه بواسطة الأنبيق (التقطير) من بعد اختمار العنب، والقصب

والبلح، والخشب والبنجر، وجميع الأثمار المعروفة في العالم.

نستعمل هذه المادة - أي الكؤول - في أكثر السوائل بل جميعها تقريبًا؛ لأن

الصفات والخلاصات المستعملة في فن الطب لا يمكن استحضارها إلا بواسطة

الكؤول.

ويستعمل في دهانات اللوسز، أي على الأخشاب، وفي غالب الروخات

الطبية التي تستعمل للتدليك وللدهان، وله منافع عديدة في فن الطب، والإفرباذين

وكذا الأعطار التي من نوع الكلونيا المعروفة عند القريب والبعيد المتداولة في العالم.

_________

ص: 18

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استعمال الذهب والفضة

(س) من صاحب الإمضاء ببيروت:

حضرة صاحب الفضل والفضيلة مولانا الأستاذ المحترم السيد محمد رشيد

أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد فإني أرفع لفضيلتكم السؤال

الآتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه، ولسيادتكم من الله تعالى جزيل الأجر، ومني

عظيم الشكر: جاء في الشرب في آنية الذهب بالجزء الثامن من صحيح الإمام

البخاري رضي الله تعالى عنه من حديث ابن أبي ليلى قال: كان حذيفة بن اليمان

بالمدائن فأتاه دهقان بقدح من فضة فرماه به فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم

ينته، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية

الذهب والفضة. وفي باب آنية الفضة التالي للباب المذكور من حديث ابن أبي

ليلى بطريق غير الطريق الأول قال: خرجنا مع حذيفة، وذكر النبي صلى الله

عليه وسلم قال (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة) وفي حديث أم سلمة زوج النبي

صلى الله عليه وسلم من الباب المذكور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وفي حديث البراء

ابن عازب التالي لهذا الحديث قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، إلى

أن قال: ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشرب في الفضة، أو قال: آنية

الفضة. وهو والمنصوص في مذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه تحريم

الفضة مطلقًا على الرجال إلا ما استثني من نحو الخاتم، وعلى النساء مطلقًا إلا

للتحلي. وفي الجزء الأول من كتاب الترغيب والترهيب للإمام الحافظ زكي الدين

ابن عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (صحيفة 144 طبعة أولى سنة1324هـ

بالمطبعة الشرفية) ما نصه: وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يُحَلِّق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة

من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقًا من نار فليطوقه طوقًا من ذهب، ومن

أحب أن يُسَوِّر حبيبه بسوار من نار فليسوره بسوار من ذهب، ولكن عليكم بالفضة

فالعبوا بها) رواه أبو داود بإسناد صحيح، وقد نقل صاحب الكتاب المذكور

عن (المحلى) الجواب عن الأحاديث التي ورد فيها الوعيد على تحلي النساء

بالذهب قبل هذا الحديث، ولم يُجِبْ عن هذا الحديث المفيد بظاهره إباحة الفضة

مطلقًا للرجال ولو في غير الخاتم، وللنساء ولو في غير الحلي فتفضلوا - حفظكم

الله - ببيان الجمع بين الأحاديث المذكورة، وحديث أبي داود المذكور على فرض

مساواته لأحاديث البخاري وببيان دليل تحريم غير الشرب من أنواع الاستعمال وبيان

وجه تحريم غير الآنية كساعة الجيب وساعة اليد وأسورتها والأزرار والأنواط ويد

العصا والختم، ونحو ذلك من أنواع الاستعمال ولفضيلتكم الأجر.

...

عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي - الشافعي مذهبًا - ببيروت

(ج) مذهب الظاهرية نفاة القياس كالإمامين داود وابن حزم وكثير من

فقهاء الحديث الذين يثبتون القياس أن التحريم الديني لا يثبت بالقياس، ولهم في

ذلك أدلة بسطناها في التفسير وفي مواضع أخرى من المنار، منها حديث (وسكت

عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها) فهؤلاء كلهم يبيحون استعمال

الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، وما ورد من حلية الرجال دون غيرها

بقاعدة البراءة الأصلية وأصل إباحة الزينة الثابت بنص قوله تعالى: {قُلْ مَنْ

حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) الآية،

واستعمال الفضة خاصة بما ذكر من حديث أبي موسى الأشعري وبحديث (ولكن

عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) رواه أحمد وكذا أبو داود من حديث أبي هريرة كما

تقدم في السؤال، وليس عند الشافعية وغيرهم دليل على تحريم كل استعمال للذهب

والفضة في غير حلية النساء وخاتم الفضة للرجل والضبة بشروطها إلا القياس،

والقياس حجة مختلف فيها بين علماء السلف والخلف، وقد بسطنا أدلة المثبتين

والنافين وحقَّقنا المسألة في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ

أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) الآية، فليراجعها السائل إذا أحب أن

يكون على بصيرة في دينه في أمثال هذه المسألة [1] .

وليراجع أيضًا تفسير {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وكلاهما في

سورة المائدة [2] ولعل قلبه يطمئن حينئذ بأن عقائد الدين وعباداته والمحرمات

الدينية إنما تثبت بالنص أو فحواه بشرطه دون القياس، وناهيك بقياس معارَض

بالأصول القطعية ونصوص الكتاب والسنة كتحريم الزينة والطيبات بغير نص

يصلح مخصصًا لعموم الزينة في آية الأعراف. وإنما القياس والاجتهاد في الأمور

القضائية ونحوها من المعاملات التي لا تحصر جزئياتها وتختلف باختلاف

العرف والزمان والمكان ولا سيما السياسي منها.

ومن التعليلات التي يذكرها بعضهم للتحريم: كسر قلوب الفقراء، ومقتضاها

أن الغني يجب أن يكون طعامه ولباسه ومسكنه كالفقير، وهذا أمر مردود بنصوص

الكتاب والسنة ومخالف لكلامهم في النفقات، ويفضي العمل به إلى فساد العمران

فراجع تفسير {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) في المجلد 23 المنار.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

تراجع علاوة على تفسير الآية ص 138 - 201 ج 7 تفسير.

(2)

ص 154 - 167 ج 6 تفسير.

ص: 20

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتب ابن تيمية وابن القيم

والشوكاني والسيد حسن صديق

(س2) ومنه: ما قولكم - رضي الله تعالى عنكم - في مؤلفات وفتاوى

الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية الحنبلي، والشيخ شمس الدين أبي عبد الله

محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية الحنبلي، والشيخ محمد بن علي

الشوكاني اليماني، والعلامة السيد أبو الطيب صديق بن حسن بن علي بن لطف الله

الحسيني القنوجي البخاري: هل هي من الكتب المعتمدة المتلقاة كغيرها بالقبول أم

هي من الكتب المطروحة التي لا يُعَوَّل عليها، ولا يجوز النقل عنها والإفتاء بما

فيها؟ تفضلوا حقِّقُوا لنا ذلك، فإن المطلوب النقل منها وهي موجودة لدينا، فقال

بعض أهل العصر: هذه الكتب لا يعول عليها ولا يلتفت إليها، بل هي من الكتب

غير المعتمدة. تفضلوا أفيدونا، ولفضليتكم من الله تعالى جزيل الأجر ومنا عظيم

الشكر.

(ج) قد سئلنا من عهد قريب عن كتب الشيخين الأولين وأجبنا عنه، ونقول

الآن: إن كتب هؤلاء العلماء الأعلام من أفضل ما اطلعنا عليه من كتب علماء

الإسلام، من حيث إنهم جمعوا بين العلم بالكتاب والسنة رواية ودراية وبين الاطلاع

على كتب مذاهب علماء الأمصار الذين يقلدهم الناس وغيرهم، ولم يلتزموا التعصب

لإمام معين ولا لأهل مذهب، بل محَّصوا الأدلة ورجَّحوا ما كان دليله أقوى. فكتبهم

أحق بالاستفادة من كتب المقلدين لمذهب معين يتمسكون بأقوال أهله وإن خالفت

النصوص الصريحة والأحاديث الصحيحة، وأكثرها خلو من الأدلة مطلقًا أو أدلة

المخالف.

وقد طبعت هذه الكتب وقرَّظها بعض كبار العلماء، ولا يزل أهل العلم

الصحيح وطلابه يتنافسون فيها، وسوقها أروج من غيرها ومنها ما تكرر طبعه.

وقد كان (نيل الأوطار) يباع بجنيهين وهو يساوي الآن بضعة جنيهات، وقلما يوجد.

وإنما ينهى بعض المقلدين للمذاهب المشهورة عنها كما ينهون عن العمل والفتوى

بمذاهب الصحابة والتابعين بغير حجة إلا ما نذكره قريبًا من الاعتذار عن ذلك.

ولو خرج أحد الأئمة الأربعة من قبره ورأى هذه الكتب لفضَّلها على جميع

كتب المقلدين له؛ لأنها قلَّمَا تخالف غيرها إلا بترجيح حديث صحيح على ضعيف

أو على قياس، وهذا أصل مذاهبهم كلهم رضي الله عنهم، ولكن المنتمين إلى

مذاهبهم اتخذوا أقوالهم وأقوال كبار أصحابهم أصولاً في التشريع ودلائل على حكم

الله، ويوجبون تقليدهم في كل ما روي عنهم، وإن خالفت نصوصُ الشارع أصولَهم

التي بنوا عليها مذاهبهم، وكلهم يتبرأ من ذلك، وهذا كتاب مختصر المزني

صاحب الإمام الشافعي قد افتتحه بعد البسملة بقوله: (اختصرت هذا الكتاب من

علم محمد بن إدريس الشافعي لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده

وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه) لمثل هذا النظر والاحتياط استنبطوا

وألفوا، وهو ما نقتدي بهم فيه عند النظر في الكتب المسئول عنها فلا نتبع

أصحابها في فهمهم تقليدًا بل نستعين بها ككتب الأئمة الآخرين على معرفة الراجح

في مسائل الخلاف.

وقد اعتذر بعض علماء التقليد عن هذا التحكم بحصر العمل والفتوى في

مذاهب الأئمة الأربعة عند أهل السنة بأن مذاهبهم هي التي دونت واستمر العمل

عليها، ووسعت مباحث الفروع فيها فاستغني بها عن غيرها من المذاهب المندرسة

مع الاعتراف بالاجتهاد لأهلها.

وأجبنا عن هذا: (أولاً) بأن السنة وآثار الصحابة قد نقلت نقلاً أصح

من نقل المذاهب بالأسانيد التي وضعت لها كتب الجرح والتعديل وعلل الحديث

وشروحه، وهي أصل هذه المذاهب كلها بعد القرآن، فلماذا لا يكون العمل بها هو

المقدم على كتب الفقه التي تكثر فيها أدلة الأقيسة والرأي التي اختلف علماء

السلف في الاحتجاج بها، ولا سيما قياس الشَّبه، وما فيه من مسالك العلة التي

يتعذر إثبات شرعيتها. وثمة مذاهب أخرى منقولة مدونة ويعمل بها ملايين من

المسلمين كمذاهب آل البيت النبوي.

(وثانيًا) بأنهم قالوا: إن اختلاف العلماء رحمة للأمة، فلماذا نضيق باب هذه

الرحمة عليها بحصر الاستفادة بواحد تحرم الاستفادة من غيره بتسميته تلفيقًا،

ونخالف السلف الصالح الذين كان عوامهم يستفتون كل عالم يوثق بعلمه.

مثال ذلك أن الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى كانا شديدي الورع، وكانت

حضارة الإسلام قد اتسعت في زمانهما، ولا سيما في بغداد ومصر مصدر علمهما،

فكان لهذين الأمرين تأثير عظيم في اجتهادهما في مسائل الطهارة والنجاسة، على

سعة علمهما بالسنة وبما كان عليه الصحابة في عصر التشريع من الضيق وقلة الماء،

حتى إن مقلديهما يكثر فيهم الحرج والوسواس في الطهارة، فلماذا تحجر على

الأمة أن تطلع على فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال بعض العلماء في

استحضاره لنصوص الكتاب والسنة عند بحثه في كل مسألة: كأنها قد كتبت في

كفه؟ وأن تأخذ بما أثبته بعد بيان أدلة المذاهب الأربعة وغيرها من طهارة كل ماء

ومائع لم يتغير بالنجاسة التي تصيبه وهو قول طائفة من كبار علماء الصحابة

والتابعين وعلماء الأمصار المجتهدين كابن مسعود وابن عباس والزهري وأبي

ثور والظاهرية، وهو يميل إلى مذهب الإمام مالك في مسائل النجاسات ككثير من

محققي المذاهب الأخرى ومنهم الغزالي من الشافعية، ومالك لم يأخذ علمه في أمثال

هذه المسائل العملية من الاستنباطات اللفظية فقط، بل كان مرشده فيها عمل أهل

المدينة من التابعين الذين تلقوا عن الصحابة رضي الله عنهم، وما من مجتهد إلا

وقد انفرد بمسائل ردها عليه غيره، وما زال العلماء المنصفون يعذر بعضهم بعضًا

في المسائل الخلافية التي لم يجمع عليها أهل الصدر الأول، وأولى الجميع بأن

يُرَجَّح كلامه مَن لا يقول إلا بدليل، ولا يكلف أحدًا أن يعمل إلا بما يظهر له صحة

دليله كأصحاب الكتب المسئول عنها، والله قد أرشدنا إلى اتباع الأحسن، وهو لا

يُعلم إلا بالنظر في الأدلة.

_________

ص: 22

الكاتب: محمد رشيد رضا

الجامعتان الإسلامية والشرقية

دعوة السيد الأفغاني إليهما، تأثير دعوته بعد جيل كامل في الشعوب

الأعجمية، جمود جزيرة العرب واضطراب العراق وسورية، الإنكليز مثيرو الفتنة

وعليهم تقع تبعتها.

كانت فكرة الجامعة الإسلامية خيالاً لاح في أذهان بعض رجال السياسة في

أوروبا فطفقوا يبحثون فيه، ويصورون لأقوامهم قوادمه وخوافيه، حتى صار

الكثيرون منهم يحسبون أنه حق لا ريب فيه.

أثار هذا الخيالَ في تلك الأدمغة كثرةُ التفكر في تاريخ الشعوب الإسلامية التي

أسرعت أوروبا في ثَلِّ عروشها، واستعباد أمرائها وملوكها، والتمتع بخيرات

بلادها، فإن المطَّلع على ذلك التاريخ الفيَّاض بما كان لها من العزة والبأس في

الحرب، والعلم والحكمة وإقامة العدل جدير بأن يحسب لانتقاضها على المستذلِين

لها ألف حساب، وإن استحوذ عليها الجهل، وحرقتْ نسيجَ وحدتها العداوات

الجنسية والمذهبية، فصار بأسها بينها شديدًا، وقيادها للأجانب لينًا سلسًا، ولئن

نبهت مباحث أولئك السياسيين بعضَ الأذكياء إلى هذا الأمر العظيم، فلم يكن في

استطاعتها أن تحفز همة أحد من أمرائهم ولا من كبراء الهمم والعقول فيهم إلى

السعي له والدعوة إليه، ولئن وُجد أفراد - منهم السلطان عبد الحميد - أحبوا أن

يستفيدوا من حذر الأوروبيين منه بإيهامهم إياهم أنهم يعدون له عدته، ويتخذون له

أهبته، فقد كان من تأثير هذا الإيهام مبادرة أولئك الحازمين إلى قطع طرقه،

والإسراع بالقضاء على ما بقي لتلك الشعوب من ماء الاستقلال ورمقه.

إي وربي ! إن الشعوب الإسلامية لم تنجب من بعد الحروب الصليبية رجلاً

عظيمًا عالي الهمة، يسعى إلى جمع كلمة المسلمين وتوحيد قواهم المتفرقة، لدفع

عوادي الذل والاستعباد عنهم، لا بدعوة علمية اجتماعية، ولا بتأليف قوة عسكرية

عصرية، إلا (السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني) حكيم الشرق، وحافزه

لتحرير نفسه من الرق، فهو الذي اهتدى بذكائه ونظره البعيد وفكره الوقاد إلى

تدارك الإسلام وإنقاذ الشرق من الاستعباد، بالسعي إلى هذا الاتحاد، فطاف

لأجله البلاد، ونادى به على رءوس الأشهاد؛ فلم تكن دعوته في عصره صرخة في

واد، أو نفخة في رماد، بل كان في خلل الرماد وميض نار طار شرارها كل مطار،

حتى عم بعده الأقطار.

ألقى بذور دعوته الأولى بمصر وكانت عنايته فيها موجهة إلى إحياء الشعب

المصري لتكون مصر مركز الدعوة العامة، وتكون دولة وادي النيل هي الدولة

القوية التي تعتز بها الأمة، وتكون النواة لتنفيذ مذهبه السياسي في إعزاز الإسلام

وتقليص ظل الدولة البريطانية عن رءوس المسلين.

وبعد أن نُفي بتأثير الدسائس الإنكليزية من مصر، ومن أجل بث الدعوة ألَّف

جمعية العروة الوثقى، وأنشأ جريدتها في باريس للدعوة العامة إلى الوحدة تحت لواء

الخلافة الإسلامية، وكان جُل سعيه وعمله فيما وراء الغاية العامة الدفاع عن مسألة

مصر عقب الاحتلال، وقد عني عناية خاصة بجمع الكلمة والتأليف بين الشعبين

المتجاورين اللذين نشأ هو وكثير من آبائه وأجداده في بلادهما، أعني الشعب الأفغاني

والشعب الإيراني، وقد بيَّنتْ جريدة العروة الوثقى التي كانت تتجلى بها آراؤه بقلم

مريده وصديقه شيخنا الأستاذ الإمام (رحمهما الله تعالى) الغاية، وأشرعت السبيل

وبينت الوسائل، وأرشدت إلى إزالة الموانع، وكان من رأيه أن تكون مكة المكرمة

هي مركز الدعوة.

كان لهذه الدعوة تأثير عظيم في العالم الإسلامي حتى كان العقلاء وأهل الرأي

من قرائها في الأقطار المختلفة يعتقدون أنها لا تلبث أن تحدث انقلابًا عظيمًا في

الشرق. سمعنا هذا من شيخنا الشيخ حسين الجسر الشهير في طرابلس، ورواه لنا

محمد علي بك المؤيد عن الزعيم الكبير السيد سلمان الكيلاني نقيب بغداد في ذلك

العهد، بيد أن مصادرة الدولة البريطانية للجريدة، ومنعها من مصر والهند

وغيرهما من أقطار المشرق كانت سببًا لترك الاستمرار على إصدارها، فكان كل ما

صدر منها 18 عددًا، ولكنه لم يترك الدعوة والسعي إلى الغاية، بل بثها في البلاد

الفارسية ثم في القسطنطينية، ثم قضى السيد وما قضى منها وطرًا، ولم يقم بعده

أحد بالدعوة والسعي لها بمثل تلك القوة، بل ضعفت الرابطة الإسلامية، بما

تغلب عليها من العصبية الجنسية، ولا سيما في الشعوب الأعجمية، بيد أن القوي

في الضار قد يكون قويًّا في النافع، فهذه الشعوب التي كانت في غاية التعادي

الجنسي، وكانت قبل ذلك فيما هو أشد منه من التعادي المذهبي: هذا سُني وهذا

شيعي - ثابَتْ الآن إلى رُشدها، وعلمت كل منها أن الوحدة هي التي تحفظ جنسها

ودينها ومذهبها، فمد كل منها يده إلى الآخر يصافحه مصافحة الأخ لأخيه،

ويعاهده معاهدة الولي لوليه.

تعاقد الترك والفرس والأفغان، وشدوا معاقد حلفهم ببخارى وخيوة وأذريبجان،

وبنوا دعاية الولاية والبراءة في سائر الشعوب الإسلامية في الشرق، يؤيدها بالمال

والرجال مسلمو الهند، بل شدوا أواخيّ الجامعة الشرقية بوثنيي الهند ونصارى

الروسية البلشفية التي سخرها الله لجهاد تأليه الثروة والعظمة الأوروبية،

والغرض العام لهذه الأمم كلها تحرير الشرق من رق الجزيرة البريطانية، التي

طمحت باستعبادها له إلى منازعة الربوبية، وما يتلو ذلك من تحرير سائر الشعوب

المستضعفة.

كل هذا والشعب العربي الذي ضعفت رابطته الجنسية بتعاليم الإسلام،

ووحدته الدينية باختلاف المذاهب وتنازع الحكام مُصِرٌّ على تَفَرُّقِهِ غافلٌ عما يُرَاد

به، حتى في مهد الإسلام من جزيرته، وقد رأى سوء عاقبة ذلك في سلب الأجانب

لاستقلال أخصب بلاده، ومحاولة إنشاب براثنه في باقيها، والإحاطة بها من

أطرافها، وهو مع ذلك في غمة من أمره لا يدري كيف يخرج منها، وإنما الذنب

في ذلك على ملوكهم وأمرائهم الجاهلين بكُنْهِ تأثير دسائس أعدائهم، وتسخيرهم

لمنع الجامعات الإسلامية والشرقية والعربية جميعًا من حيث لا يشعرون، ولكن هذه

السياسة الخبيثة ستنتهي بالخيبة، ولن ينقذ الإنكليز من سوء عاقبة عداوتها للإسلام،

اصطناع بضعة رهط من زعماء العرب بعضهم لبعض عدو، وودهم كله سيبلى،

وهم عاجزون عن إقناع شعوبهم بصداقة الإنكليز لهم، مع احتلالها لأخصب

بلادهم وإلقائها للفتن بينهم، ولا هم قانعون بذلك فيقنعوا غيرهم، بل كل واحد منهم

يكابر نفسه ويتأول لها، ويخفي مودته ويتعذر عما ظهر منها، وإنما تنقذ الإنكليز

سياسة أخرى عَمُوا عنها وصَمُّوا وقد نُصحوا وأُنذروا، لا أقول سياسة الصدق

والوفاء للعرب ! بل التحول عن محاولة استعبادهم من حدود برقة إلى العراق

وعمان، وقتل الإسلام في مشرق نوره ومواطن حضارته، مع القضاء على بلاد

الترك أمنع حصونه وأمضى أسلحته، فإن كان الترك قد أفلتوا من الشرَك الذي وقع

فيه وحيد الدين، فسيفلت العرب مما وقع فيه أمثاله المخدوعين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ

حِينٍ} (ص: 88) .

* * *

] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا [[*]

من مقالات العورة الوثقى في الحث على الجامعة الإسلامية نشر منذ 40

سنة [1] .

إن للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتًا على يقينهم، يباهون

بها من عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض.

ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم

كفالة لسعادة الدارين، ومن حرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم

أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة كما هي

في علمائهم متمكنة في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من

بقاع الأرض - عالمًا كان أو جاهلاً - أن واحدًا ممن وسم بسمة الإسلام في أي قطر،

ومن أي جنس صبأ عن دينه، رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرق وتأسف

يلهج بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على من نزلت به،

بل وعلى جميع من يشاركه في دينه، ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ

وقرأها قارئهم بعد مئين من السنين، لا يتمالك قلبه من الاضطراب ودمه من

الغليان، ويستفزه الغضب ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدِّث عن غريب أو

يحكي عن عجيب.

المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة مطالبون عند الله بالمحافظة

على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم

وبعيدهم، ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على

كل واحد منهم، إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام.

وحفظ الولاية: بذل الأموال والأرواح، وارتكاب كل صعب، واقتحام كل

خطب، ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال حتى ينالوا الولاية

خاصة لهم من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على من يخالفهم

إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره، لوجبت عليه الهجرة من دار

حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية، يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها

تأويلات أهل الأهواء وأعوان الشهوات في كل زمان.

المسلمون يحس كل واحد منهم بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره بما تطالبه به

الشريعة وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات دينه،

ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يلم بالبعض

الآخر، ولا يألمون لما يا لم له بعضهم، فأهل بلوجستان كانوا يرون حركات

الإنكليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم ولا يجيش لهم جأش ولم تكن لهم نعرة

على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون الإنكليز في بلاد فارس ولا يضجرون ولا

يتململون. وإن جنود الإنكليز تضرب في الأراضي المصرية ذهابًا وإيابًا تقتل

وتفتك ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري مائهم، بل

السامعين لخريرها من حلاقيمهم الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين أيديهم

وتحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.

تمسُّكُ المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم مع هذه الحالة

التي هم عليها مما يقضي بالعجب، ويدعو إلى الحيرة ويسوق إلى بيان السبب،

فخذ مجملا منه:

إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية، وسائر المعلومات والمدركات والوجدانيات

النفسية وإن كانت هي الباعثة على الأعمال، وعن حُكمها تصدر بتقدير العزيز العليم

- لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس وتطبع الأنفس عليها، حتى يصير

ما يعبر عنه بالمَلَكَة والخُلُق وتترتب عليه الآثار التي تلائمها.

نعم إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده، إلا أن ما ينعكس إلى مرايا عقله من

مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكرًا، وكل

فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل ثم يعود من العمل إلى الفكر،

ولا ينقطع العقل والانفعال بين الأعمال والأفكار ما دامت الأرواح في الأجساد،

وكل قبيل هو للآخر عماد.

إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل، ولا أثر لها في الاعتصاب

والالتحام لولا ما تبعث به الضرورات، وتلجئ إليه الحاجات، من تعاون الأنسباء

والعصبة على نيل المنافع، وتضافرهم على دفع المضار، وبعد كرور الأيام على

المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذًا يصرفه في آثارها بقية الأجل،

ويكون انبساط النفس لعَوْن القريب وغضاضة القلب لما يصيبه من ضَيْم أو نكبة

جاريًا مجرى الوجدانيات الطبيعية، كالإحساس بالجوع والعطش، والري والشبع،

بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعده طبيعيًّا، فلو أهملت صلة النسب بعد ثبوتها

والعلم بها، ولم تدع ضرورات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما يمكن تلك الصلة

ويؤكدها، أو وجد صاحب النسب من يظاهره في غير نسبه، أو ألجأته ضرورة

إلى ذلك، ذهب أثر تلك الرابطة النسبية، ولم يبق منها إلا صورة في العقل تجري

مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات، وعلى مثال ما ذكرنا في رابطة

النسب - وهي أقوى رابطة بين البشر - يكون الأمر في سائر الاعتقادات التي لها

أثر في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض. إن لم يصحب العقد

الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الداعية إلى عمل تنطبع عليه الجارحة وتمرن عليه

ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئة للروح وشكلا ًمن أشكالها - فلن يكون

منشأ لآثاره، وإنما بعد في الصور العقلية له رسم يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه

كما قدمنا.

بعد تدبر هذه الأصول البينة، والنظر فيها بعين الحكمة، يظهر لك السبب

في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم، والعلة في تباطؤهم عن

نصرة إخوانهم، وهم أثبت الناس في عقائدهم، فإنه لم يبق من جامعة بين

المسلمين في الأغلب إلا العقيدة الدينية مجردة عما يتبعها من الأعمال، وانقطع

التعارف بينهم، وهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل. فالعلماء وهم القائمون

على حفظ العقائد وهداية الناس إليها لا تواصُل بينهم ولا تراسل، فالعالم التركي في

غيبة عن حال العالم الحجازي فضلاً عمن يبعد عنهم، والعالم الهندي في غفلة عن

شئون العالم الأفغاني، وهكذا بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم، ولا

صلة تجمعهم إلا ما يكون بين أفراد العامة لدوعٍ خاصة من صداقة أو قرابة بين

أحدهم وآخر، أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم، بل لا أنساب بينهم، وكل ينظر

إلى نفسه ولا يتجاوزها، كأنه كون برأسه.

كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء كانت كذلك بين الملوك

والسلاطين من المسلمين، أليس بعجيب أن لا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش

ولا لمراكش عند العثمانيين؟ ! أليس بغريب أن لا تكون للدولة العثمانية صلات

صحيحة مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في المشرق؟!

هذا التدابر والتقاطع وإرسال الحبال على الغوارب عم المسلمين حتى صح

أن يقال: لا علاقة بين قوم منهم وقوم، ولا بلد وبلد، إلا طفيف من الإحساس بأن

بعض الشعوب على دينهم، ويعتقدون مثل اعتقادهم، وربما يتعرفون مواقع

أقطارهم بالصدفة إذا التقى بعض ببعض في موسم الحجيج العام. وهذا النوع من

الإحساس هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم

على يد أجنبي عن ملته. لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته.

كانت الصلة كجسم عظيم قوي البنية صحيح المزاج فنزل به من العوارض ما

أضعف الالتئام بين أجزائه فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على

حدة وتضمحل هيئة الجسم.

بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة

العلمية عن رتبة الخلافة وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا

شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الراشدون

رضي الله عنهم، كثرت بذلك المذاهب، وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث

من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة

فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية

في أطراف الأندلس. تفرقت بهذا كلمة الأمة وانشقت عصاها، وانحطت رتبة

الخلافة إلى وظيفة الملك فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج طلاب الملك والسلطان

يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة ولا يرعون جانب الخلافة.

وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده،

وتيمورلنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلاً وإذلالاً حتى أذهلوهم عن أنفسهم

فتفرق الشمل بالكلية وانفصمت عرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا، وانفرد

كل بشأنه وانصرف إلى ما يليه، فتبدد الجمع إلى آحاد، وافترق الناس فرقًا كل

فرقة تتبع داعيًا إما إلى ملك أو مذهب، فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو إلى

الوحدة وتبعث على اشتباك الوشيجة، وصار ما في العقول منها صورًا ذهنية

تحويها مخازن الخيال، وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النفس من

المعلومات، ولم يبق من آثارها إلا أسف وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل

المصائب ببعض المسلمين بعد أن ينفذ القضاء، ويبلغ الخبر إلى المسامع على

طول من الزمان، وما هو إلا نوع من الحزن على الفائت كما يكون على الأموات

من الأقارب، لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة ولا دفع الغائلة.

وكان من الواجب على العلماء - قيامًا بحق الوراثة التي شُرِّفُوا بها على لسان

الشارع - أن ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك

بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم

ومدارسهم، حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطًا لروح حياة الوحدة، ويصير

كل واحد منها كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف

الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم

ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شئون وحدتهم،

ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعوا أطراف

الوشائج إلى معقد واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة - وأشرفها معهد بيت الله

الحرام - حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام

بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل، وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من

شأنها ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع، فإن

إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدع

أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارك بدعته ومحوها قبل فشوها بين العامة، وليس

بخافٍ على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها، واقتدارها على

دفع ما يغشاها من النوازل.

إلا أنا نأسف غاية الأسف إذ لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين

إلى هذه الوسيلة وهي أقرب الوسائل، وإن التفتت إليها في هذه الأيام طائفة من

أرباب الغيرة، ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن

يؤيدوا هذه الفئة، ولا يتوانوا فيما يوحد جمعهم ويجمع شتيتهم، فقد دارستهم

التجارب ببيان لا مزيد عليه، وما هو بالعسير عليهم أن يبثوا الدعاة إلى من يبعد

عنهم، ويصافحوا بالأكف من هو على مقربة منهم، ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما

يعود على دينهم وملتهم بفائدة، أو ما يخشى أن يمسها بضرر، ويكونون بهذا العمل

الجليل قد أدوا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باقٍ والآمال مقبلة وإلى الله المصير.

_________

(*) آل عمران: 103.

(1)

نشرت في العدد الخامس الذي صدر بباريس في 14 جمادى الآخرة سنة 1301 هـ.

ص: 25

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية [*]

(2)

تتمة الكلام في الشورى في الإسلام:

(ومنها) ما رواه الطبراني في الأوسط وأبو سعيد في القضاء عن علي، قال:

قلت: يا رسول الله إن عرض لي أمر لم ينزل قضاء في أمره ولا سنة كيف

تأمرني؟ قال: (تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين ولا تقضِ فيه

برأيك خاصة) .

(ومنها) ما في صحيح البخاري عن ابن عباس: وكان القراء أصحاب

مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شبابًا، وذكر واقعة في رجوع عمر إلى قول

من يذكِّره بالقرآن، وقال: وكان وقَّافًا عند كتاب الله عز وجل.

وما في الصحيحين وغيرهما من استشارة عمر في مسألة الوباء لما خرج إلى

الشام وأخبروه إذ كان في (سرغ) أن الوباء وقع في الشام، فاستشار المهاجرين

الأولين ثم الأنصار فاختلفا، ثم طلب من كان هنالك من مشيخة قريش من مهاجرة

الفتح، فاتفقوا على الرجوع وعدم الدخول على الوباء، فنادى عمر بالناس: إني

مصبح على ظَهر (أي مسافر، والظهر: الراحلة) فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة:

أفِرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نَفِرُّ من قدر الله

إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان: إحداها خصبة

والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة

رعيتها بقدر الله؟ ثم جاء عبد الرحمن بن عوف فأخبره بالحديث المرفوع الموافق

لرأي شيوخ قريش.

* * *

9-

التولية بالاستخلاف والعهد:

اتفق الفقهاء على صحة استخلاف الإمام الحق، والعهد منه بالخلافة إلى من

يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة فيه [1] أي في الإمام الحق، فالعهد والاستخلاف

لا يصح إلا من إمام مستجمع لجميع شروط الإمامة لمن هو مثله في ذلك، هذا

شرط العهد إلى الفرد، واستدلوا على ذلك باستخلاف أبي بكر لعمر، وأما العهد

إلى الجمع وجعله شورى في عدد محصور من أهل الحل والعقد، فاشترطوا

فيه أن تكون الإمامة متعينة لأحدهم، بحيث لا مجال لمنازعة أحد لمن يتفقون عليه

منهم، وهو الموافق لجعل عمر إياها شورى في الستة رضي الله عنهم قال

الماوردي: وانعقد الإجماع عليها أصلاً في انعقاد الإمامة بالعهد، وفي انعقاد البيعة

بعدد يتعين فيه الإمامة لأحدهم باختيار أهل الحل والعقد ا. هـ (آخر ص11) .

وقد تمسك بهذا أئمة الجور وخلفاء التغلُّب والمطامع ولم يراعوا فيه ما راعاه

من احتجوا بعمله من استشارة أهل الحل والعقد والعلم برضاهم أولاً، وإقناع من

كان توقف فيه، والروايات في هذا معروفة في كتب الحديث، ومِن أجمعِها (كنز

العمال) وكتب التاريخ والمناقب. وأي عالم أو عاقل يقيس عهد أبي بكر إلى عمر

في تحري الحق والعدل والمصلحة بعد الاستشارة فيه ورضاء أهل الحل والعقد به

على عهد معاوية واستخلافه ليزيد الفاسق الفاجر بقوة الإرهاب من جهة ورشوة

الزعماء من أخرى؟ ثم ما تلاه واتبعت فيه سنته السيئة [2] من احتكار أهل الجور

والطمع للسطان، وجعله إرثا لأولادهم أو لأوليائهم كما يورث المال والمتاع؟ ألا

إن هذه هي أعمال عصبية القوة القاهرة المخالفة لهدي القرآن وسنة الإسلام.

ذكر الفقيه ابن حجر في (التحفة) اختصاص الاستخلاف بقسميه (الفردي

والجمعي) بالإمام الحق واعتماده، ثم قال: وقد يشكل عليه ما في التواريخ

والطبقات من تنفيذ العلماء وغيرهم لعهود بني العباس مع عدم استجماعهم للشروط،

بل نفذ السلف عهود بني أمية مع أنهم كذلك، إلا أن يقال: هذه وقائع محتملة أنهم

إنما نفذوا ذلك للشوكة وخشية الفتنة لا للعهد، بل هو الظاهر. اهـ

وقال الماوردي في العهد المشار إليه في أول هذه المسألة: ويعتبر شروط

الإمام في المُوَلَّى من وقت العهد إليه. وإن كان صغيرًا أو فاسقًا وقت العهد وبالغًا

عدلاً عند موت المُوَلِّي، لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته اهـ.

ونقل الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث (عُبادة) في المبايعة وقد تقدم: إنه لا

يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، وإن الخلاف في الخروج على الفاسق فيما إذا كان

عادلاً وإمامته صحيحة ثم أحدث جورًا. اهـ.

وقد علم مما أسلفنا أن العهد والاستخلاف بشروطه متوقف على إقرار أهل

الحل والعقد له، واستدلالهم يقتضيه، وإن لم يصرحوا، وأما المتغلبون بقوة

العصبية فعهدهم واستخلافهم كإمامتهم، وليس حقًّا شرعيًّا لازمًا لذاته، بل يجب

نبذه، كما تجب إزالتها واستبدال إمامة شرعية بها عند الإمكان والأمان من فتنة

أشد ضررًا على الأمة منها، وإذا زالت بتغلب آخر فلا يجب على المسلمين القتال

لإعادتها.

***

10-

طالب الولاية لا يُوَلَّى:

من هدي الإسلام أن طالب الولاية والإمارة لأجل الجاه والثروة لا يولى. فقد

قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين طلبا أن يؤمرهما: (لن نستعمل على عملنا

من أراده) وفي رواية (إننا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه) رواه

الشيخان: البخاري بهذا اللفظ، ومسلم بلفظ: (إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا

سأله ولا أحدًا حرص عليه) وفي رواية للإمام أحمد: (إن أَخْوَنَكم عندنا من يطلبه)

فلم يستعن بهما في شيء حتى مات. وسبب هذا المنع القطعي المؤكد بالقسم أن

طلاب الولايات - ولا سيما أعلاها وهي الإمامة - والحريصون عليها هم محبو

السلطة للعظمة والتمتع والتحكم في الناس، وقد ظهر أنهم هم الذين أفسدوا أمر هذه

الأمة، وأولهم من الجماعات بنو أمية، وإن كان فيهم أفراد، بل منهم رجل الرجال

وواحد الآحاد عمر بن عبد العزيز خامس الراشدين، ولكنه لم يكن حريصًا على

الإمامة ولو أمكنه لأعادها إلى العلويين.

وذكر الحافظ في شرح الحديث المذكور آنفًا كلمة حق في معناه عن المهلب

قال: الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء

واستبيحت الأموال والفروج، وعظم الفساد في الأرض بذلك. وهنالك أحاديث

أخرى.

ولو حافظ المسلمون على أصل الشرع الذي قُرر في عهد الراشدين في أمر

الخلافة، لَمَا وقعت تلك الفتن والمفاسد، ولعم الإسلام الأرض كلها. وقد قال عالم

ألماني لشريف حجازي في الآستانة: إنه كان ينبغي لنا أن نضع لمعاوية تمثالاً من

الذهب في عواصمنا؛ لأنه لو لم يحول سلطة الخلافة عما وضعها عليه الشرع

وجرى عليه الراشدون، لَمَلَكَ العرب بلادنا كلها وصيروها إسلامية عربية.

***

11-

إمامة الضرورة والتغلُّب بالقوة:

اتفق محققو العلماء على أنه لا يجوز أن يبايَع بالخلافة إلا مَن كان مستجمعًا

لما ذكروه من شرائطها، وخاصة العدالة والكفاءة والقرشية، فإذا تعذر وجود بعض

الشروط تدخل المسألة في حكم الضرورات، والضرورات تقدر بقدرها، فيكون

الواجب حينئذ مبايعة مَن كان مستجمعًا لأكثر الشرائط من أهلها، مع الاجتهاد والسعي

لاستجماعها كلها،قال الكمال بن الهمام في المسايرة: والمتغلب تصح منه هذه الأمور

للضرورة كما لو لم يوجد قرشي عدل أو وجد ولم يقدر على توليته لغلبة الجورة

ا. هـ. [3] قال هذا ردًّا على جماعة الحنفية في استدلالهم على عدم اشتراط العدالة

في الأئمة بقبول بعض الصحابة للولاية والقضاء من ظلمة بني أمية كمروان

وصلاتهم معهم، فمراده بالأمور: القضاء والإمارة والحكم، كما قاله شارح المسايرة.

وقال السعد في شرح المقاصد: وههنا بحث، وهو أنه إذا لم يوجد إمام على

شرائطه وبايع طائفة من أهل الحل والعقد قرشيًّا فيه بعض الشرائط من غير نفاذ

لأحكامه، وطاعة من العامة لأوامره، وشوكة بها يتصرف في مصالح العباد

ويقتدر على النصب والعزل لمن أراد - هل يكون ذلك إتيانًا بالواجب؟ وهل يجب

على ذوي الشوكة العظيمة من ملوك الأطراف المتصفين بحسن السياسة والعدل

والإنصاف، أن يفوضوا إليه الأمر بالكلية، ويكونوا لديه كسائر الرعية؟ وقد

يُتَمَسك بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ

مِنكُمْ} (النساء: 59) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يعرف إمام

زمانه مات ميتة جاهلية) فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي الحصول [4] . اهـ.

وإنما فرض أن المبايعين في هذه الصورة بعض أهل الحل والعقد؛ لأنه إذا

بايعه جميعهم ومنهم الملوك الذين ذكرهم تمت شوكته ونفذ حكمه قطعًا، وهذه

الصورة تصدق على بعض خلفاء بني أمية وبني العباس الذين كانت تنقصهم العدالة

أو العلم الاجتهادي، وكان الجمهور يوجبون طاعتهم، ويصححون للضرورة

إمامتهم إذا لم تتيسر بيعة أمثل منهم، وإن كان موجودًا والمعتمد عند الحنفية أن

إمامتهم صحيحة مطلقًا لأن العلم والعدالة عندهم ليست من شروط الانعقاد كما تقدم

في محله. قال الكمال بن الهمام محقق الحنفية في (المسايرة) تبعًا للغزالي:

(الأصل العاشر) لو تعذر وجود العلم والعدالة، فمن تصدى للإمامة بأن تغلَّبَ عليها

جاهل بالأحكام أو فاسق وكان في صرفه إثارة فتنة لا تطاق - حكمنا بانعقاد إمامته كي

لا نكون كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، وإذا قضينا بنفوذ قضايا أهل البغي في بلادهم

التي غلبوا عليها لمسيس الحاجة، فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند لزوم الضرر

العام بتقدير عدمها. وإذا تغلب آخر على ذلك المتغلب وقعد مكانه انعزل الأول وصار

الثاني إمامًا. اهـ.

