الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الرابع والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ
وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (الإسراء: 111) .
نحمده بما حمد به نفسه، وأنى للعبد العاجز أن يحصي الثناء على ربه،
ونسأله الفضيلة والوسيلة، والدرجة العالية الرفيعة، والمقام المحمود الذي وعده
لصفوة خلقه وخاتم رسله، الذي بعثه من عرب مُضر للأبيض والأحمر،
والأسود والأصفر، ليصلح ما فسد من أمر البشر، ويزيل من بينهم فوارق التقاليد
والغِبَر، ويجعلهم أمة واحدة بعقيدة صحيحة مطهرة للعقل، وآداب عالية مزكية
للنفس، وعبادة خالصة مصفية للروح، ولغة فصيحة مرقية للشعور والعلم، وإلا
فبشريعة عادلة تساوي في أحكامها بين الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء،
والسوقة والملوك، لا تحابي رئيسًا على مرءوس، ولا صاحب منصب في دنيا أو
دين، أقامه حجة على جميع البشر، وجعل أمته شهداء على الأمم، وجعله هو
الشهيد على أمته، إذا انحرفت عن هدايته، أو قصرت في إقامة شريعته {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً
* وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ
أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (الأحزاب: 45-48)
وقد بَلَّغَ - بأبي هو وأمي - الدعوة وأقام الحجة وبيَّن المحجة، فكان
المثل الأعلى في الحق والعدل، والرحمة والفضل، عانده الجبارون المتكبرون،
واستجاب له الفقراء المستضعفون، فنصر الله الفقر على الغنى والثروة، والضعف
على الشدة والقوة، بل نصر غنى النفس على غنى المال، وقوة الحق على قوة
الباطل، وجعل الفوز لجهاد القرآن، على جهاد السيف والسنان، فانتظم عصره
في سلك دينه ما كان مبعثرًا من قبائل العرب، ودان لخلفائه من بعده أعظم شعوب
العجم، وعم النور جميع الأمم، فأحيا الإسلامُ العلومَ والفنون، وابتكر حضارة
طريفة لم تر مثلها عيون القرون، جمعت بين العلم والدين، وألفت بين لذة الجسد
والنفس، ولذة الروح والعقل، وأقامت ميزان العدل بين المختلفين في الدين
والجنس والصفات، وألغت ما كان من التفاضل والامتياز بين الناس في الأنساب
والطبقات، وحصرت الفضل في الإيمان والتقوى وعمل الصالحات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء: 174-175) {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56)
أما بعد، فإن المنار يُذَكِّر قراءه في فاتحة مجلده الرابع والعشرين، بمثل سُنته
في فواتح ما غبر من السنين من العبرة بشئون الاجتماع والعمران، وتنازع
عوامل الصلاح والفساد في الإنسان، وما يناسب ذلك من هداية القرآن حجة الله
البالغة بما فيه من آيات العلم والتبيان المناسبة لكل زمان ومكان، وصفة من هو كل
يوم في شأن، ذلك بأن المنار إنما أنشئ لإيقاظ الشرق وتجديد الإسلام بإعادة
تكوين الأمة وحياة الملة والدولة، لا لفروع الفقه وأصول الكلام، ولا لجدليات
المذاهب الدينية، ولا تأييد العصبيات الجنسية، ولا لنشر ما يجدد في قضايا العلوم
ونظريات الفلسفة، أو مخترعات الفنون وعجائب الصناعة، ولا لقصص التاريخ
ونوادر الفكاهات، ولا لجوائب الحوادث وأخاديع السياسات، بل كل ما يذكر فيه
مما يدخل من هذه الأبواب، فإنما يولي وجهه شطر ذلك المحراب؛ لأن الأمة إذا
حيت أحيت من العلوم ما كان ميتًا، وأنشرت من الفنون ما كان رميمًا، وإذا ماتت
أماتت معها ما كان حيًّا، ودرست ما كان مدروسًا مرويًّا، وإن الغذاء اللطيف قد
يزيد الممعود الدوي دوى، والغذاء الخشن يزيد المتمعدد القوي قوى {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ
بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً * فَلَا
تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} (الفرقان: 50-52) .
ما كل من أعرض عن آيات الله في القرآن، يستطيع أن يعرض عما يصدقه
من آياته في الأكوان، ومن آياته الماثلة أمام الناظرين، فضيحة هذه المدنية المادية
التي فتنت أوربة بها المسلمين، فقد ظهر لهم ما كان خفيًّا من فسادها، وذهب
بهيبتها ما كان من الفظائع في حربها. ومن آياته أن ثَلَّ عروش دولها المقهورة،
وزلزل أركان دولها المنصورة، وضعضع ثروتها، وأوقع الاضطراب في
معيشتها. ومن آياته أن نقض غزل عهودها أنكاثا. واجتث شجرة وحدتها اجتثاثًا.
فبدت خبايا نبائثهم، وفضحت خفايا خبائثهم. ومن آياته أن أذل جبروت أعظم
دولة قاهرة بفئة من أضعف دولة مقهورة. فوطئ بها شم معاطسهم، وطأطأ من
إقماح أرؤسهم، وطأمن من إفراط تغطرسهم. حتى جنحت تلك الدولة العاتية
المتكبرة إلى مصالحة تلك الفئة التي كانت تسميها المشردة المتمردة. واضطرت
إلى الرضى بمساواتها في مؤتمر السلم، بعد أن كانت تستكبر أن توقفها موقف
المجرم لسماع الحكم. ومن آياته أن سخر ما بقي من قوة الأمة الروسية لحفظ ما
بقي من استقلال الدولة التركية بعد أن كانت هي الخطر على استقلالها، والمُجدَّة في
تقطيع أوصالها. ومن آياته أن أبطر الأمم الغالبة بمظهر غلبتها، وإن لم تكن
بمحض قوتها، فأصرت على غيها، واستمرأت مرعى بغيها، لتحق عليها
كلمة الانتقام من الظالمين، وتدمير فسقة المسرفين {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ
وَعَتَوْا عُتُواًّ كَبِيراً} (الفرقان: 21) ? {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا
فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) .
عسى أن يكون الباغون قد بلغوا أوج العلو ولم يبق إلا الهويّ، وأن يكون ما
بلغناه هو منتهى الحدور وما ثم إلا الرقيّ، فإن الوقوف في عالم الحياة محال،
وإنا وإياهم لفي انتقال وإنا كُلاًّ منا لعرضة للغرور فيه والضلال، وإن الغرور
لمحبطة للعمل، وإن الضلال لمدرجة للزلل، وإنا ليعوزنا من القوة والبصيرة في
بطء الصعود، فوق ما يعوزهم من الحكمة والروية في سرعة الهبوط، وإنهم
لأعلم منا بسنن الله في البشر، وبأيديهم ما ليس بأيدينا من وسائل الحذر، وأسباب
اتقاء الخطر، وإنا لا ينبغي لنا أن نغتر بما نرى من تفرق قوتهم، مع ما نعلم
ويعلمون من عدم اجتماع قوتنا، ولا بما انفصم من عروة وحدتهم، ولمَّا نوثق
عروة وحدتنا. فإن عطف بعضهم على بعضنا عطفًا سياسيًّا سلبيًّا، فإن منا مَن
يواليهم على أمته ولاءً إيجابيًّا {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ
بَصِيراً} (الفرقان: 20) {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ
وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 43-44) .
قد كان لنا جامعتان سَعِدَ سلفُنَا بالاعتصام بهما، وشقي خلفُنا بالتفرق
والاختلاف فيهما: جامعة علمية روحية وهي كتاب الله وما بيَّنه من سنة خاتم
النبيين، وجامعة سياسية عملية وهي الإمامة العظمى وما بيَّنها من سيرة خلفائه
الراشدين، وهدي السلف الصالحين، وهذه متممة للأولى ومنفذة لها، وإن الله
يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، تفرقنا في القرآن بالتأويل فذهبنا مذاهب جعلت
الملة الواحدة مللاً، وتفرقنا في الإمامة بالعصبيات فصارت الأمة أممًا والدولة دولاً،
ثم أعرضنا عن كل من الجامعتين كلتيهما، وبطل الاقتداء بالإمامين مع احترام
اسميهما أو كلمتيهما، فجمد بعضنا على ظواهر بعض الكتب التقليدية، وفتن
بعضنا بالقوانين والنظم الأوربية، وروابط شعوبها الجنسية والوطنية، وآدابها
وعاداتها الشخصية والاجتماعية، ومرت القرون وتعاقبت الأجيال ونحن على هذا
الضعف والانحلال، والمدَّعون للإمامة العظمى فينا بين معتزل في شاهق جبل قد
ضاقت به الحيل، لا يعرف مِن أمر مَن وراءه من المسلمين عرفًا ولا نكرًا، أو لا
يعرفون من أمره نهيًا ولا أمرًا. وبين ناعم في قصور جنانه بين قنانيه وقيانه،
مستبد في سلطانه، عاصٍ لربه مطيع لشيطانه، مفقر لرعيته ملن لأخدانه، مستغنٍ
بمدح كَذَبَة الجرائد، وخطباء الفتنة في المساجد، يتلُون بين يديه في كل جمعة {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59)
غشًّا للأمة وتضليلاً، ويسكتون عن قوله تعالى بعده: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ولسان حال الرعايا يجيبهم بقوله عز وجل: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا
أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً
كَبِيراً} (الأحزاب: 67-68) .
كنت كتبت في فاتحة السنة الأولى للمنار، أن من أصول خطته: بيان حق
الإمام على الأمة، وحقوق الأمة على الإمام: فلما قرأتها على الناصح الأمين
مستشيرًا بها، اقترح ترميج هذه الكلمة منها. وقال: إن المسلمين لم يبق لهم
إمام إلا القرآن وإن البحث في الخلافة وما يجب على السلطان فتنة للناس، فواتيته
على حذف الكلمة، ولكن لم يسعني ترك البحث في المسألة بل نشرت في المجلد
الأول بضع مقالات في فساد حال المسلمين واضمحلالهم بإفساد أمرائهم وعلمائهم
ومرشديهم، بينت فيها مثار فساد الدنيا والدين بخروج الخلافة عن الأساس الذي
أقامها عليه الإسلام في عهد الراشدين، وكتبت بعد ذلك مقالات في الإصلاح الديني
المقترح على مقام الخلافة الإسلامية، على العلم بأنها لم تكن إلا اسميَّة أو وهميَّة،
فكان جزاء المنار على أمثال هذه المباحث الإصلاحية: تحريمه على البلاد
العثمانية، وتعذيب آل بيتنا في ديار الشام، وفاقًا لما نصح لنا به الأستاذ الإمام،
بل هي التي صدت الكثيرين عن المنار، الذين كانوا يقدسون السلطان عبد الحميد
في هذه الديار، وفي سائر ما استعبد الأجانب من الأقطار، على حين يعده جميع
مسلمي العثمانيين أفضل الجهاد لإحياء الدولة والدين، ولولا الإخلاص لَعَدَوْنَا ذلك
النَّصَب إلى ذُرى المناصب، والمتْرَبة إلى علو المراتب والرواتب، ولقد دعينا
إليها فأبيناها، وسئلنا الفتنة فما آتيناها، ولقد سئلها كثيرون فآتوها {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا
إِلَاّ يَسِيراً} (الأحزاب: 14) {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً
مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) .
ونحمد الله أن كان من آثار ما أحدثت الحرب العامة من التطور العام أن
وضعت هذه المسألة موضع البحث في هذه الأيام، بعد أن دك أحرار الترك هيكل
تلك الأوهام التي كانت تشبه معابد الأصنام، فكان أهم ما يعنى به المنار من خدمة
الإسلام، أن يوفيها حقها من تحقيق أحكامها الشرعية، وبيان وسائلها العملية،
وموانعها السياسية والاجتماعية، ليكون الساعون إلى إقامتها على بصيرة من أمرهم
فيها، مهتدين بكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم {إِنَّ
هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) .
ألا إن إقامة الإمامة هي التي تحيي هذه الأمة، ولكن أمرها لا يزال عمة ليس
وراءها غمة، وإنها لترهق محاولها صعودًا وتقتحم به كؤدًا وتجشمه منالاً بعيدًا،
يركب فيه الشبهة ويخبط في ديجوره العشوة، وإن أسعد الناس بها لأزهدهم
فيها، وإن أطمعهم فيها لأعجزهم عنها، وإن أقربهم منها لأبعدهم عنها، فلا الوسيلة
ممهدة، ولا السبيل معبدة، وإنما كل الفرصة السانحة أن مسكتي الألسنة قد أنطقوها
وحاظري إجالة الرأي فيها قد أباحوها، أهل الحرص عليها يتخبطون فيها، فوجب
على أهل الحقيقة أن يقولوها وعلى عارفي الطريقة أن يسلكوها، وعلى حاملي
الأمانة أن يؤدوها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً * إِنَّا عَرَضْنَا
الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب: 70-72) .
…
...
…
...
…
...
…
...
…
منشئ المنار
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا الحسيني الحسني
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدعوة إلى انتقاد المنار
ندعو كل من يطلع على المنار أن يكتب إلينا بما يرى فيه من خطأ أو خطل
مبينًا ذلك بالدليل، من غير استطراد ولا تطويل، فإنه من الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وقد أمر الله تعالى به في كتابه، ونحن نعد
بأن ننشر ذلك بشرطه، ونعترف لكل ذي حق بحقه، وليس لنا فيما ننشر هوى
فنُصِر عليه ولا منفعة مادية فنحرص على استبقائها، ولا جاه ولا عصبية فنخشى
إضاعتها، بل لا نزال مستهدفين لخسارة المال، وإسخاط جميع مصادر الجاه،
ولكن في سبيل الله {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى: 36) .
_________
الكاتب: أحمد بك عيسى
الملحق الفني التابع لفتوى طهارة الكحول
في ج9 (م23)
بقلم الطبيب العالم أحمد بك عيسى
الكؤول alcohol كلمة عربية الأصل، أصلها (كحول) وهي المادة الدقيقة
اللطيفة التي يتكحل بها، وقد اقتبسها الإفرنج من اللغة العربية في العصور الوسطى
وأطلقوها مجازًا على المادة اللطيفة المعروفة، ولم يتوصل الباحثون في كيمياء
العرب إلى الآن إلى معرفة الزمن الذي اقتبست فيه، ولا الكتاب الذي اقتبست منه
وأطلقت على هذه المادة، ولا أول من اقتبسها، وقد كتب في ذلك العالم الكيموي
الشهير (بريتلوا) في كتابه المُعَنْوَن (كيمياء العصور الوسطى) والسبب في تسميتها
(اسبرتو) هو أن الكحول كانت في الابتداء تستخرج من النبيذ؛ ولذلك كانت
تسمى روح النبيذ uin aie Espit فأخذت الكلمة الأولى، وعربت (اسبرتو)
بمعنى روح، والكحول هذه مائع شفاف لا لون له طعمه حامز قارص، عطري
الرائحة ساطع، يلتهب ويغلي على درجة 78 مئوية ووزنه النوعي 0.79
وتستخرج الكحول من تقطير الموائع السكرية والمخمرة، ومن المواد السكرية
والنشوية على وجه العموم، وإذا التهب الكحول استحال إلى ماء وكربون، وإذا
خلط بالأحماض الجاويك والكبريتيك والأزوتيك والفسفوريك تولد من خلطها موائع
أخرى تسمى الأثيرات (جمع إثير) .
وللكحول أنواع عديدة بحسب عدد جواهر الكربون والأيدروجين الموجودة فيه
وتستعمل الكحول مذيبة لكثير من المحضرات الإفرباذينية كالأصباغ مثل صبغة
اليود وغيرها كثيرًا جدًّا، وتستعمل كذلك في الأطلية والدهون وفي العطور، وهي
مطهرة من الظاهر مانعة للعفونة وقابضة تقطع الأنزفة، ولها استعمالات أخرى
كثيرة لا يستغنى عنها.
* * *
ملحق آخر
للصيدلي محمد علي بك نصوحي
الكؤول سائل يشبه الماء، شفاف خفيف قابل للالتهاب بسرعة سريع التبخر
يستحصل عليه بواسطة الأنبيق (التقطير) من بعد اختمار العنب، والقصب
والبلح، والخشب والبنجر، وجميع الأثمار المعروفة في العالم.
نستعمل هذه المادة - أي الكؤول - في أكثر السوائل بل جميعها تقريبًا؛ لأن
الصفات والخلاصات المستعملة في فن الطب لا يمكن استحضارها إلا بواسطة
الكؤول.
ويستعمل في دهانات اللوسز، أي على الأخشاب، وفي غالب الروخات
الطبية التي تستعمل للتدليك وللدهان، وله منافع عديدة في فن الطب، والإفرباذين
وكذا الأعطار التي من نوع الكلونيا المعروفة عند القريب والبعيد المتداولة في العالم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
استعمال الذهب والفضة
(س) من صاحب الإمضاء ببيروت:
حضرة صاحب الفضل والفضيلة مولانا الأستاذ المحترم السيد محمد رشيد
أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد فإني أرفع لفضيلتكم السؤال
الآتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه، ولسيادتكم من الله تعالى جزيل الأجر، ومني
عظيم الشكر: جاء في الشرب في آنية الذهب بالجزء الثامن من صحيح الإمام
البخاري رضي الله تعالى عنه من حديث ابن أبي ليلى قال: كان حذيفة بن اليمان
بالمدائن فأتاه دهقان بقدح من فضة فرماه به فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم
ينته، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية
الذهب والفضة. وفي باب آنية الفضة التالي للباب المذكور من حديث ابن أبي
ليلى بطريق غير الطريق الأول قال: خرجنا مع حذيفة، وذكر النبي صلى الله
عليه وسلم قال (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة) وفي حديث أم سلمة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم من الباب المذكور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وفي حديث البراء
ابن عازب التالي لهذا الحديث قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، إلى
أن قال: ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشرب في الفضة، أو قال: آنية
الفضة. وهو والمنصوص في مذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه تحريم
الفضة مطلقًا على الرجال إلا ما استثني من نحو الخاتم، وعلى النساء مطلقًا إلا
للتحلي. وفي الجزء الأول من كتاب الترغيب والترهيب للإمام الحافظ زكي الدين
ابن عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (صحيفة 144 طبعة أولى سنة1324هـ
بالمطبعة الشرفية) ما نصه: وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يُحَلِّق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة
من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقًا من نار فليطوقه طوقًا من ذهب، ومن
أحب أن يُسَوِّر حبيبه بسوار من نار فليسوره بسوار من ذهب، ولكن عليكم بالفضة
فالعبوا بها) رواه أبو داود بإسناد صحيح، وقد نقل صاحب الكتاب المذكور
عن (المحلى) الجواب عن الأحاديث التي ورد فيها الوعيد على تحلي النساء
بالذهب قبل هذا الحديث، ولم يُجِبْ عن هذا الحديث المفيد بظاهره إباحة الفضة
مطلقًا للرجال ولو في غير الخاتم، وللنساء ولو في غير الحلي فتفضلوا - حفظكم
الله - ببيان الجمع بين الأحاديث المذكورة، وحديث أبي داود المذكور على فرض
مساواته لأحاديث البخاري وببيان دليل تحريم غير الشرب من أنواع الاستعمال وبيان
وجه تحريم غير الآنية كساعة الجيب وساعة اليد وأسورتها والأزرار والأنواط ويد
العصا والختم، ونحو ذلك من أنواع الاستعمال ولفضيلتكم الأجر.
…
...
…
عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي - الشافعي مذهبًا - ببيروت
(ج) مذهب الظاهرية نفاة القياس كالإمامين داود وابن حزم وكثير من
فقهاء الحديث الذين يثبتون القياس أن التحريم الديني لا يثبت بالقياس، ولهم في
ذلك أدلة بسطناها في التفسير وفي مواضع أخرى من المنار، منها حديث (وسكت
عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها) فهؤلاء كلهم يبيحون استعمال
الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، وما ورد من حلية الرجال دون غيرها
بقاعدة البراءة الأصلية وأصل إباحة الزينة الثابت بنص قوله تعالى: {قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) الآية،
واستعمال الفضة خاصة بما ذكر من حديث أبي موسى الأشعري وبحديث (ولكن
عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) رواه أحمد وكذا أبو داود من حديث أبي هريرة كما
تقدم في السؤال، وليس عند الشافعية وغيرهم دليل على تحريم كل استعمال للذهب
والفضة في غير حلية النساء وخاتم الفضة للرجل والضبة بشروطها إلا القياس،
والقياس حجة مختلف فيها بين علماء السلف والخلف، وقد بسطنا أدلة المثبتين
والنافين وحقَّقنا المسألة في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ
أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) الآية، فليراجعها السائل إذا أحب أن
يكون على بصيرة في دينه في أمثال هذه المسألة [1] .
وليراجع أيضًا تفسير {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وكلاهما في
سورة المائدة [2] ولعل قلبه يطمئن حينئذ بأن عقائد الدين وعباداته والمحرمات
الدينية إنما تثبت بالنص أو فحواه بشرطه دون القياس، وناهيك بقياس معارَض
بالأصول القطعية ونصوص الكتاب والسنة كتحريم الزينة والطيبات بغير نص
يصلح مخصصًا لعموم الزينة في آية الأعراف. وإنما القياس والاجتهاد في الأمور
القضائية ونحوها من المعاملات التي لا تحصر جزئياتها وتختلف باختلاف
العرف والزمان والمكان ولا سيما السياسي منها.
ومن التعليلات التي يذكرها بعضهم للتحريم: كسر قلوب الفقراء، ومقتضاها
أن الغني يجب أن يكون طعامه ولباسه ومسكنه كالفقير، وهذا أمر مردود بنصوص
الكتاب والسنة ومخالف لكلامهم في النفقات، ويفضي العمل به إلى فساد العمران
فراجع تفسير {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) في المجلد 23 المنار.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تراجع علاوة على تفسير الآية ص 138 - 201 ج 7 تفسير.
(2)
ص 154 - 167 ج 6 تفسير.
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتب ابن تيمية وابن القيم
والشوكاني والسيد حسن صديق
(س2) ومنه: ما قولكم - رضي الله تعالى عنكم - في مؤلفات وفتاوى
الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية الحنبلي، والشيخ شمس الدين أبي عبد الله
محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية الحنبلي، والشيخ محمد بن علي
الشوكاني اليماني، والعلامة السيد أبو الطيب صديق بن حسن بن علي بن لطف الله
الحسيني القنوجي البخاري: هل هي من الكتب المعتمدة المتلقاة كغيرها بالقبول أم
هي من الكتب المطروحة التي لا يُعَوَّل عليها، ولا يجوز النقل عنها والإفتاء بما
فيها؟ تفضلوا حقِّقُوا لنا ذلك، فإن المطلوب النقل منها وهي موجودة لدينا، فقال
بعض أهل العصر: هذه الكتب لا يعول عليها ولا يلتفت إليها، بل هي من الكتب
غير المعتمدة. تفضلوا أفيدونا، ولفضليتكم من الله تعالى جزيل الأجر ومنا عظيم
الشكر.
(ج) قد سئلنا من عهد قريب عن كتب الشيخين الأولين وأجبنا عنه، ونقول
الآن: إن كتب هؤلاء العلماء الأعلام من أفضل ما اطلعنا عليه من كتب علماء
الإسلام، من حيث إنهم جمعوا بين العلم بالكتاب والسنة رواية ودراية وبين الاطلاع
على كتب مذاهب علماء الأمصار الذين يقلدهم الناس وغيرهم، ولم يلتزموا التعصب
لإمام معين ولا لأهل مذهب، بل محَّصوا الأدلة ورجَّحوا ما كان دليله أقوى. فكتبهم
أحق بالاستفادة من كتب المقلدين لمذهب معين يتمسكون بأقوال أهله وإن خالفت
النصوص الصريحة والأحاديث الصحيحة، وأكثرها خلو من الأدلة مطلقًا أو أدلة
المخالف.
وقد طبعت هذه الكتب وقرَّظها بعض كبار العلماء، ولا يزل أهل العلم
الصحيح وطلابه يتنافسون فيها، وسوقها أروج من غيرها ومنها ما تكرر طبعه.
وقد كان (نيل الأوطار) يباع بجنيهين وهو يساوي الآن بضعة جنيهات، وقلما يوجد.
وإنما ينهى بعض المقلدين للمذاهب المشهورة عنها كما ينهون عن العمل والفتوى
بمذاهب الصحابة والتابعين بغير حجة إلا ما نذكره قريبًا من الاعتذار عن ذلك.
ولو خرج أحد الأئمة الأربعة من قبره ورأى هذه الكتب لفضَّلها على جميع
كتب المقلدين له؛ لأنها قلَّمَا تخالف غيرها إلا بترجيح حديث صحيح على ضعيف
أو على قياس، وهذا أصل مذاهبهم كلهم رضي الله عنهم، ولكن المنتمين إلى
مذاهبهم اتخذوا أقوالهم وأقوال كبار أصحابهم أصولاً في التشريع ودلائل على حكم
الله، ويوجبون تقليدهم في كل ما روي عنهم، وإن خالفت نصوصُ الشارع أصولَهم
التي بنوا عليها مذاهبهم، وكلهم يتبرأ من ذلك، وهذا كتاب مختصر المزني
صاحب الإمام الشافعي قد افتتحه بعد البسملة بقوله: (اختصرت هذا الكتاب من
علم محمد بن إدريس الشافعي لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده
وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه) لمثل هذا النظر والاحتياط استنبطوا
وألفوا، وهو ما نقتدي بهم فيه عند النظر في الكتب المسئول عنها فلا نتبع
أصحابها في فهمهم تقليدًا بل نستعين بها ككتب الأئمة الآخرين على معرفة الراجح
في مسائل الخلاف.
وقد اعتذر بعض علماء التقليد عن هذا التحكم بحصر العمل والفتوى في
مذاهب الأئمة الأربعة عند أهل السنة بأن مذاهبهم هي التي دونت واستمر العمل
عليها، ووسعت مباحث الفروع فيها فاستغني بها عن غيرها من المذاهب المندرسة
مع الاعتراف بالاجتهاد لأهلها.
وأجبنا عن هذا: (أولاً) بأن السنة وآثار الصحابة قد نقلت نقلاً أصح
من نقل المذاهب بالأسانيد التي وضعت لها كتب الجرح والتعديل وعلل الحديث
وشروحه، وهي أصل هذه المذاهب كلها بعد القرآن، فلماذا لا يكون العمل بها هو
المقدم على كتب الفقه التي تكثر فيها أدلة الأقيسة والرأي التي اختلف علماء
السلف في الاحتجاج بها، ولا سيما قياس الشَّبه، وما فيه من مسالك العلة التي
يتعذر إثبات شرعيتها. وثمة مذاهب أخرى منقولة مدونة ويعمل بها ملايين من
المسلمين كمذاهب آل البيت النبوي.
(وثانيًا) بأنهم قالوا: إن اختلاف العلماء رحمة للأمة، فلماذا نضيق باب هذه
الرحمة عليها بحصر الاستفادة بواحد تحرم الاستفادة من غيره بتسميته تلفيقًا،
ونخالف السلف الصالح الذين كان عوامهم يستفتون كل عالم يوثق بعلمه.
مثال ذلك أن الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى كانا شديدي الورع، وكانت
حضارة الإسلام قد اتسعت في زمانهما، ولا سيما في بغداد ومصر مصدر علمهما،
فكان لهذين الأمرين تأثير عظيم في اجتهادهما في مسائل الطهارة والنجاسة، على
سعة علمهما بالسنة وبما كان عليه الصحابة في عصر التشريع من الضيق وقلة الماء،
حتى إن مقلديهما يكثر فيهم الحرج والوسواس في الطهارة، فلماذا تحجر على
الأمة أن تطلع على فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال بعض العلماء في
استحضاره لنصوص الكتاب والسنة عند بحثه في كل مسألة: كأنها قد كتبت في
كفه؟ وأن تأخذ بما أثبته بعد بيان أدلة المذاهب الأربعة وغيرها من طهارة كل ماء
ومائع لم يتغير بالنجاسة التي تصيبه وهو قول طائفة من كبار علماء الصحابة
والتابعين وعلماء الأمصار المجتهدين كابن مسعود وابن عباس والزهري وأبي
ثور والظاهرية، وهو يميل إلى مذهب الإمام مالك في مسائل النجاسات ككثير من
محققي المذاهب الأخرى ومنهم الغزالي من الشافعية، ومالك لم يأخذ علمه في أمثال
هذه المسائل العملية من الاستنباطات اللفظية فقط، بل كان مرشده فيها عمل أهل
المدينة من التابعين الذين تلقوا عن الصحابة رضي الله عنهم، وما من مجتهد إلا
وقد انفرد بمسائل ردها عليه غيره، وما زال العلماء المنصفون يعذر بعضهم بعضًا
في المسائل الخلافية التي لم يجمع عليها أهل الصدر الأول، وأولى الجميع بأن
يُرَجَّح كلامه مَن لا يقول إلا بدليل، ولا يكلف أحدًا أن يعمل إلا بما يظهر له صحة
دليله كأصحاب الكتب المسئول عنها، والله قد أرشدنا إلى اتباع الأحسن، وهو لا
يُعلم إلا بالنظر في الأدلة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجامعتان الإسلامية والشرقية
دعوة السيد الأفغاني إليهما، تأثير دعوته بعد جيل كامل في الشعوب
الأعجمية، جمود جزيرة العرب واضطراب العراق وسورية، الإنكليز مثيرو الفتنة
وعليهم تقع تبعتها.
كانت فكرة الجامعة الإسلامية خيالاً لاح في أذهان بعض رجال السياسة في
أوروبا فطفقوا يبحثون فيه، ويصورون لأقوامهم قوادمه وخوافيه، حتى صار
الكثيرون منهم يحسبون أنه حق لا ريب فيه.
أثار هذا الخيالَ في تلك الأدمغة كثرةُ التفكر في تاريخ الشعوب الإسلامية التي
أسرعت أوروبا في ثَلِّ عروشها، واستعباد أمرائها وملوكها، والتمتع بخيرات
بلادها، فإن المطَّلع على ذلك التاريخ الفيَّاض بما كان لها من العزة والبأس في
الحرب، والعلم والحكمة وإقامة العدل جدير بأن يحسب لانتقاضها على المستذلِين
لها ألف حساب، وإن استحوذ عليها الجهل، وحرقتْ نسيجَ وحدتها العداوات
الجنسية والمذهبية، فصار بأسها بينها شديدًا، وقيادها للأجانب لينًا سلسًا، ولئن
نبهت مباحث أولئك السياسيين بعضَ الأذكياء إلى هذا الأمر العظيم، فلم يكن في
استطاعتها أن تحفز همة أحد من أمرائهم ولا من كبراء الهمم والعقول فيهم إلى
السعي له والدعوة إليه، ولئن وُجد أفراد - منهم السلطان عبد الحميد - أحبوا أن
يستفيدوا من حذر الأوروبيين منه بإيهامهم إياهم أنهم يعدون له عدته، ويتخذون له
أهبته، فقد كان من تأثير هذا الإيهام مبادرة أولئك الحازمين إلى قطع طرقه،
والإسراع بالقضاء على ما بقي لتلك الشعوب من ماء الاستقلال ورمقه.
إي وربي ! إن الشعوب الإسلامية لم تنجب من بعد الحروب الصليبية رجلاً
عظيمًا عالي الهمة، يسعى إلى جمع كلمة المسلمين وتوحيد قواهم المتفرقة، لدفع
عوادي الذل والاستعباد عنهم، لا بدعوة علمية اجتماعية، ولا بتأليف قوة عسكرية
عصرية، إلا (السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني) حكيم الشرق، وحافزه
لتحرير نفسه من الرق، فهو الذي اهتدى بذكائه ونظره البعيد وفكره الوقاد إلى
تدارك الإسلام وإنقاذ الشرق من الاستعباد، بالسعي إلى هذا الاتحاد، فطاف
لأجله البلاد، ونادى به على رءوس الأشهاد؛ فلم تكن دعوته في عصره صرخة في
واد، أو نفخة في رماد، بل كان في خلل الرماد وميض نار طار شرارها كل مطار،
حتى عم بعده الأقطار.
ألقى بذور دعوته الأولى بمصر وكانت عنايته فيها موجهة إلى إحياء الشعب
المصري لتكون مصر مركز الدعوة العامة، وتكون دولة وادي النيل هي الدولة
القوية التي تعتز بها الأمة، وتكون النواة لتنفيذ مذهبه السياسي في إعزاز الإسلام
وتقليص ظل الدولة البريطانية عن رءوس المسلين.
وبعد أن نُفي بتأثير الدسائس الإنكليزية من مصر، ومن أجل بث الدعوة ألَّف
جمعية العروة الوثقى، وأنشأ جريدتها في باريس للدعوة العامة إلى الوحدة تحت لواء
الخلافة الإسلامية، وكان جُل سعيه وعمله فيما وراء الغاية العامة الدفاع عن مسألة
مصر عقب الاحتلال، وقد عني عناية خاصة بجمع الكلمة والتأليف بين الشعبين
المتجاورين اللذين نشأ هو وكثير من آبائه وأجداده في بلادهما، أعني الشعب الأفغاني
والشعب الإيراني، وقد بيَّنتْ جريدة العروة الوثقى التي كانت تتجلى بها آراؤه بقلم
مريده وصديقه شيخنا الأستاذ الإمام (رحمهما الله تعالى) الغاية، وأشرعت السبيل
وبينت الوسائل، وأرشدت إلى إزالة الموانع، وكان من رأيه أن تكون مكة المكرمة
هي مركز الدعوة.
كان لهذه الدعوة تأثير عظيم في العالم الإسلامي حتى كان العقلاء وأهل الرأي
من قرائها في الأقطار المختلفة يعتقدون أنها لا تلبث أن تحدث انقلابًا عظيمًا في
الشرق. سمعنا هذا من شيخنا الشيخ حسين الجسر الشهير في طرابلس، ورواه لنا
محمد علي بك المؤيد عن الزعيم الكبير السيد سلمان الكيلاني نقيب بغداد في ذلك
العهد، بيد أن مصادرة الدولة البريطانية للجريدة، ومنعها من مصر والهند
وغيرهما من أقطار المشرق كانت سببًا لترك الاستمرار على إصدارها، فكان كل ما
صدر منها 18 عددًا، ولكنه لم يترك الدعوة والسعي إلى الغاية، بل بثها في البلاد
الفارسية ثم في القسطنطينية، ثم قضى السيد وما قضى منها وطرًا، ولم يقم بعده
أحد بالدعوة والسعي لها بمثل تلك القوة، بل ضعفت الرابطة الإسلامية، بما
تغلب عليها من العصبية الجنسية، ولا سيما في الشعوب الأعجمية، بيد أن القوي
في الضار قد يكون قويًّا في النافع، فهذه الشعوب التي كانت في غاية التعادي
الجنسي، وكانت قبل ذلك فيما هو أشد منه من التعادي المذهبي: هذا سُني وهذا
شيعي - ثابَتْ الآن إلى رُشدها، وعلمت كل منها أن الوحدة هي التي تحفظ جنسها
ودينها ومذهبها، فمد كل منها يده إلى الآخر يصافحه مصافحة الأخ لأخيه،
ويعاهده معاهدة الولي لوليه.
تعاقد الترك والفرس والأفغان، وشدوا معاقد حلفهم ببخارى وخيوة وأذريبجان،
وبنوا دعاية الولاية والبراءة في سائر الشعوب الإسلامية في الشرق، يؤيدها بالمال
والرجال مسلمو الهند، بل شدوا أواخيّ الجامعة الشرقية بوثنيي الهند ونصارى
الروسية البلشفية التي سخرها الله لجهاد تأليه الثروة والعظمة الأوروبية،
والغرض العام لهذه الأمم كلها تحرير الشرق من رق الجزيرة البريطانية، التي
طمحت باستعبادها له إلى منازعة الربوبية، وما يتلو ذلك من تحرير سائر الشعوب
المستضعفة.
كل هذا والشعب العربي الذي ضعفت رابطته الجنسية بتعاليم الإسلام،
ووحدته الدينية باختلاف المذاهب وتنازع الحكام مُصِرٌّ على تَفَرُّقِهِ غافلٌ عما يُرَاد
به، حتى في مهد الإسلام من جزيرته، وقد رأى سوء عاقبة ذلك في سلب الأجانب
لاستقلال أخصب بلاده، ومحاولة إنشاب براثنه في باقيها، والإحاطة بها من
أطرافها، وهو مع ذلك في غمة من أمره لا يدري كيف يخرج منها، وإنما الذنب
في ذلك على ملوكهم وأمرائهم الجاهلين بكُنْهِ تأثير دسائس أعدائهم، وتسخيرهم
لمنع الجامعات الإسلامية والشرقية والعربية جميعًا من حيث لا يشعرون، ولكن هذه
السياسة الخبيثة ستنتهي بالخيبة، ولن ينقذ الإنكليز من سوء عاقبة عداوتها للإسلام،
اصطناع بضعة رهط من زعماء العرب بعضهم لبعض عدو، وودهم كله سيبلى،
وهم عاجزون عن إقناع شعوبهم بصداقة الإنكليز لهم، مع احتلالها لأخصب
بلادهم وإلقائها للفتن بينهم، ولا هم قانعون بذلك فيقنعوا غيرهم، بل كل واحد منهم
يكابر نفسه ويتأول لها، ويخفي مودته ويتعذر عما ظهر منها، وإنما تنقذ الإنكليز
سياسة أخرى عَمُوا عنها وصَمُّوا وقد نُصحوا وأُنذروا، لا أقول سياسة الصدق
والوفاء للعرب ! بل التحول عن محاولة استعبادهم من حدود برقة إلى العراق
وعمان، وقتل الإسلام في مشرق نوره ومواطن حضارته، مع القضاء على بلاد
الترك أمنع حصونه وأمضى أسلحته، فإن كان الترك قد أفلتوا من الشرَك الذي وقع
فيه وحيد الدين، فسيفلت العرب مما وقع فيه أمثاله المخدوعين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ
حِينٍ} (ص: 88) .
* * *
] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا [[*]
من مقالات العورة الوثقى في الحث على الجامعة الإسلامية نشر منذ 40
سنة [1] .
إن للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتًا على يقينهم، يباهون
بها من عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض.
ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم
كفالة لسعادة الدارين، ومن حرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم
أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة كما هي
في علمائهم متمكنة في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من
بقاع الأرض - عالمًا كان أو جاهلاً - أن واحدًا ممن وسم بسمة الإسلام في أي قطر،
ومن أي جنس صبأ عن دينه، رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرق وتأسف
يلهج بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على من نزلت به،
بل وعلى جميع من يشاركه في دينه، ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ
وقرأها قارئهم بعد مئين من السنين، لا يتمالك قلبه من الاضطراب ودمه من
الغليان، ويستفزه الغضب ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدِّث عن غريب أو
يحكي عن عجيب.
المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة مطالبون عند الله بالمحافظة
على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم
وبعيدهم، ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على
كل واحد منهم، إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام.
وحفظ الولاية: بذل الأموال والأرواح، وارتكاب كل صعب، واقتحام كل
خطب، ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال حتى ينالوا الولاية
خاصة لهم من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على من يخالفهم
إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره، لوجبت عليه الهجرة من دار
حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية، يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها
تأويلات أهل الأهواء وأعوان الشهوات في كل زمان.
المسلمون يحس كل واحد منهم بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره بما تطالبه به
الشريعة وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات دينه،
ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يلم بالبعض
الآخر، ولا يألمون لما يا لم له بعضهم، فأهل بلوجستان كانوا يرون حركات
الإنكليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم ولا يجيش لهم جأش ولم تكن لهم نعرة
على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون الإنكليز في بلاد فارس ولا يضجرون ولا
يتململون. وإن جنود الإنكليز تضرب في الأراضي المصرية ذهابًا وإيابًا تقتل
وتفتك ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري مائهم، بل
السامعين لخريرها من حلاقيمهم الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين أيديهم
وتحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
تمسُّكُ المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم مع هذه الحالة
التي هم عليها مما يقضي بالعجب، ويدعو إلى الحيرة ويسوق إلى بيان السبب،
فخذ مجملا منه:
إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية، وسائر المعلومات والمدركات والوجدانيات
النفسية وإن كانت هي الباعثة على الأعمال، وعن حُكمها تصدر بتقدير العزيز العليم
- لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس وتطبع الأنفس عليها، حتى يصير
ما يعبر عنه بالمَلَكَة والخُلُق وتترتب عليه الآثار التي تلائمها.
نعم إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده، إلا أن ما ينعكس إلى مرايا عقله من
مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكرًا، وكل
فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل ثم يعود من العمل إلى الفكر،
ولا ينقطع العقل والانفعال بين الأعمال والأفكار ما دامت الأرواح في الأجساد،
وكل قبيل هو للآخر عماد.
إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل، ولا أثر لها في الاعتصاب
والالتحام لولا ما تبعث به الضرورات، وتلجئ إليه الحاجات، من تعاون الأنسباء
والعصبة على نيل المنافع، وتضافرهم على دفع المضار، وبعد كرور الأيام على
المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذًا يصرفه في آثارها بقية الأجل،
ويكون انبساط النفس لعَوْن القريب وغضاضة القلب لما يصيبه من ضَيْم أو نكبة
جاريًا مجرى الوجدانيات الطبيعية، كالإحساس بالجوع والعطش، والري والشبع،
بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعده طبيعيًّا، فلو أهملت صلة النسب بعد ثبوتها
والعلم بها، ولم تدع ضرورات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما يمكن تلك الصلة
ويؤكدها، أو وجد صاحب النسب من يظاهره في غير نسبه، أو ألجأته ضرورة
إلى ذلك، ذهب أثر تلك الرابطة النسبية، ولم يبق منها إلا صورة في العقل تجري
مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات، وعلى مثال ما ذكرنا في رابطة
النسب - وهي أقوى رابطة بين البشر - يكون الأمر في سائر الاعتقادات التي لها
أثر في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض. إن لم يصحب العقد
الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الداعية إلى عمل تنطبع عليه الجارحة وتمرن عليه
ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئة للروح وشكلا ًمن أشكالها - فلن يكون
منشأ لآثاره، وإنما بعد في الصور العقلية له رسم يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه
كما قدمنا.
بعد تدبر هذه الأصول البينة، والنظر فيها بعين الحكمة، يظهر لك السبب
في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم، والعلة في تباطؤهم عن
نصرة إخوانهم، وهم أثبت الناس في عقائدهم، فإنه لم يبق من جامعة بين
المسلمين في الأغلب إلا العقيدة الدينية مجردة عما يتبعها من الأعمال، وانقطع
التعارف بينهم، وهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل. فالعلماء وهم القائمون
على حفظ العقائد وهداية الناس إليها لا تواصُل بينهم ولا تراسل، فالعالم التركي في
غيبة عن حال العالم الحجازي فضلاً عمن يبعد عنهم، والعالم الهندي في غفلة عن
شئون العالم الأفغاني، وهكذا بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم، ولا
صلة تجمعهم إلا ما يكون بين أفراد العامة لدوعٍ خاصة من صداقة أو قرابة بين
أحدهم وآخر، أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم، بل لا أنساب بينهم، وكل ينظر
إلى نفسه ولا يتجاوزها، كأنه كون برأسه.
كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء كانت كذلك بين الملوك
والسلاطين من المسلمين، أليس بعجيب أن لا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش
ولا لمراكش عند العثمانيين؟ ! أليس بغريب أن لا تكون للدولة العثمانية صلات
صحيحة مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في المشرق؟!
هذا التدابر والتقاطع وإرسال الحبال على الغوارب عم المسلمين حتى صح
أن يقال: لا علاقة بين قوم منهم وقوم، ولا بلد وبلد، إلا طفيف من الإحساس بأن
بعض الشعوب على دينهم، ويعتقدون مثل اعتقادهم، وربما يتعرفون مواقع
أقطارهم بالصدفة إذا التقى بعض ببعض في موسم الحجيج العام. وهذا النوع من
الإحساس هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم
على يد أجنبي عن ملته. لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته.
كانت الصلة كجسم عظيم قوي البنية صحيح المزاج فنزل به من العوارض ما
أضعف الالتئام بين أجزائه فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على
حدة وتضمحل هيئة الجسم.
بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة
العلمية عن رتبة الخلافة وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا
شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الراشدون
رضي الله عنهم، كثرت بذلك المذاهب، وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث
من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة
فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية
في أطراف الأندلس. تفرقت بهذا كلمة الأمة وانشقت عصاها، وانحطت رتبة
الخلافة إلى وظيفة الملك فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج طلاب الملك والسلطان
يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة ولا يرعون جانب الخلافة.
وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده،
وتيمورلنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلاً وإذلالاً حتى أذهلوهم عن أنفسهم
فتفرق الشمل بالكلية وانفصمت عرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا، وانفرد
كل بشأنه وانصرف إلى ما يليه، فتبدد الجمع إلى آحاد، وافترق الناس فرقًا كل
فرقة تتبع داعيًا إما إلى ملك أو مذهب، فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو إلى
الوحدة وتبعث على اشتباك الوشيجة، وصار ما في العقول منها صورًا ذهنية
تحويها مخازن الخيال، وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النفس من
المعلومات، ولم يبق من آثارها إلا أسف وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل
المصائب ببعض المسلمين بعد أن ينفذ القضاء، ويبلغ الخبر إلى المسامع على
طول من الزمان، وما هو إلا نوع من الحزن على الفائت كما يكون على الأموات
من الأقارب، لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة ولا دفع الغائلة.
وكان من الواجب على العلماء - قيامًا بحق الوراثة التي شُرِّفُوا بها على لسان
الشارع - أن ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك
بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم
ومدارسهم، حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطًا لروح حياة الوحدة، ويصير
كل واحد منها كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف
الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم
ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شئون وحدتهم،
ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعوا أطراف
الوشائج إلى معقد واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة - وأشرفها معهد بيت الله
الحرام - حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام
بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل، وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من
شأنها ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع، فإن
إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدع
أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارك بدعته ومحوها قبل فشوها بين العامة، وليس
بخافٍ على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها، واقتدارها على
دفع ما يغشاها من النوازل.
إلا أنا نأسف غاية الأسف إذ لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين
إلى هذه الوسيلة وهي أقرب الوسائل، وإن التفتت إليها في هذه الأيام طائفة من
أرباب الغيرة، ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن
يؤيدوا هذه الفئة، ولا يتوانوا فيما يوحد جمعهم ويجمع شتيتهم، فقد دارستهم
التجارب ببيان لا مزيد عليه، وما هو بالعسير عليهم أن يبثوا الدعاة إلى من يبعد
عنهم، ويصافحوا بالأكف من هو على مقربة منهم، ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما
يعود على دينهم وملتهم بفائدة، أو ما يخشى أن يمسها بضرر، ويكونون بهذا العمل
الجليل قد أدوا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باقٍ والآمال مقبلة وإلى الله المصير.
_________
(*) آل عمران: 103.
(1)
نشرت في العدد الخامس الذي صدر بباريس في 14 جمادى الآخرة سنة 1301 هـ.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية [*]
(2)
تتمة الكلام في الشورى في الإسلام:
(ومنها) ما رواه الطبراني في الأوسط وأبو سعيد في القضاء عن علي، قال:
قلت: يا رسول الله إن عرض لي أمر لم ينزل قضاء في أمره ولا سنة كيف
تأمرني؟ قال: (تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين ولا تقضِ فيه
برأيك خاصة) .
(ومنها) ما في صحيح البخاري عن ابن عباس: وكان القراء أصحاب
مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شبابًا، وذكر واقعة في رجوع عمر إلى قول
من يذكِّره بالقرآن، وقال: وكان وقَّافًا عند كتاب الله عز وجل.
وما في الصحيحين وغيرهما من استشارة عمر في مسألة الوباء لما خرج إلى
الشام وأخبروه إذ كان في (سرغ) أن الوباء وقع في الشام، فاستشار المهاجرين
الأولين ثم الأنصار فاختلفا، ثم طلب من كان هنالك من مشيخة قريش من مهاجرة
الفتح، فاتفقوا على الرجوع وعدم الدخول على الوباء، فنادى عمر بالناس: إني
مصبح على ظَهر (أي مسافر، والظهر: الراحلة) فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة:
أفِرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نَفِرُّ من قدر الله
إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان: إحداها خصبة
والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة
رعيتها بقدر الله؟ ثم جاء عبد الرحمن بن عوف فأخبره بالحديث المرفوع الموافق
لرأي شيوخ قريش.
* * *
9-
التولية بالاستخلاف والعهد:
اتفق الفقهاء على صحة استخلاف الإمام الحق، والعهد منه بالخلافة إلى من
يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة فيه [1] أي في الإمام الحق، فالعهد والاستخلاف
لا يصح إلا من إمام مستجمع لجميع شروط الإمامة لمن هو مثله في ذلك، هذا
شرط العهد إلى الفرد، واستدلوا على ذلك باستخلاف أبي بكر لعمر، وأما العهد
إلى الجمع وجعله شورى في عدد محصور من أهل الحل والعقد، فاشترطوا
فيه أن تكون الإمامة متعينة لأحدهم، بحيث لا مجال لمنازعة أحد لمن يتفقون عليه
منهم، وهو الموافق لجعل عمر إياها شورى في الستة رضي الله عنهم قال
الماوردي: وانعقد الإجماع عليها أصلاً في انعقاد الإمامة بالعهد، وفي انعقاد البيعة
بعدد يتعين فيه الإمامة لأحدهم باختيار أهل الحل والعقد ا. هـ (آخر ص11) .
وقد تمسك بهذا أئمة الجور وخلفاء التغلُّب والمطامع ولم يراعوا فيه ما راعاه
من احتجوا بعمله من استشارة أهل الحل والعقد والعلم برضاهم أولاً، وإقناع من
كان توقف فيه، والروايات في هذا معروفة في كتب الحديث، ومِن أجمعِها (كنز
العمال) وكتب التاريخ والمناقب. وأي عالم أو عاقل يقيس عهد أبي بكر إلى عمر
في تحري الحق والعدل والمصلحة بعد الاستشارة فيه ورضاء أهل الحل والعقد به
على عهد معاوية واستخلافه ليزيد الفاسق الفاجر بقوة الإرهاب من جهة ورشوة
الزعماء من أخرى؟ ثم ما تلاه واتبعت فيه سنته السيئة [2] من احتكار أهل الجور
والطمع للسطان، وجعله إرثا لأولادهم أو لأوليائهم كما يورث المال والمتاع؟ ألا
إن هذه هي أعمال عصبية القوة القاهرة المخالفة لهدي القرآن وسنة الإسلام.
ذكر الفقيه ابن حجر في (التحفة) اختصاص الاستخلاف بقسميه (الفردي
والجمعي) بالإمام الحق واعتماده، ثم قال: وقد يشكل عليه ما في التواريخ
والطبقات من تنفيذ العلماء وغيرهم لعهود بني العباس مع عدم استجماعهم للشروط،
بل نفذ السلف عهود بني أمية مع أنهم كذلك، إلا أن يقال: هذه وقائع محتملة أنهم
إنما نفذوا ذلك للشوكة وخشية الفتنة لا للعهد، بل هو الظاهر. اهـ
وقال الماوردي في العهد المشار إليه في أول هذه المسألة: ويعتبر شروط
الإمام في المُوَلَّى من وقت العهد إليه. وإن كان صغيرًا أو فاسقًا وقت العهد وبالغًا
عدلاً عند موت المُوَلِّي، لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته اهـ.
ونقل الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث (عُبادة) في المبايعة وقد تقدم: إنه لا
يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، وإن الخلاف في الخروج على الفاسق فيما إذا كان
عادلاً وإمامته صحيحة ثم أحدث جورًا. اهـ.
وقد علم مما أسلفنا أن العهد والاستخلاف بشروطه متوقف على إقرار أهل
الحل والعقد له، واستدلالهم يقتضيه، وإن لم يصرحوا، وأما المتغلبون بقوة
العصبية فعهدهم واستخلافهم كإمامتهم، وليس حقًّا شرعيًّا لازمًا لذاته، بل يجب
نبذه، كما تجب إزالتها واستبدال إمامة شرعية بها عند الإمكان والأمان من فتنة
أشد ضررًا على الأمة منها، وإذا زالت بتغلب آخر فلا يجب على المسلمين القتال
لإعادتها.
***
10-
طالب الولاية لا يُوَلَّى:
من هدي الإسلام أن طالب الولاية والإمارة لأجل الجاه والثروة لا يولى. فقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين طلبا أن يؤمرهما: (لن نستعمل على عملنا
من أراده) وفي رواية (إننا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه) رواه
الشيخان: البخاري بهذا اللفظ، ومسلم بلفظ: (إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا
سأله ولا أحدًا حرص عليه) وفي رواية للإمام أحمد: (إن أَخْوَنَكم عندنا من يطلبه)
فلم يستعن بهما في شيء حتى مات. وسبب هذا المنع القطعي المؤكد بالقسم أن
طلاب الولايات - ولا سيما أعلاها وهي الإمامة - والحريصون عليها هم محبو
السلطة للعظمة والتمتع والتحكم في الناس، وقد ظهر أنهم هم الذين أفسدوا أمر هذه
الأمة، وأولهم من الجماعات بنو أمية، وإن كان فيهم أفراد، بل منهم رجل الرجال
وواحد الآحاد عمر بن عبد العزيز خامس الراشدين، ولكنه لم يكن حريصًا على
الإمامة ولو أمكنه لأعادها إلى العلويين.
وذكر الحافظ في شرح الحديث المذكور آنفًا كلمة حق في معناه عن المهلب
قال: الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء
واستبيحت الأموال والفروج، وعظم الفساد في الأرض بذلك. وهنالك أحاديث
أخرى.
ولو حافظ المسلمون على أصل الشرع الذي قُرر في عهد الراشدين في أمر
الخلافة، لَمَا وقعت تلك الفتن والمفاسد، ولعم الإسلام الأرض كلها. وقد قال عالم
ألماني لشريف حجازي في الآستانة: إنه كان ينبغي لنا أن نضع لمعاوية تمثالاً من
الذهب في عواصمنا؛ لأنه لو لم يحول سلطة الخلافة عما وضعها عليه الشرع
وجرى عليه الراشدون، لَمَلَكَ العرب بلادنا كلها وصيروها إسلامية عربية.