وقال السعد في شرح (المقاصد) بعد ذكر شروط الإمامة، وآخرها النسب

القرشي ما نصه: وأما إذا لم يوجد في قريش من يصلح لذلك أو لم يقتدر على

نصبه لاستيلاء أهل الباطل وشوكة الظلمة وأرباب الضلالة - فلا كلام في جواز تقلد

القضاء وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وجميع ما يتعلق بالإمام من كل ذي شوك، كما

إذا كان الإمام القرشي فاسقًا أو جائرًا أو جاهلاً، فضلاً عن أن يكون مجتهدًا.

وبالجملة مبنى ما ذكر في باب الإمامة على الاختيار والاقتدار، وأما عند العجز

والاضطرار، واستيلاء الظلمة والكفار والفجار، وتسلط الجبابرة الأشرار، فقد

صارت الرئاسة الدنيوية تغلبية، وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالإمام

ضرورة، ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط، والضرورات تبيح

المحظورات، وإلى الله المشتكى في النائبات، وهو المرتجى لكشف الملمات ا. هـ

بحروفه [5] .

والفرق بين هذه الخلافة وما قبلها بعد كون كل منهما جائزًا للضرورة أن

الأولى صدرت من أهل الحل والعقد باختيارهم لمن هو أمثل الفاقدين لبعض الشرائط،

ولذلك فَرَضَه المحقق التفتازاني قرشيًّا؛ إذ القرشيون كثيرون دائمًا، وأما الثانية

فصاحبها هو المعتدي على الخلافة بقوة العصبية لا باختيار أهل الحل والعقد له؛

لعدم وجود من هو أجمع للشرائط منه، فذاك يطاع اختيارًا، وهذا يطاع اضطرارًا.

ومعنى هذا أن سلطة التغلب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة، تنفذ

بالقهر وتكون أدنى من الفوضى. ومقتضاه أنه يجب السعي دائما لإزالتها عند

الإمكان، ولا يجوز أن توطن الأنفس على دوامها، ولا أن تجعل كالكُرة بين

المتغلبين يتقاذفونها، كما فعلت الأمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم لجهلها

بقوتها الكامنة فيها، وكون قوة ملوكها وأمرائها منها، ألم تر إلى من استناروا بالعلم

الاجتماعي منا كيف هبت لإسقاط حكوماتها الجائرة وملوكها المستبدين، وكان آخر

من فعل ذلك الشعب التركي، ولكنه أسقط نوعًا من التغلب بنوع آخر عسى أن

يكون خيرًا منه، وإنما فعله تقليدًا لتلك الأمم الأبية؛ إذ كان جماهير علماء الترك

والهند ومصر وغيرها من الأقطار، يوجبون عليهم طاعة سلاطين بني عثمان، ما

داموا لا يظهرون الكفر والردة عن الإسلام، مهما يكن في طاعتهم من الظلم والفساد

وخراب البلاد وإرهاق العباد، عملاً بالمعتمد عند الفقهاء بغير نظر ولا اجتهاد،

وهذا أهم أسباب اعتقاد الكثير منهم أن سلطة الخلافة الشرعية تحول دون حفظ

الملك والحياة الاستقلالية، وسنفصل الكلام في هذا بعد، وفيما يجب لجعل الحكم

شرعيًّا إسلاميًّا.

***

12 -

ما يخرج به الخليفة من الإمامة:

قال الماوردي بعد بيان ما يجب على الإمام، وقد تقدم: وإذا قام الإمام بما

ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم

حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله.

(والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما جَرح في

عدالته، والثاني نقص في بدنه، فأما الجرح في عدالته فهو على ضربين (أحدهما)

ما تابع فيه الشهوة (والثاني) ما تعلق فيه بشبهة، فأما الأول منهما فمتعلق

بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات، تحكيمًا

للشهوة وانقيادًا للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا

طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة، لم يعد إلى الإمامة

إلا بعقد جديد.

وأما الثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد والمتأول بشبهة تَعرض فيتأول لها خلاف

الحق - فقد اختلف العلماء فيها: فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة

ومن استدامتها، ويخرج بحدوثه منها.. إلخ (ص16) .

(المنار: وبعد تفصيل الخلاف في هذه المسألة - وهي الابتداع بالتأول -

ذكر القسم الثاني مما يمنع من الخلافة وهو نقص البدن فجعله ثلاثة أقسام: نقص

الحواس ونقص الأعضاء ونقص التصرف. وقسمها أيضًا إلى أقسام، وأطال في بيان

أحكامها والذي تقتضي الحال نقله منه نقص التصرف، وقد عقد له فصلاً خاصًّا قال

فيه ما نصه) :

(وأما نقص التصرف فضربان: حَجْر، وقهر، فأما الحَجْر فهو أن يستولي

عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية، ولا مجاهرة

بمشاقة، فلا يمنع ذلك من إمامته، ولا يقدح في صحة ولايته، ولكن ينظر في

أفعال من استولى على أموره، فإن كانت جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل

جاز إقراره عليها، تنفيذًا لها، وإمضاء لأحكامها؛ لئلا يقف من الأمور الدينية ما

يعود بفساد على الأمة. وإن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل لم

يجز إقراره عليها، ولزمه أن يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه) .

(وأما القهر فهو أن يصير مأسورًا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص

منه فيمنع ذلك من عقد الإمامة له؛ لعجزه عن النظر في أمور المسلمين، وسواء

كان العدو مشركًا أو مسلمًا باغيًا، وللأمة فسحة في اختيار من عداه من ذوي القدرة،

وإن أُسِرَ بعد أن عقدت له الإمامة فعلى كافة الأمة استنقاذه لما أوجبته الإمامة من

نصرته، وهو على إمامته ما كان مرجو الخلاص مأمول الفكاك، إما بقتال أو فداء.

(فإن وقع الإياس منه لم يخلُ حال مَن أسره مِن أن يكونوا مشركين أو بغاة

المسلمين، فإن كان في أسر المشركين خرج من الإمامة لليأس من خلاصه، واستأنف

أهل الاختيار بيعة غيره على الإمامة) .

وهنا ذكر مسألة عهده بالإمامة إلى غيره، وما يصح منها وما لا يصح،

ثم قال:

(وإن كان مأسورًا مع بغاة المسلمين: فإن كان مرجو الخلاص فهو على

إمامته ويكون العهد في ولي العهد ثابتًا وإن لم يصر إمامًا، وإن لم يرج خلاصه لم

يخل حال البغاة من أحد أمرين: إما أن يكونوا نصبوا لأنفسهم إمامًا أو لم ينصبوا،

فإن كانوا فوضى لا إمام لهم فالإمام المأسور على إمامته؛ لأن بيعته لهم لازمة،

وطاعته عليهم واجبة، فصار معهم كمصيره مع أهل العدل، إذا صار تحت الحَجْر،

وعلى أهل الاختيار أن يستنيبوا عنه ناظرًا يخلفه إن لم يقدر على الاستنابة، فإن

قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم. فإن خلع المأسور نفسه أو مات لم

يصر المستناب إمامًا لأنها نيابة عن موجود فزالت بفقده.

وإن كان أهل البغي قد نصبوا لأنفسهم إمامًا دخلوا في بيعته وانقادوا

لطاعته، فالإمام المأسور في أيديهم خارج عن الإمامة بالإياس من خلاصه؛ لأنهم

قد انحازوا بدار تفرد حكمها عن الجماعة، وخرجوا بها عن الطاعة فلم يبق لأهل

العدل بهم نصرة، ولا للمأمسور معهم قدرة، وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن

يعقدوا الإمامة لمن ارتضوه لها، فإن خلص المأسور لم يعد إلى الإمامة بخروجه

منها) (ص19، 20) .

ومن المعلوم أن كل هذا التفصيل في الإمام الحق المستجمع للشروط القائم

بالوجبات، وأما إمامة التغلب فكلها تجري على قاعدة الاضطرار المتقدمة (رقم

11) .

وما ذكره من انعزال الإمام بالفسق قد اختُلف فيه، والمشهور الذي حققه

الجمهور أنه لا يجوز تولية الفاسق، ولكن طروء الفسق بعد التولية لا تبطل به

الإمامة مطلقًا وبعضهم فصَّل: قال السعد في شرح المقاصد: وإذا ثبت الإمام بالقهر

والغلبة ثم جاء آخر فقهره انعزل وصار القاهر إمامًا، ولا يجوز خلع الإمام بلا

سبب، ولو خلعوه لم ينفذ وإن عزل نفسه، فإن كان يعجز عن القيام بالأمر انعزل

وإلا فلا، ولا ينعزل الإمام بالفسق والإغماء وينعزل بالجنون وبالعمى والصم

والخرس وبالمرض الذي ينسيه العلوم. (ص272 ج2) .

وقد استدل من قال يخلع بالكفر دون المعصية بحديث عبادة بن الصامت في

المبايعة عند الشيخين قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ

علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة

علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان) .

وقد ذكر الحافظ في شرح قوله (إلا أن تروا كفرًا بواحًا) روايات أخرى

بلفظ المعصية والإثم بدل الكفر، ثم قال: وفي رواية إسماعيل بن عبد الله عند أحمد

والطبراني والحاكم من روايته عن أبي عبادة (سيلي أموركم من بعدي رجال

يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون. فلا طاعة لمن عصى الله)

وعند أبي بكر بن أبي شيبة من طريق أزهر بن عبد الله عن عبادة رفعه:

(سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون ويفعلون ما تنكرون، فليس لأولئك

عليكم طاعة) .

وقال في شرح قوله: (عندكم من الله فيه برهان) أي من نص آية، أو

خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم

يحتمل التأويل. قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا

تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محقَّقًا

تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأَنْكِرُوا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم ا

هـ وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا يُعترض على السلطان إلا إذا

وقع في الكفر الظاهر. والذي يظهر: حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة

في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر. وحمل رواية

المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه

في المعصية بأن ينكر عليه برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل

ذلك إذا كان قادرًا، والله أعلم.

ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إذا قدر

على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب ، وإلا فالواجب الصبر. وعن بعضهم: لا يجوز

عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورًا بعد أن كان عدلاً فاختلفوا في جواز

الخروج عليه، والصحيح: المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه. اهـ.

وقد تقدم التحقيق في المسألة ونصوص المحققين فيها، وملخصه أن أهل

الحل والعقد يجب عليهم مقاومة الظلم والجور والإنكار على أهله بالفعل، وإزالة

سلطانهم الجائر، ولو بالقتال إذا ثبت عندهم أن المصلحة في ذلك هي الراجحة

والمفسدة هي المرجوحة، ومنه إزالة شكل السلطة الشخصية الاستبدادية، كإزالة

الترك لسلطة آل عثمان منهم، فقد كانوا على ادعائهم الخلافة الإسلامية جائرين

جارين في أكثر أحكامهم على ما يسمى في عرف أهل هذا العصر بالملكية المطلقة،

فلذلك بدأ الترك بتقييدهم بالقانون الأساسي تقليدًا لأمم أوروبا، وسبب ذلك جهل

الذين قاموا بهذا الأمر بأحكام الشرع الإسلامي (كمدحت باشا وإخوانه) ثم قام

الكماليون أخيرًا بإسقاط هذه الدولة، ورفض السلطة الشخصية بجملتها وتفصيلها.

***

13-

دار العدل ودار الجور والتغلب:

دار الإسلام وما يقابلها من دار الحرب معروفان، ولهما أحكام كثيرة. وقد

تكرر فيما نقلناه عن العلماء من أحكام الخلافة ذكر دار العدل، وهي دار الإسلام

التي نصب فيها الإمام الحق، الذي يقيم ميزان العدل، تُسمى بذلك إذا قوبلت بدار

البغي والجور، وهي ما كان الحكم فيها بتغلب قوة أهل العصبية من المسلمين،

وعدم مراعاة أحكام الإمامة الشرعية وشروطها، وأهل دار العدل هم الذين يسمَّون

الجماعة، وهم الذين يجب على جميع المسلمين اتباعهم واتباع إمامهم اختيارًا،

وعدم اتباع من يخالفهم إلا اضطرارًا، وهذان الداران قد توجدان معًا في وقت واحد،

وقد توجد إحداهما دون الأخرى، ولكل منهما أحكام.

أما دار العدل فطاعة الإمام فيها في المعروف واجبة شرعًا ظاهرًا وباطنًا،

ولا تجوز مخالفته إلا إذا أمر بمعصية لله تعالى ثابتة بنص صريح من الكتاب

والسنة دون الاجتهاد والتقليد، ويجب قتال من خرج عليه من المسلمين أو بغى في

بلاده الفساد بالقوة، كغيره من القتال الواجب شرعًا، وتجب الهجرة من دار الحرب

ومن دار البغي إلى هذه الدار على من استضعف فيهما فظلم أو منع من إقامة دينه،

وعلى من تحتاج إليهم دار العدل لحفظها ومنعها من الكفار أو البغاة، ولغير ذلك من

المصالح الواجبة لإعزاز الملة، إذا توقف هذا الواجب على هذه الهجرة. وأما دار

البغي والجور فالطاعة فيها ليست قربة واجبة شرعًا لذاتها، بل هي ضرورة تقدر

بقدرها، وتقدم تفصيل القول فيها.

ومن الظلم الموجب للهجرة منها على من قَدَرَ إلى دار العدل - إن وُجدت -

حمل المتغلبين من يخضع لهم على القتال لتأييد عصبيتهم والاستيلاء على بعض بلاد

المسلمين، فمن قدر على التفصي من ذلك وجب عليه، فأمرها دائمًا دائر على قاعدة

ارتكاب أخف الضررين، والظاهر أن يفرق بين قتالهم لأهل العدل فلا تباح الطاعة

فيه بحال، وبين قتال غيرهم كأمثالهم من المتغلبين، وفيه تفصيل لا محل لبيانه هنا.

وأما الجهاد الشرعي فيجب مع أئمة الجور؛ ومنه دفاعهم عن بلادهم إذا اعتدى عليها

الكفار.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة

فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى

عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقِتلةٌ جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها

وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست

منه. وفي رواية: يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي) رواه مسلم

والنسائي من حديث أبي هريرة. والعمية بضم العين وكسرها (لغتان) وتشديد الميم

وفسروها بالكبر والضلال، والمراد بها عظمة القوة والبطش، والتغلب الذي لا

يراد به الحق، ولذلك بينه بأنه يغضب للعصبة، وهي بالتحريك: قوم الرجل

الذين يعصبونه ويعتصب بهم، أي يقوى ويشتد، وفي رواية (العصبية) وهي نسبة إلى العصبة.

وأنت تعلم أن المتغلبين ما قاموا ولا يقومون إلا بالعصبية، المراد بها عظمة

الملك العمية، لا يقصدون بقتالهم إعلاء كلمة الله، ولا إقامة ميزان الحق والعدل

بين جميع الناس، وما أفسد على هذه الأمة أمرها، وأضاع عليها ملكها إلا جعل

طاعة هؤلاء الجبارين الباغين واجبة شرعًا على الإطلاق، وجعل التغلب أمرًا

شرعيًّا كمبايعة أهل الاختيار من أولي الأمر وأهل الحل والعقد للإمام الحق،

وجعل عهد كل متغلبِ باغٍ إلى ولده أو غيره من عصبته لأجل حصر السلطان

والجبروت في أسرته - حقًّا شرعيًّا وأصلاً مرعيًّا لذاته، وعدم التفرقة بين

استخلاف معاوية لولده يزيد الفاسق الفاجر بالرغم من أنوف المسلمين، وبين عهد

الصديق الأكبر للإمام العادل عمر بن الخطاب ذي المناقب العظيمة بعد مشاورة أهل

الحل والعقد فيه وإقناعهم به، والعلم بتلقيهم له بالقبول.

***

14-

كيف سُن التغلب على الخلافة:

كان سبب تغلُّب بني أمية على أهل الحل والعقد من الأمة أن قوة الأمة

الإسلامية الكبرى في عهدهم كانت تفرقت في الأقطار التي فتحها المسلمون وانتشر

فيها الإسلام بسرعة غريبة وهي مصر وسورية والعراق، وكان أهل هذه البلاد

قد تربوا بمرور الأجيال على الخضوع لحكامهم المستعمرين من الروم والفرس،

فلما صارت أزمَّة أمورهم بيد حكامهم من العرب استخدمهم معاوية الذي سن سنة

التغلب السيئة في الإسلام على الخضوع له بجعل الولاة فيهم من صنائعه الذين

يؤثرون المال والجاه على هداية الإسلام وإقامة ما جاء به من العدل والمساواة،

وصار أكثر أهل الحل والعقد الحائزين للشروط الشرعية محصورين في البلدين

المكرمين (مكة المكرمة والمدينة المنورة) وهم ضعفاء بالنسبة إلى أهل تلك

الأقطار الكبيرة الغنية التي تعول الحجاز وتغذيه.

أخذ معاوية البيعة لابنه الفاسق يزيد بالقوة والرشوة، ولم يلق مقاومة تذكر

بالقول أو الفعل إلا في الحجاز، فقد روى البخاري والنسائي وابن أبي حاتم في

تفسيره - واللفظ له - من طرق أن مروان خطب بالمدينة وهو على الحجاز من قِبَل

معاوية فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين في ولده يزيد رأيًا حسنًا، وإن يستخلفه فقد

استخلف أبو بكر وعمر وفي لفظ: سنة أبي بكر وعمر - فقال عبد الرحمن بن أبي

بكر: سنة هرقل وقيصر! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده إلخ. وفي

رواية: سنة كسرى وقيصر، إن أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما. ثم حج

معاوية ليوطئ لبيعة يزيد في الحجاز، فكلم كبار أهل الحل والعقد أبناء أبي بكر وعمر

والزبير فخالفوه وهددوه إن لم يردها شورى في المسلمين، ولكنه صعد المنبر وزعم

أنهم سمعوا وأطاعوا وبايعوا يزيد، وهدد من يكذبه منهم بالقتل.

وأخرج الطبراني من طريق محمد بن سعيد بن زمانة أن معاوية لما حضره

الموت قال ليزيد: قد وطأت لك البلاد ومهدت لك الناس ولست أخاف عليك إلا

أهل الحجاز، فإن رابك منهم ريب فوجه إليهم مسلم بن عقبة فإني قد جربته وعرفت

نصيحته. قال: فلما كان من خلافهم عليه ما كان، دعاه فوجهه فأباحها ثلاثًا، دعاهم

إلى بيعة يزيد وأنهم أعبُدٌ له وقِنٌّ في طاعة الله ومعصيته.

وأخرج أبو بكر بن خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء: سمعت أشياخ

في المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل

المدينة يومًا فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإني عرفت نصيحته إلخ. ذكره

الحافظ في الفتح. أباح عدو الله مدينة الرسول ثلاثة أيام فاستحق هو وجنده اللعنة

العامة في قوله صلى الله عليه وسلم عند تحريمها كمكة (من أحدث فيها حدثًا أو آوى

مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفًا ولا

عَدْلاً) أي فرضًا ولا نفلاً. متفق عليه. فكيف بمن استباح فيها الدماء والأعراض

والأموال؟

وكان الحسن البصري يقول: أفسد أمرَ الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم

أشار على معاوية برفع المصاحف - وذكر مفسدة التحكيم - والمغيرة بن شعبة. وذكر

قصته إذ عزله معاوية عن الكوفة فرشاه بالتمهيد لاستخلاف يزيد فأعاده. قال الحسن:

فمن أجل هذا بايع هؤلاء الناس لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة

اهـ. ملخصا من تاريخ الخلفاء.

وهذا الذي قاله الحسن البصري - من أئمة التابعين - موافق لما قاله ذلك

السياسي الألماني لأحد شرفاء الحجاز من أنه لولا معاوية لظلت حكومة الإسلام على

أصلها، ولساد الإسلام أوروبا كلها، وقد تقدم.

وقد اضطرب أهل الأهواء ومن لا علم لهم بشيء من حقيقة الإسلام ونشأته

إلا من أخبار المؤرخين وهي أمشاج لم يكن يميز صحيحها من ضعيفها وحقها من

باطلها إلا الحفاظ من المحدثين، فنجد من هؤلاء من يميل إلى النواصب أو

الخوارج ومن يرجح جانب غلاة الشيعة ، وكان أستاذنا الشيخ حسين الجسر ينشد:

من طالع التاريخ مع أنه

لم يتمسك باعتقاد سليم

أصبح شيعيًّا وإلا فقُل: يخرج عن نهج الهدى المستقيم

ولذلك نجد في المصريين وغيرهم من المنتمين إلى مذاهب السنة - على غلو

دهمائهم في تعظيم آل البيت - مَن هو ناصبي يفضل بني أمية على العلويين، ويزعم

أنهم أعزوا الإسلام وأقاموا الدين، والتحقيق أن فتح الإسلام لكثير من البلاد في

أيامهم الذي هو حسنتهم العظيمة كان أمرًا اقتضته طبيعة الإسلام والإصلاح الذي

جاء به لإنقاذ البشر، ولم يكن لغير عمر بن عبد العزيز منهم عمل انفرد به في

إقامة الدين نفسه، ولم يكن لهم عمل في ذلك مختص بدولتهم بحيث يقال: إنه

لولاهم لرجع الإسلام القهقرى في العلم والعمل أو الفتح، وما كان لهم من عمل

حسن في هذه الأمور، فقد كان لمن بعدهم من العباسيين مثله، وكلاهما تابع في

الدين للخلفاء الراشدين لا متبوع. وأما الأمور المدنية التي استتبعت الفتح الإسلامي

فلكل من الفريقين فيها عمل، وإنما سيئة الأمويين التي لا تغفر ما سنوه في قاعدة

حكومة الإسلام، فهي انتخابية شورى في أولي الاختيار من أهل الحل والعقد، وقد

نسخوها بالقاعدة المادية: القوة تغلب الحق، فهم الذين هدموها، وتبعهم من بعدهم

فيها.

ومن اطلع على كتب السنة يعلم أن الله تعالى قد أطلع رسوله صلى الله عليه

وسلم على مستقبل أمته، وأن ما وقع كان مما تقتضيه طباع البشر بحسب قدر الله

وسنته، وقد أخبر بذلك بعض أصحابه بالتلميح تارة وبالتصريح أخرى، ومنهم أبو

هريرة الذي روى عنه في الصحاح والسنن والمسانيد عدة أحاديث وآثار في ذلك،

وأنه كان يستعيذ بالله من إمارة الصبيان ومن رأس الستين، وهي السنة التي ولي

فيها يزيد (وقد مات قبلها) وكان يقول: لو قلت لكم: إنكم ستحرقون بيت ربكم

وتقتلون ابن نبيكم لقلتم: لا أَكذَبَ من أبي هريرة. يعني قتل الحسين وقد وقع بعده.

وأخرج البخاري وغيره من طريق عمر بن يحيى بن سعيد بن العاص الأموي قال:

أخبرني جدي قال: كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم

ومعنا مروان (هو ابن الحكم بن أبي العاص وكان أمير المدينة لمعاوية) قال أبو

هريرة: سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول: (هلكة أمتي على

أيدي غلمة من قريش) فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو

شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت. فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان

حين ملكوا الشام فإذا رآهم غلمانًا أحداثًا قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم، قلنا:

أنت أعلم اهـ. وإنما أهلكوا الأمة بإفساد حكومتها الشرعية الإصلاحية، وإلا فقد

وسعوا ملكها بتغلب العصبية.

قال الحافظ في شرح الحديث: قال ابن بطال: وفي هذا الحديث حجة لما تقدم

من ترك القيام على السلطان ولو جار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم أبا هريرة

بأسماء هؤلاء ولم يأمرهم بالخروج عليهم، مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم،

لكون الخروج أشد في الهلاك وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم، فاختار أخف

المفسدتين، وأيسر الأمرين اهـ.

ونقول: ما ذكر من القاعدة صواب، وما قبله من تطبيق النازلة عليها لا

يصح، فقد قاوم أهل الحجاز فغُلبوا على أمرهم، والصواب ما بيناه من قبل من تفرق

جماعة الإسلام العالمة العادلة في الممالك، وكون من بقي منهم بالحجاز ضعفاء بالنسبة

إلى المملكة الإسلامية الجديدة، فلم يكن أمر الخروج ممكنًا إلا بعصبية كعصبيتهم كما

فعل بنو العباس، وقد مهَّد أكثر العلماء السبيل للاستبداد والظلم بمثل هذا الإطلاق في

الخضوع لأهلهما، وقد تكرر بيان التحقيق فيه.

ثم قال الحافظ: يُتعَجَّب من لعن مروان الغلمة المذكورين مع أن الظاهر أنهم

من ولده، فكأن الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشد في الحجة لعلهم يتعظون.

وقد وردت أحاديث في لعن الحَكَم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني وغيره

غالبها فيه مقال وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك

اهـ. وقوله: (من ولده) يصدق على الأكثر وإلا فإن يزيد بن معاوية أول من

كان يعني أبو هريرة بالغلمة والصبيان.

وجملة القول: أن مرادنا من هذا البحث بيان مفسدة إخراج الخلافة الإسلامية

عما وضعها عليه الإسلام، وجعلها تابعة لقوة العصبية والتغلب، فهذه المفسدة هي

أصل المفاسد والرزايا التي أصابت المسلمين في دينهم ودنياهم. وقد كررنا ذكرها

لتحفظ ولا تنسى.

ومن أغرب الغرائب أن قصّر المسلمون عن غيرهم من أهل الملل التي كانوا

قد فاقوها في العلم والعمل، بأن لم يقم أحد منهم بعمل منظم لإعادة حكم الإسلام كما

بدأ، بل رضوا بالتفرق والانقسام والظلم والاستذلال مِن كل مَن تولى الأمر في

قطر من أقطارهم، حتى سهل عليهم مثل ذلك من غيرهم، فكانوا كما قلنا في

المقصورة:

من ساسه الظلم بسوط بأسه

هان عليه الذل من حيث أتى

ومن يهن هان عليه قومه

وماله ودينه الذي ارتضى

أفلم يأتهم نبأ ما فعل البابوات من تنظيم الجمعيات وجمع القناطير من الدنانير

لأجل إعادة سلطانهم الديني؟ ألا إننا قلدنا غيرنا فيما يضر، ولم نقلد ولا استقللنا فيما

ينفع في هذا الأمر، ولا يزال فينا من يجدّ في نبذ ما بقي من قشور سلطان الخلافة

الإسلامية بعد ذهاب لبابها، ويظنون أن وجودها هو الذي أضعف ملكنا وإنما أضعفه

ذهابها. فإن ما لا نزال ندعيه منها للمستبدين كذب على الإسلام، ولو استمسكنا

بعروتها الوثقى لكنا سادة العالمين، وقد عرف هذا كثير من علماء الأجانب ولم يعرفه

أحد من زعمائنا السياسيين.

***

15-

وحدة الخليفة وتعدده:

أصل الشرع أن يكون رئيس الحكومة - وهو الإمام - واحدًا، وهذا أمر

إجماعي

عند جميع الأمم كالمسلمين، وسببه معروف وهو أن أمر الحكومة أولى من كل أمر

عام له شُعب كثيرة بأن تكون له جهة واحدة يُضبط بها النظام وتُتقى الفوضى. قال

الكمالان في (المسايرة) وشرحها [6](ولا يولى) الإمامة (أكثر من واحد) لقوله

صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) رواه مسلم من

حديث أبي سعيد الخدري، والأمر بقتله محمول كما صرح به العلماء على ما إذا لم

يندفع إلا بالقتل، فإذا أصر على الخلاف كان باغيًا، فإذا لم يندفع إلا بالقتل قتل،

والمعنى في امتناع تعدد الإمام أنه منافٍ لمقصود الإمامة من اتحاد كلمة أهل الإسلام

واندفاع الفتن، وأن التعدد يقتضي لزوم امتثال أحكم متضادة (قال الحجة - حجة

الإسلام الغزالي: فإن ولي عدد موصوف بهذه الصفات فالإمام من انعقدت له البيعة من

الأكثر، والمخالف باغٍ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق وكلام غيره من أهل السنة

اعتبار السبق فقط فالثاني يجب رده) ا. هـ ودليل الجمهور نص الحديث.

وقال الماوردي (في ص7) : (وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم

تنعقد إمامتهما؛ لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم

فجوزوه) اهـ. وأقول: إنما جوَّزه من جوَّزه في حال تعذر الوحدة، وهذا هو

الخلاف الذي نقله العضد في المواقف، إذ قال: (ولا يجوز العقد لإمامين في صقع

متضايق الأقطار، أما في متسعها بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد)

قال شارحه السيد الجرجاني: لوقوع الخلاف.

واعتمد الجواز مُحشّيه الفناري وهو من أشهر علماء الروم أو الترك. وأما

في حال إمكان الوحدة فلا نعلم أن أحدًا من العلماء الذين لعلمهم قيمة قال بجواز

التعدد، وقول من قال بالتعدد للضرورة أقوى من قول الجمهور بإمامة المتغلب

للضرورة، إذا كان كل من الإمامين أو الأئمة مستجمعًا للشروط مقيمًا للعدل، فإن

كان في هذه تفرق فهو في غير عدوان ولا عداوة، وفي تلك بغي وجور ربما يفسد

الدين والدنيا معًا، بل أفسدهما بالفعل.

وقد بسط ترجيح هذا القول السيد صديق خان بهادر في آخر كتابه الروضة

الندية [7] قال:

(وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به

كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم - فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد

ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة. وأما إذا بايع كلَّ واحد منهما

جماعةٌ في وقت واحد، فليس أحدهما أولى من الآخر، بل يجب على أهل الحل

والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما. فإن استمرا على

التخالف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا

تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك) .

(وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار

في كل قطر من أقطار [8] الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار

كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو أقطاره التي رجعت إلى

ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، وتجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة

على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا

قام من ينازعه في القطر الذي ثبت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل

إذا لم يتب [9] ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته

لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يُدرى

مَن قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق، وهذا

معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد، فإن أهل الصين والهند لا

يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلاً عن أن يتمكنوا من طاعته، وهكذا

العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن، وهكذا

العكس. فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة،

ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في

أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر ذلك فهو مباهت

لا يستحق أن يخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها، والله المستعان) اهـ.

هذا أوجه تفصيل قيل في جواز التعدد للضرورة، وهو اجتهاد وجيه،

ويشبهه عند بعض الأئمة تعدد الجمعة في البلد الواحد، فالأصل في الشرع أن

يجتمع أهل البلد كلهم في مسجد واحد؛ لأن للشارع حكمة جلية في الاجتماع، فإن

تعددت فالجمعة للسابق، والمتأخر لا يعتد بجمعته، فمتى علم أنها أقيمت في مسجد لم

يجز أن تقام ثانية فيه ولا في غيره من ذلك البلد، ومن أقامها كانت صلاتهم باطلة

وكانوا آثمين ولا تسقط عنهم صلاة الظهر، وجوَّز التعدد للضرورة بقدرها أشد

المانعين حظرًا له في حال الاختيار.

وظاهر كلام الجمهور الذين أطلقوا منع تعدد الإمام الحق، أن المسلمين الذين

لا يستطيعون اتباع جماعة المسلمين في دار العدل لبعد الشقة وتعذر المواصلة،

يعذرون في تأليف حكومة خاصة بقطرهم، ويكون حكمهم فيها حكم من أسلموا

وتعذرت عليهم الهجرة إلى دار الإسلام لنصرة الإمام، ولا تكون دارهم مساوية لدار

العدل وجماعة الإمامة الذين أقاموا الشرع قبلهم، بل يجب عليهم اتخاذ الوسائل

للالتحاق بها، وجمع الكلمة ولو باستمداد السلطة منها، ونصرة إمامها وجماعتها

بقتال من يقاتلهم عند الإمكان، كما يجب على الجماعة مثل ذلك لهم في حال

الاعتداء عليهم، وإذا صح أن يكون حكمهم كحكم من لم يهاجروا إلى دار الإسلام،

فالحكم في نصرهم يدخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن

وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَاّ عَلَى

قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} (الأنفال: 72) على القول المختار بأن هذه الآية في

الولاية العامة، لا فيما كان من ولاية التوارث خاصة.

وجملة القول: أن جمهور المسلمين على أن تعدد الإمامة الإسلامية غير جائز،

ومقتضاه أن الحكومة الإسلامية التي تتعدد للضرورة وتُعذر في ترك اتباع

الجماعة هي حكومة ضرورة تعتبر مؤقتة وتنفذ أحكامها، ولكن لا تكون مساوية

للأولى، وإن كانت مستجمعة لشروط الإمامة مثلها، وظاهر القول الآخر الذي

عدوه شاذًّا أنها إذا كانت مستجمعة للشروط كانت إمامة صحيحة، وهذا هو التعدد

الحقيقي، ولكن لم يختلف اثنان في أنها للضرورة، فإذا زالت وجبت الوحدة،

ولهذه المسائل أحكام كثيرة لا محل هنا للبحث فيها.

ولكن لا بد من البحث في ثبوت هذه الضرورة، فإن بُعْدَ الشقة بين البلاد،

وتعذر المواصلات التي يتوقف عليها تنفيذ الأحكام، مما يختلف باختلاف الزمان

والمكان، فلا يصح أن يجعل عذرًا دائمًا لصدع وحدة الإسلام، وقد تقارب الزمان

في عهدنا هذا مصداقًا لما ورد في بعض الأحاديث المنبئة بالأحداث المستترة في

ضمائر الغيب، فاتصلت الأقطار النائية بعضها ببعض، في البر والبحر،

بالبواخر والسكك الحديدية، ثم بالمراكب الهوائية (الطيارات والمناطيد) التي

صارت تنقل البرد والناس مسافة مئات وألوف من الأميال في ساعة أو ساعات،

دع نقل الأخبار بقوة الكهرباء من أول الدنيا إلى آخرها في دقائق معدودات، ولو

كانت هذه الوسائل في عصر سلفنا لملكوا العالم كله (هو ما يطمع به بعض الأمم

اليوم، وهذه شعوب الشمال في أوروبا قد سادت معظم شعوب الجنوب والشرق،

وبين الفريقين منتهى أبعاد العمران من الأرض) .

ولكن المسلمين قصروا في هذه الوسائل، فبعض بلادهم محرومة منها كلها،

وما يوجد في بعضها فهم عالة فيه على الإفرنج، وإن شرعهم يفرضها عليهم فرضًا

دينيًّا من وجوه: أهمها أن كثيرًا من الفرائض والواجبات تتوقف عليها أو لا تتم إلا

بها، كحفظ المملكة والدفاع عنها، والإعداد لأعدائها ما نستطيع من قوة كما أمرنا

كتابنا، وقد صار هذا من الفرائض العينية علينا؛ لاستيلائهم على أكثر بلادنا،

ويتحقق الوجوب العيني على الرجال والنساء باستيلاء الأعداء على قرية صغيرة

منها، دع توقف وحدة السلطة عليه بالخضوع لإمام واحد يقيم الحق والعدل فينا،

منفذًا به أحكام شرعنا.

فأمام وحدة الإمام الواجبة واجبات كثيرة قد فرط فيها المسلمون من قبل،

بقبولهم أحكام التغلب التي أضاعت جل ما جاء به الإسلام لإصلاح البشر في شكل

حكومتهم وصفاتها وغير ذلك، فأي واجب منها أقاموا حتى يطالبوا بهذا الواجب.

***

16-

وحدة الإمامة بوحدة الأمة:

وحدة الإمامة تتبع وحدة الأمة، وقد مزقت العصبية الجنسية الشعوب

الإسلامية بعد توحيد الإسلام إياها برب واحد وإله واحد وكتاب واحد، وشرع

واحد، ولسان واحد، فأنى يكون لها إمام واحد، وهي ليست أمة واحدة؟

لا أقول: هذا محال في نفسه، وإنما أقول: إنني لا أعرف شعبًا من شعوب

المسلمين ولا جماعة من جماعاتهم المنظمة تقدره قدره، وتسعى إليه من طريقه،

فهم في دركة من الجهل والتخاذل والتفرق المذهبي والتعصب الجنسي وضعف

الهمة تقعد بهم عن التسامي إلى مثل هذا المثل الأعلى في الكمال الديني

والاجتماعي. وحمل البلاد الإسلامية ذات الحكومات المستقلة على الخضوع لرئيس

واحد بالقوة العسكرية مما لا سبيل إليه في هذا الزمان، ولا سبيل أيضًا إلى إقناع

حكومات هذه البلاد باتباع واحد منهم بالرضا والاختيار.

والحكومات المستقلة الآن هي حكومات الترك والفرس والأفغان ونجد واليمن

العليا - وهي النجود وما يتبعها - واليمن السفلى والحجاز، وقد استقلت بعض

الأقطار الإسلامية التي كانت تابعة لروسية القياصرة كبخارى وخيوة، ولكن استقلالها

لم يستقر بعد، على أنه قد اعترف به في المعاهدة التركية الأفغانية، ومثلهما أذريبجان

ودونهما كردستان، وهذه الحكومات الصغيرة تجزم الدولة التركية بأنها ستسودهن

وتدغهن في جامعتها الطورانية. وكذا سائر شعوب القوقاس الإسلامية، ولا توجد

حكومة منهم يمكن أن تدعي الخلافة الدينية، فبقي الكلام في الحكومات العربية،

والدول الثلاث الأعجمية.

فأما أهل اليمن العليا فيعتقدون أن الإمامة الشرعية الصحيحة محصورة فيهم

منذ ألف سنة ونيف لأن أئمتهم ينتخبون انتخابًا شرعيًّا تُرَاعى فيه جميع الشروط

الشرعية التي يشترطها أهل السنة مع زيادة مراعاة مذهبهم الزيدي، وأن هذه

الزيادة لا تعارض مذهب أهل السنة، وأنهم يحكمون بالشرع ويقيمون الحدود.

ومذهبهم في الفروع قلما يخالف مذاهب السنة الأربعة، ولا سيما مذهب

الحنفية، فلا مطمع في إقناعهم باتباع غيرهم، وقد قاتلهم الترك عدة قرون ولم

يستطيعوا إزالة إمامتهم، ولكن جيرانهم من العرب وسائر المسلمين لا يعتدون

بإماماتهم، وهم لا يدعون إليها ولا يستعدون لتعميمها، وقد اعترف بصحتها إمام

حفاظ السنة، وقاضي قضاة مصر وشيخ مشايخ الإسلام في أزهرها لعهده: الحافظ

أحمد بن حجر العسقلاني في شرحه لحديث: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي

اثنان) من صحيح البخاري.

وأما السيد الإدريسي فهو على كونه حاكمًا مستقلاًّ. وسيدًا علويًّا وفقيهًا

أزهريًّا، ومرشدًا صوفيًّا، لم يدَّع منصب الخلافة فيما نعلم، ولم يدْع رؤساء

إمارته إلى مبايعته بها، ولكن أهل بيته وجماعته يعتقدون أنه أحق بها من شرفاء

الحجاز، ويلقبونه بالسيد الإمام، ولقبه بعضهم بصاحب الجلالة الهاشمية، وقد نقل

لنا الثقات أن الملك حسينًا اجتهد في استمالته للاعتراف بالتبعية للحجاز في السياسة

الخارجية أو بالاسم فقط - فلم يفلح كما أنه لم يفلح سعيه لدى الإمام يحيى كذلك،

وقد استغرب كل منهما هذا السعي. وبلغنا أن السيد الإدريسي كان يفضل

الاعتراف بسيادة الترك السياسية على بلاده في الأمور الخارجية هربًا من دسائس

الإفرنج وتقوية للروابط الإسلامية. وأما حكومة الحجاز فهي جديدة ولا يُعرف لها

نظام ثابت، وإنما ملك الحجاز هو هنالك الحكومة وكل شيء، وقد بايعه أهل

مكة على أنه ملك العرب ثم بايعه آخرون من سورية وغيرها بالخلافة وإمارة

المؤمنين على عهد وجود ولده فيصل فيها قبل إعلان استقلال دمشق، وذلك كما

يبايع أمثالهم في سورية ومصر الخليفة في الآستانة، ويظهر أن ولده فيصل ملك

العراق وولده عبد الله أمير شرق الأردن مُصرَّان على بذل نفوذهما لجعله هو

الخليفة، وأخذ المبايعة له من سورية والعراق عند سُنُوح الفرصة، وقد نشر في

جريدة القبلة مقالات قديمة وحديثة في بطلان خلافة خلفاء الترك في الآستانة

وتكفيرهم وتكفير حكومتهم. وقد كان في عمان مسجد متداع فأمر الأمير عبد الله

بتجديد بنائه فوضع له قاضيه الشيخ سعيد الكرمي تاريخًا في أبيات من الشعر

نقشت على لوح من الرخام وضع فوق بابه، قال في أولها:

حسين بن عون من بنى مجد عدنان

فصار أمير المؤمنين بلا ثاني

أعاد له حق الخلافة بعد ما

ثوت زمنًا بالغصب في آل عثمان

وقد جعل هذا القاضي بناء حسين لما سماه مجد عدنان سببًا لصيرورته أمير

المؤمنين الذي لا ثاني له في بلاد الإسلام، وهو لم يبن لعدنان مجدًا، ومجد عدنان

ليس سببًا للخلافة، وإنما يرضي الناظمُ بذلك أميرَه الذي كان ولا يزال يسعى

لتحقيق جعل والده خليفة، ولكنه طعن في إمامة يحيى حميد الدين الذي يخطب

أميره ووالد أميره الملك وده، لا في خلافة أعدائه الترك فقط، ولا يستطيع أحد أن

يقرن به أحدًا من شرفاء الحجاز وأمثالهم ممن يرون أنفسهم أهلاً للإمامة بأنسابهم

فقط، فإنه على تواتر نسبه الهاشمي العلوي، وصراحته بخلوه من شوائب الرق

غير الشرعي: عالم مجتهد، شجاع مدبر، ذو شوكة ومنعة يقدر بهما على حفظ

استقلاله، وقد بويع بالإمامة منذ عشرات من السنين، والمعترفون بإمامته يزيدون

على عدد أهل الحجاز، وكذا على أهل سورية كلها والعراق.

ليس من غرضنا هنا مناقشة هؤلاء ولا غيرهم في دعاويهم ولا أغراضهم، بل

بيان الواقع في البلاد الإسلامية المستقلة، وهو أن ملك الحجاز وأولاده يعتقدون أن

الخلافة حقهم بنسبهم ومركزهم في الحجاز، وأنهم ينالونه بمساعدة الدولة اللبنانية

لهم، وقد قال أحدهم - عبد الله أمير شرق الأردن في الإسكندرية: إن الخلافة لنا.

ونقلت الجرائد المصرية هذا عنه ورُدَّ عليه في بعضها.

وأما أهل نجد فحنابلة سلفيون وهم يسمون أميرهم إمامًا، ولا يسمونه خليفة

ولم يبلغني أنه يدعي الخلافة العامة، ولكنهم يعتقدون أنه لا يوجد أمير مسلم يقيم

دين الله كما أنزله غيره، وأن بلادهم دار العدل وجماعة المسلمين والهجرة إليها

واجبة بشروطها. فلا مطمع في اتباعهم لغيرهم. وقد اتهموا بانتحال مذهب جديد

نَفَّرَ منهم غيرَهم، وهم لا يبالون ما يقال فيهم، ولا يدعون أحدًا إلى اتباعهم، إلا

البدو المجاورين لهم، الذين لا يعرفون من الإسلام عقيدة ولا عملا، فيدعونهم إلى

التدين وترك البداوة واتباع حكومتهم الإسلامية التي تقيم شرع الله وحدوده على

مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل.

فهذا ملخص ما نعلم من حال البلاد العربية المستقلة، وتركنا ذكر حكومة

عمان الإباضية؛ لأن نفوذ الإنكليز فيها كبير فأهلها لا يهتدون سبيلاً إلى الارتباط

بغيرهم، ومذهب أكثرهم إباضي، فهم من الخوارج الذين لا يقيدهم مذهبهم بشرط

القرشية، وقد علمت من سلطان مسقط السابق أنه كان يتمنى الارتباط بالدولة

العثمانية.

وأما الدول الأعجمية المستقلة: فالإيرانية منها شيعة إمامية، والإمامة عندهم

للإمام محمد المهدي المنتظر، فلا تعترف بإمامة أخرى لغيره وإنما ترتبط بغيرها من

الدول الإسلامية بنوع المخالفات السياسية.

والأفغانية سنية، وقد اعترفت في المحالفة التي عقدت بينها وبين الحكومة

التركية الجديدة في أنقرة بأن الدولة التركية دولة الخلافة، ولكن لم تعترف لها

بسيادة ما عليها. بل كانت محالفتها محالفة الند للند.

وقد كان نص المادة الثالثة من هذه المحالفة التي وضعت في (أنقرة) قد

جعل الدولة الأفغانية في مكان التابع من الدولة التركية، وهذه ترجمته التي نشرت

في جريدة الأخبار المصرية لمراسلها في (كابل - عاصمة الأفغان) .

(تصدق الدولة الأفغانية بهذه المناسبة على أنها تقتدي بتركيا التي تخدم

خدمات جليلة وتحمل علم الخلافة الإسلامية) أي تقر وتعترف بهذه القدوة.

وذكر المراسل أن أمير الأفغان لم يقبل هذا النص بل غيَّرَه (بأن الدولة

الأفغانية لا تقتدي بالدولة العلية التركية، وإنما عليها أن تعترف بأنها دولة الخلافة)

وقد كان هذا قبل الانقلاب التركي الأخير، وذكر في بعض الجرائد أن الأفغان

أنكروا منه جعل الخلافة روحية لا شأن لها في السياسة والأحكام، وإذا آل الأمر إلى

اعترافهم بصحة الخلافة العثمانية التركية شرعًا فلا مندوحة لهم عن اتباع الخليفة

لأنهم قوم مسلمون مستمسكون بدينهم استمساكًا عظيمًا.

ولكن الظاهر أن جميع الذين يعترفون للعثمانيين من الترك بالخلافة ولا

يتبعون حكومتهم فإنما يعترفون لهم بلقب من ألقاب الشرف، لصاحبه نفوذ معنوي

لدى الدول. وإلا فلا معنى لكون الرجل خليفة المسلمين إلا أنه إمام دينهم ورئيس

حكومتهم الذي تجب طاعته عليهم. وتباح دماؤهم في الخروج عليه والاستقلال

بالحكم دونه. وأما المتغلب الذي لا يطاع إلا بالقهر فلا يجوز لغير من قهرهم

الاعتراف له بالخلافة، وإن من العبث بالإسلام أن تجعل إمامته الكبرى مجرد لقب

من ألقاب المدح والشرف.

هذا، وأما البلاد الإسلامية الرازحة تحت أثقال السيطرة الأجنبية كمصر وسائر

أقطار أفريقية الشمالية وسورية والعراق - فليس لها من أمر حكمها أو حكومة دينها

شيء، وليس فيها جماعة تتصرف في ذلك بحل ولا عقد، فلو أن رؤساء الحكومة

والشعب في قطر منها - وهم الذين كانوا لولا السلطة الأجنبية أهل الحل والعقد فيها -

أرادوا أن يبايعوا خليفة في بلاد الترك أو العرب مثلاً مبايعة صحيحة، وهي ما

توجب عليهم أن يكونوا خاضعين لسلطانه، مطيعين في أمورهم العامة لأمره ونهيه،

ناصرين له على من يقاتله أو يبغي عليه - لما استطاعوا أن يمضوا ذلك

وينفذوه بدون إذن الدولة الأجنبية المسيطرة عليهم، وهي لن تأذن وإن كانت تدعي

أنها لا تعارض المسلمين في أمور دينهم، وأنها تاركة أمر الخلافة إليهم.

وأما الأفراد والجماعات الذين ليس لهم رئاسة ولا نفوذ في قيادة الشعب، ولا

يستطيعون أن يطيعوا إذا بايعوا، كأن ينفروا إذا استنفروا، وينصروا إذا

استنصروا - فقد يسمح لهم في بعض هذه الأقطار أن يقولوا ماشاءوا، وفي بعضها

لا يسمح لهم بذلك. ورأي السواد الأعظم من المسلمين في كل قطر من هذه الأقطار

مخالف لرأي الدولة المسيطرة عليه، ومن ذلك مبايعة بعض الأفراد والجماعات

المصرية والهندية للخليفة التركي الجديد، ولو أراد مثل ذلك أهل تونس والجزائر

لما أبيح لهم مع عِلم فرنسة المسيطرة عليهم أن هذه المبايعة لا يترتب عليها اتباعهم

لحكومته التركية. وأن هذه الحكومة نفسها غير تابعة لخليفتها، بل هو تابع لها

وموظف عندهم وهي التي تحدد عمله ووظيفته.

وصفوة القول أن الشعوب الإسلامية المقهورة بحكم الأجانب ليس لها من

أمرها إلا ما يجود به عليها الأجانب القاهرون لها. ولا يمكنها أن تساعد على وحدة

الأمة التي تتوقف عليها وحدة الإمامة، إلا من طريق بث الدعوة وبذل المال، وأن

الشعوب المستقلة لا مطمع الآن بجمع كلمتها بترك التعصب لمذاهبها ولجنسيتها،

وإيجاد خلافة صحيحة قوية توحد حكومتها. وأقرب منه عقد موالاة ودية أو

محالفات سياسية عسكرية بينها، وقد بدأ بذلك الأعاجم منها. وأما العربية فقد عز

إلى اليوم التأليف بينها، فإذا يسره الله تيسر اتفاقها مع غيرها، وكان ذلك تمهيدًا

للإمامة العامة التي تجمع كلمتها كلها.

ومن ذا الذي يطالب بإعادة تكوين الأمة الإسلامية المنحلة العُقَد المفككة

المفاصل، وبإعادة منصب الخلافة إلى الموضع الذي وضعه الشارع فيه؟ أهل

الحل والعقد - أهل الحل والعقد. ومن وأين هم اليوم؟

***

(استدراك أو تصحيح)

كنا عند كتابة ما تقدم تركنا الكلام على الخلافة العثمانية التركية؛ لأن أصل

السياق فيها، والبحث موجه إلى بيان حالة المسلمين وحكومتهم المستقلة التي لا

يمكن تعميم الخلافة بكفالة الترك لها إلا باتفاقهن عليها، ثم بدا لنا أن نكتب كلمة

فيها ليكون بحثنا تامًّا جامعًا لكل ما تنجلي به المسألة من الجهة الشرعية ومن جهة

المصلحة العملية. وهذا نص الكلمة ومحلها في السطر الثالث من ص 55:

(وأما الدول الأعجمية المستقلة فأولها التركية، وكان المشهور أن الخلافة

انتقلت إلى سلاطينها بنرول آخر خلفاء العباسيين عنها للسلطان سليم الذي أسره

بمصر وحمله إلى الآستانة وتسلسل ذلك فيهم بعد ذلك بالعهد والاستخلاف، حتى

كان من أمرهم في هذه الأيام ما كان، ويقال: إن السلطان محمد وحيد الدين

المخلوع ما زال يدعي الخلافة التي آلت إليه بنظام الوراثة، والحق ما بيَّناه من قبل،

وأن الخليفة العباسي الذي أسره السلطان سليم لم يكن يملك الخلافة ولا النزول

عنها ولو لأهلها، ولو كان يملكهما لاشتُرط في نزوله الحرية والاختيار، ولم يكن

يملكها، ومثله السلطان وحيد الدين الآن، فلذلك لا يُعتد بما توقعه بعضهم من نزوله

عنها لملك الحجاز، وإذا كانت خلافة الترك العثمانيين بالتغلب فلا فرق بين اختيار

الأمير عبد المجيد الآن بعد انقطاع سلسلة العهد والاستخلاف بخلع محمد وحيد الدين

أو قبله، وبين اختيار من قبله عملاً بذلك النظام، هذا إذ جعلته حكومة أنقرة خليفة

بالمعنى الشرعي المعروف، ولكنها اخترعت نوعًا جديدًا من الحكومة ونوعًا آخر

من الخلافة، ووضعت للأولى قانونًا أساسيًّا عرفناه، ولمَّا تضع للثانية قانونًا لنعلم

منه كنهها، فإن كانت خلافة روحية لا سلطان لها في سياسة الأمة وحكومتها فهي

غير الإمامة التي بيَّنا أحكامها، على أن ما يضعونه لها من النظام إن كان موافقًا

للشرع حمدناه، وإن كان مخالفًا له أنكرناه، ولا يضرنا تسمية هذا العمل خلافة

فمثله معهود عند أهل الطريق ولا مشاحَّة في الاصطلاح، وسنبين في كل وقت ما

يجب علينا وعليها للإسلام.

***

17-

أهل الحل والعقد في هذا الزمان وما يجب عليهم في أمر الأمة والإمام:

فرغنا مما قصدنا إلى بيانه من أحكام الإمامة العظمى في الإسلام، ونُقفي عليه

ببيان ما يجب من السعي للعمل بهذه الأحكام، بإعادة تكوين الأمة ووحدتها،

ونصب الإمام الحق لها. الذي بينا في المسألة الثانية أنه واجب عليها شرعًا، تأثم

كلها بتركه، وتعد حياتها وميتتها جاهلية مع فقده، فالأمة كلها مطالبة به، وهي

صاحبة الأمر والشأن فيه كما بيَّنَاه في المسألة الرابعة، وإنما يقوم به ممثلوها من

أهل الحل والعقد كما حرَّرْناه في المسألة الثالثة، فأهل الحل والعقد هم المطالبون

بجميع مصالح الأمة العامة، ومسألة السلطة العليا خاصة.

قلنا: إن أهل الحل والعقد هم سراة الأمة وزعماؤها ورؤساؤها، الذين تثق

بهم في العلوم والأعمال والمصالح التي بها قيام حياتها، وتتبعهم فيما يقررونه بالشأن

الديني والدنيوي منها، وهذا أمر من ضروريات الاجتماع في جميع شعوب البشر،

تتوقف عليه الحياة الاجتماعية المنظمة، قال شاعرنا العربي:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

وإذا صلحت هذه الفئة من الأمة صلح حالها وحال حكامها، وإذا فسدت فسدا،

ولذلك كان مقتضى الإصلاح الإسلامي أن يكون أهل الحل والعقد في الإسلام من

أهل العلم الاستقلالي بشريعة الأمة ومصالحها السياسية والاجتماعية والقضائية

والإدارية والمالية، ومن أهل العدالة والرأي والحكمة، كما بيناه في المسألة الرابعة،

وهي ما يشترط في أهل الاختيار للخليفة.

فذكر أهل الحل والعقد قد تكرر في مسائل أحكام الخلافة ولم نجعله عنوانًا إلا

لهذه المسالة التي عقدت للكلام فيهم أنفسهم وأين يوجدون اليوم، وما يجب عليهم

لأمتهم في هذا العصر، فإن الحكومات غير الشرعية من أجنبية ووطنية تُعنى بإفساد

زعماء الشعوب التي تستبد في أمرها، ليكونوا أعوانًا لها على استبدادها، ومن

تعجز عن إفساده على قومه بالترغيب ثم بالترهيب تكيد له أو تبطش به، فأهل

الحل والعقد من قِبَل الأمة قلما يوجدون إلا في الأمم الحرة، وأكثر الرؤساء في

الأمم المقهورة يكونون من قِبَل حكامها، وهم الذين توليهم رئاسة بعض الأعمال

والمصالح فيها، فيكون ما بيدهم من الحل والعقد مستأجرًا، وقد تُغَش الأمة ببعض

رجاله، وقد يكونون في نظرها من الخونة المستحقين للعقاب، وقد يوجد فيهم من

يكون أهلاً للثقة، وتعرف له الأمة ذلك أو تجهله، وإذا سكتت عن إظهار احتقارها

لصنائع المستبدين فيها؛ لتفرقها في وقت الانقياد والدعة، فإنها تظهره في وقت

الاجتماع بالاضطراب والثورة، وقد أظهرت لنا الثورة المصرية في هذه السنين،

كراهة الأمة واحتقارها لأفراد من رؤساء مصالح الدنيا والدين، وترئيس أفرادًا

آخرين عليها، وآية هذه الزعامة المصنوعة المستأجرة للحكومة أن صاحبها إذا

خرج من منصبه، تجد جمهور الأمة لا يحفل به، ولا يعده زعيمًا له، وربما

أظهر له الاحتقار والإهانة، وقد رأينا الأجانب الغاصبين لبعض بلادنا في هذه

السنوات النحسات يقودون بعض هؤلاء الزعماء الذين أفسدوهم على الأمة أو

رأسوهم عليها إلى عواصم بلادهم ويتواطؤن معهم على توطيد سلطتهم فيها (أي

الأمة) ويستخدمون بعضهم في البلاد للاستعانة بهم على استعمارها، وكذلك كان

يفعل السلاطين والأمراء في استمالة العلماء والوجهاء بالرتب والأوسمة والهبات، ثم

هب الترك والمصريون يطلبون سلطة الأمة بمجالس النواب، وهذه المجالس بمعنى

جماعة أهل الحل والعقد في الإسلام، لا أن الإسلام يشترط فيهم من العلم والفضل،

ما لا يشترطه الإفرنج ومقلدتهم في هذا العصر.

وقد صار أهل الجمعية الوطنية في أنقرة أصحاب الحل والعقد بالفعل،

وبالرغم من السلطان الذي ناصبهم فباء بالخزي والعزل، وحلوا محل مجلس

المبعوثين ومجلس الوزراء وشخص السلطان جميعًا، وقد ذكرني هذا ما قاله لي

الغازي أحمد مختار باشا في الآستانة لما سألته عن رأيه في الحكومة الدستورية،

قال: عندنا مجلس وليس عندنا سلطان، ولابد من الكفتين في وجود الميزان.

وأما البلاد المقهورة بالاحتلال الأجنبي كمصر والهند، فلا مجال فيها لمثل ما

فعل الترك، وإنما يظهر فيها فرد بعد فرد، إلى أن تبلغ الأمة سن الرشد.

ولقد وصل الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى إلى مقام الزعامة في هذه الأمة

ومرتبة أهل الحل والعقد في الأمور الدينية والدنيوية من سياسية وغيرها، بل

قارب أن يكون زعيم الأمة الإسلامية كلها، ولكن بالقوة لا بالفعل؛ لأن الأمة لم

تكن قد تكونت تكونًا يؤهلها للسير في الخطة التي يختطها لها ولذلك كان يقول: يا

ويح الرجل الذي ليس له أمة وقد كان أمير بلاده ينهى عنه وينأى عنه، على أنه

كان يرجع في المهمات وحل المشكلات إليه.

وقد بلغ ربيبه سعد باشا زغلول مقام الزعامة السياسية في هذه السنين التي

تكون فيها قومه، فلما تصدى للعمل بقوة الشعب، كان جزاؤه النفي بعد النفي،

ويوجد في الهند رجال من المسلمين والهنود رفعتهم أحداث الزمان إلى مقام الزعامة

في الأمة بإظهارها ما هم عليه من الكفاءة وعلو الهمة، وهم الآن في غيابات

السجون، ومنهم (غاندي) عند الهندوس وأبو الكلام ومحمد علي وشوكت علي

عند المسلمين، ويلي هؤلاء جماعاتهم كالوفد المصري عندنا، وجمعية الخلافة

عندهم.

وأما الجماعات القديمة، فإن هيئة كبار العلماء في الأزهر بمصر وفى جامع

الفاتح والسليمانية من الآستانة وجامع الزيتونة بتونس ومدرسة ديونبد بالهند - فإن

جمهور الأمة يثق بأن حكم الله ما قالوا، ولكن أكثر المتفرنجين - ومنهم أكثر

الحكام والقواد والأحزاب السياسية - قلما يقيمون لأحد منهم وزنًا إلا من كان ذا

منصب أو ثروة أصاب بها بعض الوجاهة، ولا يوجد في علماء أهل السنة

مجتمعين ولا منفردين من يبلغ في الزعامة واتباع الشعب له مبلغ مجتهدي علماء

الشيعة، ولا سيما متخرجي النجف منهم، فأولئك هم الزعماء لأهل مذهبهم حقًّا،

ويقال: إنهم أفتوا في هذه الآونة بتحريم انتخاب الجمعية الوطنية، التي أمرت بها

حكومة الملك فيصل لإقرار المعاهدة بين العراق والدولة البريطانية، فأطاعها البدو

والحضر من الشيعة، وقد كان ميرزا حسن الشيرازي - رحمه الله تعالى - أصدر

فتوى في تحريم التنباك فخضع لها الشعب الإيراني كله، وتركوا استعمال التنباك

وزرعه، وهو بالنسبة إلى صادرات بلادهم كالقطن في القطر المصري، وكان الذي

حمله على إصدار هذه الفتوى موقظ الشرق السيد جمال الدين الأفغاني قدس الله روحه

بسبب إعطاء حكومة إيران امتيازًا بالتنباك لشركة إنكليزية، فاضطرت الحكومة

لفسخ الامتياز في مقابلة تعويض للشركة قدره خمسمائة ألف جنيه إنكليزي، ولو لم

تفسخ هذه الشركة لفعلت في إيران ما فعلت شركة الجلود الإنكليزية في الهند، أي

لملكت أمتها تلك البلاد وضمتها إلى إمبراطورية الهند.

قلت: إن الحكومات المستبدة تجتهد في إفساد من يظهر من الزعماء في

الشعوب التي تتولى أمرها. على أنها تعنى قبل ذلك بالأسباب التي تمنع وجود

الزعامة فيها بإفساد التعليم ومراقبته، وقد أبعدوا علماء الدين عن السياسة وعن

الحكومة، فصار أكثر أهلها وأنصارها من الجاهلين بالشريعة، وتولى هؤلاء أمر

التعليم وإعداد عمال الحكومة له، وانكمش العلماء وأرِزوا إلى زوايا مساجدهم، أو

جحور بيوتهم، ولم يطالبوا بحقوقهم، ولا استعدوا لذلك بما تقتضيه حال الزمان،

وطبيعة العمران، ولا عرفوا كيف يحفظون مكانتهم من زعامة الأمة بتعريفها

بحقوقها، وقيادتها للمطالبة بها، فأضاعوا حقهم من الحل والعقد فيها، وتركوها

لرؤساء الحكام وللأحزاب والجمعيات السياسية التي يتولى أمرها في الغالب من لا

حظ لهم من علوم الدين، ولا من تربيته التي لا نظام لما بقي منها عند بعض

المسلمين.

فإذا أريد السعي - والحال هذه - لما وحب في الشرع من إمامة الحق والعدل

العامة، فلا بد قبل ذلك من السعي لوجود جماعة أهل الحل والعقد المُتحلِّين

بالصفات التي اشتُرطت فيهم كما تقدم في المسألة الخامسة، فإنهم هم أصحاب الحق

في نصبه بنيابتهم عن الأمة، وبتأييده في حمل الأمة على طاعته، والمطلوب قبل

نصب الإمام العام للأمة كلها، أو للبلاد المستقلة منها أن تتحد شعوب هذه البلاد،

وترجع عن جعل اختلاف المذاهب والأجناس واللغات، موانع للوحدة والاتفاق.

وإنا نتساءل هنا: هل يوجد في البلاد الإسلامة من أهل الحل والعقد من يقدر

على النهوض بهذا الأمر؟ وإذا لم يكن فيها من لهم هذا النفوذ بالفعل أفلا يوجد من

له ذلك بالقوة؟ ثم ألا يمكن للمسلمين وضع نظام لجعل النفوذ بالقوة نفوذًا بالفعل؟

بلى إنه ممكن عسر، وقوة العزيمة تجعل العسر يسرًا، وقوة العزيمة تتبع قوة

الداعية، ومن ذا الذي يُرْجَى أن يضع النظام ويشرع في العمل؟ ألا إنه حزب

الإصلاح الإسلامي المعتدل.

***

18 -

حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل:

قد علم مما تقدم أن العمل لوحدة الأمة الإسلامية بقدر الإمكان ينحصر اليوم

في الشعبين الكبيرين - العربي جرثومة الإسلام. والتركي سيفه الصمصام - وأن

أمر البلاد العربية المستقلة بيد أئمتها وأمرائها، فالتأليف بينهم مقدم على كل شيء

فيها، ونقول هنا:

إن المتصدرين للزعامة السياسية ومقام الحل والعقد في غير جزيرة العرب

من البلاد الإسلامية أزواج ثلاثة: مقلدة الكتب الفقهية المختلفة - ومقلدة القوانين

والنظم الأوربية - وحزب الإصلاح الجامع بين الاستقلال في فهم فقه الدين وحكم

الشرع الإسلامي وكنه الحضارة الأروبية، وهذا الحزب هو الذي يمكنه إزالة

الشقاق من الأمة على ما يجب عمله في إحياء منصب الإمامة، إذا اشتد أزره وكثر

ماله ورجاله، فإن موقفه في الوسط يمكِّنه من جذب المستعدين لتجديد الأمة من

الطرفين. وهو الحزب الذي سميناه في المقالة الثالثة من مقالات (مدنية القوانين)

بحزب الأستاذ الإمام؛ إذ كان المنار يمهد السبيل لجعل الأستاذ زعيم الإصلاح في

جميع بلاد الإسلام، وإنا نعرف أفرادًا من هؤلاء المصلحين المعتدلين في الأقطار

المختلفة، ولا سيما العربية والتركية والهندية، ونشهد أن مسلمي الهند في جملتهم

أرجى لشد أزر هذا الحزب بالمال والرجال، ولكنهم لا يستطيعون العمل إلا باتحاد

عقلائهم مع عقلاء سائر الأقطار لتكوين جماعة أهل الحل والعقد بما يتفقون عليه

من النظام لأجل قيادة الرأي العام، ولتكوين مؤتمر عاجل لأجل تقرير ما يتخذ من

الوسائل الآن، فإن مسألة الخلافة كانت مسكوتًا عنها، فجعلها الانقلاب التركي

الجديد أهم المسائل التي يبحث فيها، ولولا كثرة التخبط وتضليل الرأي العام بأكثر

ما كتب فيها لآثرنا السكوت على القول مع السعي إلى ما نرى من المصلحة فيها

بالعمل، ولكن وجب التمهيد له ببيان الحقائق، وإن جعلت موضع البحث والمراء

باختلاف الآراء والأهواء، وحسبنا أن نذكر حزب الإصلاح بما يعتنُّ له من

العقبات من حزبي التقاليد والعصبيات، وبما يجب أن يعد للعمل من القواعد

والبينات.

***

19 -

حزب المتفرنجين:

بيَّنَّا في المقالة الثالثة من مقالات (مدنية القوانين) مرادنا من التفرنج وأهله

وأن منهم المرتدين المجاهرين بالكفر والمُسرِّين به، ومداركهم في حكومة الإسلام

وشريعته. ونقول هنا أيضا:

إن ملاحدة المتفرنجين يعتقدون أن الدين لا يتفق في هذا العصر مع السياسة

والعلم والحضارة، وأن الدولة التي تتقيد بالدين تقيدًا فعليًّا لا يمكن أن تعز وتقوى

وتساوي الدول العزيزة. وهؤلاء كثيرون جدًّا في المتعلمين في أوربة وفي المدارس

التي تدرس فيها اللغات الأوربية والعلوم العصرية، ورأي أكثرهم أنه يجب أن تكون

الحكومة غير دينية، وحزبهم قوي ومنظم في الترك وغير منظم في مصر، وضعيف

في مثل سورية والعراق والهند، ورأيه أنه يجب إلغاء منصب الخلافة الإسلامية من

الدولة، وإضعاف الدين الإسلامي في الأمة، واتخاذ جميع الوسائل لا ستبدال الرابطة

الجنسية أو الوطنية، بالرابطة الدينية الإسلامية، والترك من هؤلاء أشد خصوم إقامة

الإمامة الصحيحة في الدولة التركية.

وقد بثت جمعياتهم الدعوة في الأناضول - مهد النعرة الإسلامية - إلى العصبية

العمية بالأساليب التي لا يشعر الجمهور بالغرض منها، وقد أشرنا من قبل إلى

بعضها، فكان لها التأثير المطلوب: كان التركي هنالك إذا سئل عن جنسه قال:

مسلم والحمد لله. وبذلك يمتاز من الرومي والأرمني. وأما الآن فصار يجيب بأنه

تركي. وكان لا يفهم من وجوب الخدمة العسكرية إلا طاعة خليفته وسلطانه في

الجهاد في سبيل الله، فبثت فيه فكرة القتال في سبيل الترك ووطن الترك لمجد

الترك، وقد اطلعنا في هذه الأيام على قصة (قميص من نار) للكاتبة الإسرائيلية

النسب التركية السياسة والمذهب، خالدة أديب وزيرة المعارف في حكومة أنقرة،

وقد أنشأتها لبيان كُنْه الحركة الوطنية في الأناضول التي أنشئت لمقاومة سلطة

الآستانة وإخراج اليونان من البلاد وتأمين استقلالها، فألفيناها مصوِّرة لما ذكرنا، لم

نر فيها كلمة واحدة تدل على فكرة الجهاد الإسلامي ولا الروح الديني الذي كنا نعهد.

على أن فريقًا من هؤلاء المتفرنجين يرى أن وجود منصب الخلافة في الترك

يمكن الانتفاع به من بعض الوجوه السياسية والأدبية وغيرهما إذا كانت الخلافة

صورية أو روحانية لا سلطان لها في التشريع ولا في التنفيذ، بل ينحصر نفوذها

في الدعاية السياسية للدولة من طريق الدين، كسلطة البابا والبطارنة وجمعيات

التبشير، وأكثر هؤلاء من أصحاب العصبية الطورانية، الذين يتفقون من بعض

الوجوه مع طلاب الجامعة الإسلامية، فإنهم يطمعون في تأليف أمة كبيرة من

شعوب الشرق الأعجمية المسلمة بجعهلهم كلهم تركًا؛ لأنه ليس لأحد منهم لغة

علمية مدونة إلا الفرس الإيرانيون والأفغانيون، وكذا لغة الأوردو في مسلمي

الهند، على أن اللغة التركية فاشية في أكثر بلاد إيران، ومن لم يمكن إدغامه في

الأمة التركية باسم الوحدة الطورانية ورابطة اللغة التركية، فإن من الممكن إدغامه

فيها بالتبع للخلافة الإسلامية، ثم يكون أولاد هؤلاء تركًا بالتعليم والتربية تبعًا

للحكومة. وحزب العصبية التركية المحضة معارض لحرب العصبية الطورانية

العامة؛ إذ يخاف أن يضيع الترك فيها كما ضاعوا في الجامعة العثمانية أو الإسلامية

بزعمه. وليس من غرضنا هنا تحقيق هذه المسائل ولا انتقادها، بل التذكير بما فيها

من معارضة الإمامة الإسلامية بأوجز عبارة، ولا نيأس من إقناع الكثيرين منهم

بالجمع بين الجنسية والإسلامية.

وهنالك فريق من المتفرنجين - ومنهم بعض المتدينين أكثر من غيرهم -

يرون أن إقامة الخلافة الإسلامية وجعل رئيس الدولة هو الإمام الحق الذي يقيم الإسلام

،متعذر في هذا الزمان في دولة مدنية، فإما أن تكون الخلافة في الدولة التركية اسمية

كما كانت في الدولة العثمانية يُنتفع بها بقدر الإمكان ويُتقى شر استبداد الخليفة وتكون

الحكومة مطلقة من قيد التزام الشرع في الأحكام التي لا يمكن العمل بها في هذا

العصر؛ وإما أن يُستغنى عنها ألبتة، واستمالة حزب الاصلاح لهؤلاء أيسر من

استمالته لغيرهم.

***

20-

حزب حشوية الفقهاء الجامدين:

إن جميع علماء الدين وأكثر العامة المقلدين لهم يتمنون أن تكون حكومتهم

إسلامية محضة، والترك يُحَتِّمُونَ أن تكون تابعة لفقه المذهب الحنفي، ومنهم من

لا يرى مانعًا من الأخذ في بعض الأحكام بفقه غير الحنفية من مذاهب أهل السنة،

ولا يبالون بما خالف ذلك من مدنية العصر، ولكن هؤلاء العلماء يعجزون عن جعل

قوانين العسكرية والمالية والسياسية مستمدة من الفقه التقليدي ويأبون القول بالاجتهاد

المطلق في كل المعاملات الدنيوية، ولو فوض إليهم أمر الحكومة على أن ينهضوا

بها لعجزوا قطعًا، ولما استطاعوا حربًا ولا صلحًا.

طالما بينا في المنار أن تقصير علماء المسلمين في بيان حقيقة الإسلام والدفاع

عنه بما تقتضيه حالة هذا العصر هو أكبر أسباب ارتداد كثير من متفرنجة المسلمين

عنه، وأنهم لو بيَّنوه كما يجب لدخل فيه من الإفرنج أنفسهم أضعاف من يخرج منه

بفتنتهم. وإن سبب ذلك أو أهم أسبابه أنه ليس للمسلمين إمام ولا جماعة تقيم ذلك

بنظام ومال كما يفعل إمام الكاثوليك (البابا) وجمعيات التبشير في بلاد النصرانية،

على أن السلاطين والأمراء وأتباعهم قد أفسدوا العلماء وأبطلوا عليهم زعامتهم

للأمة إلا فيما يؤيد ظلمهم واستبدادهم كما ذكرنا آنفًا.

ولو كان للمسلمين خليفة قائم بأعباء الإمامة العظمى لما أهمل أمر الدفاع عن

الإسلام والدعوة إليه حتى كثر الارتداد عنه، وغلب على الدولة العثمانية من لا علم

لهم به. أليس من الغريب أنني لما وضعت مشروع الدعوة والإرشاد للقيام بهذه

الفرائض التي هي أول ما يجب على إمام المسلمين وجماعتهم - لم يوجد في وزراء

الدولة ولا رؤسائها من تجرأ على إجازة هذا الاسم؟ وأن الذين استحسنوا المشروع

اتفقوا على تسمية جمعيته بجماعة العلم والإرشاد؟ ! نعم إن مستشار الصدارة قال

لحقي باشا الصدر الأعظم أمامي: إذا نفذنا هذا المشروع ألا نلقى مقاومة من الدول

العظمى؟ فأجابه: إن لدولة البلغار مدرسة عندنا لتخريج الدعاة إلى النصرانية،

أفتكون دولة الخلافة في عاصمتها دون دولة البلغار حرية في دينها؟ ولكن هذا

الصدر الأعظم لم ينفذ المشروع ولم يساعدنا فيه أدنى مساعدة، وإنما اغتنمنا فرصة

سفره إلى إيطالية وسفر طلعت بك وزير الداخلية وزعيم الاتحادية إلى أدرنة لتقرير

المشروع رسميًّا، وأعانني على ذلك انعقاد مجلس الوكلاء برئاسة شيخ الإسلام

موسى كاظم أفندي أحد أنصاره، فما زلت ألح عليه حتى أصدر رحمه الله قرارًا

من المجلس بتنفيذه، ثم جاء طلعت بك فأفسد الأمر.

وكان الذي يسمونه السلطان و (الخليفة) في قفصه، مغلوبًا على أمره، لا

يكاد يصحو من سكره، ولا ترجو المشيخة الإسلامية منه قولاً ولا عملاً في هذا

الأمر ولا غيره، ولماذا كان نفوذ مثل طلعت وناظم أغلب عليه من نفوذ شيخ

الإسلام وشيوخ دار الفتوى؟ أليس لعجز هؤلاء الشيوخ وأعوانهم عن إدارة أمور

الدولة وعن إظهار كفاية الشريعة، وعن إثبات أصول الاعتقاد والعمل بها بالحجة،

ودفع كل ما يرد عليها من شبهة؟ أليس لأنهم غير متصفين بما اشترطه أئمة

الشرع في أهل الحل والعقد، من العلم والسياسة والكفاية والكفاءة؟

على أن نفوذ علماء الدين في بلاد الترك أقوى منه في مثل سورية ومصر،

ولكن خصومهم من المتفرنجين أقوى منهم، وكل من الفريقين يعد الآخر سبب

ضعف الدولة وتقهقر الأمة، والحق أن الذنب مشترك بينهما، وأن نصب الإمام

الحق وجعل الدولة التركية كافلة لمنصب الخلافة، لا يتم إلا بجمع حزب الإصلاح

لكلمة المسلمين المتفرقة، بجذب أكثر أصحاب النفوذ إليه، حتى تنحصر صفات

أهل الحل والعقد فيه، وإنما يكون ذلك بتحويل العلماء منهم عن جمود التقليد

وعصيبة المذاهب، وكشف شبهات المتفرنجين على الدين والشرع، وبيان الخطأ

في عصبية الجنس، فإن كان إقناع السواد الأعظم بذلك غير مستطاع الآن، فحسب

هذا الحزب من النجاح الرجحان على سائر الأحزاب، واستعداده لذلك بما سنبينه

من الأسباب.

إن الإسلام هداية روحية ورابطة اجتماعية سياسية، فالكامل فيه من كملتا له،

والناقص فيه من ضعفت فيه إحداهما أو كلتاهما، وقد فقدهما معًا الملاحدة من

غلاة العصبية الجنسية، فهؤلاء لا علاج لهم، لا عند أنصار الخلافة ولا عند

غيرهم، لكن بيان حقيقة الإسلام وما فيه من الحِكَم والأحكام الكاملة لأرقى معارج

المدنية والعمران، مع الخلو من كل ما في المدنية المادية من الشر والفساد، على

الوجه الذي سنشير إليه في أبحاثنا هذه - يفل من حدهم، ويقفهم عند حدهم، بل يهدي

من لم يختم على قلبه من أفرادهم، وهو بهداية الكثير من غيرهم أقوم، ونجاح الدعوة

فيهم أرجى.

حسبنا هذه الإشارة إلى ما يجب من السعي لهذا العمل في الترك، وأما الشعب

العربي الذي هو أصل الإسلام وأرومته، ولا حياة إلا بلغته، ولا تتم أركانه إلا

بفريضة الحج التي تؤدى في بلاده، وهو الركن الاجتماعي الوحيد الجامع بين

شعوبه، ولا يمكن أن تكون الإمامة الصحيحة العامة بمعزل عنه - فهو شعب كله

متدين، ليس في جزيرته إلحاد ولا تفرنج، وإنما آفته الجهل بطرق إدارة البلاد

وعمرانها وبالعلوم والفنون التي يتوقف حفظ الاستقلال وعزة الملة عليها، وتعادي

الأمراء، ودسائس الأعداء، فكل ما يجب له على حزب الإصلاح إقناع أمرائه بما

يجب من الاتحاد، ومساعدتهم على ما يجب من إعداد وسائل القوة والعمران، وها

نحن أولاء نذكره بما يجوز نشره من برامج الأعمال وأساليب الاستدلال.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما في الجزء العاشر م23.

(1)

آخر ص 9 من الأحكام السلطانية.

(2)

سنذكر بعض الروايات في استخلاف يزيد بن معاوية.

(3)

ص 278 و 279.

(4)

ص 275 ج2.

(5)

ص 277 منه.

(6)

ص 280 وتقدم أن (المسايرة) للكمال بن الهمام الحنفي، وأما شرحها المسمى (بالمسامرة) فهو للكمال بن أبي شريف الشافعي.

(7)

ص 413 من النسخة المطبوعة بالمطبعة الأميرية بمصر سنة 1296.

(8)

كان ينبغي حذف هذا الجمع هنا وفيما بعده.

(9)

يأتي هنا التفصيل السابق في الإمام الحق، وإمام الضرورة والمتغلبين، وداري العدل والجور.

ص: 33

الكاتب: أبو الكلام

خطاب أحد زعماء النهضة الإسلامية الهندية

الذي قدَّمه عند محاكمته للمحكمة الإنكليزية

ومقدمة مترجمه في وصف ثورة الهند السياسية السلبية

وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*]

المقدمة:

إن الجهاد العظيم الذي قامت به الهند المستعبدة منذ خمس سنوات متواليات

لصون الخلافة الإسلامية، وحرية البلاد العربية - يكاد يكون فذًّا في تاريخ العالم، لا

لأنه جهاد بلاد استعبدت استعبادًا شديدًا، وحكمت بالنار والحديد أجيالاً، وصبت

على رأسها المصائب تلو المصائب، ودهمتها الدواهي - بل لأن أصوله جديدة،

وطرق عمله عجيبة، ومظاهراته سلمية، وروحه العاملة فيه خالية من كل حقد

وشدة، وليس فيه إلا الإيثار وهضم النفس وكظم الغيظ وتقديم المُهج، وتحمل

الشدائد. القائمون به يُقْتَلُون ولا يَقْتُلُون، يُضرون ولا يَضرون [1] ، يصابون ولا

يصيبون، يقاومون القوة لا بالشدة والبطش، بل بالصبر والحلم والسلم، ويحاربون

الاستبداد لا بالسيف والرمح، بل بالإيمان واليقين والثقة بالله ربهم، فهو جهاد

سلمي حقًّا، وحرب روحانية مدنية، لا شائبة فيها من القوة والغلظة، بل هو في

الحقيقة صحيفة عِبر، وكتاب بصائر لسائر الأمم المستضعفة يبين لها أن الفوز

والنصر لا يتوقف على بسطة الجسم والقوة المادية، بل منبعه الحقيقي من القوة

المعنوية وروحانية القلوب التي في الصدور، وهو أول مثال للمقابلة السلمية

للقوات المتسلحة القتالة، وإنه ليهب سلاحًا ماضيًا صائبًا من الإيمان والصدق

للشرق المسكين، ليحارب به الغرب الجائر المتسلح بالقوات المادية، فهل يقبله

الشرق وينجو به من الخزي والعار؟

ألا لا يتهمني أحد بأني أبالغ في هذا الجهاد، أو أهيم بوصفه في وديان

الخيال، أو أتخيل كالشعراء في المحال. بل أُبين كُنه الحال، وأتكلم عن حقيقة

وبرهان، فإنه جهاد زعزع أساس الدولة البريطانية في البلاد، وتركها في حيرة

وارتباك، فظلت طول هذه المدة مغلولة الأيدي مع ما تملك من القوة والسلاح، ولم

تستطع قهره ومقارعته بما أوتيت من البطش والجلاد، ولكن هل سمعت سيفًا يقتل

روحًا، وأن صُرَعة يصرع قلبًا، نعم قهرت بريطانية عدوتها ألمانية؛ لأنها كانت

أقوى منها وأدهى [2] ، ولكنها ما كان لها أن تقهر هذا الجهاد السلمي؛ لأنه ليس

أمامها قوة مادية مثلها فتكسرها، ولا يد فتاكة فتجذمها، وإنما كل ما هنالك عنق

للقتل وقلب للحياة، وجسم للصلب، وروح للبقاء، فما أعجب هذا الجهاد، وما

أسلم هذا العراك!