***
11-
إمامة الضرورة والتغلُّب بالقوة:
اتفق محققو العلماء على أنه لا يجوز أن يبايَع بالخلافة إلا مَن كان مستجمعًا
لما ذكروه من شرائطها، وخاصة العدالة والكفاءة والقرشية، فإذا تعذر وجود بعض
الشروط تدخل المسألة في حكم الضرورات، والضرورات تقدر بقدرها، فيكون
الواجب حينئذ مبايعة مَن كان مستجمعًا لأكثر الشرائط من أهلها، مع الاجتهاد والسعي
لاستجماعها كلها،قال الكمال بن الهمام في المسايرة: والمتغلب تصح منه هذه الأمور
للضرورة كما لو لم يوجد قرشي عدل أو وجد ولم يقدر على توليته لغلبة الجورة
ا. هـ. [3] قال هذا ردًّا على جماعة الحنفية في استدلالهم على عدم اشتراط العدالة
في الأئمة بقبول بعض الصحابة للولاية والقضاء من ظلمة بني أمية كمروان
وصلاتهم معهم، فمراده بالأمور: القضاء والإمارة والحكم، كما قاله شارح المسايرة.
وقال السعد في شرح المقاصد: وههنا بحث، وهو أنه إذا لم يوجد إمام على
شرائطه وبايع طائفة من أهل الحل والعقد قرشيًّا فيه بعض الشرائط من غير نفاذ
لأحكامه، وطاعة من العامة لأوامره، وشوكة بها يتصرف في مصالح العباد
ويقتدر على النصب والعزل لمن أراد - هل يكون ذلك إتيانًا بالواجب؟ وهل يجب
على ذوي الشوكة العظيمة من ملوك الأطراف المتصفين بحسن السياسة والعدل
والإنصاف، أن يفوضوا إليه الأمر بالكلية، ويكونوا لديه كسائر الرعية؟ وقد
يُتَمَسك بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ
مِنكُمْ} (النساء: 59) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يعرف إمام
زمانه مات ميتة جاهلية) فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي الحصول [4] . اهـ.
وإنما فرض أن المبايعين في هذه الصورة بعض أهل الحل والعقد؛ لأنه إذا
بايعه جميعهم ومنهم الملوك الذين ذكرهم تمت شوكته ونفذ حكمه قطعًا، وهذه
الصورة تصدق على بعض خلفاء بني أمية وبني العباس الذين كانت تنقصهم العدالة
أو العلم الاجتهادي، وكان الجمهور يوجبون طاعتهم، ويصححون للضرورة
إمامتهم إذا لم تتيسر بيعة أمثل منهم، وإن كان موجودًا والمعتمد عند الحنفية أن
إمامتهم صحيحة مطلقًا لأن العلم والعدالة عندهم ليست من شروط الانعقاد كما تقدم
في محله. قال الكمال بن الهمام محقق الحنفية في (المسايرة) تبعًا للغزالي:
(الأصل العاشر) لو تعذر وجود العلم والعدالة، فمن تصدى للإمامة بأن تغلَّبَ عليها
جاهل بالأحكام أو فاسق وكان في صرفه إثارة فتنة لا تطاق - حكمنا بانعقاد إمامته كي
لا نكون كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، وإذا قضينا بنفوذ قضايا أهل البغي في بلادهم
التي غلبوا عليها لمسيس الحاجة، فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند لزوم الضرر
العام بتقدير عدمها. وإذا تغلب آخر على ذلك المتغلب وقعد مكانه انعزل الأول وصار
الثاني إمامًا. اهـ.
وقال السعد في شرح (المقاصد) بعد ذكر شروط الإمامة، وآخرها النسب
القرشي ما نصه: وأما إذا لم يوجد في قريش من يصلح لذلك أو لم يقتدر على
نصبه لاستيلاء أهل الباطل وشوكة الظلمة وأرباب الضلالة - فلا كلام في جواز تقلد
القضاء وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وجميع ما يتعلق بالإمام من كل ذي شوك، كما
إذا كان الإمام القرشي فاسقًا أو جائرًا أو جاهلاً، فضلاً عن أن يكون مجتهدًا.
وبالجملة مبنى ما ذكر في باب الإمامة على الاختيار والاقتدار، وأما عند العجز
والاضطرار، واستيلاء الظلمة والكفار والفجار، وتسلط الجبابرة الأشرار، فقد
صارت الرئاسة الدنيوية تغلبية، وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالإمام
ضرورة، ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط، والضرورات تبيح
المحظورات، وإلى الله المشتكى في النائبات، وهو المرتجى لكشف الملمات ا. هـ
بحروفه [5] .
والفرق بين هذه الخلافة وما قبلها بعد كون كل منهما جائزًا للضرورة أن
الأولى صدرت من أهل الحل والعقد باختيارهم لمن هو أمثل الفاقدين لبعض الشرائط،
ولذلك فَرَضَه المحقق التفتازاني قرشيًّا؛ إذ القرشيون كثيرون دائمًا، وأما الثانية
فصاحبها هو المعتدي على الخلافة بقوة العصبية لا باختيار أهل الحل والعقد له؛
لعدم وجود من هو أجمع للشرائط منه، فذاك يطاع اختيارًا، وهذا يطاع اضطرارًا.
ومعنى هذا أن سلطة التغلب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة، تنفذ
بالقهر وتكون أدنى من الفوضى. ومقتضاه أنه يجب السعي دائما لإزالتها عند
الإمكان، ولا يجوز أن توطن الأنفس على دوامها، ولا أن تجعل كالكُرة بين
المتغلبين يتقاذفونها، كما فعلت الأمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم لجهلها
بقوتها الكامنة فيها، وكون قوة ملوكها وأمرائها منها، ألم تر إلى من استناروا بالعلم
الاجتماعي منا كيف هبت لإسقاط حكوماتها الجائرة وملوكها المستبدين، وكان آخر
من فعل ذلك الشعب التركي، ولكنه أسقط نوعًا من التغلب بنوع آخر عسى أن
يكون خيرًا منه، وإنما فعله تقليدًا لتلك الأمم الأبية؛ إذ كان جماهير علماء الترك
والهند ومصر وغيرها من الأقطار، يوجبون عليهم طاعة سلاطين بني عثمان، ما
داموا لا يظهرون الكفر والردة عن الإسلام، مهما يكن في طاعتهم من الظلم والفساد
وخراب البلاد وإرهاق العباد، عملاً بالمعتمد عند الفقهاء بغير نظر ولا اجتهاد،
وهذا أهم أسباب اعتقاد الكثير منهم أن سلطة الخلافة الشرعية تحول دون حفظ
الملك والحياة الاستقلالية، وسنفصل الكلام في هذا بعد، وفيما يجب لجعل الحكم
شرعيًّا إسلاميًّا.
***
12 -
ما يخرج به الخليفة من الإمامة:
قال الماوردي بعد بيان ما يجب على الإمام، وقد تقدم: وإذا قام الإمام بما
ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم
حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله.
(والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما جَرح في
عدالته، والثاني نقص في بدنه، فأما الجرح في عدالته فهو على ضربين (أحدهما)
ما تابع فيه الشهوة (والثاني) ما تعلق فيه بشبهة، فأما الأول منهما فمتعلق
بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات، تحكيمًا
للشهوة وانقيادًا للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا
طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة، لم يعد إلى الإمامة
إلا بعقد جديد.
وأما الثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد والمتأول بشبهة تَعرض فيتأول لها خلاف
الحق - فقد اختلف العلماء فيها: فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة
ومن استدامتها، ويخرج بحدوثه منها.. إلخ (ص16) .
(المنار: وبعد تفصيل الخلاف في هذه المسألة - وهي الابتداع بالتأول -
ذكر القسم الثاني مما يمنع من الخلافة وهو نقص البدن فجعله ثلاثة أقسام: نقص
الحواس ونقص الأعضاء ونقص التصرف. وقسمها أيضًا إلى أقسام، وأطال في بيان
أحكامها والذي تقتضي الحال نقله منه نقص التصرف، وقد عقد له فصلاً خاصًّا قال
فيه ما نصه) :
(وأما نقص التصرف فضربان: حَجْر، وقهر، فأما الحَجْر فهو أن يستولي
عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية، ولا مجاهرة
بمشاقة، فلا يمنع ذلك من إمامته، ولا يقدح في صحة ولايته، ولكن ينظر في
أفعال من استولى على أموره، فإن كانت جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل
جاز إقراره عليها، تنفيذًا لها، وإمضاء لأحكامها؛ لئلا يقف من الأمور الدينية ما
يعود بفساد على الأمة. وإن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل لم
يجز إقراره عليها، ولزمه أن يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه) .
(وأما القهر فهو أن يصير مأسورًا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص
منه فيمنع ذلك من عقد الإمامة له؛ لعجزه عن النظر في أمور المسلمين، وسواء
كان العدو مشركًا أو مسلمًا باغيًا، وللأمة فسحة في اختيار من عداه من ذوي القدرة،
وإن أُسِرَ بعد أن عقدت له الإمامة فعلى كافة الأمة استنقاذه لما أوجبته الإمامة من
نصرته، وهو على إمامته ما كان مرجو الخلاص مأمول الفكاك، إما بقتال أو فداء.
(فإن وقع الإياس منه لم يخلُ حال مَن أسره مِن أن يكونوا مشركين أو بغاة
المسلمين، فإن كان في أسر المشركين خرج من الإمامة لليأس من خلاصه، واستأنف
أهل الاختيار بيعة غيره على الإمامة) .
وهنا ذكر مسألة عهده بالإمامة إلى غيره، وما يصح منها وما لا يصح،
ثم قال:
(وإن كان مأسورًا مع بغاة المسلمين: فإن كان مرجو الخلاص فهو على
إمامته ويكون العهد في ولي العهد ثابتًا وإن لم يصر إمامًا، وإن لم يرج خلاصه لم
يخل حال البغاة من أحد أمرين: إما أن يكونوا نصبوا لأنفسهم إمامًا أو لم ينصبوا،
فإن كانوا فوضى لا إمام لهم فالإمام المأسور على إمامته؛ لأن بيعته لهم لازمة،
وطاعته عليهم واجبة، فصار معهم كمصيره مع أهل العدل، إذا صار تحت الحَجْر،
وعلى أهل الاختيار أن يستنيبوا عنه ناظرًا يخلفه إن لم يقدر على الاستنابة، فإن
قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم. فإن خلع المأسور نفسه أو مات لم
يصر المستناب إمامًا لأنها نيابة عن موجود فزالت بفقده.
وإن كان أهل البغي قد نصبوا لأنفسهم إمامًا دخلوا في بيعته وانقادوا
لطاعته، فالإمام المأسور في أيديهم خارج عن الإمامة بالإياس من خلاصه؛ لأنهم
قد انحازوا بدار تفرد حكمها عن الجماعة، وخرجوا بها عن الطاعة فلم يبق لأهل
العدل بهم نصرة، ولا للمأمسور معهم قدرة، وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن
يعقدوا الإمامة لمن ارتضوه لها، فإن خلص المأسور لم يعد إلى الإمامة بخروجه
منها) (ص19، 20) .
ومن المعلوم أن كل هذا التفصيل في الإمام الحق المستجمع للشروط القائم
بالوجبات، وأما إمامة التغلب فكلها تجري على قاعدة الاضطرار المتقدمة (رقم
11) .
وما ذكره من انعزال الإمام بالفسق قد اختُلف فيه، والمشهور الذي حققه
الجمهور أنه لا يجوز تولية الفاسق، ولكن طروء الفسق بعد التولية لا تبطل به
الإمامة مطلقًا وبعضهم فصَّل: قال السعد في شرح المقاصد: وإذا ثبت الإمام بالقهر
والغلبة ثم جاء آخر فقهره انعزل وصار القاهر إمامًا، ولا يجوز خلع الإمام بلا
سبب، ولو خلعوه لم ينفذ وإن عزل نفسه، فإن كان يعجز عن القيام بالأمر انعزل
وإلا فلا، ولا ينعزل الإمام بالفسق والإغماء وينعزل بالجنون وبالعمى والصم
والخرس وبالمرض الذي ينسيه العلوم. (ص272 ج2) .
وقد استدل من قال يخلع بالكفر دون المعصية بحديث عبادة بن الصامت في
المبايعة عند الشيخين قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ
علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة
علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان) .
وقد ذكر الحافظ في شرح قوله (إلا أن تروا كفرًا بواحًا) روايات أخرى
بلفظ المعصية والإثم بدل الكفر، ثم قال: وفي رواية إسماعيل بن عبد الله عند أحمد
والطبراني والحاكم من روايته عن أبي عبادة (سيلي أموركم من بعدي رجال
يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون. فلا طاعة لمن عصى الله)
وعند أبي بكر بن أبي شيبة من طريق أزهر بن عبد الله عن عبادة رفعه:
(سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون ويفعلون ما تنكرون، فليس لأولئك
عليكم طاعة) .
وقال في شرح قوله: (عندكم من الله فيه برهان) أي من نص آية، أو
خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم
يحتمل التأويل. قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا
تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محقَّقًا
تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأَنْكِرُوا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم ا
هـ وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا يُعترض على السلطان إلا إذا
وقع في الكفر الظاهر. والذي يظهر: حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة
في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر. وحمل رواية
المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه
في المعصية بأن ينكر عليه برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل
ذلك إذا كان قادرًا، والله أعلم.
ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إذا قدر
على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب ، وإلا فالواجب الصبر. وعن بعضهم: لا يجوز
عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورًا بعد أن كان عدلاً فاختلفوا في جواز
الخروج عليه، والصحيح: المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه. اهـ.
وقد تقدم التحقيق في المسألة ونصوص المحققين فيها، وملخصه أن أهل
الحل والعقد يجب عليهم مقاومة الظلم والجور والإنكار على أهله بالفعل، وإزالة
سلطانهم الجائر، ولو بالقتال إذا ثبت عندهم أن المصلحة في ذلك هي الراجحة
والمفسدة هي المرجوحة، ومنه إزالة شكل السلطة الشخصية الاستبدادية، كإزالة
الترك لسلطة آل عثمان منهم، فقد كانوا على ادعائهم الخلافة الإسلامية جائرين
جارين في أكثر أحكامهم على ما يسمى في عرف أهل هذا العصر بالملكية المطلقة،
فلذلك بدأ الترك بتقييدهم بالقانون الأساسي تقليدًا لأمم أوروبا، وسبب ذلك جهل
الذين قاموا بهذا الأمر بأحكام الشرع الإسلامي (كمدحت باشا وإخوانه) ثم قام
الكماليون أخيرًا بإسقاط هذه الدولة، ورفض السلطة الشخصية بجملتها وتفصيلها.
***
13-
دار العدل ودار الجور والتغلب:
دار الإسلام وما يقابلها من دار الحرب معروفان، ولهما أحكام كثيرة. وقد
تكرر فيما نقلناه عن العلماء من أحكام الخلافة ذكر دار العدل، وهي دار الإسلام
التي نصب فيها الإمام الحق، الذي يقيم ميزان العدل، تُسمى بذلك إذا قوبلت بدار
البغي والجور، وهي ما كان الحكم فيها بتغلب قوة أهل العصبية من المسلمين،
وعدم مراعاة أحكام الإمامة الشرعية وشروطها، وأهل دار العدل هم الذين يسمَّون
الجماعة، وهم الذين يجب على جميع المسلمين اتباعهم واتباع إمامهم اختيارًا،
وعدم اتباع من يخالفهم إلا اضطرارًا، وهذان الداران قد توجدان معًا في وقت واحد،
وقد توجد إحداهما دون الأخرى، ولكل منهما أحكام.
أما دار العدل فطاعة الإمام فيها في المعروف واجبة شرعًا ظاهرًا وباطنًا،
ولا تجوز مخالفته إلا إذا أمر بمعصية لله تعالى ثابتة بنص صريح من الكتاب
والسنة دون الاجتهاد والتقليد، ويجب قتال من خرج عليه من المسلمين أو بغى في
بلاده الفساد بالقوة، كغيره من القتال الواجب شرعًا، وتجب الهجرة من دار الحرب
ومن دار البغي إلى هذه الدار على من استضعف فيهما فظلم أو منع من إقامة دينه،
وعلى من تحتاج إليهم دار العدل لحفظها ومنعها من الكفار أو البغاة، ولغير ذلك من
المصالح الواجبة لإعزاز الملة، إذا توقف هذا الواجب على هذه الهجرة. وأما دار
البغي والجور فالطاعة فيها ليست قربة واجبة شرعًا لذاتها، بل هي ضرورة تقدر
بقدرها، وتقدم تفصيل القول فيها.
ومن الظلم الموجب للهجرة منها على من قَدَرَ إلى دار العدل - إن وُجدت -
حمل المتغلبين من يخضع لهم على القتال لتأييد عصبيتهم والاستيلاء على بعض بلاد
المسلمين، فمن قدر على التفصي من ذلك وجب عليه، فأمرها دائمًا دائر على قاعدة
ارتكاب أخف الضررين، والظاهر أن يفرق بين قتالهم لأهل العدل فلا تباح الطاعة
فيه بحال، وبين قتال غيرهم كأمثالهم من المتغلبين، وفيه تفصيل لا محل لبيانه هنا.
وأما الجهاد الشرعي فيجب مع أئمة الجور؛ ومنه دفاعهم عن بلادهم إذا اعتدى عليها
الكفار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة
فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى
عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقِتلةٌ جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها
وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست
منه. وفي رواية: يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي) رواه مسلم
والنسائي من حديث أبي هريرة. والعمية بضم العين وكسرها (لغتان) وتشديد الميم
وفسروها بالكبر والضلال، والمراد بها عظمة القوة والبطش، والتغلب الذي لا
يراد به الحق، ولذلك بينه بأنه يغضب للعصبة، وهي بالتحريك: قوم الرجل
الذين يعصبونه ويعتصب بهم، أي يقوى ويشتد، وفي رواية (العصبية) وهي نسبة إلى العصبة.
وأنت تعلم أن المتغلبين ما قاموا ولا يقومون إلا بالعصبية، المراد بها عظمة
الملك العمية، لا يقصدون بقتالهم إعلاء كلمة الله، ولا إقامة ميزان الحق والعدل
بين جميع الناس، وما أفسد على هذه الأمة أمرها، وأضاع عليها ملكها إلا جعل
طاعة هؤلاء الجبارين الباغين واجبة شرعًا على الإطلاق، وجعل التغلب أمرًا
شرعيًّا كمبايعة أهل الاختيار من أولي الأمر وأهل الحل والعقد للإمام الحق،
وجعل عهد كل متغلبِ باغٍ إلى ولده أو غيره من عصبته لأجل حصر السلطان
والجبروت في أسرته - حقًّا شرعيًّا وأصلاً مرعيًّا لذاته، وعدم التفرقة بين
استخلاف معاوية لولده يزيد الفاسق الفاجر بالرغم من أنوف المسلمين، وبين عهد
الصديق الأكبر للإمام العادل عمر بن الخطاب ذي المناقب العظيمة بعد مشاورة أهل
الحل والعقد فيه وإقناعهم به، والعلم بتلقيهم له بالقبول.
***
14-
كيف سُن التغلب على الخلافة:
كان سبب تغلُّب بني أمية على أهل الحل والعقد من الأمة أن قوة الأمة
الإسلامية الكبرى في عهدهم كانت تفرقت في الأقطار التي فتحها المسلمون وانتشر
فيها الإسلام بسرعة غريبة وهي مصر وسورية والعراق، وكان أهل هذه البلاد
قد تربوا بمرور الأجيال على الخضوع لحكامهم المستعمرين من الروم والفرس،
فلما صارت أزمَّة أمورهم بيد حكامهم من العرب استخدمهم معاوية الذي سن سنة
التغلب السيئة في الإسلام على الخضوع له بجعل الولاة فيهم من صنائعه الذين
يؤثرون المال والجاه على هداية الإسلام وإقامة ما جاء به من العدل والمساواة،
وصار أكثر أهل الحل والعقد الحائزين للشروط الشرعية محصورين في البلدين
المكرمين (مكة المكرمة والمدينة المنورة) وهم ضعفاء بالنسبة إلى أهل تلك
الأقطار الكبيرة الغنية التي تعول الحجاز وتغذيه.
أخذ معاوية البيعة لابنه الفاسق يزيد بالقوة والرشوة، ولم يلق مقاومة تذكر
بالقول أو الفعل إلا في الحجاز، فقد روى البخاري والنسائي وابن أبي حاتم في
تفسيره - واللفظ له - من طرق أن مروان خطب بالمدينة وهو على الحجاز من قِبَل
معاوية فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين في ولده يزيد رأيًا حسنًا، وإن يستخلفه فقد
استخلف أبو بكر وعمر وفي لفظ: سنة أبي بكر وعمر - فقال عبد الرحمن بن أبي
بكر: سنة هرقل وقيصر! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده إلخ. وفي
رواية: سنة كسرى وقيصر، إن أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما. ثم حج
معاوية ليوطئ لبيعة يزيد في الحجاز، فكلم كبار أهل الحل والعقد أبناء أبي بكر وعمر
والزبير فخالفوه وهددوه إن لم يردها شورى في المسلمين، ولكنه صعد المنبر وزعم
أنهم سمعوا وأطاعوا وبايعوا يزيد، وهدد من يكذبه منهم بالقتل.
وأخرج الطبراني من طريق محمد بن سعيد بن زمانة أن معاوية لما حضره
الموت قال ليزيد: قد وطأت لك البلاد ومهدت لك الناس ولست أخاف عليك إلا
أهل الحجاز، فإن رابك منهم ريب فوجه إليهم مسلم بن عقبة فإني قد جربته وعرفت
نصيحته. قال: فلما كان من خلافهم عليه ما كان، دعاه فوجهه فأباحها ثلاثًا، دعاهم
إلى بيعة يزيد وأنهم أعبُدٌ له وقِنٌّ في طاعة الله ومعصيته.
وأخرج أبو بكر بن خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء: سمعت أشياخ
في المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل
المدينة يومًا فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإني عرفت نصيحته إلخ. ذكره
الحافظ في الفتح. أباح عدو الله مدينة الرسول ثلاثة أيام فاستحق هو وجنده اللعنة
العامة في قوله صلى الله عليه وسلم عند تحريمها كمكة (من أحدث فيها حدثًا أو آوى
مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفًا ولا
عَدْلاً) أي فرضًا ولا نفلاً. متفق عليه. فكيف بمن استباح فيها الدماء والأعراض
والأموال؟
وكان الحسن البصري يقول: أفسد أمرَ الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم
أشار على معاوية برفع المصاحف - وذكر مفسدة التحكيم - والمغيرة بن شعبة. وذكر
قصته إذ عزله معاوية عن الكوفة فرشاه بالتمهيد لاستخلاف يزيد فأعاده. قال الحسن:
فمن أجل هذا بايع هؤلاء الناس لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة
اهـ. ملخصا من تاريخ الخلفاء.
وهذا الذي قاله الحسن البصري - من أئمة التابعين - موافق لما قاله ذلك
السياسي الألماني لأحد شرفاء الحجاز من أنه لولا معاوية لظلت حكومة الإسلام على
أصلها، ولساد الإسلام أوروبا كلها، وقد تقدم.
وقد اضطرب أهل الأهواء ومن لا علم لهم بشيء من حقيقة الإسلام ونشأته
إلا من أخبار المؤرخين وهي أمشاج لم يكن يميز صحيحها من ضعيفها وحقها من
باطلها إلا الحفاظ من المحدثين، فنجد من هؤلاء من يميل إلى النواصب أو
الخوارج ومن يرجح جانب غلاة الشيعة ، وكان أستاذنا الشيخ حسين الجسر ينشد:
من طالع التاريخ مع أنه
…
لم يتمسك باعتقاد سليم
أصبح شيعيًّا وإلا فقُل: يخرج عن نهج الهدى المستقيم
ولذلك نجد في المصريين وغيرهم من المنتمين إلى مذاهب السنة - على غلو
دهمائهم في تعظيم آل البيت - مَن هو ناصبي يفضل بني أمية على العلويين، ويزعم
أنهم أعزوا الإسلام وأقاموا الدين، والتحقيق أن فتح الإسلام لكثير من البلاد في
أيامهم الذي هو حسنتهم العظيمة كان أمرًا اقتضته طبيعة الإسلام والإصلاح الذي
جاء به لإنقاذ البشر، ولم يكن لغير عمر بن عبد العزيز منهم عمل انفرد به في
إقامة الدين نفسه، ولم يكن لهم عمل في ذلك مختص بدولتهم بحيث يقال: إنه
لولاهم لرجع الإسلام القهقرى في العلم والعمل أو الفتح، وما كان لهم من عمل
حسن في هذه الأمور، فقد كان لمن بعدهم من العباسيين مثله، وكلاهما تابع في
الدين للخلفاء الراشدين لا متبوع. وأما الأمور المدنية التي استتبعت الفتح الإسلامي
فلكل من الفريقين فيها عمل، وإنما سيئة الأمويين التي لا تغفر ما سنوه في قاعدة
حكومة الإسلام، فهي انتخابية شورى في أولي الاختيار من أهل الحل والعقد، وقد
نسخوها بالقاعدة المادية: القوة تغلب الحق، فهم الذين هدموها، وتبعهم من بعدهم
فيها.
ومن اطلع على كتب السنة يعلم أن الله تعالى قد أطلع رسوله صلى الله عليه
وسلم على مستقبل أمته، وأن ما وقع كان مما تقتضيه طباع البشر بحسب قدر الله
وسنته، وقد أخبر بذلك بعض أصحابه بالتلميح تارة وبالتصريح أخرى، ومنهم أبو
هريرة الذي روى عنه في الصحاح والسنن والمسانيد عدة أحاديث وآثار في ذلك،
وأنه كان يستعيذ بالله من إمارة الصبيان ومن رأس الستين، وهي السنة التي ولي
فيها يزيد (وقد مات قبلها) وكان يقول: لو قلت لكم: إنكم ستحرقون بيت ربكم
وتقتلون ابن نبيكم لقلتم: لا أَكذَبَ من أبي هريرة. يعني قتل الحسين وقد وقع بعده.
وأخرج البخاري وغيره من طريق عمر بن يحيى بن سعيد بن العاص الأموي قال:
أخبرني جدي قال: كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
ومعنا مروان (هو ابن الحكم بن أبي العاص وكان أمير المدينة لمعاوية) قال أبو
هريرة: سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول: (هلكة أمتي على
أيدي غلمة من قريش) فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو
شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت. فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان
حين ملكوا الشام فإذا رآهم غلمانًا أحداثًا قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم، قلنا:
أنت أعلم اهـ. وإنما أهلكوا الأمة بإفساد حكومتها الشرعية الإصلاحية، وإلا فقد
وسعوا ملكها بتغلب العصبية.
قال الحافظ في شرح الحديث: قال ابن بطال: وفي هذا الحديث حجة لما تقدم
من ترك القيام على السلطان ولو جار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم أبا هريرة
بأسماء هؤلاء ولم يأمرهم بالخروج عليهم، مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم،
لكون الخروج أشد في الهلاك وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم، فاختار أخف
المفسدتين، وأيسر الأمرين اهـ.
ونقول: ما ذكر من القاعدة صواب، وما قبله من تطبيق النازلة عليها لا
يصح، فقد قاوم أهل الحجاز فغُلبوا على أمرهم، والصواب ما بيناه من قبل من تفرق
جماعة الإسلام العالمة العادلة في الممالك، وكون من بقي منهم بالحجاز ضعفاء بالنسبة
إلى المملكة الإسلامية الجديدة، فلم يكن أمر الخروج ممكنًا إلا بعصبية كعصبيتهم كما
فعل بنو العباس، وقد مهَّد أكثر العلماء السبيل للاستبداد والظلم بمثل هذا الإطلاق في
الخضوع لأهلهما، وقد تكرر بيان التحقيق فيه.
ثم قال الحافظ: يُتعَجَّب من لعن مروان الغلمة المذكورين مع أن الظاهر أنهم
من ولده، فكأن الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشد في الحجة لعلهم يتعظون.
وقد وردت أحاديث في لعن الحَكَم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني وغيره
غالبها فيه مقال وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك
اهـ. وقوله: (من ولده) يصدق على الأكثر وإلا فإن يزيد بن معاوية أول من
كان يعني أبو هريرة بالغلمة والصبيان.
وجملة القول: أن مرادنا من هذا البحث بيان مفسدة إخراج الخلافة الإسلامية
عما وضعها عليه الإسلام، وجعلها تابعة لقوة العصبية والتغلب، فهذه المفسدة هي
أصل المفاسد والرزايا التي أصابت المسلمين في دينهم ودنياهم. وقد كررنا ذكرها
لتحفظ ولا تنسى.
ومن أغرب الغرائب أن قصّر المسلمون عن غيرهم من أهل الملل التي كانوا
قد فاقوها في العلم والعمل، بأن لم يقم أحد منهم بعمل منظم لإعادة حكم الإسلام كما
بدأ، بل رضوا بالتفرق والانقسام والظلم والاستذلال مِن كل مَن تولى الأمر في
قطر من أقطارهم، حتى سهل عليهم مثل ذلك من غيرهم، فكانوا كما قلنا في
المقصورة:
من ساسه الظلم بسوط بأسه
…
هان عليه الذل من حيث أتى
ومن يهن هان عليه قومه
…
وماله ودينه الذي ارتضى
أفلم يأتهم نبأ ما فعل البابوات من تنظيم الجمعيات وجمع القناطير من الدنانير
لأجل إعادة سلطانهم الديني؟ ألا إننا قلدنا غيرنا فيما يضر، ولم نقلد ولا استقللنا فيما
ينفع في هذا الأمر، ولا يزال فينا من يجدّ في نبذ ما بقي من قشور سلطان الخلافة
الإسلامية بعد ذهاب لبابها، ويظنون أن وجودها هو الذي أضعف ملكنا وإنما أضعفه
ذهابها. فإن ما لا نزال ندعيه منها للمستبدين كذب على الإسلام، ولو استمسكنا
بعروتها الوثقى لكنا سادة العالمين، وقد عرف هذا كثير من علماء الأجانب ولم يعرفه
أحد من زعمائنا السياسيين.
***
15-
وحدة الخليفة وتعدده:
أصل الشرع أن يكون رئيس الحكومة - وهو الإمام - واحدًا، وهذا أمر
إجماعي
عند جميع الأمم كالمسلمين، وسببه معروف وهو أن أمر الحكومة أولى من كل أمر
عام له شُعب كثيرة بأن تكون له جهة واحدة يُضبط بها النظام وتُتقى الفوضى. قال
الكمالان في (المسايرة) وشرحها [6](ولا يولى) الإمامة (أكثر من واحد) لقوله
صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) رواه مسلم من
حديث أبي سعيد الخدري، والأمر بقتله محمول كما صرح به العلماء على ما إذا لم
يندفع إلا بالقتل، فإذا أصر على الخلاف كان باغيًا، فإذا لم يندفع إلا بالقتل قتل،
والمعنى في امتناع تعدد الإمام أنه منافٍ لمقصود الإمامة من اتحاد كلمة أهل الإسلام
واندفاع الفتن، وأن التعدد يقتضي لزوم امتثال أحكم متضادة (قال الحجة - حجة
الإسلام الغزالي: فإن ولي عدد موصوف بهذه الصفات فالإمام من انعقدت له البيعة من
الأكثر، والمخالف باغٍ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق وكلام غيره من أهل السنة
اعتبار السبق فقط فالثاني يجب رده) ا. هـ ودليل الجمهور نص الحديث.
وقال الماوردي (في ص7) : (وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم
تنعقد إمامتهما؛ لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم
فجوزوه) اهـ. وأقول: إنما جوَّزه من جوَّزه في حال تعذر الوحدة، وهذا هو
الخلاف الذي نقله العضد في المواقف، إذ قال: (ولا يجوز العقد لإمامين في صقع
متضايق الأقطار، أما في متسعها بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد)
قال شارحه السيد الجرجاني: لوقوع الخلاف.
واعتمد الجواز مُحشّيه الفناري وهو من أشهر علماء الروم أو الترك. وأما
في حال إمكان الوحدة فلا نعلم أن أحدًا من العلماء الذين لعلمهم قيمة قال بجواز
التعدد، وقول من قال بالتعدد للضرورة أقوى من قول الجمهور بإمامة المتغلب
للضرورة، إذا كان كل من الإمامين أو الأئمة مستجمعًا للشروط مقيمًا للعدل، فإن
كان في هذه تفرق فهو في غير عدوان ولا عداوة، وفي تلك بغي وجور ربما يفسد
الدين والدنيا معًا، بل أفسدهما بالفعل.
وقد بسط ترجيح هذا القول السيد صديق خان بهادر في آخر كتابه الروضة
الندية [7] قال:
(وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به
كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم - فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد
ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة. وأما إذا بايع كلَّ واحد منهما
جماعةٌ في وقت واحد، فليس أحدهما أولى من الآخر، بل يجب على أهل الحل
والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما. فإن استمرا على
التخالف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا
تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك) .
(وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار
في كل قطر من أقطار [8] الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار
كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو أقطاره التي رجعت إلى
ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، وتجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة
على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا
قام من ينازعه في القطر الذي ثبت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل
إذا لم يتب [9] ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته
لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يُدرى
مَن قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق، وهذا
معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد، فإن أهل الصين والهند لا
يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلاً عن أن يتمكنوا من طاعته، وهكذا
العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن، وهكذا
العكس. فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة،
ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في
أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر ذلك فهو مباهت
لا يستحق أن يخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها، والله المستعان) اهـ.
هذا أوجه تفصيل قيل في جواز التعدد للضرورة، وهو اجتهاد وجيه،
ويشبهه عند بعض الأئمة تعدد الجمعة في البلد الواحد، فالأصل في الشرع أن
يجتمع أهل البلد كلهم في مسجد واحد؛ لأن للشارع حكمة جلية في الاجتماع، فإن
تعددت فالجمعة للسابق، والمتأخر لا يعتد بجمعته، فمتى علم أنها أقيمت في مسجد لم
يجز أن تقام ثانية فيه ولا في غيره من ذلك البلد، ومن أقامها كانت صلاتهم باطلة
وكانوا آثمين ولا تسقط عنهم صلاة الظهر، وجوَّز التعدد للضرورة بقدرها أشد
المانعين حظرًا له في حال الاختيار.
وظاهر كلام الجمهور الذين أطلقوا منع تعدد الإمام الحق، أن المسلمين الذين
لا يستطيعون اتباع جماعة المسلمين في دار العدل لبعد الشقة وتعذر المواصلة،
يعذرون في تأليف حكومة خاصة بقطرهم، ويكون حكمهم فيها حكم من أسلموا
وتعذرت عليهم الهجرة إلى دار الإسلام لنصرة الإمام، ولا تكون دارهم مساوية لدار
العدل وجماعة الإمامة الذين أقاموا الشرع قبلهم، بل يجب عليهم اتخاذ الوسائل
للالتحاق بها، وجمع الكلمة ولو باستمداد السلطة منها، ونصرة إمامها وجماعتها
بقتال من يقاتلهم عند الإمكان، كما يجب على الجماعة مثل ذلك لهم في حال
الاعتداء عليهم، وإذا صح أن يكون حكمهم كحكم من لم يهاجروا إلى دار الإسلام،
فالحكم في نصرهم يدخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن
وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَاّ عَلَى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} (الأنفال: 72) على القول المختار بأن هذه الآية في
الولاية العامة، لا فيما كان من ولاية التوارث خاصة.
وجملة القول: أن جمهور المسلمين على أن تعدد الإمامة الإسلامية غير جائز،
ومقتضاه أن الحكومة الإسلامية التي تتعدد للضرورة وتُعذر في ترك اتباع
الجماعة هي حكومة ضرورة تعتبر مؤقتة وتنفذ أحكامها، ولكن لا تكون مساوية
للأولى، وإن كانت مستجمعة لشروط الإمامة مثلها، وظاهر القول الآخر الذي
عدوه شاذًّا أنها إذا كانت مستجمعة للشروط كانت إمامة صحيحة، وهذا هو التعدد
الحقيقي، ولكن لم يختلف اثنان في أنها للضرورة، فإذا زالت وجبت الوحدة،
ولهذه المسائل أحكام كثيرة لا محل هنا للبحث فيها.
ولكن لا بد من البحث في ثبوت هذه الضرورة، فإن بُعْدَ الشقة بين البلاد،
وتعذر المواصلات التي يتوقف عليها تنفيذ الأحكام، مما يختلف باختلاف الزمان
والمكان، فلا يصح أن يجعل عذرًا دائمًا لصدع وحدة الإسلام، وقد تقارب الزمان
في عهدنا هذا مصداقًا لما ورد في بعض الأحاديث المنبئة بالأحداث المستترة في
ضمائر الغيب، فاتصلت الأقطار النائية بعضها ببعض، في البر والبحر،
بالبواخر والسكك الحديدية، ثم بالمراكب الهوائية (الطيارات والمناطيد) التي
صارت تنقل البرد والناس مسافة مئات وألوف من الأميال في ساعة أو ساعات،
دع نقل الأخبار بقوة الكهرباء من أول الدنيا إلى آخرها في دقائق معدودات، ولو
كانت هذه الوسائل في عصر سلفنا لملكوا العالم كله (هو ما يطمع به بعض الأمم
اليوم، وهذه شعوب الشمال في أوروبا قد سادت معظم شعوب الجنوب والشرق،
وبين الفريقين منتهى أبعاد العمران من الأرض) .
ولكن المسلمين قصروا في هذه الوسائل، فبعض بلادهم محرومة منها كلها،
وما يوجد في بعضها فهم عالة فيه على الإفرنج، وإن شرعهم يفرضها عليهم فرضًا
دينيًّا من وجوه: أهمها أن كثيرًا من الفرائض والواجبات تتوقف عليها أو لا تتم إلا
بها، كحفظ المملكة والدفاع عنها، والإعداد لأعدائها ما نستطيع من قوة كما أمرنا
كتابنا، وقد صار هذا من الفرائض العينية علينا؛ لاستيلائهم على أكثر بلادنا،
ويتحقق الوجوب العيني على الرجال والنساء باستيلاء الأعداء على قرية صغيرة
منها، دع توقف وحدة السلطة عليه بالخضوع لإمام واحد يقيم الحق والعدل فينا،
منفذًا به أحكام شرعنا.
فأمام وحدة الإمام الواجبة واجبات كثيرة قد فرط فيها المسلمون من قبل،
بقبولهم أحكام التغلب التي أضاعت جل ما جاء به الإسلام لإصلاح البشر في شكل
حكومتهم وصفاتها وغير ذلك، فأي واجب منها أقاموا حتى يطالبوا بهذا الواجب.
***
16-
وحدة الإمامة بوحدة الأمة:
وحدة الإمامة تتبع وحدة الأمة، وقد مزقت العصبية الجنسية الشعوب
الإسلامية بعد توحيد الإسلام إياها برب واحد وإله واحد وكتاب واحد، وشرع
واحد، ولسان واحد، فأنى يكون لها إمام واحد، وهي ليست أمة واحدة؟
لا أقول: هذا محال في نفسه، وإنما أقول: إنني لا أعرف شعبًا من شعوب
المسلمين ولا جماعة من جماعاتهم المنظمة تقدره قدره، وتسعى إليه من طريقه،
فهم في دركة من الجهل والتخاذل والتفرق المذهبي والتعصب الجنسي وضعف
الهمة تقعد بهم عن التسامي إلى مثل هذا المثل الأعلى في الكمال الديني
والاجتماعي. وحمل البلاد الإسلامية ذات الحكومات المستقلة على الخضوع لرئيس
واحد بالقوة العسكرية مما لا سبيل إليه في هذا الزمان، ولا سبيل أيضًا إلى إقناع
حكومات هذه البلاد باتباع واحد منهم بالرضا والاختيار.
والحكومات المستقلة الآن هي حكومات الترك والفرس والأفغان ونجد واليمن
العليا - وهي النجود وما يتبعها - واليمن السفلى والحجاز، وقد استقلت بعض
الأقطار الإسلامية التي كانت تابعة لروسية القياصرة كبخارى وخيوة، ولكن استقلالها
لم يستقر بعد، على أنه قد اعترف به في المعاهدة التركية الأفغانية، ومثلهما أذريبجان
ودونهما كردستان، وهذه الحكومات الصغيرة تجزم الدولة التركية بأنها ستسودهن
وتدغهن في جامعتها الطورانية. وكذا سائر شعوب القوقاس الإسلامية، ولا توجد
حكومة منهم يمكن أن تدعي الخلافة الدينية، فبقي الكلام في الحكومات العربية،
والدول الثلاث الأعجمية.
فأما أهل اليمن العليا فيعتقدون أن الإمامة الشرعية الصحيحة محصورة فيهم
منذ ألف سنة ونيف لأن أئمتهم ينتخبون انتخابًا شرعيًّا تُرَاعى فيه جميع الشروط
الشرعية التي يشترطها أهل السنة مع زيادة مراعاة مذهبهم الزيدي، وأن هذه
الزيادة لا تعارض مذهب أهل السنة، وأنهم يحكمون بالشرع ويقيمون الحدود.
ومذهبهم في الفروع قلما يخالف مذاهب السنة الأربعة، ولا سيما مذهب
الحنفية، فلا مطمع في إقناعهم باتباع غيرهم، وقد قاتلهم الترك عدة قرون ولم
يستطيعوا إزالة إمامتهم، ولكن جيرانهم من العرب وسائر المسلمين لا يعتدون
بإماماتهم، وهم لا يدعون إليها ولا يستعدون لتعميمها، وقد اعترف بصحتها إمام
حفاظ السنة، وقاضي قضاة مصر وشيخ مشايخ الإسلام في أزهرها لعهده: الحافظ
أحمد بن حجر العسقلاني في شرحه لحديث: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي
اثنان) من صحيح البخاري.
وأما السيد الإدريسي فهو على كونه حاكمًا مستقلاًّ. وسيدًا علويًّا وفقيهًا
أزهريًّا، ومرشدًا صوفيًّا، لم يدَّع منصب الخلافة فيما نعلم، ولم يدْع رؤساء
إمارته إلى مبايعته بها، ولكن أهل بيته وجماعته يعتقدون أنه أحق بها من شرفاء
الحجاز، ويلقبونه بالسيد الإمام، ولقبه بعضهم بصاحب الجلالة الهاشمية، وقد نقل
لنا الثقات أن الملك حسينًا اجتهد في استمالته للاعتراف بالتبعية للحجاز في السياسة
الخارجية أو بالاسم فقط - فلم يفلح كما أنه لم يفلح سعيه لدى الإمام يحيى كذلك،
وقد استغرب كل منهما هذا السعي. وبلغنا أن السيد الإدريسي كان يفضل
الاعتراف بسيادة الترك السياسية على بلاده في الأمور الخارجية هربًا من دسائس
الإفرنج وتقوية للروابط الإسلامية. وأما حكومة الحجاز فهي جديدة ولا يُعرف لها
نظام ثابت، وإنما ملك الحجاز هو هنالك الحكومة وكل شيء، وقد بايعه أهل
مكة على أنه ملك العرب ثم بايعه آخرون من سورية وغيرها بالخلافة وإمارة
المؤمنين على عهد وجود ولده فيصل فيها قبل إعلان استقلال دمشق، وذلك كما
يبايع أمثالهم في سورية ومصر الخليفة في الآستانة، ويظهر أن ولده فيصل ملك
العراق وولده عبد الله أمير شرق الأردن مُصرَّان على بذل نفوذهما لجعله هو
الخليفة، وأخذ المبايعة له من سورية والعراق عند سُنُوح الفرصة، وقد نشر في
جريدة القبلة مقالات قديمة وحديثة في بطلان خلافة خلفاء الترك في الآستانة
وتكفيرهم وتكفير حكومتهم. وقد كان في عمان مسجد متداع فأمر الأمير عبد الله
بتجديد بنائه فوضع له قاضيه الشيخ سعيد الكرمي تاريخًا في أبيات من الشعر
نقشت على لوح من الرخام وضع فوق بابه، قال في أولها:
حسين بن عون من بنى مجد عدنان
…
فصار أمير المؤمنين بلا ثاني
أعاد له حق الخلافة بعد ما
…
ثوت زمنًا بالغصب في آل عثمان
وقد جعل هذا القاضي بناء حسين لما سماه مجد عدنان سببًا لصيرورته أمير
المؤمنين الذي لا ثاني له في بلاد الإسلام، وهو لم يبن لعدنان مجدًا، ومجد عدنان
ليس سببًا للخلافة، وإنما يرضي الناظمُ بذلك أميرَه الذي كان ولا يزال يسعى
لتحقيق جعل والده خليفة، ولكنه طعن في إمامة يحيى حميد الدين الذي يخطب
أميره ووالد أميره الملك وده، لا في خلافة أعدائه الترك فقط، ولا يستطيع أحد أن
يقرن به أحدًا من شرفاء الحجاز وأمثالهم ممن يرون أنفسهم أهلاً للإمامة بأنسابهم
فقط، فإنه على تواتر نسبه الهاشمي العلوي، وصراحته بخلوه من شوائب الرق
غير الشرعي: عالم مجتهد، شجاع مدبر، ذو شوكة ومنعة يقدر بهما على حفظ
استقلاله، وقد بويع بالإمامة منذ عشرات من السنين، والمعترفون بإمامته يزيدون
على عدد أهل الحجاز، وكذا على أهل سورية كلها والعراق.
ليس من غرضنا هنا مناقشة هؤلاء ولا غيرهم في دعاويهم ولا أغراضهم، بل
بيان الواقع في البلاد الإسلامية المستقلة، وهو أن ملك الحجاز وأولاده يعتقدون أن
الخلافة حقهم بنسبهم ومركزهم في الحجاز، وأنهم ينالونه بمساعدة الدولة اللبنانية
لهم، وقد قال أحدهم - عبد الله أمير شرق الأردن في الإسكندرية: إن الخلافة لنا.
ونقلت الجرائد المصرية هذا عنه ورُدَّ عليه في بعضها.
وأما أهل نجد فحنابلة سلفيون وهم يسمون أميرهم إمامًا، ولا يسمونه خليفة
ولم يبلغني أنه يدعي الخلافة العامة، ولكنهم يعتقدون أنه لا يوجد أمير مسلم يقيم
دين الله كما أنزله غيره، وأن بلادهم دار العدل وجماعة المسلمين والهجرة إليها
واجبة بشروطها. فلا مطمع في اتباعهم لغيرهم. وقد اتهموا بانتحال مذهب جديد
نَفَّرَ منهم غيرَهم، وهم لا يبالون ما يقال فيهم، ولا يدعون أحدًا إلى اتباعهم، إلا
البدو المجاورين لهم، الذين لا يعرفون من الإسلام عقيدة ولا عملا، فيدعونهم إلى
التدين وترك البداوة واتباع حكومتهم الإسلامية التي تقيم شرع الله وحدوده على
مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل.
فهذا ملخص ما نعلم من حال البلاد العربية المستقلة، وتركنا ذكر حكومة
عمان الإباضية؛ لأن نفوذ الإنكليز فيها كبير فأهلها لا يهتدون سبيلاً إلى الارتباط
بغيرهم، ومذهب أكثرهم إباضي، فهم من الخوارج الذين لا يقيدهم مذهبهم بشرط
القرشية، وقد علمت من سلطان مسقط السابق أنه كان يتمنى الارتباط بالدولة
العثمانية.
وأما الدول الأعجمية المستقلة: فالإيرانية منها شيعة إمامية، والإمامة عندهم
للإمام محمد المهدي المنتظر، فلا تعترف بإمامة أخرى لغيره وإنما ترتبط بغيرها من
الدول الإسلامية بنوع المخالفات السياسية.
والأفغانية سنية، وقد اعترفت في المحالفة التي عقدت بينها وبين الحكومة
التركية الجديدة في أنقرة بأن الدولة التركية دولة الخلافة، ولكن لم تعترف لها
بسيادة ما عليها. بل كانت محالفتها محالفة الند للند.
وقد كان نص المادة الثالثة من هذه المحالفة التي وضعت في (أنقرة) قد
جعل الدولة الأفغانية في مكان التابع من الدولة التركية، وهذه ترجمته التي نشرت
في جريدة الأخبار المصرية لمراسلها في (كابل - عاصمة الأفغان) .
(تصدق الدولة الأفغانية بهذه المناسبة على أنها تقتدي بتركيا التي تخدم
خدمات جليلة وتحمل علم الخلافة الإسلامية) أي تقر وتعترف بهذه القدوة.
وذكر المراسل أن أمير الأفغان لم يقبل هذا النص بل غيَّرَه (بأن الدولة
الأفغانية لا تقتدي بالدولة العلية التركية، وإنما عليها أن تعترف بأنها دولة الخلافة)
وقد كان هذا قبل الانقلاب التركي الأخير، وذكر في بعض الجرائد أن الأفغان
أنكروا منه جعل الخلافة روحية لا شأن لها في السياسة والأحكام، وإذا آل الأمر إلى
اعترافهم بصحة الخلافة العثمانية التركية شرعًا فلا مندوحة لهم عن اتباع الخليفة
لأنهم قوم مسلمون مستمسكون بدينهم استمساكًا عظيمًا.
ولكن الظاهر أن جميع الذين يعترفون للعثمانيين من الترك بالخلافة ولا
يتبعون حكومتهم فإنما يعترفون لهم بلقب من ألقاب الشرف، لصاحبه نفوذ معنوي
لدى الدول. وإلا فلا معنى لكون الرجل خليفة المسلمين إلا أنه إمام دينهم ورئيس
حكومتهم الذي تجب طاعته عليهم. وتباح دماؤهم في الخروج عليه والاستقلال
بالحكم دونه. وأما المتغلب الذي لا يطاع إلا بالقهر فلا يجوز لغير من قهرهم
الاعتراف له بالخلافة، وإن من العبث بالإسلام أن تجعل إمامته الكبرى مجرد لقب
من ألقاب المدح والشرف.
هذا، وأما البلاد الإسلامية الرازحة تحت أثقال السيطرة الأجنبية كمصر وسائر
أقطار أفريقية الشمالية وسورية والعراق - فليس لها من أمر حكمها أو حكومة دينها
شيء، وليس فيها جماعة تتصرف في ذلك بحل ولا عقد، فلو أن رؤساء الحكومة
والشعب في قطر منها - وهم الذين كانوا لولا السلطة الأجنبية أهل الحل والعقد فيها -
أرادوا أن يبايعوا خليفة في بلاد الترك أو العرب مثلاً مبايعة صحيحة، وهي ما
توجب عليهم أن يكونوا خاضعين لسلطانه، مطيعين في أمورهم العامة لأمره ونهيه،
ناصرين له على من يقاتله أو يبغي عليه - لما استطاعوا أن يمضوا ذلك
وينفذوه بدون إذن الدولة الأجنبية المسيطرة عليهم، وهي لن تأذن وإن كانت تدعي
أنها لا تعارض المسلمين في أمور دينهم، وأنها تاركة أمر الخلافة إليهم.
وأما الأفراد والجماعات الذين ليس لهم رئاسة ولا نفوذ في قيادة الشعب، ولا
يستطيعون أن يطيعوا إذا بايعوا، كأن ينفروا إذا استنفروا، وينصروا إذا
استنصروا - فقد يسمح لهم في بعض هذه الأقطار أن يقولوا ماشاءوا، وفي بعضها
لا يسمح لهم بذلك. ورأي السواد الأعظم من المسلمين في كل قطر من هذه الأقطار
مخالف لرأي الدولة المسيطرة عليه، ومن ذلك مبايعة بعض الأفراد والجماعات
المصرية والهندية للخليفة التركي الجديد، ولو أراد مثل ذلك أهل تونس والجزائر
لما أبيح لهم مع عِلم فرنسة المسيطرة عليهم أن هذه المبايعة لا يترتب عليها اتباعهم
لحكومته التركية. وأن هذه الحكومة نفسها غير تابعة لخليفتها، بل هو تابع لها
وموظف عندهم وهي التي تحدد عمله ووظيفته.
وصفوة القول أن الشعوب الإسلامية المقهورة بحكم الأجانب ليس لها من
أمرها إلا ما يجود به عليها الأجانب القاهرون لها. ولا يمكنها أن تساعد على وحدة
الأمة التي تتوقف عليها وحدة الإمامة، إلا من طريق بث الدعوة وبذل المال، وأن
الشعوب المستقلة لا مطمع الآن بجمع كلمتها بترك التعصب لمذاهبها ولجنسيتها،
وإيجاد خلافة صحيحة قوية توحد حكومتها. وأقرب منه عقد موالاة ودية أو
محالفات سياسية عسكرية بينها، وقد بدأ بذلك الأعاجم منها. وأما العربية فقد عز
إلى اليوم التأليف بينها، فإذا يسره الله تيسر اتفاقها مع غيرها، وكان ذلك تمهيدًا
للإمامة العامة التي تجمع كلمتها كلها.
ومن ذا الذي يطالب بإعادة تكوين الأمة الإسلامية المنحلة العُقَد المفككة
المفاصل، وبإعادة منصب الخلافة إلى الموضع الذي وضعه الشارع فيه؟ أهل
الحل والعقد - أهل الحل والعقد. ومن وأين هم اليوم؟
***
(استدراك أو تصحيح)
كنا عند كتابة ما تقدم تركنا الكلام على الخلافة العثمانية التركية؛ لأن أصل
السياق فيها، والبحث موجه إلى بيان حالة المسلمين وحكومتهم المستقلة التي لا
يمكن تعميم الخلافة بكفالة الترك لها إلا باتفاقهن عليها، ثم بدا لنا أن نكتب كلمة
فيها ليكون بحثنا تامًّا جامعًا لكل ما تنجلي به المسألة من الجهة الشرعية ومن جهة
المصلحة العملية. وهذا نص الكلمة ومحلها في السطر الثالث من ص 55:
(وأما الدول الأعجمية المستقلة فأولها التركية، وكان المشهور أن الخلافة
انتقلت إلى سلاطينها بنرول آخر خلفاء العباسيين عنها للسلطان سليم الذي أسره
بمصر وحمله إلى الآستانة وتسلسل ذلك فيهم بعد ذلك بالعهد والاستخلاف، حتى
كان من أمرهم في هذه الأيام ما كان، ويقال: إن السلطان محمد وحيد الدين
المخلوع ما زال يدعي الخلافة التي آلت إليه بنظام الوراثة، والحق ما بيَّناه من قبل،
وأن الخليفة العباسي الذي أسره السلطان سليم لم يكن يملك الخلافة ولا النزول
عنها ولو لأهلها، ولو كان يملكهما لاشتُرط في نزوله الحرية والاختيار، ولم يكن
يملكها، ومثله السلطان وحيد الدين الآن، فلذلك لا يُعتد بما توقعه بعضهم من نزوله
عنها لملك الحجاز، وإذا كانت خلافة الترك العثمانيين بالتغلب فلا فرق بين اختيار
الأمير عبد المجيد الآن بعد انقطاع سلسلة العهد والاستخلاف بخلع محمد وحيد الدين
أو قبله، وبين اختيار من قبله عملاً بذلك النظام، هذا إذ جعلته حكومة أنقرة خليفة
بالمعنى الشرعي المعروف، ولكنها اخترعت نوعًا جديدًا من الحكومة ونوعًا آخر
من الخلافة، ووضعت للأولى قانونًا أساسيًّا عرفناه، ولمَّا تضع للثانية قانونًا لنعلم
منه كنهها، فإن كانت خلافة روحية لا سلطان لها في سياسة الأمة وحكومتها فهي
غير الإمامة التي بيَّنا أحكامها، على أن ما يضعونه لها من النظام إن كان موافقًا
للشرع حمدناه، وإن كان مخالفًا له أنكرناه، ولا يضرنا تسمية هذا العمل خلافة
فمثله معهود عند أهل الطريق ولا مشاحَّة في الاصطلاح، وسنبين في كل وقت ما
يجب علينا وعليها للإسلام.
***
17-
أهل الحل والعقد في هذا الزمان وما يجب عليهم في أمر الأمة والإمام:
فرغنا مما قصدنا إلى بيانه من أحكام الإمامة العظمى في الإسلام، ونُقفي عليه
ببيان ما يجب من السعي للعمل بهذه الأحكام، بإعادة تكوين الأمة ووحدتها،
ونصب الإمام الحق لها. الذي بينا في المسألة الثانية أنه واجب عليها شرعًا، تأثم
كلها بتركه، وتعد حياتها وميتتها جاهلية مع فقده، فالأمة كلها مطالبة به، وهي
صاحبة الأمر والشأن فيه كما بيَّنَاه في المسألة الرابعة، وإنما يقوم به ممثلوها من
أهل الحل والعقد كما حرَّرْناه في المسألة الثالثة، فأهل الحل والعقد هم المطالبون
بجميع مصالح الأمة العامة، ومسألة السلطة العليا خاصة.
قلنا: إن أهل الحل والعقد هم سراة الأمة وزعماؤها ورؤساؤها، الذين تثق
بهم في العلوم والأعمال والمصالح التي بها قيام حياتها، وتتبعهم فيما يقررونه بالشأن
الديني والدنيوي منها، وهذا أمر من ضروريات الاجتماع في جميع شعوب البشر،
تتوقف عليه الحياة الاجتماعية المنظمة، قال شاعرنا العربي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة
…
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وإذا صلحت هذه الفئة من الأمة صلح حالها وحال حكامها، وإذا فسدت فسدا،
ولذلك كان مقتضى الإصلاح الإسلامي أن يكون أهل الحل والعقد في الإسلام من
أهل العلم الاستقلالي بشريعة الأمة ومصالحها السياسية والاجتماعية والقضائية
والإدارية والمالية، ومن أهل العدالة والرأي والحكمة، كما بيناه في المسألة الرابعة،
وهي ما يشترط في أهل الاختيار للخليفة.
فذكر أهل الحل والعقد قد تكرر في مسائل أحكام الخلافة ولم نجعله عنوانًا إلا
لهذه المسالة التي عقدت للكلام فيهم أنفسهم وأين يوجدون اليوم، وما يجب عليهم
لأمتهم في هذا العصر، فإن الحكومات غير الشرعية من أجنبية ووطنية تُعنى بإفساد
زعماء الشعوب التي تستبد في أمرها، ليكونوا أعوانًا لها على استبدادها، ومن
تعجز عن إفساده على قومه بالترغيب ثم بالترهيب تكيد له أو تبطش به، فأهل
الحل والعقد من قِبَل الأمة قلما يوجدون إلا في الأمم الحرة، وأكثر الرؤساء في
الأمم المقهورة يكونون من قِبَل حكامها، وهم الذين توليهم رئاسة بعض الأعمال
والمصالح فيها، فيكون ما بيدهم من الحل والعقد مستأجرًا، وقد تُغَش الأمة ببعض
رجاله، وقد يكونون في نظرها من الخونة المستحقين للعقاب، وقد يوجد فيهم من
يكون أهلاً للثقة، وتعرف له الأمة ذلك أو تجهله، وإذا سكتت عن إظهار احتقارها
لصنائع المستبدين فيها؛ لتفرقها في وقت الانقياد والدعة، فإنها تظهره في وقت
الاجتماع بالاضطراب والثورة، وقد أظهرت لنا الثورة المصرية في هذه السنين،
كراهة الأمة واحتقارها لأفراد من رؤساء مصالح الدنيا والدين، وترئيس أفرادًا
آخرين عليها، وآية هذه الزعامة المصنوعة المستأجرة للحكومة أن صاحبها إذا
خرج من منصبه، تجد جمهور الأمة لا يحفل به، ولا يعده زعيمًا له، وربما
أظهر له الاحتقار والإهانة، وقد رأينا الأجانب الغاصبين لبعض بلادنا في هذه
السنوات النحسات يقودون بعض هؤلاء الزعماء الذين أفسدوهم على الأمة أو
رأسوهم عليها إلى عواصم بلادهم ويتواطؤن معهم على توطيد سلطتهم فيها (أي
الأمة) ويستخدمون بعضهم في البلاد للاستعانة بهم على استعمارها، وكذلك كان
يفعل السلاطين والأمراء في استمالة العلماء والوجهاء بالرتب والأوسمة والهبات، ثم
هب الترك والمصريون يطلبون سلطة الأمة بمجالس النواب، وهذه المجالس بمعنى
جماعة أهل الحل والعقد في الإسلام، لا أن الإسلام يشترط فيهم من العلم والفضل،
ما لا يشترطه الإفرنج ومقلدتهم في هذا العصر.
وقد صار أهل الجمعية الوطنية في أنقرة أصحاب الحل والعقد بالفعل،
وبالرغم من السلطان الذي ناصبهم فباء بالخزي والعزل، وحلوا محل مجلس
المبعوثين ومجلس الوزراء وشخص السلطان جميعًا، وقد ذكرني هذا ما قاله لي
الغازي أحمد مختار باشا في الآستانة لما سألته عن رأيه في الحكومة الدستورية،
قال: عندنا مجلس وليس عندنا سلطان، ولابد من الكفتين في وجود الميزان.
وأما البلاد المقهورة بالاحتلال الأجنبي كمصر والهند، فلا مجال فيها لمثل ما
فعل الترك، وإنما يظهر فيها فرد بعد فرد، إلى أن تبلغ الأمة سن الرشد.
ولقد وصل الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى إلى مقام الزعامة في هذه الأمة
ومرتبة أهل الحل والعقد في الأمور الدينية والدنيوية من سياسية وغيرها، بل
قارب أن يكون زعيم الأمة الإسلامية كلها، ولكن بالقوة لا بالفعل؛ لأن الأمة لم
تكن قد تكونت تكونًا يؤهلها للسير في الخطة التي يختطها لها ولذلك كان يقول: يا
ويح الرجل الذي ليس له أمة وقد كان أمير بلاده ينهى عنه وينأى عنه، على أنه
كان يرجع في المهمات وحل المشكلات إليه.
وقد بلغ ربيبه سعد باشا زغلول مقام الزعامة السياسية في هذه السنين التي
تكون فيها قومه، فلما تصدى للعمل بقوة الشعب، كان جزاؤه النفي بعد النفي،
ويوجد في الهند رجال من المسلمين والهنود رفعتهم أحداث الزمان إلى مقام الزعامة
في الأمة بإظهارها ما هم عليه من الكفاءة وعلو الهمة، وهم الآن في غيابات
السجون، ومنهم (غاندي) عند الهندوس وأبو الكلام ومحمد علي وشوكت علي
عند المسلمين، ويلي هؤلاء جماعاتهم كالوفد المصري عندنا، وجمعية الخلافة
عندهم.
وأما الجماعات القديمة، فإن هيئة كبار العلماء في الأزهر بمصر وفى جامع
الفاتح والسليمانية من الآستانة وجامع الزيتونة بتونس ومدرسة ديونبد بالهند - فإن
جمهور الأمة يثق بأن حكم الله ما قالوا، ولكن أكثر المتفرنجين - ومنهم أكثر
الحكام والقواد والأحزاب السياسية - قلما يقيمون لأحد منهم وزنًا إلا من كان ذا
منصب أو ثروة أصاب بها بعض الوجاهة، ولا يوجد في علماء أهل السنة
مجتمعين ولا منفردين من يبلغ في الزعامة واتباع الشعب له مبلغ مجتهدي علماء
الشيعة، ولا سيما متخرجي النجف منهم، فأولئك هم الزعماء لأهل مذهبهم حقًّا،
ويقال: إنهم أفتوا في هذه الآونة بتحريم انتخاب الجمعية الوطنية، التي أمرت بها
حكومة الملك فيصل لإقرار المعاهدة بين العراق والدولة البريطانية، فأطاعها البدو
والحضر من الشيعة، وقد كان ميرزا حسن الشيرازي - رحمه الله تعالى - أصدر
فتوى في تحريم التنباك فخضع لها الشعب الإيراني كله، وتركوا استعمال التنباك
وزرعه، وهو بالنسبة إلى صادرات بلادهم كالقطن في القطر المصري، وكان الذي
حمله على إصدار هذه الفتوى موقظ الشرق السيد جمال الدين الأفغاني قدس الله روحه
بسبب إعطاء حكومة إيران امتيازًا بالتنباك لشركة إنكليزية، فاضطرت الحكومة
لفسخ الامتياز في مقابلة تعويض للشركة قدره خمسمائة ألف جنيه إنكليزي، ولو لم
تفسخ هذه الشركة لفعلت في إيران ما فعلت شركة الجلود الإنكليزية في الهند، أي
لملكت أمتها تلك البلاد وضمتها إلى إمبراطورية الهند.
قلت: إن الحكومات المستبدة تجتهد في إفساد من يظهر من الزعماء في
الشعوب التي تتولى أمرها. على أنها تعنى قبل ذلك بالأسباب التي تمنع وجود
الزعامة فيها بإفساد التعليم ومراقبته، وقد أبعدوا علماء الدين عن السياسة وعن
الحكومة، فصار أكثر أهلها وأنصارها من الجاهلين بالشريعة، وتولى هؤلاء أمر
التعليم وإعداد عمال الحكومة له، وانكمش العلماء وأرِزوا إلى زوايا مساجدهم، أو
جحور بيوتهم، ولم يطالبوا بحقوقهم، ولا استعدوا لذلك بما تقتضيه حال الزمان،
وطبيعة العمران، ولا عرفوا كيف يحفظون مكانتهم من زعامة الأمة بتعريفها
بحقوقها، وقيادتها للمطالبة بها، فأضاعوا حقهم من الحل والعقد فيها، وتركوها
لرؤساء الحكام وللأحزاب والجمعيات السياسية التي يتولى أمرها في الغالب من لا
حظ لهم من علوم الدين، ولا من تربيته التي لا نظام لما بقي منها عند بعض
المسلمين.
فإذا أريد السعي - والحال هذه - لما وحب في الشرع من إمامة الحق والعدل
العامة، فلا بد قبل ذلك من السعي لوجود جماعة أهل الحل والعقد المُتحلِّين
بالصفات التي اشتُرطت فيهم كما تقدم في المسألة الخامسة، فإنهم هم أصحاب الحق
في نصبه بنيابتهم عن الأمة، وبتأييده في حمل الأمة على طاعته، والمطلوب قبل
نصب الإمام العام للأمة كلها، أو للبلاد المستقلة منها أن تتحد شعوب هذه البلاد،
وترجع عن جعل اختلاف المذاهب والأجناس واللغات، موانع للوحدة والاتفاق.
وإنا نتساءل هنا: هل يوجد في البلاد الإسلامة من أهل الحل والعقد من يقدر
على النهوض بهذا الأمر؟ وإذا لم يكن فيها من لهم هذا النفوذ بالفعل أفلا يوجد من
له ذلك بالقوة؟ ثم ألا يمكن للمسلمين وضع نظام لجعل النفوذ بالقوة نفوذًا بالفعل؟
بلى إنه ممكن عسر، وقوة العزيمة تجعل العسر يسرًا، وقوة العزيمة تتبع قوة
الداعية، ومن ذا الذي يُرْجَى أن يضع النظام ويشرع في العمل؟ ألا إنه حزب
الإصلاح الإسلامي المعتدل.
***
18 -
حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل:
قد علم مما تقدم أن العمل لوحدة الأمة الإسلامية بقدر الإمكان ينحصر اليوم
في الشعبين الكبيرين - العربي جرثومة الإسلام. والتركي سيفه الصمصام - وأن
أمر البلاد العربية المستقلة بيد أئمتها وأمرائها، فالتأليف بينهم مقدم على كل شيء
فيها، ونقول هنا:
إن المتصدرين للزعامة السياسية ومقام الحل والعقد في غير جزيرة العرب
من البلاد الإسلامية أزواج ثلاثة: مقلدة الكتب الفقهية المختلفة - ومقلدة القوانين
والنظم الأوربية - وحزب الإصلاح الجامع بين الاستقلال في فهم فقه الدين وحكم
الشرع الإسلامي وكنه الحضارة الأروبية، وهذا الحزب هو الذي يمكنه إزالة
الشقاق من الأمة على ما يجب عمله في إحياء منصب الإمامة، إذا اشتد أزره وكثر
ماله ورجاله، فإن موقفه في الوسط يمكِّنه من جذب المستعدين لتجديد الأمة من
الطرفين. وهو الحزب الذي سميناه في المقالة الثالثة من مقالات (مدنية القوانين)
بحزب الأستاذ الإمام؛ إذ كان المنار يمهد السبيل لجعل الأستاذ زعيم الإصلاح في
جميع بلاد الإسلام، وإنا نعرف أفرادًا من هؤلاء المصلحين المعتدلين في الأقطار
المختلفة، ولا سيما العربية والتركية والهندية، ونشهد أن مسلمي الهند في جملتهم
أرجى لشد أزر هذا الحزب بالمال والرجال، ولكنهم لا يستطيعون العمل إلا باتحاد
عقلائهم مع عقلاء سائر الأقطار لتكوين جماعة أهل الحل والعقد بما يتفقون عليه
من النظام لأجل قيادة الرأي العام، ولتكوين مؤتمر عاجل لأجل تقرير ما يتخذ من
الوسائل الآن، فإن مسألة الخلافة كانت مسكوتًا عنها، فجعلها الانقلاب التركي
الجديد أهم المسائل التي يبحث فيها، ولولا كثرة التخبط وتضليل الرأي العام بأكثر
ما كتب فيها لآثرنا السكوت على القول مع السعي إلى ما نرى من المصلحة فيها
بالعمل، ولكن وجب التمهيد له ببيان الحقائق، وإن جعلت موضع البحث والمراء
باختلاف الآراء والأهواء، وحسبنا أن نذكر حزب الإصلاح بما يعتنُّ له من
العقبات من حزبي التقاليد والعصبيات، وبما يجب أن يعد للعمل من القواعد
والبينات.
***
19 -
حزب المتفرنجين:
بيَّنَّا في المقالة الثالثة من مقالات (مدنية القوانين) مرادنا من التفرنج وأهله
وأن منهم المرتدين المجاهرين بالكفر والمُسرِّين به، ومداركهم في حكومة الإسلام
وشريعته. ونقول هنا أيضا:
إن ملاحدة المتفرنجين يعتقدون أن الدين لا يتفق في هذا العصر مع السياسة
والعلم والحضارة، وأن الدولة التي تتقيد بالدين تقيدًا فعليًّا لا يمكن أن تعز وتقوى
وتساوي الدول العزيزة. وهؤلاء كثيرون جدًّا في المتعلمين في أوربة وفي المدارس
التي تدرس فيها اللغات الأوربية والعلوم العصرية، ورأي أكثرهم أنه يجب أن تكون
الحكومة غير دينية، وحزبهم قوي ومنظم في الترك وغير منظم في مصر، وضعيف
في مثل سورية والعراق والهند، ورأيه أنه يجب إلغاء منصب الخلافة الإسلامية من
الدولة، وإضعاف الدين الإسلامي في الأمة، واتخاذ جميع الوسائل لا ستبدال الرابطة
الجنسية أو الوطنية، بالرابطة الدينية الإسلامية، والترك من هؤلاء أشد خصوم إقامة
الإمامة الصحيحة في الدولة التركية.
وقد بثت جمعياتهم الدعوة في الأناضول - مهد النعرة الإسلامية - إلى العصبية
العمية بالأساليب التي لا يشعر الجمهور بالغرض منها، وقد أشرنا من قبل إلى
بعضها، فكان لها التأثير المطلوب: كان التركي هنالك إذا سئل عن جنسه قال:
مسلم والحمد لله. وبذلك يمتاز من الرومي والأرمني. وأما الآن فصار يجيب بأنه
تركي. وكان لا يفهم من وجوب الخدمة العسكرية إلا طاعة خليفته وسلطانه في
الجهاد في سبيل الله، فبثت فيه فكرة القتال في سبيل الترك ووطن الترك لمجد
الترك، وقد اطلعنا في هذه الأيام على قصة (قميص من نار) للكاتبة الإسرائيلية
النسب التركية السياسة والمذهب، خالدة أديب وزيرة المعارف في حكومة أنقرة،
وقد أنشأتها لبيان كُنْه الحركة الوطنية في الأناضول التي أنشئت لمقاومة سلطة
الآستانة وإخراج اليونان من البلاد وتأمين استقلالها، فألفيناها مصوِّرة لما ذكرنا، لم
نر فيها كلمة واحدة تدل على فكرة الجهاد الإسلامي ولا الروح الديني الذي كنا نعهد.
على أن فريقًا من هؤلاء المتفرنجين يرى أن وجود منصب الخلافة في الترك
يمكن الانتفاع به من بعض الوجوه السياسية والأدبية وغيرهما إذا كانت الخلافة
صورية أو روحانية لا سلطان لها في التشريع ولا في التنفيذ، بل ينحصر نفوذها
في الدعاية السياسية للدولة من طريق الدين، كسلطة البابا والبطارنة وجمعيات
التبشير، وأكثر هؤلاء من أصحاب العصبية الطورانية، الذين يتفقون من بعض
الوجوه مع طلاب الجامعة الإسلامية، فإنهم يطمعون في تأليف أمة كبيرة من
شعوب الشرق الأعجمية المسلمة بجعهلهم كلهم تركًا؛ لأنه ليس لأحد منهم لغة
علمية مدونة إلا الفرس الإيرانيون والأفغانيون، وكذا لغة الأوردو في مسلمي
الهند، على أن اللغة التركية فاشية في أكثر بلاد إيران، ومن لم يمكن إدغامه في
الأمة التركية باسم الوحدة الطورانية ورابطة اللغة التركية، فإن من الممكن إدغامه
فيها بالتبع للخلافة الإسلامية، ثم يكون أولاد هؤلاء تركًا بالتعليم والتربية تبعًا
للحكومة. وحزب العصبية التركية المحضة معارض لحرب العصبية الطورانية
العامة؛ إذ يخاف أن يضيع الترك فيها كما ضاعوا في الجامعة العثمانية أو الإسلامية
بزعمه. وليس من غرضنا هنا تحقيق هذه المسائل ولا انتقادها، بل التذكير بما فيها
من معارضة الإمامة الإسلامية بأوجز عبارة، ولا نيأس من إقناع الكثيرين منهم
بالجمع بين الجنسية والإسلامية.
وهنالك فريق من المتفرنجين - ومنهم بعض المتدينين أكثر من غيرهم -
يرون أن إقامة الخلافة الإسلامية وجعل رئيس الدولة هو الإمام الحق الذي يقيم الإسلام
،متعذر في هذا الزمان في دولة مدنية، فإما أن تكون الخلافة في الدولة التركية اسمية
كما كانت في الدولة العثمانية يُنتفع بها بقدر الإمكان ويُتقى شر استبداد الخليفة وتكون
الحكومة مطلقة من قيد التزام الشرع في الأحكام التي لا يمكن العمل بها في هذا
العصر؛ وإما أن يُستغنى عنها ألبتة، واستمالة حزب الاصلاح لهؤلاء أيسر من
استمالته لغيرهم.
***
20-
حزب حشوية الفقهاء الجامدين:
إن جميع علماء الدين وأكثر العامة المقلدين لهم يتمنون أن تكون حكومتهم
إسلامية محضة، والترك يُحَتِّمُونَ أن تكون تابعة لفقه المذهب الحنفي، ومنهم من
لا يرى مانعًا من الأخذ في بعض الأحكام بفقه غير الحنفية من مذاهب أهل السنة،
ولا يبالون بما خالف ذلك من مدنية العصر، ولكن هؤلاء العلماء يعجزون عن جعل
قوانين العسكرية والمالية والسياسية مستمدة من الفقه التقليدي ويأبون القول بالاجتهاد
المطلق في كل المعاملات الدنيوية، ولو فوض إليهم أمر الحكومة على أن ينهضوا
بها لعجزوا قطعًا، ولما استطاعوا حربًا ولا صلحًا.
طالما بينا في المنار أن تقصير علماء المسلمين في بيان حقيقة الإسلام والدفاع
عنه بما تقتضيه حالة هذا العصر هو أكبر أسباب ارتداد كثير من متفرنجة المسلمين
عنه، وأنهم لو بيَّنوه كما يجب لدخل فيه من الإفرنج أنفسهم أضعاف من يخرج منه
بفتنتهم. وإن سبب ذلك أو أهم أسبابه أنه ليس للمسلمين إمام ولا جماعة تقيم ذلك
بنظام ومال كما يفعل إمام الكاثوليك (البابا) وجمعيات التبشير في بلاد النصرانية،
على أن السلاطين والأمراء وأتباعهم قد أفسدوا العلماء وأبطلوا عليهم زعامتهم
للأمة إلا فيما يؤيد ظلمهم واستبدادهم كما ذكرنا آنفًا.
ولو كان للمسلمين خليفة قائم بأعباء الإمامة العظمى لما أهمل أمر الدفاع عن
الإسلام والدعوة إليه حتى كثر الارتداد عنه، وغلب على الدولة العثمانية من لا علم
لهم به. أليس من الغريب أنني لما وضعت مشروع الدعوة والإرشاد للقيام بهذه
الفرائض التي هي أول ما يجب على إمام المسلمين وجماعتهم - لم يوجد في وزراء
الدولة ولا رؤسائها من تجرأ على إجازة هذا الاسم؟ وأن الذين استحسنوا المشروع
اتفقوا على تسمية جمعيته بجماعة العلم والإرشاد؟ ! نعم إن مستشار الصدارة قال
لحقي باشا الصدر الأعظم أمامي: إذا نفذنا هذا المشروع ألا نلقى مقاومة من الدول
العظمى؟ فأجابه: إن لدولة البلغار مدرسة عندنا لتخريج الدعاة إلى النصرانية،
أفتكون دولة الخلافة في عاصمتها دون دولة البلغار حرية في دينها؟ ولكن هذا
الصدر الأعظم لم ينفذ المشروع ولم يساعدنا فيه أدنى مساعدة، وإنما اغتنمنا فرصة
سفره إلى إيطالية وسفر طلعت بك وزير الداخلية وزعيم الاتحادية إلى أدرنة لتقرير
المشروع رسميًّا، وأعانني على ذلك انعقاد مجلس الوكلاء برئاسة شيخ الإسلام
موسى كاظم أفندي أحد أنصاره، فما زلت ألح عليه حتى أصدر رحمه الله قرارًا
من المجلس بتنفيذه، ثم جاء طلعت بك فأفسد الأمر.
وكان الذي يسمونه السلطان و (الخليفة) في قفصه، مغلوبًا على أمره، لا
يكاد يصحو من سكره، ولا ترجو المشيخة الإسلامية منه قولاً ولا عملاً في هذا
الأمر ولا غيره، ولماذا كان نفوذ مثل طلعت وناظم أغلب عليه من نفوذ شيخ
الإسلام وشيوخ دار الفتوى؟ أليس لعجز هؤلاء الشيوخ وأعوانهم عن إدارة أمور
الدولة وعن إظهار كفاية الشريعة، وعن إثبات أصول الاعتقاد والعمل بها بالحجة،
ودفع كل ما يرد عليها من شبهة؟ أليس لأنهم غير متصفين بما اشترطه أئمة
الشرع في أهل الحل والعقد، من العلم والسياسة والكفاية والكفاءة؟
على أن نفوذ علماء الدين في بلاد الترك أقوى منه في مثل سورية ومصر،
ولكن خصومهم من المتفرنجين أقوى منهم، وكل من الفريقين يعد الآخر سبب
ضعف الدولة وتقهقر الأمة، والحق أن الذنب مشترك بينهما، وأن نصب الإمام
الحق وجعل الدولة التركية كافلة لمنصب الخلافة، لا يتم إلا بجمع حزب الإصلاح
لكلمة المسلمين المتفرقة، بجذب أكثر أصحاب النفوذ إليه، حتى تنحصر صفات
أهل الحل والعقد فيه، وإنما يكون ذلك بتحويل العلماء منهم عن جمود التقليد
وعصيبة المذاهب، وكشف شبهات المتفرنجين على الدين والشرع، وبيان الخطأ
في عصبية الجنس، فإن كان إقناع السواد الأعظم بذلك غير مستطاع الآن، فحسب
هذا الحزب من النجاح الرجحان على سائر الأحزاب، واستعداده لذلك بما سنبينه
من الأسباب.
إن الإسلام هداية روحية ورابطة اجتماعية سياسية، فالكامل فيه من كملتا له،
والناقص فيه من ضعفت فيه إحداهما أو كلتاهما، وقد فقدهما معًا الملاحدة من
غلاة العصبية الجنسية، فهؤلاء لا علاج لهم، لا عند أنصار الخلافة ولا عند
غيرهم، لكن بيان حقيقة الإسلام وما فيه من الحِكَم والأحكام الكاملة لأرقى معارج
المدنية والعمران، مع الخلو من كل ما في المدنية المادية من الشر والفساد، على
الوجه الذي سنشير إليه في أبحاثنا هذه - يفل من حدهم، ويقفهم عند حدهم، بل يهدي
من لم يختم على قلبه من أفرادهم، وهو بهداية الكثير من غيرهم أقوم، ونجاح الدعوة
فيهم أرجى.
حسبنا هذه الإشارة إلى ما يجب من السعي لهذا العمل في الترك، وأما الشعب
العربي الذي هو أصل الإسلام وأرومته، ولا حياة إلا بلغته، ولا تتم أركانه إلا
بفريضة الحج التي تؤدى في بلاده، وهو الركن الاجتماعي الوحيد الجامع بين
شعوبه، ولا يمكن أن تكون الإمامة الصحيحة العامة بمعزل عنه - فهو شعب كله
متدين، ليس في جزيرته إلحاد ولا تفرنج، وإنما آفته الجهل بطرق إدارة البلاد
وعمرانها وبالعلوم والفنون التي يتوقف حفظ الاستقلال وعزة الملة عليها، وتعادي
الأمراء، ودسائس الأعداء، فكل ما يجب له على حزب الإصلاح إقناع أمرائه بما
يجب من الاتحاد، ومساعدتهم على ما يجب من إعداد وسائل القوة والعمران، وها
نحن أولاء نذكره بما يجوز نشره من برامج الأعمال وأساليب الاستدلال.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) تابع لما في الجزء العاشر م23.
(1)
آخر ص 9 من الأحكام السلطانية.
(2)
سنذكر بعض الروايات في استخلاف يزيد بن معاوية.
(3)
ص 278 و 279.
(4)
ص 275 ج2.
(5)
ص 277 منه.
(6)
ص 280 وتقدم أن (المسايرة) للكمال بن الهمام الحنفي، وأما شرحها المسمى (بالمسامرة) فهو للكمال بن أبي شريف الشافعي.
(7)
ص 413 من النسخة المطبوعة بالمطبعة الأميرية بمصر سنة 1296.
(8)
كان ينبغي حذف هذا الجمع هنا وفيما بعده.
(9)
يأتي هنا التفصيل السابق في الإمام الحق، وإمام الضرورة والمتغلبين، وداري العدل والجور.
الكاتب: أبو الكلام
خطاب أحد زعماء النهضة الإسلامية الهندية
الذي قدَّمه عند محاكمته للمحكمة الإنكليزية
ومقدمة مترجمه في وصف ثورة الهند السياسية السلبية
وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*]
المقدمة:
إن الجهاد العظيم الذي قامت به الهند المستعبدة منذ خمس سنوات متواليات
لصون الخلافة الإسلامية، وحرية البلاد العربية - يكاد يكون فذًّا في تاريخ العالم، لا
لأنه جهاد بلاد استعبدت استعبادًا شديدًا، وحكمت بالنار والحديد أجيالاً، وصبت
على رأسها المصائب تلو المصائب، ودهمتها الدواهي - بل لأن أصوله جديدة،
وطرق عمله عجيبة، ومظاهراته سلمية، وروحه العاملة فيه خالية من كل حقد
وشدة، وليس فيه إلا الإيثار وهضم النفس وكظم الغيظ وتقديم المُهج، وتحمل
الشدائد. القائمون به يُقْتَلُون ولا يَقْتُلُون، يُضرون ولا يَضرون [1] ، يصابون ولا
يصيبون، يقاومون القوة لا بالشدة والبطش، بل بالصبر والحلم والسلم، ويحاربون
الاستبداد لا بالسيف والرمح، بل بالإيمان واليقين والثقة بالله ربهم، فهو جهاد
سلمي حقًّا، وحرب روحانية مدنية، لا شائبة فيها من القوة والغلظة، بل هو في
الحقيقة صحيفة عِبر، وكتاب بصائر لسائر الأمم المستضعفة يبين لها أن الفوز
والنصر لا يتوقف على بسطة الجسم والقوة المادية، بل منبعه الحقيقي من القوة
المعنوية وروحانية القلوب التي في الصدور، وهو أول مثال للمقابلة السلمية
للقوات المتسلحة القتالة، وإنه ليهب سلاحًا ماضيًا صائبًا من الإيمان والصدق
للشرق المسكين، ليحارب به الغرب الجائر المتسلح بالقوات المادية، فهل يقبله
الشرق وينجو به من الخزي والعار؟
ألا لا يتهمني أحد بأني أبالغ في هذا الجهاد، أو أهيم بوصفه في وديان
الخيال، أو أتخيل كالشعراء في المحال. بل أُبين كُنه الحال، وأتكلم عن حقيقة
وبرهان، فإنه جهاد زعزع أساس الدولة البريطانية في البلاد، وتركها في حيرة
وارتباك، فظلت طول هذه المدة مغلولة الأيدي مع ما تملك من القوة والسلاح، ولم
تستطع قهره ومقارعته بما أوتيت من البطش والجلاد، ولكن هل سمعت سيفًا يقتل
روحًا، وأن صُرَعة يصرع قلبًا، نعم قهرت بريطانية عدوتها ألمانية؛ لأنها كانت
أقوى منها وأدهى [2] ، ولكنها ما كان لها أن تقهر هذا الجهاد السلمي؛ لأنه ليس
أمامها قوة مادية مثلها فتكسرها، ولا يد فتاكة فتجذمها، وإنما كل ما هنالك عنق
للقتل وقلب للحياة، وجسم للصلب، وروح للبقاء، فما أعجب هذا الجهاد، وما
أسلم هذا العراك!
ولقد كان من نتائج هذا الجهاد أن اضطرت بريطانيا على رغم أنفها أن تخفف
وطأتها عن الإسلام، ولا تصر على إظهار العداوة للخلافة الإسلامية، والتمادي في
حماية ربيبتها الدولة اليونانية، فإن الحكومة الهندية الإنكليزية لما أرسلت بلاغها
الرسمي الشهير في فبراير سنة 1922 إلى الحكومة المركزية في لندن تؤكد فيه
المطالب الهندية في مسألة الخلافة، وتحذرها من سياستها الخرقاء في معاداة الدولة
العثمانية والبلاد الإسلامية، تأثر به الرأي العام الإنكليزي أيَّمَا تأثر، حتى
تدحرجت وزارة المستر لويد جورج القاهر لألمانيا، وسقطت سقوطًا مخزيًا،
وكانت قد امتازت بعداوة الأتراك والمسلمين واستعمار البلاد الإسلامية المحتلة باسم
الوصاية.
نعم قد تم هذا، ولكن الأيام حبلى ولا ندري ما يكون وراء مؤتمر الصلح،
ومهما يكن من الأمر، فسيظل هذا الجهاد حتى تتحرر البلاد الإسلامية، ويغادر كل
جندي محتل أرض الشام وفلسطين والعراق ومصر والقسطنطينية، فتصبح كلها
حرة مطلقة من قيودها تحكم نفسها بنفسها كيف تشاء.
وإن مما يُحزن القلب، ويُبكي العين أن هذه البلاد الإسلامية التي تلتهب الهندُ
غيرة عليها، وتتفانى في حبها، وترخص كل غال وثمين لأجلها - لا تعلم عن هذا
الجهاد إلا شيئًا لا يُذْكَر، مع أن سيل المصائب الذي غمر العالم الإسلامي قاطبة
كان يجب أن يعرّف به المسلمون بعضهم بعضًا، ويتعاونوا ويتناصروا ويبحثوا
عن خطة مشتركة للنجاة من هذه الورطة، وللفوز والفلاح والحياة في المستقبل.
وهذا الذي دعاني إلى أن أقدم إلى مسلمي مصر والشام والعراق وسائر البلاد
العربية والإسلامية، الخطاب الجليل الذي خاطب به المحكمةَ الإنكليزية زعيمُ الهند
الحلاحل الهمام (الشيخ أبو الكلام أحمد) عندما حوكم فيها؛ لأنه فوق ما فيه من
البصائر والعبر، يبين مقاصد ذلك الجهاد، وطرق السير فيه بأحسن بيان غير أنه
لا بد لإيضاح كُنْه هذا الخطاب من بيان وجيز لحركة اللاتعاون السلمي التي سببته
هذه الواقعة.
***
(حركة اللاتعاون السلمي في الهند)
قامت حركة هذا الجهاد بعد هدنة الحرب الكبرى مباشرة، فظلت زمنًا
محصورة في قيام المظاهرات وحشد المحافل واجتماع المؤتمرات، وإرسال الوفود
إلى إنكلترا وأوروبا، وغيرها من الطرق السياسية المعهودة، ولما لم تنتج هذه
الأعمال شيئًا، تشاورت جمعية الخلافة والجمعية الوطنية الكبرى في وضع خطة
للعمل، ثم أعلنتا في أغسطس سنة 1920 (اللاتعاون السلمي) الذي هو داخل تحت
الأوامر الشرعية؛ لأنه قسم من أقسام ترك الولاء للمحاربين، والذي يسمى بالإنكليزية
OPERATION - EA - NON MONUIOLENT ومعنى (كوابريشن)
المساعدة والمشاركة في العمل، فكان الغرض منه أن تقطع عن بريطانيا جميع تلك
العلائق التي تساعدها في حكمها واستبدادها وقيامها في البلاد؛ لأن الهند ليس في
وسعها أن تقوم بحركة مسلحة؛ ولأنها تريد أن تقدم مثالاً عمليًّا لمقاومة القوة بالطرق
السلمية، فلذا جعل عنوان هذه الحركة أن تكون سلمية بالمرة، فلا تقابل القوة المادية
بقوة مثلها، بل بالحلم والتضحية والثبات على الحق، تتعب القوة من الظلم والعسف،
ولا يتعب أصحاب الحق من الصبر والتضحية وكانت لائحة عملها كما يلي:
(1)
تُرد إلى الحكومة جميع مناصبها وألقاب شرفها وأوسمتها.
(2)
تقاطع جميع مدارسها وكلياتها، وتؤسس للصبيان المدارس الوطنية،
والشبان يشتغلون بنشر الحركة وترويجها.
(3)
تقاطع جميع المحاكم العدلية، فلا يذهب إليها المحامون ولا أصحاب
الدعاوى، بل تؤسس المحاكم الوطنية فتفصل فيها الدعاوى على الطرق البسيطة.
(4)
تقاطع إصلاحات الحكومة التي تمن بها على البلاد، فلا يرشح
أحد نفسه للمجالس النيابية، ولا ينتخب لها أحد.
(5)
تقاطع البضائع الإنكليزية، ولا سيما القماش منها، ويجب على
الوطنيين أن يغزلوا القطن بأيديهم، فينسج منه القماش، وهو الذي يستعمله
الناس.
(6)
يجب ترك الخدمة العسكرية لأن الدولة البريطانية تستعمل الجيش
الهندي لاستعباد هذه البلاد وغيرها من البلاد الحرة.
(7)
يجب أخيرًا أن يمنع كل ما يدفع إلى الحكومة من أموال الضرائب
وغيرها فلا يؤدى إليها فلس واحد، وإن سجنت وعذبت.
لا يخفى خطر هذه اللائحة، فإنها لم تكن إلا دعوة إلى الإيثار وهضم النفس
وتحمل الخسائر، والتعرض للنوائب؛ إذ لا يلبيها أحد إلا وينفض يده من وسائل
معيشته، فيذر نفسه وأهله للضنك والفقر والفاقة، ثم يعرض عن كل ما عند
الحكومة من الرتب والمنافع والشرف والفخار، وبعد ذلك يعرض نفسه للحبس
والتعذيب، وقد يلقى إلى القتل والصلب، إلا أن البلاد رحبت بها وتقبلتها بقبول
حسن، فأخذت جماعات تاركي التعاون تظهر من كل جهة وتعلن هذه الأمور وتعمل
بها، والحكومة تراها بعينها ولا تعرف كيف تصد تيارها.
(مقاطعة ولي العهد)
ولما رأت الحكومة أن الحركة لا تزال تتقوى وتنتشر، وأنها لا تقدر على
قهرها لجأت إلى الحيل السياسية، فدبر الوالي العام الجديد اللورد ريدنج الداهية
الشهير، سياحة لولي عهد إنكلترا في البلاد الهندية، ظنًّا منه أن البلاد لا تأبى
استقباله والترحيب بضيفها لأن العائلة الملكية تعتبر عندهم فوق المنازعات
السياسية، فتضعف الحركة وتعود المياه إلى مجاريها.
ولكن سرعان ما خاب أمله، فإن الأمة ما سمعت بهذه السياحة إلا وقررت
مقاطعتها، وأعلنت جمعية الخلافة وجمعية العلماء أن هذه السياحة تنوب (عن)
الإمبراطورية البريطانية، التي تحارب الخلافة والبلاد الإسلامية، وتريد استعبادها
واستعمارها، فلذا لا يجوز لأحد من المسلمين أن يشترك في استقبال ولي العهد،
ولا في الاحتفالات التي تقيمها الحكومة له.
ولقد قامت المنازعات الشديدة في البلاد بعد هذا الإعلان، فكانت الحكومة
في جهة تجدُّ وتكدُّ بجميع وسائلها الكثيرة ومواردها العظيمة لإنجاح هذه السياحة،
وفي جهة أخرى كان زعماء البلاد الذين لا حول لهم ولا قوة إلا قوة الأمة مصرين
على مقاطعتها، وكانت النتيجة مدهشة جدًّا، كانت هزيمة شنيعة تسجل في التاريخ
على أقوى دول الأرض أمام الرأي العام لبلاد ضعيفة الجسم، قوية الروح، فلقد
رأى نجل إمبراطور العالم بعيني رأسه منظرًا مدهشًا، لم يُشَاهد مثله من قبل، وربما
لم يخطر في باله، فإنه ما دخل مدينة إلا وجد الأسواق فيها معطلة والدكاكين مقفلة،
والأبواب موصدة، والشوارع مهجورة، المدينة كلها في سكون كسكون المقابر،
كأنه لم يغن فيها أحد بالأمس! وقد شاهد ما شاهد عم أبيه (الدوق أوف كوت) مثل
ذلك في سياحته التي تقدمت سياحته بسنة، وصفه أحد مكاتبي الجرائد في باريس
قائلا: (إن الهند اليوم مثل ما كانت باريس عند دخول الجيوش الألمانية إياها في
حرب السبعين) .
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) صاحب الخطاب هو الزعيم الهمام، الأستاذ العلامة الكاتب الخطيب الشيخ أبو الكلام، والمترجم صاحب المقدمة هو الشاب النجيب، وغصن دوحة الإصلاح الرطيب: الشيخ عبد الرزاق المليحي الهندي تلميذ دار الدعوة والإرشاد بمصر.
(1)
فيه احتباك، أي: يُضَرُّون ولا يَضُرون من يضرهم، ويُضربون ولا يَضربون ضاربهم.
(2)
إنما غلبتها بالدهاء الذي سخرت به أكثر أمم الأرض لمساعدتها وآخرهن الولايات المتحدة الأميركية التي كانت أقوال رئيسها سبب الثورة الألمانية.
الكاتب: معروف الرصافي
وصف استقلال العراق
بقلم شاعره معروف أفندي الرصافي
لنا (ملك) وليس له (رعايا)
…
و (أوطان) وليس لها (حدود)
(وأجناد) وليس لهم (سلاح)
…
و (مملكة) وليس لها (نقود)
ويكفينا من الدولات أنا
…
تُعلَّق في الديار لنا البنود
و (أنا) بعد ذلك في (افتقار)
…
إلى ما (الأجنبي) به (يجود)
تسود سياسة (الهندي) فينا
…
وأما ابن البلاد فلا (يسود)
إذًا (فالهند) أشرف من (بلادي)
…
و (أشرف) من بني قومي (الهنود)
وكم عند الحكومة من (رجال)
…
نراهم (سادة) وهم (العبيد)
وليس (الإنجليز)(بمنقذينا)
…
وإن (كُتبتْ) لنا منهم (عهود)
متى شفق (القوي) على (ضعيف)
…
وكيف (يعاهد) الخرفانَ (أسيد)
ولكن نحن في يدهم (أسارى)
…
وما كتبوه من عهدٍ (قيود)
أما والله (لو كنا قرودًا)
…
لما رضيت بعيشتنا (القرود)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رد على الرسالة الرملية فيما سمته العقائد الوهابية
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة أستاذنا العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر،
أرجو نشر ما يأتي في المنار بيانًا للحقيقة التي أخفاها المحترم صاحب مجلة الإسعاد
وصاحبه الأستاذ المحترم الشيخ تاج الدين في حادثة الرمل؛ إذ كتب الثاني رسالة
أسماها (الرسالة الرملية في الرد على مروجي بعض العقائد الوهابية في ثغر
الإسكندرية) ونشرها صاحب المجلة المذكورة وأسماها (الرسالة الجليلة) وعقَّبَها
بخبر غير صحيح لم يعزه إلى مصدره الحقيقي بل عزاه إلى نفسه ليوهم أنه كان
حاضرًا ويُلَبِّس على القراء.
وقد نُشرت الرسالة المذكورة في عدد 5 من المجلد 3 من مجلة الإسعاد وكتبنا
ردًّا عليها فأبى نشره وطلب غيره خوفًا على كرامة الأستاذ المؤلف كما يقول. فكتبنا
غيره وأردفناه بمؤاخذته على الخبر الذي نشره غير معزو إلى صاحبه طالبين
منه نشره ظانين أنه كأصحاب المجلات الحرة التي تنشر ما لها وما عليها وترد بالحق
كالمنار الذي يطلب كل حين من قرائه أن يوافوه بكل ما يرونه منتقدًا معززًا بالأدلة
والبراهين. وقد نشر بعضه مبتورًا أوله، ورد عليه بالباطل الذي طالما لغط به
المقلدون وفنده المهتدون، إسعادًا لصاحب الرسالة علينا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أما ملخص الحادثة الرملية: فهو أن أئمة المساجد منعوني من إلقاء المواعظ
والدروس في المساجد التي احتكروها بالوظائف والمرتبات، فاتخذنا مسجدًا آخر
بنيناه بأيدينا في ملك بعض مريدينا، وصرنا نصلي فيه ونقرأ الدرس بعد العشاء
لمن يحضر من الإخوان فاجتمع عندنا خلق كثير، وهداهم الله حتى تابوا عن
الكبائر التي كانوا منغمسين فيها ليلاً ونهارًا. فحقد أولئك الأئمة وصاروا يفترون
علينا الكذب وينبزوننا بالألقاب ويشيعون بين الناس أننا ننكر الوسيلة والشفاعة
ونَسُبُّ الأئمة وننكر الوحي ويخطبون في مساجدهم بهذا، ويقسمون بالله جهد
أيمانهم ليصدقهم العوام. ثم كتبوا لمشيخة الإسكندرية شكوى عَزَوْا إلينا فيها كل هذه
المفتريات وختَّموا كثيرًا من العوام عليها زورًا، وطلبوا من المشيخة إرسال وفد
يخطب معهم في الإغراء بنا وتنفير الناس عنا، ولكن المشيخة - وفقها الله - لم تُرِد
ذلك لِما بلغها أننا براء من كل ما نسبوه إلينا بشهادة بعض الكبراء وبعض العلماء الذين
يعرفوننا حق المعرفة. ولما أكثروا من الشكوى، وأرسلوا وفودهم إلى المشيخة تترى
كلفت بعضهم بتحقيق المسألة، وكان المنتظر من ذلك الوفد المؤلف من ثلاثة علمائهم
أن يحضروا إلى محل الحادثة ويجمعوا الأئمة الشاكين والمشكو منهم في بيت بعضهم
بعيدًا عن العامة، وفي حفلة خاصة بهم ولكنهم - أرشدهم الله - لم يفعلوا وجاءوا بعد
شهر ألفوا فيه رسالة ردًّا على شخص لا وجود له إلا في خيالهم ينكر الوسيلة والشفاعة
وكرامات الأولياء وما استحسنوه من البدع، وجاءوا يوم جمعة في ربيع الأول من سنة
1340 هـ في بعض مساجد الظاهرية وبعد صلاة الجمعة قعد القوم واحتشدوا حتى
ملاأوا ما هو له من الفضاء والطرقات وقعد أحد الثلاثة الموفدين وهو الأستاذ الشيخ
تاج الدين وأخرج رسالته بعد أن نَوَّهَ الخطباءُ بفضل الوفد وعلمه وعناية المشيخة
بإيفاده، وأن قوله هو القول الفصل والدين العدل، واسترعَوْا الأسماع لقراءة الرئيس
رسالته فقرأها وأنا حاضر في المسجد لا أقدر أبدي ولا أعيد من كثرة الصياح،
وارتفاع الأصوات، وتحرش العوام، وكلما هممت برد الباطل أسكتني العوام من
حولي، ولما قرأ الأستاذ مسألة الشفاعة وأثبتها على الوجه الذي نعتقده استطعت أن
أرفع صوتي بالموافقة في بعض المواضع التي لا خلاف فيها، ثم انتهى الشيخ ولم يكد
حتى قام ثاني الوفد الشيخ شريف وخطب وخصني بالكلام تحاملاً إذ قال: يا فلان اتق
الله (يكررها) ولا تفرق الناس، ونحو ذلك، ثم قام آخر وارتقى المنبر بغير دعوة
وصار يحرض الناس ويثير الفتنة يسب ويشتم تصريحًا وتلويحًا والعلماء حاضرون
وأكثر العوام والخصوم، فقمت من بينهم بعد أن أشهدتهم ورددت عليه، وقلت: والله
إنا كنا على الحق ولا زلنا على الحق والله لأنصرن السنة ما دمت حيًّا إن شاء الله،
وما كدت أخرج من باب المسجد حتى ابتدرني العوام ضربًا ولكمًا ولم ينقذني من بينهم
إلا رجال الشرطة وبعض الإخوان.
وأما الرسالة فقد احتوت على إثبات الشفاعة التي لم ينكرها أحد؛ ليقال: إنه
رد على من ينكرها، وليدخل أو يلصق بها ما يسمونه اليوم بالتوسل، والمراد دعاء
الموتى وسؤالهم قضاء الحاجات، وقد بنى إثبات هذه الوسيلة على حياة الأموات في
قبورهم وسماعهم مَن يخاطبهم واستجابة دعائه، وردهم عليه السلام، واستدل ببعض
الأحاديث الضعيفة وبالآية الواردة في حياة الشهداء وحديثين من أحاديث الصحيح
في سؤال القبر والزيارة وهي حجة عليهم لا لهم لو كانوا منصفين، ثم قاس على
حياة الشهداء - التي أثبتها القرآن لشهداء الصحابة في بعض الغزوات - حياة جميع
من يسمونهم الأولياء، وبنى على هذا جواز دعائهم والاستغاثة بهم في تفريج الكروب
وقضاء الحاجات؛ لأنه لا فرق عندهم بين رد الميت السلام على من سلم عليه
وبين استجابته الدعاء وإجابة سؤال من توجه إليه، ولا سيما إذا قدم له هدية من
صدقة وقرآن (كذا قال الشيخ تاج الدين) في رسالته وذكر واقعة حال جرت بينه
وبين وليه أبي العباس وكفى بها مصورًا لعقائد أمثاله، وهذا نصها نقلا عن مجلة
الإسعاد وهو:
(كم من منح ونفحات، ونوال وإغاثات، شوهدت بسبب الزيارات
والتوسلات، بأصحاب هذه المقامات: فمما وقع للفقير جامع هذه الكلمات أني
اضطررت (تأمل) وقتًا إلى الانتقال من مسكن إلى آخر بمدينة الإسكندرية وكاد
الحصول على المطلوب يتعسر أو يتعذر (تأمل) لضيق الجهة التي أريد السكنى
بها بسكانها، فتوجهت (تأمل) لزيارة سيدي أحمد المرسي أبي العباس رضي الله
عنه، فبعد أن سلمت ووهبت لروحه الكريمة (تأمل) ما تيسر من القرآن، توسلت
به إلى الله تعالى في ذلك المطلوب (تأمل) وشكوت له هذه الضائقة (تأمل) كأني
أكلم حيًّا أشاهده (تأمل) وأخاطبه، وكان من كلامي له رضي الله عنه هذه العبارة:
(إن كان لكم كرامات فَلِمَ لَمْ تكن لأمثالنا وقد جئنا لتعليم العلم) ثم خرجت فاعترضني
بجوار ضريحه أحد كناسي البلدية فسألته عن مسكن فأشار إلى دار بهذه الجهة تدعى
بدار الحاج علي الخولانى وقرع بابها فنزل صاحبها المذكور باسِمَ الوجه تُرى عليه
لوائح الاستبشار بالطارق وأدخلنا ما أعده للإيجار من هذه الدار فقدرت أجرته في
نفسي بما يقرب من ضعف ما خصصه لأجرة السكنى فأردت التخلص لذلك، ولما
ظهر لذلك الرجل حقيقة الأمر لم يسعه إلا القبول بما أستطيع فأوقعني تساهله هذا في
ريب وحذر من أن يكون بالمسكن عيب خفي عليَّ فاستأجرته مشاهرة بدل المسانهة
التي هي العادة الغالبة بالمدينة فقبل أيضًا وبعد تمام الاتفاق والتوقيع من الجانبين على
الأوراق قال: إن سبب هذا الإكرام أني ساعة قرعكم الباب كنت نائمًا فرأيت أبا
العباس واقفًا على سطح مقامه يناديني بـ (يا علي إني مرسل إليك من يسكن بدارك
فأكرمه) فأيقظني قرع الباب فأحببت أن أقابل هذا الطارق بنفسي، لعله المرسل من
قبل السيد المرسي، فتحققت ما رجوت لأني رأيتك كثيرًا بمسجده (تأمل) وعزمت
على إكرامك بكل ما يمكنني إجابة لهذا الولي الذي لم أره في منامي مدة حياتي غير
هذه المرة) قال الشيخ: فشكرته إلخ.
هذه الحكاية تمثل لنا عقيدة الشيخ الذي يرد على الوهابية، وتمثل لنا أيضًا
عقيدة صاحب مجلة الإسعاد الذي نصب نفسه لإفتاء الناس وكتب على مجلته عنوان:
أكبر المجلات الإسلامية الإصلاحية
…
ثم هو يصف هذه الرسالة القبورية بالجليلة راضيًا بما فيها ويرد على من قام
يدفع عن نفسه تهمة الكذب التي ألصقها به الجاهلون، فالإصلاح عند هؤلاء
المصلحين تضليل من يهتدي بهدي السلف الصالح، وإقناعه بالنظريات والتأويلات
لاتباع خرافات القبوريين وأصحاب الموالد إلخ.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... عبد الظاهر
(المنار)
قد تكرر تقنيدنا لخرافات (الجبت) الوثنية، فنكتفي هنا بتذكير طلاب الحق
بالمسائل الآتية المفصلة في المنار من قبل، وهي:
(1)
أن ما ورد من النصوص في عالم الغيب كحياة الشهداء وسماع أرواح
المؤمنين والكفار كلام أهل الدنيا - يجب الإيمان بما صح منه كما ورد بلا زيادة ولا
نقصان ولا يجري فيه القياس، بل هو مبني على السماع. وهذه مسألة لا خلاف
فيها ولكن أدعياء العلم عندنا يدرسون بعض كتب الكلام والأصول لأجل المناقشة
في عباراتها استعدادًا للامتحان ولا يعقلون منها شيئًا.
(2)
أن هذه مسألة اعتقادية لا تقوم الحجة عليها إلا بالأدلة القطعية ولو كان
الصالحون يقضون حاجات الناس بعد موتهم وكان طلب ذلك مشروعًا لبيَّنه الله في
كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيانًا لا شبهة فيه ولتواتر فعله
عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ولكن لم يرد فيه نص قطعي ولا خبر
صحيح ظني.