ولقد كان من نتائج هذا الجهاد أن اضطرت بريطانيا على رغم أنفها أن تخفف

وطأتها عن الإسلام، ولا تصر على إظهار العداوة للخلافة الإسلامية، والتمادي في

حماية ربيبتها الدولة اليونانية، فإن الحكومة الهندية الإنكليزية لما أرسلت بلاغها

الرسمي الشهير في فبراير سنة 1922 إلى الحكومة المركزية في لندن تؤكد فيه

المطالب الهندية في مسألة الخلافة، وتحذرها من سياستها الخرقاء في معاداة الدولة

العثمانية والبلاد الإسلامية، تأثر به الرأي العام الإنكليزي أيَّمَا تأثر، حتى

تدحرجت وزارة المستر لويد جورج القاهر لألمانيا، وسقطت سقوطًا مخزيًا،

وكانت قد امتازت بعداوة الأتراك والمسلمين واستعمار البلاد الإسلامية المحتلة باسم

الوصاية.

نعم قد تم هذا، ولكن الأيام حبلى ولا ندري ما يكون وراء مؤتمر الصلح،

ومهما يكن من الأمر، فسيظل هذا الجهاد حتى تتحرر البلاد الإسلامية، ويغادر كل

جندي محتل أرض الشام وفلسطين والعراق ومصر والقسطنطينية، فتصبح كلها

حرة مطلقة من قيودها تحكم نفسها بنفسها كيف تشاء.

وإن مما يُحزن القلب، ويُبكي العين أن هذه البلاد الإسلامية التي تلتهب الهندُ

غيرة عليها، وتتفانى في حبها، وترخص كل غال وثمين لأجلها - لا تعلم عن هذا

الجهاد إلا شيئًا لا يُذْكَر، مع أن سيل المصائب الذي غمر العالم الإسلامي قاطبة

كان يجب أن يعرّف به المسلمون بعضهم بعضًا، ويتعاونوا ويتناصروا ويبحثوا

عن خطة مشتركة للنجاة من هذه الورطة، وللفوز والفلاح والحياة في المستقبل.

وهذا الذي دعاني إلى أن أقدم إلى مسلمي مصر والشام والعراق وسائر البلاد

العربية والإسلامية، الخطاب الجليل الذي خاطب به المحكمةَ الإنكليزية زعيمُ الهند

الحلاحل الهمام (الشيخ أبو الكلام أحمد) عندما حوكم فيها؛ لأنه فوق ما فيه من

البصائر والعبر، يبين مقاصد ذلك الجهاد، وطرق السير فيه بأحسن بيان غير أنه

لا بد لإيضاح كُنْه هذا الخطاب من بيان وجيز لحركة اللاتعاون السلمي التي سببته

هذه الواقعة.

***

(حركة اللاتعاون السلمي في الهند)

قامت حركة هذا الجهاد بعد هدنة الحرب الكبرى مباشرة، فظلت زمنًا

محصورة في قيام المظاهرات وحشد المحافل واجتماع المؤتمرات، وإرسال الوفود

إلى إنكلترا وأوروبا، وغيرها من الطرق السياسية المعهودة، ولما لم تنتج هذه

الأعمال شيئًا، تشاورت جمعية الخلافة والجمعية الوطنية الكبرى في وضع خطة

للعمل، ثم أعلنتا في أغسطس سنة 1920 (اللاتعاون السلمي) الذي هو داخل تحت

الأوامر الشرعية؛ لأنه قسم من أقسام ترك الولاء للمحاربين، والذي يسمى بالإنكليزية

OPERATION - EA - NON MONUIOLENT ومعنى (كوابريشن)

المساعدة والمشاركة في العمل، فكان الغرض منه أن تقطع عن بريطانيا جميع تلك

العلائق التي تساعدها في حكمها واستبدادها وقيامها في البلاد؛ لأن الهند ليس في

وسعها أن تقوم بحركة مسلحة؛ ولأنها تريد أن تقدم مثالاً عمليًّا لمقاومة القوة بالطرق

السلمية، فلذا جعل عنوان هذه الحركة أن تكون سلمية بالمرة، فلا تقابل القوة المادية

بقوة مثلها، بل بالحلم والتضحية والثبات على الحق، تتعب القوة من الظلم والعسف،

ولا يتعب أصحاب الحق من الصبر والتضحية وكانت لائحة عملها كما يلي:

(1)

تُرد إلى الحكومة جميع مناصبها وألقاب شرفها وأوسمتها.

(2)

تقاطع جميع مدارسها وكلياتها، وتؤسس للصبيان المدارس الوطنية،

والشبان يشتغلون بنشر الحركة وترويجها.

(3)

تقاطع جميع المحاكم العدلية، فلا يذهب إليها المحامون ولا أصحاب

الدعاوى، بل تؤسس المحاكم الوطنية فتفصل فيها الدعاوى على الطرق البسيطة.

(4)

تقاطع إصلاحات الحكومة التي تمن بها على البلاد، فلا يرشح

أحد نفسه للمجالس النيابية، ولا ينتخب لها أحد.

(5)

تقاطع البضائع الإنكليزية، ولا سيما القماش منها، ويجب على

الوطنيين أن يغزلوا القطن بأيديهم، فينسج منه القماش، وهو الذي يستعمله

الناس.

(6)

يجب ترك الخدمة العسكرية لأن الدولة البريطانية تستعمل الجيش

الهندي لاستعباد هذه البلاد وغيرها من البلاد الحرة.

(7)

يجب أخيرًا أن يمنع كل ما يدفع إلى الحكومة من أموال الضرائب

وغيرها فلا يؤدى إليها فلس واحد، وإن سجنت وعذبت.

لا يخفى خطر هذه اللائحة، فإنها لم تكن إلا دعوة إلى الإيثار وهضم النفس

وتحمل الخسائر، والتعرض للنوائب؛ إذ لا يلبيها أحد إلا وينفض يده من وسائل

معيشته، فيذر نفسه وأهله للضنك والفقر والفاقة، ثم يعرض عن كل ما عند

الحكومة من الرتب والمنافع والشرف والفخار، وبعد ذلك يعرض نفسه للحبس

والتعذيب، وقد يلقى إلى القتل والصلب، إلا أن البلاد رحبت بها وتقبلتها بقبول

حسن، فأخذت جماعات تاركي التعاون تظهر من كل جهة وتعلن هذه الأمور وتعمل

بها، والحكومة تراها بعينها ولا تعرف كيف تصد تيارها.

(مقاطعة ولي العهد)

ولما رأت الحكومة أن الحركة لا تزال تتقوى وتنتشر، وأنها لا تقدر على

قهرها لجأت إلى الحيل السياسية، فدبر الوالي العام الجديد اللورد ريدنج الداهية

الشهير، سياحة لولي عهد إنكلترا في البلاد الهندية، ظنًّا منه أن البلاد لا تأبى

استقباله والترحيب بضيفها لأن العائلة الملكية تعتبر عندهم فوق المنازعات

السياسية، فتضعف الحركة وتعود المياه إلى مجاريها.

ولكن سرعان ما خاب أمله، فإن الأمة ما سمعت بهذه السياحة إلا وقررت

مقاطعتها، وأعلنت جمعية الخلافة وجمعية العلماء أن هذه السياحة تنوب (عن)

الإمبراطورية البريطانية، التي تحارب الخلافة والبلاد الإسلامية، وتريد استعبادها

واستعمارها، فلذا لا يجوز لأحد من المسلمين أن يشترك في استقبال ولي العهد،

ولا في الاحتفالات التي تقيمها الحكومة له.

ولقد قامت المنازعات الشديدة في البلاد بعد هذا الإعلان، فكانت الحكومة

في جهة تجدُّ وتكدُّ بجميع وسائلها الكثيرة ومواردها العظيمة لإنجاح هذه السياحة،

وفي جهة أخرى كان زعماء البلاد الذين لا حول لهم ولا قوة إلا قوة الأمة مصرين

على مقاطعتها، وكانت النتيجة مدهشة جدًّا، كانت هزيمة شنيعة تسجل في التاريخ

على أقوى دول الأرض أمام الرأي العام لبلاد ضعيفة الجسم، قوية الروح، فلقد

رأى نجل إمبراطور العالم بعيني رأسه منظرًا مدهشًا، لم يُشَاهد مثله من قبل، وربما

لم يخطر في باله، فإنه ما دخل مدينة إلا وجد الأسواق فيها معطلة والدكاكين مقفلة،

والأبواب موصدة، والشوارع مهجورة، المدينة كلها في سكون كسكون المقابر،

كأنه لم يغن فيها أحد بالأمس! وقد شاهد ما شاهد عم أبيه (الدوق أوف كوت) مثل

ذلك في سياحته التي تقدمت سياحته بسنة، وصفه أحد مكاتبي الجرائد في باريس

قائلا: (إن الهند اليوم مثل ما كانت باريس عند دخول الجيوش الألمانية إياها في

حرب السبعين) .

للكلام بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) صاحب الخطاب هو الزعيم الهمام، الأستاذ العلامة الكاتب الخطيب الشيخ أبو الكلام، والمترجم صاحب المقدمة هو الشاب النجيب، وغصن دوحة الإصلاح الرطيب: الشيخ عبد الرزاق المليحي الهندي تلميذ دار الدعوة والإرشاد بمصر.

(1)

فيه احتباك، أي: يُضَرُّون ولا يَضُرون من يضرهم، ويُضربون ولا يَضربون ضاربهم.

(2)

إنما غلبتها بالدهاء الذي سخرت به أكثر أمم الأرض لمساعدتها وآخرهن الولايات المتحدة الأميركية التي كانت أقوال رئيسها سبب الثورة الألمانية.

ص: 67

الكاتب: معروف الرصافي

‌وصف استقلال العراق

بقلم شاعره معروف أفندي الرصافي

لنا (ملك) وليس له (رعايا)

و (أوطان) وليس لها (حدود)

(وأجناد) وليس لهم (سلاح)

و (مملكة) وليس لها (نقود)

ويكفينا من الدولات أنا

تُعلَّق في الديار لنا البنود

و (أنا) بعد ذلك في (افتقار)

إلى ما (الأجنبي) به (يجود)

تسود سياسة (الهندي) فينا

وأما ابن البلاد فلا (يسود)

إذًا (فالهند) أشرف من (بلادي)

و (أشرف) من بني قومي (الهنود)

وكم عند الحكومة من (رجال)

نراهم (سادة) وهم (العبيد)

وليس (الإنجليز)(بمنقذينا)

وإن (كُتبتْ) لنا منهم (عهود)

متى شفق (القوي) على (ضعيف)

وكيف (يعاهد) الخرفانَ (أسيد)

ولكن نحن في يدهم (أسارى)

وما كتبوه من عهدٍ (قيود)

أما والله (لو كنا قرودًا)

لما رضيت بعيشتنا (القرود)

_________

ص: 72

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رد على الرسالة الرملية فيما سمته العقائد الوهابية

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى حضرة أستاذنا العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر،

أرجو نشر ما يأتي في المنار بيانًا للحقيقة التي أخفاها المحترم صاحب مجلة الإسعاد

وصاحبه الأستاذ المحترم الشيخ تاج الدين في حادثة الرمل؛ إذ كتب الثاني رسالة

أسماها (الرسالة الرملية في الرد على مروجي بعض العقائد الوهابية في ثغر

الإسكندرية) ونشرها صاحب المجلة المذكورة وأسماها (الرسالة الجليلة) وعقَّبَها

بخبر غير صحيح لم يعزه إلى مصدره الحقيقي بل عزاه إلى نفسه ليوهم أنه كان

حاضرًا ويُلَبِّس على القراء.

وقد نُشرت الرسالة المذكورة في عدد 5 من المجلد 3 من مجلة الإسعاد وكتبنا

ردًّا عليها فأبى نشره وطلب غيره خوفًا على كرامة الأستاذ المؤلف كما يقول. فكتبنا

غيره وأردفناه بمؤاخذته على الخبر الذي نشره غير معزو إلى صاحبه طالبين

منه نشره ظانين أنه كأصحاب المجلات الحرة التي تنشر ما لها وما عليها وترد بالحق

كالمنار الذي يطلب كل حين من قرائه أن يوافوه بكل ما يرونه منتقدًا معززًا بالأدلة

والبراهين. وقد نشر بعضه مبتورًا أوله، ورد عليه بالباطل الذي طالما لغط به

المقلدون وفنده المهتدون، إسعادًا لصاحب الرسالة علينا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

أما ملخص الحادثة الرملية: فهو أن أئمة المساجد منعوني من إلقاء المواعظ

والدروس في المساجد التي احتكروها بالوظائف والمرتبات، فاتخذنا مسجدًا آخر

بنيناه بأيدينا في ملك بعض مريدينا، وصرنا نصلي فيه ونقرأ الدرس بعد العشاء

لمن يحضر من الإخوان فاجتمع عندنا خلق كثير، وهداهم الله حتى تابوا عن

الكبائر التي كانوا منغمسين فيها ليلاً ونهارًا. فحقد أولئك الأئمة وصاروا يفترون

علينا الكذب وينبزوننا بالألقاب ويشيعون بين الناس أننا ننكر الوسيلة والشفاعة

ونَسُبُّ الأئمة وننكر الوحي ويخطبون في مساجدهم بهذا، ويقسمون بالله جهد

أيمانهم ليصدقهم العوام. ثم كتبوا لمشيخة الإسكندرية شكوى عَزَوْا إلينا فيها كل هذه

المفتريات وختَّموا كثيرًا من العوام عليها زورًا، وطلبوا من المشيخة إرسال وفد

يخطب معهم في الإغراء بنا وتنفير الناس عنا، ولكن المشيخة - وفقها الله - لم تُرِد

ذلك لِما بلغها أننا براء من كل ما نسبوه إلينا بشهادة بعض الكبراء وبعض العلماء الذين

يعرفوننا حق المعرفة. ولما أكثروا من الشكوى، وأرسلوا وفودهم إلى المشيخة تترى

كلفت بعضهم بتحقيق المسألة، وكان المنتظر من ذلك الوفد المؤلف من ثلاثة علمائهم

أن يحضروا إلى محل الحادثة ويجمعوا الأئمة الشاكين والمشكو منهم في بيت بعضهم

بعيدًا عن العامة، وفي حفلة خاصة بهم ولكنهم - أرشدهم الله - لم يفعلوا وجاءوا بعد

شهر ألفوا فيه رسالة ردًّا على شخص لا وجود له إلا في خيالهم ينكر الوسيلة والشفاعة

وكرامات الأولياء وما استحسنوه من البدع، وجاءوا يوم جمعة في ربيع الأول من سنة

1340 هـ في بعض مساجد الظاهرية وبعد صلاة الجمعة قعد القوم واحتشدوا حتى

ملاأوا ما هو له من الفضاء والطرقات وقعد أحد الثلاثة الموفدين وهو الأستاذ الشيخ

تاج الدين وأخرج رسالته بعد أن نَوَّهَ الخطباءُ بفضل الوفد وعلمه وعناية المشيخة

بإيفاده، وأن قوله هو القول الفصل والدين العدل، واسترعَوْا الأسماع لقراءة الرئيس

رسالته فقرأها وأنا حاضر في المسجد لا أقدر أبدي ولا أعيد من كثرة الصياح،

وارتفاع الأصوات، وتحرش العوام، وكلما هممت برد الباطل أسكتني العوام من

حولي، ولما قرأ الأستاذ مسألة الشفاعة وأثبتها على الوجه الذي نعتقده استطعت أن

أرفع صوتي بالموافقة في بعض المواضع التي لا خلاف فيها، ثم انتهى الشيخ ولم يكد

حتى قام ثاني الوفد الشيخ شريف وخطب وخصني بالكلام تحاملاً إذ قال: يا فلان اتق

الله (يكررها) ولا تفرق الناس، ونحو ذلك، ثم قام آخر وارتقى المنبر بغير دعوة

وصار يحرض الناس ويثير الفتنة يسب ويشتم تصريحًا وتلويحًا والعلماء حاضرون

وأكثر العوام والخصوم، فقمت من بينهم بعد أن أشهدتهم ورددت عليه، وقلت: والله

إنا كنا على الحق ولا زلنا على الحق والله لأنصرن السنة ما دمت حيًّا إن شاء الله،

وما كدت أخرج من باب المسجد حتى ابتدرني العوام ضربًا ولكمًا ولم ينقذني من بينهم

إلا رجال الشرطة وبعض الإخوان.

وأما الرسالة فقد احتوت على إثبات الشفاعة التي لم ينكرها أحد؛ ليقال: إنه

رد على من ينكرها، وليدخل أو يلصق بها ما يسمونه اليوم بالتوسل، والمراد دعاء

الموتى وسؤالهم قضاء الحاجات، وقد بنى إثبات هذه الوسيلة على حياة الأموات في

قبورهم وسماعهم مَن يخاطبهم واستجابة دعائه، وردهم عليه السلام، واستدل ببعض

الأحاديث الضعيفة وبالآية الواردة في حياة الشهداء وحديثين من أحاديث الصحيح

في سؤال القبر والزيارة وهي حجة عليهم لا لهم لو كانوا منصفين، ثم قاس على

حياة الشهداء - التي أثبتها القرآن لشهداء الصحابة في بعض الغزوات - حياة جميع

من يسمونهم الأولياء، وبنى على هذا جواز دعائهم والاستغاثة بهم في تفريج الكروب

وقضاء الحاجات؛ لأنه لا فرق عندهم بين رد الميت السلام على من سلم عليه

وبين استجابته الدعاء وإجابة سؤال من توجه إليه، ولا سيما إذا قدم له هدية من

صدقة وقرآن (كذا قال الشيخ تاج الدين) في رسالته وذكر واقعة حال جرت بينه

وبين وليه أبي العباس وكفى بها مصورًا لعقائد أمثاله، وهذا نصها نقلا عن مجلة

الإسعاد وهو:

(كم من منح ونفحات، ونوال وإغاثات، شوهدت بسبب الزيارات

والتوسلات، بأصحاب هذه المقامات: فمما وقع للفقير جامع هذه الكلمات أني

اضطررت (تأمل) وقتًا إلى الانتقال من مسكن إلى آخر بمدينة الإسكندرية وكاد

الحصول على المطلوب يتعسر أو يتعذر (تأمل) لضيق الجهة التي أريد السكنى

بها بسكانها، فتوجهت (تأمل) لزيارة سيدي أحمد المرسي أبي العباس رضي الله

عنه، فبعد أن سلمت ووهبت لروحه الكريمة (تأمل) ما تيسر من القرآن، توسلت

به إلى الله تعالى في ذلك المطلوب (تأمل) وشكوت له هذه الضائقة (تأمل) كأني

أكلم حيًّا أشاهده (تأمل) وأخاطبه، وكان من كلامي له رضي الله عنه هذه العبارة:

(إن كان لكم كرامات فَلِمَ لَمْ تكن لأمثالنا وقد جئنا لتعليم العلم) ثم خرجت فاعترضني

بجوار ضريحه أحد كناسي البلدية فسألته عن مسكن فأشار إلى دار بهذه الجهة تدعى

بدار الحاج علي الخولانى وقرع بابها فنزل صاحبها المذكور باسِمَ الوجه تُرى عليه

لوائح الاستبشار بالطارق وأدخلنا ما أعده للإيجار من هذه الدار فقدرت أجرته في

نفسي بما يقرب من ضعف ما خصصه لأجرة السكنى فأردت التخلص لذلك، ولما

ظهر لذلك الرجل حقيقة الأمر لم يسعه إلا القبول بما أستطيع فأوقعني تساهله هذا في

ريب وحذر من أن يكون بالمسكن عيب خفي عليَّ فاستأجرته مشاهرة بدل المسانهة

التي هي العادة الغالبة بالمدينة فقبل أيضًا وبعد تمام الاتفاق والتوقيع من الجانبين على

الأوراق قال: إن سبب هذا الإكرام أني ساعة قرعكم الباب كنت نائمًا فرأيت أبا

العباس واقفًا على سطح مقامه يناديني بـ (يا علي إني مرسل إليك من يسكن بدارك

فأكرمه) فأيقظني قرع الباب فأحببت أن أقابل هذا الطارق بنفسي، لعله المرسل من

قبل السيد المرسي، فتحققت ما رجوت لأني رأيتك كثيرًا بمسجده (تأمل) وعزمت

على إكرامك بكل ما يمكنني إجابة لهذا الولي الذي لم أره في منامي مدة حياتي غير

هذه المرة) قال الشيخ: فشكرته إلخ.

هذه الحكاية تمثل لنا عقيدة الشيخ الذي يرد على الوهابية، وتمثل لنا أيضًا

عقيدة صاحب مجلة الإسعاد الذي نصب نفسه لإفتاء الناس وكتب على مجلته عنوان:

أكبر المجلات الإسلامية الإصلاحية

ثم هو يصف هذه الرسالة القبورية بالجليلة راضيًا بما فيها ويرد على من قام

يدفع عن نفسه تهمة الكذب التي ألصقها به الجاهلون، فالإصلاح عند هؤلاء

المصلحين تضليل من يهتدي بهدي السلف الصالح، وإقناعه بالنظريات والتأويلات

لاتباع خرافات القبوريين وأصحاب الموالد إلخ.

...

...

...

...

... عبد الظاهر

(المنار)

قد تكرر تقنيدنا لخرافات (الجبت) الوثنية، فنكتفي هنا بتذكير طلاب الحق

بالمسائل الآتية المفصلة في المنار من قبل، وهي:

(1)

أن ما ورد من النصوص في عالم الغيب كحياة الشهداء وسماع أرواح

المؤمنين والكفار كلام أهل الدنيا - يجب الإيمان بما صح منه كما ورد بلا زيادة ولا

نقصان ولا يجري فيه القياس، بل هو مبني على السماع. وهذه مسألة لا خلاف

فيها ولكن أدعياء العلم عندنا يدرسون بعض كتب الكلام والأصول لأجل المناقشة

في عباراتها استعدادًا للامتحان ولا يعقلون منها شيئًا.

(2)

أن هذه مسألة اعتقادية لا تقوم الحجة عليها إلا بالأدلة القطعية ولو كان

الصالحون يقضون حاجات الناس بعد موتهم وكان طلب ذلك مشروعًا لبيَّنه الله في

كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيانًا لا شبهة فيه ولتواتر فعله

عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ولكن لم يرد فيه نص قطعي ولا خبر

صحيح ظني.

(3)

أن الرؤى والأحلام لا يثبت بها حكم من أحكام الفروع الشرعية التي

يكتفون فيها بالأدلة الظنية، فضلاً عن العقائد وأصول الإيمان التي يترتب عليها

السعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي، فرجل مشغول الخيال بأمر من الأمور تخيله في

نومه واقعًا على ما يحب في صورة مطابقة لعقيدته في ميت وافق تخيله الواقع،

هل يثبت بهذا أصل من عقائد الدين أو أي شيء يعتد به شرعًا؟ ! أو يعد من

خوارق العادات؟ كلا إن مثل هذا يقع كثيرًا لأهل كل ملة، ولا سيما الوثنيين،

والروايات عن المتقدمين والمتأخرين فيها كثيرة، ولكن أدعياء العلم عندنا لا

يعرفون من أمر العالم ولا من تاريخه شيئًا يعتد به. وإن علماء النفس المتأخرين قد

أثبتوا أن بعض الناس يشعرون في المنام أو اليقظة ببعض ما تتوجه إليه أنفسهم من

الأمور وينقلون وقائع كثيرة في ذلك. فلا يبعد على هذا أن تكون نفس صاحب

الدار قد شعرت وهو نائم بأن رجلاً في مسجد المرسي سيطلب منه أن يسكن في

داره فصور له الخيال أن المرسي هو الذي أرسله ويطلب إكرامه. فهل نرتب

على هذا المنام الذي تكثر أمثاله في كل أمة وملة أن المرسي سمع دعاء الشيخ

اللاجئ إليه واستجاب له وتمثل لصاحب الدار في منامه وأخبره بما أخبره وأمره بما

أمره، ثم نجعل هذا دليلاً على شرعية الذهاب إلى القبور التي اتخذت مساجد،

فاستحق متخذوها لعنة الله على لسان خاتم رسله في آخر حياته وندعوهم بأن يقضوا

حاجاتنا، خلافًا لكتاب ربنا وسنة نبينا وسيرة سلفنا الصالح: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ

قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (آل عمران: 8){رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 73

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أهم أخبار العالم

إن أنباء مؤتمر الصلح بين الشرق والغرب في لوزان ما زالت تشيل وتهبط بها

كفة الميزان، ولن تعتدل حتى يعتدل الفريقان، والظاهر أن السياسة البريطانية قد

فازت في هذا الطور على السياسة الفرنسية، فإذا تم للورد كرزون استمالة الترك

فالويل للعرب عامة، ولمصر خاصة، ولن يتم ذلك إن شاء الله، وإنما نرجو أن يتم

الصلح على قاعدة الاعتراف بحرية الأمم واستقلالها، وإلا فلا سلام في الأرض حتى

ينتقم الله من الباغين انتقامًا آخر يتوبون به إليه من استعباد خلقه.

_________

ص: 77

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

كان شقيقنا السيد صالح - رحمه الله تعالى - قد اختص نفسه بتقريظ

المطبوعات الجديدة في السنين الأخيرة، فكان يأخذ أكثر ما يُهدَى منها إلى المنار

ويضعه في مكتبه ويتخير للتقريظ ما شاء منها متى شاء ويحيل علينا أقله أحيانًا. ولم

يتيسر لنا بعد وفاته أن نحصي ما ترك تقريظه وإنما جمعنا بعضه فننوه به من غير

مراعاة للتأريخ، ولا لمكانة هذه الكتب والصحف في التقديم والتأخير.

(مسند الإمام زيد المسمى بالمجموع الفقهي)

قد طبع هذا الكتاب المسمى بهذا الاسم في العام الماضي بمصر سنة

1340 هـ.

الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب هو أحد

أئمة أهل البيت الأعلام، عليهم التحية والسلام، وهو الذي ينتمي إليه الزيدية،

روى الحديث عن أبيه وأخيه محمد الباقر وأبان بن عثمان بن عفان وعروة بن

الزبير وعبد الله بن أبي رافع، وروى عنه ابناه حسين وعيسى وابن أخيه جدنا

جعفر الصادق والزهري والأعمش وشعبة وكثيرون منهم أبو خالد عمرو بن خالد

الواسطي الذي روى هذا الكتاب الموسوم بالمجموع الفقهي الذي يسمونه مسند الإمام

زيد أيضًا، وهذه التسمية ليست على اصطلاح المحدثين، فإنما الكتاب مجموع

أخبار وآثار مرتبة على أبواب الفقه ككتب السنن، والأخبار المرفوعة فيه على

كثرتها قد رواها بصيغة: حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم

السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا. ولديهم مجموع آخر

يسمى المجموع الحديثي من رواية أبي خالد أيضًا.

فأما الإمام زيد فلا خلاف بين علماء الحديث وغيرهم في توثيقه وعلمه

وفضله وصلاحه، وهو الذي رفضه غلاة الشيعة لتوليه أبا بكر وعمر رضي الله

عنهما؛ إذ قالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نبايعك. فقال: لا أتبرأ منهما،

فقالوا: إذن نرفضك، قال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فلزمهم هذا اللقب. وأما أبو

خالد الواسطي فقد جرحه في الرواية الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو داود

والحاكم، ويجيب بعض علماء الزيدية عن ذلك بأنه من قبيل طعن أهل كل مذهب في

كل مخالف لمذهبهم. ولا يصدق هذا على أمثال هؤلاء الأئمة فإنهم لم يكونوا

يحاربون أحدًا ولا يتعصبون لمذاهب معينة ولا يتحاملون على أحد في الجرح

والتعديل، وقد رووا عن كثير من مخالفيهم في بعض المسائل لما ثبت عندهم

عدالتهم، على أن المذهب الذي قيل أنهم يجرحونه لأجله هو مذهب الإمام زيد، وهم

متفقون على عدالته وفضله. وللحاكم منهم نزعة تشيع معروفة. وكان أقرب من هذا

العذر أن يقولوا: إنه انفرد برواية أحاديث لم يروها أحد منهم فظنوا فيه أنه هو

الذي وضعها، أو وجدها مكتوبة ولم يسمعها، وقد احتاط البخاري في ذلك فوصفه

بأنه يروي المناكير، وهم لم يطعنوا فيه بشيء آخر غير هذه الأحاديث التي لم

تعرف عن أحد غيره من رجال طرقهم، وقد أشار بعضهم إلى أن جرحه من قبيل

أقوال بعض المعاصرين بعضهم في بعض، وما قلنا أقرب إلى ذهن المستقل؛ لأنه

لم يكن ممن يظهر فيهم أنه من أقران من تكلموا فيه.

هذا وإن أكثر أحاديث الكتاب مخرَّجَة في غيره من كتب الحديث المشهورة،

ومذهب الزيدية أو العترة ليس مبنيًّا عليه وحده، بل هو مبني على الاجتهاد

الصحيح، وقد أنبتت أرض اليمن في القرون الأخيرة التي مات فيها العلم الاستقلالي

في أكثر بلاد الإسلام أئمة لا يستطيع أحد رأى كتبهم أن يماري في اجتهادهم أو أن

يفضل عليهم قرينًا من علماء سائر المذاهب في أمصار الإسلام سواء المذاهب

المنسوبة إلى السنة والمنسوبة إلى الشيعة الإمامية، ومن يماري في اجتهاد ابن

المرتضى وابن الوزير والمقبلي والشوكاني؟ دع الذين جمعوا بين إمامة العلم وإمامة

الحكم كالهادي والناصر ويحيى والمتوكل، وهم يشترطون في الإمام الأعظم (خليفة

المسلمين) ما يشترط أهل السنة من الاجتهاد في الدين ولذلك بقي الاجتهاد فيهم،

وسيبقى إن شاء الله تعالى وإن ضعف العلم في هذا الزمان.

وقد طبق الحافظ ابن حجر على أئمتهم حديث (سيبقى هذا الأمر في قريش ما

بقي من الناس اثنان) وهو يدل على اعترافه بصحة إمامتهم، وتبعه في ذلك غيره

كالقسطلاني فذكره في شرحه للبخاري من غير عزو، ولو أنهم كانوا يُعنون بالدعوة

إلى الإسلام وإلى إقامته في البلاد والقبائل التي درست رسومه فيها من جزيرة

العرب وغيرها كما فعل الشيخ محمد عبد الوهاب وخلائفه في نجد وما حولها -

لأحيوا الإسلام وعمت إمامتهم جزيرة العرب كلها، مهما يكن من مقاومة الدولة لهم

فيها.

***

(القصائد والصحائف)

كتابان في مجلد واحد لداعية العصبية العربية أبي الفضل الوليد بن طعمة

الشهير، وقف هذا العربي الأبي الكاتب الشاعر حياته على إحياء العصبية العربية

وتجديد مجد العرب وملكهم، فأنشأ أولاً جريدة سماها (الحمراء) تذكيرًا بمجد العرب

في الأندلس ثم كان يكتب في جريدة النهضة العربية (وكلتاهما صدرتا في

الأرجنتين) ولم تكن الصحيفتان قبل احتجابهما تتسعان لمخدرات أفكاره، فكان

ينشر شعره ونثره في دواوين خاصة، وقد طبع ديوانه الأول الطبعة الثالثة في

(سان باولو - البرازيل) سنة 1915 وكان في سن الحادية والعشرين ثم طبع في

سنة 1916 مجموعة مقالات أدبية سماها (نفحة الورد) ختمها بمقالة في الدعوة

العربية التي تتجلى في مقالات كثيرة منها، وكان يدعو إلى اتحاد النصارى مع

المسلمين في القومية العربية على القاعدة التي يدعو إليها السياسيون المتدينون،

وهي أن الدين لا يمنع من اتفاق المختلفين فيه على مصالحهم الدنيوية المشتركة،

بل قال: إن كانت الوحدة العربية تتوقف على توحيد الدين فهو يدعو أهل ملته

النصارى إلى الإسلام لأجل تحقيق تلك الوحدة.

وأما هذه القصائد والصحائف التي كانت آخر ما نشره من نظمه ونثره فهي

إسلامية عربية يدعو فيها إلى تجديد مجد الإسلام بالعرب ومجد العرب بالإسلام، فقد

كتب على طرتها أنه (طبعها بنفقته وعنايته لخدمة الدين والأمة والوطن) وأنه

ألفها في سنتي 1337 و 1338 هـ وطبعها في سنة 1339 هـ وقد صرح فيها

بإسلامه وافتتحها بالبسملة، ولكنه بنى دعوته على شفا جرف هارٍ، بنى عليه

قصورًا من الخيال، دونها الحمراء والزهراء، في البهجة والجمال، وحصونًا من

الأماني دونها الأبلق الغرد، بل جزيرة (هيلو جلند) ذلك بأنه اغتر بثورة الحجاز

والمملكة العربية فيه فطفق يدعو سائر العرب والمسلمين إلى مبايعة ملكه، وهو لا

يدري أنه قد قيد نفسه بوصاية دولة إذا مرت ببلد أو أكلت أو شربت فيه أو دفن أحد

من بنيها في أرضه تزعم أنه صار ملكًا لها وزال كل حق لأهله منه إلا ما تمنحه

هي لمن تستخدمهم في استعباده. وهو لا يدري كنه استعداد الحجاز وأهله للحكم

والملك، ولا ولا

إنما هو أديب مخلص، وشاعر مؤثر، وغيور على أمته،

ولكنه أضاع جهاده بوضعه في غير موضعه نتمنى أن لا تثنيه خيبة الأمل من هذا

الطريق على سلوك غيره في جهاده ونصائحه.

_________

ص: 78

الكاتب: محمد رشيد رضا

عقود ضمان الحياة والمال من التلف والمكوس

وقراءةالعامي للحديث

(س3-5) من صاحب الإمضاء في بيروت:

حضرة الأستاذ الفاضل واللوذعي الكامل مولانا السيد محمد رشيد أفندي

رضا صاحب مجلة المنار الغراء، لا زال منارًا للإسلام، وكهفًا للأنام، أتقدم إلى

موائد علمكم الشريف بالأسئلة الآتية:

رجل ضمن محل تجارته من الحريق في إحدى شركات الضمان

(السيكورتاه) على مبلغ معين من المال، وقدر الله واحترق ذلك المحل، فهل

يجوز له شرعًا مطالبة شركة الضمان بهذا المبلغ، ويكون حلالاً له أم لا؟ وهل كل

أنواع الضمانات ضد الحريق والحياة والغرق والسرقة شرعية يجوز عملها أم لا؟

وهل الرسوم الجمركية التي تؤخذ على البضائع التجارية هي من المكوس

المحرمة التي لا يجوز أخذها؟

وإذا كانت حراما أيجوز للإنسان دفعها ولا يأثم على ذلك أم لا؟ وهل يجوز

للعامل الذي لا يعرف نحوًا ولا صرفًا أن يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه

وسلم مع اللحن فيه أم لا؟

تفضلوا بيِّنوا لنا ذلك، والله يجازيكم على نشر أحكام شرعه أحسن الجزاء.

...

...

... السائل محمد طاهر اللادقي ببيروت

(ج) 1- كل ما في السؤال الأول فهو من المعاملات المالية غير المشروعة

في الإسلام، فلم يرد بها نص من الشارع ولم يقررها بالاجتهاد إمام عادل، وإنما

هي من العقود الحادثة عند أولي المدنية المادية في هذا العصر. ومن التزمها في

غير دار الإسلام والعدل لزمته شاء أم أبى، وإنما هو مخير في أخذ ما ثبت له دون

ما ثبت عليه، وللمؤمن في غير دار الإسلام أن يأكل مال أهلها بعقودهم ورضاهم

فهو لا يكلف معهم التزام أحكام دار الإسلام التي لا يلتزمونها، ولكن عليه أن يحاسب

نفسه على إضاعة ماله باختياره فيما له مندوحة عنه، وليس له أن يخون الحكومة

غير الإسلامية بدارها في المكوس المقررة عندها في نظامها، وأما إذا استطاع

إسقاطها أو تخفيها بغير السرقة والخيانة فلا بأس.

2-

وأما المكوس في دار الإسلام فقد ورد في السنة ما يدل على تحريمها،

وهو معروف، وجماهير الفقهاء يحصرون مال الحكومة الإسلامية بما يذكرونه في

كتب الفقه: كالغنائم والخراج وزكاة أموال المسلمين وجزية الذميين، وما يستخرج

من الأرض من الدفائن والمعادن، ولكن بعض المحققين بيَّنوا أنه يجوز للإمام

العادل استحداث ضرائب جديدة إذا توقف عليها القيام بأمر الملك وحاجة الجند.

قال الإمام الشاطبي في المثال الخامس للمصالح المرسلة من كتابه الاعتصام

(ص95 ج2) ما نصه: (إذا قررنا إمامًا مطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد

الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند

إلى ما لا يكفيهم (أي بيت المال) فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما

يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر [1] مال بيت المال. ثم إليه النظر في توظيف

ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك

(قال) : وإنما لم ينقل ذلك عن الأولين

لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى ووجه

المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت

ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار، وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله، فالذين

يحذرون من الدواهي أو تنقطع عنهم الشوكة يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها،

فضلاً عن اليسير منها) إلخ.

ونقول: إن حاجة الجند في زمن المؤلف رحمه الله، وهو من علماء الأندلس

في القرن الثامن لا تذكر بالنسبة إلى حاجتهم في زماننا هذا الذي تنفق الدول فيه

أكثر أموالها في الجندية وحاجتها، فقد صارت العلوم والفنون والأسلحة البرية

والبحرية والجوية فيها أوسع علوم البشر وأعمالها، ويتعذر إقامة حكومة إسلامية

صحيحة تلتزم أحكام فقه لا تكون مراعاة المصالح المرسلة من قواعده. ولا يكون

إمامها (الخليفة) وأهل الشوى لديه أو بعضهم من العلماء المجتهدين في أحكام

الشرع.

3-

يجوز للعامي أن يطالع كتب السنة للاستفادة منها، فإن عوام العرب

يفهمون كثيرًا منها فهمًا صحيحًا، وإذا أراد أن يحفظ حديثًا ليرويه ويفيد الناس به

فعليه أن يعتمد على بعض أهل العلم في ضبط ألفاظه وفهم معناه، ودرجته في

الصحة وما يقابلها.

_________

(1)

لعله: يكثر.

ص: 81

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التصوير واتخاذ الصور والتماثيل

(س6) ومنه:

الفاضل الهمام مفتي الأنام، مقتفي أثر سيد الأقوام، السيد محمد رشيد أفندي

رضا، دام بسلام.

قال بعض أهل العلم: إن الصورة إذا كانت غير كاملة - أعني مشتملة على

النصف الأعلى للإنسان - لا بأس بها، ولم أعثر على دليل يُجَوِّزُ ذلك من الكتاب

ولا من السنة، بل الأحاديث الصحيحة الموجودة تحرم ذلك قطعًا، وقد ورد عن

الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صور صورة في الدنيا كلف أن

ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ) رواه البخاري ومسلم. وقد ورد في

الصحيح: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون) أو ما معناه، وفي كتاب

الترغيب والترهيب للشيخ الإمام الحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي

المنذري المتوفى سنة 656 هـ ما نصه: (وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال:

دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه الكآبة فسألته ما له؟ فقال: لم

يأتني جبريل منذ ثلاث، فإذا جرو كلب بين بيوته فأمر به فقتل فبدا له جبريل

عليه السلام فهش إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك لم تأتني فقال:

(إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تصاوير) رواه أحمد ورواته مُحْتَجٌّ بهم في الصحيح،

ورواه الطبراني في الكبير بنحوه اهـ.

فيؤخذ من ذلك تحريم التصوير مطلقًا، سواء كان باليد أو بالآلة الفوتغرافية،

وأيضًا التماثيل النحاسية والجبسية وغيرها، وقد رأينا للأستاذ الإمام مفتي الديار

المصرية سابقًا المرحوم الشيخ محمد عبده رسمًا فوتغرافيًّا لهيئته الكريمة على ما

نعلمه من طول باعه وكثرة بحثه واطلاعه وغيرته على الدين القويم وسلوكه

الطريق المستقيم وتمسكه بالكتاب والسنة وإزالته للشبه والبدع، فلعل فضيلة الأستاذ

الإمام قد اطلع على ما غمض عن الأفهام بجواز حل ذلك، وليس بِخَافٍ أن

الأحاديث لم تقيَّد بزمن مخصوص بل هي عامة في جميع الأزمان، فألتمس من

فضيلتكم الجواب بتفصيل ذلك.

...

...

...

...

محمد طاهر اللاذقي

(ج) تكرر بيان حكم التصوير واتخاذ الصور والتماثيل في مجلدات المنار،

ويجد السائل اختلاف أقوال الفقهاء في المجلدين الرابع عشر والخامس عشر،

وفي مجلدات أخرى، وأما توفية المسألة حقها، وتحرير القول في أدلتها والتحقيق

فيها فيجده في ج5، 6 من المجلد العشرين، ولا يمكن إعادة نشره لطوله.