(3)
أن الرؤى والأحلام لا يثبت بها حكم من أحكام الفروع الشرعية التي
يكتفون فيها بالأدلة الظنية، فضلاً عن العقائد وأصول الإيمان التي يترتب عليها
السعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي، فرجل مشغول الخيال بأمر من الأمور تخيله في
نومه واقعًا على ما يحب في صورة مطابقة لعقيدته في ميت وافق تخيله الواقع،
هل يثبت بهذا أصل من عقائد الدين أو أي شيء يعتد به شرعًا؟ ! أو يعد من
خوارق العادات؟ كلا إن مثل هذا يقع كثيرًا لأهل كل ملة، ولا سيما الوثنيين،
والروايات عن المتقدمين والمتأخرين فيها كثيرة، ولكن أدعياء العلم عندنا لا
يعرفون من أمر العالم ولا من تاريخه شيئًا يعتد به. وإن علماء النفس المتأخرين قد
أثبتوا أن بعض الناس يشعرون في المنام أو اليقظة ببعض ما تتوجه إليه أنفسهم من
الأمور وينقلون وقائع كثيرة في ذلك. فلا يبعد على هذا أن تكون نفس صاحب
الدار قد شعرت وهو نائم بأن رجلاً في مسجد المرسي سيطلب منه أن يسكن في
داره فصور له الخيال أن المرسي هو الذي أرسله ويطلب إكرامه. فهل نرتب
على هذا المنام الذي تكثر أمثاله في كل أمة وملة أن المرسي سمع دعاء الشيخ
اللاجئ إليه واستجاب له وتمثل لصاحب الدار في منامه وأخبره بما أخبره وأمره بما
أمره، ثم نجعل هذا دليلاً على شرعية الذهاب إلى القبور التي اتخذت مساجد،
فاستحق متخذوها لعنة الله على لسان خاتم رسله في آخر حياته وندعوهم بأن يقضوا
حاجاتنا، خلافًا لكتاب ربنا وسنة نبينا وسيرة سلفنا الصالح: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (آل عمران: 8){رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أهم أخبار العالم
إن أنباء مؤتمر الصلح بين الشرق والغرب في لوزان ما زالت تشيل وتهبط بها
كفة الميزان، ولن تعتدل حتى يعتدل الفريقان، والظاهر أن السياسة البريطانية قد
فازت في هذا الطور على السياسة الفرنسية، فإذا تم للورد كرزون استمالة الترك
فالويل للعرب عامة، ولمصر خاصة، ولن يتم ذلك إن شاء الله، وإنما نرجو أن يتم
الصلح على قاعدة الاعتراف بحرية الأمم واستقلالها، وإلا فلا سلام في الأرض حتى
ينتقم الله من الباغين انتقامًا آخر يتوبون به إليه من استعباد خلقه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
كان شقيقنا السيد صالح - رحمه الله تعالى - قد اختص نفسه بتقريظ
المطبوعات الجديدة في السنين الأخيرة، فكان يأخذ أكثر ما يُهدَى منها إلى المنار
ويضعه في مكتبه ويتخير للتقريظ ما شاء منها متى شاء ويحيل علينا أقله أحيانًا. ولم
يتيسر لنا بعد وفاته أن نحصي ما ترك تقريظه وإنما جمعنا بعضه فننوه به من غير
مراعاة للتأريخ، ولا لمكانة هذه الكتب والصحف في التقديم والتأخير.
(مسند الإمام زيد المسمى بالمجموع الفقهي)
قد طبع هذا الكتاب المسمى بهذا الاسم في العام الماضي بمصر سنة
1340 هـ.
الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب هو أحد
أئمة أهل البيت الأعلام، عليهم التحية والسلام، وهو الذي ينتمي إليه الزيدية،
روى الحديث عن أبيه وأخيه محمد الباقر وأبان بن عثمان بن عفان وعروة بن
الزبير وعبد الله بن أبي رافع، وروى عنه ابناه حسين وعيسى وابن أخيه جدنا
جعفر الصادق والزهري والأعمش وشعبة وكثيرون منهم أبو خالد عمرو بن خالد
الواسطي الذي روى هذا الكتاب الموسوم بالمجموع الفقهي الذي يسمونه مسند الإمام
زيد أيضًا، وهذه التسمية ليست على اصطلاح المحدثين، فإنما الكتاب مجموع
أخبار وآثار مرتبة على أبواب الفقه ككتب السنن، والأخبار المرفوعة فيه على
كثرتها قد رواها بصيغة: حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم
السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا. ولديهم مجموع آخر
يسمى المجموع الحديثي من رواية أبي خالد أيضًا.
فأما الإمام زيد فلا خلاف بين علماء الحديث وغيرهم في توثيقه وعلمه
وفضله وصلاحه، وهو الذي رفضه غلاة الشيعة لتوليه أبا بكر وعمر رضي الله
عنهما؛ إذ قالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نبايعك. فقال: لا أتبرأ منهما،
فقالوا: إذن نرفضك، قال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فلزمهم هذا اللقب. وأما أبو
خالد الواسطي فقد جرحه في الرواية الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو داود
والحاكم، ويجيب بعض علماء الزيدية عن ذلك بأنه من قبيل طعن أهل كل مذهب في
كل مخالف لمذهبهم. ولا يصدق هذا على أمثال هؤلاء الأئمة فإنهم لم يكونوا
يحاربون أحدًا ولا يتعصبون لمذاهب معينة ولا يتحاملون على أحد في الجرح
والتعديل، وقد رووا عن كثير من مخالفيهم في بعض المسائل لما ثبت عندهم
عدالتهم، على أن المذهب الذي قيل أنهم يجرحونه لأجله هو مذهب الإمام زيد، وهم
متفقون على عدالته وفضله. وللحاكم منهم نزعة تشيع معروفة. وكان أقرب من هذا
العذر أن يقولوا: إنه انفرد برواية أحاديث لم يروها أحد منهم فظنوا فيه أنه هو
الذي وضعها، أو وجدها مكتوبة ولم يسمعها، وقد احتاط البخاري في ذلك فوصفه
بأنه يروي المناكير، وهم لم يطعنوا فيه بشيء آخر غير هذه الأحاديث التي لم
تعرف عن أحد غيره من رجال طرقهم، وقد أشار بعضهم إلى أن جرحه من قبيل
أقوال بعض المعاصرين بعضهم في بعض، وما قلنا أقرب إلى ذهن المستقل؛ لأنه
لم يكن ممن يظهر فيهم أنه من أقران من تكلموا فيه.
هذا وإن أكثر أحاديث الكتاب مخرَّجَة في غيره من كتب الحديث المشهورة،
ومذهب الزيدية أو العترة ليس مبنيًّا عليه وحده، بل هو مبني على الاجتهاد
الصحيح، وقد أنبتت أرض اليمن في القرون الأخيرة التي مات فيها العلم الاستقلالي
في أكثر بلاد الإسلام أئمة لا يستطيع أحد رأى كتبهم أن يماري في اجتهادهم أو أن
يفضل عليهم قرينًا من علماء سائر المذاهب في أمصار الإسلام سواء المذاهب
المنسوبة إلى السنة والمنسوبة إلى الشيعة الإمامية، ومن يماري في اجتهاد ابن
المرتضى وابن الوزير والمقبلي والشوكاني؟ دع الذين جمعوا بين إمامة العلم وإمامة
الحكم كالهادي والناصر ويحيى والمتوكل، وهم يشترطون في الإمام الأعظم (خليفة
المسلمين) ما يشترط أهل السنة من الاجتهاد في الدين ولذلك بقي الاجتهاد فيهم،
وسيبقى إن شاء الله تعالى وإن ضعف العلم في هذا الزمان.
وقد طبق الحافظ ابن حجر على أئمتهم حديث (سيبقى هذا الأمر في قريش ما
بقي من الناس اثنان) وهو يدل على اعترافه بصحة إمامتهم، وتبعه في ذلك غيره
كالقسطلاني فذكره في شرحه للبخاري من غير عزو، ولو أنهم كانوا يُعنون بالدعوة
إلى الإسلام وإلى إقامته في البلاد والقبائل التي درست رسومه فيها من جزيرة
العرب وغيرها كما فعل الشيخ محمد عبد الوهاب وخلائفه في نجد وما حولها -
لأحيوا الإسلام وعمت إمامتهم جزيرة العرب كلها، مهما يكن من مقاومة الدولة لهم
فيها.
***
(القصائد والصحائف)
كتابان في مجلد واحد لداعية العصبية العربية أبي الفضل الوليد بن طعمة
الشهير، وقف هذا العربي الأبي الكاتب الشاعر حياته على إحياء العصبية العربية
وتجديد مجد العرب وملكهم، فأنشأ أولاً جريدة سماها (الحمراء) تذكيرًا بمجد العرب
في الأندلس ثم كان يكتب في جريدة النهضة العربية (وكلتاهما صدرتا في
الأرجنتين) ولم تكن الصحيفتان قبل احتجابهما تتسعان لمخدرات أفكاره، فكان
ينشر شعره ونثره في دواوين خاصة، وقد طبع ديوانه الأول الطبعة الثالثة في
(سان باولو - البرازيل) سنة 1915 وكان في سن الحادية والعشرين ثم طبع في
سنة 1916 مجموعة مقالات أدبية سماها (نفحة الورد) ختمها بمقالة في الدعوة
العربية التي تتجلى في مقالات كثيرة منها، وكان يدعو إلى اتحاد النصارى مع
المسلمين في القومية العربية على القاعدة التي يدعو إليها السياسيون المتدينون،
وهي أن الدين لا يمنع من اتفاق المختلفين فيه على مصالحهم الدنيوية المشتركة،
بل قال: إن كانت الوحدة العربية تتوقف على توحيد الدين فهو يدعو أهل ملته
النصارى إلى الإسلام لأجل تحقيق تلك الوحدة.
وأما هذه القصائد والصحائف التي كانت آخر ما نشره من نظمه ونثره فهي
إسلامية عربية يدعو فيها إلى تجديد مجد الإسلام بالعرب ومجد العرب بالإسلام، فقد
كتب على طرتها أنه (طبعها بنفقته وعنايته لخدمة الدين والأمة والوطن) وأنه
ألفها في سنتي 1337 و 1338 هـ وطبعها في سنة 1339 هـ وقد صرح فيها
بإسلامه وافتتحها بالبسملة، ولكنه بنى دعوته على شفا جرف هارٍ، بنى عليه
قصورًا من الخيال، دونها الحمراء والزهراء، في البهجة والجمال، وحصونًا من
الأماني دونها الأبلق الغرد، بل جزيرة (هيلو جلند) ذلك بأنه اغتر بثورة الحجاز
والمملكة العربية فيه فطفق يدعو سائر العرب والمسلمين إلى مبايعة ملكه، وهو لا
يدري أنه قد قيد نفسه بوصاية دولة إذا مرت ببلد أو أكلت أو شربت فيه أو دفن أحد
من بنيها في أرضه تزعم أنه صار ملكًا لها وزال كل حق لأهله منه إلا ما تمنحه
هي لمن تستخدمهم في استعباده. وهو لا يدري كنه استعداد الحجاز وأهله للحكم
والملك، ولا ولا
…
إنما هو أديب مخلص، وشاعر مؤثر، وغيور على أمته،
ولكنه أضاع جهاده بوضعه في غير موضعه نتمنى أن لا تثنيه خيبة الأمل من هذا
الطريق على سلوك غيره في جهاده ونصائحه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عقود ضمان الحياة والمال من التلف والمكوس
وقراءةالعامي للحديث
(س3-5) من صاحب الإمضاء في بيروت:
حضرة الأستاذ الفاضل واللوذعي الكامل مولانا السيد محمد رشيد أفندي
رضا صاحب مجلة المنار الغراء، لا زال منارًا للإسلام، وكهفًا للأنام، أتقدم إلى
موائد علمكم الشريف بالأسئلة الآتية:
رجل ضمن محل تجارته من الحريق في إحدى شركات الضمان
(السيكورتاه) على مبلغ معين من المال، وقدر الله واحترق ذلك المحل، فهل
يجوز له شرعًا مطالبة شركة الضمان بهذا المبلغ، ويكون حلالاً له أم لا؟ وهل كل
أنواع الضمانات ضد الحريق والحياة والغرق والسرقة شرعية يجوز عملها أم لا؟
وهل الرسوم الجمركية التي تؤخذ على البضائع التجارية هي من المكوس
المحرمة التي لا يجوز أخذها؟
وإذا كانت حراما أيجوز للإنسان دفعها ولا يأثم على ذلك أم لا؟ وهل يجوز
للعامل الذي لا يعرف نحوًا ولا صرفًا أن يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم مع اللحن فيه أم لا؟
تفضلوا بيِّنوا لنا ذلك، والله يجازيكم على نشر أحكام شرعه أحسن الجزاء.
…
...
…
...
…
... السائل محمد طاهر اللادقي ببيروت
(ج) 1- كل ما في السؤال الأول فهو من المعاملات المالية غير المشروعة
في الإسلام، فلم يرد بها نص من الشارع ولم يقررها بالاجتهاد إمام عادل، وإنما
هي من العقود الحادثة عند أولي المدنية المادية في هذا العصر. ومن التزمها في
غير دار الإسلام والعدل لزمته شاء أم أبى، وإنما هو مخير في أخذ ما ثبت له دون
ما ثبت عليه، وللمؤمن في غير دار الإسلام أن يأكل مال أهلها بعقودهم ورضاهم
فهو لا يكلف معهم التزام أحكام دار الإسلام التي لا يلتزمونها، ولكن عليه أن يحاسب
نفسه على إضاعة ماله باختياره فيما له مندوحة عنه، وليس له أن يخون الحكومة
غير الإسلامية بدارها في المكوس المقررة عندها في نظامها، وأما إذا استطاع
إسقاطها أو تخفيها بغير السرقة والخيانة فلا بأس.
2-
وأما المكوس في دار الإسلام فقد ورد في السنة ما يدل على تحريمها،
وهو معروف، وجماهير الفقهاء يحصرون مال الحكومة الإسلامية بما يذكرونه في
كتب الفقه: كالغنائم والخراج وزكاة أموال المسلمين وجزية الذميين، وما يستخرج
من الأرض من الدفائن والمعادن، ولكن بعض المحققين بيَّنوا أنه يجوز للإمام
العادل استحداث ضرائب جديدة إذا توقف عليها القيام بأمر الملك وحاجة الجند.
قال الإمام الشاطبي في المثال الخامس للمصالح المرسلة من كتابه الاعتصام
(ص95 ج2) ما نصه: (إذا قررنا إمامًا مطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد
الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند
إلى ما لا يكفيهم (أي بيت المال) فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما
يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر [1] مال بيت المال. ثم إليه النظر في توظيف
ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك
…
(قال) : وإنما لم ينقل ذلك عن الأولين
لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى ووجه
المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت
ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار، وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله، فالذين
يحذرون من الدواهي أو تنقطع عنهم الشوكة يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها،
فضلاً عن اليسير منها) إلخ.
ونقول: إن حاجة الجند في زمن المؤلف رحمه الله، وهو من علماء الأندلس
في القرن الثامن لا تذكر بالنسبة إلى حاجتهم في زماننا هذا الذي تنفق الدول فيه
أكثر أموالها في الجندية وحاجتها، فقد صارت العلوم والفنون والأسلحة البرية
والبحرية والجوية فيها أوسع علوم البشر وأعمالها، ويتعذر إقامة حكومة إسلامية
صحيحة تلتزم أحكام فقه لا تكون مراعاة المصالح المرسلة من قواعده. ولا يكون
إمامها (الخليفة) وأهل الشوى لديه أو بعضهم من العلماء المجتهدين في أحكام
الشرع.
3-
يجوز للعامي أن يطالع كتب السنة للاستفادة منها، فإن عوام العرب
يفهمون كثيرًا منها فهمًا صحيحًا، وإذا أراد أن يحفظ حديثًا ليرويه ويفيد الناس به
فعليه أن يعتمد على بعض أهل العلم في ضبط ألفاظه وفهم معناه، ودرجته في
الصحة وما يقابلها.
_________
(1)
لعله: يكثر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التصوير واتخاذ الصور والتماثيل
(س6) ومنه:
الفاضل الهمام مفتي الأنام، مقتفي أثر سيد الأقوام، السيد محمد رشيد أفندي
رضا، دام بسلام.
قال بعض أهل العلم: إن الصورة إذا كانت غير كاملة - أعني مشتملة على
النصف الأعلى للإنسان - لا بأس بها، ولم أعثر على دليل يُجَوِّزُ ذلك من الكتاب
ولا من السنة، بل الأحاديث الصحيحة الموجودة تحرم ذلك قطعًا، وقد ورد عن
الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صور صورة في الدنيا كلف أن
ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ) رواه البخاري ومسلم. وقد ورد في
الصحيح: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون) أو ما معناه، وفي كتاب
الترغيب والترهيب للشيخ الإمام الحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي
المنذري المتوفى سنة 656 هـ ما نصه: (وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال:
دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه الكآبة فسألته ما له؟ فقال: لم
يأتني جبريل منذ ثلاث، فإذا جرو كلب بين بيوته فأمر به فقتل فبدا له جبريل
عليه السلام فهش إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك لم تأتني فقال:
(إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تصاوير) رواه أحمد ورواته مُحْتَجٌّ بهم في الصحيح،
ورواه الطبراني في الكبير بنحوه اهـ.
فيؤخذ من ذلك تحريم التصوير مطلقًا، سواء كان باليد أو بالآلة الفوتغرافية،
وأيضًا التماثيل النحاسية والجبسية وغيرها، وقد رأينا للأستاذ الإمام مفتي الديار
المصرية سابقًا المرحوم الشيخ محمد عبده رسمًا فوتغرافيًّا لهيئته الكريمة على ما
نعلمه من طول باعه وكثرة بحثه واطلاعه وغيرته على الدين القويم وسلوكه
الطريق المستقيم وتمسكه بالكتاب والسنة وإزالته للشبه والبدع، فلعل فضيلة الأستاذ
الإمام قد اطلع على ما غمض عن الأفهام بجواز حل ذلك، وليس بِخَافٍ أن
الأحاديث لم تقيَّد بزمن مخصوص بل هي عامة في جميع الأزمان، فألتمس من
فضيلتكم الجواب بتفصيل ذلك.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد طاهر اللاذقي
(ج) تكرر بيان حكم التصوير واتخاذ الصور والتماثيل في مجلدات المنار،
ويجد السائل اختلاف أقوال الفقهاء في المجلدين الرابع عشر والخامس عشر،
وفي مجلدات أخرى، وأما توفية المسألة حقها، وتحرير القول في أدلتها والتحقيق
فيها فيجده في ج5، 6 من المجلد العشرين، ولا يمكن إعادة نشره لطوله.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
بيع الغائب وما ليس بمملوك
(س7) ومنه: إذا اشترى تاجر بضاعة غير حاضرة من تاجر آخر أو
قومسيونجي ودفع له الثمن أو عربونًا على أن يسلمه إياها بعد شهرين حتى تحضر
من محل موردها، فباعها المشتري قبل حضورها واستلامها لتاجر آخر، وهكذا
بيعت لأشخاص كثيرين قبل حضورها، فهل هذا البيع مباح شرعي أم لا؟ وهل
يجوز لمن اشترى أن يبيعها بثمنها الأصلي أو بربح أو بخسارة للتاجر أو
للقومسيونجي الأول أم لا؟ تفضلوا ببيان ذلك لا زلتم هادين مهديين وللحق
ناصرين.
(ج) بيع البضاعة المملوكة الغائبة جائز شرعًا، وكذا بيع ما هو غير
مملوك إلى أجل إذا عينه بالوصف والقدر المانع للغش وهو الذي يعرف في الشرع
بالسَّلَم، وله شروط يسأل العلماء عنها من لا يعرفها إذا احتاج إليها، ولكن ورد في
حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعًا (من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله) وفي
رواية (حتى يقبضه) وأخرى (حتى يستوفيه) وفي حديث عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده مرفوعًا (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم
يضمن ولا بيع ما ليس عندك) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه
الترمذي منهم وكذا ابن خزيمة، وفي الاحتجاج بحديث عمرو هذا خلاف، ولكن
هذا الحديث عنه قد صرح فيه بالسماع وبذكر جده الأعلى عبد الله بن عمرو
فالخلاف فيه ضعيف. والمراد (بالسَّلف) فيه القرض، إذا بايعه عليه لأجل النقص
من الثمن. قال النووي في شرح حديث مسلم المذكور آنفًا وما في معناه: وفي هذه
الأحاديث النهي عن بيع المبيع حتى يقبضه البائع، واختلف العلماء في ذلك فقال
الشافعي: لا يصح بيع المبيع قبل قبضه سواء كان طعامًا أو عقارًا أو منقولاً أو نقدًا
أو غيره، وقال عثمان البتي: يجوز في كل مبيع، وقال أبو حنيفة: لا يجوز في كل
شيء إلا العقار. وقال مالك: لا يجوز في المكيل والموزون، ويجوز فيما سواه
ووافقه كثيرون، وقال آخرون: يجوز في المكيل والموزون، ولا يجوز فيما سواهما،
ثم ذكر أن قول عثمان البتي شاذ.
وأقول: إن مذهب الشافعي ومالك هو الوسط المعتدل في المسألة إذا اقتصر
على منطوق الحديث، فإن نوطه هذا الحكم بالطعام ليس عبثًا، فإن قوت الأمة لا
يصح أن تعبث به الحيل التجارية ولا أن يكون من ذرائع الربا الذي حرمه الله فيه
وفي النقدين بالإجماع. والله أعلم وأحكم.
***
قتل الرجل امرأته
(س6) من صاحب الإمضاء في الكويت:
إلى أستاذنا صاحب المنار، أدامه الله:
قتل رجلٌ زوجَه بلا مسوغ، وله بنت قاصر منها، أفتونا برأيكم في
القاتل، وما يكون الحكم عليه في مذهب الشافعي لا زلتم منارًا يُسْتَضَاءُ بكم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
عبد الرحمن النقيب
(ج) جاءنا هذا السؤال فلم نعلم المراد منه، فإن المتبادر منه أن القتل كان
عمدًا، وحكم القاتل المتعمد معلوم من الشرع بالضرورة بشروطه إذا ثبت شرعًا،
فعسى أن يوضح السائل سؤاله، ويصرِّح بالأمر الذي يطلب بيان حكمه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية
(3)
21-
مقاصد الناس في الخلافة وما يجب على حزب الإصلاح:
الأمور بمقاصدها، ومقاصد الناس في الخلافة مختلفة، وقلما يقصد أحد منهم
إقامة الخلافة الصحيحة الشرعية التي بيَّنا حقيقتها وأحكامها، ذلك بأن أكثرهم لا
يعقلها، ومن يعقلها من غير الأكثرين يظنون إقامتها متعذرة، وأنه لا مندوحة عن
الرضا بخلافة الضرورة، التي لا تراعى فيها جميع الشروط الشرعية، ولا جميع
ما يجب على الخليفة والجماعة، ثم هم يختلفون في حد هذه الضرورة لاتّساع مجال
الرأي والهوى فيه حتى لا يبقى بينهم وبين من لا يعرفون حقيقة هذا المنصب
ومنافعه كبير فرق، ولو عرفها السواد الأعظم لتمنوها، ولو وضع نظام لإقامتها
ودُعوا إليه لأجابوا، وبذلوا في سبيله ما استطاعوا.
باحثت كثيرًا من خواص المصريين المعممين وغير المعممين في هذه
المسألة فألفيتهم متفقين على أن القصد من تأييد الخلافة الجديدة التي ابتدعتها حكومة
أنقرة الجمهورية في الآستانة - خذلان الدولة البريطانية في دسائسها التي ترمي بها
إلى جعل هذا المنصب الإسلامي الرفيع آلة في يدها فيما كانت تسعى إليه من
اصطناع الملك حسين في مكة والسلطان وحيد الدين في الآستانة وما آل إليه سعيها
من الجمع بينهما بعد تهريبها الثاني إلى مالطة، ولم يقصد أحد من المصريين بتأييد
الخليفة الجديد بالتهنئة ولا المبايعة أن يكون له على بلادهم حق إمام المسلمين
الأعظم على الأمة من كون حكومتهم تابعة له وخاضعة لسلطانه فيما يرى فيه
المصلحة من نصب أمرائها وحكامها وعزلهم وجباية المال وأخذ الجند للجهاد، ولا
غير ذلك من وظائف الخلافة التي ذكرها علماء الإسلام؛ وهذا كما ترى غرض
سياسي فائدته سلبية والباعث عليه الشعور الإسلامي العام الذي ولَّده الضغط
الأجنبي ومحاولة هذه الدولة لاستعباد الشعوب الإسلامية التي بقي لها بقية من
الاستقلال، ولا سيما الترك والعرب، وهو لا يتوقف على وجود الخلافة الصحيحة
ولا الإمام الحق والجماعة، بل هو من قبيل المظاهرة السياسية للزعيم السياسي
سعد باشا زغلول بل دونها قوة، لأجل هذا لا يبالون ما كانت شروط هذه الخلافة
وأعمالها، ومَثَلهم في ذلك سائر مسلمي أفريقية وأمثالهم من المستَذَلين للأجانب،
على أن هؤلاء يتمنون لو يكونون تابعين للدولة التركية ويعلمون أن ذلك متعذر،
ولكن ساسة المصريين لا يتمنى أحد منهم ذلك.
ومسلمو الهند أشد عناية من سائر مسلمي الأرض بهذا الأمر، ونصرهم
للخلافة التركية إيجابي وسلبي لا سلبي فقط، ولا يرضون أن تكون خلافة روحانية
لا حكم لها ولا سلطان، فإذا تساهلوا في بعض شروطها التي يوجبها مذهبهم الذي
يتعصبون له أشد التعصب بشبهة الضرورة، فلا يتساهلون في أصل موضوعها
والمقصد الذي شرعت لأجله، وهو إقامة أحكام الشرع الإسلامي في العبادات
والمعاملات المدنية والسياسية وغيرها - فهم يُحَتِّمون أن يكون الخليفة - وإن متغلبًا -
رئيس الحكومة الإسلامية الأعلى، ثم لا يسألون بعد ذلك أقام أحكام الشرع أم لا،
بدليل ما كان من تعصبهم لعبد الحميد الذي جعل نفسه فوق الشرع والقانون -
فكان مستبدًّا في كل شيء - ثم لمحمد رشاد الذي لم يكن بيده من الأمر شيء وكذا
للاتحاديين الذين سلبوه كل شيء، ثم لوحيد الدين إلى أن فر مع الأجانب مغاضبًا
لقومه ولسائر المسلمين.
فإذا ظل هذا منتهى شوطهم، فلا حياة للخلافة الصحيحة بسعيهم، ولا حاجة
إلى تأليف حزب أو جمعية غير ما عندهم، ويمكن على هذا إرضاؤهم بالخلافة
الروحية بحيلة لفظية، كأن تشترط الحكومة الفعلية على من تسميه خليفة أن يفوض
إليها أمر الأحكام كلها أو ما يسمونه الآن في عرف القوانين بالسلطتين التشريعية
والتنفيذية. وان كان يعلم هو وسائر الناس أن التفويض الصحيح في الشيء إنما
يكون ممن يملكه ويكون مختارًا فيه، وأنه لا يسلبه حق مراقبة المفوض إليه
ومؤاخذته ولو بالعزل، إذا خالف نصوص الشرع أو خرج عن جادة العدل، بل
هذه المراقبة على الوزراء والأمراء والقواد والقضاة واجبة على إمام المسلمين وهو
مقيد فيها، وفيما يترتب عليها بنصوص الشرع وبمشاورة أهل الحل والعقد، لا
مستبد في الأمر.
إذا ظل المسلمون على هذه الحالة فلا إمامة ولا إمام، وقد أني لهم أن
يفقهوا أن جعل ما سموه أحكام الضرورة في خلافة التغلب أصلاً ثابتًا دائمًا هو
الذي هدم بناء الإمامة، وذهب بسلطة الأمة المُعَبَّر عنها بالجماعة، وترتب
عليه تفرق الكلمة، وضعف الدين والدولة، وظهور البدع على السنة. وقد انقلب
الوضع وعم الجهل، حتى صار الألوف من كبراء حكام المسلمين وقوادهم وزعمائهم
في دنياهم يظنون في هذا العصر أن منصب الخلافة وغيره من أحكام الإسلام هي
سبب ضعف المسلمين وأنه لا تقوم لهم بها قائمة، ولا يكونون مع التزامها أمة
عزيزة غنية! والأمر بالضد.
والعلاج الشافي من هذا الداء، والدواء المستأصل لهذا الوباء، هو إحياء
منصب الإمامة، بإعادة سلطة أهل الحل والعقد المعبر عنهم بالجماعة لإقامة
الحكومة الإسلامية الصحيحة، التي هي خير حكومة يصلح بها أمر المسلمين بل
أمر سائر البشر، بجمعها بين العدل والمساواة وحفظ المصالح ومنع المفاسد والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وكفالة القاصرين والعاجزين، وكفاية الفقراء
والمساكين من صدقات المسلمين، ففيها علاج لجميع المفاسد الاجتماعية، في
حكومات المدنية المادية، التي ألجأت الجماعات الكثيرة إلى البلشفية والفوضوية.
فإذا أقيم بناء حكومة منظمة على هذه الأسس والقواعد لا تلبث بعد ظهور
أمرها أن تكون قدوة للأمم الحرة التي أمرها بيدها، ولا يستطيع أكابر مجرميها
أن يمكروا بعد ذلك فيها، ليصدوها عنها ويغووها. وحينئذ ينجز الله وعده لنا، كما
أنجزه لمن قبلنا، في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) .
فالواجب على حزب الإصلاح الذي نقترحه أن يوجه كل قصده وهمه أولاً إلى
بيان شكل لحكومة الخلافة الإسلامية الأعلى بالنظام اللائق بهذا العصر الذي امتاز
بالنظام على سائر العصور، ثم يحاول إقناع أصحاب النفوذ في البلاد الإسلامية
المرجوة لتنفيذه بما فيه من المصالح والمنافع والسعادة، وبتفضيله على جميع أنواع
الحكومات في العالم كله، وبإمكان تنفيذه، ودفع كل ما للمتفرنجين واليائسين من
الشبهات على ذلك، وكل ذلك سهل كما جربنا بأنفسنا.
22 -
علاقة الخلافة بالعرب والترك:
ثم ليعلم هذا الحزب أن الفوز في هذا يتوقف على التأليف والتوحيد بين
العرب والترك واتفاقهما عليه - ولو بالجملة - ومراعاة ما قوي في هذا العصر من
العصبية الجنسية مع اتقاء ضررها بقدر الاستطاعة، وكذا عصبية المذهب عند
طائفة الزيدية؛ لا لأن جمع الكلمة ووحدة الأمة من أهم ما يجب من أعمال الخليفة
فقط؛ بل لأن النجاح المطلوب في هذا الأمر يتوقف على تعاون الشعبين عليه.
ذلك أن إحياء منصب الخلافة الصحيحة يتوقف على إحياء الدين والشريعة،
وإنما يكون هذا بالعلم الاستقلالي في الدين المعبر عنه بالاجتهاد المطلق، وهو
يتوقف على إتقان اللغة العربية لأجل فهم الكتاب والسنة، فعلاقة هذا المنصب بلغة
العرب وبتاريخ العرب وببلاد العرب جلي ظاهر، فثم مهبط الوحي، ومظهر
الإسلام الحق، حيث قِبلته ومشاعر دينه، وموضع إقامة الركن الاجتماعي العام من
أركانه، ولا يمكن أن يماري في هذا من يماري في اشتراط النسب القرشي فيها
خلافًا لمذاهب السنة كلها أو العلوي الفاطمي خلافًا لمذاهب الشيعة وخاصة الزيدية.
العرب قوة عظيمة للخلافة، ولكنها غير منظمة ولا متحدة كقوة الترك،
والعمل بالشريعة في حكومات جزيرة العرب المستقلة وأهلها أتم وأكمل منه في بلاد
الترك، ولكن هذه الحكومات غير قادرة الآن على إظهار حضارة الإسلام، ولا على
نشر دعوته الصحيحة على الوجه الذي يحرك إلى النظر كما اشترط بعض علماء
الكلام. والترك أقدر منهم على الأول وأعظم عوناً على الثاني إذا قنعوا بإقامة الإمامة
الحق على صراطها المستقيم. فكل من هذين الشعبين يمكن أن يكمل ما ينقص الآخر
في ذلك مع استقلال كل منهما في إدارة بلاده وسياستها والسيادة فيها وارتباط كل
حكومة مستقلة فيهما - وكذا في غيرهما - بمقام الخلافة مباشرة بالرضا والاختيار،
خضوعًا لحكم الشرع من جهة وانتفاعًا بما يمكن من الوحدة الإسلامية في كل وقت بما
يناسبه من جهة أخرى.
لو اتفق رؤساء حكومة جزيرة العرب على جعل واحد منهم خليفة للمسلمين
وبايعوه مع علماء بلادهم وقضاتها وقوادها لما كان للترك أدنى وجه لمعارضتهم
بخليفة ينصبونه في الآستانة وإن أعطوه حقوق الإمامة الشرعية، وما هم بفاعلين.
بل لو اتفق أهل الحجاز وتهامة ونجد أو أكثرهم على مبايعة إمام اليمن المشهود
له بالعلم والعدالة والكفاية، وأعلن هذا أنه يجري على قواعد الاجتهاد في إمامته
ويقر أهل كل مذهب على مذهبهم - لما استطاع أحد من علماء المسلمين، لا العرب
ولا العجم، أن يطعن في خلافته أو يرجح عليها خلافة أخرى، إلا أن يتبع أحد هواه
فلا يكون لقوله قيمة، ولا سيما إذا قام هذا الإمام بالإصلاح الديني في الحجاز
وسائر بلاد العرب ونظم قوى الإمامة التنظيم الذي تقتضيه حالة العصر، وما هو
بعسير، وإذا فات هذه الإمامة اعتراف بعض الأقطار الإسلامية بها اليوم، فلا
يفوتها ذلك غداً بعد بث الدعوة، ولو في موسم الحج وحده، والدين عون لهم وظهير،
ولكن أكبر مصائب العرب التفرق وحب الرياسة.
ومكانة مصر تلي مكانة جزيرة العرب في هذا الأمر لو كانت مستقلة وأرادت
إقامة الخلافة الشرعية الصحيحة ولكن المتفرنجين فيها كالمتفرنجين في الترك يأبى
أكثرهم ذلك ويجهل قيمته، والدولة البريطانية عدوة الخلافة والعرب تعارض هذا
وذلك بكل قواها، وقد كان نصرها الترك على محمد علي خوفًا من تجدد شباب
الإسلام بدولة عربية، وهي تعتقد أن الترك لا يجددون حياة الخلافة الصحيحة أبدًا،
ولا ينشرون دعوة الإسلام، وكان هذا أحد أسباب تأييدها لهم ولخلافتهم في الجملة،
وكل ما قيل من أن الإنجليز كانوا يسعون لإقامة خلافة عربية في مصر أو الحجاز
قبل الحرب الكبرى فهو كذب محض، ولو فعلت ذلك مصر لاتبعها الحجاز حتمًا،
وكذا سورية إذا استطاعتا بل تتمنى هذه الأقطار اتباعها، ولو بدون إقامة الخلافة
فيها، ولعل أهل السنة وكثير من الشيعة في العراق لا يأبون هذه الوحدة العربية.
يظن بعض الناس أنه ينقص البلاد العربية شيء أهم من هذا الأمر السلبي،
وهو الضعف وفقد الشوكة التي يحمون بها الخلافة ومقام الخلافة، بله القدرة
على ما يقدر عليه الترك من الجهاد والفتح. وهذا الظن باطل، فإن اليمن وحدها قد
حفظت استقلالها ومنصب الإمامة فيها أكثر من ألف سنة، وإن الترك قاتلوا أئمة
اليمن زهاء أربعة قرون وما استطاعوا القضاء على إمامتهم ولا الاستيلاء على
جميع بلادهم، مع كثرة من ظاهر الترك من أهل البلاد بسبب اختلاف المذهب.
ولولا قوة اليمن لاستولى عليها الإنجليز من عهد بعيد كما صرح بذلك أحد ولاة عدن
منهم أمام زعيم عربي حضرمي، قال: لولا هذا الإمام الذي عنده نصف مليون مقاتل
لو قال لهم: ألقوا أنفسكم في النار، أطاعوه - لاستولينا على جميع جزيرة العرب
بغير قتال يذكر.
هذا وإن جزيرة العرب لا يخشى عليها من غير الإنجليز، وهؤلاء لا
يحاولون فتحها بالسيف والنار لموانع كثيرة- منها أنهم لا يقاتلون شعباً قويًّا حربيًّا
بالطبع في بلاد وعرة كثيرة الجبال والأودية خالية من سكك الحديد، وسائر أنواع
المواصلات، ومنها أن قتال أهل هذه البلاد كثير النفقات قليل الربح بل لا ربح فيه
إلا إذا تيسر أخذ البلاد وأُنفق على الإصلاح فيها ملايين كثيرة نقدًا لأجل الربح
نسيئة، وإنما يطمعون في الاستيلاء عليها باصطناع أمرائها وكبرائها بالدسائس
والدراهم، والتدخل فيها بحيل التجارة والامتيازات الاقتصادية بالتدريج، وقد بذلوا
في هذا السبيل أموالاً عظيمة، ولا يزالون يبذلون ولم يستفيدوا به شيئًا ثابتًا يوازيه
ولا قدروا أن يصطنعوا به أحدًا من أولئك الأمراء إلا ملك الحجاز وأولاده، ولن
يستطيع هؤلاء بعد اليوم أن يعملوا لهم شيئًا؛ لأن الأمة العربية قد عرفت كُنْهَ
جنايتهم عليها، فدوام استمساك الدولة البريطانية بهم لا يزيدها ويزيدهم إلا مقتًا عند
العرب وعند سائر المسلمين.
بل نقول: إنه ليس من أصول السياسة البريطانية الفتح بالقوة العسكرية مطلقًا،
ولم تكن الدولة العثمانية هي المانعة للإنجليز من فتح هذه البلاد قبل اليوم، فإن
الدولة لم تكن تستطيع إرسال جيش إليها إلا من طريق البحر، ومتى كان لها
أسطول يقارب أحد الأساطيل البريطانية فيتمكن من إرسال الجند والذخيرة إلى
اليمن وحماية سواحلها وسائر سواحل الدولة من الإنجليز إذا وقعت الحرب بينهما؟
ولماذا لم تَحْمِ مصر أو تُخرجهم منها؟
وأما كون أهل جزيرة العرب لا يستطيعون الجهاد بقصد الفتح كالترك وهو ما
فضَّل به الترك بعض الباحثين معنا في المسألة فيقال فيه: إن من فضل الله على
جزيرة العرب أنه ليس فيها شعوب أجنبية مختلفة في الجنس أو الدين يتحاكون
بالعرب فيغرونها بفتح بلادهم، وأن الترك لا يرون شيئًا أسلم لهم في بلادهم من
إخراج الشعوب المخالفة لهم في الجنس والدين ليستريحوا من هذا التحاك وغوائله،
ولن يقدموا على قتال أحد من جيرانهم لأجل فتح بلاده- وقد كانت حروبهم في
القرون الأخيرة كلها دفاعًا للمعتدين أو مقاومة للثائرين، ولم يكن شيء منها لأجل
سعة الملك ولا لأجل نشر الدين، وهم أحوج الناس إلى الاستراحة من القتال
والانصراف إلى عمران بلادهم وما يتوقف عليه من العلوم والفنون، والطامعون
في سعة الملك منهم إنما يطمعون في ضم الشعوب الإسلامية الشرقية إليهم التي
يمكنهم أن يجنسوها بجنسيتهم اللغوية كالكرد والجركس والتتار وسائر شعوب
الجنس الطوراني. وأما الدعوة إلى الإسلام من غير قتال فالعرب أقدر عليها من
الترك وهم دعاة بالطبع، وقد أسلم الملايين من سكان إفريقيا وجزائر المحيط
الجنوبي بدعوة تجار العرب والدراويش السائحين منهم، وحرية الاعتقاد في أكثر
حكومات هذا العصر تغني خليفة المسلمين عن القتال لحماية الدعوة وحرية الدين
كما كان عليه خلفاء العرب من الأولين.
إننا على علمنا بما ذُكر كله نود أن يتعاون الترك والعرب على إحياء منصب
الخلافة، وسنذكر ما يمتاز به الترك على العرب في هذا المقام؛ ليُعلم أن كلاًّ من
الشعبين عاجز بانفراده قوي بأخيه على النهوض بأعباء هذا الإصلاح العظيم،
الجدير بأن يغير نظام العالم وينقذ الشرق والغرب من الهلاك. وما نقترحه من
وسائل التعاون والاتفاق خاصة بما سيتقرر من الخلافة الصحيحة الدائمة مع
السكوت عن التعدد المعروف في الحال الحاضرة في الشعبين، وذلك بأن يكون
الذين يُعلَّمون ويُرَبَّون ليُرَشَّحُوا للانتخاب الشرعي بالشورى من بيوتات شرفاء
قريش وسادتها، وأن تكفل الدولة التركية هذا الاستعداد وتشرف على جميع شئونه
حتى لا يكون للتنافس فيه بين الشعبين أدنى مجال، بل حتى يكون إحياء هذا المنصب
من أكبر أسباب الاتحاد والتعاون بينهما، وإذا شاء الترك حينئذ أن يكون مقام الخليفة
في بلادهم، فعلى حزب الإصلاح أن يقنع العرب بذلك، وإن كنا نرى أن الأجدر
بالقبول الآن أن يكون في منطقة وسطى بين بلاد الشعبين، على ما سنفصله بعد.
والقسمة في مسألة مقام الخليفة ثلاثية، وهي إما أن يكون في بلاد العرب،
أو الحجاز خاصة، وإما في بلاد الترك أو الآستانة خاصة، وإما في منطقة وسطى
مشتركة.
23-
جعل مركز الخلافة في الحجاز وموانعه:
قد علمنا مما تقدم أن بلاد العرب بل جزيرتهم بل الحجاز منها هو أولى بلاد
الإسلام بأن يكون موطن الخلافة الإسلامية، ويزداد هذا ظهورًا ببيان الإصلاح
الديني الذي يجب على الخليفة في هذا العصر، ولكن في الحجاز موانع تحول اليوم
دون إمكان وجود الخلافة الصحيحة التي يرجوها المسلمون فيه حتى في حاله
الحاضرة التي لا يرضى أهل قطر إسلامي آخر معها أن يكون تابعًا له، فكيف إذا
أريد أن يسوس بلاد العرب كلها أو يدير شئون غيرها من البلاد الإسلامية - فكيف
إذا أريد أن يكون المثل الأعلى لأفضل حكومة لا يُرجى إصلاح حال البشر بدونها؟
وإننا نذكر المهم منها - والحال هذه - وهو:
(1)
أن الملك المتغلب على الحجاز لهذا العهد يعتمد في تأييد ملكه على
دولة غير إسلامية مستعبده لكثير من شعوب المسلمين وطامعة في استعباد غيرهم
ولاسيما العرب، وقد أوثق نفسه معها بعقود بل قيود اعترف لها فيها بأن الأمة
العربية منها بمنزلة القاصر من الوصي، وأن لها حق تربيتها وحمايتها من الداخل
والخارج حتى حق دخول بلاده بالقوة العسكرية لكبح الثورات الداخلية، ومن شاء
فليراجع نص هذه الوثائق في المجلد الثالث والعشرين من المنار (ص 612-
624) .
(2)
أن هذا الملك قد لقب نفسه بملك العرب، وهو يسعى لأن يُعترف له
بأنه هو الزعيم الأكبر للأمة العربية والممثل لجميع حكوماتها المستقلة لتكون كلها
موبقة وموثقة ومرهقة بتلك العهود السالبة لاستقلالها على أن كل حكومة من
الحكومات العربية المجاورة له أقوى وأصلح من حكومته من كل وجه وغير مقيدة
نفسها بعهود سالبة للاستقلال
(3)
أنه قد رضي أن يجعل ولديه رئيسين في بعض البلاد العربية التي
استولت عليها الدولة الأجنبية المذكورة تابعين لوزارة الاستعمار في تلك الدولة
كالكثير من مستعمراتها التي لها رؤساء وطنيون، فكانوا بذلك أول من دان وأعان
دولة أجنبية غير مسلمة على استعمار بلاد العرب.
(4)
أن حكومته استبدادية شخصية غير مقيدة بشيء فهو يفعل ما يشاء
ويحكم ما يريد، مثال ذلك ما نسمعه وما نراه في جريدتها المسماة بالقبلة من أخبار
المصادرات المالية والغرامات الرسمية، وغير ذلك مما لا نعرف له أصلاً في
الشرع الإسلامي. وأما القوانين الوضعية فهو يحرمها ويكفر العاملين بها! !
(5)
أن هذه الحكومة خصم لكل عِلم يُعين على الإصلاح الديني والدنيوي
فهي على كراهيتها للعلوم والفنون العصرية حتى تقويم البلدان تمنع كثيرًا من الكتب
الشرعية ككتب شيخي الإسلام المصلحين الكبيرين ابن تيمية وابن القيم وغيرهما
من الحجاز.
(6)
ما ثبت بالدلائل المختلفة من حرص أهل هذا البيت على الخلافة
والإمارة والملك، ولو في ظل الإمارة الأجنبية غير الإسلامية، وقد سبق في
المسألة العاشرة من هذه المباحث أن طالب الولاية لا يُولَّى.
(7)
أن أهل هذا البيت فاقدون لأهم شروط الخلافة ولا سيما العلم الشرعي
بدليل ما نقرأه في منشورات الملك الرسمية وبلاغات حكومته من الأغلاط اللغوية
والآيات القرآنية المحرفة والأحاديث الموضوعة على الرسول صلى الله عليه وسلم
والتفاسير المخالفة للغة ولإجماع المفسرين وغير المفسرين، مع الإصرار على ذلك
وعدم تصحيحه الدال على أنه لا يوجد عالم في الحجاز كله يتجرأ على تصحيح آية
أو حديث أو حكم شرعي ينشر في جريدتهم التي هي عنوان الجهل. ونسكت عما
نعلمه باختبارنا ورواية الصادقين المختبرين أيضًا.
(8)
أن معظم العالم الإسلامي يمقت حكومة الحجاز الحاضرة، وإننا نرى
الطعن فيها في صحف مصر وتونس والجزائر وجاوه والترك والهند وغيرها
على أن أكثر أصحاب هذه الصحف والكاتبين فيها لا يعلمون كل ما نعلم من سوء
حالها.
(9)
أن الذين يسعون لإحياء منصب الخلافة في الإسلام يرمون به إلى
ثلاثة أغراض:
(أحدها) إقامة حكومة الشورى الإسلامية كما شرعها الله لتكون حجة على
البشر أجمعين كما تقدم.
(ثانيها) إعادة مدنية الإسلام بالعلوم والفنون والصناعات التي عليها مدار
القوة والعمران، تلك المدنية الجامعة بين نعم الدنيا المادية، وبين الفضائل الدينية
الروحية، التي تحل عقد جميع المشكلات الاجتماعية.
(ثالثها) الإصلاح الديني بإزالة الخرافات والبدع وإحياء السنن وجمع الكلمة
وشد أواخيّ الأُخوة الإسلامية وسائر الفضائل الإنسانية، وليس في حكومة الحجاز
استعداد لهذه المقاصد العالية، ولا يرجى أن يرضى البيت الحاكم بالوسائل العلمية
والعملية التي يتوقف عليها هذا الإصلاح العظيم.
(10)
أن الحجاز فاقد لما تتوقف عليه إقامة الخلافة من الشوكة والثروة
فهو لا قوام له بنفسه، فكيف يقوم بأعباء هذا المنصب العظيم؟ ولا يرضى أحد من
مسلمي العرب المجاورين له أن يتبعوا حكومته الاستبدادية الضعيفة، فكيف يرضى
بذلك غيرهم؟ .
24-
إقامة الخلافة في بلاد الترك وموانعها ومرجحاتها:
لجعل الخلافة الصحيحة في بلاد الترك موانع ترجع إلى أمرين كليين:
(أحدهما) وهو أهمهما ما يُخشى من امتناع أكثر الزعماء العسكريين
والسياسيين منه لما فيه من توحيد السلطة العامة في شخص الخليفة، وما تتوقف
عليه الخلافة من إحياء اللغة العربية في بلاد الترك، وفروع ذلك وأسبابه معروفه.
(وثانيهما) معارضة الأمة العربية ولا سيما في الجزيرة وما يتبعها، ولكن
المعارضة لا تكون مؤثرة وثابتة إلا إذا جُعلت الخلافة صورية كما كانت. أو
روحية كما هي الآن. ولعلهم لولا إرادة جعلها مصلحة دعاية (بوربغندة) للدولة
التركية لما اختاروا لها الآستانة، مدينة الفخفخة الباطلة والعظمة الزائلة التي
صارت طرفًا في البلاد الإسلامية ومهددة بحرًا وبَرًّا. فإذا كانت لا تصلح أن تكون
عاصمة للدولة التركية فلن تصلح للخلافة الإسلامية بالأولى.
وأما إذا قبل أولو الأمر من الترك أن يحيوا منصب الخلافة الحق فالرجاء في
تحقيق أغراضها ومقاصدها الثلاثة يكون أتم وأسرع وتقوم بها الحجة على العرب
إلا إذا اجتمعت كلمة أمراء الجزيرة على مبايعة واحد منهم؛ وذلك غير منتظر لما
تقدم بسطه فيكون الرجحان لمن يؤيده الترك بالأسباب الآتية:
(1)
أن الترك الآن في موقف وسط بين جمود التقاليد وطموح التفرنج:
جمود عرب الجزيرة الذي جعل الدين مانعًا من العلوم والفنون التي ترقى بها
حضارة الأمة وثروتها، وعزة الدولة وقوتها. وطموح التفرنج الذي يراد به انتزاع
مقومات الأمة الإسلامية الدينية والتاريخية ومشخصاتها، واستبدال مقومات أمة
أخرى ومشخصاتها بها. وحضارة الإسلام وحكومة الخلافة هي وسط بين الجمود
وبين حضارة الإفرنج المادية التي تفتك بها ميكروبات الفساد وأوبئة الهلاك، فهي
عرضة للزوال، فكيف حال من يقلدها تقليدًا تأباه طبيعة أمته وعقائدها.
(2)
أن ما ظهر من عزم الحكومة التركية الجديدة وحزمها وشجاعتها وعلو
همتها وإقدامها - يضمن بفضل الله تعالى نجاحها في إقامة هذا الإصلاح الإسلامي بل
الإنساني الأعظم بإقامة حكومة الخلافة الجامعة بين القوة المادية والفضائل الإنسانية
المغنية للبشر عن خطر البلشفية والفوضوية؛ لأنها كافلة لكل ما تطلبه الاشتراكية
المعتدلة من الإنصاف والانتصاف من أثرة أرباب رءوس الأموال. وهي بهذه
الصفات أقدر على اتقاء كيد أعداء الإسلام الذين يقاومون الخلافة جهد طاقتهم.
(3)
أن الدولة التركية الجديدة هي الدولة الإسلامية التي برعت في فنون
الحرب الحديثة، ويرجى إذا نجحت فيما تعنى به من الأخذ بوسائل الثروة
والعمران أن تمكنها مواردها من الاستغناء عن جلب الأسلحة وغيرها من أدوات
الحرب بصنعها في بلادها فتزداد قوة على حفظ حكومتها وبلادها، وتكون قدوة
لجيرانها وأستاذًا لهم.
(4)
أن جعل مقام الخليفة في بلاد الترك أو كفالتهم له يقوي هداية الدين
في هذا الشعب الإسلامي الكبير ويحول دون نجاح ملاحدة المتفرنجين وغلاة
العصبية الجنسية في إبانته من جسم الجامعة الإسلامية. فيظل سياجًا للإسلام
وعضوًا رئيسيًّا في جامعته الفضلى.
(5)
لئن كان جهل العرب والترك في الزمن الماضي بمعنى الخلافة
ووظائفها - ولا سيما جمعها لكلمة المسلمين - سببًا من أسباب تقاطعهما وتدابرهما
التي انتهت بسقوط السلطنة العثمانية وباستيلاء الأجانب على قسم كبير من بلاد
العرب والتمهيد للاستيلاء على الباقي فإن ما نسعى إليه الآن سيكون إن شاء الله
تعالى أقوى الأسباب لجمع الكلمة والتعاون على إحياء علوم الإسلام ومدنيته مع
استقلال كل فريق بإدارة بلاده مستمدًّا السلطة من الخليفة الإمام المجتهد في علوم
الشرع الإسلامي المنتخَب بالشورى من أهل الحل والعقد من العرب والترك
وغيرهما من الشعوب الإسلامية بمقتضى النظام الذي يوضع لذلك.
25-
إقامة الخلافة في منطقة وسطى:
إنني ضعيف الأمل في كل من العرب والترك، لا أرى أحدًا منهما قد ارتقى
إلى هذه الدرجة بنفسه، ولا أرى آية بينة على استعدادهما لما اقترحت من تعاونهما
عليه. ولست ممن يدع لليأس مسربًا يسرب فيه إلى قلبه. لهذا أقترح على حزب
الإصلاح أن يسعى لإقناع الترك أولاً بجعل الخلافة في مركز الدولة، فإن لم
يستجيبوا فليساعدوا على جعلها في منطقة وسطى من البلاد التي يكثر فيها العرب
والترك والكرد، كالموصل المتنازَع عليها بين العراق والأناضول وسورية، ويضم
إليها مثلها من البلاد المتنازع فيها بين سورية والأناضول وتجعل شقة حياد ورابطة
وصل معنوي في مظهر فصل جغرافي، فتكون الموصل اسمًا وافق المسمى.
ألا فليجربوا إن كانوا مرتابين في عاقبة هذا الأمر العظيم وليفوضوا إلى حزب
الإصلاح وضع النظام لإقامة الإمامة العظمى في هذه المنطقة وتنفيذ أحكامها
ومناهجها الإصلاحية الإسلامية فيها، ثم لا يتبعها أحد من البلاد التي حولها إلا بطوعه
واختياره، فإذا رضيت الدولة التركية بذلك على أن تكون كافلة له وذائدة عنه فالمرجو
أن يرضى العرب والكرد به في هذه المنطقة وما يجاورها، على أن يتفق الجميع من
حولهم على احترامها فلا تَعتدِي ولا يُعتدَى عليها. وإلا وجب السعي لرد الأمر إلى
معدنه، وإقراره في مقره، بعد إزالة الموانع وتهيئة الوسائل. فإن بدأ ناقصًا ضعيفًا،
فسيكمل ويكون قويًّا، وقد (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ) و (يأرز بين
المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) (ولا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة بأمر الله
لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون) كما ثبت في
الأحاديث الصحيحة.
26-
نموذج من النظم الواجب وضعها للخلافة
أول ما يجب على الحزب الذي يولي وجهه شطر هذا الإصلاح العظيم أن
يضع نظامًا أساسيًّا لحكومة الخلافة على أتم الوجوه التي تقتضيها حال العصر في
حراسة الدين وسياسة الدولة أو الدول الإسلامية وإصلاح الأمة، وبرنامجًا لتنفيذ
هذا النظام بالتدريج السريع الذي يدخل في الطاقة، وكتابًا في الأصول الشرعية
للقوانين الإسلامية، تقوم به الحجة على كل من يزعم عدم صلاحية الشريعة
للحضارة والعمران في هذا العصر.
وبعد وضع النظام التام لإقامة الإمامة على أساسها، وقيامها بوظائفها وأعمالها،
يوضع نظام مؤقت لإمامة الضرورة، ويشرع في تنفيذ النظامين معاً.
مثال تفصيلي من هذا الإجمال: تنشأ مدرسة عالية لتخريج المرشحين للإمامة
العظمى وللاجتهاد في الشرع الذين ينتخب منهم رجال ديوان الخلافة الخاص، وأهل
القضاء والإفتاء وواضعو القوانين العامة ونظم الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه،
وإزالة البدع والخرافات اللاصقة بأهله. ومما يُدَرَّس في هذه المدرسة أصول
القوانين الدولية وعلم الملل والنحل، وخلاصة تاريخ الأمم، وسنن الاجتماع،
ونظم الهيئات الدينية كالفاتيكان والبطاركة والأساقفة وجمعياتهم الدينية وأعمالها-
فمتى يُخَرَّجُ من هذه المدرسة في الزمن المعين أفراد مستجمعون لشرائط الخلافة،
ومن أهمها العلم الاستقلالي الاجتهادي والعدالة - تزول ضرورة جعل الخليفة جاهلاً
أو فاسقًا.
فإذا انتُخب أحد المتخرجين في هذه المدرسة انتخابا حرًّا من قِبَل أهل
الاختيار، الذين يُتَحرى فيهم أن يكونوا من جميع الأقطار الإسلامية ولا سيما
المستقلة منها بموجب رضا أهل الحل والعقد، ثم بايعه من سائر أهل الحل والعقد
من يحصل بهم الثقة التامة للأمة كافة - قامت الحجة على كل فرد وجماعة أو شعب
بأنه هو الإمام الحق النائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين
وسياسة الدنيا، وأن طاعته فرض شرعي في كل ما هو غير معصية قطعية ثابتة
بنص الكتاب أو السنة الصحيحة من المصالح العامة، ولا تجوز مخالفته في شيء
من ذلك باجتهاد يعارض اجتهاده ولا تقليد مجتهد آخر، فإن اجتهاده في المصالح
العامة مرجح على اجتهاد غيره متى كان من أهل الاجتهاد كما هو الواجب. وإنما
يتبع كل امرئ اجتهاد نفسه أو فتوى قلبه وراحة وجدانه فيما يختلف فيه اجتهاد
العلماء من الأمور الشخصية الخاصة به ككون هذا المال حلالاً أو حرامًا.
ويجوز لكل مسلم مراجعة الخليفة فيما يخالف فيه النص، ولأهل الحل والعقد
مراجعته في رأيه واجتهاده المرجو للمصلحة العامة. ومَثَل ما يُرجِّح اجتهادَه فيما
ذُكر كَمَثَل حُكم الحاكم، فإنه يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية، ولكن من علم أنه
قضي له بغير حقه لا يحل له ديانة أن يأخذه؛ لأن علمه بالواقع أرجح من ظن
القاضي الذي هو اجتهاده في الحكم أو في تطبيقه على قضية الدعوى كما ورد في
الحديث الصحيح، على أن الحنفية يقولون بنفوذ حكم الحاكم في الظاهر والباطن
فيحل عندهم ديانة أن تأكل ما حكم لك به القاضي الشرعي؛ وإن كنت تعلم أن
المال ليس لك.
بعد هذا أذكر الحزب بأهم البرامج والنظم التي يتوقف عليها العمل وهي:
(1)
برنامج المدرسة العليا التي يخرج فيها الخلفاء والمجتهدون.
(2)
برنامج انتخاب الخليفة.
(3)
برنامج ديوان الخلافة الإداري والمالي، ومجالسه:
(أ) مجلس الشورى العامة.
(ب) مجلس الإفتاء والتصنيفات الدينية والشرعية والنظر في المؤلفات.
(ج) مجلس التقليد والتفويض لرؤساء الحكومات والقضاة والمفتين.
(د) مجلس المراقبة العامة على الحكومة.
(هـ) مجلس الدعوة إلى الإسلام والدعاة.
(و) مجلس خطابة المساجد والوعظ والإرشاد والحسبة.
(ز) مجلس الزكاة الشرعية ومصارفها.
(ح) مجلس إمارة الحج وخدمة الحرمين الشريفين.
(ط) مجلس قلم الرسائل.
27-
نهضة المسلمين وتوقفها على الاجتهاد في الشرع:
لا أرى من المصلحة أن أنشر كل ما عندي من العلم والرأي التفصيلي في
وسائل تجديد الإمامة الإسلامية العظمى ومقاصده ومنافعه؛ لأنني أخشى أن يستفيد
منه أعداء الإسلام ما يكونون أقدر به على قطع الطريق علينا من حيث لا ننتفع
نحن به كما يجب. فإن استعدادنا لهذا الإصلاح لا يزال ضعيفاً جدًّا: رئم المسلمون
للضيم، ورزئوا بالضعف، ورضوا بالخسف، ولم يبق لشعب منهم همة في خير
ولا شر، حتى كان هذا التطور الجديد في بعض شعوبهم في هذا العصر، وقد كان
جل سببه شدة ضغط الأجانب عليهم، لا رجوعهم إلى هداية دينهم، ولا العلم بأنهم
فقدوا بتركها ما كانوا قد أصابوه بهديها، وأنهم لو أقاموا شرعه وامتثلوا أمر الله في
قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) لما سبقهم أحد إلى صنع
المدافع والقذائف وسائر أنواع السلاح. ولا إلى بناء الجواري المنشآت في البحر
كالأعلام، والعلوم والفنون التي تتوقف عليها هذه الأعمال، ولما فاقهم أحد في فنون
الحضارة، وزينة الدنيا وطيبات المعيشة، وهم يقرءون في محكم كتابهم المنزل:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) ولو جاءت هذه النهضة
بهداية الإسلام - وهو أهل لما هو أرقى منها - لكانوا في المَدَنِيَّةِ أسرع سيرًا، وأبعد
شوطًا، ولما احتاج إحياء منصب الخلافة إلى سعي ودأب، ولا لتأليف حزب، على
أن الشعور الإسلامي من أقوى الوسائل المعنوية للنهضة، وإن كان بعض العاملين فيها
ليس لهم حظ منه؛ بل هم حرب له، بيد أن أكثرهم يعلم أنهم لا بد لهم من مراعاته
ومداراة أهله؛ لأنهم سواد الأمة الأعظم إلى أن يربوا جيلاً جديدًا يغرسون في أنفس
نشئه الشعور الجنسي المحض؛ ويكون هو صاحب الرأي العام في الشعب.
هذا ما نعلمه بالخبر من أمر النهضة في مصر والترك، بل قيل لنا: إن
نهضة الأفغان الجديدة تغلب عليها صبغة المدنية لا الصبغة الدينية، وهم أشد
الشعوب الإسلامية الناهضة تدينًا، وأضعفهم تفرنجًا، وقد يصح أن يقال: إنهم
ليسوا من التفرنج في شيء، فإننا نعني به الافتتان بتقليد الإفرنج في مظاهر حياتهم
وعاداتهم وشكل حكوماتهم، لا العلوم والفنون والصناعات والنظم التي راجت
سوقها في هذا العصر عندهم، بعد أن كنا نحن أحق بها وأهلها، في قرون طويلة
كانوا فيها محرومين منها. وخير ما بلغنا عن الأفغان في نهضتهم هذه أنهم يعنون
باقتباس الفنون الزراعية والصناعية من أوروبا دون الفنون الأدبية والعلوم القانونية،
فإن لهم في آداب الإسلام وشريعته غنًى عن ذلك، ولا سيما إذا سلكوا فيها مسلك
العلم الاستقلالي المعبر عنه بالاجتهاد. فالترقي الإسلامي يتوقف عليه في تجديده
مثلما توقف عليه في مبدئه. كما أبدأنا وأعدنا مرارًا ولا بد من التكرار الكثير في
مثل هذا. ولو كان الأفغان متصلين بجزيرة العرب وجعلوا العربية لغتهم الرسمية
لكانوا أجدر الشعوب الإسلامية بالسبق إلى إحياء منصب الخلافة، على أن الرجاء
في تجديدهم مدنية الإسلام في الشرق عظيم، ولا غرو فموقظ الشرق وقائده في هذا
العصر قد خرج من بلادهم.
لا يمكن للمسلمين أن يجمعوا بين هداية الإسلام وحضارته من حيث هو دين
سيادة وسلطان إلا بالاجتهاد في شرعه الواسع المرن، فترك الاجتهاد هو الذي رد
بعضهم إلى البداوة التي قضى عليها أو إلى ما يقرب منها، وطوح ببعضهم إلى
التفرنج والإلحاد والسعي إلى التفصي من الدين.
مثال ذلك: أن الترك نصبوا خليفة متقنًا لصناعتي التصوير والموسيقى
وللعزف بالآلات الوترية، وكل من هذين العملين محرم ومسقط للعدالة في المذاهب
الأربعة، ومن أشدها فيه مذهب الحنفية الذي ينتمي إليه الشعب التركي، وقد ردت
المحكمة الشرعية بمصر شهادة أستاذ موسيقى (موسيقار) من عهد قريب. ولكن
لكل من المسألتين تخريجًا في الاجتهاد كما سنشير إليه في هذا البحث. وقد سئل
الغازي مصطفى كمال باشا في أثناء سياحته الأخيرة في الأناضول عن صنع
التماثيل ونصبها في البلاد أليس محرمًا شرعًا؟ - وقد روي أنهم سينصبون له
تمثالاً في أنقرة - فأفتى بأنه غير محرم اليوم كما كان محرمًا في أول الإسلام
وقرب العهد بالوثنية وجزم بأنه لا بد للأمة التركية من الاشتغال بنحت التماثيل؛
لأنه من فنون حضارة العصر الضرورية، واستشهد أو استدل على حله بما رأى
في مصر من التماثيل.
وقد أفتى لنفسه وللحكومة في مسألة اختلاط النساء بالرجال، ومشاركتهم لهم
في الأعمال، بل سن فيها سنة جديدة إذ عقد له في أزمير على فتاة متفرنجة
حضرت مجلس العقد بنفسها ووقفت تجاهه فيه وسألها القاضي عن رضاها به بعلاً
فأجابت، وسجل زواجهما وطفقت بعد تسافر معه بزي الفرسان، وتقابل معه من
يلقى من الرجال، وقد صرح في مسألة النساء وما سَيَكُنَّ عليه في الأمة التركية
الجديدة بما لا يرضاه كله رجال الدين والمتدينون، ولا يزال يسئل عن المشكلات
المتعلقة بشئون الأمة الدينية فيفتي برأيه فيخطئ ويصيب. ولا بد في أمثال هذه
المسائل من الموقف الوسط بين التقحم الجديد والجمود التليد، وإنما يكون بالاجتهاد
دون التقليد.
مصطفى كمال باشا ذكي فصيح، ولكنه غير أصولي ولا فقيه، وهو يفتي في
أمثال هذه المسائل الدينية، بما أوتي من الجرأة العسكرية، والإدلال بزعامته
السياسية. فيقبل منه العوام، ولا يتجرأ عليه الفقهاء. ولكن سير حكومته على هذه
السبيل - وهي شعبية إسلامية لا يمكن أن تدوم بتأثير سلطة شخصية، فلا بد لها
من إحدى ثلاث: إما اتباع فقهائهم الحنفية بالجري على الراجح في كتب الفتوى-
وهذا ما لا يرضاه أحد من طلاب المدنية العصرية الغلاة ولا المعتدلين- وإما أن
يرفضوا كون الحكومة إسلامية بحجة الفصل بين الدين والسلطنة، وهذا ما يتمناه
ملاحدة المتفرنجين، ولكن لا سبيل إليه فإن سواد الأمة الأعظم مسلمون وهم
أصحاب السلطة وسيكون لهم الرأي الغالب في الجمعية الوطنية، فلم يبق إلا الثالثة،
وهي سبيل العلم الاستقلالي الاجتهادي الذي نَوَّهْنَا به فهو الذي يثبت لهذه الحكومة
وللعالم كله أن الشريعة الإسلامية أوسع الشرائع وأكملها، وإن من أصولها حظر كل
ما ثبت ضرره، وإباحة ما ثبت نفعه، وإيجاب ما لا بد منه، وأن المحرم فيها
بالنص يباح للضرورة، والمحرم لسد ذريعة الفساد يباح للمصلحة الراجحة.
28-
أمثلة لحاجة الترك إلى الاجتهاد في الشرع:
وهاهنا تأتي مسألة التصوير فهو قد حرم لعلة معروفة، وهي سد ذريعة
الوثنية، ومضاهاة خلق الله، فإذا احتيج إليه لمصلحة راجحة في العلم كتصوير
الأبدان المساعد على إتقان علوم الطب والجراحة، أو تحقيق المسميات اللغوية من
الطير والحيوان لمجرد ضبط اللغة، ولما يترتب عليها من المسائل الشرعية
كمعرفة ما يؤكل وما لا يؤكل عند من يحرمون أكل السباع المفترسة منها، أو
المسائل العلمية الكثيرة - لمصالح عسكرية أو إدارية كتصوير الجواسيس والجناة -
فكل ذلك يباح شرعًا حيث لا شبهة عبادة، ولا قصد إلى مضاهاة خلق الله، وقد
بيَّنَّا ذلك بالتفصيل في فتاوى المنار [1] ، وهو مما لمحه مصطفى كمال باشا لمحًا،
فأفتى بالجواز المطلق طردًا وعكسًا، وهو ما لا يتم مطلقًا، واستدلاله على جواز
نصب التماثيل لكبراء الرجال بعمل الحكومة المصرية يشبه استدلاله على صحة
سلب السلطة من الخليفة الآن بسلبها من الخلفاء العباسيين- ليس من الدين في شيء،
فإن الحكومة المصرية غير مقيدة بالشرع في جميع أعمالها، ولم يكن نصبها
لشيء من هذه التماثيل بفتوى من علماء الأزهر ولا غيرهم، ولو استفتتهم لما أفتوا،
لا لأن نصب التماثيل محرم في الإسلام فقط، بل لأن فيه إضاعة كثير من مال
الأمة في غير مصلحة أيضًا، وهم لا يقبلون شبهة من يدعون أن نصب التماثيل
للرجال العظام ينفخ في روح الأمة الرغبة في التشبه بهم، والقيام بمثل أعمالهم،
لأنهم يجزمون بأنه لم يخطر في بال مصري قط أن يكون كمحمد علي باشا أو
إبراهيم باشا أو سليمان باشا الفرنسي ذوي التماثيل المنصوبة بمصر والإسكندرية.
وبأن التماثيل قد تنصب لمن يكون قدوة سيئة أيضًا، وبأنها من تقليد الإفرنج في
أمر من أمور زينة مدنيتهم التي تقتضي نفقات عظيمة لا تقدم عليها إلا الأمم الغنية
ذات الثروة الواسعة، فلو كان مباحًا مطلقًا في شرعنا لكان الأولى بنا تركه لأمرين
يرجحان به:
(أحدهما) الاقتصاد في المال ونحن لا نزال شعوباً فقيرة.
(وثانيهما) تحامي التقليد لهم فيما هو من مشخصات حضارتهم التي فُتِنَّا بها
فكانت من أسباب استكبارنا لهم واحتقارنا لأنفسنا، وقد نهانا نبينا صلى الله عليه
وسلم عن التشبه بغيرنا لنكون مستقلين دونهم بل قدوة لهم. وهذه مسألة اجتماعية
مهمة فصلنا القول في مضارها مرارًا.
وقول مصطفى كمال باشا: إن الأمة لا بد لها من إتقان صناعة نحت التماثيل.
يجاب عنه بأن الأمة تاركة لصناعات كثيرة واجبة شرعًا، وهي كل ما تتوقف
عليه المعيشة والقيام بالواجبات الذاتية كالملابس والأسلحة والطيارات والبوارج
الحربية وغير ذلك. فلا يصح لتارك الضروريات والحاجيات القانع بأن يكون فيهما
عالة على الأجانب أن يهتم بأمر الزينة المحضة، ولو لم تكن ضارة في دين ولا
دنيا!
وأما مسألة الموسيقى فليس لمحرميها من النصوص الصحيحة مثل أحاديث
تحريم التصوير واتخاذ الصور والتماثيل، بل هي مسألة خلافية. وقد فصلنا في
المنار القول في أدلة الذين حظروا سماع الغناء والمعازف (آلات الطرب) من
جهة الرواية، ومن جهة الدراية والاستنباط، وحقَّقْنا أن الأصل في المسألة الإباحة،
وأن المحرم منه ما كان ذريعة إلى معصية أخرى كمن يغريه السماع بشرب
الخمر أو غيره من الفسق وأن الإسراف فيه مكروه [2] .
وأما مسألة النساء فأحكام الإسلام أعلى الأحكام وأعدلها وأفضلها فيها، وأكثر
ما يستنكره العقلاء الفضلاء من مسلمات المدن المحجبات فهو من العادات، فإذا
كان طلاب تغيير هذه العادات يحكمون الدليل في ترك ما هو ضار منها والأخذ بما
هو نافع من غيرها فسيرون الشرع الإسلامي أقوى نصير لهم فيه، وليس الفصل
بين الضار والنافع في هذا وأمثاله بالأمر السهل، بل هو يحتاج إلى تدقيق وبحث
لاختلاف الآراء فيه باختلاف الأهواء والتربية كما يُعلم من المثل الآتي: -
تصدى أحد أساتذة المدارس الأميرية في هذه البلاد لامرأة متزوجة يتصباها
وكان من تصبيه لها أن قال لها وهي مارة في الطريق ما معناه: إن جمالها قد حرم
عليه نوم الليل، فقاضاه زوجها إلى المحكمة الأهلية طالبًا عقابه على تصبي زوجته
ومحاولة إفسادها عليه- فحكم قاضي المحكمة الابتدائية ببراءة الأستاذ معللاً عمله
بأنه من حب الجمال الذي هو من الغرائز المحمودة والأذواق الصحيحة، فكيف يعد
ذنبًا يعاقب عليه القانون؟ ولكن قاضي الاستئناف عد عمله ذنبًا وحكم عليه بعقوبة.
إن تربية مسلمي مصر والترك- وأمثالهما- مذبذبة مضطربة في هذا العصر،
والتفاوت فيها كبير فمنهم غلاة التفرنج الذين يستحلون الفواحش ويميلون إلى
الإباحة وهم الأقلون، ومنهم الجامدون على جميع التقاليد العتيقة خيرها وشرها.
ولا سيما إذا كانت منسوبة إلى الدين - وإن خطأ، وبين هؤلاء وأولئك أهل القصد
والاعتدال من علماء الدين وعلماء الدنيا- فيجب أن يحال كل ما يراد من التغيير
في عادات الأمة على لجان من هؤلاء المعتدلين يبحثون في منافعه ومضاره من كل
وجه ويضعون النظام لما يقررون تغييره مراعين فيه سنن الاجتماع باتقاء ضرر
الاستعجال والطفرة، وما يحدثان من الفوضى في الأمة والتفاوت العظيم بين
أفرادها وجماعاتها، فإن الجيل الحاضر وليد الجيل الماضي ووارثه في غرائزه
وأفعاله وانفعالاته وعاداته، بل ينزع به العرق إلى الأجيال التي قبله، فإذا حُمل
على ترك شيء مما كان عليه من الأفعال والعادات فإنما يسهل عليه من ذلك ما
يوافق الهوى واللذة دون ما يوافق العقل والمصلحة، ثم إنه لا بد أن يلقى معارضة
من فريق كبير من الأمة بمقتضى سنن الغريزة، فإن كلاًّ من حب التجديد وحب
المحافظة على القديم غريزي في البشر فيظهر هذا في أناس وذاك في آخرين،
بتقدير العليم الحكيم، وإلا لكانوا على غرار واحد لا يتغير كالنمل والنحل، أو
لكانوا كل يوم في جديد لا يثبتون عليه ولا يكون لجيل منهم شبه بجيل آخر.
فمن يظن أنه يمكنه أن يميت أمة من الأمم بإبطال مقوماتها من العقائد
والغرائز والأخلاق ومشخصاتها من الآداب والعادات ثم يبعثها خلقًا جديدًا في جيل
واحد بتغيير في قوانينها وشكل حكومتها، وإقناعها بذلك بالخطب والشعر والجرائد
فهو مغرور، والحمل عليه بالقوة القاهرة لا يأتي إلا بحكومة شخصية قاهرة.
نعم إن التغيير ممكن وواقع، وطريقه معروف، وهو ما أرشدنا الله تعالى
إليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11)
وتغيير ما بالأنفس إنما يكون منظمًا بتعميم التربية والتعليم، وقد حقَّق علماء
الاجتماع أن التأثير في تغيير حال الشعب لا يتم إلا في ثلاثة أجيال: جيل التقليد
والمحاكاه، وجيل الخضرمة، وجيل الاستقلال، وبتمامه يتم تكوين الملكة. ومثل
هذا في الشعوب كمثل التعليم الابتدائي والثانوي والعالي للأفراد. وقد يشذ بعض
الشعوب في بعض الملكات كما يشذ بعض الأفراد بذكاء نادر فيبلغ من إحكامها في
بدايته ما يعجز عن مثله البليد في نهايته. وقد حقَّق الفيلسوف الاجتماعي
(غوستاف لوبون) المشهور في كتابه (تطور الأمم) أن ملكة الفنون لم تستحكم
لأمة من أمم الأرض في أقل من الثلاثة الأجيال المقررة إلا للعرب فهم وحدهم
الذين تربت هذه الملكة فيهم فصار لهم مذهب خاص فيها منذ الجيل الأول من
مدنيتهم الإسلامية، فإذًا لا بد من جعل كل تغيير يُراد في الأمة إلى لجان من أهل
الإخصاء فيه تدرسه وتمحصه وتقرر فيه ما فيه مصلحتها وموافقة شريعتها.
وليس بيان هذا من مقصدنا هنا، ولكنه استطرادٌ غرضنا منه رد مسألة النساء
وأمثالها إلى أصل علمي معقول، فإن الفوضى فيها ضاربة أطنابها في بلادنا كالبلاد
التركية، فما يراه بعض الناس ضارًّا قطعًا يراه آخرون هو النافع الذي لا بد منه،
ومقلدة الإفرنج فيه كالجامدين على القديم ليسوا على هدى ولا بصيرة، فإن أعقل
حكماء الإفرنج وأكبر علمائهم غير راضين عن حال النساء عندهم، وقد حكي لنا
عن عاهل ألمانية عندما زار الآستانة في أيام الحرب أنه لما اطلع على تهتك النساء
التركيات وبروزهن للرجال متبرجات كنساء الإفرنج عذل طلعت باشا الصدر
الأعظم الاتحادي على ذلك قائلاً: إنه كان لكم من دينكم وازع للنساء عما نشكو
نحن من غوائله الأدبية والاقتصادية ونعجز عن تلافيه، فكيف تتفصون منه
باختياركم؟ إنكم إذًا لمخطئون.
ومما يحسن التذكير به من المسائل التي يتمسك جماهير متفقهة المسلمين فيها
بما ينافي ضروريات الحضارة الحاضرة والمصالح العامة: زعمهم أن السائل
المسمى بالكحول والسبيرتو نجس يحرم استعماله في كل ما يستعمله فيه الأطباء
والصيادلة وسائر الصناع الذين يعدونه ضروريًّا في صناعتهم، وقد أفتى جماعة
من فقهاء الهند بذلك منذ أشهر ورددنا عليه ردًّا طويلاً أثبتنا فيه أن هذا السائل
طاهر ومطهر طبي، وأنه من الضروريات التي يجب الانتفاع بها في كثير من
الأعمال، وأنه مما عمت البلوى به، ولكن الأصل في فتاوى أفراد العلماء أن يعمل
بها من يقتنع بصحة أدلتها إذا كانت الفتوى مُؤَيَّدَة بالدليل على طريقة السلف التي
نجري عليها في المنار، ومن يثق بعلم صاحبها أو بكونه على المذهب الذي ينتمي
إليه في المقلدين- فهي لا تحل المشكلات العامة بل تبقي الأمة مضطربة باختلاف
الفتاوى وأقوال العلماء، وإنما يحل المشكلات العامة ويجمع كلمة الأمة فيها الإمام
الأعظم (الخليفة) إذا كان مجتهدًا كما تقدم.
29-
توقف الاجتهاد في الشرع على اللغة العربية:
قد ثبت بما تقدم أن الجمع بين حضارة العصر وفنونه وبين المحافظة على
الإسلام لا يتم إلا بالاجتهاد في الشرع فكذلك لا يكون الخليفة هو الإمام الحق الذي
تجب طاعته، ويمكنه نشر دعوة الدين والمحافظة عليه ومقاومة البدع وإزالة
الخلاف بين الأمة في المسائل الاجتماعية والمدنية العامة إلا إذا كان مجتهدًا -
والاجتهاد يتوقف على إتقان اللغة العربية وفهم أساليبها وخواص تراكيبها والملكة
الراسخة في فنونها؛ للتمكن من فهم نصوص الكتاب والسنة، وهما في الذروة
العليا من هذه اللغة، وقد عدَّ علماء الأصول من جميع المذاهب معرفة اللغة العربية
شرطًا مستقلاًّ للاجتهاد مع اشتراط العلم بالكتاب والسنة، بل صرح بعض أئمة
العلماء بأن معرفة هذه اللغة فرض على كل مسلم وإن مقلدًّا! ولولا أن جميع سلف
الأمة كان على هذا الاعتقاد لما انتشرت العربية في خير القرون في كل قطر انتشر
فيه الإسلام من غير مدارس منظمة تديرها الحكومات والجمعيات، وهل لذلك من
سبب غير الاعتقاد بالوجوب الديني، ومن الآيات على ذلك إجماع العلماء في كل
زمان ومكان على أداء جميع العبادات اللسانية بهذه اللغة كتلاوة القرآن في الصلاة
وغيرها وأذكار الصلاة والحج وغيرها حتى إنهم لا يزالون يؤدون بها الوعظ من
خطبة الجمعة لا الحمدلة والشهادتين والتلاوة والدعاء فقط، ولكن منهم من يترجمها
بعد الصلاة ومن المعلوم من الإسلام بالضرورة أننا متعبدون بتدبر القرآن والاعتبار
والاتعاظ بآياته وبفهم تلاوة الصلاة وأذكارها، وكل ذلك يتوقف على معرفة اللغة
العربية، وتقصير بعض المسلمين في هذا الواجب كتقصيرهم في الواجبات الكثيرة
التي أضاعت عليهم دينهم ودنياهم.
ليس من غرضنا هنا أن ندعو أعاجم المسلمين إلى تعلم اللغة العربية وإنما أن
نذكر حزب الإصلاح بما لا يجهله أكثر رجاله من العلاقة القوية بين منصب الخلافة
وبين اللغة العربية فإنه سيجد في اللغة معارضة شديدة، ولكن حجته قوية وهي
تعذر حياة الإسلام نفسه والاجتهاد في أحكامه بدونها- وتعذر تعارف المسلمين وجمع
كلمتهم بالقدر المستطاع بدونها، ففي كل قطر يسكنه المسلمون وكل مدينة منه لا
يزال الإسلام فيها حيًّا يوجد من أهل العلم بالعربية من يمكن التعارف معهم ونشر ما
يتقرر لخدمة الدين بسعيهم.
إن اللغة رابطة من روابط الجنس، وقد حرم الإسلام التعصب للجنس؛ لأنه
مُفَرِّق للأمة ذاهب بالاعتصام والوحدة واضع للعداوة موضع الألفة وقد نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن العصبية العمية الجاهلية، وتبرأ ممن يدعو إليها أو يقاتل
عليها، وقد كان من إصلاح الإسلام الديني والاجتماعي توحيد اللغة بجعل لغة هذا
الدين لغة لجميع الأجناس التي تهتدي به، فهو قد حفظ بها وهي قد حفظت به، فلولاه
لتغيرت كما تغير غيرها من اللغات، وكما كان يعروها التغيير من قبله، ولولاها
لتباعدت الأفهام في فهمه، ولصار أديانًا يُكَفِّر أهلها بعضهم بعضًا، ولا يجدون أصلاً
جامعًا يتحاكمون إليه إذا رجعوا إلى الحق وتركوا الهوى- فاللغة العربية ليست خاصة
بجيل العرب سلائل يعرب بن قحطان بل هي لغة المسلمين كافة، ولغة شعوب أخرى
من غير العرب، وطوائف من العرب غير المسلمين، وما خدم الإسلام أحد من غير
العرب إلا بقدر حظهم من لغته، ولم يكن أحد من العرب في النسب يفرق بين سيبويه
الفارسي النسب وأستاذه الخليل العربي في فضلهما واجتهادهما في خدمة اللغة، ولا
بين البخاري الفارسي وأستاذه أحمد بن حنبل العربي في خدمة السنة، بل لم يخطر
في بال أحد من سلف الأمة ولا خلفها قبل هذا العصر أن يأبى تفضيل كثير من
الأعاجم في النسب على بعض أقرانهم وأساتذتهم من العرب فيما امتازوا به من خدمة
هذا الدين ولغته، ولولا أن ظل علماء الدين في جميع الشعوب الإسلامية مجمعين على
التعبد بقراءة القرآن المعجز للبشر بأسلوبه العربي وأذكار الصلاة وغيرها بالعربية
ومدارسة التفسير والحديث بالعربية لضاع الإسلام منها.
ولو أن الدولة العثمانية أحيت اللغة العربية فيما فتحته من أوروبا لانتشر فيها
الإسلام ثم فيما جاورها انتشارًا عامًّا ولقامت فيها مدنية إسلامية كمدنية العرب في
الأندلس وكان رسوخها فيها عظيمًا، ولكنها لم تفعل ذلك ولم تجعل لغتها التركية لغة
علم وفنون بل اعتمدت في حكمها على قوة السيف وحده فكان من غوائل ذلك-
وهي كثيرة - أن جميع الشعوب التي خضعت لسيادتها وسلطانها ظلت محافظة
على لغاتها حتى المسلمين منهم. فلما تجددت في هذا العصر عصبية اللغة وجعل
الترك العثمانيون لغتهم لغة علم أرادوا أن يُكرهوا الشعوب الإسلامية في سلطنتهم
على ترك لغاتهم إلى لغة الدولة فامتنع الجميع عليهم، وهبّ أصحاب اللغات غير
العلمية المدونة كالألبانيين والكرد والجركس إلى تدوين لغاتهم وجعلها لغة علم
وفنون كما فعل الترك، وقد حاربت الدولة الألبانيين وهم أعظم حصونها في أوروبا
لأجل اللغة فاختاروا حربها والخروج من سلطنتها على ترك لغتهم، ولو رضيت
لنفسها لغة الإسلام ودعتهم إليها لما أبوا، وهذه المسألة هي التي فرقت بين الترك
والعرب ذلك التفريق الذي أشرنا إلى زواياه في هذا البحث مرارًا، وسعينا لتلافيه
قبل تفاقم خَطْبه فما أفادنا السعي فلاحًا، وكيف يعقل أن يرضى العرب استبدال
التركية بالعربية التي شرَّفها الله على جميع اللغات بكتابه المعجز للبشر وحجته
عليهم إلى يوم القيامة على ما لها من المزايا الأخرى- ونحن نرى التتار إخوة
الترك في العِرْق الطوراني لا يرضون بترك لغتهم واستبدال التركية بها وهي أرق
منها؟
فنحن الآن تجاه أمر واقع، ما له من دافع، وكل ما نطمع فيه أن نتقي
ضرره، ونوفق بين الجامعة الإسلامية والجامعة الجنسية اللغوية بما فصلناه من
تعاون العرب والترك على إقامة الخلافة الإسلامية الحق، فإذا وفق الله لإتمام هذا
فهو الذي تيم به الوحدة وما يترتب عليها من سعادة الدنيا والآخرة.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
راجع ص 220 - 235 و 270 - 276 م 20.
(2)
يراجع ص 35 - 51 و 141 - 147 من المجلد التاسع.
الكاتب: أبو الكلام
وصف ثورة الهند السياسية السلبية
وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*]
(2)
نبذ القوانين الجائرة
قد غاظت هذه الهزيمة الحكومة، فعزمت على قتل الحركة بالقوة والشدة
ناسية أو جاهلة أنها لا تقتلها بها، بل إنما تقويها وتشد أزرها.
إن جمعية الخلافة وفروعها كانت نظمت المتطوعين الذين كانوا على
محافظتهم على نظام المجلس والمجامع العامة يقومون بخدمات كثيرة للأمة فكأنهم
كانوا جيشًا غير متسلح لها، فأعلنت الحكومة أن جماعتهم هذه غير قانونية فيجب
إلغاؤها، ثم منعت انعقاد المجالس فحرمت الأمة من حرية الاجتماع وحرية اللسان،
وهي من الحقوق الفطرية الطبيعية لكل إنسان، غير أن الحكومة لم تُبَال بسوء
عملها بل حَذَتْ حذو من تقدمها من الحكومات المستبدة المنقرضة؛ لأن التاريخ يعيد
نفسه.
وقد بدأت الحكومة بتنفيذ هذه القوانين الجائرة (بكلكتا) قبل غيرها من المدن؛
لأن قدوم البرنس إليها كان قريبًا؛ ولأنها من أعظم المدن الشرقية، وتكاد أن
تكون أوروبية لكثرة الأوروبيين فيها، فكانت مقاطعة البرنس فيها ثقيلة جدًّا على
الحكومة، فبادرت بإعلان هذه القوانين فيه، ولكن نشر صاحب هذا الخطاب في
الوقت نفسه إعلانًا ضد الحكومة، قال فيه: إنه يجب على الأمة نبذ هذه القوانين
نبذًا، والإقدام من أجلها على السجون أفواجًا، وقرر الأمور الآتية:
(1)
أن الخضوع لمثل هذه الأحكام الجائرة، معناه النزول عن الحقوق
المدنية والإنسانية، وليس للحكومة أن تمنع المجامع السلمية، والأعمال الوطنية
الجائزة، فإننا إن نخضع لها خوفًا من الحبس والمهانة، نكون مجرمين أمام
ضمائرنا وأمام الإنسانية، فليس على محبي الحرية والحق إلا أن يعصوها،
ويوطنوا أنفسهم على جميع المصائب التي تصبها الحكومة على رءوسهم دون أن
يخضعوا لها طرفة عين.
(2)
يجب أن يوسع نطاق التطوع، وأن ينبعث المتطوعون في كل شارع
وزقاق معلنين للمقاطعة الملكية التي تريد الحكومة أن تجانبها، وإذا منعتهم السلطة
لا يطيعونها، بل يسلمون نفسهم للاعتقال بدون أدنى كره ولا مقاومة.
(3)
تعقد المجالس والمحافل في جميع المجتمعات العامة، وكل مَن يذهب
إليها يسلم نفسه للسلطة إذا أرادت القبض عليه.
(4)
كل مَن يقبض عليه، يقاطع المحاكم مقاطعة تامة في القول والعمل؛
لأن الحكومة التي تنوب عنها المحاكم جائرة ومقاطعتها واجبة، فلا معنى للاعتراف
بمحاكمها والسعي للدفاع فيها، فإنها لا تستطيع أن تخالفها وتنصف في حكمها.
(5)
تتوقف هزيمة الحكومة على العدد الذي يدخل منا السجن؛ فلنهرول
إلى السجون زرافات زرافات، حتى تتعب الحكومة من حبسنا ولا نتعب نحن من
الإقدام عليه.
وقد لبت الأمة الدعوة، فابتدأت الأعمال الجدية بكل قوة، وسارع الناس
أفواجًا إلى إدارات التطوع، وبدأت الاجتماعات العامة، وأخذ الخطباء يخطبون
ويقبِّحون الحكومة وظلمها وعسفها، فدهشت الحكومة وظلت في حيرتها أيامًا لا
تدري ما تعمل؛ لأنها كانت قد وقعت في نفس ذلك الشراك الذي بسطته يدها. فلا
هي تقدر على أسر جميع النابذين لأوامرها - لأن الناس كلهم نبذوها - ولا هي
تستطيع غض النظر عنهم؛ لأن هذا يُظْهِر عجزَها في تنفيذ قوانينها، غير أنها
عزمت أخيرًا على الاعتقال والتسجين ظانة أن الناس سيخافون من صولتها،
ويعودون إلى طاعتها؛ فأخذت تعتقل في (كلكتا) وحدها ألفًا من المتطوعين كل
يوم، وقد كان المنظر مؤثراً للغاية، فإن عصابات المتطوعين كانت تترى، فكلما
اعتقلت واحدة حلت محلها أخرى، وهكذا إلى الليل.
ثم أعلنت هذه القوانين القاسية في طول البلاد وعرضها، فحذت الأمة في كل
مكان حذو (كلكتا) في مقاومتها. فأخذ الوطنيون يظهرون في كل محل ويعصون
القوانين، وأخذت السلطة تقبض عليهم وتسجنهم، فأصبح السجن ألعوبة والرجال
أطفالاً يلعبون بها، وإن القلم ليعجز عن وصف تلك الحمية والغيرة والحماسة التي
كانت تشاهد في كل زقاق وشارع وبلد من القطر الهندي العظيم، فكان الناس
يتنافسون في التصدي للاعتقال والسجن والذين كانوا لا يعتقلون لسبب ما كانوا
يتحسرون على أنفسهم حتى الصبيان كانوا يبكون شوقًا إليه ويلحون على الشرطة
أن تعتقلهم! فكم من مئات منهم دخلوا السجون بإلحاح شديد وودعتهم أمهاتهم بدموع
الفرح ولم يكن المتطوعون وحدهم يقدمون أنفسهم للاعتقال بل كان الألوف من
المارة والسوقة إذا رأوهم على هذه الحالة يتحمسون فيتزاحمون ويقولون للشرطة:
نحن أيضًا منهم فاقبضوا علينا، فكان يقبض عليهم ويرسلون إلى السجون.
ولم يمض على هذه الحالة أسبوع إلا بدت علائم الملل والفتور والهزيمة على
وجه الحكومة؛ لأن السجون على كثرتها وسعتها كانت قد امتلأت؛ وكذلك جميع
تلك الأبنية التي استخدمت لهذا الغرض، واختل النظام والضبط في السجون
وعجزت الحكومة على تهيئة الطعام والشراب للمسجونين الوطنيين، فاضطرت
إلى أن تخلي سبيل ألوف منهم، فباب السجن كان يفتح وينادي المنادي فيهم (من
كان منكم يريد الذهاب فليذهب) ولكنهم كانوا يأبون الذهاب، فيحملون على
الأكتاف ويلقون وراء الباب، فيذهبون إلى الأسواق فيعصون الأوامر فيؤسرون
فيرجعون إلى السجن حيث كانوا قبل ساعات. فلما رأت الحكومة ذلك امتنعت من
إرسالهم إلى السجون فكانت تعتقلهم نهارًا وتطلقهم ليلاً من مراكز الشرطة غير أنهم
بمجرد خروجهم يعودون إلى عملهم القديم.
ضجرت الحكومة من هذه الحالة ضجرًا شديدًا، وأيقنت أن النار لا تخمد ما
دام الزعماء على حريتهم، فمدت يدها إليهم، وهم قد كانوا مستعدين لإجابة دعاتها
من أول يوم، معتقدين أنه لا بد لتقوية الحركة وتكميل العمل من سجنهم أنفسهم،
فألقي القبض على صاحب الخطاب في 10 ديسمبر سنة 1921 فذهب إلى السجن
بوجه ضاحك، وثغر باسم.
وقد كان - حفظه الله - أعلن قبل أسره بساعات في بلاغ إلى الأمة أنه
سيقبض عليه، ففي تلك الساعة يبتلي عزمها وثباتها، وقد جاءت تلك الساعة
ورأت الحكومة أن تلك الحركة أصبحت أقوى وأشد من قبل، حتى بلغ عدد
المسجونين خمسين ألفًا.
ولم يمض على أسره أسبوعان إلا وقد وجدت الحكومة نفسها عاجزة ومنهزمة
أمام هذه الحركة، فاضطرت إلى أن تجنح للسلم، فأعلن الوالي العام في (كلكته)
لوفد من حزب الاعتدال أن الحكومة ترغب في الصلح، وترحب بهدنة تعقد له،
فهي تمسك يدها عن القبض والأسر وتطلق سراح جميع المسجونين، ويمسك
الزعماء عن أعمالهم، بدون أن يعترف أحد من الفريقين بالغلبة والانكسار،
فيجتمعان في مؤتمر، وفي هذا الوقت نفسه أعلن أن الحكومة الهندية لا تألو جهدًا
في تقديم مطالب الهند في مسألة الخلافة إلى الحكومة المركزية. وهي مستعدة أيضًا
لكل عمل مُسْتَطَاع في المستقبل (وقد أرسلت الحكومة بعد هذا الإعلان بلاغها
الشهير بإمضاء الوالي العام وجميع ولاة المقاطعات إلى إنجلترا وهو الذي وقع
الخلاف في نشره بين اللورد كرزن والمستر ماتنغو القائم بأعمال الوزارة الهندية إذ
ذاك، فاضطر الثاني إلى أن يستعفي من خدمته) .
فلما دعيت جمعية الخلافة والجمعية الوطنية الكبرى إلى هذه الدعوة قبلتها
وأعلنت الهدنة، وقدمت الشروط الأساسية للمؤتمر المقترح، وكان الشرط الأول
منها أن تقبل حكومة لندرة المركزية كل ما يقرره المؤتمر غير أن الحكومة لم تقبل
هذا الشرط فعاد الحال كما كان.
(صاحب الخطاب)
أما صاحب الخطاب العالم العلامة الشيخ أبو الكلام أحمد فمن المؤسسين
للنهضة الجديدة الإسلامية في الهند - أقول من المؤسسين؛ لأنه لا يرضيه أن يقال
هو المؤسس لها- فإنه إلى سنة 1912 لم تكن في مسلمي الهند أي حركة عامة نافذة
قوية للإصلاح الديني ولا السياسي، فكانوا في الدين على جمود وتقليد ومحدثات،
وأما السياسة فلم يكن لهم فيها شأن فكانوا يجتنبونها ويخافون منها كأنها حية تنهشهم،
معتقدين أن الاستقلال يضر بهم، ويُمَكِّنُ الهندوس منهم، فبينما هم في الظلمات
إذ قام فيهم تلك السنة صاحب الخطاب فصاح بأعلى صوته {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ
الرَّشَادِ} (غافر: 38) فأما الدين فقد دعا فيه إلى التوحيد الخالص والتمسك
بالكتاب والسنة ونبذ التقليد والبدع والخرافات، وتطهير الأعمال والعقائد من
المحدثات. قال: إن الدين ما كان عليه الرسول وأصحابه والسلف الصالح من أمته
لا ما قاله فلان وفلان، وإن القرآن مهيمن على الكتب السماوية والعلوم البشرية فلا
تشوهوا وجهه باليونانيات ولا بتخريفات المتفرنجين. ففتح باب الاجتهاد وفسر
القرآن بأسلوب بديع ونزهه عن كل التُّرَّهات. واستنبط منه ومن سنة الرسول كل
ما يحتاجه المسلمون في دينهم ودنياهم.
وأما السياسة فقد دعا فيها إلى الحرية التامة واستقلال البلاد والاتحاد مع أبناء
الوطن ومقاومة الأجانب المسيطرين بغير حق. فقامت عليه القيامة من كل جهة
وصوَّب المعارضون إليه نبالهم وبسطت الحكومة له شَرَكَها، ولكن لم توقفه
العراقيل في طريقه، ولا صدَّتْه الموانع عن عمله، فما زال يلقي الخطب الرنانة
ويحبر المقالات الحماسية ويقرع أسماعهم ببلاغته الشهيرة، ويوقظ قلوبهم بمواعظه
البالغة وينفخ في أجسادهم الميتة روح الدين والحرية حتى انتبهوا من رقدتهم وهبوا
من نومهم، وهرعوا إلى الداعي ملبين ومجيبين نداءه، وكل هذا في خلال بضع
سنوات المدة التي لا تكاد أن تصدق، وكانت لسان دعوته مجلة (الهلال)
الأسبوعية خالدة الذكر.
ويمكن تلخيص بعض مهمات دعوة الهلال الاجتماعية والسياسية في المواد
الآتية:
(1)
أن العبودية سواء كانت للأجانب أو الغاصبين من الأمة نفسها لا
تجتمع مع الإسلام، وأن السعي للحرية والاستقلال وتحمُّل الشدائد والمصائب
والاغتباط بالموت في سبيله- كل ذلك واجب على المسلمين ووراثة ملية ورثوها
عن أجدادهم العظام فهم إما أن يعيشوا أحرارًا أو يموتوا كرامًا، وليس بين هذا
وذاك من سبيل في الإسلام؛ لأن شريعته ما دامت لا تبيح استبداد الولاة من
المسلمين أنفسهم فكيف تبيح لهم أن يعيشوا خاضعين لظلم الأجانب واستبدادهم؟
والمسلم الذي يقنع ويرضى بهذه المعيشة لا ريب في حرمانه من روح الحياة
الإسلامية.
(2)
على مسلمي الهند واجبان: إسلامي، ووطني. فالواجب الإسلامي
يطالبهم أن لا يحصروا نظرهم في حدود أرضهم؛ فإن جنسية الإسلام مطلقة من قيود
الوطن والنسل وشاملة لجميع المصطبغين بالصبغة الإسلامية حيثما وجدوا، ومن
أي أمة كانوا فيجب عليهم أن يعينوا إخوانهم المسلمين خارج الهند وينصروهم
ويخففوا مصائبهم عنهم، وأما الواجب الوطني فهو أن يتحدوا مع أبناء وطنهم
ويرخصوا نفوسهم في جهاد الحرية والاستقلال لبلادهم.
(3)
أن الدول الغربية لا تهدد الإسلام والمسلمين فقط بل الشرق بأسره
فيجب على الأمم الشرقية أن تتحد وتتفق لصون حريتها وحياتها من الغرب.
(4)
أن الدولة العثمانية هي البقية الباقية من الدول الإسلامية فيجب على
مسلمي العالم كلهم أن يساعدوها وينصروها ويرجحوا حقها وصيانتها على مقاصدهم
الوطنية؛ لأنها المركز المالي والسياسي لهم، ولا حياة للفروع بدون أصل.
(5)
اللغة العربية هي اللغة الملية للمسلمين كافة والوسيلة الوحيدة للتعارف
والاتحاد بينهم، وإن من العلل الجوهرية للانحطاط الاجتماعي والديني: انقراض
الخلافة العربية وهجران اللغة العربية وشيوع العجمية والفلسفة اليونانية بينهم
فيجب عليهم إحياء اللغة العربية الصحيحة وتعلمها حتى تصبح عامة بينهم.
(وإني أريد أن أقول هاهنا كلمة في (المسألة العربية) فإن كثيرًا من
إخواننا العرب يعتقدون أن مسلمي الهند يرجحون الترك عليهم ويكرهون استقلالهم
مع أن الأمر ليس كذلك، فهذا زعيم مسلمي الهند وقائدهم الأكبر ما زال يلح على
الدولة أن تمنح الولايات العربية الحكم الإداري، فقد صرح به في جميع مذكراته التي
بعثها إلى المرحوم طلعت بك وزير الداخلية إذ ذاك، والتي ناولها أحمد رضا بك
الشهير، ثم الدكتور عدنان بك مندوب حكومة أنقرة في الآستانة الآن عند قدومهما
إلى الهند، نعم إن مسلمي الهند ما كانوا يحبون أن يفترق الترك والعرب خوفًا من
انحلال الدولة الإسلامية وسقوط العرب في يد المستعمرين من الأجانب وقد وقع ما
كانوا يخشونه فثار الشريف و
…
فإلى الله المشتكى!) .
ولما ابتدأت الحرب الكبرى أصبحت الهند في حالة تشبه حالة الأحكام العرفية
وأخذت الحكومة تسجن وتعتقل كل من ارتابت فيه، غير أن صاحبنا ظل على حريته
وثباته يقول ما كان يقوله ويقبِّح الظلم والاستبداد كعادته لم يُخِفْه عفريت الحرب ولم
ترعبه السلطة العسكرية، ثم لما بدأ الخلاف بين الدولة العليا والخلفاء وحجزت
بريطانيا البارجتين العثمانية (رشادية وعثمان أول) وخشي نشوب الحرب بينهما
قام في ذلك الوقت العصيب أيضًا بكل جرأة وشجاعة يُظهر أفكاره وآراءه في
مقالاته وخطبه، وقد نبَّه رجال الحكومة شفهيًّا أن الحرب مع الدولة العثمانية (يؤلب
المسلمين على بريطانيا) ويقع مسلمو الهند في موقف حرج فلا يكون أمامهم إلا أن
يكونوا مع الإسلام أو مع بريطانيا فيجب عليها أن تسلم بمطالب تركيا ولا تذرها
تنضم إلى ألمانيا فإذا فعلت ذلك يبذل مسلمو الهند جهدهم في منع الدولة من أن
تكون مع ألمانيا، فإما أن تبقى على الحياد وإما أن تكون بجانب الحلفاء، غير أن
الحكومة لم تُصْغِ إلى نصحه ونشبت الحرب بين الدولة والاتحاديين فنشرت
الحكومة البريطانية في أول أكتوبر سنة 1914 إعلانًا في الهند قالت فيه: إن
الدولة البريطانية وحلفاءها قد اضطروا إلى دفع الهجوم العثماني، ولكن ليثق
مسلمو الهند أننا لا نهاجم تركيا ولا نقوم بعمل عدائي ضد البلاد الإسلامية المقدسة.
وقد نشر حفظه الله مقالة شهيرة بعنوان (القارعة) فصَّل فيها ما كان يراه
مسلمو الهند أحسن تفصيل ثم تحادث مع اللورد كار ماركل والي بنغالة الأسبق في
نفس هذا الموضوع، وكانت خلاصة حديثه معه وما كتبه في مقالته كما يلي:
(1)
أن من المصائب علينا أن تقع الحرب بين الدولتين البريطانية
والعثمانية التي يعدها جميع مسلمي العالم صاحبة الخلافة الإسلامية وآخر دولهم،
وأن مسلمي الهند يجب عليهم شرعًا أن يكونوا مع الخلافة ويطيعوا أوامرها ويبذلوا
وسعهم لنصرها وحمايتها، فيجب على الحكومة أن تعلم هذه الحقيقة ولا تنخدع
بأقوال المنافقين الذين يخدعونها ويتملقون لها.
(2)
أن أكثر ما يستطيع مسلمو الهند أن يفعلوه لبريطانيا هو أن يبقوا على
الحياد ولا يتخذوا خطة عدائية لها، ولكن هذا إنما يكون إذا:
(أ) تركتهم بريطانيا على هذه الحالة فلم تطالبهم بمساعدة مادية ولا معنوية.
(ب) لا يُكره جندي مسلم على أن يذهب إلى ميادين القتال.
(ج) لا يهاجم الحلفاء البلاد الإسلامية بل يعلنون إعلانًا مؤكدًا بأن الحرب
لا تغير الحدود الحالية للدولة الإسلامية ويضمنون استقلال الدولة العثمانية.
(3)
وإن لم تقبل الحكومة البريطانية هذا فمسلمو الهند يضطرون إلى
فرضهم الديني فيفعلون كل ما في وسعهم لحفظ الخلافة والبلاد الإسلامية؛ لأن
هجوم الأجانب عليها يوجد حالة النفير العام فيجب على جميع مسلمي العالم شرقًا
وغربًا أن يهبوا للدفاع عنها.
فلما رأت الحكومة أن حضرته متصلب في أفكاره ومُصِرٌّ على أعماله وأنها لا
تستطيع استمالته إليها بالترغيبات ولا تخويفه بالتهديدات كما فعلت بالآخرين أقفلت
أولاً جريدته ثم نفته من مقاطعة كلكتا مستقره ثم بعد ستة أشهر سجنته في معتقله
ولم تخل سبيله إلا بعد الهدنة في يناير سنة 1920.
ولكنه بمجرد خروجه من معتقله انهمك في إنهاض هذه الحركة الجديدة للخلافة
والدعوة إليها ولم يسترح يومًا واحدًا - وها نحن أولاء نراه بعد سنتين قد سلم نفسه
إلى السجن ثانية فهو الآن بين جدرانه المربعة ثاويًا، وفي حجرة ضيقة منه قانعًا،
فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) تابع لما في الجزء الأول.
الكاتب: أحمد بن تيمية
الشفاعة الشرعية
والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص
من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية [*]
(الوجه الثاني)[1] الدعاء له والعمل له سبب لحصول مقصود العبد فهو
كالتوسل بدعاء الرسول والصالحين من أمته. وقد تقدم أن الدعاء إما أن يكون
إقسامًا به أو تسببًا به، فإن قوله:(بحق الصالحين) إن كان إقسامًا عليه فلا يقسم
على الله إلا بصفاته. وإن كان تسببًا فهو تسبب لما جعله سبحانه سببًا وهو دعاؤه
وعبادته. فهذا كله يشبه بعضه بعضًا وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق ولا
عمل صالح منا. فإذا قال القائل: أسألك بحق الأنبياء والملائكة والصالحين، فإن
كان يقسم بذلك فلا يجوز أن يقول: وحق الملائكة وحق الأنبياء وحق الصالحين،
ولا يقول لغيره: أقسمت عليك بحق هؤلاء، فإذا لم يجز أن يحلف به ولا يقسم،
فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لا يقسم به فليس في ذوات هؤلاء سبب يوجب
حصول مقصوده، لكن لا بد من سبب منه كالإيمان بالأنبياء والملائكة، أو منهم
كدعائهم لنا، لكن كثير من الناس تعودوا ذلك كما تعودوا الحلف بهم حتى يقول
أحدهم: وحقك على الله وحق هذه الشيبة على الله.
وفي الحلية لأبي نعيم أن داود عليه السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك
إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه (يا داود أي حق لآبائك عليَّ؟) وهذا
وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فقد مضت السنة أن الحي يُطْلَب منه الدعاء كما يُطْلَب
منه سائر ما يقدر عليه. وأما الغائب والميت فلا يطلب منه شيء.
وتحقيق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه إليه و (به) لفظ فيه إجمال
واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء
والشفاعة فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته، ودعاؤه وشفاعته من أعظم
الوسائل عند الله. وأما في لغة كثير من الناس أن يسأل بذلك ويقسم عليه بذلك،
والله تعالى لا يُقْسَم عليه بشيء من المخلوقات بل لا يقسم بها بحال فلا يقال:
أقسمت عليك يا رب بملائكتك، ونحو ذلك. بل إنما يقسم بالله وأسمائه وصفاته.
فيقال (أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض يا ذا
الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم
يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك) الحديث كما
جاءت به السنة. وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين
الإسلام.
وقوله [2] : (اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من
كتابك، وباسمك وحدك الأعلى وكلماتك التامة) مع أن في جواز الدعاء به قولين
للعلماء فجوَّزه أبو يوسف وغيره ومنع منه أبو حنيفة، وأمثال ذلك [3]- فينبغي
للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة فإن ذلك لا ريب في
فضله وحسنه فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقًا، وهو أجمع وأنفع، وأسلم
وأقرب إلى الإجابة.
وأما ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت لكم إلى
الله حاجة فاسألوا الله بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) فهذا الحديث لم يروه أحد
من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث. والمشروع: الصلاة عليه في كل
دعاء. ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الأمر بالصلاة عليه،
ولم يذكروا فيما يشرع للمسلمين في هذا الحال التوسل به، كما لم يذكر أحد من
العلماء دعاء غير الله والاستغاثة به في حال من الأحوال، وإن كان بينهما فرق
فدعاء غير الله كفر، بخلاف قول القائل: إني أسألك بجاه فلان الصالح. فإن هذا لم
يبلغنا من أحد من السلف إنه كان يدعو به.