_________

ص: 95

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

بيع الغائب وما ليس بمملوك

(س7) ومنه: إذا اشترى تاجر بضاعة غير حاضرة من تاجر آخر أو

قومسيونجي ودفع له الثمن أو عربونًا على أن يسلمه إياها بعد شهرين حتى تحضر

من محل موردها، فباعها المشتري قبل حضورها واستلامها لتاجر آخر، وهكذا

بيعت لأشخاص كثيرين قبل حضورها، فهل هذا البيع مباح شرعي أم لا؟ وهل

يجوز لمن اشترى أن يبيعها بثمنها الأصلي أو بربح أو بخسارة للتاجر أو

للقومسيونجي الأول أم لا؟ تفضلوا ببيان ذلك لا زلتم هادين مهديين وللحق

ناصرين.

(ج) بيع البضاعة المملوكة الغائبة جائز شرعًا، وكذا بيع ما هو غير

مملوك إلى أجل إذا عينه بالوصف والقدر المانع للغش وهو الذي يعرف في الشرع

بالسَّلَم، وله شروط يسأل العلماء عنها من لا يعرفها إذا احتاج إليها، ولكن ورد في

حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعًا (من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله) وفي

رواية (حتى يقبضه) وأخرى (حتى يستوفيه) وفي حديث عمرو بن شعيب عن

أبيه عن جده مرفوعًا (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم

يضمن ولا بيع ما ليس عندك) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه

الترمذي منهم وكذا ابن خزيمة، وفي الاحتجاج بحديث عمرو هذا خلاف، ولكن

هذا الحديث عنه قد صرح فيه بالسماع وبذكر جده الأعلى عبد الله بن عمرو

فالخلاف فيه ضعيف. والمراد (بالسَّلف) فيه القرض، إذا بايعه عليه لأجل النقص

من الثمن. قال النووي في شرح حديث مسلم المذكور آنفًا وما في معناه: وفي هذه

الأحاديث النهي عن بيع المبيع حتى يقبضه البائع، واختلف العلماء في ذلك فقال

الشافعي: لا يصح بيع المبيع قبل قبضه سواء كان طعامًا أو عقارًا أو منقولاً أو نقدًا

أو غيره، وقال عثمان البتي: يجوز في كل مبيع، وقال أبو حنيفة: لا يجوز في كل

شيء إلا العقار. وقال مالك: لا يجوز في المكيل والموزون، ويجوز فيما سواه

ووافقه كثيرون، وقال آخرون: يجوز في المكيل والموزون، ولا يجوز فيما سواهما،

ثم ذكر أن قول عثمان البتي شاذ.

وأقول: إن مذهب الشافعي ومالك هو الوسط المعتدل في المسألة إذا اقتصر

على منطوق الحديث، فإن نوطه هذا الحكم بالطعام ليس عبثًا، فإن قوت الأمة لا

يصح أن تعبث به الحيل التجارية ولا أن يكون من ذرائع الربا الذي حرمه الله فيه

وفي النقدين بالإجماع. والله أعلم وأحكم.

***

قتل الرجل امرأته

(س6) من صاحب الإمضاء في الكويت:

إلى أستاذنا صاحب المنار، أدامه الله:

قتل رجلٌ زوجَه بلا مسوغ، وله بنت قاصر منها، أفتونا برأيكم في

القاتل، وما يكون الحكم عليه في مذهب الشافعي لا زلتم منارًا يُسْتَضَاءُ بكم.

...

...

...

...

عبد الرحمن النقيب

(ج) جاءنا هذا السؤال فلم نعلم المراد منه، فإن المتبادر منه أن القتل كان

عمدًا، وحكم القاتل المتعمد معلوم من الشرع بالضرورة بشروطه إذا ثبت شرعًا،

فعسى أن يوضح السائل سؤاله، ويصرِّح بالأمر الذي يطلب بيان حكمه.

_________

ص: 96

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية

(3)

21-

مقاصد الناس في الخلافة وما يجب على حزب الإصلاح:

الأمور بمقاصدها، ومقاصد الناس في الخلافة مختلفة، وقلما يقصد أحد منهم

إقامة الخلافة الصحيحة الشرعية التي بيَّنا حقيقتها وأحكامها، ذلك بأن أكثرهم لا

يعقلها، ومن يعقلها من غير الأكثرين يظنون إقامتها متعذرة، وأنه لا مندوحة عن

الرضا بخلافة الضرورة، التي لا تراعى فيها جميع الشروط الشرعية، ولا جميع

ما يجب على الخليفة والجماعة، ثم هم يختلفون في حد هذه الضرورة لاتّساع مجال

الرأي والهوى فيه حتى لا يبقى بينهم وبين من لا يعرفون حقيقة هذا المنصب

ومنافعه كبير فرق، ولو عرفها السواد الأعظم لتمنوها، ولو وضع نظام لإقامتها

ودُعوا إليه لأجابوا، وبذلوا في سبيله ما استطاعوا.

باحثت كثيرًا من خواص المصريين المعممين وغير المعممين في هذه

المسألة فألفيتهم متفقين على أن القصد من تأييد الخلافة الجديدة التي ابتدعتها حكومة

أنقرة الجمهورية في الآستانة - خذلان الدولة البريطانية في دسائسها التي ترمي بها

إلى جعل هذا المنصب الإسلامي الرفيع آلة في يدها فيما كانت تسعى إليه من

اصطناع الملك حسين في مكة والسلطان وحيد الدين في الآستانة وما آل إليه سعيها

من الجمع بينهما بعد تهريبها الثاني إلى مالطة، ولم يقصد أحد من المصريين بتأييد

الخليفة الجديد بالتهنئة ولا المبايعة أن يكون له على بلادهم حق إمام المسلمين

الأعظم على الأمة من كون حكومتهم تابعة له وخاضعة لسلطانه فيما يرى فيه

المصلحة من نصب أمرائها وحكامها وعزلهم وجباية المال وأخذ الجند للجهاد، ولا

غير ذلك من وظائف الخلافة التي ذكرها علماء الإسلام؛ وهذا كما ترى غرض

سياسي فائدته سلبية والباعث عليه الشعور الإسلامي العام الذي ولَّده الضغط

الأجنبي ومحاولة هذه الدولة لاستعباد الشعوب الإسلامية التي بقي لها بقية من

الاستقلال، ولا سيما الترك والعرب، وهو لا يتوقف على وجود الخلافة الصحيحة

ولا الإمام الحق والجماعة، بل هو من قبيل المظاهرة السياسية للزعيم السياسي

سعد باشا زغلول بل دونها قوة، لأجل هذا لا يبالون ما كانت شروط هذه الخلافة

وأعمالها، ومَثَلهم في ذلك سائر مسلمي أفريقية وأمثالهم من المستَذَلين للأجانب،

على أن هؤلاء يتمنون لو يكونون تابعين للدولة التركية ويعلمون أن ذلك متعذر،

ولكن ساسة المصريين لا يتمنى أحد منهم ذلك.

ومسلمو الهند أشد عناية من سائر مسلمي الأرض بهذا الأمر، ونصرهم

للخلافة التركية إيجابي وسلبي لا سلبي فقط، ولا يرضون أن تكون خلافة روحانية

لا حكم لها ولا سلطان، فإذا تساهلوا في بعض شروطها التي يوجبها مذهبهم الذي

يتعصبون له أشد التعصب بشبهة الضرورة، فلا يتساهلون في أصل موضوعها

والمقصد الذي شرعت لأجله، وهو إقامة أحكام الشرع الإسلامي في العبادات

والمعاملات المدنية والسياسية وغيرها - فهم يُحَتِّمون أن يكون الخليفة - وإن متغلبًا -

رئيس الحكومة الإسلامية الأعلى، ثم لا يسألون بعد ذلك أقام أحكام الشرع أم لا،

بدليل ما كان من تعصبهم لعبد الحميد الذي جعل نفسه فوق الشرع والقانون -

فكان مستبدًّا في كل شيء - ثم لمحمد رشاد الذي لم يكن بيده من الأمر شيء وكذا

للاتحاديين الذين سلبوه كل شيء، ثم لوحيد الدين إلى أن فر مع الأجانب مغاضبًا

لقومه ولسائر المسلمين.

فإذا ظل هذا منتهى شوطهم، فلا حياة للخلافة الصحيحة بسعيهم، ولا حاجة

إلى تأليف حزب أو جمعية غير ما عندهم، ويمكن على هذا إرضاؤهم بالخلافة

الروحية بحيلة لفظية، كأن تشترط الحكومة الفعلية على من تسميه خليفة أن يفوض

إليها أمر الأحكام كلها أو ما يسمونه الآن في عرف القوانين بالسلطتين التشريعية

والتنفيذية. وان كان يعلم هو وسائر الناس أن التفويض الصحيح في الشيء إنما

يكون ممن يملكه ويكون مختارًا فيه، وأنه لا يسلبه حق مراقبة المفوض إليه

ومؤاخذته ولو بالعزل، إذا خالف نصوص الشرع أو خرج عن جادة العدل، بل

هذه المراقبة على الوزراء والأمراء والقواد والقضاة واجبة على إمام المسلمين وهو

مقيد فيها، وفيما يترتب عليها بنصوص الشرع وبمشاورة أهل الحل والعقد، لا

مستبد في الأمر.

إذا ظل المسلمون على هذه الحالة فلا إمامة ولا إمام، وقد أني لهم أن

يفقهوا أن جعل ما سموه أحكام الضرورة في خلافة التغلب أصلاً ثابتًا دائمًا هو

الذي هدم بناء الإمامة، وذهب بسلطة الأمة المُعَبَّر عنها بالجماعة، وترتب

عليه تفرق الكلمة، وضعف الدين والدولة، وظهور البدع على السنة. وقد انقلب

الوضع وعم الجهل، حتى صار الألوف من كبراء حكام المسلمين وقوادهم وزعمائهم

في دنياهم يظنون في هذا العصر أن منصب الخلافة وغيره من أحكام الإسلام هي

سبب ضعف المسلمين وأنه لا تقوم لهم بها قائمة، ولا يكونون مع التزامها أمة

عزيزة غنية! والأمر بالضد.

والعلاج الشافي من هذا الداء، والدواء المستأصل لهذا الوباء، هو إحياء

منصب الإمامة، بإعادة سلطة أهل الحل والعقد المعبر عنهم بالجماعة لإقامة

الحكومة الإسلامية الصحيحة، التي هي خير حكومة يصلح بها أمر المسلمين بل

أمر سائر البشر، بجمعها بين العدل والمساواة وحفظ المصالح ومنع المفاسد والأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، وكفالة القاصرين والعاجزين، وكفاية الفقراء

والمساكين من صدقات المسلمين، ففيها علاج لجميع المفاسد الاجتماعية، في

حكومات المدنية المادية، التي ألجأت الجماعات الكثيرة إلى البلشفية والفوضوية.

فإذا أقيم بناء حكومة منظمة على هذه الأسس والقواعد لا تلبث بعد ظهور

أمرها أن تكون قدوة للأمم الحرة التي أمرها بيدها، ولا يستطيع أكابر مجرميها

أن يمكروا بعد ذلك فيها، ليصدوها عنها ويغووها. وحينئذ ينجز الله وعده لنا، كما

أنجزه لمن قبلنا، في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) .

فالواجب على حزب الإصلاح الذي نقترحه أن يوجه كل قصده وهمه أولاً إلى

بيان شكل لحكومة الخلافة الإسلامية الأعلى بالنظام اللائق بهذا العصر الذي امتاز

بالنظام على سائر العصور، ثم يحاول إقناع أصحاب النفوذ في البلاد الإسلامية

المرجوة لتنفيذه بما فيه من المصالح والمنافع والسعادة، وبتفضيله على جميع أنواع

الحكومات في العالم كله، وبإمكان تنفيذه، ودفع كل ما للمتفرنجين واليائسين من

الشبهات على ذلك، وكل ذلك سهل كما جربنا بأنفسنا.

22 -

علاقة الخلافة بالعرب والترك:

ثم ليعلم هذا الحزب أن الفوز في هذا يتوقف على التأليف والتوحيد بين

العرب والترك واتفاقهما عليه - ولو بالجملة - ومراعاة ما قوي في هذا العصر من

العصبية الجنسية مع اتقاء ضررها بقدر الاستطاعة، وكذا عصبية المذهب عند

طائفة الزيدية؛ لا لأن جمع الكلمة ووحدة الأمة من أهم ما يجب من أعمال الخليفة

فقط؛ بل لأن النجاح المطلوب في هذا الأمر يتوقف على تعاون الشعبين عليه.

ذلك أن إحياء منصب الخلافة الصحيحة يتوقف على إحياء الدين والشريعة،

وإنما يكون هذا بالعلم الاستقلالي في الدين المعبر عنه بالاجتهاد المطلق، وهو

يتوقف على إتقان اللغة العربية لأجل فهم الكتاب والسنة، فعلاقة هذا المنصب بلغة

العرب وبتاريخ العرب وببلاد العرب جلي ظاهر، فثم مهبط الوحي، ومظهر

الإسلام الحق، حيث قِبلته ومشاعر دينه، وموضع إقامة الركن الاجتماعي العام من

أركانه، ولا يمكن أن يماري في هذا من يماري في اشتراط النسب القرشي فيها

خلافًا لمذاهب السنة كلها أو العلوي الفاطمي خلافًا لمذاهب الشيعة وخاصة الزيدية.

العرب قوة عظيمة للخلافة، ولكنها غير منظمة ولا متحدة كقوة الترك،

والعمل بالشريعة في حكومات جزيرة العرب المستقلة وأهلها أتم وأكمل منه في بلاد

الترك، ولكن هذه الحكومات غير قادرة الآن على إظهار حضارة الإسلام، ولا على

نشر دعوته الصحيحة على الوجه الذي يحرك إلى النظر كما اشترط بعض علماء

الكلام. والترك أقدر منهم على الأول وأعظم عوناً على الثاني إذا قنعوا بإقامة الإمامة

الحق على صراطها المستقيم. فكل من هذين الشعبين يمكن أن يكمل ما ينقص الآخر

في ذلك مع استقلال كل منهما في إدارة بلاده وسياستها والسيادة فيها وارتباط كل

حكومة مستقلة فيهما - وكذا في غيرهما - بمقام الخلافة مباشرة بالرضا والاختيار،

خضوعًا لحكم الشرع من جهة وانتفاعًا بما يمكن من الوحدة الإسلامية في كل وقت بما

يناسبه من جهة أخرى.

لو اتفق رؤساء حكومة جزيرة العرب على جعل واحد منهم خليفة للمسلمين

وبايعوه مع علماء بلادهم وقضاتها وقوادها لما كان للترك أدنى وجه لمعارضتهم

بخليفة ينصبونه في الآستانة وإن أعطوه حقوق الإمامة الشرعية، وما هم بفاعلين.

بل لو اتفق أهل الحجاز وتهامة ونجد أو أكثرهم على مبايعة إمام اليمن المشهود

له بالعلم والعدالة والكفاية، وأعلن هذا أنه يجري على قواعد الاجتهاد في إمامته

ويقر أهل كل مذهب على مذهبهم - لما استطاع أحد من علماء المسلمين، لا العرب

ولا العجم، أن يطعن في خلافته أو يرجح عليها خلافة أخرى، إلا أن يتبع أحد هواه

فلا يكون لقوله قيمة، ولا سيما إذا قام هذا الإمام بالإصلاح الديني في الحجاز

وسائر بلاد العرب ونظم قوى الإمامة التنظيم الذي تقتضيه حالة العصر، وما هو

بعسير، وإذا فات هذه الإمامة اعتراف بعض الأقطار الإسلامية بها اليوم، فلا

يفوتها ذلك غداً بعد بث الدعوة، ولو في موسم الحج وحده، والدين عون لهم وظهير،

ولكن أكبر مصائب العرب التفرق وحب الرياسة.

ومكانة مصر تلي مكانة جزيرة العرب في هذا الأمر لو كانت مستقلة وأرادت

إقامة الخلافة الشرعية الصحيحة ولكن المتفرنجين فيها كالمتفرنجين في الترك يأبى

أكثرهم ذلك ويجهل قيمته، والدولة البريطانية عدوة الخلافة والعرب تعارض هذا

وذلك بكل قواها، وقد كان نصرها الترك على محمد علي خوفًا من تجدد شباب

الإسلام بدولة عربية، وهي تعتقد أن الترك لا يجددون حياة الخلافة الصحيحة أبدًا،

ولا ينشرون دعوة الإسلام، وكان هذا أحد أسباب تأييدها لهم ولخلافتهم في الجملة،

وكل ما قيل من أن الإنجليز كانوا يسعون لإقامة خلافة عربية في مصر أو الحجاز

قبل الحرب الكبرى فهو كذب محض، ولو فعلت ذلك مصر لاتبعها الحجاز حتمًا،

وكذا سورية إذا استطاعتا بل تتمنى هذه الأقطار اتباعها، ولو بدون إقامة الخلافة

فيها، ولعل أهل السنة وكثير من الشيعة في العراق لا يأبون هذه الوحدة العربية.

يظن بعض الناس أنه ينقص البلاد العربية شيء أهم من هذا الأمر السلبي،

وهو الضعف وفقد الشوكة التي يحمون بها الخلافة ومقام الخلافة، بله القدرة

على ما يقدر عليه الترك من الجهاد والفتح. وهذا الظن باطل، فإن اليمن وحدها قد

حفظت استقلالها ومنصب الإمامة فيها أكثر من ألف سنة، وإن الترك قاتلوا أئمة

اليمن زهاء أربعة قرون وما استطاعوا القضاء على إمامتهم ولا الاستيلاء على

جميع بلادهم، مع كثرة من ظاهر الترك من أهل البلاد بسبب اختلاف المذهب.

ولولا قوة اليمن لاستولى عليها الإنجليز من عهد بعيد كما صرح بذلك أحد ولاة عدن

منهم أمام زعيم عربي حضرمي، قال: لولا هذا الإمام الذي عنده نصف مليون مقاتل

لو قال لهم: ألقوا أنفسكم في النار، أطاعوه - لاستولينا على جميع جزيرة العرب

بغير قتال يذكر.

هذا وإن جزيرة العرب لا يخشى عليها من غير الإنجليز، وهؤلاء لا

يحاولون فتحها بالسيف والنار لموانع كثيرة- منها أنهم لا يقاتلون شعباً قويًّا حربيًّا

بالطبع في بلاد وعرة كثيرة الجبال والأودية خالية من سكك الحديد، وسائر أنواع

المواصلات، ومنها أن قتال أهل هذه البلاد كثير النفقات قليل الربح بل لا ربح فيه

إلا إذا تيسر أخذ البلاد وأُنفق على الإصلاح فيها ملايين كثيرة نقدًا لأجل الربح

نسيئة، وإنما يطمعون في الاستيلاء عليها باصطناع أمرائها وكبرائها بالدسائس

والدراهم، والتدخل فيها بحيل التجارة والامتيازات الاقتصادية بالتدريج، وقد بذلوا

في هذا السبيل أموالاً عظيمة، ولا يزالون يبذلون ولم يستفيدوا به شيئًا ثابتًا يوازيه

ولا قدروا أن يصطنعوا به أحدًا من أولئك الأمراء إلا ملك الحجاز وأولاده، ولن

يستطيع هؤلاء بعد اليوم أن يعملوا لهم شيئًا؛ لأن الأمة العربية قد عرفت كُنْهَ

جنايتهم عليها، فدوام استمساك الدولة البريطانية بهم لا يزيدها ويزيدهم إلا مقتًا عند

العرب وعند سائر المسلمين.

بل نقول: إنه ليس من أصول السياسة البريطانية الفتح بالقوة العسكرية مطلقًا،

ولم تكن الدولة العثمانية هي المانعة للإنجليز من فتح هذه البلاد قبل اليوم، فإن

الدولة لم تكن تستطيع إرسال جيش إليها إلا من طريق البحر، ومتى كان لها

أسطول يقارب أحد الأساطيل البريطانية فيتمكن من إرسال الجند والذخيرة إلى

اليمن وحماية سواحلها وسائر سواحل الدولة من الإنجليز إذا وقعت الحرب بينهما؟

ولماذا لم تَحْمِ مصر أو تُخرجهم منها؟

وأما كون أهل جزيرة العرب لا يستطيعون الجهاد بقصد الفتح كالترك وهو ما

فضَّل به الترك بعض الباحثين معنا في المسألة فيقال فيه: إن من فضل الله على

جزيرة العرب أنه ليس فيها شعوب أجنبية مختلفة في الجنس أو الدين يتحاكون

بالعرب فيغرونها بفتح بلادهم، وأن الترك لا يرون شيئًا أسلم لهم في بلادهم من

إخراج الشعوب المخالفة لهم في الجنس والدين ليستريحوا من هذا التحاك وغوائله،

ولن يقدموا على قتال أحد من جيرانهم لأجل فتح بلاده- وقد كانت حروبهم في

القرون الأخيرة كلها دفاعًا للمعتدين أو مقاومة للثائرين، ولم يكن شيء منها لأجل

سعة الملك ولا لأجل نشر الدين، وهم أحوج الناس إلى الاستراحة من القتال

والانصراف إلى عمران بلادهم وما يتوقف عليه من العلوم والفنون، والطامعون

في سعة الملك منهم إنما يطمعون في ضم الشعوب الإسلامية الشرقية إليهم التي

يمكنهم أن يجنسوها بجنسيتهم اللغوية كالكرد والجركس والتتار وسائر شعوب

الجنس الطوراني. وأما الدعوة إلى الإسلام من غير قتال فالعرب أقدر عليها من

الترك وهم دعاة بالطبع، وقد أسلم الملايين من سكان إفريقيا وجزائر المحيط

الجنوبي بدعوة تجار العرب والدراويش السائحين منهم، وحرية الاعتقاد في أكثر

حكومات هذا العصر تغني خليفة المسلمين عن القتال لحماية الدعوة وحرية الدين

كما كان عليه خلفاء العرب من الأولين.

إننا على علمنا بما ذُكر كله نود أن يتعاون الترك والعرب على إحياء منصب

الخلافة، وسنذكر ما يمتاز به الترك على العرب في هذا المقام؛ ليُعلم أن كلاًّ من

الشعبين عاجز بانفراده قوي بأخيه على النهوض بأعباء هذا الإصلاح العظيم،

الجدير بأن يغير نظام العالم وينقذ الشرق والغرب من الهلاك. وما نقترحه من

وسائل التعاون والاتفاق خاصة بما سيتقرر من الخلافة الصحيحة الدائمة مع

السكوت عن التعدد المعروف في الحال الحاضرة في الشعبين، وذلك بأن يكون

الذين يُعلَّمون ويُرَبَّون ليُرَشَّحُوا للانتخاب الشرعي بالشورى من بيوتات شرفاء

قريش وسادتها، وأن تكفل الدولة التركية هذا الاستعداد وتشرف على جميع شئونه

حتى لا يكون للتنافس فيه بين الشعبين أدنى مجال، بل حتى يكون إحياء هذا المنصب

من أكبر أسباب الاتحاد والتعاون بينهما، وإذا شاء الترك حينئذ أن يكون مقام الخليفة

في بلادهم، فعلى حزب الإصلاح أن يقنع العرب بذلك، وإن كنا نرى أن الأجدر

بالقبول الآن أن يكون في منطقة وسطى بين بلاد الشعبين، على ما سنفصله بعد.

والقسمة في مسألة مقام الخليفة ثلاثية، وهي إما أن يكون في بلاد العرب،

أو الحجاز خاصة، وإما في بلاد الترك أو الآستانة خاصة، وإما في منطقة وسطى

مشتركة.

23-

جعل مركز الخلافة في الحجاز وموانعه:

قد علمنا مما تقدم أن بلاد العرب بل جزيرتهم بل الحجاز منها هو أولى بلاد

الإسلام بأن يكون موطن الخلافة الإسلامية، ويزداد هذا ظهورًا ببيان الإصلاح

الديني الذي يجب على الخليفة في هذا العصر، ولكن في الحجاز موانع تحول اليوم

دون إمكان وجود الخلافة الصحيحة التي يرجوها المسلمون فيه حتى في حاله

الحاضرة التي لا يرضى أهل قطر إسلامي آخر معها أن يكون تابعًا له، فكيف إذا

أريد أن يسوس بلاد العرب كلها أو يدير شئون غيرها من البلاد الإسلامية - فكيف

إذا أريد أن يكون المثل الأعلى لأفضل حكومة لا يُرجى إصلاح حال البشر بدونها؟

وإننا نذكر المهم منها - والحال هذه - وهو:

(1)

أن الملك المتغلب على الحجاز لهذا العهد يعتمد في تأييد ملكه على

دولة غير إسلامية مستعبده لكثير من شعوب المسلمين وطامعة في استعباد غيرهم

ولاسيما العرب، وقد أوثق نفسه معها بعقود بل قيود اعترف لها فيها بأن الأمة

العربية منها بمنزلة القاصر من الوصي، وأن لها حق تربيتها وحمايتها من الداخل

والخارج حتى حق دخول بلاده بالقوة العسكرية لكبح الثورات الداخلية، ومن شاء

فليراجع نص هذه الوثائق في المجلد الثالث والعشرين من المنار (ص 612-

624) .

(2)

أن هذا الملك قد لقب نفسه بملك العرب، وهو يسعى لأن يُعترف له

بأنه هو الزعيم الأكبر للأمة العربية والممثل لجميع حكوماتها المستقلة لتكون كلها

موبقة وموثقة ومرهقة بتلك العهود السالبة لاستقلالها على أن كل حكومة من

الحكومات العربية المجاورة له أقوى وأصلح من حكومته من كل وجه وغير مقيدة

نفسها بعهود سالبة للاستقلال

(3)

أنه قد رضي أن يجعل ولديه رئيسين في بعض البلاد العربية التي

استولت عليها الدولة الأجنبية المذكورة تابعين لوزارة الاستعمار في تلك الدولة

كالكثير من مستعمراتها التي لها رؤساء وطنيون، فكانوا بذلك أول من دان وأعان

دولة أجنبية غير مسلمة على استعمار بلاد العرب.

(4)

أن حكومته استبدادية شخصية غير مقيدة بشيء فهو يفعل ما يشاء

ويحكم ما يريد، مثال ذلك ما نسمعه وما نراه في جريدتها المسماة بالقبلة من أخبار

المصادرات المالية والغرامات الرسمية، وغير ذلك مما لا نعرف له أصلاً في

الشرع الإسلامي. وأما القوانين الوضعية فهو يحرمها ويكفر العاملين بها! !

(5)

أن هذه الحكومة خصم لكل عِلم يُعين على الإصلاح الديني والدنيوي

فهي على كراهيتها للعلوم والفنون العصرية حتى تقويم البلدان تمنع كثيرًا من الكتب

الشرعية ككتب شيخي الإسلام المصلحين الكبيرين ابن تيمية وابن القيم وغيرهما

من الحجاز.

(6)

ما ثبت بالدلائل المختلفة من حرص أهل هذا البيت على الخلافة

والإمارة والملك، ولو في ظل الإمارة الأجنبية غير الإسلامية، وقد سبق في

المسألة العاشرة من هذه المباحث أن طالب الولاية لا يُولَّى.

(7)

أن أهل هذا البيت فاقدون لأهم شروط الخلافة ولا سيما العلم الشرعي

بدليل ما نقرأه في منشورات الملك الرسمية وبلاغات حكومته من الأغلاط اللغوية

والآيات القرآنية المحرفة والأحاديث الموضوعة على الرسول صلى الله عليه وسلم

والتفاسير المخالفة للغة ولإجماع المفسرين وغير المفسرين، مع الإصرار على ذلك

وعدم تصحيحه الدال على أنه لا يوجد عالم في الحجاز كله يتجرأ على تصحيح آية

أو حديث أو حكم شرعي ينشر في جريدتهم التي هي عنوان الجهل. ونسكت عما

نعلمه باختبارنا ورواية الصادقين المختبرين أيضًا.

(8)

أن معظم العالم الإسلامي يمقت حكومة الحجاز الحاضرة، وإننا نرى

الطعن فيها في صحف مصر وتونس والجزائر وجاوه والترك والهند وغيرها

على أن أكثر أصحاب هذه الصحف والكاتبين فيها لا يعلمون كل ما نعلم من سوء

حالها.

(9)

أن الذين يسعون لإحياء منصب الخلافة في الإسلام يرمون به إلى

ثلاثة أغراض:

(أحدها) إقامة حكومة الشورى الإسلامية كما شرعها الله لتكون حجة على

البشر أجمعين كما تقدم.

(ثانيها) إعادة مدنية الإسلام بالعلوم والفنون والصناعات التي عليها مدار

القوة والعمران، تلك المدنية الجامعة بين نعم الدنيا المادية، وبين الفضائل الدينية

الروحية، التي تحل عقد جميع المشكلات الاجتماعية.

(ثالثها) الإصلاح الديني بإزالة الخرافات والبدع وإحياء السنن وجمع الكلمة

وشد أواخيّ الأُخوة الإسلامية وسائر الفضائل الإنسانية، وليس في حكومة الحجاز

استعداد لهذه المقاصد العالية، ولا يرجى أن يرضى البيت الحاكم بالوسائل العلمية

والعملية التي يتوقف عليها هذا الإصلاح العظيم.

(10)

أن الحجاز فاقد لما تتوقف عليه إقامة الخلافة من الشوكة والثروة

فهو لا قوام له بنفسه، فكيف يقوم بأعباء هذا المنصب العظيم؟ ولا يرضى أحد من

مسلمي العرب المجاورين له أن يتبعوا حكومته الاستبدادية الضعيفة، فكيف يرضى

بذلك غيرهم؟ .

24-

إقامة الخلافة في بلاد الترك وموانعها ومرجحاتها:

لجعل الخلافة الصحيحة في بلاد الترك موانع ترجع إلى أمرين كليين:

(أحدهما) وهو أهمهما ما يُخشى من امتناع أكثر الزعماء العسكريين

والسياسيين منه لما فيه من توحيد السلطة العامة في شخص الخليفة، وما تتوقف

عليه الخلافة من إحياء اللغة العربية في بلاد الترك، وفروع ذلك وأسبابه معروفه.

(وثانيهما) معارضة الأمة العربية ولا سيما في الجزيرة وما يتبعها، ولكن

المعارضة لا تكون مؤثرة وثابتة إلا إذا جُعلت الخلافة صورية كما كانت. أو

روحية كما هي الآن. ولعلهم لولا إرادة جعلها مصلحة دعاية (بوربغندة) للدولة

التركية لما اختاروا لها الآستانة، مدينة الفخفخة الباطلة والعظمة الزائلة التي

صارت طرفًا في البلاد الإسلامية ومهددة بحرًا وبَرًّا. فإذا كانت لا تصلح أن تكون

عاصمة للدولة التركية فلن تصلح للخلافة الإسلامية بالأولى.

وأما إذا قبل أولو الأمر من الترك أن يحيوا منصب الخلافة الحق فالرجاء في

تحقيق أغراضها ومقاصدها الثلاثة يكون أتم وأسرع وتقوم بها الحجة على العرب

إلا إذا اجتمعت كلمة أمراء الجزيرة على مبايعة واحد منهم؛ وذلك غير منتظر لما

تقدم بسطه فيكون الرجحان لمن يؤيده الترك بالأسباب الآتية:

(1)

أن الترك الآن في موقف وسط بين جمود التقاليد وطموح التفرنج:

جمود عرب الجزيرة الذي جعل الدين مانعًا من العلوم والفنون التي ترقى بها

حضارة الأمة وثروتها، وعزة الدولة وقوتها. وطموح التفرنج الذي يراد به انتزاع

مقومات الأمة الإسلامية الدينية والتاريخية ومشخصاتها، واستبدال مقومات أمة

أخرى ومشخصاتها بها. وحضارة الإسلام وحكومة الخلافة هي وسط بين الجمود

وبين حضارة الإفرنج المادية التي تفتك بها ميكروبات الفساد وأوبئة الهلاك، فهي

عرضة للزوال، فكيف حال من يقلدها تقليدًا تأباه طبيعة أمته وعقائدها.

(2)

أن ما ظهر من عزم الحكومة التركية الجديدة وحزمها وشجاعتها وعلو

همتها وإقدامها - يضمن بفضل الله تعالى نجاحها في إقامة هذا الإصلاح الإسلامي بل

الإنساني الأعظم بإقامة حكومة الخلافة الجامعة بين القوة المادية والفضائل الإنسانية

المغنية للبشر عن خطر البلشفية والفوضوية؛ لأنها كافلة لكل ما تطلبه الاشتراكية

المعتدلة من الإنصاف والانتصاف من أثرة أرباب رءوس الأموال. وهي بهذه

الصفات أقدر على اتقاء كيد أعداء الإسلام الذين يقاومون الخلافة جهد طاقتهم.

(3)

أن الدولة التركية الجديدة هي الدولة الإسلامية التي برعت في فنون

الحرب الحديثة، ويرجى إذا نجحت فيما تعنى به من الأخذ بوسائل الثروة

والعمران أن تمكنها مواردها من الاستغناء عن جلب الأسلحة وغيرها من أدوات

الحرب بصنعها في بلادها فتزداد قوة على حفظ حكومتها وبلادها، وتكون قدوة

لجيرانها وأستاذًا لهم.

(4)

أن جعل مقام الخليفة في بلاد الترك أو كفالتهم له يقوي هداية الدين

في هذا الشعب الإسلامي الكبير ويحول دون نجاح ملاحدة المتفرنجين وغلاة

العصبية الجنسية في إبانته من جسم الجامعة الإسلامية. فيظل سياجًا للإسلام

وعضوًا رئيسيًّا في جامعته الفضلى.

(5)

لئن كان جهل العرب والترك في الزمن الماضي بمعنى الخلافة

ووظائفها - ولا سيما جمعها لكلمة المسلمين - سببًا من أسباب تقاطعهما وتدابرهما

التي انتهت بسقوط السلطنة العثمانية وباستيلاء الأجانب على قسم كبير من بلاد

العرب والتمهيد للاستيلاء على الباقي فإن ما نسعى إليه الآن سيكون إن شاء الله

تعالى أقوى الأسباب لجمع الكلمة والتعاون على إحياء علوم الإسلام ومدنيته مع

استقلال كل فريق بإدارة بلاده مستمدًّا السلطة من الخليفة الإمام المجتهد في علوم

الشرع الإسلامي المنتخَب بالشورى من أهل الحل والعقد من العرب والترك

وغيرهما من الشعوب الإسلامية بمقتضى النظام الذي يوضع لذلك.

25-

إقامة الخلافة في منطقة وسطى:

إنني ضعيف الأمل في كل من العرب والترك، لا أرى أحدًا منهما قد ارتقى

إلى هذه الدرجة بنفسه، ولا أرى آية بينة على استعدادهما لما اقترحت من تعاونهما

عليه. ولست ممن يدع لليأس مسربًا يسرب فيه إلى قلبه. لهذا أقترح على حزب

الإصلاح أن يسعى لإقناع الترك أولاً بجعل الخلافة في مركز الدولة، فإن لم

يستجيبوا فليساعدوا على جعلها في منطقة وسطى من البلاد التي يكثر فيها العرب

والترك والكرد، كالموصل المتنازَع عليها بين العراق والأناضول وسورية، ويضم

إليها مثلها من البلاد المتنازع فيها بين سورية والأناضول وتجعل شقة حياد ورابطة

وصل معنوي في مظهر فصل جغرافي، فتكون الموصل اسمًا وافق المسمى.

ألا فليجربوا إن كانوا مرتابين في عاقبة هذا الأمر العظيم وليفوضوا إلى حزب

الإصلاح وضع النظام لإقامة الإمامة العظمى في هذه المنطقة وتنفيذ أحكامها

ومناهجها الإصلاحية الإسلامية فيها، ثم لا يتبعها أحد من البلاد التي حولها إلا بطوعه

واختياره، فإذا رضيت الدولة التركية بذلك على أن تكون كافلة له وذائدة عنه فالمرجو

أن يرضى العرب والكرد به في هذه المنطقة وما يجاورها، على أن يتفق الجميع من

حولهم على احترامها فلا تَعتدِي ولا يُعتدَى عليها. وإلا وجب السعي لرد الأمر إلى

معدنه، وإقراره في مقره، بعد إزالة الموانع وتهيئة الوسائل. فإن بدأ ناقصًا ضعيفًا،

فسيكمل ويكون قويًّا، وقد (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ) و (يأرز بين

المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) (ولا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة بأمر الله

لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون) كما ثبت في

الأحاديث الصحيحة.

26-

نموذج من النظم الواجب وضعها للخلافة

أول ما يجب على الحزب الذي يولي وجهه شطر هذا الإصلاح العظيم أن

يضع نظامًا أساسيًّا لحكومة الخلافة على أتم الوجوه التي تقتضيها حال العصر في

حراسة الدين وسياسة الدولة أو الدول الإسلامية وإصلاح الأمة، وبرنامجًا لتنفيذ

هذا النظام بالتدريج السريع الذي يدخل في الطاقة، وكتابًا في الأصول الشرعية

للقوانين الإسلامية، تقوم به الحجة على كل من يزعم عدم صلاحية الشريعة

للحضارة والعمران في هذا العصر.

وبعد وضع النظام التام لإقامة الإمامة على أساسها، وقيامها بوظائفها وأعمالها،

يوضع نظام مؤقت لإمامة الضرورة، ويشرع في تنفيذ النظامين معاً.

مثال تفصيلي من هذا الإجمال: تنشأ مدرسة عالية لتخريج المرشحين للإمامة

العظمى وللاجتهاد في الشرع الذين ينتخب منهم رجال ديوان الخلافة الخاص، وأهل

القضاء والإفتاء وواضعو القوانين العامة ونظم الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه،

وإزالة البدع والخرافات اللاصقة بأهله. ومما يُدَرَّس في هذه المدرسة أصول

القوانين الدولية وعلم الملل والنحل، وخلاصة تاريخ الأمم، وسنن الاجتماع،

ونظم الهيئات الدينية كالفاتيكان والبطاركة والأساقفة وجمعياتهم الدينية وأعمالها-

فمتى يُخَرَّجُ من هذه المدرسة في الزمن المعين أفراد مستجمعون لشرائط الخلافة،

ومن أهمها العلم الاستقلالي الاجتهادي والعدالة - تزول ضرورة جعل الخليفة جاهلاً

أو فاسقًا.

فإذا انتُخب أحد المتخرجين في هذه المدرسة انتخابا حرًّا من قِبَل أهل

الاختيار، الذين يُتَحرى فيهم أن يكونوا من جميع الأقطار الإسلامية ولا سيما

المستقلة منها بموجب رضا أهل الحل والعقد، ثم بايعه من سائر أهل الحل والعقد

من يحصل بهم الثقة التامة للأمة كافة - قامت الحجة على كل فرد وجماعة أو شعب

بأنه هو الإمام الحق النائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين

وسياسة الدنيا، وأن طاعته فرض شرعي في كل ما هو غير معصية قطعية ثابتة

بنص الكتاب أو السنة الصحيحة من المصالح العامة، ولا تجوز مخالفته في شيء

من ذلك باجتهاد يعارض اجتهاده ولا تقليد مجتهد آخر، فإن اجتهاده في المصالح

العامة مرجح على اجتهاد غيره متى كان من أهل الاجتهاد كما هو الواجب. وإنما

يتبع كل امرئ اجتهاد نفسه أو فتوى قلبه وراحة وجدانه فيما يختلف فيه اجتهاد

العلماء من الأمور الشخصية الخاصة به ككون هذا المال حلالاً أو حرامًا.

ويجوز لكل مسلم مراجعة الخليفة فيما يخالف فيه النص، ولأهل الحل والعقد

مراجعته في رأيه واجتهاده المرجو للمصلحة العامة. ومَثَل ما يُرجِّح اجتهادَه فيما

ذُكر كَمَثَل حُكم الحاكم، فإنه يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية، ولكن من علم أنه

قضي له بغير حقه لا يحل له ديانة أن يأخذه؛ لأن علمه بالواقع أرجح من ظن

القاضي الذي هو اجتهاده في الحكم أو في تطبيقه على قضية الدعوى كما ورد في

الحديث الصحيح، على أن الحنفية يقولون بنفوذ حكم الحاكم في الظاهر والباطن

فيحل عندهم ديانة أن تأكل ما حكم لك به القاضي الشرعي؛ وإن كنت تعلم أن

المال ليس لك.

بعد هذا أذكر الحزب بأهم البرامج والنظم التي يتوقف عليها العمل وهي:

(1)

برنامج المدرسة العليا التي يخرج فيها الخلفاء والمجتهدون.

(2)

برنامج انتخاب الخليفة.

(3)

برنامج ديوان الخلافة الإداري والمالي، ومجالسه:

(أ) مجلس الشورى العامة.

(ب) مجلس الإفتاء والتصنيفات الدينية والشرعية والنظر في المؤلفات.

(ج) مجلس التقليد والتفويض لرؤساء الحكومات والقضاة والمفتين.

(د) مجلس المراقبة العامة على الحكومة.

(هـ) مجلس الدعوة إلى الإسلام والدعاة.

(و) مجلس خطابة المساجد والوعظ والإرشاد والحسبة.

(ز) مجلس الزكاة الشرعية ومصارفها.

(ح) مجلس إمارة الحج وخدمة الحرمين الشريفين.

(ط) مجلس قلم الرسائل.