ورأيت في فتاوى الفقيه الشيخ أبي محمد بن عبد السلام أنه لا يجوز ذلك في
حق غير النبي صلى الله عليه وسلم [4] ثم رأيت عن أبي حنيفة وأبي يوسف
وغيرهما من العلماء أنهم قالوا: لا يجوز الإقسام على الله بأحد من الأنبياء.
ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي صلى الله عليه وسلم. لكن هذا قد يخرج
على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به [5] .
وأما الصلاة عليه فقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) وفي الصحيح عنه أنه قال: (من صلى عليَّ مرة صلى الله
عليه عشرًا) وفي المسند: أن رجلاً قال: يا رسول الله أجعل عليك ثلث
صلواتي؟ قال (يكفيك الله ثلث أمرك) فقال: أجعل عليك نصف صلواتي؟ قال:
(إذًا يكفيك الله ثلثي أمرك) فقال: أجعل صلاتي كلها عليك؟ فقال (إذًا يكفيك الله ما
أهمك من أمور دنياك وآخرتك) وقد ذكر العلماء وأئمة الدين الأدعية المشروعة،
وأعرضوا عن الأدعية المبتدعة فينبغي اتباع ذلك.
والمراتب في هذا الباب ثلاث: (إحداها) الدعاء لغير الله سواء كان المدعو
حيًّا أو ميتًا، وسواء كان من الأنبياء عليهم السلام وغيرهم فيقال: يا سيدي فلان
أغثني، وأنا مستجير بك، ونحو ذلك. فهذا هو الشرك بالله. والمستغيث بالمخلوقات
قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به
فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به وإنما هو شيطان أضله وأغواه لمَّا أشرك بالله
كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك. ومثل هذا واقع كثيرًا
في زماننا وغيره، وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري
وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري وقضى حوائجهم فظنوا أن
ذلك من بركة الاستغاثة (بي) أو بغيري، وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا
هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون
الماضية كما ثبت، فهذا شرك بالله نعوذ بالله من ذلك.
(الثانية) أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي
وادع لنا ربك، ونحو ذلك. فهذا مما لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع
التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإن كان السلام على أهل القبور جائزًا
ومخاطبتهم جائزة، كما كان صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن
يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)
وقال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل
يمر بقبر رجل كان يعرفه فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام .
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل
مسلم سلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام .
لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات شيئًا. وفي الإمام مالك [6] أن
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يقول: السلام عليك يا رسول الله،
السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبه، ثم ينصرف. وكذلك أنس بن مالك
وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، نُقِلَ عنهم السلامُ على النبي صلى الله عليه
وسلم، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى لا يدعون وهم مستقبلو
القبر الشريف.
وإن كان قد وقع في ذلك بعض الطوائف من الفقهاء والمتصوفة ومن العامة
ممن لا اعتبار بهم، فإنه لم يَذهب إلى ذلك إمامٌ متبَع في قوله ولا مَن له في الإمامة
لسان صدق. بل قد تنازع العلماء في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال
أبو حنيفة: يستقبل القبلة ويستدبر القبر. وقال مالك والشافعي: بل يستقبل القبر،
وعند الدعاء يستقبل القبلة ويستدبر القبر، ويجعل القبر عن يساره أو يمينه،
وهو الصحيح؛ إذ لا محذور في ذلك.
(الثالثة) أن يقول: أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته، ونحو ذلك. فهو
الذي تقدم عن أبي محمد أنه أفتى بأنه لا يجوز في غير النبي صلى الله عليه
وسلم [7] . وأفتى أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما أنه لا يجوز في حق أحد من
الأنبياء فكيف بغيرهم. وإن كان بعض المشايخ المبتدعين يحتج بما يرويه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأهل القبور) أو
قال (فاستغيثوا بأهل القبور) فهذا الحديث كذبٌ مفترًى على رسول الله صلى الله
عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء ولا يوجد في شيء من
كتب الحديث المعتمدة.
وقد قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (الفرقان:
58) الآية، وهذا مما يعلم بالاضطرار في دين الإسلام أنه غير مشروع. وقد
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو أقرب من ذلك من اتخاذ القبور مساجد،
ونحو ذلك ولعن على ذلك من فعله تحذيرًا من الفتنة باليهود؛ فإن ذلك هو أصل عبادة
الأصنام أيضًا، فإن ودًّا وسواع ويغوث ويعوق ونسرًا كانوا قومًا صالحين في قوم
نوح عليه الصلاة والسلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم اتخذوا الأصنام على
صورهم، كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره من العلماء [8] فمن فهم معنى قوله:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة
المطلقة إلا الله وحده.
وقد يُسْتَغَاث بالمخلوق فيما يقدر عليه وكذلك الاستعانة لا تكون إلا بالله
والتوكل لا يكون إلا على الله. وما النصر إلا من عند الله. فالنصر المطلق وهو
خلق ما يغلب به العدو فلا يقدر عليه إلا هو سبحانه. وفي هذا القدر كفاية لمن هداه
الله تعالى والله تعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا
كثيرًا. انتهى [**] .
_________
(*) تابع لما نشر في الجزء التاسع ص 681م23.
(1)
أي من وجهيْ ترجيح المعنى الذي حمل عليه حديث دعاء الخارج إلى الصلاة.
(2)
في كتاب (الوسيلة) وكذلك قوله إلخ. عطفًا على الدعاء الذي قبله، وليس فيه العبارة المقحمة هنا بين الدعاءين.
(3)
أي من الأدعية.
(4)
في كتاب التوسل والوسيلة تقييد هذا بقوله: إن صح حديث الأعمى.
(5)
من قوله (ثم رأيت عن أبي حنيفة) إلى هنا ليس في سياق كتاب الوسيلة.
(6)
كذا بالأصل ولعلها (وفي موطأ الإمام مالك إلخ) .
(7)
أي مُعلقًا له على صحة حديث الأعمى.
(8)
الأثر في صحيح البخاري.
(**) ملحوظة: نشرنا هذه الرسالة أو الفتوى عن مجموعة مخطوطة جاءتنا من بغداد وفي أثناء الطبع وجدنا فيها مواضع محرفة فراجعنا (كتاب التوسل والوسيلة) الذي سبق لنا نشره فوجدناها فيه بعبارة أوسع وأوضح سالمة من التحريف فتراجع فيه (ص 103) .
الكاتب: شكيب أرسلان
انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى
طرفة تاريخية من قلم الأمير شكيب أرسلان الشهير
(1)
يظهر أنه من جملة الممالك الأوروبية التي انبسطت إليها يد الاستيلاء العربي
وخفق فوق ربوعها علم الفتح الإسلامي في القرون الوسطى هي بلاد سويسرا، هذه
البقعة الجميلة النضيرة التي تراها جنة خضراء صيفًا وشتاء، والتي هي من
أوروبا بمثابة الكبد من الجسد.
كنت أعلم أن العرب بعد أن فتحوا أسبانيا استولوا على جنوبي فرنسا وتمكنوا
من أواسطها ونزلوا بر إيطاليا واكتسحوا روما فضلاً عن استيلائهم على صقلية
وسردانية وغيرهما من الجزر، ولكن إلى سنة 1919 تاريخ ورودي سويسرا لم
أكن أعلم شيئًا عن وصول العرب إلى نفس سويسرا مع بقائهم فيها مستقلين بعدة من
القلاع والبقاع نحوًا من مائة سنة، وبلوغهم بحيرة كونستانز الشهيرة من جنوبي
ألمانيا.
وأول من نبَّه فكري إلى هذا الحادث العظيم من مجريات الفتح العربي
الأوروبي هو الأستاذ هس المستشرق السويسري الذي أقام مدة بمصر وعرف
كثيرين من كبراء المصريين والذي يَمُتُّ إلينا بحبل صداقة أكيدة كانت بينه وبين
أستاذنا الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده - برَّد الله ثراه - فأول اجتماعي مع
المستشرق المشار إليه أطلعني على تاريخ وجود العرب بسويسرا محررًا باللغة
الألمانية بقلم مؤلف اسمه (فرديناند كار) مطبوعًا في مدينة زوريخ سنة 1856
وبعد ذلك استقريت هذا الموضوع فوقع في يدي كتاب ممتع جليل عنوانه تاريخ
غارات المسلمين على فرنسا وسافواي وبيامون وسويسرا للمسيو (رينو)
الفرنساوي، وكتب أخرى ظهر من إجماعها ومن آثار العرب الباقية ومن الأسماء
العربية التي تركوها في البلاد ومن المسكوكات العربية التي لا تزال محفوظة - أنه
كان للعرب دولة وصولة في بلاد سويسرا وأنهم لبثوا فيها حُقْبًا (الحُقب بضم
فسكون نحو ثمانين سنة أو أكثر) كان حافلاً بالوقائع والنوادر، شأنهم في كل محل
دخلوه أيام كان العرب عربًا والناس ناسًا ....
وملخص هذه التواريخ وهو من أغرب ما جاء في حوادث الدهر أن عشرين
عربيًّا كانوا راكبين في سفينة من سواحل أسبانيا ضلت بهم الطريق وما زالت
تتقاذفهم الأمواج حتى رمت بهم على شاطئ خليج (سان تروبس) في جهات جينوة
فخرجوا إلى البر وتوغلوا بين القرى يقتلون ويأسرون واتخذوا لهم حصنًا في أدغال
جبل (موروس) وصاروا يشنون الغارات ويأوون إليه بالغنائم.
وقيل: بل ركب 20 عربيًّا من لصوص البحر من ساحل الأندلس قاصدين
سواحل بروفانس (جنوبي فرنسا) فأخذتهم الريح إلى خليج غريمو أو خليج سان
تروبس فخرجوا ولم يشعر بهم أحد ورأوا حول ذلك الخليج غابة ملتفة أشبة، حولها
سلسلة جبال فأغاروا على أقرب قرية من محل نزولهم وقتلوا أهلها وانتشروا في
الناحية وألقوا الرعب في القلوب وكان الموقع مساعدًا لهم بطبيعة الأرض من
الإشراف على البحر ثم من الغاب المشتبك ثم الجبال الشامخة فتحكموا في تلك الجهات
واستولوا على طرقها وقبضوا على مضايقها، وألقت هي إليهم بمقاليدها. وكان هذا
الحادث نحو سنة 891 مسيحية.
ولا يجب أن نأخذ كلام مؤرخي الإفرنج هذا على علاته من جهة كون غَزَاة
هؤلاء العشرين عربيًّا هي لصوصية صرفة وعيثانًا بحتًا، وأنهم إنما جاءوا للنهب
والغصب فهذه شنشنة مؤرخي أوروبا بإزاء حوادث كثيرة في تاريخ الإسلام، مع أن
الواقع قد يكون خلاف ذلك، وقد دلت الآثار وقامت الأدلة ونهضت البراهين على
أن أكثر أغراض العرب في مغازيهم في صدر الإسلام إنما كان إعلاء كلمة الله
ونشر عقيدة التوحيد وأنهم كانوا يرون أنفسهم هُدَاة لا جُبَاة، وكانوا يستبسلون في
الحروب استبسالاً ويبيعون أنفسهم من الله ابتغاء الجنة فقط، ويجدون ذلك فرضًا
عليهم على حين أن الغبي أو الغريب الجاهل للحقائق البعيد عن اكتناه أسرار هذه
المغازي وما كان يجيش في صدور أهلها - كان يتوهم أنها بأجمعها فتوحات دنيوية
لأجل السلب والكسب والنهي والأمر، وليس التوهم بعبرة، فقد يكون هؤلاء
العشرون غازيًّا الذين أبحروا من ساحل أسبانيا إلى ساحل إيطاليا هم ممن نصبوا
أنفسهم للجهاد في سبيل الله ورفع راية التوحيد ونشر كلمته بين أهالي هاتيك
الأرضين راكبين لذلك لُجَج البحار، ومتوقلين عقاب الأوعار. استزادة من ثواب
الله، ورغبة في الشهادة في سبيل الله، وربما كان بين هؤلاء العشرين مجاهدًا
العالم الفاضل، والفقيه المحدث، والشاعر المترسل، والسائس المحنك، والقائد
البصير المجرب.
وبرهان ذلك واضح كالشمس من كون 20 رجلاً لا يقتحمون مثل هذه الغمرة،
ولا يلقون بأنفسهم في بر لا آخر له، وهم عصبة كهذه قليلة، إن لم يكونوا من
ذوي النفوس العالية، والطباع الزاكية، ولم تكن بين جنوبهم أرواح تتطالّ إلى ما
هو أعلى من حطام الدنيا الفانية- وليست قصة اللصوصية هذه التي تجدها في أكثر
تواريخ الإفرنج، حاشا النقاد المدققين الذين ابتدأوا ينبهون الأفكار في هذه الأيام -
بدليل على كون هؤلاء العشرين غازيًّا إنما جاءوا عابثين مفسدين قاصدين الغنيمة
المادية، ولا سيما وأنك تراهم من جهة أخرى يعترفون بأنهم ما استقرت قدمهم في
ذلك الساحل حتى شادوا الحصون، واستنبطوا العيون، وامتهدوا الحزون، ونحتوا
الصخور، وأثروا آثار عمارة أثيلة لا تزال منها بقايا ناطقة بفضلهم إلى يومنا هذا،
مما يوافقنا كل عاقل منصف أنها ليست أعمال لصوص ولا حكايات دعَّار، وإنما
هي آثار أمجاد أنجاد، وقروم أجواد، من أعاظم الرجال، وخيرة الأبطال.
وقد يكونون علموا بما كان عليه أهل تلك الديار يومئذ من الجهل والخمول
والانحطاط في المعارف والأخلاق (فانتدبوا) لإصلاح أمورهم و (للأخذ بيدهم في
معترك الحياة) كما هي لغة الاستعمار؛ لأن مما هو ثابت فعلاً بكون شرذمة كهذه
أصلها 20 رجلاً لا تتمكن من نواصي تلك الديار، ولا تسود أولئك الأقوام من
البحر المتوسط إلى بحيرة (كونستز) التي على كبد أوروبا - إلا وهي أرقى جدًّا
من أهلها. ولولا الفرق البعيد في درجات المدنية ما ساد هذا القليل على ذلك الكثير،
لا بل لم تظهر هذه النقطة على ذلك الغدير.
قالوا: ولما رأى هؤلاء العشرون رجلاً ما أصابوا من الغُنم في هذه الغزاة
أرسلوا إلى أسبانيا فوافاهم 100 رجل آخرون من ذؤبان الرجال، وممن يعتمد
عليهم في مثل هذا الأحوال، فاشتدت بعد ذلك وطأتهم وصالوا على جميع هاتيك
الجهات يثخنون في أهلها ويضربون عليهم الجزية ويقتادون ما يشاءون منهم بخزام
الذلة والصغار وساعدهم على ذلك ما كان فيه أهل تلك الأنحاء من اختلاف الكلمة
وتفرق الأجواء، فكان بعضهم يستعين بهم على بعض فعصفت ريحهم في هاتيك
الآفاق، وصاروا يُنصَرون بالرعب، وأصبح الفرد الواحد منهم لا يبالي أن يلاقي
ألفًا. فما مضت بضع سنوات حتى صار لهم عدد من الأبراج والقلاع أهمها في
الجبال المسماة فراكسين توم Fraxinatum أو فراكسينه ولا تزال من بقايا آثارهم
فيها أبنية ماثلة وبيوت منحوتة في الجبال، وآبار محفورة في الصخور.
قال المؤرخ (رينو) السابق الذكر: وكان ذلك في أواخر القرن التاسع للمسيح،
ثم وصلوا إلى سلسلة جبال الألب الشهيرة، وسنة 906 أجازوا مضايق دوفينه وجبل
سينس واستولوا على نوفالس في حدود البيامون ونهبوا الأديرة التي هناك
وشردوا الرهبان وأثخنوا في الأهلين فاجتمع هؤلاء عليهم وأحاطوا بهم وأخذوهم
أسارى وشدوا أوثقتهم ووضعوهم في دير ماراندراوس فحطم هؤلاء الأسرى القيود
وأفلتوا وانقضوا على أعدائهم فهزموهم وأحرقوا الدير وقسمًا من المدينة وما زالوا
يعيثون ويشنون الغارات حتى انقطعت الطرق بين فرنسا وإيطاليا.
ثم يقول رينو: إن العرب استولوا على مقاطعة فالي وزحفوا إلى قلب بلاد
المريزون وصاقبوا بحيرة جنيف وتقدموا إلى بلاد الجورة في سويسرا Garu
وكانت سويسرا حينئذ من مملكة بورغنيه ففرت أم الملك كوبراد إلى برج منفرد في
نيوشاتل (إحدى ولايات سويسرا اليوم) ولما ضاق ذرع الأهالي جميعًا بهؤلاء العرب
لا سيما أهل بروفنس وسويسرا وإيطاليا ثار هوغ كونت بروفانس وعزم أن يتولى كبر
هذه المسألة ويطرد العرب من تلك الديار ويستولي على معقلهم الأشم في فراكسينه
والمرسى الذي لهم في خليجها فاستنجد هوغ صهره صاحب القسطنطينية ليمده
بالأسطول وبالنار الإغريقية فحضر الأسطول وهاجم العرب من البحر بينما الأهالي
يهاجمونه من البر وضاق بالعرب الخناق فاعتصموا بالجبال وأعيا أمرهم هوغ فلم
يلبث أن صالحهم ولا سيما بعد أن رأى خصمه برانجر قام ينازعه الملك فاستقر أمر
هؤلاء وجعلوا يحرثون الأرض ويبنون ويغرسون وتزوجوا بنساء من البلاد ولبثوا
قابضين على بلاد الألب لا سيما ممر (سان برنار)(الشهير إلى الآن) وأقامت
منهم فئة بمدينة نيس وفيها حارة باسمهم إلى هذا اليوم.
وفي سنة 960 تمكن الأهالي من طرد العرب من سان برنار بعد معركة
شديدة وسنة 965 أجلوا عن (غرنوبل) وعن وادي (غريزي فودان) وبعد ذلك
اجتمعت عليهم جيوش عظيمة من كل صوب وهزموهم وقتلوا أكثرهم وتنصر
بعضهم ويظن أن فلهم فر إلى إفريقيا وأسبانيا وقد بقيت لهم قرى تنصر أهلها ومن
أبى منهم النصرانية صاروا عبيدًا يشتلون في أراضي الأديرة وكان سقوط حصن
فراكسينة سنة 975 بعد أن أقاموا به أكثر من 80 سنة وسمعت من بعض من
يعرف أمور سويسرا أنه يوجد إلى اليوم قريتان في مقاطعة فالي Valee يركب
أهلها الخيول بسروج عربية ولهم عادات كثيرة خاصة بهم، وهم لا يتزوجون من
سائر الأهالي ولا يصاهرونهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
لا ندري ما يريد الكاتب من اكتساح رومية أحقيقة هو أم مجاز؟ فالعرب لم يفتحوها ولا سلبوها وهو أوسع منا اطلاعًا على التاريخ.
(2)
المنار: وهكذا تفعل العرب اليوم، كان المائة بعد العشرة يحتلون قلب أوروبا ويعيشون فيها أعزة وتستعين بهم أمم الفرنجة بعضها على بعض وهم اليوم مائة مليون ولكنهم أذلة في بلادهم ويستعين بعضهم على بعض بالأجانب كما يفعل ملك الحجاز وأولاده.
(3)
والعرب يقولون لوند.
الكاتب: حسني عبد الهادي
من الخرافات إلى الحقيقة
(7)
(70)
اعتنى المسلمون قديمًا بالرياضة البدنية اعتناء شديدًا زائدًا؛ لأن
العقل الصحيح لا يكون إلا في الجسم الصحيح، ولذلك كانوا يعلمون الشبان فن
الفروسية والرماية والسباحة اتباعًا للحديث الشريف القائل: علموا أولادكم السباحة
والرماية [1](وعليكم بالرمي فإنه خير لهوكم)[2] و (الرمي خير ما لهوتم به)[3] .
ليتأمل العاقل نتيجة دين أمر بتوسيع دائرة المعارف وتزييد أسباب الثروة
وتقوية البدن وفن (الحرب) وهذه الأركان الثلاثة متصل بعضها ببعض كما
لصقت محاسن الأخلاق بالتحاب والتواد، هل يقف أمام قوم هذا منهاجهم مهما قل
عددهم وعديدهم أعظم إمبراطورية؟
(71)
الرحمة للصغير واحترام الكبير كان خلقًا راسخًا؛ لأنه صلى الله
عليه وسلم قال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)[4] .
(72)
الاقتصاد كان أساسًا للمعاملات المالية، وفي الحديث الشريف: (ما
عال من اقتصد) [5] .
(73)
الشح وكان مذمومًا جدًّا، وجاء في الحديث الشريف: (ما محق
الإسلام محق الشح شيء) [6] .
(74)
السخاء كان أمرًا ممدوحًا جدًّا، قال صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا
السخي زلته فإن الله آخذ بيده كلما عثر [7] ) .
من لا يعرف أن أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما سمحا بثروتهما لأجل
استكمال وسائل الحرب؟
(75)
أما البخل فكان في أقصى درجات المعيبات والمذمومات؛ لقوله
صلى الله عليه وسلم فيه: (خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق)[8] .
(76)
حرية الوجدان وحرية المساكن وصيانة الملك بأنواعه ولا سيما
الكتب والرسائل وأمثالها من الحريات السياسية التي طالما افتخر بها الأوروبيون
وقد كانت من جملة ما جاءنا به نبينا من قبل ألف سنة وكسور. قال الله تعالى:
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6){لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) .
وقال رسوله: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه)[9]
وقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا
عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) وقال صلى الله عليه وسلم: (من اطلع في كتاب
أخيه بغير أمره فكأنما اطلع في النار) [10] .
قصارى القول: لو اعتنى علماؤنا باستخراج أمثال هذه الأحاديث لوجدوا فيها
من الوثائق ما هو كاف لإبطال كل دعوى اتُّهِم بها الدين الحنيف.
ومما يوجب الأسف أن المصائب التي حلت بالمسلمين كأنها لم تكف لفتح
عيونهم لتحري أوامر هذا الدين المبين التي تقتضي أن يكون متبعوه في طليعة
العلماء والأغنياء والأقوياء والأمراء. واعجباه!
(77)
إن التهيؤ للخصم ومقابلة قوته بالقوة من أسس الإسلام لذلك قال الله
تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) فهل للمسلمين بعد
هذا أن يكلوا الأمور لمشيئة الله تعالى ويعطلوا قواهم وأوامر القرآن ويعدوا ذلك من
الإسلام؟ .
(78)
أرشد صلى الله عليه وسلم إلى حسن اختيار الموظفين بقوله: (لكل
شيء آفة تفسده وآفة هذا الدين ولاة السوء) [11] فهل يحل بعد هذا أن يقبل الوالي
المسلم الشفاعات لأجل توسيد الأمور العامة لغير أهلها.
(79)
كانوا يعتنون بكل ما يزيد الثروة العمومية، ولا سيما تربية الغنم؛
لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (اتخذ الغنم فإنها بركة)[12] وغير خافٍ على أحد
ما للغنم من المكانة الاقتصادية في عصرنا. ليتنبه الكسالى.
(80)
كانوا يضعون الشيء في محله ويتباعدون عن الإسراف والتبذير
استرشادًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على
عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على
أصحابه في سبيل الله عز وجل [13] وهذا يدل على أنه لم يكن من المعروف في
عصره صلى الله عليه وسلم تخصيص الثروة لأناس كسالى ينامون على ظهورهم
تاركين العمل وعادِّين هذا عبادة.
(81)
كان العمل والجد ممدوحًا والكسل مذمومًا لقوله صلى الله عليه وسلم:
(من بات كالاًّ من عمله بات مغفورًا له)[14] .
(82)
أشد ما اعتنت به الديانة الأحمدية: الصناعة والتجارة؛ لأنه صلى الله
عليه وسلم قال: (أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)[15] .
(83)
كان الفقر مكروهًا مستعاذًا منه، وإنما يُطلب الصبر عليه، وكان
صلى الله عليه وسلم يقول: (أعوذ بالله من الفقر والعيلة ومن أن تظلموا أو
تظلموا) [16] و (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن
أظلم أو أظلم) [17] إن أبا بكر كان تاجرًا غنيًّا. وكذلك ذو النورين. واكتسب
طلحة والزبير ثروة هائلة من التجارة.
(84)
ما كان أحد في أوائل الإسلام ينكمش في زاوية أو تكية ليأكل
ويشرب من ثمرة جد غيره باسم العبادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (استغنوا
عن الناس ولو بشوص السواك) [18] . لذلك كان كل واحد يشتغل بعمل من
الأعمال حسب قدرته العقلية والبدنية.
(85)
الحراثة كانت محترمة جدًّا وقد أمرنا بها سيدنا صلى الله عليه وسلم
بقوله: (احرثوا فإن الحرث مبارك وأكثروا فيه من الجماجم [19] ) .
(86)
الحياة الاستقلالية كانت أساس عمل كل فرد؛ لأنه صلى الله عليه
وسلم قال: (خيركم من لم يترك آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته ولم يكن كلاًّ على
الناس) [20] لذلك كان كل يسعى لئلا يكون حملاً ثقيلاً على المسلمين، شأن
البطالين والكسالى اليوم.
(87)
الاتجار في الأقطار وجلب ما يحتاجه الناس كان من الأمور الممدوحة.
والاحتكار كان من الأمور المذمومة جاء في الحديث: (الجالب إلى سوقنا كالمجاهد
في سبيل الله والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله [21] ) .
هنا أدعو القارئ الكريم لأن يطالع بحث التجارة الخارجية وبحث الاحتكار في
كتب الاقتصاد السياسي ليرى علو معنى هذا الحديث.
(88)
التبذير وعمل الأشياء التي لا فائدة منها كانت مجهولة عندهم؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد
والسرج) [22] .
من هنا يفهم أن انتشار الترب وزيارتها ليس من الإسلامية في شيء. وقد
انتقلت هذه الخرافة لديننا الصافي النقي من أساطير الهنود القديمة.
إذًا إتلاف شيء من الزاد وإيقاد الشموع على القبور موجب للَّعنة فأين
المتأملون؟
(90)
إن ذبح القرابين والضحايا على القبور ممنوع في دين الإسلام؛
لأنه جاء في الحديث: (لا عقر في الإسلام)[23] .
(91)
النذر لغير الله ليس مشروعًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (لا وفاء
لنذر في معصية الله) [24] .
(92)
تعليق بعض الأشياء على الأولاد وغيرهم لدفع النظرة، أو استكتاب
النسخ لأجل محبة الأزواج لزوجاتهم - من أمور الشرك، نعوذ بالله. لقوله صلى الله
عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)[25] ليتنبه الغافلون المبذرون.
(93)
نهى النبي صلى الله عليه وسلم لمن ربط القلب بالمشعوذين وقال:
(من تعلق شيئًا وكل له)[26] والنتيجة الحرمان.
(94)
نهى كذلك عن مراجعة العرافين الذين يبتزون أموال الناس بدعوى
الإخبار عن الغيب، قال: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم يقبل له صلاة
أربعين يومًا) [27] ولأن الله تعالى قال في كتابه الكريم آمرًا نبيه أن يبلغ الأمة:
{قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأنعام: 50) . فما قول خفاف العقول الذين يطلبون علم الغيب من العرافين
بعد ما جاء في هذه الآية الكريمة ما نرى من الصراحة؟
(95)
نهى صلى الله عليه وسلم عن التشاؤم من الاسم أو من صوت الطير
وعن الرمل، وَعَدَّ ذلك وثنية فقال:(العيافة والطير والطرق من الجبت)[28] .
(96)
وكذلك عَدَّ التطير شركًا فقال (الطيرة شرك)[29] .
(97)
كانوا لا يتشاءمون من طير الطائر ولا يعتمدون على أقوال الكهنة
والسحرة؛ لأنه أخرج من يفعل ذلك من الجمعية الإسلامية إذ قال: (ليس منا من
تطير ولا من تُطُيِّرُ له أو تكهن أو تُكُهِّنَ له أو تسحر أو سُحِرَ) [30]
(98)
الحسد والنميمة والكهانة كانت بمنزلة واحدة؛ لأنه جاء في الحديث
الشريف: (ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه)[31] أين من يعتبر؟
(99)
لا واسطة بين العبد والمعبود في دين أحمد، وكل فرد مسئول عن
عمله؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) أما
ما يعمله أو يتخذه بعض الجهلة من الوسطاء لله تعالى فهو مأخوذ من الأمم السابقة
وتقليد (للإغراء) من النصارى و (للبراهمة) عند الهنود القدماء، و (لمونيه)
عند الزردشتيين وللكاهن عند الكلدان. وما لهذا مكان في دين الإسلام.
(100)
إن الله غني عن أية واسطة بينه وبين عبده؛ لأنه قال في كتابه
الكريم: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) .
وأما بناء القبور الفخمة والمزينة واتخاذها ملجأ لقضاء الحاجات فهو ليس من
الإسلام في شيء. ولكنه تقليد للنصارى والهنود والإيرانيين كما سيجيء تفصيل
دخول هذه الخرافات في تعاليم الإسلام.
(101)
الغيبة كانت مستكرهة جدًّا؛ لأن الله قال: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم
بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} (الحجرات: 12) والأحاديث في
تحريمها كثيرة.
ليتنبه الأغنياء الذين يقضون أوقاتهم باغتياب الناس والسبحة في أيديهم.
(102)
لم يعتن الدين الإسلامي بشيء كما اعتنى بالعلم. وقد جاء في
الحديث: (طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة، وطلب العلم يومًا خير من صيام
ثلاثة أشهر) [32] وقال أيضًا: (العلم أفضل من العبادة، ومِلاك الدين الورع)[33]
و (فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة)[34] و (أفلح من رزق علمًا)[35]
(103)
الحرية الشخصية والاستقلال الذاتي من أهم قواعد الدين الحنيف
وحفظاً لكرامة الضرر جاء في القرآن الكريم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ
عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) .
فإن كان جل جلاله ينهى نبيه عن السيطرة، فهل يكون هناك دين يكفل
الحرية أزيد من دين الإسلام؟ وسنبحث في مقابلة الإسلام بغيره في هذه المسألة
بحثًا خاصًّا.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حسني عبد الهادي
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
رواه ابن منده في المعرفة والديلمي في مسند الفردوس بسند حسن.
(2)
الطبراني في الأوسط عن سعد بسند صحيح.
(3)
الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر.
(4)
أحمد والترمذي والحاكم عن عبد الله بن عمر بسند صحيح.
(5)
أحمد عن ابن مسعود بسند حسن.
(6)
أبو يعلى عن أنس بإسناد حسن.
(7)
الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عباس بإسناد صحيح.
(8)
البخاري في الأدب المفرد والترمذي بسند صحيح.
(9)
أحمد ومسلم من حديث أبي هريرة.
(10)
الطبراني في الكبير عن ابن عباس.
(11)
رواه الحارث من حديث ابن مسعود وصححه.
(12)
الطبراني والخطيب عن أم هانئ وابن ماجه بلفظ (اتخذي) .
(13)
أحمد ومسلم وأصحاب السنن - ما عدا أبا داود - عن ثوبان.
(14)
ابن عساكر عن أنس بسند صحيح.
(15)
أحمد والطبراني والحاكم عن رافع بن خديج والطبراني عن ابن عمر وهو حديث صحيح.
(16)
الحاكم في المستدرك بلفظ (تعوذوا بالله، وآخره: وأن تظلم أو تظلم) .
(17)
أبو داود والنسائي وابن ماجه.
(18)
البزار والطبراني والبيهقي عن ابن عباس وهو صحيح.
(19)
أبو داود في مراسيله عن علي بن الحسين مرسلاً.
(20)
الخطيب عن أنس بسند صحيح.
(21)
الحاكم عن اليسع بن المغيرة مرسلاً.
(22)
أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن ابن عباس بسند صحيح وليس سبب اللعن التبذير بل أن هذا العمل من العبادات الوثنية.
(23)
رواه أبو داود عن أنس.
(24)
أحمد عن جابر بسند حسن، والنذور للموتى منها ما هو من أعمال الشرك ولا فائدة في شيء من هذه النذور وإنما يستخرج بها من مال البخيل، كما ورد في حديث آخر.
(25)
أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن مسعود، وهو صحيح.
(26)
أحمد والترمذي والحاكم وحسَّنوه.
(27)
أحمد ومسلم عن بعض أمهات المؤمنين.
(28)
أبو داود عن قبيصة وهو صحيح.
(29)
أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن عن ابن مسعود.
(30)
الطبراني في الكبير عن عمران بن حصين وهو حسن.
(31)
رواه أيضًا عن عبد الله بن بسر.
(32)
الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس.
(33)
الخطيب وابن عبد البر في كتاب العلم.
(34)
الطبراني في الأوسط والحاكم عن حذيفة والثاني عن سعد وتتمته (وخير دينكم الورع) وهو صحيح.
(35)
البخاري في التاريخ والبيهقي في الشُّعب بلفظ (أفلح من رزق لُبًّا) أي عقلاً.
الكاتب: محمد رشيد رضا
أحوال العالم الإسلامي
مؤتمر الصلح
بين الترك وأوروبا في لوزان
عرف الترك كيف يعاملون أوروبا في هذا المؤتمر معاملة الأمثال، ويدلون
إدلال المنتصر في القتال، وعرف مَن لم يكن يعرف من العالم أن أوروبا المادية لا
تحترم إلا القوة، ولا تذل إلا للقوة، ولا تعترف بحق غير القوة، وقد جلبت الدول
الكبرى إلى لوزان أممًا كثيرة من الشرق والغرب جعلتها عونًا لها على الترك،
فالأرمن طلبوا وطنًا قوميًّا في بلاد الأناضول، كالوطن الذي تؤسسه إنجلترا لليهود
في فلسطين من بلاد العرب، وشرذمة من بقايا الآشوريين والكلدانيين يطلبون وطنًا
قوميًّا في العراق، وأوروبا هي التي تؤيد هؤلاء وأولئك - لأنهم نصارى - بالمساومة
بينهم، ونصارى الشرق مازالوا شر آلة في يد دول الاستعمار المادية تستعملها
للتفريق بين سكان البلاد التي تطمع فيها، تُلقي بينهم وبين الأكثرين من أبناء وطنهم
العداوة والبغضاء باسم المسيحية التي تأمر بمحبة الأعداء (! !) وتُمَنِّيهم بالسعادة
والملك إذا خانوا أوطانهم في خدمتها، وهم أهون عليها من نعالها، ودماؤهم
أرخص لديها من غُسَالة أرجلها، وإلا فليؤسسوا الوطن القومي الذي وعدوا الأرمن
ومَنُّوهم به حتى حملوهم بالتغرير والتضليل على خيانة دولتهم العثمانية التي كانوا
أنعم وأعز فيها من جميع شعوبها حتى اضطرت إلى البطش بهم، عرف العالم كله
كُنْه مسيحية دول الاستعمار وغيرتها على المسيحيين بعد تبرؤهم من الأرمن كما
تبرأ الشيطان ممن أغراه بالكفر. وكان القبط أعقل نصارى الشرق فاتفقوا مع
المسلمين ولم يقعوا في الفخ الذي كان يُرَاد به تضحيتهم- فمتى يعقل من يَدَّعُونَ
أنهم أذكى البشر وأحذقهم وأدهاهم ويفيقون من سكر تعصبهم؟
كان الوفد التركي في لوزان أدهى الوفود وأحزمها، فما زال يخضخض وفود
الدول العظمى ويمخضها حتى لم يترك لاتحادها عليه مع البلقان قيمة واضطرها
إلى تساهل لم يسبق له نظير في معاملتها للترك في المؤتمرات السابقة منذ عُدُّوا
دولة أوروبية، وداس في لوزان كل ما كان من عظمة هذه الدول وجبروتها
وكبريائها في فرسايل، وسيفر، وسان ريمو ثم إنه لم يقبل المعاهدة التي حررت،
وقيل: إنها منتهى ما يمكن من التساهل والسخاء الحاتمي مع الترك، بل حملها
إلى المجلس الوطني في أنقرة ليرى رأيه فيها، وقد غلب الدهاء البريطاني الذكاء
الفرنسي في هذا المؤتمر فتحول الترك بعده عن فرنسا وتقربوا من بريطانيا،
وطفقت جرائدهم- وقد سكتت عن الطعن في الإنجليز- تطعن في فرنسا وتعدها
أكبر خصومهم فجعلت تبجح فرنسا بصداقة الإسلام مدة سنتين هباء منثورًا.
الوفود العربية في المؤتمر
كان للجنة المؤتمر السوري الفلسطيني وفد في جنيف عند اجتماع جمعية الأمم
فيها ثم انتقل إلى جنوى عند انعقاد المؤتمر الاقتصادي فيها- فكان هذا الوفد أسبق
الوفود القومية غير الدولية إلى لوزان عند الشروع في عقد مؤتمر الصلح فيه،
وكان رئيس هذا الوفد الأمير شكيب أرسلان وهو لحسن الحظ صديق للترك قديم
يعرفه كبراؤهم وخواصهم، ثم ذهب وفد من فلسطين واتحد بهذا الوفد، وذهب
وفدان من مصر واتحدا هنالك أيضًا. واجتهد السوريون والمصريون في استمالة
الترك ومطالبة وفدهم بالاعتراف باستقلال القطرين وسائر البلاد العربية عملاً
بالميثاق الوطني التركي. وكان الغرض أن يقترح جعل ذلك في معاهدة الصلح،
وبأن يتوسل إلى مؤتمر الصلح بقبول عرض مطالبهما له رسميًّا فلم ينجحا في هذا
ولا ذاك. وكل ما كان أن عصمت باشا رئيس الوفد التركي صرَّح بالاعتراف بأن
الترك قد تركوا لمصر والولايات العربية العثمانية أمر تقرير مصيرها واستقلالها
وكانت فائدة ذلك أمام الدولتين المختلفتين لهذه البلاد أنهما تحولتا عن طمعهما بأن
ينص في معاهدة الصلح على تقرير الحالة الحاضرة في مصر والانتداب في سوريا
وفلسطين وقنعتا بأن تحدد بلاد الدولة التركية تحديدًا يخرج منها سوريا والعراق،
بله إفريقيا العثمانية، وفائدة هذا سلبية محضة.
وهاهنا وقع الخلاف في ولاية الموصل فالترك يعدونها من بلادهم التي
حددوها في الميثاق الوطني، وقد ناقشهم الوفد البريطاني في ذلك باسم دولته
الوصية (المنتدبة) على العراق وأقرَّها على ذلك الملك فيصل ووالده الملك حسين
وإنما جعلتهما ملكين لمثل هذا التأييد الذي هو لازم الحماية التابعية.
هذا وإن كلاًّ منهما قد أرسل مندوبًا إلى لندن ولوزان، فكانا في لوزان تحت
تصرف لورد كرزون قولاً وعملاً، ولما اعترف عصمت باشا باستقلال البلاد
العربية، وذكر منها الحجاز بسعي الأمير شكيب أرسلان، بادر مندوب الملك
حسين بتطيير النبأ إلى مولاه بالبرق ليوهمه أن هذا كان بعض ثمرات سعيه.
ثم بلغ شركة روتر أن عصمت باشا ذكر في ضمن اعترافه أن الملك حسينًا
رئيسُ الأمة العربية وأكبر زعمائها الممثل لها، فطيرت هذه الفرية في الأقطار؛
لتكون توطئة وتمهيدًا لتنفيذ المشروع الذي تعده وزارة المستعمرات البريطانية للبلاد
العربية. وإن عقل عصمت باشا ليربأ به أن يفتات على الأمة العربية بالصدق
فكيف يفْتَات بالكذب.
كيد السياسة البريطانية للبلاد العربية
لم تنجح وزارة المستعمرات البريطانية النجاح التام بإقناع دافعي الضرائب
من البريطانيين وممثليهم في مجلس النواب بأن نَصْبَهم الأمير فيصلاً ملكًا على
العراق والأمير عبد الله على شرق الأردن - يضمن للدولة البريطانية استعمار
فلسطين والعراق بدون نفقة كثيرة ترهق دافعي الضرائب عسرًا، ويؤسس لدولتهم
إمبراطورية عربية جديدة تفيض على الخزينة تبرًا، وعلى المستعمر السكسوني
عسلاً وخمرًا، ورأت هذه الوزارة في عهد المحافظين- الذين هم أشد قومهم جشعًا
وحرصًا على الاستعمار، وضراوة باستعباد الأحرار- أن الترك مُصِرُّونَ على
انتزاع الموصل من ملك العراق، وأن استيلائهم على الموصل يُمَكِّنُهم من الاستيلاء
على بغداد في كل وقت بكل سهولة، وأن عرب العراق كغيرهم يفضلو الترك على
البريطانيين بعد أن بلوهم وعرفوا إفكهم وخداعهم، وذاقوا مرارة جبروتهم وظلمهم،
فلا يمكن أن يحاربوا الترك معهم أو تحت قيادتهم لأجل أن تكون العراق مستعمرة
هندية لهم. ومن البديهي أن بريطانيا لا تستطيع قتال الترك في العراق وحدها،
وضلع العرب معهم عليها، ولو تصدت لذلك لقامت عليها الأحزاب البريطانية
بأسرها، وخشي أن يمتنعوا من بذل مئات الملايين من الذهب والرجال، في هذه
المقامرة التي تجر وراءها الخزي والنكال، وشدة وطأة المقاطعة في الهند، وشبوب
نيران الثورة في فلسطين ومصر، ورأت هذه الوزارة أيضًا أن بعض الجرائد
والأحزاب وكبار الساسة من الإنجليز يطالبون الحكومة بالجلاء عن العراق
وفلسطين من قبل الاستهداف لهذه الأخطار، ورأت أن جعل فلسطين مملكة يهودية
فاصلة بين مصر وسائر بلاد العرب ليست من الهنات والهينات، وأنها قد صارت
من المسائل الإسلامية العامة. فالهند قد وضعت استقلال فلسطين وسائر البلاد
العربية في برنامجها، وإمام اليمن على عزلته قد احتج بها عليها، وكاد أهل اليمن
يُجْلُونَ اليهود من بلادهم لأجلها، حتى إن حكومة عدن البريطانية أجابت اليمن بأن
مسألة احتلال فلسطين عرضية مؤقتة وأنهم سيتركونها لأهلها بعد بضع سنين ريثما
تستقر الأحوال! وهذا الجواب من أسلوب الحكيم فإنهم إنما يعنون باستقرار
الأحوال حل مشكلات الكون الكبرى وتوطيد سلطانهم حيث وضعوا أقدامهم.
رأت وزارة المستعمرات كل هذا وأكثر منه مما نعلم ومما لا نعلم فرجَّحت
إحداث تغيير جديد في شكل إدارة البلاد العربية وتجديد الضغائن والبغضاء بين
العرب والترك قطعًا لطريق الجامعة الإسلامية، قبل أن يستيقظ جمهور الشعب
العربي من رقاده، ويثوب الجمهور المخدوع منه إلى رشاده، ويدوس الزعماء
المتجرين به وببلاده، وهي مراقبة لما حدث من تحول العراق عن فيصل وعدم
انخداعه بالمعاهدة، وفلسطين عن عبد الله، وأنه لما عاد من زيارتهم في أوروبا لم
يزره ولا هنأه من أهلها أحد، على ما بثه - ويبثه - أُجَرَاؤُهُ من الدعاية
(البوربغندة) في شأن رحلته وفوائدها المنتظرة (؟) كما أنها عالمة بما كان من
فشل حسين في محاولة استمالة الإمامين يحيى والإدريسي، وليس لهم أحد
يعتمدون عليه من كبراء الأمة العربية غير أهل هذا البيت الذي هو رئيسه - لا
رئيس العرب- يطالبها باسم العرب - لا باسمه - بإنجاز ما وعدته من تأليف مملكة
عربية بقوتها وتحت وصايتها وحمايتها، بشرط أن يكون هو رئيسها، تمتد من
البحر الأحمر إلى حدود الأناضول تحتل هي ولاية البصرة منها لسائر الولايات
المستشارين والموظفين الذين يديرون شؤونها.
* * *
مشروع الشكل الجديد لاستعمار البلاد العربية
فالمشروع الذي تدرسه وزارة المستعمرات مبنيٌّ على التوفيق بين مقاصد
معاهدة سايكس بيكو ووعود (السر هنري مكماهون) للملك حسين في أثناء ما دار
بينهما من المكاتبات التي عرفها قراء المنار في المجلد السابق منه (م 13) . ولما
كان هذا التوفيق لا يتم إلا بتوقيف فرنسا عليه، وإقناعها بجعل داخلية سورية داخلة
في المملكة العربية الشريفية، والقناعة المؤقتة بجعلها منطقة نفوذ فرنسية، وحصر
الانتداب المباشر المؤيد بالاحتلال العسكري في المنطقة الساحلية كما تقنع إنجلترا
بجعل العراق منطقة نفوذ بريطانية وحصر الحكم الاحتلالي المباشر في ولاية
البصرة - لما كان الأمر كذلك كاشفت وزارة الخارجية البريطانية حكومة
الجمهورية الفرنسية بعزمها معتمدة في إقناعها على التخويف من استيلاء الترك
على سوريا والعراق والقيام بحركة الجامعة الإسلامية التي يمتد خطرها إلى شمال
أفريقيا الفرنسي فيفسده على ولية أمره كما يفسد الهند ومصر على الدولة البريطانية
- وكانوا قد مهدوا السبيل لذلك بتدريب الأمير عبد الله على استمالة فرنسا إلى
شخصه قبل سفره إلى لندن وفي أثناء وجوده في أوروبا.
ومن حججهم التي قويت بعد إعراض الترك عن فرنسا في أواخر العهد بمؤتمر
لوزان أن أسرة الملك حسين هي الأسرة الوحيدة التي أشربت دون غيرها من البيوتات
العربية بغض الترك والحقد عليهم. وكان الغرض من هذا السعي أن يجعل الأمير
عبد الله ملكًا على شرقي الأردن وولاية دمشق وحلب ما عدا سواحل حلب وما ألحق
من ولاية دمشق بلبنان الكبير، وبذلك يسهل حمل أهل هذه البلاد وأهل العراق على
مبايعة الملك حسين بالخلافة، فينشق العالم الإسلامي فيها وتستحكم العداوة بين الترك
والعرب ويتيسر للدولتين ضرب أحدهما بالآخر عند الحاجة إلى ذلك، وتدوم لهما
السيطرة على البلاد العربية.
وقد درست وزارة خارجية فرنسا هذا المشروع فترجح عندها عدم الثقة
بهؤلاء الحجازيين صنائع الإنجليز الذين لا تأمن فرنسا إغراءهم بإخراجها من
سوريا عند سنوح الفرصة وإرادة الإنجليز ذلك، وقيل: إنها كانت تدرس معه
مشروعًا آخر مضادًّا له، وهو جعل هذه البلاد تحت سيادة الترك إذا رضوا بأن
تكون مناطق نفوذ لهم وللإنجليز وبذلك يقضون على النهضة العربية ويكتفون
أخطارها ولكنها لما تقرر هذا ولا ذاك.
ولما شعر الناس في سوريا بهذه المفاوضات والمباحث، انبرى أصحاب
الأطماع يتزلفون إلى حيث يتخذ كل منهم له يدًا يستغلها عند تنفيذ المشروع المنتظر
ولهجت بذلك جرائد سوريا ومصر منذ بضعة أشهر فكانت شقشقة هدرت وتلتها
أخرى ثم قرتا في سوريا وكذبتهما الحكومة المحتلة، وإن لم يصدق كل الناس
تكذيبها في وقتها.
وأما الدولة البريطانية فلا تزال تدرس المشروع وقد توسل أعوانها في العراق
بطلب الترك للموصل إلى تنفير العراقيين منهم من حيث أظهرت هي الميل إلى
إنجاز الوعد باستقلالهم والاستعداد للجلاء عن بغداد لولا أن قام الملك فيصل
يستغيث بها أن لا تفعل وشهد وفده لديهم أو صنيعتهم عنده (جعفر باشا العسكري)
بأن خروجهم من العراق نكبة ما بعدها نكبة (!) وهل هذه الشهادة إلا شهادة عليه
وعلى مولاه الملك فيصل بما يفهمه كل أحد (؟) وهل يخفى على الأكمه أن هذه
الدولة إذا لم تخرج في مثل هذه الفرصة من العراق فلن تخرج منه بعد ذهابها إلا
بانقلاب جديد في العلم تزلزل به الأرض زلزالها، وتخرج أثقالها، ويتقوض
صرح الإمبراطورية البريطانية كلها. ولن يكون هذا بعمل العراق بل لن يكون
للعراق عمل في الوجود بعد استقرار السيطرة البريطانية عليه إلا زرع القطن
للمعامل الإنجليزية واستخراج البترول لها وما أشبه ذلك، وماذا يهم فيصل وآل
فيصل إذا شقي العراق واستعبد وهو متمتع فيه بلقب الملك وأبهته ونعمته وفخفخته؟
ألم يكن يسعى لمثل ذلك في سوريا وكان كل الخلاف بينه وبين الوطنيين عليه؟
بلى وقد ظهروا عليه حين أعلنوا الاستقلال واضطروا إلى اكتفاء شر سعيه للوصاية
الأجنبية بجعله ملكًا عليهم حتى إذا ما ألح عليه الجنرال غورو بإعلان الوصاية
الفرنسية أجاب بالقبول، قبل أن يوجه إليه الجنرال الإنذار المعلوم، وهذا أمر لم
نعلمه إلا من عهد قريب. ولذلك لا نستبعد الآن أن يكون الإنذار عن تواطؤ بينهما؛
ليتخذه فيصل ذريعة إلى إقناع المؤتمر السوري العام وسائر زعماء البلاد بقبول
الوصاية التي بذل جهده قبل ذلك في إقناعهم بها فأبوا- ويؤيد هذا انتظاره الاحتلال
الفرنسي في ضواحي دمشق حتى إذا ما تم عاد إلى قصره؛ ليقوم بأمر الملك تحت
وصايته وظله (؟ ؟) ولو رضي الفرنسيس أن يبقى فيصل في دمشق لرضي هو
بمحاولة إسلاس للبلاد لهم بدون نفقة تذكر كما فعل أخوه للإنجليز في شرق الأردن،
ولكان هذا شرًّا للبلاد لا خيرًا لها، ولو أن الإنجليز جعلوه هذا ملكًا على فلسطين
كلها لكان تنفيذ الوصاية والوطن القومي لليهود أقرب مثالاً وأقل نفقة، ولكن الله
نجَّى فلسطين من هذه النكبة؛ لأنه أراد أن ينفخ فيها روح القومية والوحدة
الصحيحة، فلولا هذا الاتحاد بين عرب فلسطين المسلمين والمسيحيين لحكمنا على
هذه البلاد حكمًا محزنًا مخزيًّا، وقد كان من فوائد هذا الاتحاد واليقظة أن علم الشعب
الفلسطيني كله ما كان خفيًا إلا على أفراد منه وهو أن الأمير عبد الله الحجازي
صنيعة الإنجليز كأبيه وأنهم موطنون أنفسهم على أن يكونوا ملوكًا في دائرة
الإمبراطورية البريطانية المرنة كسلطان زنجبار ونظام حيدر آباد وراجا كشمير
وأمثالهم، أما وقد عرفت حقيقتهم فقد صاروا عاجزين (عن تسليم البضاعة) .
نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبأنه لا يمكن أن يتفق الإنجليز مع هؤلاء
الملوك الحجازيين إلا على استعمار البلاد العربية واستعمار الشعب العربي، وأن
كل تغيير يجددانه في البلاد العربية تجارب بريطانية كالتجارب التي نراها في
مصر، فيجب على الأمة العربية أن لا تثق بشيء يجري بين الفريقين، عملاً
بالحديث الصحيح: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) .
_________
الكاتب: مراسل جريدة الأخبار المصرية في الأستانة
نبأ عن النهضة الأفغانية
وكونها دينية مدنية
ألم مراسل جريدة الأخبار المصرية في الآستانة بمدينة (رومية) عاصمة
الدولة الإيطالية في طريقه إلى (لوزان) وزار فيها السردار عظيم الله خان سفير
الدولة الأفغانية فيها فوجده في دار السفارة يقرأ القرآن العظيم، وبعد أن تعارفا دار
بينهما الحديث الآتي وكان المراسل سائلاً والسفير مجيبًا.
(الأفغان وإيطاليا)
س - هل أسست الحكومة الإيطالية سفارة لها في (كابل) مقابل
السفارة الأفغانية التي تأسست في (روما) ؟
ج - أجل لقد أسست الحكومة الإيطالية سفارة لها في (كابل) وعينت
الماركيز (بيترنو) سفيرًا لها لدى جلالة أمير الأفغان. وقد تم الاتفاق بين شركة
أفغانية وشركة إيطالية على مد خط أوتوموبيل بين (كابل) و (بشاور) إلى مدة
12 سنة بحيث يكون 60 في المائة من رأس المال إيطاليًّا و 40 في المائة أفغانيًّا.
س - هل عقدت أو تتفاوض الحكومة الأفغانية لعقد معاهدات أو اتفاقات
سياسية أو اقتصادية مع إيطاليا؟
ج - إنني لم أصل إلى عاصمة إيطاليا إلا منذ أيام قلائل، بيد أننا سنسعى
لعقد معاهدات تجارية مع إيطاليا؛ لأن لدينا مواد كثيرة يمكننا تصديرها إلى البلاد
الإيطالية، ومن هذه المواد الصوف وجلود استراخان، والسجاجيد والفواكه الجافة
وبعض المعادن كالذهب والفضة والحديد و (الزنك) والنحاس والكبريت وبعض
الأحجار الكريمة كالزمرد والياقوت والماس وغير ذلك.
وهنا دعا دولة السفير تابعه وأمره أن يحضر نماذج المعادن الأفغانية فأطاع
التابع، وأحضر عددًا من العلب فتحها السفير وألقى ما فيها على جريدة فرشها على
المكتب وأرانا أنواع الحديد والرصاص والزنك والنحاس والذهب والفضة.
وقد كان من بينها ما هو خام وما هو نقي. ثم إنه فتح العلب التي تحتوي
على الأحجار الكريمة وأرانا أنواع الياقوت والزمرد والماس والزبرجد مقدمًا لنا
بعض التفصيلات عن المناجم التي تحتوي هذه المعادن، قائلاً: إن من بينها ما لا
يستطيع العالم بأسره أن يستنفذه. وقد قضينا نحو نصف ساعة في فحص هذه
المعادن والأحجار ولما انتهينا من فحصها عدنا إلى حديثنا فسألنا دولته:
(السياسة الأفغانية في الغرب والشرق)
س - ما أساس السياسة الغربية التي تتبعها الحكومة الأفغانية؟
ج - الصلح والمسالمة. لقد كانت بلاد الأفغان موصدة الأبواب إلى حين
إعلان استقلالها، والآن تتعارف الأفغان مع جميع الدول وستزداد بهم تعرفًا كل يوم.