27-

نهضة المسلمين وتوقفها على الاجتهاد في الشرع:

لا أرى من المصلحة أن أنشر كل ما عندي من العلم والرأي التفصيلي في

وسائل تجديد الإمامة الإسلامية العظمى ومقاصده ومنافعه؛ لأنني أخشى أن يستفيد

منه أعداء الإسلام ما يكونون أقدر به على قطع الطريق علينا من حيث لا ننتفع

نحن به كما يجب. فإن استعدادنا لهذا الإصلاح لا يزال ضعيفاً جدًّا: رئم المسلمون

للضيم، ورزئوا بالضعف، ورضوا بالخسف، ولم يبق لشعب منهم همة في خير

ولا شر، حتى كان هذا التطور الجديد في بعض شعوبهم في هذا العصر، وقد كان

جل سببه شدة ضغط الأجانب عليهم، لا رجوعهم إلى هداية دينهم، ولا العلم بأنهم

فقدوا بتركها ما كانوا قد أصابوه بهديها، وأنهم لو أقاموا شرعه وامتثلوا أمر الله في

قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) لما سبقهم أحد إلى صنع

المدافع والقذائف وسائر أنواع السلاح. ولا إلى بناء الجواري المنشآت في البحر

كالأعلام، والعلوم والفنون التي تتوقف عليها هذه الأعمال، ولما فاقهم أحد في فنون

الحضارة، وزينة الدنيا وطيبات المعيشة، وهم يقرءون في محكم كتابهم المنزل:

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا

فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) ولو جاءت هذه النهضة

بهداية الإسلام - وهو أهل لما هو أرقى منها - لكانوا في المَدَنِيَّةِ أسرع سيرًا، وأبعد

شوطًا، ولما احتاج إحياء منصب الخلافة إلى سعي ودأب، ولا لتأليف حزب، على

أن الشعور الإسلامي من أقوى الوسائل المعنوية للنهضة، وإن كان بعض العاملين فيها

ليس لهم حظ منه؛ بل هم حرب له، بيد أن أكثرهم يعلم أنهم لا بد لهم من مراعاته

ومداراة أهله؛ لأنهم سواد الأمة الأعظم إلى أن يربوا جيلاً جديدًا يغرسون في أنفس

نشئه الشعور الجنسي المحض؛ ويكون هو صاحب الرأي العام في الشعب.

هذا ما نعلمه بالخبر من أمر النهضة في مصر والترك، بل قيل لنا: إن

نهضة الأفغان الجديدة تغلب عليها صبغة المدنية لا الصبغة الدينية، وهم أشد

الشعوب الإسلامية الناهضة تدينًا، وأضعفهم تفرنجًا، وقد يصح أن يقال: إنهم

ليسوا من التفرنج في شيء، فإننا نعني به الافتتان بتقليد الإفرنج في مظاهر حياتهم

وعاداتهم وشكل حكوماتهم، لا العلوم والفنون والصناعات والنظم التي راجت

سوقها في هذا العصر عندهم، بعد أن كنا نحن أحق بها وأهلها، في قرون طويلة

كانوا فيها محرومين منها. وخير ما بلغنا عن الأفغان في نهضتهم هذه أنهم يعنون

باقتباس الفنون الزراعية والصناعية من أوروبا دون الفنون الأدبية والعلوم القانونية،

فإن لهم في آداب الإسلام وشريعته غنًى عن ذلك، ولا سيما إذا سلكوا فيها مسلك

العلم الاستقلالي المعبر عنه بالاجتهاد. فالترقي الإسلامي يتوقف عليه في تجديده

مثلما توقف عليه في مبدئه. كما أبدأنا وأعدنا مرارًا ولا بد من التكرار الكثير في

مثل هذا. ولو كان الأفغان متصلين بجزيرة العرب وجعلوا العربية لغتهم الرسمية

لكانوا أجدر الشعوب الإسلامية بالسبق إلى إحياء منصب الخلافة، على أن الرجاء

في تجديدهم مدنية الإسلام في الشرق عظيم، ولا غرو فموقظ الشرق وقائده في هذا

العصر قد خرج من بلادهم.

لا يمكن للمسلمين أن يجمعوا بين هداية الإسلام وحضارته من حيث هو دين

سيادة وسلطان إلا بالاجتهاد في شرعه الواسع المرن، فترك الاجتهاد هو الذي رد

بعضهم إلى البداوة التي قضى عليها أو إلى ما يقرب منها، وطوح ببعضهم إلى

التفرنج والإلحاد والسعي إلى التفصي من الدين.

مثال ذلك: أن الترك نصبوا خليفة متقنًا لصناعتي التصوير والموسيقى

وللعزف بالآلات الوترية، وكل من هذين العملين محرم ومسقط للعدالة في المذاهب

الأربعة، ومن أشدها فيه مذهب الحنفية الذي ينتمي إليه الشعب التركي، وقد ردت

المحكمة الشرعية بمصر شهادة أستاذ موسيقى (موسيقار) من عهد قريب. ولكن

لكل من المسألتين تخريجًا في الاجتهاد كما سنشير إليه في هذا البحث. وقد سئل

الغازي مصطفى كمال باشا في أثناء سياحته الأخيرة في الأناضول عن صنع

التماثيل ونصبها في البلاد أليس محرمًا شرعًا؟ - وقد روي أنهم سينصبون له

تمثالاً في أنقرة - فأفتى بأنه غير محرم اليوم كما كان محرمًا في أول الإسلام

وقرب العهد بالوثنية وجزم بأنه لا بد للأمة التركية من الاشتغال بنحت التماثيل؛

لأنه من فنون حضارة العصر الضرورية، واستشهد أو استدل على حله بما رأى

في مصر من التماثيل.

وقد أفتى لنفسه وللحكومة في مسألة اختلاط النساء بالرجال، ومشاركتهم لهم

في الأعمال، بل سن فيها سنة جديدة إذ عقد له في أزمير على فتاة متفرنجة

حضرت مجلس العقد بنفسها ووقفت تجاهه فيه وسألها القاضي عن رضاها به بعلاً

فأجابت، وسجل زواجهما وطفقت بعد تسافر معه بزي الفرسان، وتقابل معه من

يلقى من الرجال، وقد صرح في مسألة النساء وما سَيَكُنَّ عليه في الأمة التركية

الجديدة بما لا يرضاه كله رجال الدين والمتدينون، ولا يزال يسئل عن المشكلات

المتعلقة بشئون الأمة الدينية فيفتي برأيه فيخطئ ويصيب. ولا بد في أمثال هذه

المسائل من الموقف الوسط بين التقحم الجديد والجمود التليد، وإنما يكون بالاجتهاد

دون التقليد.

مصطفى كمال باشا ذكي فصيح، ولكنه غير أصولي ولا فقيه، وهو يفتي في

أمثال هذه المسائل الدينية، بما أوتي من الجرأة العسكرية، والإدلال بزعامته

السياسية. فيقبل منه العوام، ولا يتجرأ عليه الفقهاء. ولكن سير حكومته على هذه

السبيل - وهي شعبية إسلامية لا يمكن أن تدوم بتأثير سلطة شخصية، فلا بد لها

من إحدى ثلاث: إما اتباع فقهائهم الحنفية بالجري على الراجح في كتب الفتوى-

وهذا ما لا يرضاه أحد من طلاب المدنية العصرية الغلاة ولا المعتدلين- وإما أن

يرفضوا كون الحكومة إسلامية بحجة الفصل بين الدين والسلطنة، وهذا ما يتمناه

ملاحدة المتفرنجين، ولكن لا سبيل إليه فإن سواد الأمة الأعظم مسلمون وهم

أصحاب السلطة وسيكون لهم الرأي الغالب في الجمعية الوطنية، فلم يبق إلا الثالثة،

وهي سبيل العلم الاستقلالي الاجتهادي الذي نَوَّهْنَا به فهو الذي يثبت لهذه الحكومة

وللعالم كله أن الشريعة الإسلامية أوسع الشرائع وأكملها، وإن من أصولها حظر كل

ما ثبت ضرره، وإباحة ما ثبت نفعه، وإيجاب ما لا بد منه، وأن المحرم فيها

بالنص يباح للضرورة، والمحرم لسد ذريعة الفساد يباح للمصلحة الراجحة.

28-

أمثلة لحاجة الترك إلى الاجتهاد في الشرع:

وهاهنا تأتي مسألة التصوير فهو قد حرم لعلة معروفة، وهي سد ذريعة

الوثنية، ومضاهاة خلق الله، فإذا احتيج إليه لمصلحة راجحة في العلم كتصوير

الأبدان المساعد على إتقان علوم الطب والجراحة، أو تحقيق المسميات اللغوية من

الطير والحيوان لمجرد ضبط اللغة، ولما يترتب عليها من المسائل الشرعية

كمعرفة ما يؤكل وما لا يؤكل عند من يحرمون أكل السباع المفترسة منها، أو

المسائل العلمية الكثيرة - لمصالح عسكرية أو إدارية كتصوير الجواسيس والجناة -

فكل ذلك يباح شرعًا حيث لا شبهة عبادة، ولا قصد إلى مضاهاة خلق الله، وقد

بيَّنَّا ذلك بالتفصيل في فتاوى المنار [1] ، وهو مما لمحه مصطفى كمال باشا لمحًا،

فأفتى بالجواز المطلق طردًا وعكسًا، وهو ما لا يتم مطلقًا، واستدلاله على جواز

نصب التماثيل لكبراء الرجال بعمل الحكومة المصرية يشبه استدلاله على صحة

سلب السلطة من الخليفة الآن بسلبها من الخلفاء العباسيين- ليس من الدين في شيء،

فإن الحكومة المصرية غير مقيدة بالشرع في جميع أعمالها، ولم يكن نصبها

لشيء من هذه التماثيل بفتوى من علماء الأزهر ولا غيرهم، ولو استفتتهم لما أفتوا،

لا لأن نصب التماثيل محرم في الإسلام فقط، بل لأن فيه إضاعة كثير من مال

الأمة في غير مصلحة أيضًا، وهم لا يقبلون شبهة من يدعون أن نصب التماثيل

للرجال العظام ينفخ في روح الأمة الرغبة في التشبه بهم، والقيام بمثل أعمالهم،

لأنهم يجزمون بأنه لم يخطر في بال مصري قط أن يكون كمحمد علي باشا أو

إبراهيم باشا أو سليمان باشا الفرنسي ذوي التماثيل المنصوبة بمصر والإسكندرية.

وبأن التماثيل قد تنصب لمن يكون قدوة سيئة أيضًا، وبأنها من تقليد الإفرنج في

أمر من أمور زينة مدنيتهم التي تقتضي نفقات عظيمة لا تقدم عليها إلا الأمم الغنية

ذات الثروة الواسعة، فلو كان مباحًا مطلقًا في شرعنا لكان الأولى بنا تركه لأمرين

يرجحان به:

(أحدهما) الاقتصاد في المال ونحن لا نزال شعوباً فقيرة.

(وثانيهما) تحامي التقليد لهم فيما هو من مشخصات حضارتهم التي فُتِنَّا بها

فكانت من أسباب استكبارنا لهم واحتقارنا لأنفسنا، وقد نهانا نبينا صلى الله عليه

وسلم عن التشبه بغيرنا لنكون مستقلين دونهم بل قدوة لهم. وهذه مسألة اجتماعية

مهمة فصلنا القول في مضارها مرارًا.

وقول مصطفى كمال باشا: إن الأمة لا بد لها من إتقان صناعة نحت التماثيل.

يجاب عنه بأن الأمة تاركة لصناعات كثيرة واجبة شرعًا، وهي كل ما تتوقف

عليه المعيشة والقيام بالواجبات الذاتية كالملابس والأسلحة والطيارات والبوارج

الحربية وغير ذلك. فلا يصح لتارك الضروريات والحاجيات القانع بأن يكون فيهما

عالة على الأجانب أن يهتم بأمر الزينة المحضة، ولو لم تكن ضارة في دين ولا

دنيا!

وأما مسألة الموسيقى فليس لمحرميها من النصوص الصحيحة مثل أحاديث

تحريم التصوير واتخاذ الصور والتماثيل، بل هي مسألة خلافية. وقد فصلنا في

المنار القول في أدلة الذين حظروا سماع الغناء والمعازف (آلات الطرب) من

جهة الرواية، ومن جهة الدراية والاستنباط، وحقَّقْنا أن الأصل في المسألة الإباحة،

وأن المحرم منه ما كان ذريعة إلى معصية أخرى كمن يغريه السماع بشرب

الخمر أو غيره من الفسق وأن الإسراف فيه مكروه [2] .

وأما مسألة النساء فأحكام الإسلام أعلى الأحكام وأعدلها وأفضلها فيها، وأكثر

ما يستنكره العقلاء الفضلاء من مسلمات المدن المحجبات فهو من العادات، فإذا

كان طلاب تغيير هذه العادات يحكمون الدليل في ترك ما هو ضار منها والأخذ بما

هو نافع من غيرها فسيرون الشرع الإسلامي أقوى نصير لهم فيه، وليس الفصل

بين الضار والنافع في هذا وأمثاله بالأمر السهل، بل هو يحتاج إلى تدقيق وبحث

لاختلاف الآراء فيه باختلاف الأهواء والتربية كما يُعلم من المثل الآتي: -

تصدى أحد أساتذة المدارس الأميرية في هذه البلاد لامرأة متزوجة يتصباها

وكان من تصبيه لها أن قال لها وهي مارة في الطريق ما معناه: إن جمالها قد حرم

عليه نوم الليل، فقاضاه زوجها إلى المحكمة الأهلية طالبًا عقابه على تصبي زوجته

ومحاولة إفسادها عليه- فحكم قاضي المحكمة الابتدائية ببراءة الأستاذ معللاً عمله

بأنه من حب الجمال الذي هو من الغرائز المحمودة والأذواق الصحيحة، فكيف يعد

ذنبًا يعاقب عليه القانون؟ ولكن قاضي الاستئناف عد عمله ذنبًا وحكم عليه بعقوبة.

إن تربية مسلمي مصر والترك- وأمثالهما- مذبذبة مضطربة في هذا العصر،

والتفاوت فيها كبير فمنهم غلاة التفرنج الذين يستحلون الفواحش ويميلون إلى

الإباحة وهم الأقلون، ومنهم الجامدون على جميع التقاليد العتيقة خيرها وشرها.

ولا سيما إذا كانت منسوبة إلى الدين - وإن خطأ، وبين هؤلاء وأولئك أهل القصد

والاعتدال من علماء الدين وعلماء الدنيا- فيجب أن يحال كل ما يراد من التغيير

في عادات الأمة على لجان من هؤلاء المعتدلين يبحثون في منافعه ومضاره من كل

وجه ويضعون النظام لما يقررون تغييره مراعين فيه سنن الاجتماع باتقاء ضرر

الاستعجال والطفرة، وما يحدثان من الفوضى في الأمة والتفاوت العظيم بين

أفرادها وجماعاتها، فإن الجيل الحاضر وليد الجيل الماضي ووارثه في غرائزه

وأفعاله وانفعالاته وعاداته، بل ينزع به العرق إلى الأجيال التي قبله، فإذا حُمل

على ترك شيء مما كان عليه من الأفعال والعادات فإنما يسهل عليه من ذلك ما

يوافق الهوى واللذة دون ما يوافق العقل والمصلحة، ثم إنه لا بد أن يلقى معارضة

من فريق كبير من الأمة بمقتضى سنن الغريزة، فإن كلاًّ من حب التجديد وحب

المحافظة على القديم غريزي في البشر فيظهر هذا في أناس وذاك في آخرين،

بتقدير العليم الحكيم، وإلا لكانوا على غرار واحد لا يتغير كالنمل والنحل، أو

لكانوا كل يوم في جديد لا يثبتون عليه ولا يكون لجيل منهم شبه بجيل آخر.

فمن يظن أنه يمكنه أن يميت أمة من الأمم بإبطال مقوماتها من العقائد

والغرائز والأخلاق ومشخصاتها من الآداب والعادات ثم يبعثها خلقًا جديدًا في جيل

واحد بتغيير في قوانينها وشكل حكومتها، وإقناعها بذلك بالخطب والشعر والجرائد

فهو مغرور، والحمل عليه بالقوة القاهرة لا يأتي إلا بحكومة شخصية قاهرة.

نعم إن التغيير ممكن وواقع، وطريقه معروف، وهو ما أرشدنا الله تعالى

إليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11)

وتغيير ما بالأنفس إنما يكون منظمًا بتعميم التربية والتعليم، وقد حقَّق علماء

الاجتماع أن التأثير في تغيير حال الشعب لا يتم إلا في ثلاثة أجيال: جيل التقليد

والمحاكاه، وجيل الخضرمة، وجيل الاستقلال، وبتمامه يتم تكوين الملكة. ومثل

هذا في الشعوب كمثل التعليم الابتدائي والثانوي والعالي للأفراد. وقد يشذ بعض

الشعوب في بعض الملكات كما يشذ بعض الأفراد بذكاء نادر فيبلغ من إحكامها في

بدايته ما يعجز عن مثله البليد في نهايته. وقد حقَّق الفيلسوف الاجتماعي

(غوستاف لوبون) المشهور في كتابه (تطور الأمم) أن ملكة الفنون لم تستحكم

لأمة من أمم الأرض في أقل من الثلاثة الأجيال المقررة إلا للعرب فهم وحدهم

الذين تربت هذه الملكة فيهم فصار لهم مذهب خاص فيها منذ الجيل الأول من

مدنيتهم الإسلامية، فإذًا لا بد من جعل كل تغيير يُراد في الأمة إلى لجان من أهل

الإخصاء فيه تدرسه وتمحصه وتقرر فيه ما فيه مصلحتها وموافقة شريعتها.

وليس بيان هذا من مقصدنا هنا، ولكنه استطرادٌ غرضنا منه رد مسألة النساء

وأمثالها إلى أصل علمي معقول، فإن الفوضى فيها ضاربة أطنابها في بلادنا كالبلاد

التركية، فما يراه بعض الناس ضارًّا قطعًا يراه آخرون هو النافع الذي لا بد منه،

ومقلدة الإفرنج فيه كالجامدين على القديم ليسوا على هدى ولا بصيرة، فإن أعقل

حكماء الإفرنج وأكبر علمائهم غير راضين عن حال النساء عندهم، وقد حكي لنا

عن عاهل ألمانية عندما زار الآستانة في أيام الحرب أنه لما اطلع على تهتك النساء

التركيات وبروزهن للرجال متبرجات كنساء الإفرنج عذل طلعت باشا الصدر

الأعظم الاتحادي على ذلك قائلاً: إنه كان لكم من دينكم وازع للنساء عما نشكو

نحن من غوائله الأدبية والاقتصادية ونعجز عن تلافيه، فكيف تتفصون منه

باختياركم؟ إنكم إذًا لمخطئون.

ومما يحسن التذكير به من المسائل التي يتمسك جماهير متفقهة المسلمين فيها

بما ينافي ضروريات الحضارة الحاضرة والمصالح العامة: زعمهم أن السائل

المسمى بالكحول والسبيرتو نجس يحرم استعماله في كل ما يستعمله فيه الأطباء

والصيادلة وسائر الصناع الذين يعدونه ضروريًّا في صناعتهم، وقد أفتى جماعة

من فقهاء الهند بذلك منذ أشهر ورددنا عليه ردًّا طويلاً أثبتنا فيه أن هذا السائل

طاهر ومطهر طبي، وأنه من الضروريات التي يجب الانتفاع بها في كثير من

الأعمال، وأنه مما عمت البلوى به، ولكن الأصل في فتاوى أفراد العلماء أن يعمل

بها من يقتنع بصحة أدلتها إذا كانت الفتوى مُؤَيَّدَة بالدليل على طريقة السلف التي

نجري عليها في المنار، ومن يثق بعلم صاحبها أو بكونه على المذهب الذي ينتمي

إليه في المقلدين- فهي لا تحل المشكلات العامة بل تبقي الأمة مضطربة باختلاف

الفتاوى وأقوال العلماء، وإنما يحل المشكلات العامة ويجمع كلمة الأمة فيها الإمام

الأعظم (الخليفة) إذا كان مجتهدًا كما تقدم.

29-

توقف الاجتهاد في الشرع على اللغة العربية:

قد ثبت بما تقدم أن الجمع بين حضارة العصر وفنونه وبين المحافظة على

الإسلام لا يتم إلا بالاجتهاد في الشرع فكذلك لا يكون الخليفة هو الإمام الحق الذي

تجب طاعته، ويمكنه نشر دعوة الدين والمحافظة عليه ومقاومة البدع وإزالة

الخلاف بين الأمة في المسائل الاجتماعية والمدنية العامة إلا إذا كان مجتهدًا -

والاجتهاد يتوقف على إتقان اللغة العربية وفهم أساليبها وخواص تراكيبها والملكة

الراسخة في فنونها؛ للتمكن من فهم نصوص الكتاب والسنة، وهما في الذروة

العليا من هذه اللغة، وقد عدَّ علماء الأصول من جميع المذاهب معرفة اللغة العربية

شرطًا مستقلاًّ للاجتهاد مع اشتراط العلم بالكتاب والسنة، بل صرح بعض أئمة

العلماء بأن معرفة هذه اللغة فرض على كل مسلم وإن مقلدًّا! ولولا أن جميع سلف

الأمة كان على هذا الاعتقاد لما انتشرت العربية في خير القرون في كل قطر انتشر

فيه الإسلام من غير مدارس منظمة تديرها الحكومات والجمعيات، وهل لذلك من

سبب غير الاعتقاد بالوجوب الديني، ومن الآيات على ذلك إجماع العلماء في كل

زمان ومكان على أداء جميع العبادات اللسانية بهذه اللغة كتلاوة القرآن في الصلاة

وغيرها وأذكار الصلاة والحج وغيرها حتى إنهم لا يزالون يؤدون بها الوعظ من

خطبة الجمعة لا الحمدلة والشهادتين والتلاوة والدعاء فقط، ولكن منهم من يترجمها

بعد الصلاة ومن المعلوم من الإسلام بالضرورة أننا متعبدون بتدبر القرآن والاعتبار

والاتعاظ بآياته وبفهم تلاوة الصلاة وأذكارها، وكل ذلك يتوقف على معرفة اللغة

العربية، وتقصير بعض المسلمين في هذا الواجب كتقصيرهم في الواجبات الكثيرة

التي أضاعت عليهم دينهم ودنياهم.

ليس من غرضنا هنا أن ندعو أعاجم المسلمين إلى تعلم اللغة العربية وإنما أن

نذكر حزب الإصلاح بما لا يجهله أكثر رجاله من العلاقة القوية بين منصب الخلافة

وبين اللغة العربية فإنه سيجد في اللغة معارضة شديدة، ولكن حجته قوية وهي

تعذر حياة الإسلام نفسه والاجتهاد في أحكامه بدونها- وتعذر تعارف المسلمين وجمع

كلمتهم بالقدر المستطاع بدونها، ففي كل قطر يسكنه المسلمون وكل مدينة منه لا

يزال الإسلام فيها حيًّا يوجد من أهل العلم بالعربية من يمكن التعارف معهم ونشر ما

يتقرر لخدمة الدين بسعيهم.

إن اللغة رابطة من روابط الجنس، وقد حرم الإسلام التعصب للجنس؛ لأنه

مُفَرِّق للأمة ذاهب بالاعتصام والوحدة واضع للعداوة موضع الألفة وقد نهى النبي

صلى الله عليه وسلم عن العصبية العمية الجاهلية، وتبرأ ممن يدعو إليها أو يقاتل

عليها، وقد كان من إصلاح الإسلام الديني والاجتماعي توحيد اللغة بجعل لغة هذا

الدين لغة لجميع الأجناس التي تهتدي به، فهو قد حفظ بها وهي قد حفظت به، فلولاه

لتغيرت كما تغير غيرها من اللغات، وكما كان يعروها التغيير من قبله، ولولاها

لتباعدت الأفهام في فهمه، ولصار أديانًا يُكَفِّر أهلها بعضهم بعضًا، ولا يجدون أصلاً

جامعًا يتحاكمون إليه إذا رجعوا إلى الحق وتركوا الهوى- فاللغة العربية ليست خاصة

بجيل العرب سلائل يعرب بن قحطان بل هي لغة المسلمين كافة، ولغة شعوب أخرى

من غير العرب، وطوائف من العرب غير المسلمين، وما خدم الإسلام أحد من غير

العرب إلا بقدر حظهم من لغته، ولم يكن أحد من العرب في النسب يفرق بين سيبويه

الفارسي النسب وأستاذه الخليل العربي في فضلهما واجتهادهما في خدمة اللغة، ولا

بين البخاري الفارسي وأستاذه أحمد بن حنبل العربي في خدمة السنة، بل لم يخطر

في بال أحد من سلف الأمة ولا خلفها قبل هذا العصر أن يأبى تفضيل كثير من

الأعاجم في النسب على بعض أقرانهم وأساتذتهم من العرب فيما امتازوا به من خدمة

هذا الدين ولغته، ولولا أن ظل علماء الدين في جميع الشعوب الإسلامية مجمعين على

التعبد بقراءة القرآن المعجز للبشر بأسلوبه العربي وأذكار الصلاة وغيرها بالعربية

ومدارسة التفسير والحديث بالعربية لضاع الإسلام منها.

ولو أن الدولة العثمانية أحيت اللغة العربية فيما فتحته من أوروبا لانتشر فيها

الإسلام ثم فيما جاورها انتشارًا عامًّا ولقامت فيها مدنية إسلامية كمدنية العرب في

الأندلس وكان رسوخها فيها عظيمًا، ولكنها لم تفعل ذلك ولم تجعل لغتها التركية لغة

علم وفنون بل اعتمدت في حكمها على قوة السيف وحده فكان من غوائل ذلك-

وهي كثيرة - أن جميع الشعوب التي خضعت لسيادتها وسلطانها ظلت محافظة

على لغاتها حتى المسلمين منهم. فلما تجددت في هذا العصر عصبية اللغة وجعل

الترك العثمانيون لغتهم لغة علم أرادوا أن يُكرهوا الشعوب الإسلامية في سلطنتهم

على ترك لغاتهم إلى لغة الدولة فامتنع الجميع عليهم، وهبّ أصحاب اللغات غير

العلمية المدونة كالألبانيين والكرد والجركس إلى تدوين لغاتهم وجعلها لغة علم

وفنون كما فعل الترك، وقد حاربت الدولة الألبانيين وهم أعظم حصونها في أوروبا

لأجل اللغة فاختاروا حربها والخروج من سلطنتها على ترك لغتهم، ولو رضيت

لنفسها لغة الإسلام ودعتهم إليها لما أبوا، وهذه المسألة هي التي فرقت بين الترك

والعرب ذلك التفريق الذي أشرنا إلى زواياه في هذا البحث مرارًا، وسعينا لتلافيه

قبل تفاقم خَطْبه فما أفادنا السعي فلاحًا، وكيف يعقل أن يرضى العرب استبدال

التركية بالعربية التي شرَّفها الله على جميع اللغات بكتابه المعجز للبشر وحجته

عليهم إلى يوم القيامة على ما لها من المزايا الأخرى- ونحن نرى التتار إخوة

الترك في العِرْق الطوراني لا يرضون بترك لغتهم واستبدال التركية بها وهي أرق

منها؟

فنحن الآن تجاه أمر واقع، ما له من دافع، وكل ما نطمع فيه أن نتقي

ضرره، ونوفق بين الجامعة الإسلامية والجامعة الجنسية اللغوية بما فصلناه من

تعاون العرب والترك على إقامة الخلافة الإسلامية الحق، فإذا وفق الله لإتمام هذا

فهو الذي تيم به الوحدة وما يترتب عليها من سعادة الدنيا والآخرة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

راجع ص 220 - 235 و 270 - 276 م 20.

(2)

يراجع ص 35 - 51 و 141 - 147 من المجلد التاسع.

ص: 98

الكاتب: أبو الكلام

‌وصف ثورة الهند السياسية السلبية

وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*]

(2)

نبذ القوانين الجائرة

قد غاظت هذه الهزيمة الحكومة، فعزمت على قتل الحركة بالقوة والشدة

ناسية أو جاهلة أنها لا تقتلها بها، بل إنما تقويها وتشد أزرها.

إن جمعية الخلافة وفروعها كانت نظمت المتطوعين الذين كانوا على

محافظتهم على نظام المجلس والمجامع العامة يقومون بخدمات كثيرة للأمة فكأنهم

كانوا جيشًا غير متسلح لها، فأعلنت الحكومة أن جماعتهم هذه غير قانونية فيجب

إلغاؤها، ثم منعت انعقاد المجالس فحرمت الأمة من حرية الاجتماع وحرية اللسان،

وهي من الحقوق الفطرية الطبيعية لكل إنسان، غير أن الحكومة لم تُبَال بسوء

عملها بل حَذَتْ حذو من تقدمها من الحكومات المستبدة المنقرضة؛ لأن التاريخ يعيد

نفسه.

وقد بدأت الحكومة بتنفيذ هذه القوانين الجائرة (بكلكتا) قبل غيرها من المدن؛

لأن قدوم البرنس إليها كان قريبًا؛ ولأنها من أعظم المدن الشرقية، وتكاد أن

تكون أوروبية لكثرة الأوروبيين فيها، فكانت مقاطعة البرنس فيها ثقيلة جدًّا على

الحكومة، فبادرت بإعلان هذه القوانين فيه، ولكن نشر صاحب هذا الخطاب في

الوقت نفسه إعلانًا ضد الحكومة، قال فيه: إنه يجب على الأمة نبذ هذه القوانين

نبذًا، والإقدام من أجلها على السجون أفواجًا، وقرر الأمور الآتية:

(1)

أن الخضوع لمثل هذه الأحكام الجائرة، معناه النزول عن الحقوق

المدنية والإنسانية، وليس للحكومة أن تمنع المجامع السلمية، والأعمال الوطنية

الجائزة، فإننا إن نخضع لها خوفًا من الحبس والمهانة، نكون مجرمين أمام

ضمائرنا وأمام الإنسانية، فليس على محبي الحرية والحق إلا أن يعصوها،

ويوطنوا أنفسهم على جميع المصائب التي تصبها الحكومة على رءوسهم دون أن

يخضعوا لها طرفة عين.

(2)

يجب أن يوسع نطاق التطوع، وأن ينبعث المتطوعون في كل شارع

وزقاق معلنين للمقاطعة الملكية التي تريد الحكومة أن تجانبها، وإذا منعتهم السلطة

لا يطيعونها، بل يسلمون نفسهم للاعتقال بدون أدنى كره ولا مقاومة.

(3)

تعقد المجالس والمحافل في جميع المجتمعات العامة، وكل مَن يذهب

إليها يسلم نفسه للسلطة إذا أرادت القبض عليه.

(4)

كل مَن يقبض عليه، يقاطع المحاكم مقاطعة تامة في القول والعمل؛

لأن الحكومة التي تنوب عنها المحاكم جائرة ومقاطعتها واجبة، فلا معنى للاعتراف

بمحاكمها والسعي للدفاع فيها، فإنها لا تستطيع أن تخالفها وتنصف في حكمها.

(5)

تتوقف هزيمة الحكومة على العدد الذي يدخل منا السجن؛ فلنهرول

إلى السجون زرافات زرافات، حتى تتعب الحكومة من حبسنا ولا نتعب نحن من

الإقدام عليه.

وقد لبت الأمة الدعوة، فابتدأت الأعمال الجدية بكل قوة، وسارع الناس

أفواجًا إلى إدارات التطوع، وبدأت الاجتماعات العامة، وأخذ الخطباء يخطبون

ويقبِّحون الحكومة وظلمها وعسفها، فدهشت الحكومة وظلت في حيرتها أيامًا لا

تدري ما تعمل؛ لأنها كانت قد وقعت في نفس ذلك الشراك الذي بسطته يدها. فلا

هي تقدر على أسر جميع النابذين لأوامرها - لأن الناس كلهم نبذوها - ولا هي

تستطيع غض النظر عنهم؛ لأن هذا يُظْهِر عجزَها في تنفيذ قوانينها، غير أنها

عزمت أخيرًا على الاعتقال والتسجين ظانة أن الناس سيخافون من صولتها،

ويعودون إلى طاعتها؛ فأخذت تعتقل في (كلكتا) وحدها ألفًا من المتطوعين كل

يوم، وقد كان المنظر مؤثراً للغاية، فإن عصابات المتطوعين كانت تترى، فكلما

اعتقلت واحدة حلت محلها أخرى، وهكذا إلى الليل.

ثم أعلنت هذه القوانين القاسية في طول البلاد وعرضها، فحذت الأمة في كل

مكان حذو (كلكتا) في مقاومتها. فأخذ الوطنيون يظهرون في كل محل ويعصون

القوانين، وأخذت السلطة تقبض عليهم وتسجنهم، فأصبح السجن ألعوبة والرجال

أطفالاً يلعبون بها، وإن القلم ليعجز عن وصف تلك الحمية والغيرة والحماسة التي

كانت تشاهد في كل زقاق وشارع وبلد من القطر الهندي العظيم، فكان الناس

يتنافسون في التصدي للاعتقال والسجن والذين كانوا لا يعتقلون لسبب ما كانوا

يتحسرون على أنفسهم حتى الصبيان كانوا يبكون شوقًا إليه ويلحون على الشرطة

أن تعتقلهم! فكم من مئات منهم دخلوا السجون بإلحاح شديد وودعتهم أمهاتهم بدموع

الفرح ولم يكن المتطوعون وحدهم يقدمون أنفسهم للاعتقال بل كان الألوف من

المارة والسوقة إذا رأوهم على هذه الحالة يتحمسون فيتزاحمون ويقولون للشرطة:

نحن أيضًا منهم فاقبضوا علينا، فكان يقبض عليهم ويرسلون إلى السجون.

ولم يمض على هذه الحالة أسبوع إلا بدت علائم الملل والفتور والهزيمة على

وجه الحكومة؛ لأن السجون على كثرتها وسعتها كانت قد امتلأت؛ وكذلك جميع

تلك الأبنية التي استخدمت لهذا الغرض، واختل النظام والضبط في السجون

وعجزت الحكومة على تهيئة الطعام والشراب للمسجونين الوطنيين، فاضطرت

إلى أن تخلي سبيل ألوف منهم، فباب السجن كان يفتح وينادي المنادي فيهم (من

كان منكم يريد الذهاب فليذهب) ولكنهم كانوا يأبون الذهاب، فيحملون على

الأكتاف ويلقون وراء الباب، فيذهبون إلى الأسواق فيعصون الأوامر فيؤسرون

فيرجعون إلى السجن حيث كانوا قبل ساعات. فلما رأت الحكومة ذلك امتنعت من

إرسالهم إلى السجون فكانت تعتقلهم نهارًا وتطلقهم ليلاً من مراكز الشرطة غير أنهم

بمجرد خروجهم يعودون إلى عملهم القديم.

ضجرت الحكومة من هذه الحالة ضجرًا شديدًا، وأيقنت أن النار لا تخمد ما

دام الزعماء على حريتهم، فمدت يدها إليهم، وهم قد كانوا مستعدين لإجابة دعاتها

من أول يوم، معتقدين أنه لا بد لتقوية الحركة وتكميل العمل من سجنهم أنفسهم،

فألقي القبض على صاحب الخطاب في 10 ديسمبر سنة 1921 فذهب إلى السجن

بوجه ضاحك، وثغر باسم.

وقد كان - حفظه الله - أعلن قبل أسره بساعات في بلاغ إلى الأمة أنه

سيقبض عليه، ففي تلك الساعة يبتلي عزمها وثباتها، وقد جاءت تلك الساعة

ورأت الحكومة أن تلك الحركة أصبحت أقوى وأشد من قبل، حتى بلغ عدد

المسجونين خمسين ألفًا.

ولم يمض على أسره أسبوعان إلا وقد وجدت الحكومة نفسها عاجزة ومنهزمة

أمام هذه الحركة، فاضطرت إلى أن تجنح للسلم، فأعلن الوالي العام في (كلكته)

لوفد من حزب الاعتدال أن الحكومة ترغب في الصلح، وترحب بهدنة تعقد له،

فهي تمسك يدها عن القبض والأسر وتطلق سراح جميع المسجونين، ويمسك

الزعماء عن أعمالهم، بدون أن يعترف أحد من الفريقين بالغلبة والانكسار،

فيجتمعان في مؤتمر، وفي هذا الوقت نفسه أعلن أن الحكومة الهندية لا تألو جهدًا

في تقديم مطالب الهند في مسألة الخلافة إلى الحكومة المركزية. وهي مستعدة أيضًا

لكل عمل مُسْتَطَاع في المستقبل (وقد أرسلت الحكومة بعد هذا الإعلان بلاغها

الشهير بإمضاء الوالي العام وجميع ولاة المقاطعات إلى إنجلترا وهو الذي وقع

الخلاف في نشره بين اللورد كرزن والمستر ماتنغو القائم بأعمال الوزارة الهندية إذ

ذاك، فاضطر الثاني إلى أن يستعفي من خدمته) .

فلما دعيت جمعية الخلافة والجمعية الوطنية الكبرى إلى هذه الدعوة قبلتها

وأعلنت الهدنة، وقدمت الشروط الأساسية للمؤتمر المقترح، وكان الشرط الأول

منها أن تقبل حكومة لندرة المركزية كل ما يقرره المؤتمر غير أن الحكومة لم تقبل

هذا الشرط فعاد الحال كما كان.

(صاحب الخطاب)

أما صاحب الخطاب العالم العلامة الشيخ أبو الكلام أحمد فمن المؤسسين

للنهضة الجديدة الإسلامية في الهند - أقول من المؤسسين؛ لأنه لا يرضيه أن يقال

هو المؤسس لها- فإنه إلى سنة 1912 لم تكن في مسلمي الهند أي حركة عامة نافذة

قوية للإصلاح الديني ولا السياسي، فكانوا في الدين على جمود وتقليد ومحدثات،

وأما السياسة فلم يكن لهم فيها شأن فكانوا يجتنبونها ويخافون منها كأنها حية تنهشهم،

معتقدين أن الاستقلال يضر بهم، ويُمَكِّنُ الهندوس منهم، فبينما هم في الظلمات

إذ قام فيهم تلك السنة صاحب الخطاب فصاح بأعلى صوته {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ

الرَّشَادِ} (غافر: 38) فأما الدين فقد دعا فيه إلى التوحيد الخالص والتمسك

بالكتاب والسنة ونبذ التقليد والبدع والخرافات، وتطهير الأعمال والعقائد من

المحدثات. قال: إن الدين ما كان عليه الرسول وأصحابه والسلف الصالح من أمته

لا ما قاله فلان وفلان، وإن القرآن مهيمن على الكتب السماوية والعلوم البشرية فلا

تشوهوا وجهه باليونانيات ولا بتخريفات المتفرنجين. ففتح باب الاجتهاد وفسر

القرآن بأسلوب بديع ونزهه عن كل التُّرَّهات. واستنبط منه ومن سنة الرسول كل

ما يحتاجه المسلمون في دينهم ودنياهم.

وأما السياسة فقد دعا فيها إلى الحرية التامة واستقلال البلاد والاتحاد مع أبناء

الوطن ومقاومة الأجانب المسيطرين بغير حق. فقامت عليه القيامة من كل جهة

وصوَّب المعارضون إليه نبالهم وبسطت الحكومة له شَرَكَها، ولكن لم توقفه

العراقيل في طريقه، ولا صدَّتْه الموانع عن عمله، فما زال يلقي الخطب الرنانة

ويحبر المقالات الحماسية ويقرع أسماعهم ببلاغته الشهيرة، ويوقظ قلوبهم بمواعظه

البالغة وينفخ في أجسادهم الميتة روح الدين والحرية حتى انتبهوا من رقدتهم وهبوا

من نومهم، وهرعوا إلى الداعي ملبين ومجيبين نداءه، وكل هذا في خلال بضع

سنوات المدة التي لا تكاد أن تصدق، وكانت لسان دعوته مجلة (الهلال)

الأسبوعية خالدة الذكر.

ويمكن تلخيص بعض مهمات دعوة الهلال الاجتماعية والسياسية في المواد

الآتية:

(1)

أن العبودية سواء كانت للأجانب أو الغاصبين من الأمة نفسها لا

تجتمع مع الإسلام، وأن السعي للحرية والاستقلال وتحمُّل الشدائد والمصائب

والاغتباط بالموت في سبيله- كل ذلك واجب على المسلمين ووراثة ملية ورثوها

عن أجدادهم العظام فهم إما أن يعيشوا أحرارًا أو يموتوا كرامًا، وليس بين هذا

وذاك من سبيل في الإسلام؛ لأن شريعته ما دامت لا تبيح استبداد الولاة من

المسلمين أنفسهم فكيف تبيح لهم أن يعيشوا خاضعين لظلم الأجانب واستبدادهم؟

والمسلم الذي يقنع ويرضى بهذه المعيشة لا ريب في حرمانه من روح الحياة

الإسلامية.

(2)

على مسلمي الهند واجبان: إسلامي، ووطني. فالواجب الإسلامي

يطالبهم أن لا يحصروا نظرهم في حدود أرضهم؛ فإن جنسية الإسلام مطلقة من قيود

الوطن والنسل وشاملة لجميع المصطبغين بالصبغة الإسلامية حيثما وجدوا، ومن

أي أمة كانوا فيجب عليهم أن يعينوا إخوانهم المسلمين خارج الهند وينصروهم

ويخففوا مصائبهم عنهم، وأما الواجب الوطني فهو أن يتحدوا مع أبناء وطنهم

ويرخصوا نفوسهم في جهاد الحرية والاستقلال لبلادهم.

(3)

أن الدول الغربية لا تهدد الإسلام والمسلمين فقط بل الشرق بأسره

فيجب على الأمم الشرقية أن تتحد وتتفق لصون حريتها وحياتها من الغرب.

(4)

أن الدولة العثمانية هي البقية الباقية من الدول الإسلامية فيجب على

مسلمي العالم كلهم أن يساعدوها وينصروها ويرجحوا حقها وصيانتها على مقاصدهم

الوطنية؛ لأنها المركز المالي والسياسي لهم، ولا حياة للفروع بدون أصل.