لا تريد الأفغان أن تنازع أحدًا وإنما تريد ترقية بلادها.
وقد كان المعنى الذي استخرجناه من أقوال دولة السفير أن أساس السياسة
الغربية التي تتبعها الأفغان هي المسالمة الرامية إلى الاستفادة من الغرب في استثمار
المنابع الطبيعية الأفغانية وإعلاء شأن البلاد الأفغانية عرفانًا واقتصادًا.
س- إذن ما قواعد السياسة الشرقية التي تتبعها الحكومة الأفغانية؟
ج- الإخاء ! وقد كان من أحدث مظاهر هذا الإخاء تلك البرقية التي أرسلها
جلالة أمير الأفغان إلى ملك إنجلترا طالبًا فيها معاملة تركيا في دائرة الحق والعدل.
وقد أرسلت الحكومة الأفغانية برقيات في هذا المعنى لحكومتي فرنسا وإيطاليا.
س- ما رأيكم في مؤتمر لوزان؟
ج- إننا لا ننتظر إلا صلحًا عادلاً مرضيًا.
س- فإذا لم تقبل الدول تحقيق الميثاق الوطني التركي واضطرت تركيا إلى
مواصلة جهادها، فماذا يكون موقف البلاد الأفغانية نحو تركيا؟
ج- موقف البلاد الأفغانية إزاء هذه الحالة مُصَرَّحٌ به في المعاهدة التركية
الأفغانية.
س- لماذا لا تتأسس العلاقات السياسية بين مصر والأفغان؟
ج- نحن نريد أن نؤسس مع مصر كل علاقة. وقد مر (الجناب الأعلى
محمود طرزي بك) سفير الدولة الأفغانية في باريس بمصر خلال سيره إلى مقر
وظيفته وقابل الكثيرين من رجال مصر فأكرموا وفادته ولبث هنالك مدة.
وإذا قبلت مصر فنحن مستعدون في الحال لتأسيس جميع العلاقات السياسية.
س - كيف شعور الأفغانيين نحو إخوانهم المصريين؟
ج - لا فرق بين الأتراك والمصريين في نظرنا، نحب كليهما حبًّا جمًّا.
ونحن نتلقى أخبار مصر دائمًا ونتتبعها بكل شوق. وبُغيتنا تأسيس جميع
الروابط مع جميع الشعوب الإسلامية وعلى الأخص الشعب المصري.
(مبادئ التربية في بلاد الأفغان)
س- اسمح لي يا دولة السفير أن أسألكم بعض أسئلة ليست سياسية.
هل تتكرمون عليَّ ببيان مبادئ التربية التي تقبلتموها لتربية أبنائكم؟
ج- هي مبادئ التربية الإسلامية الصحيحة. وهل هناك مبادئ أشرف وأعلى
من مبادئ التربية الإسلامية؟ إن الدين الإسلامي دين الفطرة، دين الفضيلة، دين
العزة، دين المدنية، دين الحق والحقيقة. فكيف لا تكون مبادئه أساس التربية في
البلاد الإسلامية؟ نحن على أتم يقين أن كل نجاح وكل فلاح نفوز به في معترك
الحياة، إنما نفوز به بفضل اعتصامنا بمبادئ ديننا المبين. فإذا ما أرخينا حبل
الاعتصام أخذنا في التقهقر، والانحطاط والاضمحلال، تلك حياة المسلمين أعدل
شاهد على أنهم قد ارتفع شأنهم كما رفعوا شأن العالم معهم لما كانوا متعصمين بالدين
الإسلامي. لكنهم لما أهملوا دينهم اجتمعت عليهم المصائب ولم يستطيعوا مقاومتها.
فكيف يكون الأمر على هذا المنوال ولا نتخذ مبادئ التربية الإسلامية أساسًا لتربيتنا.
أزيد على ذلك أننا نهتم في بلادنا بترقية معارفنا على هذا الأساس، أكثر من
اهتمامنا بأي شيء. والجميع من جلالة الأمير إلى أصغر صغير يبذلون كل جهد
لترقية المعارف.
ويعقب ذلك في الأهمية: الحربية ثم الداخلية. وقد أرسلنا إلى أوروبا بأعداد
من الطلاب كما تعلمون، ونحن نبذل قصارى الجهد لأن يكونوا متمسكين بمبادئ
الدين الحنيف معتصمين بحبل الله، حتى يتمكنوا من خدمة شعبهم أعظم الخدم.
(التشريع والآداب في الأفغان)
س- ما منابع التشريع في بلاد الأفغان؟
ج- منبع التشريع هو الشريعة الغراء، نستمد جميع قوانيننا منها. وكلنا
يراعي هذه القوانين. وليس جلالة الأمير غير مسئول. بل هو مسئول ويُدْعَى
إلى المحاكمة إذا حدث خلاف بينه وبين أحد رعاياه. فالكل تحت حكم القانون
المستمَد من الشريعة السمحة بلا استثناء. حكومتنا حكومة شرعية، قانونها
الأساسي أحكام الشرع.
س- هل تطبق المبادئ الاجتماعية في الحياة الأفغانية؟
ج- تُطَبَّقُ تمام التطبيق. ومن آثار ذلك أن الأشربة الكحولية لا تدخل في
بلادنا أصلاً، أجل، لا تدخل الآفات العصرية في بلادنا. وسياجنا الحصين الذي
يمنع دخولها في بلادنا هو إيماننا قبل كل شيء، ولن تجد امرأة عاهرة واحدة بين
نساء الأفغان. بلادنا والحمد لله طاهرة مطهرة، بلاد إسلامية بكل معنى الكلمة،
وكل من يجرؤ على خرق هذه المبادئ يلاقي عقابه الصارم في الحال.
(جلالة أمير الأفغان)
س- نسمع عن جلالة أمير الأفغان كثيرًا من المناقب التي تتلقاها بكل احترام
وفخار. فهل لدولتكم أن تزيدونا بيانًا؟
ج- أشرح لكم كيف يقضي جلالة الأمير يومه: ينتبه جلالة الأمير من نومه
مبكرًا ويكون على رأس عمله قبل نُظَّارِهِ وقبل موظفي حكومته. ويشتغل مع نظاره
إلى الظهر حيث يتناول غذاءه معهم ثم يعود بعد برهة إلى العمل حتى المساء،
وهنالك يتريض نحو ساعتين بركوب الخيل أو المشي أو غير ذلك، ثم يتناول
عشاءه ويعود إلى عمله حتى بعد منتصف الليل. ولهذا يلوح على جلالته آثار
التعب دائمًا. هكذا يقضي جلالته أيام أسبوعه ولا يستريح إلا أيام الجمعة. لا
يتناول جلالته أي مرتب من خزانة الشعب بل يعيش من دخله الخاص معيشة
بسيطة لا تفترق عن معيشة أفقر رعاياه. ولا شك أن مثل هذه الحياة تكون خالية
من جميع مظاهر الأبهة والعظمة الخاوية. وجلالته رجل عمل لا رجل مظاهر.
وقد كان أحسن أسوة لأمته للسعي والكد في سبيل ترقية البلاد ا. هـ الحديث.
قال المراسل: الحق أن دولة عظيم الله خان رجل كبير من كل وجهة. فهو -
عدا كونه رجل عمل ورجل دولة - رجل إسلام يشعر بعزة دينه أسمى شعور؛
ولذلك تراه في عاصمة إيطاليا يرتدي ملابسه التي يرتديها في عاصمة دولته ولا
يستبدل بطربوشه قبعة، أي إنه رجل يمثل دينه ودولته على السواء اهـ.
(المنار)
قد نشرت الصحف العامة مقالات أخرى عن الأفغان وأميرهم متعددة
المصادر متفقة المعنى مصدقة لما قلناه في هذه الأمة مرارًا آخرها ما في بحث
الخلافة المستفيض وهو أن هذا الشعب هو الجامع بين صلابة الدين التي في بلاد نجد
وبين الأخذ بأساليب المدنية والعمران السالمة من أخطار ومفاسد المدنية المادية
الإفرنجية السارية في مصر وبلاد الترك وأمثالها. ولا نرى في كلام السفير الأفغاني
في إيطاليا مبالغة إلا في قوله: (إن معيشة الأمير لا تفترق عن معيشة أفقر
رعاياه) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات
(الفطرة) جريدة عربية أسبوعية تصدر في (بوينس أيرس) عاصمة
(الأرجنتين) صاحبها الكاتب الفاضل العاقل السيّ محمود محمد سلوم، وغايتها:
إرشاد قرائها إلى الوحدة والمدنية الراقية بسنن الله تعالى في الفطرة، ويدخل
فيها هداية دين الفطرة (الإسلام) ولذلك نرى مقالاتها الإرشادية متوجة بآيات
الذكر الحكيم وممزوجة بها أيضًا على المنهاج الذي أشرعه أستاذانا حكيمَا الإسلام
وموقظَا الشرق في العروة الوثقى وسلكنا جادته بالمنار، وقد خلفت في ذلك جريدة
الأرجنتين التي ساءنا احتجابها. وأهم ما ننتقده منها ما انتقدنا من تلك وهو كثرة
الغلط في الآيات القرآنية والأحاديث، وتلافيه أن يراجع الكاتب أو المصحح تلك
الآيات في المصحف الشريف قبل طبعها، وأن يستعين على ذلك بمفاتحه ككتاب
(فتح الرحمن) أو كتاب (مفتاح كنوز القرآن) ويراجع الأحاديث في معاجمها
وأشهرها كتاب الجامع الصغير وكنوز الحقائق المطبوع على حواشيه.
ونضرب لذلك مثلاً مقالاً [1] عقدته الجريدة في عددها 12 بعنوان: (انصر
أخاك ظالمًا أو مظلومًا) لإنكار كون هذه الجملة حديثًا نبويًّا؛ صيانة لمقام النبوة
المعصوم من الأمر بنصر الظالم. وقد أخطأ كاتب المقالة في إنكار الحديث كما
أخطأ في أكثر الآيات التي أوردها في المقالة.
بنى إنكاره للحديث على قاعدة صحيحة وهي أن من علامة الحديث الموضوع
مخالفته للقطعي كالقرآن وغيره من أصول الدين وفروعه القطعية، ومنها تحريم
الظلم وإزالته لا إقراره ومساعدة أهله عليه، ولكن تحكيم هذه القاعدة في الحديث
كتحكيمها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} (النساء:
43) بإنكار أن يكون من القرآن للقطع بأن القرآن يأمر بالصلاة، ولا يمكن الجمع
بين الأمر بالشيء والنهي عنه. ومن علم أن هذا النهي مقيد بقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ
سُكَارَى} (النساء: 43) لا ينكره. كما أن العالم بأن النبي صلى الله عليه وسلم
فسَّر في هذا الحديث نصر الظالم بحجزه عن الظلم، كما رواه أحمد والبخاري
والترمذي عن أنس، وبرده عن ظلمه، كما رواه الدارمي وابن عساكر عن جابر
ابن عبد الله - لا ينكره، وقد ظن الكاتب أن هذا تأويل من بعض العلماء، والصواب
أنه تتمة الحديث، وفي رواية عن عائشة: (إن كان مظلومًا فخذ له بحقه. وإن
كان ظالمًا فخذ له من نفسه) .
ومن الغلط في الآيات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) إلخ جعل فيها (إذ) مكان (إن) ومنها قوله تعالى:
{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا
تُنصَرُونَ} (هود: 113) حذف من وسطها {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} (هود: 113) ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) زاد فيها كلمة
(بالحق) ومنها قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (التوبة: 6) . أورده هكذا: (وإن استجارك أحد من
المشركين فأجره حتى يبلغ مأمنه.
وفيها من الخطأ في الحديث - متنه وتصحيحه - قول الكاتب: ورد في الحديث
الصحيح قول الرسول الأمين: (خذوا كلامي فاعرضوه على القرآن فما كان منه
وفقًا فهو شرع والا فهو رد) وهو مروي بلفظ آخر وغير صحيح السند ومعارض
بالصحاح، قال عبد الرحمن بن مهدي أحد أقران الإمام مالك: الزنادقة والخوارج
وضعوا حديث: (ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا
قلته وإن خالف فلم أقله) وقال الشافعي: ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء
صغير ولا كبير. وزعم بعضهم أنهم عرضوه على مثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) فخالفه. والصواب أن ليس
كل ما روي من الحديث موافقًا لكتاب الله فهو صحيح، فمن الأحاديث الموافقة للقرآن
ما لا يصح سنده بل ما هو موضوع. وأما ما خالف القرآن مخالفة صحيحة
فيستحيل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
وقد علمنا أن صاحب هذه الجريدة من طائفة العلويين المعروفين بالنُّصَيْرِيَّة
فَسَرَّنَا ذلك أضعاف ما كان يسرنا لو كان من طائفة أخرى؛ لأن هذه الطائفة أشد
الفرق الإسلامية تقصيرًا في العلم ولم أر أحدًا من أفرادها في بلادنا متعلمًا بصيرًا
بأمور العصر إلا شابين أحدهما كان عضوًا معنا في المؤتمر السوري العام بدمشق
والثاني أديب شاعر له على حداثة سنه ذوق في الشعر وأسلوب جيد سيكون بهما
من أشهر شعراء الوطن، وأرجو أن يكون فيها كثيرون خيرًا منهما. وإنني أرى
في هذه الجريدة أن بعض الجالية في الأرجنتين يهدونها إلى بعض القارئين في
الوطن فعسى أن تكون خير وسيلة إلى إصلاح حال الطائفة وترغيبها في العلم
والوحدة الملية من جهة والوطنية من جهة أخرى. فإن الدسائس الأجنبية تدب
عقاربها في القوم والوساوس الشيطانية تفعل في أذهانها فعلها، تقول لهم: إنكم لستم
مسلمين بل أنتم أصحاب دين مستقل يجب أن تكون لكم دولة مستقلة
…
ولكن
قصارى هذا الاستقلال التفريق والضعف الذي يذهب باستقلال الوطن كله.
وأما مسألة الدين الإسلامي ومكانهم منه فسيجليهما العلم لمن لا يعرفهما فتعلم
هذه البطون العربية العريقة أن مجوس الفرس هم الذين أسسوا الجمعيات الباطنية
للقضاء على مُلك العرب بتفريقهم في الدين الذي جمع كلمتهم وآتاهم ذلك المُلك
العظيم لأجل إنقاذ وطنهم وإعادة ملك كسرى ودين (زرادشت) وقد كانت دسائسهم
من أسباب إضعاف العرب وإذهاب ملكهم، ولكن الإسلام ظل هو الحاكم لبلاد
الأكاسرة إلى اليوم.
* * *
(محاضرات الفلسفة العامة وتاريخها والفلسفة العربية وعلم الأخلاق)
في الجامعة المصرية
قد طبع منذ عامين أو أكثر ما ألقاه الأستاذ (الكونت دي جلارزا) الأسباني من
هذه المحاضرات في الجامعة المصرية في ثلاثة أجزاء، جُمعت في كتاب واحد نافت
صفحاته على 250 وجعل ثمنه ثمانون قرشًا، فمن يقرأه من طلاب الفلسفة كان كأنه
واظب على تلك الدروس في تلك السنة، وكان هذا الكتاب مما ادخرت لأقرأه فأكتب
عنه بعد القراءة فحالت الضروريات دون ذلك بل ضاق الوقت عنها.
* * *
(أسرار المراهقة في الفتى)
وهي محاورات دارت بين أب طبيب وابنه، تبحث في شئون دور البلوغ في
الفتى، وفي أهمية وظائف أعضاء التناسل وكيفية الاحتفاظ بها سليمة ونصائح قيمة
عليها تتوقف صحة الأبدان ونضارة العمران، تأليف الدكتور شخاشيري الطبيب
والجراح في المستشفى الإنجليزي بمصر القديمة.
جرى العرف العام على عَدِّ كل ما يتعلق بشئون داعية التناسل من بدء الاستعداد
الطبيعي لها إلى غاية حصول ثمرتها من الأمور السرية التي يخل إظهارها والتحدث
عنها بالآداب، ويُرمى صاحبه بالمجون والخلاعة، فقلما يسمع الفتى كلمة من أهله أو
أصحابه عن معنى بلوغ الحلم إلا ما يتلقاه طالب علم الفقه الإسلامي من أحكام غسل
الجنابة، وبناء على هذا العرف سمي هذا الكتاب الذي بين مؤلفه موضوعه (بأسرار
المراهقة) وجرى فيه على تعريف المراهقين بما سيجدونه في أنفسهم من شئون هذا
الطور الجديد بأسلوب علمي طبي نزيه، ولكن تلك الآداب قد طوي بساطها في هذا
العصر عند أكثر أهل هذه البلاد وأمثالها فصار أعمق الأسرار فيها جهرًا، قلما يجهله
فتى أو فتاة إلا في بيوت قليلة. والكتاب يفيد هؤلاء وغيرهم؛ لأن الذين يعرفون
أسرار المراهقة والبلوغ يعرفونها من المُجَّان والفُسَّاق المقاربين لهم في السن أعني
أنهم يعرفون منها ما تضر معرفته، والكتاب يرشدهم إلى ما يتقون به هذا الضرر فلا
يستغنى عن مثله منهم أحد، وقد طبع على ورق جيد في 68 صفحة من القطع
الصغير وهو يطلب من مؤلفه ومن مكتبة المنار بمصر وثمنه خمسة قروش، وأجرة
البريد قرش واحد.
* * *
(القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد)
للإمام المجتهد القاضي محمد بن علي الشوكاني قال في أوله: (طلب مني
بعض المحققين من أهل العلم أن أجمع له بحثًا يشتمل على تحقيق الحق في التقليد
أجائز هو أم لا؟ على وجه لا يبقى بعده شك، ولا يقبل عنده تشكيك. ولما كان هذا
السائل من العلماء المبرزين كان جوابه على نمط علم المناظرة) وقد طبع هذا
الكتاب في العام الماضي فبلغت صفحاته زهاء الستين من قطع المنار، وصححه
وعلق عليه بعض الفوائد صديقنا الشيخ محمد منير السلفي من علماء الأزهر. ولكن
بقي فيه غلط كثير لعل سببه رداءة النسخة التي طبع عنها، وهذا لا يمنع الاستفادة
من الكتاب فنحث جميع المشتغلين بعلم الدين الصحيح بالنية الشرعية الصحيحة أن
يطالعوه، وسننقل نبذة منه في جزء آخر إن شاء الله تعالى، وثمن النسخة منه
ثلاثة قروش وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر.
_________
(1)
كُتب هذا التقريظ منذ أشهر عقب وصول العدد 12 من الجريدة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
الإكراه على الطلاق معلقًا عقب عقد النكاح
(س9) من صاحب الإمضاء في (سمبس - جاوه) .
حضرة العلامة الأكبر، الذي هو حجة الإسلام في هذا العصر، مولاي
الأستاذ (السيد محمد رشيد رضا) صاحب مجلة المنار الأغر، حفظه الله تعالى.
السلام عليكم تحية مباركة طيبة. وبعد فإني أرجو كل الرجاء أن تتفضلوا
عليَّ بالجواب عما يأتي:
قد جرت عادة بلدنا، وفي سائر بلاد جاوه وملايو من زمن بعيد إلى اليوم
أن كل عاقد للنكاح من قاضٍ أو حاكم يلقن كل زوج عقد له النكاح عقبه تعليق
الطلاق بما إذا غاب عنها ولم يترك لها نفقة ولم ينفق عليها في غيبته مدة ستة أشهر
مثلاً، وهي غير ناشز، فإذا لم ترض بذلك واشتكت أمرها إلى الحاكم، وثبتت
دعواها ببينة وقبلها طلقت طلقة واحدة.
وغير ذلك من التعاليق التي تناسب حال كل بلد من هذه البلاد، والتعليق الذي
جرينا عليه في بلدنا وطالبنا كل زوج عقدنا له بالتلفظ به هو بأمر ملكنا (السلطان)
وكذا في سائر تلك البلاد بأمر أولياء أمورهم.
ثم إني رأيت في هذه الأيام أن لا حاجة لنا إلى هذا التعليق؛ فإن في مذهب
الشافعي رحمه الله بابًا واسعًا في فسخ النكاح. والغرض من التعليق هو التفريق بين
المرء وزوجه بموجب تعليقه. وقبل كتابة هذا الكتاب سألت نفرًا من المشتغلين بعقد
الأنكحة عن التعليق: هل هو سنة أو مكروه أو
…
أو
…
وما فائدته؟ فلم أجد في
أجوبتهم إلا استحسان التعليق، حتى غلا بعضهم فيه، وقال: يجب على الأمة أن
تطيع أمر السلطان به وأنه يصح ولو مع الإكراه عليه؛ لأنه إكراه بحق.
قلت: لا يصح التعليق مع الإكراه؛ فإنه إكراه بغير حق، وإنما تجب طاعة
السلطان في المعروف كما ورد في الحديث: (إنما الطاعة في المعروف) ولا
يكون الشيء واجبًا إلا إذا كان له مستند من الأدلة الشرعية وهي الكتاب والسنة
والإجماع والقياس، يبين كونه واجبًا، وهل لهذا التعليق مستند من هذه الأدلة؟ بل
قلتَ: إن مثل التعليق الذي جرينا عليه بدعة مكروهة، إن لم أقل: إنها حرام؛ فإن
الإسلام لم يأمرنا بتحليف الزوج بالطلاق بأي شيء كان. فقد قال في شرح الروض
(تعليقه جائز) نعم إني قرأت في هذه الأيام في كتاب باللغة الملاوية للسيد عثمان بن
عقيل اسمه (القوانين الشرعية) قوله فيه ما تعريبه: (إنما يستحسن تعليق الطلاق
بعد عقد النكاح لتذكير الزوج بالمحافظة على حق زوجته من المعاشرة بالمعروف
كما أمر الله به في كتابه {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 19) اهـ وها أنا ذا
أنقل التعليق المستعمل في (بتاوى) بنصه العربي من الكتاب المذكور وهو:
(أما بعد عقد النكاح فأقول في تعليق طلاق زوجتي فلانة بنت فلان بأحد هذه
الأفعال الثلاثة الآتية: حالة كوني أحث على نفسي (؟) أن لا أفعل شيئًا منها وهي:
كلما لم أنفق على زوجتي فلانة بنت فلان النفقة الواجبة عليَّ شرعًا مدة شهر واحد ولم
ترضَ بذلك وشَكَت أمرها بنفسها أو بوكيلها عنها وكالة شرعية إلى (؟) عند رادا كام
(المحكمة الشرعية) وأثبتت هي أو وكيلها دعواها بذلك عند (رادا كام) وطلبت
طلاقها بنفسها أو بواسطة وكيلها فهي طالقة من عقدي (؟) طلقة واحدة. - كلما
غبت عن زوجتي فلانة بنت فلان في سفر البر أو في البلد ستة أشهر، أو في سفر
البحر سنة واحدة، ولم ترضَ بذلك وشَكَت أمرها بنفسها أو بواسطة وكيلها وكالة
شرعية إلى (؟) عند راداكام، وأثبتت هي أو وكيلها دعواها بذلك دعواها بذلك عند
(رادا كام) وطلبت طلاقها بنفسها أو بواسطة وكيلها منها فهي طالقة من عقدي طلقة
واحدة كلما ضربت زوجتي فلانة بنت فلان ضربًا موجعًا غير لائق في الشرع ولم
ترضَ بذلك وشَكَت أمرها بنفسها أو بواسطة وكيلها عنها وكالة شرعية إلى عند (رادا
كام) وأثبتت هي أو وكيلها دعواها عند (رادا كام) وطلبت هي طلاقها بنفسها، أو
بواسطة وكيلها منها، فهي طالقة من عقدي طلقة واحدة. اهـ بالحروف.
ما تقولون في هذا التعليق، فهل يُسْتَحْسَن شرعًا أم لا؟ إنني أقول: إنما
استحسنوا التعليق وأغلقوا باب الفسخ؛ لأنهم اضطربوا في فهم أقوال العلماء
المختلفة فيه كقول بعضهم: لا يجوز فسخ عقد من غاب غيبة منقطعة وجهل حاله
يسارًا وإعسارًا، وبعضهم قال بجوازه. فهم لا يجرؤون على ترجيح قول على آخر
من تلك الأقوال؛ لأنهم قالوا: إنهم ليسوا من أهل الترجيح. هذا والمرجو أن تبينوا
لنا سريعًا الحق في ذلك فيكون جوابكم هو الفصل بين الحق والباطل.
…
...
…
...
…
...
…
... الإمضاء
…
...
…
...
…
سمبس 8 جمادى الآخر سنة 1341
(ج) إكراه الناس على تطليق أزواجهم عقب العقد عليهن طلاقًا معلقًا على
ما ذكر أو غيره - بدعة قبيحة لم ينقل عن حكومة من حكومات السلف ولا الخلف،
ولم يبلغنا عن غير مسلمي جاوه، ولا ندري متى ابتدعتها ومَن زيَّنَها لها. فلعل
السائل يبين لنا هذا إن كان يعلمه. وهل عثمان بن عقيل أول من وضع لها هذه
الصيغ الدالة على ما كان عليه من الجهل بالشرع وباللغة العربية التي لا يمكن فهم
الشرع بدون إتقانها كما هو عهدنا بكل ما اطلعنا عليه من كتبه أم كانت قبل ذلك؟
ومن الغريب أن يحجم علماؤهم وحكامهم المسلمون عن ترجيح قول للفقهاء على
آخر كل منهما صحيح عنهم. وأن لا يروا بأسًا في ابتداع أمر لم يقل به أحد منهم.
فإن قولهم بجواز تعليق الطلاق أمر غير إكراه كل أحد عليه، وما يقصدون به من
القيام بحقوق الزوجة قد يفضي إلى كثرة التفرقة بين الزوجين وتخريب البيوت.
ويمكننا أن نستغني عن محاولة إقناعهم بما هو الغرض الصحيح الذي يريدونه
من هذه البدعة، وهو رفع الضرر عن الزوجة بما قررته الدولة العثمانية من أحكام
فسخ النكاح والتفريق بين الزوجين على مخالفته لمذهب الحنفية الذي هو المذهب
الرسمي لها، وهو:
مواد فسخ النكاح في محاكم الدولة العثمانية:
المادة 122 - إذا اطلعت الزوجة بعد النكاح على وجود علة في الزوج من
العلل التي لا يمكن المقام معها بلا ضرر أو حدثت به أخيرًا هكذا علة - فللزوجة أن
تراجع الحاكم وتطلب فسخ نكاحها منه. فإن كان يؤمل زوال تلك العلة يؤجل الحاكم
الفسخ سنة فإذا لم تزُل العلة في خلال هذه المدة وكان الزوج غير راضٍ بالطلاق
والزوجة مُصِرَّة على طلبه يحكم الحاكم بالفسخ. أما وجود عيب كالعمى والعرج في
الزوج فلا يوجب التفريق.
المادة 123 - إذا جُنَّ الزوج بعد عقد النكاح وراجعت الزوجة الحاكم طالبة
تفريقها يؤجل التفريق لمدة سنة. فإذا لم تزُل الجِنَّة في هذه المدة وكانت الزوجة
مصرة يحكم الحاكم بالتفريق.
المادة 124 - خيار الزوجة غير فوري في الأحوال التي لها بها الخيار،
فلها [1] أن تؤخر الدعوى أو تتركها بعد مدة بعد إقامتها.
المادة 125 - إذا جدَّد الطرفان العقد بعد التفريق وفقًا للمواد السابقة فليس
للزوجة حق الخيار في الزواج الثاني.
المادة 126 - إذا اختفى الزوج أو سافر إلى محل يبعد مدة السفر أو أقل منها
ثم غاب وانقطعت أخباره وأصبح تحصيل النفقة منه متعذرًا وطلبت الزوجة التفريق -
يحكم الحاكم بالتفريق بينهما بعد بذل الجهد في البحث والتحري.
المادة 127 - إذا راجعت الزوجة التي غاب زوجها وكان زوجها ترك لها
مالاً من جنس النفقة وطلبت منه التفريق، يُجري الحاكم التحقيقات بحق ذلك
الشخص، فإذا يئس من الوقوف على خبر حياته أو مماته يؤجل الأمر أربع سنوات
اعتبارًا من تاريخ اليأس؛ فإذا لم يقف على خبر عن الزوج المفقود وكانت الزوجة
مصرّة على طلبها - يفرق الحاكم بينهما. وإذا كان الزوج غائبًا في دار الحرب يفرق
الحاكم بينهما بعد مرور سنة اعتبارًا من رجوع الفريقين المتحاربين وأسراهم إلى
بلادهم، وعلى كلتا الحالتين فالزوجة تعتد عدة الوفاة اعتبارًا من تاريخ الحكم.
المادة 128 - إذا تزوجت المرأة التي حُكم بتفريقها وفقًا للمواد السابقة
بشخص آخر ثم ظهر الزوج الأول - فلا يفسخ النكاح الأخير.
المادة 129 - إذا تزوجت الزوجة التي حُكم بوفاة زوجها ثم تحققت حياة
الزوج الأول - لا يُفسخ النكاح الثاني.
المادة 130 - إذا ظهر بين الزوجين نزاع وشقاق وراجع أحدهما الحاكم،
يعين حكمًا من أهل الزوج وحكمًا من أهل الزوجة، وإذا لم يجد حكمًا من أهلهما أو
وجد ولكن لم تتوفر فيهما الأوصاف اللازمة، يعين من غير أهلهما من يراه مناسبًا.
فالمجلس العائلي الذي يتألف على هذه الصورة يُصْغِي إلى شكاوي الطرفين ومدافعتهم
ويدقق فيها ويبذل جهده لإصلاح ذات بينهما، فإذا لم يمكن الإصلاح وكان الذنب على
الزوج يفرق بينهما، وإذا كان على الزوجة يخالعها [2] على كامل المهر أو على قسم
منه. فإذا لم يتفق الحكمان يعين الحاكم (هيئة حكمية) أخرى من أهليهما حائزة
للأوصاف اللازمة أو حكمًا ثالثًا من غير أهليهما ويكون حكم هؤلاء قطعيًّا وغير قابل
للاعتراض. اهـ.
التهويش على المصلي
وهل منه الخطبة وتكبير العيد
(س10) من صاحب الإمضاء في دمياط
فضيلة الأستاذ الإمام الرشيد صاحب المنار:
السلام عليكم يا فضيلة الأستاذ ورحمة الله وبركاته، تحية من عند الله مباركة
طيبة وبعد:
(1)
أثبتت السنة الصحيحة سنية التكبير دبر كل صلاة في أيام الأعياد، كما
أنه ثبت بها عدم التشويش على المصلي سواء كان هذا التشويش بالصلاة أو بالذكر
أو بالدعاء أو بقراءة القرآن.
فما قول فضيلتكم في هذا التكبير عند إتمام صلاة رجل مسبوق تخلف عن
الجماعة بركعة أو أكثر هل يُعَدُّ التكبير إذًا تشويشًا على المصلي أم لا؟ أفتونا
مأجورين، جعلك الله حجة للإسلام والمسلمين، آمين.
وما قولكم - يا فضيلة الأستاذ - في خطبته صلى الله عليه وسلم وقد أمر من
جلس قبل أن يصلي ركعتين تحية المسجد بأن يصلي ركعتين خفيفتين، فهلا كانت
الخطبة إذًا تُعَدُّ تشويشًا عليه؟ ونرجو أن لا تحرمونا من الرد بوجه السرعة سواء
بالمنار المضيء أو بخطاب خصوصي باسمنا، هدانا الله بكم إليه.
حسن محمد فايد
…
...
…
...
…
...
…
... وكيل جمعية الاعتصام بهدي الإسلام بدمياط
(ج) لم يثبت بالسنة الصحيحة سنية التكبير دبر كل صلاة في يومي العيد
وأيام التشريق، ولكنه مأثور عن بعض الصحابة وزاد فيه الناس: الله أكبر كبيرًا،
والحمد لله كثيرًا، إلى آخر ما هو معروف.. .
وأما إيذاء المصلي برفع الصوت عنده ولو بذكر غير متعين، ففي السنة ما يدل
عليه وهو متفق عليه عند العلماء. ولا يدخل فيه رفع الصوت المتعين شرعًا
كصوت الخطيب والمؤذن بين يديه يوم الجمعة إذا اتفق وجود من يصلي بالقرب
منهما كواقعة السؤال الثابتة في حديث الصحيحين والسنن؛ لأنه لا يعد إيذاء
للمصلي ولا شاغلاً له عن الله تعالى. أو يقال: إنه يرجح إذا عُدَّ الأمران
متعارضين؛ لأنه الأصل والشعار المطلوب لذاته في وقت أدائه وفائدته عامة
لجماعة المسلمين والصلاة وقتئذ مصلحة خاصة بفرد أو أفراد من المقصرين وهي
خلاف الأصل حتى قال بعض العلماء بأن حديث: أمر النبي صلى الله عليه وسلم
من دخل المسجد وهو يخطب بأن يصلي ركعتين، خاص بذلك الرجل لا عام، ومن
ذهب أنه عام على الأصل، قالوا: يخفف فيهما بالاقتصار على الواجبات التي لا
تصح الصلاة بدونها ليسمع الخطبة، والصواب أنه عام؛ إذ ورد الأمر به في
حديث الصحيحين وبتخفيف الركعتين.
ولمن أثبت التكبير برفع الصوت عقب الصلوات في العيدين وأيام التشريق
أن يقول فيه مثل ذلك أي أنه شعار الوقت، والمتأخر في الصلاة مقصر فلا يرجح
ترك التهويش عليه بمنع الشعار أن يؤدى في وقته كالخطبة والأذان بين يدي
الخطيب قبلها.
_________
(1)
لها ذلك بشرط أن لا تظهر منها أمارة من أمارات الرضا بالعيب كما مر في المادة (120) اهـ من حاشية الأصل.
(2)
الخلع هو تطليق الزوج زوجته بمقابل شيء من المال. اهـ من حاشية الأصل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الخلافة الإسلامية
(4)
30 -
الاشتراع الإسلامي والخلافة
نريد بالاشتراع ما يعبر عنه عندنا بالاستنباط والاجتهاد، وفي عرف هذا
العصر بالتشريع، وهو وضع الأحكام التي تحتاج إليها الحكومة؛ لإقامة العدل بين
الناس وحفظ الأمن والنظام وصيانة البلاد ومصالح الأمة وسد ذرائع الفساد فيها.
وهذه الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان وأحوال الناس الدينية والمدنية كما
قال الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (تحدث للناس أقضية
بحسب ما أحدثوا من الفجور) أي وغيره من المفاسد والمصالح والمضار والمنافع.
فالأحكام تختلف وإن كان الغرض منها واحدًا وهو ما ذكرنا آنفًا من إقامة العدل
إلخ.
لا يقوم أمر حكومة مدنية بدون اشتراع، ولا ترتقي أمة في معارج العمران
بدون حكومة يكفل نظامها اشتراع عادل يناسب حالتها التي وضعها فيها تاريخها
الماضي، ويسلك لها السبل والفجاج للعمران الراقي، ولا يصلح لأمة من الأمم
شرع أمة أخرى مخالفة لها في مقوماتها ومشخصاتها وتاريخها، إلا إذا أرادت أمة
أن تندغم في أمة أخرى وتتحد بها فتكونا أمة واحدة كما اتحدت شعوب كثيرة
بالإسلام فكانت أمة واحدة ذات شريعة واحدة، وأما الشعوب التي تقتبس شرائع
شعوب أخرى بغير تصرف ولا اجتهاد فيها تحوله به إلى ما يلائم عقائدها وآدابها
ومصالحها التي كان الشعب بها شعبًا مستقلاًّ بنفسه - فإنها لا تلبث أن تزداد فسادًا
واضطرابًا، ويضعف فيها التماسك والاستقلال الشعبي فيكون مانعًا من الاستقلال
السياسي وما يتبعه. فشرع الأمة عنوان مجدها وشرفها وروح حياتها ونمائها،
وأعجب ما مُنِيَ به بعض الشعوب الإسلامية أن ترك شريعة له ذات أصل ثابت في
الحق وقواعد كافلة للعدل والمساواة واستبدل بها قوانين شعوب أخرى هي دونها
فأصبحوا ولا إمام لهم في حياتهم الاشتراعية من أنفسهم بل هم يقتدون فيها بأفراد
من الأعاجم يقلدونهم بما خسروا به أهم مقومات أمتهم وأعظم مظهر من مظاهر
شرفهم، وهو الاشتراع.
لا تتسع هذه الخلاصة التي نكتبها في هذا البحث لبيان أنواع الحكومات
الغابرة والحاضرة وشأنها في الاشتراع ومكان المسلمين فيه، وإنما نقول: إن
صحفنا العربية تصرِّح في هذا العهد آنًا بعد آخر بأن أحدث أصول التشريع هو أنه
حق للأمة، ويظن هؤلاء الذين يكتبون هذا وأكثر من يقرءون كلامهم أن هذا
الأصل من وضع الإفرنج، وأن الإسلام لا تشريع فيه للبشر؛ لأن شريعته مستمَدة
من القرآن، والأحكام المدنية والسياسية فيه قليلة محددة - ومن السنة والزيادة فيها
على ما في القرآن قليلة ومناسبة لحال المسلمين في أول الإسلام دون سائر الأزمنة
ولا سيما زماننا هذا- وأن الإجماع والاجتهاد على استنادهما إلى الكتاب والسنة قد
انقطعا، وأقفلت أبوابها باعتراف جماهير علماء السنة في جميع الأقطار الإسلامية.
وأن هذا هو السبب في تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدينية،
واضطرار الحكومتين المدنيتين الوحيدتين - التركية والمصرية - إلى استبدال
بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة الإسلامية تقليدًا ثم تشريعًا.
ذلك ظن الذين يجهلون أصول الشريعة الإسلامية وأساس الاشتراع فيها الذين
لا يفرقون بين الإصلاح الفقهي والاصطلاح المصري في التشريع فيعمي عليهم
الحقيقةَ اختلافُ الاصطلاح: ذلك بأن اسم الدين والشرع قد يستعملان استعمال
المترادف وإن كان بينهما عموم وخصوص، فإنهم كثيرًا ما يخصون الشرع
بالأحكام القضائية أو العملية دون أصول العقائد والحِكَم والآداب التي هي قواعد
الدين المتعلقة بصلاح المعاش والمعاد، ولذلك جعلوا الفقه قسمين: عبادات
ومعاملات، والفقهاء يفرقون فيها بين الديانة والقضاء. يقولون: يجوز هذا قضاء
لا ديانة. وتسمى الأحكام العملية دينًا باعتبار أنها يُدَان بها الله تعالى فتتبعُ إذعانًا
لأمره ونهيه. وبهذا الاعتبار تطلق كلمة (الشارع) على الله تعالى، وأطلقت على
النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مبلغ الشرع ومبينه، ومن العلماء من قال: إن الله
تعالى أذن له أن يشرع، والجمهور على أنه مبلغ ومبين لما نزل عليه من
الوحي وأن الوحي أعم من القرآن.
والتحقيق أن هذا كله خاص بأمر الدين وهو ما شرع ليتقرب به إلى الله تعالى
من العبادات، وترك الفواحش والمنكرات ومراعاة الحق والعدل في المعاملات
تزكية للنفس وإعدادًا لها لحياة الآخرة. ومنها ما في المعاملات من معنى الدين
كاحترام أنفس الناس وأعراضهم وأموالهم والنصح لهم وترك الإثم والبغي والعدوان
والغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل. وأما ما عدا ذلك من نظام الإدارة
والقضاء والسياسة والجباية وتدبير الحرب مما لا دخل للتعبد والزلفى إلى الله في
فروعه إلا بعد حسن النية فيه، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في زمنه
مشترعًا فيه باجتهاده مأمورًا من الله بمشاورة الأمة فيه، ولا سيما أولي الأمر من
أفرادها الذين هم محل ثقتها في مصالحها العامة وممثلو إرادتها من العلماء والزعماء
والقواد، وهو كذلك مُفَوِّض مَن بعدَه إلى هؤلاء أنفسهم، ويخلفه لتمثيل الوحدة مَن
يختارونه إمامًا لهم وخليفة له.
والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) الآية، وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:
83) ومن السنة ما صح عنه من أن أمته لا تجتمع على ضلالة، وما كان يجعله
صلى الله عليه وسلم موضع الشورى من أمور الحرب وغيرها من المصالح الدنيوية
- وما أذن فيه من الاجتهاد والرأي عند فقد النص من الكتاب وعدم السنة المتبعة،
والحديث فيه مشهور- ومن آثار الخلفاء الراشدين المهديين ما كانوا يستشيرون فيه
أهل العلم والرأي من أمور الإدارة والقضاء والحرب أيضًا وما وضعوه من الدواوين
والخراج وغير ذلك مما لم يرد به نص في الكتاب والسنة - ومن أصول الفقه حجية
إجماع الأمة، واجتهاد الأئمة- فكل هذا مما يسمى في عرف علم الحقوق والقانون
تشريعًا - وهو ميدان المجتهدين الواسع، وجرى عليه العمل في خير القرون.
فثبت بهذا أن للإسلام اشتراعًا مأذونًا به من الله تعالى وأنه مُفَوَّض إلى الأمة
يقره أهل العلم والرأي والزعامة فيها بالشورى بينهم. وأن السلطة في الحقيقة للأمة
فإذا أمكن استفتاؤها في أمر وأجمعت عليه فلا مندوحة عنه. وليس للخليفة- دع مَن
دونه مِن الحكام- أن ينقض إجماعها ولا أن يخالفه، ولا أن يخالف نوابها وممثليها
من أهل الحل والعقد أيضًا. واتفاق هؤلاء إذا كانوا محصورين يسمى إجماعًا عند
علماء الأصول بشرط أن يكونوا من أهل العلم الاجتهادي. وأما إذا اختلفوا فالواجب
رد ما تنازعوا فيه إلى الأصليين الأساسيين وهما الكتاب والسنة والعمل بما يؤيده
الدليل منهما أو من أحدهما؛ لقوله تعالى بعد الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول
وأولي الأمر: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) أي أحسن عاقبة
ومآلاً مما عداه، ومنه العمل برأي الأكثر في تشريع قوانين أوروبا ومقلديها، فشرعنا
مخالف لها في هذه المسألة.
ومن وجوه كونه خيرًا من غيره وأحسن عاقبة أن النزاع بين الأمة يزول
بتحكيم الكتاب والسنة فيه، وتطيب نفوس جميع نواب الأمة بما ظهر رجحانه
بالدليل، ولا يبقى للأضغان والنزاع مجال بينهم، وقد تقدم إثبات سلطة الأمة وتمثيل
أهل الحل والعقد في هذا وذاك، فيراجع فيه تفسير: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) في الجزء الخامس من تفسير المنار.
الاشتراع - أو التشريع أو الاستنباط - ضرورة من ضروريات الاجتماع
البشري، ومن قواعد الشرع الإسلامي أن الضرورة لها أحكام، منها: أنها تبيح ما
حرَّمَه الله تعالى بإذنه في قوله بعد بيان محرمات الطعام: {إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) ومنها: نفي الحرج والعسر من الدين، وانتفاؤهما من قسم
المعاملات أولى من انتفائهما من قسم العبادات التي يعقل أن يكون فيها ضرب من
المشقة لتربية النفس وتزكيتها؛ إذ لا تكمل تربية بدون احتمال مشقة وجهد. ويسهل
هذا الاحتمال نية القربة وابتغاء المثوبة فيه، وليس في المعاملات شيء من معنى
التدين إلا ما ذكرنا آنفًا، والغرض منه حفظ الأنفس والأموال والأعراض أن يُعْتَدَى
عليها بغير حق، فمن لم يردعه عن ذلك خوف عقوبة الحكام في الدنيا يردعه خوف
عذاب الله في الآخرة إن كان مؤمنًا به وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فتبين بهذا أن للاشتراع المدني والجنائي والسياسي والعسكري دلائل كثيرة،
منها قواعد الضروريات ونفي ومنع الضرر والضرار، فلو لم ينص في القرآن
على أن أمور المؤمنين العامة شورى بينهم، ولو لم يوجب طاعة أولي الأمر بالتبع
لطاعة الله وطاعة الرسول، ولو لم يفرض على الأمة رد هذه الأمور إليهم ويفوض
إليهم أمر استنباط أحكامها، ولو لم يقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا على
الاجتهاد والرأي فيما يعرض عليه من القضايا التي لا نص عليها في كتاب الله،
ولم تمض فيها سنة من رسوله [1]- لو لم يرد هذا كله وما في معناه لكفت الضرورة
أصلاً شرعيًّا للاستنباط الذي يسمى في عرف هذا العصر بالتشريع. ووراء هذا
وذاك عمل الأمة في صدر الإسلام وخير القرون وكذا ما بعدها من القرون الوسطى
التي خرجت فيها الخلافة الكافلة للأمور العامة عن منهج العلم الاستقلالي فزالا معًا؛
لتلازمهما.
الخلافة مناط الوحدة ومصدر الاشتراع وسلك النظام وكفالة تنفيذ الأحكام،
وأركانها أهل الحق والعقد رجال الشورى، ورئيسهم الإمام الأعظم، ويشترط
فيهم كلهم أن يكونوا أهلاً للاشتراع، المُعَبَّر عنه في أصولنا بالاجتهاد والاستنباط،
وقد كان أول فساد طرأ على نظام الخلافة وصدع في أركانها جعلها وراثية في أهل
الغلب والعصبية، وأول تقصير رُزِئَ به المسلمون عدم وضع نظام ينضبط به
قيامها بما يجب من أمر الأمة، على القواعد التي هدى إليها الكتاب والسنة، وأول
خلل نشأ عن هذا وذاك تفلُّت الخلفاء من سيطرة أهل الحل والعقد الذين يمثلون الأمة
واعتمادهم على أهل عصبية القوة، التي كان من أهم إصلاح الإسلام لأمور البشر
إزالتها، فصار صلاح الأمة وفسادها تابعًا بذلك لصلاح الخليفة وأعوانه أهل
عصبيته، لا لممثلي الأمة ومحل ثقتها من أهل العلم والرأي فيها، والغيرة والحدب
عليها.
ثم ترتب على ذلك شعور الخلفاء بالاستغناء عن العلم أو عدم شعورهم
بالحاجة إليه وترك التمتع باللذات اشتغالاً به لتحصيل رتبة الاجتهاد به، ورأوا أنه
يمكنهم الاستعانة بالعلماء الذين يتقلدون مناصب الوزارة والقضاء والإفتاء وغيرها
من الأعمال التي يحتاج فيها إلى استنباط الأحكام- فتركوا العلم ثم جهلوا قيمة
العلماء فصاروا يقلدون الجاهلين من أمثالهم للأعمال، ووجدوا فيهم من يفتي بعدم
اشتراط العلم الاستقلالي (الاجتهاد) في إمام المسلمين ولا في القاضي لإمكان
استعانتهما بالمفتي الذي لا يكون إلا مجتهدًا، ثم عم الجهل فصاروا يستفتون
الجاهلين (أي غير المجتهدين) أمثالهم، ثم أذاع هؤلاء الجاهلون الذين احتكروا
مناصب الدولة وأموالها أن الاجتهاد قد أقفل بابه وتعذر تحصيله، وأوجبوا على
أنفسهم وعلى الأمة تقليد أفراد معينين من العلماء والانتساب إليهم، ثم صاروا
يقلدون كل من ينتمي إليهم مع الإجماع على امتناع تقليد المقلد- فضاع علم الأحكام،
وفقدت ملكة الاشتراع والاستنباط بالتدريج، واختل نظام الأمة وانحل أمرها
وتضعضع ملكها، وقع كل ذلك بترك أصول الإسلام وفروعه والجاهلون يحسبون
أنه وقع باتباع تعاليمه! !
قال القاضي أبو علي محسن التنوخي [2] في كتابه (جامع التواريخ) حدثني
أبو الحسين ابن عباس قال: كان أول ما انحل من سياسة الملك فيما شاهدنا من أيام
بني العباس: القضاء. فإن ابن الفرات (الوزير المشهور) وضع منه وأدخل فيه
قومًا بالزمانات [3] لا علم لهم ولا أبوة فيهم، فما مضت إلا سنوات حتى ابتدأت تتضع
ويتقلدها كل من ليس لها بأهل حتى بلغت في سنة نيف وثلاثين وثلاث مائة إلى أن
تقلد وزارةَ المتقي أبو العباس الأصفهاني الكاتب، وكان في غاية سقوط المروءة
والرقاعة (إلى أن قال) وتلا سقوط الوزارة اتضاع الخلافة وبلغ صيورها إلى ما
نشاهد، فانحلت دولة بني العباس بانحلال القضاء، وكان أول ما وضع ابن الفرات
من القضاء تقليده إياه أبا أمية الأخوص الفلاني البصري. وذُكر أنه إنما قلَّده
لموعدة وعدها إياه؛ إذ أوى إليه واختفى عنده في أيام محنته.
وأقول: إن ابن الفرات كان من أقدر الوزراء وأعلمهم بشئون الملك والسياسة،
وكان حسن السيرة وإنما جرَّأه على مثل هذا جهل الخليفة وانصرافه إلى اللهو
واللعب ثم التلذذ بالإسراف في اللذات، فإنه ولي وله ثلاث عشرة سنة. قال الحافظ
الذهبي: اختل أمر النظام كثيرًا في أيام المقتدر بصغره. يعني أن الخلل قد طرأ
قبله من أيام المتوكل بن المعتصم إذ كان قد اشتد عيث الترك الذين استكثر منهم
المعتصم وجعلهم عُدَّة الخلافة وسياجها فكانوا هم الذين دكوا بنيانها وهدموا أركانها،
والعلة الأولى لهذا كله بدعة ولاية العهد التي استدلوا عليها باستخلاف أبي بكر لعمر
رضي الله عنهما، فجعلتها القوة حقًّا لكل خليفة وإن كان متغلبًا لا يعد من أئمة الحق،
ولم يراع ما راعاه أبو بكر من استشارة أهل الحل والعقد. وقد بيَّنا بطلان هذا في
المسألة التاسعة من هذا البحث.
فعُلم بهذا القول الوجيز أن التساهل في بعض شروط الخلافة التي عليها
مدارها - وهي العلم الاستقلالي والعدالة والشورى في نصب الإمام وفي تصرفه - قد
كان معلولاً للتغلب وعلة لفقد الاشتراع - الاستنباط - الذي لا يقوم أمر الدولة ولا
يَطَّرِد ارتقاؤها ولا حفظها بدونه. فكان هذا علة لضعف الدولة، وكان ضعف الدولة
علة لضعف الأمة، إذ صارت تابعة للدولة لا متبوعة، وكان فساد أمرهما معًا علة
لتغيرات كثيرة في الأحوال الاجتماعية وشئون المعيشة تقتضي أحكامًا شرعية
أخرى غير التي كان الأمر عليها قبلها، أو تعود الإمامة الحق إلى أصلها.
ونحمد الله أن ظهر لأركان الدولة التركية التي تنحل منصب الخلافة أن الدولة
العثمانية كانت فاسدة وأنها لم تكن بعد دعوى الخلافة خيرًا من قبلها، بل لم تلبث
أن دَبَّ إليها الخلل والضعف بالتدريج في كل أمور الدين والدنيا حتى صار كثير من
نابتتنا المتفرنجين يصرحون بأن الإسلام هو الذي جنى عليها وأن حكم الخلافة هو
الفاسد الذي لا يمكن صلاح حالها معه، فتسنى لنا أن نبين لها وللعالم الإسلامي
الذي كان أكثره مفتونًا بها أنها لم تكن قائمة على أصول الشريعة في الخلافة، وأن
نبين حقيقة الخلافة وشكل الحكومة الإسلامية الحق وخطأ جمهور أعضاء المجلس
الوطني الكبير في رأيهم وعملهم فيها، ونثبت بالدلائل أن أصول الحكومة الإسلامية
أرقى من أصول سائر حكومات الأمم، بجمعهما بين دفع المفاسد وحفظ المصالح
المادية، وبين الحق والعدل والفضائل التي يتهذب بها البشر وتكمل الإنسانية، وأن
ندعو هذه الأمة التركية الإسلامية إلى إقامة حكومة الإسلام كما أمر الله ورسوله
وخلفاؤه الراشدون خير أمة أخرجت للناس ولو كره المتفرنجون {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ
عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42) .
* * *
31-
ما بين الاشتراع وحال الأمة من تباين وتوافق
وضع الإسلام قواعد عامة لأنواع المعاملات الدنيوية راعى فيها هداية الدين
وتقييد حكومته بالتزام الفضائل واجتناب الرذائل، فلم يجعل ما فوض إلى أولي
الأمر من الاستنباط - الاشتراع - مطلقًا من كل قيد لئلا يجنوا على آداب الأمة خطأ
في الاجتهاد، أو اتباعاً للهوى إذا غلب عليهم الفساد، فحرم الربا الذي كان فاشيًا
في الجاهلية؛ لما فيه من القسوة والبخل والطمع الذي يحمل على استغلال ضرورة
المحتاج، كما حرم الغش والخيانة، وجعل الأمة متكافلة بما أوجب من النفقة على
القريب والزكاة لإزالة ضرورة الفقير والمسكين، ولغير ذلك من المصالح العامة،
وجعل لكل امرأة كافلاً يقوم بأمرها من زوج أو قريب؛ وإلا فالإمام الأعظم أو نائبه؛
لئلا تضطر إلى ما يشق عليها القيام به من الكسب مع قيامها بوظائفها الخاصة بها
من الحمل والوضع والرضاعة وتربية الأطفال - فيكون اضطرارها إلى الحياة
الاستقلالية سببًا لقلة النسل ولغير ذلك من المفاسد.
وقد كان من تأثير ضعف الدين في الشعوب الإسلامية وحكوماتها أن ترك كل
منهما مراعاة ما يجب عليه من تلك القواعد والتزام أحكامها، فترتب على ذلك احتياج
كل منهما إلى ارتكاب بعض المحظورات كالربا إما اضطرارًا وإما اختيارًا ترجح
فيه المصلحة على المفسدة رجحانًا ظاهرًا.
هذا الاحتياج الذي يدفع صاحبه إلى ارتكاب المحرم إذا لم يجد له مخرجًا لا
يعرض في الإقراض كما يعرض في الاقتراض، فكان من أثره أن المسلمين لم
يجدوا من يقرضهم إلا من غيرهم، إما من أهل ذمتهم وإما من الأجانب عنهم،
كالمعاهدين الذين يكونون في بعض الأحيان حربيين، وهذه مفسدة أخرى، هي
ذهاب ثروة المسلمين إلى غيرهم، وناهيك بذهابها إلى أعدائهم، وحاجتهم إليهم في
أهم مصالحهم.