(5)

اللغة العربية هي اللغة الملية للمسلمين كافة والوسيلة الوحيدة للتعارف

والاتحاد بينهم، وإن من العلل الجوهرية للانحطاط الاجتماعي والديني: انقراض

الخلافة العربية وهجران اللغة العربية وشيوع العجمية والفلسفة اليونانية بينهم

فيجب عليهم إحياء اللغة العربية الصحيحة وتعلمها حتى تصبح عامة بينهم.

(وإني أريد أن أقول هاهنا كلمة في (المسألة العربية) فإن كثيرًا من

إخواننا العرب يعتقدون أن مسلمي الهند يرجحون الترك عليهم ويكرهون استقلالهم

مع أن الأمر ليس كذلك، فهذا زعيم مسلمي الهند وقائدهم الأكبر ما زال يلح على

الدولة أن تمنح الولايات العربية الحكم الإداري، فقد صرح به في جميع مذكراته التي

بعثها إلى المرحوم طلعت بك وزير الداخلية إذ ذاك، والتي ناولها أحمد رضا بك

الشهير، ثم الدكتور عدنان بك مندوب حكومة أنقرة في الآستانة الآن عند قدومهما

إلى الهند، نعم إن مسلمي الهند ما كانوا يحبون أن يفترق الترك والعرب خوفًا من

انحلال الدولة الإسلامية وسقوط العرب في يد المستعمرين من الأجانب وقد وقع ما

كانوا يخشونه فثار الشريف و

فإلى الله المشتكى!) .

ولما ابتدأت الحرب الكبرى أصبحت الهند في حالة تشبه حالة الأحكام العرفية

وأخذت الحكومة تسجن وتعتقل كل من ارتابت فيه، غير أن صاحبنا ظل على حريته

وثباته يقول ما كان يقوله ويقبِّح الظلم والاستبداد كعادته لم يُخِفْه عفريت الحرب ولم

ترعبه السلطة العسكرية، ثم لما بدأ الخلاف بين الدولة العليا والخلفاء وحجزت

بريطانيا البارجتين العثمانية (رشادية وعثمان أول) وخشي نشوب الحرب بينهما

قام في ذلك الوقت العصيب أيضًا بكل جرأة وشجاعة يُظهر أفكاره وآراءه في

مقالاته وخطبه، وقد نبَّه رجال الحكومة شفهيًّا أن الحرب مع الدولة العثمانية (يؤلب

المسلمين على بريطانيا) ويقع مسلمو الهند في موقف حرج فلا يكون أمامهم إلا أن

يكونوا مع الإسلام أو مع بريطانيا فيجب عليها أن تسلم بمطالب تركيا ولا تذرها

تنضم إلى ألمانيا فإذا فعلت ذلك يبذل مسلمو الهند جهدهم في منع الدولة من أن

تكون مع ألمانيا، فإما أن تبقى على الحياد وإما أن تكون بجانب الحلفاء، غير أن

الحكومة لم تُصْغِ إلى نصحه ونشبت الحرب بين الدولة والاتحاديين فنشرت

الحكومة البريطانية في أول أكتوبر سنة 1914 إعلانًا في الهند قالت فيه: إن

الدولة البريطانية وحلفاءها قد اضطروا إلى دفع الهجوم العثماني، ولكن ليثق

مسلمو الهند أننا لا نهاجم تركيا ولا نقوم بعمل عدائي ضد البلاد الإسلامية المقدسة.

وقد نشر حفظه الله مقالة شهيرة بعنوان (القارعة) فصَّل فيها ما كان يراه

مسلمو الهند أحسن تفصيل ثم تحادث مع اللورد كار ماركل والي بنغالة الأسبق في

نفس هذا الموضوع، وكانت خلاصة حديثه معه وما كتبه في مقالته كما يلي:

(1)

أن من المصائب علينا أن تقع الحرب بين الدولتين البريطانية

والعثمانية التي يعدها جميع مسلمي العالم صاحبة الخلافة الإسلامية وآخر دولهم،

وأن مسلمي الهند يجب عليهم شرعًا أن يكونوا مع الخلافة ويطيعوا أوامرها ويبذلوا

وسعهم لنصرها وحمايتها، فيجب على الحكومة أن تعلم هذه الحقيقة ولا تنخدع

بأقوال المنافقين الذين يخدعونها ويتملقون لها.

(2)

أن أكثر ما يستطيع مسلمو الهند أن يفعلوه لبريطانيا هو أن يبقوا على

الحياد ولا يتخذوا خطة عدائية لها، ولكن هذا إنما يكون إذا:

(أ) تركتهم بريطانيا على هذه الحالة فلم تطالبهم بمساعدة مادية ولا معنوية.

(ب) لا يُكره جندي مسلم على أن يذهب إلى ميادين القتال.

(ج) لا يهاجم الحلفاء البلاد الإسلامية بل يعلنون إعلانًا مؤكدًا بأن الحرب

لا تغير الحدود الحالية للدولة الإسلامية ويضمنون استقلال الدولة العثمانية.

(3)

وإن لم تقبل الحكومة البريطانية هذا فمسلمو الهند يضطرون إلى

فرضهم الديني فيفعلون كل ما في وسعهم لحفظ الخلافة والبلاد الإسلامية؛ لأن

هجوم الأجانب عليها يوجد حالة النفير العام فيجب على جميع مسلمي العالم شرقًا

وغربًا أن يهبوا للدفاع عنها.

فلما رأت الحكومة أن حضرته متصلب في أفكاره ومُصِرٌّ على أعماله وأنها لا

تستطيع استمالته إليها بالترغيبات ولا تخويفه بالتهديدات كما فعلت بالآخرين أقفلت

أولاً جريدته ثم نفته من مقاطعة كلكتا مستقره ثم بعد ستة أشهر سجنته في معتقله

ولم تخل سبيله إلا بعد الهدنة في يناير سنة 1920.

ولكنه بمجرد خروجه من معتقله انهمك في إنهاض هذه الحركة الجديدة للخلافة

والدعوة إليها ولم يسترح يومًا واحدًا - وها نحن أولاء نراه بعد سنتين قد سلم نفسه

إلى السجن ثانية فهو الآن بين جدرانه المربعة ثاويًا، وفي حجرة ضيقة منه قانعًا،

فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما في الجزء الأول.

ص: 121

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌الشفاعة الشرعية

والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية [*]

(الوجه الثاني)[1] الدعاء له والعمل له سبب لحصول مقصود العبد فهو

كالتوسل بدعاء الرسول والصالحين من أمته. وقد تقدم أن الدعاء إما أن يكون

إقسامًا به أو تسببًا به، فإن قوله:(بحق الصالحين) إن كان إقسامًا عليه فلا يقسم

على الله إلا بصفاته. وإن كان تسببًا فهو تسبب لما جعله سبحانه سببًا وهو دعاؤه

وعبادته. فهذا كله يشبه بعضه بعضًا وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق ولا

عمل صالح منا. فإذا قال القائل: أسألك بحق الأنبياء والملائكة والصالحين، فإن

كان يقسم بذلك فلا يجوز أن يقول: وحق الملائكة وحق الأنبياء وحق الصالحين،

ولا يقول لغيره: أقسمت عليك بحق هؤلاء، فإذا لم يجز أن يحلف به ولا يقسم،

فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لا يقسم به فليس في ذوات هؤلاء سبب يوجب

حصول مقصوده، لكن لا بد من سبب منه كالإيمان بالأنبياء والملائكة، أو منهم

كدعائهم لنا، لكن كثير من الناس تعودوا ذلك كما تعودوا الحلف بهم حتى يقول

أحدهم: وحقك على الله وحق هذه الشيبة على الله.

وفي الحلية لأبي نعيم أن داود عليه السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك

إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه (يا داود أي حق لآبائك عليَّ؟) وهذا

وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فقد مضت السنة أن الحي يُطْلَب منه الدعاء كما يُطْلَب

منه سائر ما يقدر عليه. وأما الغائب والميت فلا يطلب منه شيء.

وتحقيق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه إليه و (به) لفظ فيه إجمال

واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء

والشفاعة فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته، ودعاؤه وشفاعته من أعظم

الوسائل عند الله. وأما في لغة كثير من الناس أن يسأل بذلك ويقسم عليه بذلك،

والله تعالى لا يُقْسَم عليه بشيء من المخلوقات بل لا يقسم بها بحال فلا يقال:

أقسمت عليك يا رب بملائكتك، ونحو ذلك. بل إنما يقسم بالله وأسمائه وصفاته.

فيقال (أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض يا ذا

الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم

يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك) الحديث كما

جاءت به السنة. وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين

الإسلام.

وقوله [2] : (اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من

كتابك، وباسمك وحدك الأعلى وكلماتك التامة) مع أن في جواز الدعاء به قولين

للعلماء فجوَّزه أبو يوسف وغيره ومنع منه أبو حنيفة، وأمثال ذلك [3]- فينبغي

للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة فإن ذلك لا ريب في

فضله وحسنه فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين

والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقًا، وهو أجمع وأنفع، وأسلم

وأقرب إلى الإجابة.

وأما ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت لكم إلى

الله حاجة فاسألوا الله بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) فهذا الحديث لم يروه أحد

من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث. والمشروع: الصلاة عليه في كل

دعاء. ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الأمر بالصلاة عليه،

ولم يذكروا فيما يشرع للمسلمين في هذا الحال التوسل به، كما لم يذكر أحد من

العلماء دعاء غير الله والاستغاثة به في حال من الأحوال، وإن كان بينهما فرق

فدعاء غير الله كفر، بخلاف قول القائل: إني أسألك بجاه فلان الصالح. فإن هذا لم

يبلغنا من أحد من السلف إنه كان يدعو به.

ورأيت في فتاوى الفقيه الشيخ أبي محمد بن عبد السلام أنه لا يجوز ذلك في

حق غير النبي صلى الله عليه وسلم [4] ثم رأيت عن أبي حنيفة وأبي يوسف

وغيرهما من العلماء أنهم قالوا: لا يجوز الإقسام على الله بأحد من الأنبياء.

ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي صلى الله عليه وسلم. لكن هذا قد يخرج

على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به [5] .

وأما الصلاة عليه فقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) وفي الصحيح عنه أنه قال: (من صلى عليَّ مرة صلى الله

عليه عشرًا) وفي المسند: أن رجلاً قال: يا رسول الله أجعل عليك ثلث

صلواتي؟ قال (يكفيك الله ثلث أمرك) فقال: أجعل عليك نصف صلواتي؟ قال:

(إذًا يكفيك الله ثلثي أمرك) فقال: أجعل صلاتي كلها عليك؟ فقال (إذًا يكفيك الله ما

أهمك من أمور دنياك وآخرتك) وقد ذكر العلماء وأئمة الدين الأدعية المشروعة،

وأعرضوا عن الأدعية المبتدعة فينبغي اتباع ذلك.

والمراتب في هذا الباب ثلاث: (إحداها) الدعاء لغير الله سواء كان المدعو

حيًّا أو ميتًا، وسواء كان من الأنبياء عليهم السلام وغيرهم فيقال: يا سيدي فلان

أغثني، وأنا مستجير بك، ونحو ذلك. فهذا هو الشرك بالله. والمستغيث بالمخلوقات

قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به

فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به وإنما هو شيطان أضله وأغواه لمَّا أشرك بالله

كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك. ومثل هذا واقع كثيرًا

في زماننا وغيره، وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري

وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري وقضى حوائجهم فظنوا أن

ذلك من بركة الاستغاثة (بي) أو بغيري، وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا

هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون

الماضية كما ثبت، فهذا شرك بالله نعوذ بالله من ذلك.

(الثانية) أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي

وادع لنا ربك، ونحو ذلك. فهذا مما لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع

التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإن كان السلام على أهل القبور جائزًا

ومخاطبتهم جائزة، كما كان صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن

يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)

وقال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل

يمر بقبر رجل كان يعرفه فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام .

وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل

مسلم سلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام .

لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات شيئًا. وفي الإمام مالك [6] أن

عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يقول: السلام عليك يا رسول الله،

السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبه، ثم ينصرف. وكذلك أنس بن مالك

وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، نُقِلَ عنهم السلامُ على النبي صلى الله عليه

وسلم، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى لا يدعون وهم مستقبلو

القبر الشريف.

وإن كان قد وقع في ذلك بعض الطوائف من الفقهاء والمتصوفة ومن العامة

ممن لا اعتبار بهم، فإنه لم يَذهب إلى ذلك إمامٌ متبَع في قوله ولا مَن له في الإمامة

لسان صدق. بل قد تنازع العلماء في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال

أبو حنيفة: يستقبل القبلة ويستدبر القبر. وقال مالك والشافعي: بل يستقبل القبر،

وعند الدعاء يستقبل القبلة ويستدبر القبر، ويجعل القبر عن يساره أو يمينه،

وهو الصحيح؛ إذ لا محذور في ذلك.

(الثالثة) أن يقول: أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته، ونحو ذلك. فهو

الذي تقدم عن أبي محمد أنه أفتى بأنه لا يجوز في غير النبي صلى الله عليه

وسلم [7] . وأفتى أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما أنه لا يجوز في حق أحد من

الأنبياء فكيف بغيرهم. وإن كان بعض المشايخ المبتدعين يحتج بما يرويه عن النبي

صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأهل القبور) أو

قال (فاستغيثوا بأهل القبور) فهذا الحديث كذبٌ مفترًى على رسول الله صلى الله

عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء ولا يوجد في شيء من

كتب الحديث المعتمدة.

وقد قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (الفرقان:

58) الآية، وهذا مما يعلم بالاضطرار في دين الإسلام أنه غير مشروع. وقد

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو أقرب من ذلك من اتخاذ القبور مساجد،

ونحو ذلك ولعن على ذلك من فعله تحذيرًا من الفتنة باليهود؛ فإن ذلك هو أصل عبادة

الأصنام أيضًا، فإن ودًّا وسواع ويغوث ويعوق ونسرًا كانوا قومًا صالحين في قوم

نوح عليه الصلاة والسلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم اتخذوا الأصنام على

صورهم، كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره من العلماء [8] فمن فهم معنى قوله:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة

المطلقة إلا الله وحده.

وقد يُسْتَغَاث بالمخلوق فيما يقدر عليه وكذلك الاستعانة لا تكون إلا بالله

والتوكل لا يكون إلا على الله. وما النصر إلا من عند الله. فالنصر المطلق وهو

خلق ما يغلب به العدو فلا يقدر عليه إلا هو سبحانه. وفي هذا القدر كفاية لمن هداه

الله تعالى والله تعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا

كثيرًا. انتهى [**] .

_________

(*) تابع لما نشر في الجزء التاسع ص 681م23.

(1)

أي من وجهيْ ترجيح المعنى الذي حمل عليه حديث دعاء الخارج إلى الصلاة.

(2)

في كتاب (الوسيلة) وكذلك قوله إلخ. عطفًا على الدعاء الذي قبله، وليس فيه العبارة المقحمة هنا بين الدعاءين.

(3)

أي من الأدعية.

(4)

في كتاب التوسل والوسيلة تقييد هذا بقوله: إن صح حديث الأعمى.

(5)

من قوله (ثم رأيت عن أبي حنيفة) إلى هنا ليس في سياق كتاب الوسيلة.

(6)

كذا بالأصل ولعلها (وفي موطأ الإمام مالك إلخ) .

(7)

أي مُعلقًا له على صحة حديث الأعمى.

(8)

الأثر في صحيح البخاري.

(**) ملحوظة: نشرنا هذه الرسالة أو الفتوى عن مجموعة مخطوطة جاءتنا من بغداد وفي أثناء الطبع وجدنا فيها مواضع محرفة فراجعنا (كتاب التوسل والوسيلة) الذي سبق لنا نشره فوجدناها فيه بعبارة أوسع وأوضح سالمة من التحريف فتراجع فيه (ص 103) .

ص: 129

الكاتب: شكيب أرسلان

انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى

طرفة تاريخية من قلم الأمير شكيب أرسلان الشهير

(1)

يظهر أنه من جملة الممالك الأوروبية التي انبسطت إليها يد الاستيلاء العربي

وخفق فوق ربوعها علم الفتح الإسلامي في القرون الوسطى هي بلاد سويسرا، هذه

البقعة الجميلة النضيرة التي تراها جنة خضراء صيفًا وشتاء، والتي هي من

أوروبا بمثابة الكبد من الجسد.

كنت أعلم أن العرب بعد أن فتحوا أسبانيا استولوا على جنوبي فرنسا وتمكنوا

من أواسطها ونزلوا بر إيطاليا واكتسحوا روما فضلاً عن استيلائهم على صقلية

وسردانية وغيرهما من الجزر، ولكن إلى سنة 1919 تاريخ ورودي سويسرا لم

أكن أعلم شيئًا عن وصول العرب إلى نفس سويسرا مع بقائهم فيها مستقلين بعدة من

القلاع والبقاع نحوًا من مائة سنة، وبلوغهم بحيرة كونستانز الشهيرة من جنوبي

ألمانيا.

وأول من نبَّه فكري إلى هذا الحادث العظيم من مجريات الفتح العربي

الأوروبي هو الأستاذ هس المستشرق السويسري الذي أقام مدة بمصر وعرف

كثيرين من كبراء المصريين والذي يَمُتُّ إلينا بحبل صداقة أكيدة كانت بينه وبين

أستاذنا الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده - برَّد الله ثراه - فأول اجتماعي مع

المستشرق المشار إليه أطلعني على تاريخ وجود العرب بسويسرا محررًا باللغة

الألمانية بقلم مؤلف اسمه (فرديناند كار) مطبوعًا في مدينة زوريخ سنة 1856

وبعد ذلك استقريت هذا الموضوع فوقع في يدي كتاب ممتع جليل عنوانه تاريخ

غارات المسلمين على فرنسا وسافواي وبيامون وسويسرا للمسيو (رينو)

الفرنساوي، وكتب أخرى ظهر من إجماعها ومن آثار العرب الباقية ومن الأسماء

العربية التي تركوها في البلاد ومن المسكوكات العربية التي لا تزال محفوظة - أنه

كان للعرب دولة وصولة في بلاد سويسرا وأنهم لبثوا فيها حُقْبًا (الحُقب بضم

فسكون نحو ثمانين سنة أو أكثر) كان حافلاً بالوقائع والنوادر، شأنهم في كل محل

دخلوه أيام كان العرب عربًا والناس ناسًا ....

وملخص هذه التواريخ وهو من أغرب ما جاء في حوادث الدهر أن عشرين

عربيًّا كانوا راكبين في سفينة من سواحل أسبانيا ضلت بهم الطريق وما زالت

تتقاذفهم الأمواج حتى رمت بهم على شاطئ خليج (سان تروبس) في جهات جينوة

فخرجوا إلى البر وتوغلوا بين القرى يقتلون ويأسرون واتخذوا لهم حصنًا في أدغال

جبل (موروس) وصاروا يشنون الغارات ويأوون إليه بالغنائم.

وقيل: بل ركب 20 عربيًّا من لصوص البحر من ساحل الأندلس قاصدين

سواحل بروفانس (جنوبي فرنسا) فأخذتهم الريح إلى خليج غريمو أو خليج سان

تروبس فخرجوا ولم يشعر بهم أحد ورأوا حول ذلك الخليج غابة ملتفة أشبة، حولها

سلسلة جبال فأغاروا على أقرب قرية من محل نزولهم وقتلوا أهلها وانتشروا في

الناحية وألقوا الرعب في القلوب وكان الموقع مساعدًا لهم بطبيعة الأرض من

الإشراف على البحر ثم من الغاب المشتبك ثم الجبال الشامخة فتحكموا في تلك الجهات

واستولوا على طرقها وقبضوا على مضايقها، وألقت هي إليهم بمقاليدها. وكان هذا

الحادث نحو سنة 891 مسيحية.

ولا يجب أن نأخذ كلام مؤرخي الإفرنج هذا على علاته من جهة كون غَزَاة

هؤلاء العشرين عربيًّا هي لصوصية صرفة وعيثانًا بحتًا، وأنهم إنما جاءوا للنهب

والغصب فهذه شنشنة مؤرخي أوروبا بإزاء حوادث كثيرة في تاريخ الإسلام، مع أن

الواقع قد يكون خلاف ذلك، وقد دلت الآثار وقامت الأدلة ونهضت البراهين على

أن أكثر أغراض العرب في مغازيهم في صدر الإسلام إنما كان إعلاء كلمة الله

ونشر عقيدة التوحيد وأنهم كانوا يرون أنفسهم هُدَاة لا جُبَاة، وكانوا يستبسلون في

الحروب استبسالاً ويبيعون أنفسهم من الله ابتغاء الجنة فقط، ويجدون ذلك فرضًا

عليهم على حين أن الغبي أو الغريب الجاهل للحقائق البعيد عن اكتناه أسرار هذه

المغازي وما كان يجيش في صدور أهلها - كان يتوهم أنها بأجمعها فتوحات دنيوية

لأجل السلب والكسب والنهي والأمر، وليس التوهم بعبرة، فقد يكون هؤلاء

العشرون غازيًّا الذين أبحروا من ساحل أسبانيا إلى ساحل إيطاليا هم ممن نصبوا

أنفسهم للجهاد في سبيل الله ورفع راية التوحيد ونشر كلمته بين أهالي هاتيك

الأرضين راكبين لذلك لُجَج البحار، ومتوقلين عقاب الأوعار. استزادة من ثواب

الله، ورغبة في الشهادة في سبيل الله، وربما كان بين هؤلاء العشرين مجاهدًا

العالم الفاضل، والفقيه المحدث، والشاعر المترسل، والسائس المحنك، والقائد

البصير المجرب.

وبرهان ذلك واضح كالشمس من كون 20 رجلاً لا يقتحمون مثل هذه الغمرة،

ولا يلقون بأنفسهم في بر لا آخر له، وهم عصبة كهذه قليلة، إن لم يكونوا من

ذوي النفوس العالية، والطباع الزاكية، ولم تكن بين جنوبهم أرواح تتطالّ إلى ما

هو أعلى من حطام الدنيا الفانية- وليست قصة اللصوصية هذه التي تجدها في أكثر

تواريخ الإفرنج، حاشا النقاد المدققين الذين ابتدأوا ينبهون الأفكار في هذه الأيام -

بدليل على كون هؤلاء العشرين غازيًّا إنما جاءوا عابثين مفسدين قاصدين الغنيمة

المادية، ولا سيما وأنك تراهم من جهة أخرى يعترفون بأنهم ما استقرت قدمهم في

ذلك الساحل حتى شادوا الحصون، واستنبطوا العيون، وامتهدوا الحزون، ونحتوا

الصخور، وأثروا آثار عمارة أثيلة لا تزال منها بقايا ناطقة بفضلهم إلى يومنا هذا،

مما يوافقنا كل عاقل منصف أنها ليست أعمال لصوص ولا حكايات دعَّار، وإنما

هي آثار أمجاد أنجاد، وقروم أجواد، من أعاظم الرجال، وخيرة الأبطال.

وقد يكونون علموا بما كان عليه أهل تلك الديار يومئذ من الجهل والخمول

والانحطاط في المعارف والأخلاق (فانتدبوا) لإصلاح أمورهم و (للأخذ بيدهم في

معترك الحياة) كما هي لغة الاستعمار؛ لأن مما هو ثابت فعلاً بكون شرذمة كهذه

أصلها 20 رجلاً لا تتمكن من نواصي تلك الديار، ولا تسود أولئك الأقوام من

البحر المتوسط إلى بحيرة (كونستز) التي على كبد أوروبا - إلا وهي أرقى جدًّا

من أهلها. ولولا الفرق البعيد في درجات المدنية ما ساد هذا القليل على ذلك الكثير،

لا بل لم تظهر هذه النقطة على ذلك الغدير.

قالوا: ولما رأى هؤلاء العشرون رجلاً ما أصابوا من الغُنم في هذه الغزاة

أرسلوا إلى أسبانيا فوافاهم 100 رجل آخرون من ذؤبان الرجال، وممن يعتمد

عليهم في مثل هذا الأحوال، فاشتدت بعد ذلك وطأتهم وصالوا على جميع هاتيك

الجهات يثخنون في أهلها ويضربون عليهم الجزية ويقتادون ما يشاءون منهم بخزام

الذلة والصغار وساعدهم على ذلك ما كان فيه أهل تلك الأنحاء من اختلاف الكلمة

وتفرق الأجواء، فكان بعضهم يستعين بهم على بعض فعصفت ريحهم في هاتيك

الآفاق، وصاروا يُنصَرون بالرعب، وأصبح الفرد الواحد منهم لا يبالي أن يلاقي

ألفًا. فما مضت بضع سنوات حتى صار لهم عدد من الأبراج والقلاع أهمها في

الجبال المسماة فراكسين توم Fraxinatum أو فراكسينه ولا تزال من بقايا آثارهم

فيها أبنية ماثلة وبيوت منحوتة في الجبال، وآبار محفورة في الصخور.

قال المؤرخ (رينو) السابق الذكر: وكان ذلك في أواخر القرن التاسع للمسيح،

ثم وصلوا إلى سلسلة جبال الألب الشهيرة، وسنة 906 أجازوا مضايق دوفينه وجبل

سينس واستولوا على نوفالس في حدود البيامون ونهبوا الأديرة التي هناك

وشردوا الرهبان وأثخنوا في الأهلين فاجتمع هؤلاء عليهم وأحاطوا بهم وأخذوهم

أسارى وشدوا أوثقتهم ووضعوهم في دير ماراندراوس فحطم هؤلاء الأسرى القيود

وأفلتوا وانقضوا على أعدائهم فهزموهم وأحرقوا الدير وقسمًا من المدينة وما زالوا

يعيثون ويشنون الغارات حتى انقطعت الطرق بين فرنسا وإيطاليا.

ثم يقول رينو: إن العرب استولوا على مقاطعة فالي وزحفوا إلى قلب بلاد

المريزون وصاقبوا بحيرة جنيف وتقدموا إلى بلاد الجورة في سويسرا Garu

وكانت سويسرا حينئذ من مملكة بورغنيه ففرت أم الملك كوبراد إلى برج منفرد في

نيوشاتل (إحدى ولايات سويسرا اليوم) ولما ضاق ذرع الأهالي جميعًا بهؤلاء العرب

لا سيما أهل بروفنس وسويسرا وإيطاليا ثار هوغ كونت بروفانس وعزم أن يتولى كبر

هذه المسألة ويطرد العرب من تلك الديار ويستولي على معقلهم الأشم في فراكسينه

والمرسى الذي لهم في خليجها فاستنجد هوغ صهره صاحب القسطنطينية ليمده

بالأسطول وبالنار الإغريقية فحضر الأسطول وهاجم العرب من البحر بينما الأهالي

يهاجمونه من البر وضاق بالعرب الخناق فاعتصموا بالجبال وأعيا أمرهم هوغ فلم

يلبث أن صالحهم ولا سيما بعد أن رأى خصمه برانجر قام ينازعه الملك فاستقر أمر

هؤلاء وجعلوا يحرثون الأرض ويبنون ويغرسون وتزوجوا بنساء من البلاد ولبثوا

قابضين على بلاد الألب لا سيما ممر (سان برنار)(الشهير إلى الآن) وأقامت

منهم فئة بمدينة نيس وفيها حارة باسمهم إلى هذا اليوم.

وفي سنة 960 تمكن الأهالي من طرد العرب من سان برنار بعد معركة

شديدة وسنة 965 أجلوا عن (غرنوبل) وعن وادي (غريزي فودان) وبعد ذلك

اجتمعت عليهم جيوش عظيمة من كل صوب وهزموهم وقتلوا أكثرهم وتنصر

بعضهم ويظن أن فلهم فر إلى إفريقيا وأسبانيا وقد بقيت لهم قرى تنصر أهلها ومن

أبى منهم النصرانية صاروا عبيدًا يشتلون في أراضي الأديرة وكان سقوط حصن

فراكسينة سنة 975 بعد أن أقاموا به أكثر من 80 سنة وسمعت من بعض من

يعرف أمور سويسرا أنه يوجد إلى اليوم قريتان في مقاطعة فالي Valee يركب

أهلها الخيول بسروج عربية ولهم عادات كثيرة خاصة بهم، وهم لا يتزوجون من

سائر الأهالي ولا يصاهرونهم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

لا ندري ما يريد الكاتب من اكتساح رومية أحقيقة هو أم مجاز؟ فالعرب لم يفتحوها ولا سلبوها وهو أوسع منا اطلاعًا على التاريخ.

(2)

المنار: وهكذا تفعل العرب اليوم، كان المائة بعد العشرة يحتلون قلب أوروبا ويعيشون فيها أعزة وتستعين بهم أمم الفرنجة بعضها على بعض وهم اليوم مائة مليون ولكنهم أذلة في بلادهم ويستعين بعضهم على بعض بالأجانب كما يفعل ملك الحجاز وأولاده.

(3)

والعرب يقولون لوند.

ص: 134

الكاتب: حسني عبد الهادي

من الخرافات إلى الحقيقة

(7)

(70)

اعتنى المسلمون قديمًا بالرياضة البدنية اعتناء شديدًا زائدًا؛ لأن

العقل الصحيح لا يكون إلا في الجسم الصحيح، ولذلك كانوا يعلمون الشبان فن

الفروسية والرماية والسباحة اتباعًا للحديث الشريف القائل: علموا أولادكم السباحة

والرماية [1](وعليكم بالرمي فإنه خير لهوكم)[2] و (الرمي خير ما لهوتم به)[3] .

ليتأمل العاقل نتيجة دين أمر بتوسيع دائرة المعارف وتزييد أسباب الثروة

وتقوية البدن وفن (الحرب) وهذه الأركان الثلاثة متصل بعضها ببعض كما

لصقت محاسن الأخلاق بالتحاب والتواد، هل يقف أمام قوم هذا منهاجهم مهما قل

عددهم وعديدهم أعظم إمبراطورية؟

(71)

الرحمة للصغير واحترام الكبير كان خلقًا راسخًا؛ لأنه صلى الله

عليه وسلم قال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)[4] .

(72)

الاقتصاد كان أساسًا للمعاملات المالية، وفي الحديث الشريف: (ما

عال من اقتصد) [5] .

(73)

الشح وكان مذمومًا جدًّا، وجاء في الحديث الشريف: (ما محق

الإسلام محق الشح شيء) [6] .

(74)

السخاء كان أمرًا ممدوحًا جدًّا، قال صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا

السخي زلته فإن الله آخذ بيده كلما عثر [7] ) .

من لا يعرف أن أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما سمحا بثروتهما لأجل

استكمال وسائل الحرب؟

(75)

أما البخل فكان في أقصى درجات المعيبات والمذمومات؛ لقوله

صلى الله عليه وسلم فيه: (خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق)[8] .

(76)

حرية الوجدان وحرية المساكن وصيانة الملك بأنواعه ولا سيما

الكتب والرسائل وأمثالها من الحريات السياسية التي طالما افتخر بها الأوروبيون

وقد كانت من جملة ما جاءنا به نبينا من قبل ألف سنة وكسور. قال الله تعالى:

{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6){لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) .

وقال رسوله: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه)[9]

وقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا

عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) وقال صلى الله عليه وسلم: (من اطلع في كتاب

أخيه بغير أمره فكأنما اطلع في النار) [10] .

قصارى القول: لو اعتنى علماؤنا باستخراج أمثال هذه الأحاديث لوجدوا فيها

من الوثائق ما هو كاف لإبطال كل دعوى اتُّهِم بها الدين الحنيف.

ومما يوجب الأسف أن المصائب التي حلت بالمسلمين كأنها لم تكف لفتح

عيونهم لتحري أوامر هذا الدين المبين التي تقتضي أن يكون متبعوه في طليعة

العلماء والأغنياء والأقوياء والأمراء. واعجباه!

(77)

إن التهيؤ للخصم ومقابلة قوته بالقوة من أسس الإسلام لذلك قال الله

تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) فهل للمسلمين بعد

هذا أن يكلوا الأمور لمشيئة الله تعالى ويعطلوا قواهم وأوامر القرآن ويعدوا ذلك من

الإسلام؟ .

(78)

أرشد صلى الله عليه وسلم إلى حسن اختيار الموظفين بقوله: (لكل

شيء آفة تفسده وآفة هذا الدين ولاة السوء) [11] فهل يحل بعد هذا أن يقبل الوالي

المسلم الشفاعات لأجل توسيد الأمور العامة لغير أهلها.

(79)

كانوا يعتنون بكل ما يزيد الثروة العمومية، ولا سيما تربية الغنم؛

لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (اتخذ الغنم فإنها بركة)[12] وغير خافٍ على أحد

ما للغنم من المكانة الاقتصادية في عصرنا. ليتنبه الكسالى.

(80)

كانوا يضعون الشيء في محله ويتباعدون عن الإسراف والتبذير

استرشادًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على

عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على

أصحابه في سبيل الله عز وجل [13] وهذا يدل على أنه لم يكن من المعروف في

عصره صلى الله عليه وسلم تخصيص الثروة لأناس كسالى ينامون على ظهورهم

تاركين العمل وعادِّين هذا عبادة.

(81)

كان العمل والجد ممدوحًا والكسل مذمومًا لقوله صلى الله عليه وسلم:

(من بات كالاًّ من عمله بات مغفورًا له)[14] .

(82)

أشد ما اعتنت به الديانة الأحمدية: الصناعة والتجارة؛ لأنه صلى الله

عليه وسلم قال: (أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)[15] .

(83)

كان الفقر مكروهًا مستعاذًا منه، وإنما يُطلب الصبر عليه، وكان

صلى الله عليه وسلم يقول: (أعوذ بالله من الفقر والعيلة ومن أن تظلموا أو

تظلموا) [16] و (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن

أظلم أو أظلم) [17] إن أبا بكر كان تاجرًا غنيًّا. وكذلك ذو النورين. واكتسب

طلحة والزبير ثروة هائلة من التجارة.

(84)

ما كان أحد في أوائل الإسلام ينكمش في زاوية أو تكية ليأكل

ويشرب من ثمرة جد غيره باسم العبادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (استغنوا

عن الناس ولو بشوص السواك) [18] . لذلك كان كل واحد يشتغل بعمل من

الأعمال حسب قدرته العقلية والبدنية.

(85)

الحراثة كانت محترمة جدًّا وقد أمرنا بها سيدنا صلى الله عليه وسلم

بقوله: (احرثوا فإن الحرث مبارك وأكثروا فيه من الجماجم [19] ) .

(86)

الحياة الاستقلالية كانت أساس عمل كل فرد؛ لأنه صلى الله عليه

وسلم قال: (خيركم من لم يترك آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته ولم يكن كلاًّ على

الناس) [20] لذلك كان كل يسعى لئلا يكون حملاً ثقيلاً على المسلمين، شأن

البطالين والكسالى اليوم.

(87)

الاتجار في الأقطار وجلب ما يحتاجه الناس كان من الأمور الممدوحة.

والاحتكار كان من الأمور المذمومة جاء في الحديث: (الجالب إلى سوقنا كالمجاهد

في سبيل الله والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله [21] ) .

هنا أدعو القارئ الكريم لأن يطالع بحث التجارة الخارجية وبحث الاحتكار في

كتب الاقتصاد السياسي ليرى علو معنى هذا الحديث.

(88)

التبذير وعمل الأشياء التي لا فائدة منها كانت مجهولة عندهم؛ لأن

النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد

والسرج) [22] .

من هنا يفهم أن انتشار الترب وزيارتها ليس من الإسلامية في شيء. وقد

انتقلت هذه الخرافة لديننا الصافي النقي من أساطير الهنود القديمة.

إذًا إتلاف شيء من الزاد وإيقاد الشموع على القبور موجب للَّعنة فأين

المتأملون؟

(90)

إن ذبح القرابين والضحايا على القبور ممنوع في دين الإسلام؛

لأنه جاء في الحديث: (لا عقر في الإسلام)[23] .

(91)

النذر لغير الله ليس مشروعًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (لا وفاء

لنذر في معصية الله) [24] .

(92)

تعليق بعض الأشياء على الأولاد وغيرهم لدفع النظرة، أو استكتاب

النسخ لأجل محبة الأزواج لزوجاتهم - من أمور الشرك، نعوذ بالله. لقوله صلى الله

عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)[25] ليتنبه الغافلون المبذرون.

(93)

نهى النبي صلى الله عليه وسلم لمن ربط القلب بالمشعوذين وقال:

(من تعلق شيئًا وكل له)[26] والنتيجة الحرمان.

(94)

نهى كذلك عن مراجعة العرافين الذين يبتزون أموال الناس بدعوى

الإخبار عن الغيب، قال: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم يقبل له صلاة

أربعين يومًا) [27] ولأن الله تعالى قال في كتابه الكريم آمرًا نبيه أن يبلغ الأمة:

{قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأنعام: 50) . فما قول خفاف العقول الذين يطلبون علم الغيب من العرافين

بعد ما جاء في هذه الآية الكريمة ما نرى من الصراحة؟

(95)

نهى صلى الله عليه وسلم عن التشاؤم من الاسم أو من صوت الطير

وعن الرمل، وَعَدَّ ذلك وثنية فقال:(العيافة والطير والطرق من الجبت)[28] .

(96)

وكذلك عَدَّ التطير شركًا فقال (الطيرة شرك)[29] .

(97)

كانوا لا يتشاءمون من طير الطائر ولا يعتمدون على أقوال الكهنة

والسحرة؛ لأنه أخرج من يفعل ذلك من الجمعية الإسلامية إذ قال: (ليس منا من

تطير ولا من تُطُيِّرُ له أو تكهن أو تُكُهِّنَ له أو تسحر أو سُحِرَ) [30]

(98)

الحسد والنميمة والكهانة كانت بمنزلة واحدة؛ لأنه جاء في الحديث

الشريف: (ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه)[31] أين من يعتبر؟

(99)

لا واسطة بين العبد والمعبود في دين أحمد، وكل فرد مسئول عن

عمله؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) أما

ما يعمله أو يتخذه بعض الجهلة من الوسطاء لله تعالى فهو مأخوذ من الأمم السابقة

وتقليد (للإغراء) من النصارى و (للبراهمة) عند الهنود القدماء، و (لمونيه)

عند الزردشتيين وللكاهن عند الكلدان. وما لهذا مكان في دين الإسلام.

(100)

إن الله غني عن أية واسطة بينه وبين عبده؛ لأنه قال في كتابه

الكريم: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) .

وأما بناء القبور الفخمة والمزينة واتخاذها ملجأ لقضاء الحاجات فهو ليس من

الإسلام في شيء. ولكنه تقليد للنصارى والهنود والإيرانيين كما سيجيء تفصيل

دخول هذه الخرافات في تعاليم الإسلام.

(101)

الغيبة كانت مستكرهة جدًّا؛ لأن الله قال: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم

بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} (الحجرات: 12) والأحاديث في

تحريمها كثيرة.

ليتنبه الأغنياء الذين يقضون أوقاتهم باغتياب الناس والسبحة في أيديهم.

(102)

لم يعتن الدين الإسلامي بشيء كما اعتنى بالعلم. وقد جاء في

الحديث: (طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة، وطلب العلم يومًا خير من صيام

ثلاثة أشهر) [32] وقال أيضًا: (العلم أفضل من العبادة، ومِلاك الدين الورع)[33]

و (فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة)[34] و (أفلح من رزق علمًا)[35]

(103)

الحرية الشخصية والاستقلال الذاتي من أهم قواعد الدين الحنيف

وحفظاً لكرامة الضرر جاء في القرآن الكريم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ

عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) .

فإن كان جل جلاله ينهى نبيه عن السيطرة، فهل يكون هناك دين يكفل

الحرية أزيد من دين الإسلام؟ وسنبحث في مقابلة الإسلام بغيره في هذه المسألة

بحثًا خاصًّا.

...

...

...

...

حسني عبد الهادي

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

رواه ابن منده في المعرفة والديلمي في مسند الفردوس بسند حسن.

(2)

الطبراني في الأوسط عن سعد بسند صحيح.

(3)

الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر.

(4)

أحمد والترمذي والحاكم عن عبد الله بن عمر بسند صحيح.

(5)

أحمد عن ابن مسعود بسند حسن.

(6)

أبو يعلى عن أنس بإسناد حسن.

(7)

الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عباس بإسناد صحيح.

(8)

البخاري في الأدب المفرد والترمذي بسند صحيح.

(9)

أحمد ومسلم من حديث أبي هريرة.

(10)

الطبراني في الكبير عن ابن عباس.

(11)

رواه الحارث من حديث ابن مسعود وصححه.

(12)

الطبراني والخطيب عن أم هانئ وابن ماجه بلفظ (اتخذي) .

(13)

أحمد ومسلم وأصحاب السنن - ما عدا أبا داود - عن ثوبان.

(14)

ابن عساكر عن أنس بسند صحيح.

(15)

أحمد والطبراني والحاكم عن رافع بن خديج والطبراني عن ابن عمر وهو حديث صحيح.

(16)

الحاكم في المستدرك بلفظ (تعوذوا بالله، وآخره: وأن تظلم أو تظلم) .

(17)

أبو داود والنسائي وابن ماجه.

(18)

البزار والطبراني والبيهقي عن ابن عباس وهو صحيح.

(19)

أبو داود في مراسيله عن علي بن الحسين مرسلاً.

(20)

الخطيب عن أنس بسند صحيح.

(21)

الحاكم عن اليسع بن المغيرة مرسلاً.

(22)

أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن ابن عباس بسند صحيح وليس سبب اللعن التبذير بل أن هذا العمل من العبادات الوثنية.

(23)

رواه أبو داود عن أنس.

(24)

أحمد عن جابر بسند حسن، والنذور للموتى منها ما هو من أعمال الشرك ولا فائدة في شيء من هذه النذور وإنما يستخرج بها من مال البخيل، كما ورد في حديث آخر.

(25)

أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن مسعود، وهو صحيح.

(26)

أحمد والترمذي والحاكم وحسَّنوه.

(27)

أحمد ومسلم عن بعض أمهات المؤمنين.

(28)

أبو داود عن قبيصة وهو صحيح.

(29)

أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن عن ابن مسعود.

(30)

الطبراني في الكبير عن عمران بن حصين وهو حسن.

(31)

رواه أيضًا عن عبد الله بن بسر.

(32)

الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس.

(33)

الخطيب وابن عبد البر في كتاب العلم.

(34)

الطبراني في الأوسط والحاكم عن حذيفة والثاني عن سعد وتتمته (وخير دينكم الورع) وهو صحيح.

(35)

البخاري في التاريخ والبيهقي في الشُّعب بلفظ (أفلح من رزق لُبًّا) أي عقلاً.

ص: 139

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أحوال العالم الإسلامي

مؤتمر الصلح

بين الترك وأوروبا في لوزان

عرف الترك كيف يعاملون أوروبا في هذا المؤتمر معاملة الأمثال، ويدلون

إدلال المنتصر في القتال، وعرف مَن لم يكن يعرف من العالم أن أوروبا المادية لا

تحترم إلا القوة، ولا تذل إلا للقوة، ولا تعترف بحق غير القوة، وقد جلبت الدول

الكبرى إلى لوزان أممًا كثيرة من الشرق والغرب جعلتها عونًا لها على الترك،

فالأرمن طلبوا وطنًا قوميًّا في بلاد الأناضول، كالوطن الذي تؤسسه إنجلترا لليهود

في فلسطين من بلاد العرب، وشرذمة من بقايا الآشوريين والكلدانيين يطلبون وطنًا

قوميًّا في العراق، وأوروبا هي التي تؤيد هؤلاء وأولئك - لأنهم نصارى - بالمساومة

بينهم، ونصارى الشرق مازالوا شر آلة في يد دول الاستعمار المادية تستعملها

للتفريق بين سكان البلاد التي تطمع فيها، تُلقي بينهم وبين الأكثرين من أبناء وطنهم

العداوة والبغضاء باسم المسيحية التي تأمر بمحبة الأعداء (! !) وتُمَنِّيهم بالسعادة

والملك إذا خانوا أوطانهم في خدمتها، وهم أهون عليها من نعالها، ودماؤهم

أرخص لديها من غُسَالة أرجلها، وإلا فليؤسسوا الوطن القومي الذي وعدوا الأرمن

ومَنُّوهم به حتى حملوهم بالتغرير والتضليل على خيانة دولتهم العثمانية التي كانوا

أنعم وأعز فيها من جميع شعوبها حتى اضطرت إلى البطش بهم، عرف العالم كله

كُنْه مسيحية دول الاستعمار وغيرتها على المسيحيين بعد تبرؤهم من الأرمن كما

تبرأ الشيطان ممن أغراه بالكفر. وكان القبط أعقل نصارى الشرق فاتفقوا مع

المسلمين ولم يقعوا في الفخ الذي كان يُرَاد به تضحيتهم- فمتى يعقل من يَدَّعُونَ

أنهم أذكى البشر وأحذقهم وأدهاهم ويفيقون من سكر تعصبهم؟

كان الوفد التركي في لوزان أدهى الوفود وأحزمها، فما زال يخضخض وفود

الدول العظمى ويمخضها حتى لم يترك لاتحادها عليه مع البلقان قيمة واضطرها

إلى تساهل لم يسبق له نظير في معاملتها للترك في المؤتمرات السابقة منذ عُدُّوا

دولة أوروبية، وداس في لوزان كل ما كان من عظمة هذه الدول وجبروتها

وكبريائها في فرسايل، وسيفر، وسان ريمو ثم إنه لم يقبل المعاهدة التي حررت،

وقيل: إنها منتهى ما يمكن من التساهل والسخاء الحاتمي مع الترك، بل حملها

إلى المجلس الوطني في أنقرة ليرى رأيه فيها، وقد غلب الدهاء البريطاني الذكاء

الفرنسي في هذا المؤتمر فتحول الترك بعده عن فرنسا وتقربوا من بريطانيا،

وطفقت جرائدهم- وقد سكتت عن الطعن في الإنجليز- تطعن في فرنسا وتعدها

أكبر خصومهم فجعلت تبجح فرنسا بصداقة الإسلام مدة سنتين هباء منثورًا.

الوفود العربية في المؤتمر

كان للجنة المؤتمر السوري الفلسطيني وفد في جنيف عند اجتماع جمعية الأمم

فيها ثم انتقل إلى جنوى عند انعقاد المؤتمر الاقتصادي فيها- فكان هذا الوفد أسبق

الوفود القومية غير الدولية إلى لوزان عند الشروع في عقد مؤتمر الصلح فيه،

وكان رئيس هذا الوفد الأمير شكيب أرسلان وهو لحسن الحظ صديق للترك قديم

يعرفه كبراؤهم وخواصهم، ثم ذهب وفد من فلسطين واتحد بهذا الوفد، وذهب

وفدان من مصر واتحدا هنالك أيضًا. واجتهد السوريون والمصريون في استمالة

الترك ومطالبة وفدهم بالاعتراف باستقلال القطرين وسائر البلاد العربية عملاً

بالميثاق الوطني التركي. وكان الغرض أن يقترح جعل ذلك في معاهدة الصلح،

وبأن يتوسل إلى مؤتمر الصلح بقبول عرض مطالبهما له رسميًّا فلم ينجحا في هذا

ولا ذاك. وكل ما كان أن عصمت باشا رئيس الوفد التركي صرَّح بالاعتراف بأن

الترك قد تركوا لمصر والولايات العربية العثمانية أمر تقرير مصيرها واستقلالها

وكانت فائدة ذلك أمام الدولتين المختلفتين لهذه البلاد أنهما تحولتا عن طمعهما بأن

ينص في معاهدة الصلح على تقرير الحالة الحاضرة في مصر والانتداب في سوريا

وفلسطين وقنعتا بأن تحدد بلاد الدولة التركية تحديدًا يخرج منها سوريا والعراق،

بله إفريقيا العثمانية، وفائدة هذا سلبية محضة.

وهاهنا وقع الخلاف في ولاية الموصل فالترك يعدونها من بلادهم التي

حددوها في الميثاق الوطني، وقد ناقشهم الوفد البريطاني في ذلك باسم دولته

الوصية (المنتدبة) على العراق وأقرَّها على ذلك الملك فيصل ووالده الملك حسين

وإنما جعلتهما ملكين لمثل هذا التأييد الذي هو لازم الحماية التابعية.

هذا وإن كلاًّ منهما قد أرسل مندوبًا إلى لندن ولوزان، فكانا في لوزان تحت

تصرف لورد كرزون قولاً وعملاً، ولما اعترف عصمت باشا باستقلال البلاد

العربية، وذكر منها الحجاز بسعي الأمير شكيب أرسلان، بادر مندوب الملك

حسين بتطيير النبأ إلى مولاه بالبرق ليوهمه أن هذا كان بعض ثمرات سعيه.

ثم بلغ شركة روتر أن عصمت باشا ذكر في ضمن اعترافه أن الملك حسينًا

رئيسُ الأمة العربية وأكبر زعمائها الممثل لها، فطيرت هذه الفرية في الأقطار؛

لتكون توطئة وتمهيدًا لتنفيذ المشروع الذي تعده وزارة المستعمرات البريطانية للبلاد

العربية. وإن عقل عصمت باشا ليربأ به أن يفتات على الأمة العربية بالصدق

فكيف يفْتَات بالكذب.

كيد السياسة البريطانية للبلاد العربية

لم تنجح وزارة المستعمرات البريطانية النجاح التام بإقناع دافعي الضرائب

من البريطانيين وممثليهم في مجلس النواب بأن نَصْبَهم الأمير فيصلاً ملكًا على

العراق والأمير عبد الله على شرق الأردن - يضمن للدولة البريطانية استعمار

فلسطين والعراق بدون نفقة كثيرة ترهق دافعي الضرائب عسرًا، ويؤسس لدولتهم

إمبراطورية عربية جديدة تفيض على الخزينة تبرًا، وعلى المستعمر السكسوني

عسلاً وخمرًا، ورأت هذه الوزارة في عهد المحافظين- الذين هم أشد قومهم جشعًا

وحرصًا على الاستعمار، وضراوة باستعباد الأحرار- أن الترك مُصِرُّونَ على

انتزاع الموصل من ملك العراق، وأن استيلائهم على الموصل يُمَكِّنُهم من الاستيلاء

على بغداد في كل وقت بكل سهولة، وأن عرب العراق كغيرهم يفضلو الترك على

البريطانيين بعد أن بلوهم وعرفوا إفكهم وخداعهم، وذاقوا مرارة جبروتهم وظلمهم،

فلا يمكن أن يحاربوا الترك معهم أو تحت قيادتهم لأجل أن تكون العراق مستعمرة

هندية لهم. ومن البديهي أن بريطانيا لا تستطيع قتال الترك في العراق وحدها،

وضلع العرب معهم عليها، ولو تصدت لذلك لقامت عليها الأحزاب البريطانية

بأسرها، وخشي أن يمتنعوا من بذل مئات الملايين من الذهب والرجال، في هذه

المقامرة التي تجر وراءها الخزي والنكال، وشدة وطأة المقاطعة في الهند، وشبوب

نيران الثورة في فلسطين ومصر، ورأت هذه الوزارة أيضًا أن بعض الجرائد

والأحزاب وكبار الساسة من الإنجليز يطالبون الحكومة بالجلاء عن العراق

وفلسطين من قبل الاستهداف لهذه الأخطار، ورأت أن جعل فلسطين مملكة يهودية

فاصلة بين مصر وسائر بلاد العرب ليست من الهنات والهينات، وأنها قد صارت

من المسائل الإسلامية العامة. فالهند قد وضعت استقلال فلسطين وسائر البلاد

العربية في برنامجها، وإمام اليمن على عزلته قد احتج بها عليها، وكاد أهل اليمن

يُجْلُونَ اليهود من بلادهم لأجلها، حتى إن حكومة عدن البريطانية أجابت اليمن بأن

مسألة احتلال فلسطين عرضية مؤقتة وأنهم سيتركونها لأهلها بعد بضع سنين ريثما

تستقر الأحوال! وهذا الجواب من أسلوب الحكيم فإنهم إنما يعنون باستقرار

الأحوال حل مشكلات الكون الكبرى وتوطيد سلطانهم حيث وضعوا أقدامهم.

رأت وزارة المستعمرات كل هذا وأكثر منه مما نعلم ومما لا نعلم فرجَّحت

إحداث تغيير جديد في شكل إدارة البلاد العربية وتجديد الضغائن والبغضاء بين

العرب والترك قطعًا لطريق الجامعة الإسلامية، قبل أن يستيقظ جمهور الشعب

العربي من رقاده، ويثوب الجمهور المخدوع منه إلى رشاده، ويدوس الزعماء

المتجرين به وببلاده، وهي مراقبة لما حدث من تحول العراق عن فيصل وعدم

انخداعه بالمعاهدة، وفلسطين عن عبد الله، وأنه لما عاد من زيارتهم في أوروبا لم

يزره ولا هنأه من أهلها أحد، على ما بثه - ويبثه - أُجَرَاؤُهُ من الدعاية

(البوربغندة) في شأن رحلته وفوائدها المنتظرة (؟) كما أنها عالمة بما كان من

فشل حسين في محاولة استمالة الإمامين يحيى والإدريسي، وليس لهم أحد

يعتمدون عليه من كبراء الأمة العربية غير أهل هذا البيت الذي هو رئيسه - لا

رئيس العرب- يطالبها باسم العرب - لا باسمه - بإنجاز ما وعدته من تأليف مملكة

عربية بقوتها وتحت وصايتها وحمايتها، بشرط أن يكون هو رئيسها، تمتد من

البحر الأحمر إلى حدود الأناضول تحتل هي ولاية البصرة منها لسائر الولايات

المستشارين والموظفين الذين يديرون شؤونها.

* * *

مشروع الشكل الجديد لاستعمار البلاد العربية

فالمشروع الذي تدرسه وزارة المستعمرات مبنيٌّ على التوفيق بين مقاصد

معاهدة سايكس بيكو ووعود (السر هنري مكماهون) للملك حسين في أثناء ما دار

بينهما من المكاتبات التي عرفها قراء المنار في المجلد السابق منه (م 13) . ولما

كان هذا التوفيق لا يتم إلا بتوقيف فرنسا عليه، وإقناعها بجعل داخلية سورية داخلة

في المملكة العربية الشريفية، والقناعة المؤقتة بجعلها منطقة نفوذ فرنسية، وحصر

الانتداب المباشر المؤيد بالاحتلال العسكري في المنطقة الساحلية كما تقنع إنجلترا

بجعل العراق منطقة نفوذ بريطانية وحصر الحكم الاحتلالي المباشر في ولاية

البصرة - لما كان الأمر كذلك كاشفت وزارة الخارجية البريطانية حكومة

الجمهورية الفرنسية بعزمها معتمدة في إقناعها على التخويف من استيلاء الترك

على سوريا والعراق والقيام بحركة الجامعة الإسلامية التي يمتد خطرها إلى شمال

أفريقيا الفرنسي فيفسده على ولية أمره كما يفسد الهند ومصر على الدولة البريطانية

- وكانوا قد مهدوا السبيل لذلك بتدريب الأمير عبد الله على استمالة فرنسا إلى

شخصه قبل سفره إلى لندن وفي أثناء وجوده في أوروبا.

ومن حججهم التي قويت بعد إعراض الترك عن فرنسا في أواخر العهد بمؤتمر

لوزان أن أسرة الملك حسين هي الأسرة الوحيدة التي أشربت دون غيرها من البيوتات

العربية بغض الترك والحقد عليهم. وكان الغرض من هذا السعي أن يجعل الأمير

عبد الله ملكًا على شرقي الأردن وولاية دمشق وحلب ما عدا سواحل حلب وما ألحق

من ولاية دمشق بلبنان الكبير، وبذلك يسهل حمل أهل هذه البلاد وأهل العراق على

مبايعة الملك حسين بالخلافة، فينشق العالم الإسلامي فيها وتستحكم العداوة بين الترك

والعرب ويتيسر للدولتين ضرب أحدهما بالآخر عند الحاجة إلى ذلك، وتدوم لهما

السيطرة على البلاد العربية.

وقد درست وزارة خارجية فرنسا هذا المشروع فترجح عندها عدم الثقة

بهؤلاء الحجازيين صنائع الإنجليز الذين لا تأمن فرنسا إغراءهم بإخراجها من

سوريا عند سنوح الفرصة وإرادة الإنجليز ذلك، وقيل: إنها كانت تدرس معه

مشروعًا آخر مضادًّا له، وهو جعل هذه البلاد تحت سيادة الترك إذا رضوا بأن

تكون مناطق نفوذ لهم وللإنجليز وبذلك يقضون على النهضة العربية ويكتفون

أخطارها ولكنها لما تقرر هذا ولا ذاك.

ولما شعر الناس في سوريا بهذه المفاوضات والمباحث، انبرى أصحاب

الأطماع يتزلفون إلى حيث يتخذ كل منهم له يدًا يستغلها عند تنفيذ المشروع المنتظر

ولهجت بذلك جرائد سوريا ومصر منذ بضعة أشهر فكانت شقشقة هدرت وتلتها

أخرى ثم قرتا في سوريا وكذبتهما الحكومة المحتلة، وإن لم يصدق كل الناس

تكذيبها في وقتها.

وأما الدولة البريطانية فلا تزال تدرس المشروع وقد توسل أعوانها في العراق

بطلب الترك للموصل إلى تنفير العراقيين منهم من حيث أظهرت هي الميل إلى

إنجاز الوعد باستقلالهم والاستعداد للجلاء عن بغداد لولا أن قام الملك فيصل

يستغيث بها أن لا تفعل وشهد وفده لديهم أو صنيعتهم عنده (جعفر باشا العسكري)

بأن خروجهم من العراق نكبة ما بعدها نكبة (!) وهل هذه الشهادة إلا شهادة عليه

وعلى مولاه الملك فيصل بما يفهمه كل أحد (؟) وهل يخفى على الأكمه أن هذه

الدولة إذا لم تخرج في مثل هذه الفرصة من العراق فلن تخرج منه بعد ذهابها إلا

بانقلاب جديد في العلم تزلزل به الأرض زلزالها، وتخرج أثقالها، ويتقوض

صرح الإمبراطورية البريطانية كلها. ولن يكون هذا بعمل العراق بل لن يكون

للعراق عمل في الوجود بعد استقرار السيطرة البريطانية عليه إلا زرع القطن

للمعامل الإنجليزية واستخراج البترول لها وما أشبه ذلك، وماذا يهم فيصل وآل

فيصل إذا شقي العراق واستعبد وهو متمتع فيه بلقب الملك وأبهته ونعمته وفخفخته؟

ألم يكن يسعى لمثل ذلك في سوريا وكان كل الخلاف بينه وبين الوطنيين عليه؟

بلى وقد ظهروا عليه حين أعلنوا الاستقلال واضطروا إلى اكتفاء شر سعيه للوصاية

الأجنبية بجعله ملكًا عليهم حتى إذا ما ألح عليه الجنرال غورو بإعلان الوصاية

الفرنسية أجاب بالقبول، قبل أن يوجه إليه الجنرال الإنذار المعلوم، وهذا أمر لم

نعلمه إلا من عهد قريب. ولذلك لا نستبعد الآن أن يكون الإنذار عن تواطؤ بينهما؛

ليتخذه فيصل ذريعة إلى إقناع المؤتمر السوري العام وسائر زعماء البلاد بقبول

الوصاية التي بذل جهده قبل ذلك في إقناعهم بها فأبوا- ويؤيد هذا انتظاره الاحتلال

الفرنسي في ضواحي دمشق حتى إذا ما تم عاد إلى قصره؛ ليقوم بأمر الملك تحت

وصايته وظله (؟ ؟) ولو رضي الفرنسيس أن يبقى فيصل في دمشق لرضي هو

بمحاولة إسلاس للبلاد لهم بدون نفقة تذكر كما فعل أخوه للإنجليز في شرق الأردن،

ولكان هذا شرًّا للبلاد لا خيرًا لها، ولو أن الإنجليز جعلوه هذا ملكًا على فلسطين

كلها لكان تنفيذ الوصاية والوطن القومي لليهود أقرب مثالاً وأقل نفقة، ولكن الله

نجَّى فلسطين من هذه النكبة؛ لأنه أراد أن ينفخ فيها روح القومية والوحدة

الصحيحة، فلولا هذا الاتحاد بين عرب فلسطين المسلمين والمسيحيين لحكمنا على

هذه البلاد حكمًا محزنًا مخزيًّا، وقد كان من فوائد هذا الاتحاد واليقظة أن علم الشعب

الفلسطيني كله ما كان خفيًا إلا على أفراد منه وهو أن الأمير عبد الله الحجازي

صنيعة الإنجليز كأبيه وأنهم موطنون أنفسهم على أن يكونوا ملوكًا في دائرة

الإمبراطورية البريطانية المرنة كسلطان زنجبار ونظام حيدر آباد وراجا كشمير

وأمثالهم، أما وقد عرفت حقيقتهم فقد صاروا عاجزين (عن تسليم البضاعة) .

نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبأنه لا يمكن أن يتفق الإنجليز مع هؤلاء

الملوك الحجازيين إلا على استعمار البلاد العربية واستعمار الشعب العربي، وأن

كل تغيير يجددانه في البلاد العربية تجارب بريطانية كالتجارب التي نراها في

مصر، فيجب على الأمة العربية أن لا تثق بشيء يجري بين الفريقين، عملاً

بالحديث الصحيح: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) .

_________

ص: 145

الكاتب: مراسل جريدة الأخبار المصرية في الأستانة

‌نبأ عن النهضة الأفغانية

وكونها دينية مدنية

ألم مراسل جريدة الأخبار المصرية في الآستانة بمدينة (رومية) عاصمة

الدولة الإيطالية في طريقه إلى (لوزان) وزار فيها السردار عظيم الله خان سفير

الدولة الأفغانية فيها فوجده في دار السفارة يقرأ القرآن العظيم، وبعد أن تعارفا دار

بينهما الحديث الآتي وكان المراسل سائلاً والسفير مجيبًا.

(الأفغان وإيطاليا)

س - هل أسست الحكومة الإيطالية سفارة لها في (كابل) مقابل

السفارة الأفغانية التي تأسست في (روما) ؟

ج - أجل لقد أسست الحكومة الإيطالية سفارة لها في (كابل) وعينت

الماركيز (بيترنو) سفيرًا لها لدى جلالة أمير الأفغان. وقد تم الاتفاق بين شركة

أفغانية وشركة إيطالية على مد خط أوتوموبيل بين (كابل) و (بشاور) إلى مدة

12 سنة بحيث يكون 60 في المائة من رأس المال إيطاليًّا و 40 في المائة أفغانيًّا.

س - هل عقدت أو تتفاوض الحكومة الأفغانية لعقد معاهدات أو اتفاقات

سياسية أو اقتصادية مع إيطاليا؟

ج - إنني لم أصل إلى عاصمة إيطاليا إلا منذ أيام قلائل، بيد أننا سنسعى

لعقد معاهدات تجارية مع إيطاليا؛ لأن لدينا مواد كثيرة يمكننا تصديرها إلى البلاد

الإيطالية، ومن هذه المواد الصوف وجلود استراخان، والسجاجيد والفواكه الجافة

وبعض المعادن كالذهب والفضة والحديد و (الزنك) والنحاس والكبريت وبعض

الأحجار الكريمة كالزمرد والياقوت والماس وغير ذلك.

وهنا دعا دولة السفير تابعه وأمره أن يحضر نماذج المعادن الأفغانية فأطاع

التابع، وأحضر عددًا من العلب فتحها السفير وألقى ما فيها على جريدة فرشها على

المكتب وأرانا أنواع الحديد والرصاص والزنك والنحاس والذهب والفضة.

وقد كان من بينها ما هو خام وما هو نقي. ثم إنه فتح العلب التي تحتوي

على الأحجار الكريمة وأرانا أنواع الياقوت والزمرد والماس والزبرجد مقدمًا لنا

بعض التفصيلات عن المناجم التي تحتوي هذه المعادن، قائلاً: إن من بينها ما لا

يستطيع العالم بأسره أن يستنفذه. وقد قضينا نحو نصف ساعة في فحص هذه

المعادن والأحجار ولما انتهينا من فحصها عدنا إلى حديثنا فسألنا دولته:

(السياسة الأفغانية في الغرب والشرق)

س - ما أساس السياسة الغربية التي تتبعها الحكومة الأفغانية؟

ج - الصلح والمسالمة. لقد كانت بلاد الأفغان موصدة الأبواب إلى حين

إعلان استقلالها، والآن تتعارف الأفغان مع جميع الدول وستزداد بهم تعرفًا كل يوم.

لا تريد الأفغان أن تنازع أحدًا وإنما تريد ترقية بلادها.

وقد كان المعنى الذي استخرجناه من أقوال دولة السفير أن أساس السياسة

الغربية التي تتبعها الأفغان هي المسالمة الرامية إلى الاستفادة من الغرب في استثمار

المنابع الطبيعية الأفغانية وإعلاء شأن البلاد الأفغانية عرفانًا واقتصادًا.

س- إذن ما قواعد السياسة الشرقية التي تتبعها الحكومة الأفغانية؟

ج- الإخاء ! وقد كان من أحدث مظاهر هذا الإخاء تلك البرقية التي أرسلها

جلالة أمير الأفغان إلى ملك إنجلترا طالبًا فيها معاملة تركيا في دائرة الحق والعدل.

وقد أرسلت الحكومة الأفغانية برقيات في هذا المعنى لحكومتي فرنسا وإيطاليا.

س- ما رأيكم في مؤتمر لوزان؟

ج- إننا لا ننتظر إلا صلحًا عادلاً مرضيًا.

س- فإذا لم تقبل الدول تحقيق الميثاق الوطني التركي واضطرت تركيا إلى

مواصلة جهادها، فماذا يكون موقف البلاد الأفغانية نحو تركيا؟

ج- موقف البلاد الأفغانية إزاء هذه الحالة مُصَرَّحٌ به في المعاهدة التركية

الأفغانية.

س- لماذا لا تتأسس العلاقات السياسية بين مصر والأفغان؟

ج- نحن نريد أن نؤسس مع مصر كل علاقة. وقد مر (الجناب الأعلى

محمود طرزي بك) سفير الدولة الأفغانية في باريس بمصر خلال سيره إلى مقر

وظيفته وقابل الكثيرين من رجال مصر فأكرموا وفادته ولبث هنالك مدة.

وإذا قبلت مصر فنحن مستعدون في الحال لتأسيس جميع العلاقات السياسية.

س - كيف شعور الأفغانيين نحو إخوانهم المصريين؟

ج - لا فرق بين الأتراك والمصريين في نظرنا، نحب كليهما حبًّا جمًّا.

ونحن نتلقى أخبار مصر دائمًا ونتتبعها بكل شوق. وبُغيتنا تأسيس جميع

الروابط مع جميع الشعوب الإسلامية وعلى الأخص الشعب المصري.

(مبادئ التربية في بلاد الأفغان)

س- اسمح لي يا دولة السفير أن أسألكم بعض أسئلة ليست سياسية.

هل تتكرمون عليَّ ببيان مبادئ التربية التي تقبلتموها لتربية أبنائكم؟

ج- هي مبادئ التربية الإسلامية الصحيحة. وهل هناك مبادئ أشرف وأعلى

من مبادئ التربية الإسلامية؟ إن الدين الإسلامي دين الفطرة، دين الفضيلة، دين

العزة، دين المدنية، دين الحق والحقيقة. فكيف لا تكون مبادئه أساس التربية في

البلاد الإسلامية؟ نحن على أتم يقين أن كل نجاح وكل فلاح نفوز به في معترك

الحياة، إنما نفوز به بفضل اعتصامنا بمبادئ ديننا المبين. فإذا ما أرخينا حبل

الاعتصام أخذنا في التقهقر، والانحطاط والاضمحلال، تلك حياة المسلمين أعدل

شاهد على أنهم قد ارتفع شأنهم كما رفعوا شأن العالم معهم لما كانوا متعصمين بالدين

الإسلامي. لكنهم لما أهملوا دينهم اجتمعت عليهم المصائب ولم يستطيعوا مقاومتها.

فكيف يكون الأمر على هذا المنوال ولا نتخذ مبادئ التربية الإسلامية أساسًا لتربيتنا.

أزيد على ذلك أننا نهتم في بلادنا بترقية معارفنا على هذا الأساس، أكثر من

اهتمامنا بأي شيء. والجميع من جلالة الأمير إلى أصغر صغير يبذلون كل جهد

لترقية المعارف.

ويعقب ذلك في الأهمية: الحربية ثم الداخلية. وقد أرسلنا إلى أوروبا بأعداد

من الطلاب كما تعلمون، ونحن نبذل قصارى الجهد لأن يكونوا متمسكين بمبادئ

الدين الحنيف معتصمين بحبل الله، حتى يتمكنوا من خدمة شعبهم أعظم الخدم.

(التشريع والآداب في الأفغان)

س- ما منابع التشريع في بلاد الأفغان؟

ج- منبع التشريع هو الشريعة الغراء، نستمد جميع قوانيننا منها. وكلنا

يراعي هذه القوانين. وليس جلالة الأمير غير مسئول. بل هو مسئول ويُدْعَى

إلى المحاكمة إذا حدث خلاف بينه وبين أحد رعاياه. فالكل تحت حكم القانون

المستمَد من الشريعة السمحة بلا استثناء. حكومتنا حكومة شرعية، قانونها

الأساسي أحكام الشرع.

س- هل تطبق المبادئ الاجتماعية في الحياة الأفغانية؟

ج- تُطَبَّقُ تمام التطبيق. ومن آثار ذلك أن الأشربة الكحولية لا تدخل في

بلادنا أصلاً، أجل، لا تدخل الآفات العصرية في بلادنا. وسياجنا الحصين الذي

يمنع دخولها في بلادنا هو إيماننا قبل كل شيء، ولن تجد امرأة عاهرة واحدة بين

نساء الأفغان. بلادنا والحمد لله طاهرة مطهرة، بلاد إسلامية بكل معنى الكلمة،

وكل من يجرؤ على خرق هذه المبادئ يلاقي عقابه الصارم في الحال.

(جلالة أمير الأفغان)

س- نسمع عن جلالة أمير الأفغان كثيرًا من المناقب التي تتلقاها بكل احترام

وفخار. فهل لدولتكم أن تزيدونا بيانًا؟

ج- أشرح لكم كيف يقضي جلالة الأمير يومه: ينتبه جلالة الأمير من نومه

مبكرًا ويكون على رأس عمله قبل نُظَّارِهِ وقبل موظفي حكومته. ويشتغل مع نظاره

إلى الظهر حيث يتناول غذاءه معهم ثم يعود بعد برهة إلى العمل حتى المساء،

وهنالك يتريض نحو ساعتين بركوب الخيل أو المشي أو غير ذلك، ثم يتناول

عشاءه ويعود إلى عمله حتى بعد منتصف الليل. ولهذا يلوح على جلالته آثار

التعب دائمًا. هكذا يقضي جلالته أيام أسبوعه ولا يستريح إلا أيام الجمعة. لا

يتناول جلالته أي مرتب من خزانة الشعب بل يعيش من دخله الخاص معيشة

بسيطة لا تفترق عن معيشة أفقر رعاياه. ولا شك أن مثل هذه الحياة تكون خالية

من جميع مظاهر الأبهة والعظمة الخاوية. وجلالته رجل عمل لا رجل مظاهر.

وقد كان أحسن أسوة لأمته للسعي والكد في سبيل ترقية البلاد ا. هـ الحديث.

قال المراسل: الحق أن دولة عظيم الله خان رجل كبير من كل وجهة. فهو -

عدا كونه رجل عمل ورجل دولة - رجل إسلام يشعر بعزة دينه أسمى شعور؛

ولذلك تراه في عاصمة إيطاليا يرتدي ملابسه التي يرتديها في عاصمة دولته ولا

يستبدل بطربوشه قبعة، أي إنه رجل يمثل دينه ودولته على السواء اهـ.

(المنار)

قد نشرت الصحف العامة مقالات أخرى عن الأفغان وأميرهم متعددة

المصادر متفقة المعنى مصدقة لما قلناه في هذه الأمة مرارًا آخرها ما في بحث

الخلافة المستفيض وهو أن هذا الشعب هو الجامع بين صلابة الدين التي في بلاد نجد

وبين الأخذ بأساليب المدنية والعمران السالمة من أخطار ومفاسد المدنية المادية

الإفرنجية السارية في مصر وبلاد الترك وأمثالها. ولا نرى في كلام السفير الأفغاني

في إيطاليا مبالغة إلا في قوله: (إن معيشة الأمير لا تفترق عن معيشة أفقر

رعاياه) .

_________

ص: 152

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(الفطرة) جريدة عربية أسبوعية تصدر في (بوينس أيرس) عاصمة

(الأرجنتين) صاحبها الكاتب الفاضل العاقل السيّ محمود محمد سلوم، وغايتها:

إرشاد قرائها إلى الوحدة والمدنية الراقية بسنن الله تعالى في الفطرة، ويدخل

فيها هداية دين الفطرة (الإسلام) ولذلك نرى مقالاتها الإرشادية متوجة بآيات

الذكر الحكيم وممزوجة بها أيضًا على المنهاج الذي أشرعه أستاذانا حكيمَا الإسلام

وموقظَا الشرق في العروة الوثقى وسلكنا جادته بالمنار، وقد خلفت في ذلك جريدة

الأرجنتين التي ساءنا احتجابها. وأهم ما ننتقده منها ما انتقدنا من تلك وهو كثرة

الغلط في الآيات القرآنية والأحاديث، وتلافيه أن يراجع الكاتب أو المصحح تلك

الآيات في المصحف الشريف قبل طبعها، وأن يستعين على ذلك بمفاتحه ككتاب

(فتح الرحمن) أو كتاب (مفتاح كنوز القرآن) ويراجع الأحاديث في معاجمها

وأشهرها كتاب الجامع الصغير وكنوز الحقائق المطبوع على حواشيه.

ونضرب لذلك مثلاً مقالاً [1] عقدته الجريدة في عددها 12 بعنوان: (انصر

أخاك ظالمًا أو مظلومًا) لإنكار كون هذه الجملة حديثًا نبويًّا؛ صيانة لمقام النبوة

المعصوم من الأمر بنصر الظالم. وقد أخطأ كاتب المقالة في إنكار الحديث كما

أخطأ في أكثر الآيات التي أوردها في المقالة.

بنى إنكاره للحديث على قاعدة صحيحة وهي أن من علامة الحديث الموضوع

مخالفته للقطعي كالقرآن وغيره من أصول الدين وفروعه القطعية، ومنها تحريم

الظلم وإزالته لا إقراره ومساعدة أهله عليه، ولكن تحكيم هذه القاعدة في الحديث

كتحكيمها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} (النساء:

43) بإنكار أن يكون من القرآن للقطع بأن القرآن يأمر بالصلاة، ولا يمكن الجمع

بين الأمر بالشيء والنهي عنه. ومن علم أن هذا النهي مقيد بقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ

سُكَارَى} (النساء: 43) لا ينكره. كما أن العالم بأن النبي صلى الله عليه وسلم

فسَّر في هذا الحديث نصر الظالم بحجزه عن الظلم، كما رواه أحمد والبخاري

والترمذي عن أنس، وبرده عن ظلمه، كما رواه الدارمي وابن عساكر عن جابر

ابن عبد الله - لا ينكره، وقد ظن الكاتب أن هذا تأويل من بعض العلماء، والصواب

أنه تتمة الحديث، وفي رواية عن عائشة: (إن كان مظلومًا فخذ له بحقه. وإن

كان ظالمًا فخذ له من نفسه) .

ومن الغلط في الآيات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ

فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) إلخ جعل فيها (إذ) مكان (إن) ومنها قوله تعالى:

{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا

تُنصَرُونَ} (هود: 113) حذف من وسطها {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} (هود: 113) ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ

شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) زاد فيها كلمة

(بالحق) ومنها قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ

كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (التوبة: 6) . أورده هكذا: (وإن استجارك أحد من

المشركين فأجره حتى يبلغ مأمنه.

وفيها من الخطأ في الحديث - متنه وتصحيحه - قول الكاتب: ورد في الحديث

الصحيح قول الرسول الأمين: (خذوا كلامي فاعرضوه على القرآن فما كان منه

وفقًا فهو شرع والا فهو رد) وهو مروي بلفظ آخر وغير صحيح السند ومعارض

بالصحاح، قال عبد الرحمن بن مهدي أحد أقران الإمام مالك: الزنادقة والخوارج

وضعوا حديث: (ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا

قلته وإن خالف فلم أقله) وقال الشافعي: ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء

صغير ولا كبير. وزعم بعضهم أنهم عرضوه على مثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ

الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) فخالفه. والصواب أن ليس

كل ما روي من الحديث موافقًا لكتاب الله فهو صحيح، فمن الأحاديث الموافقة للقرآن

ما لا يصح سنده بل ما هو موضوع. وأما ما خالف القرآن مخالفة صحيحة

فيستحيل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله.

وقد علمنا أن صاحب هذه الجريدة من طائفة العلويين المعروفين بالنُّصَيْرِيَّة

فَسَرَّنَا ذلك أضعاف ما كان يسرنا لو كان من طائفة أخرى؛ لأن هذه الطائفة أشد

الفرق الإسلامية تقصيرًا في العلم ولم أر أحدًا من أفرادها في بلادنا متعلمًا بصيرًا

بأمور العصر إلا شابين أحدهما كان عضوًا معنا في المؤتمر السوري العام بدمشق

والثاني أديب شاعر له على حداثة سنه ذوق في الشعر وأسلوب جيد سيكون بهما

من أشهر شعراء الوطن، وأرجو أن يكون فيها كثيرون خيرًا منهما. وإنني أرى

في هذه الجريدة أن بعض الجالية في الأرجنتين يهدونها إلى بعض القارئين في

الوطن فعسى أن تكون خير وسيلة إلى إصلاح حال الطائفة وترغيبها في العلم

والوحدة الملية من جهة والوطنية من جهة أخرى. فإن الدسائس الأجنبية تدب

عقاربها في القوم والوساوس الشيطانية تفعل في أذهانها فعلها، تقول لهم: إنكم لستم

مسلمين بل أنتم أصحاب دين مستقل يجب أن تكون لكم دولة مستقلة

ولكن

قصارى هذا الاستقلال التفريق والضعف الذي يذهب باستقلال الوطن كله.

وأما مسألة الدين الإسلامي ومكانهم منه فسيجليهما العلم لمن لا يعرفهما فتعلم

هذه البطون العربية العريقة أن مجوس الفرس هم الذين أسسوا الجمعيات الباطنية

للقضاء على مُلك العرب بتفريقهم في الدين الذي جمع كلمتهم وآتاهم ذلك المُلك

العظيم لأجل إنقاذ وطنهم وإعادة ملك كسرى ودين (زرادشت) وقد كانت دسائسهم

من أسباب إضعاف العرب وإذهاب ملكهم، ولكن الإسلام ظل هو الحاكم لبلاد

الأكاسرة إلى اليوم.

* * *

(محاضرات الفلسفة العامة وتاريخها والفلسفة العربية وعلم الأخلاق)

في الجامعة المصرية

قد طبع منذ عامين أو أكثر ما ألقاه الأستاذ (الكونت دي جلارزا) الأسباني من

هذه المحاضرات في الجامعة المصرية في ثلاثة أجزاء، جُمعت في كتاب واحد نافت

صفحاته على 250 وجعل ثمنه ثمانون قرشًا، فمن يقرأه من طلاب الفلسفة كان كأنه

واظب على تلك الدروس في تلك السنة، وكان هذا الكتاب مما ادخرت لأقرأه فأكتب

عنه بعد القراءة فحالت الضروريات دون ذلك بل ضاق الوقت عنها.

* * *

(أسرار المراهقة في الفتى)

وهي محاورات دارت بين أب طبيب وابنه، تبحث في شئون دور البلوغ في

الفتى، وفي أهمية وظائف أعضاء التناسل وكيفية الاحتفاظ بها سليمة ونصائح قيمة

عليها تتوقف صحة الأبدان ونضارة العمران، تأليف الدكتور شخاشيري الطبيب

والجراح في المستشفى الإنجليزي بمصر القديمة.

جرى العرف العام على عَدِّ كل ما يتعلق بشئون داعية التناسل من بدء الاستعداد

الطبيعي لها إلى غاية حصول ثمرتها من الأمور السرية التي يخل إظهارها والتحدث

عنها بالآداب، ويُرمى صاحبه بالمجون والخلاعة، فقلما يسمع الفتى كلمة من أهله أو

أصحابه عن معنى بلوغ الحلم إلا ما يتلقاه طالب علم الفقه الإسلامي من أحكام غسل

الجنابة، وبناء على هذا العرف سمي هذا الكتاب الذي بين مؤلفه موضوعه (بأسرار

المراهقة) وجرى فيه على تعريف المراهقين بما سيجدونه في أنفسهم من شئون هذا

الطور الجديد بأسلوب علمي طبي نزيه، ولكن تلك الآداب قد طوي بساطها في هذا

العصر عند أكثر أهل هذه البلاد وأمثالها فصار أعمق الأسرار فيها جهرًا، قلما يجهله

فتى أو فتاة إلا في بيوت قليلة. والكتاب يفيد هؤلاء وغيرهم؛ لأن الذين يعرفون

أسرار المراهقة والبلوغ يعرفونها من المُجَّان والفُسَّاق المقاربين لهم في السن أعني

أنهم يعرفون منها ما تضر معرفته، والكتاب يرشدهم إلى ما يتقون به هذا الضرر فلا

يستغنى عن مثله منهم أحد، وقد طبع على ورق جيد في 68 صفحة من القطع

الصغير وهو يطلب من مؤلفه ومن مكتبة المنار بمصر وثمنه خمسة قروش، وأجرة

البريد قرش واحد.

* * *

(القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد)

للإمام المجتهد القاضي محمد بن علي الشوكاني قال في أوله: (طلب مني

بعض المحققين من أهل العلم أن أجمع له بحثًا يشتمل على تحقيق الحق في التقليد

أجائز هو أم لا؟ على وجه لا يبقى بعده شك، ولا يقبل عنده تشكيك. ولما كان هذا

السائل من العلماء المبرزين كان جوابه على نمط علم المناظرة) وقد طبع هذا

الكتاب في العام الماضي فبلغت صفحاته زهاء الستين من قطع المنار، وصححه

وعلق عليه بعض الفوائد صديقنا الشيخ محمد منير السلفي من علماء الأزهر. ولكن

بقي فيه غلط كثير لعل سببه رداءة النسخة التي طبع عنها، وهذا لا يمنع الاستفادة

من الكتاب فنحث جميع المشتغلين بعلم الدين الصحيح بالنية الشرعية الصحيحة أن

يطالعوه، وسننقل نبذة منه في جزء آخر إن شاء الله تعالى، وثمن النسخة منه

ثلاثة قروش وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر.

_________

(1)

كُتب هذا التقريظ منذ أشهر عقب وصول العدد 12 من الجريدة.

ص: 157