ثم إن توسع الفقهاء في مسائل الربا وإدخالهم فيها ما لم يكن معروفاً في عصر
الوحي- وتضييق أكثرهم في أحكام العقود المالية- واستحداث الأمم التي يتعاملون
معها لأنواع كثيرة من العقود والمعاملات- وترقي العلوم الاقتصادية والأعمال
المالية إلى درجة قضت بتفوق متبعي قواعدها ونظمها على غيرهم في الثروة والقوة
والسيادة- كل أولئك كان دافعًا في صدور المسلمين ورافعًا لغيرهم عليهم حتى في
ديارهم، بل هو أظهر العلل لسلب جُلّ ملكهم منهم، والسيطرة عليهم فيما بقي لهم
شيء من السيادة فيه، ولاعتقاد أكثر الذين يعرفون أحوال هذه الأمة العزيزة في
علومها وأعمالها ويجهلون أصول الإسلام- أن الإسلام نفسه علة ضعف المسلمين
بما في شرعه من الجمود على أحكام عتيقة مالية واجتماعية توجب فقر ملتزميها،
وكل ما يجره الفقر في الأمم من الذل والضعف وفقد الملك.
بدأت بضرب المسألة المالية مثلاً لِما طرأ على كثير من البلاد الإسلامية من
تأثير ترك العمل بأحكام الشريعة الغراء، إذ كان المال قوام حياة الأمم والدول في
كل زمان، وصار له من الشأن في هذا الزمان ما لم يكن له من قبل ولا سيما
عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانت فيه الأمة قليلة الحاجات، وغير
مرتبطة في حياتها بمعاملات الأمم الأخرى، ولكن عالم الغيب والشهادة العزيز
الحكيم قد أنزل في ذلك العصر قوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ
لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: 5) فأرشدنا به إلى مكانة المال من حياة الأمم ونظام أمرها
وكونها لا تقوم إلا به، وحثنا على المحافظة عليه، وعدم تمكين السفهاء من
التصرف فيما هو ملك لهم منه، كما أمرنا في آيات أخرى بالاقتصاد ونهانا عن
الإسراف والتبذير، وذمه كما ذم القمار غول الثروة بما أفاد تحريمها وتحريم القمار
بأنواعه في الدين؛ فهل يمكن أن يقال: إن مقتضى شرع هذا الدين أن يكون أهله
فقراء؟ وأن يكون ما به قيام معاشهم وعزة أمتهم ودولتهم في أيدي الطامعين فيهم
من الأمم الأخرى؟ وإذا كان هذا مخالفًا لهدي هذا الدين فما بال المشتغلين بعلم
الشرع فيه أجهل أهل بلادهم بالفنون المالية، وبما يرتبط بها من الأمور السياسية،
ولا يجعلون هذه الفنون عما يتدارسونه في مدارسهم الدينية؟ ! السبب لهذا أنه ليس لهم
حكومة إسلامية تطلبه منهم لتكون أحكامها وميزانيتها موافقة لحكم الشرع.
وأضرب لهم مثلاً آخر: ميل بعض المسلمين في مصر والترك إلى التعاليم
الاشتراكية بل قيامهم بتأليف الأحزاب لها والدعوة إليها، وسواء كان ذلك افتتانًا
بتقليد الفرنجة أو شعورًا بما يشعر به الاشتراكيون في أوروبا من تأثير أثرة أرباب
الأموال على العمال وغيرهم من أهل الإملاق- فلو كانت الشريعة الإسلامية نافذة
الأحكام، والهداية التي يتبعها الخواص والعوام، لما شعر بالحاجة إلى التعاليم
الاشتراكية أحد من أهلها، بل لرأى الاشتراكيون من الأمم الأخرى أنه يجب حل
المسألة الاجتماعية بها، ولكان ذلك سببًا لاهتداء كثير منهم إلى الإسلام ودعوتهم
إليه.
وما لي لا أذكر من المثل في هذا المقام دعوة كثير من النساء والرجال في
مثل هذه البلاد إلى تربية المرأة تربية استقلالية تساوي بها الرجل في كل شيء
حتى لا يكون قَيِّمًا عليها في شيء. سبق الإسلام جميع الملل إلى المساواة بين
الرجال والنساء في الشئون الزوجية إلا هذه الدرجة، بقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) وهي الرياسة التي
بيَّنَها في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) فجعل سببها تفضيلهم عليهن بالقوة على
الكسب والحماية والدفاع، وما فرض لهن عليهم من المهر والنفقة.
أفرأيت لو أن أفراد المسلمين وحكامهم أقاموا هذه الشريعة، فساوى الرجال
النساء بأنفسهم في كل شيء ما عدا رياسة المنزل وكذا الرياسة العامة كالإمامة العظمى
وإمامة الصلاة، وكرَّمَوهن كما أوصاهن الرسول صلى الله عليه وسلم أكانت النساء
تشعر بالحاجة إلى إعداد أنفسهن للكسب وغيره من أعمال الرجال الشاقة؟ أم يفضلن
أن يعشن في هناء وراحة يتمتعن من كسب الرجال في ظل كفايتهم، وكفالة الشريعة
التي تنفذها حكومتهم بما لا يتمتع به الرجال أنفسهم؟ فإن المرأة تأكل من كسب الرجل
ما يأكل وهي المدبرة لأمر مأكله، ولكنها تفضله بما تلبس من الحلل وما تتزين به من
الحلي، فإن كان ثم غبن فالرجل هو المغبون.
وجملة القول في هذا المقال: أن ترك العمل والحكم بالشريعة في بعض
المسائل يُفْضِي إلى ترك بعضًا آخر منها أو يفضي إلى جعله متعذرًا؛ إذ يصير مفسدة
بعد أن كان في الأصل عين المصلحة، ثم يؤثر ذلك في أفكار الأمة وأخلاقها
وعاداتها، حتى تنقلب بتغيير عظيم في مقوماتها ومشخصاتها. فالشر والخير
والباطل والحق كل منهما يقوي جنسه ويؤيده، وقد فقدت الأمة الإسلامية ما يصونها
من ذلك التدهور والهويّ، وينصب لها معارج الرقي، ويستنبط لها من الأحكام في
كل زمن ما يليق بحالها، مبنيًّا على قواعد الشريعة الهادية لهم إلى كمالها.
ذلك بأن الاستنباط (الاشتراع) الذي أُذن به لأولي الأمر من المسلمين قد فُقِدَ
بفَقْدِ جماعتهم وزوال الإمامة الحق المنفذة لاستنباطهم، كما علم ذلك من المسائل
3 و4 و5 و17 من هذا البحث، ومن بقي يشتغل بعلم الأحكام الشرعية
الإسلامية فقصارى أمر جمهورهم مدارسة الكتب التي أُلفت للأزمنة الماضية التي
كانت دار الإسلام فيها ذات استقلال ومنعة وبيت مال غني كافٍ لكفالة المعوزين
والغارمين وغير ذلك من النفقات الشرعية - فهؤلاء لا يستطيعون أن يفتوا بما
يخرج عن قواعد مصنفي تلك الكتب لتلك الأزمنة ولحكوماتها، التي كانت تلتزم
العمل بها، بل قرروا فيما وضعوه من الشروط للإفتاء أن يلتزموا فروع كتب معينة
لا يتعدونها؛ لأن تعديها ضرب من الاجتهاد ولو في المذهب، وقد قرروا منعه
كالاجتهاد المطلق.
ومنتهى ما يُرْجَى من توسعتهم على الحكومة التي تريد العمل بأحكام الشريعة
أن يستخرجوا لها بعض الفروع الموافقة للمصلحة العامة في هذا الزمان من كتب
المذاهب المعتمدة. فإن الذين حرموا عليهم الاجتهاد والاستنباط من أصول الشريعة
والاقتباس من مصباحها مباشرة قد أوجبوا عليهم تقليد مذاهب معينة كما قال صاحب
جوهرة التوحيد:
* فواجب تقليد حبر منهم *
يعني الأئمة المشهورين في الفقه. فاعتمدوا هذا التحريم والتحليل ممن ليس
بأهله. وإنما أباحوا تقليد غير الأربعة من المجتهدين للعالِم بذلك في خاصة نفسه،
دون الإفتاء به لغيره، كما قال بعضهم.
وجائز تقليد غير الأربعة
…
في غير إفتاء وفي هذا سعة
مثال هذه التوسعة في أصول المعاملات أن القاعدة عند أكثر الفقهاء
المشهورين أن الأصل في العقود البطلان، فلا يصح منها إلا ما دل الشرع على
صحته، وذهب آخرون إلى أن الأصل فيها الصحة إلا ما دل الكتاب أو السنة على
بطلانه؛ لقوله تعالى في أول سورة المائدة وهي آخر ما نزل من السور: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) والعقود ما يتعاقد الناس عليه، فهذا
المذهب أقوى دليلاً، وأقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً، بما فيه من التوسعة على الناس
وهو الذي رجََّحه المحققون من الحنابلة.
ألم تر أنه لما شاءت الحكومتان العثمانية والمصرية أن تخرجا من مذهب
الحنفية في بعض أحكام النكاح والطلاق وفسخ النكاح في بعض الأحوال وتأخذا فيها
بما تقرر في المذاهب الأخرى - لَبَّاهُمَا شيوخ الفقه ووضعوا لهما قوانين في هذه
الأبواب مقتبسًا بعضها من المذاهب الثلاثة الأخرى؟ ولعلهما لو شاءتا الأخذ في
بعض الأحكام بأقوال غير علماء المذاهب الأربعة من الصحابة والتابعين وأئمة
العترة لما أبوا مُوَاتَاتهما، فإن الجمود على مذهب معين لم يكن إلا تحقيقًا لرغبة
الأمراء والسلاطين، والاسترزاق من الأوقاف التي زمامها بأيديهم، فالذنب فيه
مشترك بينهم وبين الفقهاء الذين رأوا فيه منفعة لهم. وأما الذي لا يجرؤ عليه هؤلاء
المتفقهة فهو الاستنباط من الكتاب والسنة وقواعدهما العامة، ككون الضروريات
تبيح المحظورات، وكون ما حرم لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة. وإن نص
أئمتهم على هذه القواعد؛ لأن هذا عندهم من الاجتهاد الممنوع.
والحق أن العلم الاستقلالي (الاجتهاد) لم ينقطع ولن ينقطع من هذه الأمة
المحمدية، وإلا لبطلت حجة الله على الخلق بفقد حملتها والدعاة إليها والذابين عنها؛
ولِما صح من خبر المعصوم من عدم اجتماعها على ضلالة، ومن أنه لا يزال فيها
طائفة ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله، ولكن هؤلاء العلماء المستقلين كانوا
ينتسبون في كل عصر من أعصار غلبة الجهل إلى المذاهب التي نشأوا عليها قبل
الاجتهاد لسببين: (أحدهما) أنهم لم يكونوا يجدون رزقًا يتمكنون به من الانقطاع
للعلم إلا من الأوقاف المحبوسة على المشتغلين بهذه المذاهب فيضطرون إلى تدريس
كتبها والتصنيف فيها؛ ليحل لهم الأكل مما وقف على أهلها. (وثانيهما) أن
الملوك والحكام وأعوانهم من المقلدين كانوا وما زالوا حربًا للعلم الاجتهادي الذي
يفتضحون به، ويظهر جهلهم وضلالهم بظهوره، فإذا وجدت حكومة إسلامية
جريئة كالحكومة التركية الحاضرة تحيي العلم الاجتهادي - فإنها تجد منذ الآن سدادًا
من عوز لما تحتاج إليه من الأحكام وللتعليم في المدرسة الاجتهادية التي اقترحنا
إنشاءها في المسألة (رقم 26) على أن مقلدة المذاهب لا تكاد تطلب الحكومة منهم
شيئًا إلا وتجد فيهم من يفتيها ولو بالتأويل والخروج عن صحيح المذهب.
إذًا لا يمكن خروج الأمة الإسلامية من جحر الضب الذي دخلت فيه إلا
باجتهاد ووجود المجتهدين وما يلزمه من وجود الإجماع الأصولي الذي هو إحدى
الحجج عند الجمهور، وإن شئت قلت هو ركن الاشتراع الركين الذي لا يمكن أن
ترتقي أمة ولا ينتظم أمر حكومة بدونه كما قلنا في صدر هذه المسألة، بل وجود
الإمامة الحق يتوقف على هذا الاجتهاد كما علم مما تقدم. وأن اجتماع المجتهدين في
هذا العصر ممهد السبيل موطأ الأكناف لإمكان العلم بهم ودعوتهم إلى الاجتماع في
مكان واحد أو عرض المسائل عليهم أينما وجدوا، وهذا لم يكن ممكنًا في عصر
أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومَن بعدهم ولذلك قال بعض المحققين: إن العلم
بالإجماع - إن وُجد - غير ممكن.
* * *
32-
تأثير الإمامة في إصلاح العالم الإسلامي
العالم الإسلامي في غمة من أمر دينه وأحكام شريعته، تتنازعه أهواء حكامه
المختلفي الأديان والمآرب، وآراء علمائه ومرشديه المختلفي المذاهب والمشارب،
ومساورة أعدائه في دينه ودنياه، وليس له مصدر هداية عامة متفق عليه فيرجع
إليه فيما عمي عليه، وكلما ظهر فيه مُصْلِح هَبَّ أهل الأهواء المفسدون يصدون
عنه، ويطعنون في دينه وعلمه، ولا علاج لهذه المفاسد والضلالات إلا إحياء
منصب الإمامة، وإقامة الإمام الحق المستجمع للشروط الشرعية، الذي يقوم مع
أهل الحل والعقد بأعباء الخلافة النبوية، فإنه هو الذي يذعن كل مسلم لوجوب
طاعته فيما يصدر عنه من أمور الإصلاح العامة بقدر الاستطاعة، ويرجح إرشاده
على إرشاد غيره في الأمور الخاصة؛ إذ يكون أجدر ببيانها بالحجة الواضحة، فإذا
لم تكن الإمامة كذلك كان حكم الشرع فيها أنها سلطة تَغَلُّب، ولا تجب طاعة
المتغلب شرعًا ولو فيما وافق الشرع إلا على مَن هو متغلب عليهم، فقد كان
السلطان عبد الحميد يدعي الخلافة؛ ولما لم يكن مستجمعًا لشروطها ولا قائمًا
بواجباتها لم يكن مسلمو الأفغان واليمن ونجد والمغرب الأقصى يؤمنون بصحة
خلافته، ولا يعتقدون وجوب طاعته، فيجعلوا حكوماتهم تابعة لدولته. بل لم يكن
أهل مصر الذين كانوا تحت سيادته السياسية معترفين بخلافته يقبلون أن يكون له
عليهم أمر ولا نهي، وإنما كان اعترافهم أمرًا صوريًّا معنويًّا، يتوكأون عليه في
مقاومة السيطرة البريطانية عليهم، كما هو شأنهم وشأن أمثالهم في الاعتراف
بالخلافة الاسمية الحديثة في الآستانة على ما بيَّنَّاه في موضعه من هذا البحث،
وهذه الخلافة الحديثة لا تبلغ درجة التغلب فإن الذين ابتدعوها لم يجعلوها ذات أمر
ولا نهي في حكومتهم.
وأما إذا نُفِّذَ ما اقترحناه وبينا طريقه من إقامة الإمامة الحق، ولو في بقعة
صغيرة من الأرض، فإن جميع العالم الإسلامي يذعن لها إذعانًا نفسيًّا منشؤه العقيدة
الدينية، ولا تجد حكومة من الحكومات الإسلامية مجالاً للطعن فيها، ولا يكون
لأحد من المصطنَعين للأجانب سبيل لإنكارها، وحينئذ يسعى كل شعب إسلامي
للاعتصام بها، فالشعب الذي لا يستطيع أن يتبع حكومة الإمام الحق لقهر دولة قوية
له يجتهد ويتحرى أن يتبع جماعة المسلمين وإمامهم كما أمره الله ورسوله فيما لا
سيطرة لحكومته عليه فيه من نظام التربية الدينية والتعليم الإسلامي والأحكام
الشخصية، بل قد تضطر كل حكومة مسيطرة على شعب إسلامي أو تستميله بقدر
ما ترى فيه من الوحدة والرأي العالم بموادة خليفة نبيه والسماح له بأن يتلقى
الإرشاد الديني من قِبله كما هو شأن الكاثوليك مع البابا.
ولعل هذا بعض ما يقصد إليه الترك من إيجاد خليفة روحاني كالبابا
والبطاركة عند النصارى، ولكن المسألة دينية شرعية يجب فيها الاتباع، ولا يمكن
أن تنجح بالمواضعة والابتداع، وإن كان يود ذلك الكثيرون ممن يقدمون السياسة
على الدين، وقد جهل هذا بعض الذين أظهروا استحسان عمل الترك، وتجاهله
بعض آخر أو غفل عنه، وظن كل منهم أن هذا كافٍ في حصول ما يرغبون فيه
من نكاية أعداء الإسلام وغيظهم، وشد أزر الشعب التركي ومؤازرته عليهم، وذلك
ظن الجاهلين بشئون العالم وسياسة الدول ودرجة اختبارها، كما نبينه في المسألة
التالية.
لعلنا من أدرى الناس بما يترتب على إقامة الإمامة الحق من الإصلاح في
العالم الإسلامي بما لنا من الاختبار، وكثرة ما يرد علينا من الرسائل والمسائل من
الأقطار، ومن أحدثها سؤال ورد من قطر إسلامي عن أقل ما يكون به الإنسان
الجاهل الأعجمي مسلمًا؛ لأن أهله أجهل وأضل من مسلمي (بنكوك - سيام) الذي
وصف لنا سوء حالهم من سألنا عن صحة إسلامهم ونشرناه في المنار من قبل. وقد
بقي عند كل منهما بقية ممن يدعي العلم يحفظون من مذهب الإمام الشافعي (رضي
الله عنه) أحكامًا اجتهادية يُحتِّمون على الناس العمل بها في صلاة الجمعة وغيرها
فأدى ذلك إلى ترك صلاة الجمعة فترك صلاة الجماعة من بعضهم، بل إلى ترك
الصلاة ممن يعسر عليهم حفظ الفاتحة وتجويدها بإخراج الحروف من مخارجها
وتشديد المشدد منها ولا سيما الياء في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)
فإن تخفيف المشدَّد فيها مبطل للصلاة عند الشافعية.
ومن أحدثها سؤال بعض أهل العلم في جاوه عن حكم ما جروا عليه بأمر
حكامهم المسلمين من إلزام كل من يتزوج بأن يطلق المرأة التي يعقد عليها عقب
العقد طلاقًا معلقًا على التقصير في النفقة عليها أو ضربها أو على الغيبة عنها
وتركها بغير نفقة بالصفة التي يرى القارئ بيانها في باب الفتوى من المنار.
إن كثيرًا من أهل العلم الساعين لإصلاح حال المسلمين في الأقطار المختلفة
يعملون بما ننشر في المنار من الحقائق الدينية بالأدلة التفصيلية، ويسألنا بعضهم
عما يعرض عليه مما لم ير حكمه فيه، ويجد هؤلاء وأمثالهم معارضين في بعض
البلاد من مقلدة بعض المذاهب لما يخالف مذهبهم، ولكنهم لا يعنون بنشر مذاهبهم
وحمل الناس عليها، بل يتركونهم فوضى في أمر دينهم لا يبالون بتركهم للفرائض
ولا باقترافهم لكبائر المعاصي، وإنما يهتمون بمعارضة بعض المسائل التي تخالف
مذهبهم كصلاة الجمعة بما دون أربعين رجلاً حرًّا بالغًا مقيمًا في داخل سور البلد لا
يظعن عنها، وإن أدت هذه المعارضة إلى ترك الجمعة ألبتة، فإذا صار للمسلمين
إمام وجماعة من أهل العلم الاجتهادي والعدالة يستمد منهما دعاة الإصلاح العلم
والإرشاد، فإنه لا يلبث أن يعم ذلك مسلمي جميع البلاد.
وقد سبق لنا أن اقترحنا في المجلد الأول من المنار ضروبًا من الإصلاح على
مقام الخلافة الإسلامية الرسمي - وإن كانت خلافة تغلب - لأن بلادنا كانت خاضعة
لحكمه، ونود أن يقوم بالحق بقدر طاقته، فكان جزاؤنا على مثل هذا الاقتراح منع
المنار أن يدخل البلاد العثمانية، وإيذاء أهلنا وأصدقائنا في الديار السورية.
ولا غرو فذلك الخليفة نفسه كان جاهلاً بأصول الدين وفروعه وبما يصلح به
حال المسلمين ويفسد، وأعوانه جهلاء وأصحاب أهواء، فهم لا يبلغونه أمثال تلك
الاقتراحات، وإذا ذكروها له شوهوها، وجعلوا حقها باطلاً، وصلاحها فسادًا،
وهو يصدقهم، ولا يطمئن لخبر غيرهم، وفاقد الشيء لا يعطيه.
وجملة القول أن الجهل الغالب على أكثر المسلمين والتعصب المذهبي المفرِّق
للكلمة بين المتعلمين للدين منهم - لا يمكن تلافي ضررهما في زمن قصير إلا بإقامة
خلافة النبوة على وجهها الذي لا يسهل على أحد أن يماري فيه مراءً ظاهرًا،
ويكفي أن يعتقد صحتها السواد الأعظم من المسلمين لموافقتها لمذاهبهم وهم
المنتمون إلى مذاهب أهل السنة، والزيدية من الشيعة، والإباضية من بقايا الخوارج،
وهؤلاء إذا كانوا لا يشترطون في الإمام ما يشترطه أهل السنة والزيدية من
النسب فهم لا يشترطون عدمه، وما لنا لا نتحرى فيه المذهب الذي يستلزم غيره
كاستلزام مذهب الزيدية لمذهب السنة والخوارج استلزام الأخص للأعم والمقيد
للمطلق؟
إن هذا لهو القول الحق الذي تقوم به المصلحة الإسلامية العامة وما عداه مما
يقبله أتباع كل ناعق بباعث السياسة الحاضرة فهو غثاء، وسيذهب جفاء، ومنه
يُعلم أن ما قررته حكومة أنقرة باطل في نفسه، ولا يفيد العالم الإسلامي أقل فائدة،
بل قد كان سببًا منذ الآن لشقاق في الشعب التركي الذي يرجح جمهوره الهداية
الإسلامية على نظريات القوانين والتقاليد الإفرنجية، فإن في مجلس الجمعية
الوطنية حزبًا كبيرًا يرى أن المصلحة تقضي بوضع الخليفة في الموضع الذي
وضعته فيه الشريعة بأن يكون هو رئيس الحكومة والمنفذ للأحكام. نعم إن حزب
الغازي مصطفى كمال باشا المُصِرُّ على رفض كل سلطة شخصية في الحكومة
التركية العليا سواء كانت باسم الخلافة أو غيرها - هو صاحب القلب في المجلس
الحاضر، ولكن سبب ذلك تأثير هذا الرجل وحزبه من قواد الجيش في الأنفس مما
لهم من المنة في إنقاذ الدولة من الخطر - لا أن هذا هو رأي الأمة التركية، ولو
استُفتيت الأمة استفتاء حرًّا لخالفت هذا الحزب في هذه المسألة. هذا هو الحق.
وسيعلم العالم الإسلامي أننا قد قمنا بهذا البيان بما أمرنا الله تعالى به من
التواصي بالحق والتواصي بالصبر، بالنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين
وعامتهم، فيرجع إلى رأينا من يخالفه اليوم كما رجعوا إلى رأينا في السلطان عبد
الحميد ثم في جمعية الاتحاد والترقي، والعاقبة للمتقين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: أبو الكلام
وصف ثورة الهند السياسية السلبية
وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية*
(3)
وإنه لتقل أمثلة تلك الجرأة والشهامة والشجاعة التي أبداها طول هذه المدة،
فإنه مازال قبل سجنه يدعو الحكومة إلى القبض عليه بمخالفتها ونبذ طاعتها فما
حذرت عملاً من الأعمال الوطنية إلا وبادر إلى إعادته صائحًا (إن كان هذا العمل
جناية وذنبًا عند الحكومة، فها أنا ذا فاعله، فلتعاقبني!) ولكنها ما زالت تغض
الطرف عنه وتهاب جانبه؛ لأنها تعلم أن الأمة كلها معه، وأن التعدي عليه يزيد
الطين بلة. غير أنها اضطرت أن تسجنه أخيرًا للائحة سنتها وليس في وسعها
سحب قوانينها المعلنة ولا أن تسكت عن نابذيها.
المحاكمة والخطاب
إن خطاب هذا الزعيم سيسجل في تاريخ الحرية والجهاد للأمم، إذ هو آية
عظيمة من آيات الصدع بالحق وتشنيع الباطل وتقبيح الاستبداد، ومَثَلٌ عالٍ للجرأة
والشجاعة والثبات علي الحق كالجبال الراسيات، ولا سيما الأمور الآتية منها،
التي تستحق الاعتبار والتدبر فيها، وهي:
(1)
أن تاريخ الجهاد الوطني في كل البلاد يروي لنا أن الناس كانوا بادئ
ذي بدء يجاهرون بمقاومة القوات المستبدة والحكومات الجائرة بكل جرأة
وشجاعة، حتى إذا أخذتهم الحكومة وأرادت معاقبتهم، يجتهدون في تبرئة أنفسهم،
فإما أن يقولوا عن أعمالهم: إنها كانت قانونية، لاجئين إلى تلك القوانين التي
شهدوا بجَوْرِها، وإما أن يؤولوا أعمالهم بتأويلات تخفف جنايتهم في نظر
المعاقبين، والناس عامة لا يرون في ذلك بأسًا، فيجوزونها قائلين إن هذه سياسة
وخدعة و (الحرب خدعة) فلا بأس أن يحافظ الإنسان على نفسه، ويدفع عنها
شر الأعداء بكل ما أمكن. ولكن صاحب الخطاب سلك مسلكًا آخر، فصرَّح في
خطابه بأنه ليس من الحق والصدق أن ينكر الإنسان أمرًا صحيحًا وحقيقة ظاهرة،
فإن الحكومة كانت o أخذت عليه أنه ينفر الناس عنها ويقول في خطبه: إنها
ظالمة جائرة، ويحرِّضهم على مقاومتها ومحاربتها، فلم ينكر شيئًا من هذا، بل
اعترف به جميعًا بكل جرأة وصراحة، بل قال أكثر مما نسب إليه.
(2)
قال في خطابه: إن النزاع قد قام بين الحق والباطل، وإن الباطل
سيفعل ما كان يفعله أمس بالحق وأصحابه، فيجب على أولئك الذين رفعوا أصواتهم
في حماية الحق مع علمهم بقوة الباطل وشدة شكيمته أن يتحملوا بدون أدنى وجل
ولا اضطراب تلك النتائج التي لا مناص منها في هذه السبيل، وإن كانوا يشكون
ويتململون فليس لهم أن يدخلوا في هذه المعمعة الخطرة.
(3)
قد صرح أمام القضاة بكل ما كان يصرح به أمام الأمة بدون أدنى
خشية ولا وهن، في ساعة كانت حياته بيدهم وكل كلمة من أفواههم كانت كافية
للقضاء عليه، غير أنه لصلابته في إيمانه ورسوخه في التوكل على الله وحده، لم
يبال بهذا الخطر العظيم المحدق به، بل احتقره وآثر الحق على نفسه وحياته!
(4)
إن العبرة الكبيرة التي أُوجِّه نظر المطالعين إليها هي أن الأمة
والجماعة تتأثر من الأسوة العملية أكثر من الخطب والمواعظ، فإنها عندما ترى
أمام أعينها الأمثلة الصادقة للشجاعة والحرية والاستقامة وعدم الخوف، يتجدد فيها
هذا الروح، فعلى زعماء الأمم وأبطالها أن يقدموا أمثلة لإيثارهم وثباتهم كهذا المثل
وإلا فلا طائل تحت بلاغة الخطابة وإعادة الدعاوى والألفاظ.
***
إلى إخواننا
في الشام والعراق ومصر وسائر البلاد الإسلامية
إخواني: إن هذه نبذة يسيرة من تلك المساعي التي تبذلها الهند لصون الخلافة
الإسلامية واستقلال بلادكم الإسلامية والعربية، على معارضة الموانع الآتية:
(1)
إن الهند تبعد عن هاتيكم البلاد بعدًا شاسعًا وتحول بينهما البحار
الزاخرات.
(2)
إن أهل الهند لا يضرهم احتلال هاتيكم البلدان واستعمارها ضررًا
ماديًّا، ولا ينفعهم استقلالها نفعًا شخصيًّا، بل إن مصالحهم المحلية ومقاصدهم
الوطنية تقتضي الإعراض عن غيرهم، والسعي لاستقلالهم أنفسهم.
(3)
إنهم فوق هذا يئنون تحت نير الاستعباد، ويقاسون الشدائد بيد
الاستبداد، وإن الدولة التي تملكهم نفس تلك الدولة التي حاربت بلادكم وتريد
الاستيلاء عليها، فسعيهم ضدها محفوف بالأخطار، ومجلبة للأهوال. بيد أنهم
لمجرد واجبهم الإنساني والشرقي - وأكبر منهما واجب الأخوة الإسلامية وحماية
المظلوم - لم يستطيعوا القرار في راحتهم وبيوتهم، بل اضطروا إلى منازلة أقوى
دول الأرض لأجلكم ولحرية بلادكم!
أفليس في هذا عبرة وموعظة لكم، أهل البلاد الإسلامية والعربية؟ البلاد
التي:
(1)
حريتها واستقلالها وحياتها وشرفها القومي والوطني في معرض
الهلاك.
(2)
لم تكن مستعبدة لأوربا، بل كانت لها حكومة إسلامية شرقية،
ومهما تكن سيئاتها كثيرة، فهي على كل حال كانت حكومة قومية وإسلامية،
وظلمها وغدرها وميلها كان أحسن وأولى من عبودية الأجانب.
(3)
هي نفسها كانت في الحرب فريقًا محاربًا، وكان الشرع والعقل يوجبا
عليها أن تغض النظر عن مصائبها الداخلية وتحارب العدو الخارجي وتدفع شره،
ولكنها ماذا فعلت؟
إن التاريخ سيقص قصتها بكل خجل وحياء!! فإنها لم تكتف بالقعود عن أداء
فرضها الديني والوطني والإنساني، بل واسوأتاه! كثير من أبنائها انضموا إلى
العدو، فساعدوه علي مطامعه وكانوا سببًا لانكسار آخر الدول الإسلامية وانقراضها،
حتى إن رجلاً قرشيًّا هاشميًّا قاد جيوش الحلفاء إلى (بيت المقدس) فنزعه من
إخوان دينه وسلمه إلى أعدائه!
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
…
إن كان في قلب إسلام وإيمان!
أفلم يأت إلى الآن وقت قمع المطامع الشخصية والأهواء الباطلة؟ أفليس هذا
أوان الرجوع إلى الله، ورتق ما فتق، وسد ثُلْمَة الإسلام، واتحاد الكلمة، والذود
عن البلاد الإسلامية والعربية؟ أفلم يأن للمسلمين أن يعودوا إلى رشدهم، ويصلحوا
ما أفسدته أيديهم؟ {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ
وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126)
إن مسلمي الهند ليسوا بمجانين حتى يرغبوا في أن يكون أهل بلاد العرب
والشام عبيدًا للأتراك، ولكن ليس معنى التحرير من ربقة الترك، العبودية
لبريطانية وفرنسة باسم الوِصَاية أو الحماية، فيجب على إخواننا أن يغنموا هذه
الحقيقة.
إنه لا يمكن لأمة أن تصون حريتها ما لم تكن وراءها قوة عسكرية، والأتراك
مهما تكن سيئاتهم وذنوبهم، فالحقيقة التاريخية أن قوتهم العسكرية هي التي حافظت
إلى الآن على الأجزاء الباقية من البلاد الإسلامية وردت عنها كيد الأعداء، وإن
العراق والشام إن نالتا اليوم الحرية التامة، لا تستطيعان المحافظة عليها لفقدان قوة
عسكرية منظمة منهما، فإذًا لا مناص لهما ولغيرهما من البلدان الإسلامية من أن
تتحد وتتفق وترتبط بقوة مركزية، مع حفظ حريتها المحلية واستقلالها الداخلي،
وإلا فلا نجاة لها من الحلفاء.
إن الحرية الوطنية إنما تصونها وتضمنها القوة، لا الوعود والعهود
والمعاهدات والمؤتمرات، فإن الغرب لا يبالي بشيء منها بل إنما يهاب القوة،
والقوة وحدها تجعله يحترمها - فعلى أهل البلاد الإسلامية أن يتحدوا ويتعاونوا
ويتناصروا ويرتبطوا بالقوة المركزية الإسلامية، ثم ليعملوا لطرد الأعداء من
أوطانهم - إن أحبوا - بلائحة (اللاتعاون السلمي) الهندية بعد أن يجعلوها ملائمة
لحالتهم الاجتماعية والسياسية [1] .
***
مجلة المنار الغراء
خصصتُ مجلة (المنار) الغراء بنشر هذا الخطاب؛ لأنها الخليقة بمثله
لأياديها البيضاء في الإصلاح الديني وقَدَحِها المُعَلَّى في النهضة الإسلامية الحديثة،
فإنها لا تزال تجاهد جهادًا عظيمًا منذ ربع قرن لإحياء المسلمين، وتقاوم الاستبداد
والقهر والجمود والتقليد من زمن بعيد، بل إنها أول صوت ارتفع على بعد أجيال
كثيرة لإعلاء كلمة الحق، وأعظم منار رفع للهداية إلى الصراط السوي، فإنها هي
التي قد مزقت ظلمات التقليد التي كانت محيطة بالمسلمين، وبصرتهم سبيل الإسلام
ودين الحق التي كانت عميت عليهم، ولم يكن هديها محصورًا في البلاد العربية،
بل شمل العالم الإسلامي كله، فإنه كثيرًا ما استفاد منها وتنور بأفكارها، وإن
صاحب هذا الخطاب - الذي وضعنا له هذه المقدمة - لا يزال يعترف لها ويعدها
أصح دعوة إصلاحية ظهرت بين المسلمين في القرون الأخيرة. اهـ
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (عبد الرزاق)
_________
(*) تابع لما في الجزء الأول.
(1)
إن ما ذكره الكاتب في هذه المسألة مبني على النظريات العامة المجملة التي يهتم بها كل مسلم بقدر غيرته الإسلامية ويتمنى ما يقترحه مسلمو الهند من توحيد القوة الإسلامية بقدر رسوخ التوحيد بالله في قلبه، ولكن بين النظريات والعمل عقبات لا عقبة واحدة، أهمها: أن المانع من اتحاد العرب مع الترك مشترك بين الفريقين، والعرب أقرب إلى الترك منهم إليهم، مع أن المجاورين لهم منهم ليس أمرهم في أيديهم، وأن سبب هذه العقبات كلها وعلة عللها العصبية الجنسية التي استحدثها الترك لجعل السلطة التشريعية والتنفيذية تركية لا إسلامية، ويعبرون عنها (بالحاكمية الملية) ويعنون بالملية النسبة إلى ملة الترك ويشترطون أن تكون لغة التابع لدولتهم هي التركية دون سواها، وكان من أصول برنامجهم إسقاط دولة آل عثمان وإزالة سلطة الخلافة من الدولة لتحقيق الحاكمية الملية التركية وقد فعلوا عندما تمهدت السبيل فالعرب لا يأبون الاتحاد بالترك عند الإمكان على قواعد الشريعة الإسلامية العربية مع محافظة العرب على لغة الشريعة والقرآن وحرية الترك في لغتهم، فعلى إخواننا الهنود وغيرهم من أهل الغيرة أن يضعوا لهذه الوحدة النظام الذي نساعدهم عليه بمقالنا الحافل في الخلافة الإسلامية ونحن نعتقد أن السواد الأعظم من العرب يوافقون عليه ويسبقون الترك إلى تنفيذه بالرغم من دسائس الأجانب وأعوانهم من الحجازيين.
الكاتب: شكيب أرسلان
انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى
طرفة تاريخية من قلم الأمير شكيب أرسلان الشهير
(2)
أما المؤرخ (يود براند) الذي نقل عنه (فرديناند كار) الألماني فقد جاءت
رواياته مطابقة لروايات المسيو رينو، وقد وصف خوارق شجاعة تلك الشرذمة
العربية وما بلغوه من الفتح والاستيلاء والتبسط في البلاد وكيف كانوا يجوبونها
طولاً وعرضًا ويوقعون بكل من ناوأهم أو وقف في وجههم وينهبون الأديار
والكنائس وقصور الأمراء. ومن رأيه أن هؤلاء الغزاة من العرب لم يكن غرضهم
في تلك النواحي التوسع في الملك ولا استعباد الأهالي بل الاجتهاد في جمع الذهب
والنفائس ووضعها في حصن (فراكسينه) حتى إذا ضاق بهم الأمر أو أدبر بهم
طالع الحرب خلصوا بها إلى سفنهم التي كانت دائمًا راسية في مرفأ (سان تروبس)
وقصدوا أسبانية. ومن رأيه ورأي غيره أن الخليفة في أسبانية لم يكن عنده علم
بغزو هؤلاء الصعاليك ولا بما اعتزموه من الاستيلاء على جبال الألب والإيغال في
إيطالية وسويسرة وأنها غزاة قام بها هؤلاء الذؤبان من أنفسهم.
ثم إنه يوجد في دير (نوفالس) تحت جبل (سنيس) .
تاريخ جولة هؤلاء العرب في سنة 906 ويقال: إنه قبل هذه السنة انصبت
بلايا ورزايا على مقاطعات (بور غوند) و (سميلكة) وجبال الألب الإيطالية لأن
العرب المذكورين تسلقوا جبل (سنيس) وانفتحت أمامهم (سافواي) وسويسرة
وكان دير (نوفالس) من أغنى الأديار وأعظمها، فلما سمع الرهبان بقدوم العرب
جمعوا كل ما عندهم من الأموال والنفائس والكتب وحملوها إلى (تورينو) لتكون
في حرز حريز، فقبل أن ساروا بها وصل العرب واستولوا عليها واقتحموا الدير
ووضعوا النار في الكنيسة وأسروا بعض الرهابين. قال: وفي تلك الآونة كانت
جميع البلاد الممتدة من نهر (البو) PO إلى الرون RHONE (والبروفانس)
Pruvence و (البيامون) Piemont و (الدوفينه) Rdaufhine
(ومونتفرات) Montgerra و (ترانتازه) Tarntaisa مجالاً لغارات العرب
ومشهدًا الوقائع غزوهم واجتياحهم.
وكان الأشراف والأساقفة إذا أرادوا المرور من هناك إلى رومية مضطرين أن
يؤدوا فدية عن أنفسهم بأشياء ذات قيمة من ذخائر الأديار.
وزعم هذا المؤرخ أن العرب لم يقتصروا على نهب المال الصامت والصائت
بل تجاوزوه إلى سبي الأهالي رجالاً ونساء واسترقاقهم (كما كان الإفرنج أنفسهم
يفعلون مع العرب) وكان إذا قتل أحد الأهالي واحدًا من العرب أفحشوا الانتقام من
قوم القاتل وأضرموا النار في جميع البلد (على طريقة الدول المتمدنة...... اليوم
برمي القنابر من الطيارات على القرى وقتل أي من صادفت فيها من رجال ونساء
وأطفال عقابًا لمقاوم من أهالي تلك القرى أو عابر سبيل فيها، هذا لعمرك نظير
ذاك حذو القذة بالقذة إلا أن عمل أولئك الصعاليك من العرب وهو أصغر يسمونه
عيثًا وتخريبًا وعمل الدول المتمدنة هذه.... مع كونه أفظع وأكبر يسمونه
إصلاحًا وتمدينًا
…
) .
وكان السكان يهيمون زرافات ووحدانًا ويأوون إلى الكهوف والغابات
ويعتصمون بالجبال لأجل النجاة بأرواحهم من عادية العرب وطالما سعى أناس في
جمع كلمة الملوك والأمراء على قتال هؤلاء ففشلت مساعيهم بما كان من اختلاف
الكلمة. بل كنت ترى أحيانًا بعض الرؤساء يستظهرون بالعرب على أبناء جلدتهم.
أخبر فلود وارد Floduord في تاريخه أن العرب سنة 921 قتلوا قافلة من
الإنكليز كانوا حاجين إلى رومة بإلقاء الصخور عليهم من أعالي الجبال، وبعد
سنتين من ذلك التاريخ أهلكوا قافلة أخرى في جبال الألب، وفي سنة 929 اضطر
الحج إلى الرجوع أدراجه. قالوا: ولا يعلمون تمامًا في أي مضايق الألب وقعت
هذه الحوادث، هل في ممار الألب بين سويسرة وإيطالية أو في مماره بين فرنسة
وإيطالية؟ ولكن يرجح أن الإنكليز الذين كانوا يحجون رومة كانوا يختارون ممر
سان برنار ، ثم لم يتفق المؤرخون على تعيين الزمن الذي وقعت فيه سان برنار في
قبضة العرب، وإنما محقق وجود هذا الحادث في القرن العاشر، ويرجح بعضهم
أنه في نحو سنة 940 تسلق العرب سان برنار من جهة وادي الرون حيث يوجد
هناك في كهف عظيم دير (أغونوم) Ogaunaum المؤسس على اسم القديس
موريسيوس. ففي ذلك العالم سطا العرب على ذلك الدير ونهبو ما فيه من الأمتعة
والذخائر وأحرقوه فجاء القديس ألريك أسقف أوغسبرغ عن طريق (بيورغوند)
لأخذ عظام الشهداء ونقلها إلى أوغسبرج فلم يجد شيئًا، وذكر (فلو داورد) أن جماعة
من حجاج الإنكليز والفرنسيين كانوا قاصدين رومة سنة 940 فصادفوا العرب
فرجعوا بعد أن فقدوا كثيرًا من رفاقهم. وأن راهبًا اسمه رودلف من رهبان سان
موريتز وجّه خطابًا إلى الملك لودفيك الرابع يذكره فيه بالأعمال العظيمة التي قام بها
سلاطين جرمانية في المحافظة على هذه الجهات ويستعديه على العرب ويستمده
لإماطة معرتهم وترميم ما خربوه من قبور القديسين.
وبعد أن غزا العرب نواحي بحيرة جنيف ظهروا في مضايق جبال الألب
الشرقية وملكوها ويقول (فلود وارد) أنهم غزوا ألمانيا وقطعوا الطرق على حجاج
الألمان واجتاحوا وادي الرين ونواحي شور وأن الوثائق التي تثبت وصول العرب
إلى وادي الرين تنبئ بأن الدوق الألماني هرمان المسمى كونت شورفالسن
Chuvallechen Grafuon التمس من عاهل ألمانيا يومئذ عام 940 أن يعوض
أسقف شور مما نهبه العرب من ديار أسقفيته فأهدى القيصر ذلك الأسقف كنيستين
هما كنيسة بلوندنز وكنيسة سان مارتين على شرط أنه بعد وفاة الأسقف يعود ريع
أوقاف الأولى على أساقفة شور وريع الثانية على دير الراهبات في رازيس.
وإن مما يحير العقول كيف اقتحمت عصابة قليلة من صعاليك العرب الأخطار
وصعدت تلك الجبال - جبال الألب - وعبرت شاطئ بحيرة لانغ وكومر إلى أن
ظهرت على حدود ألمانية؟ فقد ثبت أنهم مع قلة عددهم كانوا أوتوا جرأة خارقة
للعادة، وكان الخوف منهم قد تمكن من القلوب جميعها، ولقد تحقق كونهم جاسوا
خلال أودية منابع الرين وجهات الشور وكانت مغاور الجبال مكامن لهم وكانوا
يقعدون للمسافرين بالمراصد من المهاوي العميقة ويتخذون لأنفسهم أبراجًا يعتصمون
بها في الشدائد.
ثم ورد في تاريخ كلر خبر قيام هوغ صاحب بروفانس لحرب العرب
المذكورين وعزمه على فتح حصنهم في فراكسينة وذلك أنه بعد عقد الصلح مع
ألبريكوس خصمه الذي كان ينازعه على مملكة لومباردية استنجد ملك الروم
بالقسطنطينية ليبعث له بالأسطول فبعث به وأحرق مراكب العرب في خليج سان
تروييس بينما كان هوغ يهاجم حصونهم في جبل فراكسينة وكان مقصد (هوغ) أن
يمحو وجود تلك الديار ويخلص من شرهم ولكن فاجأه ما لم يكن في حسبانه وهو أن
بيرانجر Perengar المطالب بعرش لومباردية ثار على هوغ وجاذبه الحبل
فغضب هوغ وأصر على قهره وأخذه أسيرًا وقتله أو سمل عينه ففر (بيرانجر)
من لومباردية إلى (هرمان) أمير (شفابن) فأجاره وقدمه إلى (أوتو) قيصر
ألمانية فأكرم هذا مثواه ووعده خيرًا، فلما علم (هوغ) بذلك سقط في يده وأرسل
إلى القيصر بالألطاف والهدايا ليصرفه عن مساعدة (بيرانجر) ثم صالح العرب
وسرح الأسطول اليوناني وأطلق للعرب حريتهم وأمنهم بشرط أن يجعلوا سكناهم
في الجبال الفاصلة بين إيطاليا (وشفابن Chavvaben) وأن يحجزوا بين
عساكر (بيرانجر) وجبال الألب. وظاهر جلي أن العرب نالوا بهذه المعاهدة حق
احتلال جميع معابر الألب وشعابها وجلاء نفس (هوغ) عن بقعتهم أو منطقة
احتلالهم، ولكن هذا غير صريح. وقد اتخذ العرب هذه المعاهدة سلاحًا وانتفعوا بها
أعظم الانتفاع وقاموا بتنفيذها بتمامها حتى أن بيرانجر في عودته إلى إيطالية لم
يجرؤ أن يمر بجبال الألب بل جاء من طريق جبال التيرول فتعرض من جراء
جبنه هذه إلى هجاء الشاعر المؤرخ (يود براند) الذي كان في عصره.
ومنذ عقد العرب هذا الوفاق شعروا أنهم أصبحوا السادة المالكين لمعابر الألب
وضربوا رسومًا على القوافل المارة، فكل من لم يؤد لهم الرسم أوثقوه أسيرًا إلى أن
يدفع.
ثم امتد غزو العرب إلى نواحي (سار غاز Sargans) وتورغنبورغ
Toggenburg وأبنزل، وقد ذكر ذلك مؤرخ اسمه إيكيهارد في كتاب وجد في
دير القديس غالن، فقال:
إن طبيعة العرب وطور معيشتهم البرية كانا مما جعل التغلب عليهم في غاية
الصعوبة، ولقد تمادت جرأتهم إلى أيام فالتا Valta وبينما كان الأهالي يومئذٍ
محتفلين بعيد ديني رافعين الصلبان طائفين بها إذ أقبل العرب من جهة بارينيغ
Parenegg ورموا الجماهير بالمقاليع، ولكن الشهم الهمام فالتا لم يترك هذا
الجرم بدون جزاء بل جمع جموعه، ودهم قطاع الطرق بجيشه المكون من العبيد
والعملة وغيرهم وكلهم مسلحون بالحراب والمناجل والفؤوس وقد كبس على العرب
بياتًا وهم نائمون فقتل بعضًا وأسر بعضًا، وفر الباقون إلى الجبال لا يلوون على
شيء وسيق الأسرى إلى الدير فأبوا أن يأكلوا ويشربوا حتى ماتوا جوعًا (إذًا ليس
الإيرلانديون هم الذين اخترعوا هذا النوع من الانتحار) [1] ولم تعرف مدة إقامة
العرب بشرقي سويسرا إلا أنه ثبت كونهم وجدوا هناك في القرن العاشر، وفي سنة
954 التي انكسر فيها العرب في دير القديس (غالن) هذا انكسر لهم جيش آخر
في حرب (المجار) وذلك بفضل شجاعة الملك (كونرادفون بورغوند) فإنه استأصل
منهم طائفة عظيمة لكنهم بقوا قابضين على معابر الألب الغربية.
قال المؤرخ إيكيهارد من رهبان دير القديس غالن: إن العرب تمكنوا تمامًا
في داخل جنوبي أوروبا، وكان من جملة الخطط التي رسموها لأنفسهم أن يتزوجوا
من بنات أهل البلاد وأن يتوطنوا بها على شرط أن لا يؤدوا مالاً كثيرًا لملك القطر
الذي يكونون فيه، وأما الوادي الذي انتجعوه لتأسيس هذه المستعمرة العربية التي
قصدوا أن يتعاطوا فيها الفلاحة ويستقروا هادئين، فلا يُعلم هل هو وادي فاليس
Vallis أو وادي فال من سافوا أم غيرهما.
وسنة 954 كانت سنة نحس على سويسرا الشرقية؛ لأن (المجار) من جهة
الشمال، والعرب من الجنوب كانوا قد اكتسحوا البلاد.
وفي 22 يوليو 973 كان القديس (ماجلوس) من (كلوني) عائدًا من (بافيا)
إلى (بورغوند) ومعه قافلة عظيمة؛ لأن الناس الذين كانوا يريدون العبور ظنوا
أن التحاقهم به قد يحميهم من غارة العرب فوصلوا إلى قرية في جبل سان برنار
وإذا العرب انقضوا عليهم وأوثقوهم ولم ينج القديس نفسه من الوثاق بل صفدوه
بالحديد ثم أحضروا له طعامًا على عادة العرب لحمًا وخبزًا يابسًا فأبى أن يطعم شيئًا،
وقال لهم: إنني لم أتعود أكل هذا الخبز، فقام أحدهم وغسل يديه وعجن دقيقًا
وخبزه وقدمه للقديس بكل احترام، فرضي هذا من عمله وصلى وأكل.
ومما يروي أولئك المؤرخون أيضًا أن أحد العرب أراد أن يقطع غصن شجرة
ليتخذ منه محجنًا فلما أراد أن يتطاول إلى الشجرة كان تحتها إنجيل شريف من
أمتعة القافلة فأراد أن يدوس عليه فانتهره أصحابه وصاحوا به: ويل لك كيف تطأ
برجلك كتاب نبي مقدس؟ وذلك أن العرب يحترمون الأنبياء ويقولون: إن محمدًا
صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي وعد بمجيئه المسيح صلى الله عليه وسلم.
هذا وقد أذن العرب للقديس ماجلوس أن يكتب إلى بلدته كلوني بطلب فدية
يفك بها نفسه ورفاقه، فلما ورد الصريخ قامت قيامتهم وأضجوا وأعولوا، وعلا
نحيبهم فجمعوا وعفَّشوا (جمعوا ومنه قول العامة العفش للأمتعة) من ذخائر الأديار
والكنائس كل ما قدروا وأرسلوا به لفداء القديس ورفاقه فبلغ مجموع الفدية ألف رطل
من الفضة أصاب كل واحد من العرب رطلاً. إلا أن هذه الحادثة هاجت عليهم البلدان
بأسرها وصمم الأكثرون على التخلص من معرتهم واشتهر في ذلك زعيم اسمه
(بربو) من أهل (سيسترون Sistron) فتألب الأهالي عليهم بزعامة هذا الرجل
وأجلوهم عن تلك الناحية إلى (دوفينه Daufhine) ومنها إلى بروفانس وهناك
غزاهم غليوم أحد أمراء بروفانس بجيش كبير إلى مقرهم الأصلي فراكسينه، وبعد
حصار شديد افتتح الحصن عنوة، وفر العرب منه لائذين بالحراج والجبال فمنهم من
وقع في اليد فقتل، ومنهم من تنصر لينجو برقبته وتقاسم جيش بروفانس أسلابهم،
وهكذا انتهت من هناك دولتهم وشالت نعامتهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
…
... (له تتمة في آثار العرب بسويسرا)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار هؤلاء مسبوقون أيضًا كما في أخبار سنة 293 من كتاب تجارب الأمم.
الكاتب: أنطون زكري
أقدم كتاب في العالم
أثر مصري
منذ 5500 سنة
نشر أولاً في جريدة الأهرام.
عثر أحد الفلاحين على أوراق بردية وهو يحفر مقبرة بناحية ذراع أبي النجا
بطيبة فباعها للعالم الأثري الفرنسي دافين الذي أذاعها سنة 1847 ثم قدمها هدية
لدار الكتب الأهلية بباريس، ولذلك اشتهرت بورقة باريس البردية، وهي أقدم كتاب
في العالم؛ لأنها كتبت منذ 5500 سنة، وقد كانت كتب الأولين كلها من هذا النوع،
وهي تشتمل على 18 صحيفة مكتوبة بالخط الهراطيقي بالحبر الأحمر والأسود
متضمنة نصائح ومواعظ وحكم وضعها رجلان: الأول يدعى (قاقمنه) وهو وزير
الملك (حوني) من الأسرة الثالثة والثاني يدعى (فتاح حتب) وهو وزير الملك
(آسي) من الأسرة الخامسة، كتبها وله من العمر 110 سنوات اقتبسها من السلف،
وجعلها موعظة للخلف، ولذا قال لابنه: إذا سمعت هذه الحكم السامية عمرت طويلاً،
وبلغت أوج الكمال، وتدرجت إلى معالي العلا والمجد.
ثم اعتنى بترجمتها من اللغة المصرية القديمة إلى الفرنسية العالمان (شاباس
دفيري) وباللاتنية العالم (لوث) وبالألمانية العلامة (بروكش باشا) وبالإنكليزية
الأثري المستر (جن) ومن هؤلاء نقلتها إلى العربية.
وقد وجدت هذه النصائح مكرَّرة وغير مرتبة فلخصتها واقتصرت فيها على
فرائد الفوائد.
ولأهمية هذه النصائح الدَّرية اعتنى بها الإنكليز اعتناء عظيمًا حتى قرروها
في برنامج الدراسة للأطفال فأكسبتهم المبادئ الشريفة التي أشربتها قلوبهم في
الصغر فسادوا العالم وقادوا الأمم وذلك بفضل اتباعهم مناهج أجدادنا العظام التي
دونوها لنا، وكنزوها لأجلنا، فكان نفعها لغيرنا، ويا حبذا لو اهتدينا إليها واقتدينا
بها فنحن أحق بها.
نصائح قا قمنا
الحكيم المصري القديم
(1)
اسلك طريق الاستقامة لئلا ينزل عليك غضب الله.
(2)
احذر أن تكون عنيدًا في الخصام فتستوجب عقاب الله.
(3)
الابن الذي ينكر الجميل يُحزن والديه.
(4)
متى كان الإنسان خبيرًا بأحوال الدنيا سهل عليه قيادة ذريته.
(5)
إن قليل الأدب لبليد ومذموم.
(6)
إذا دعيت إلى وليمة وقدم لك من أطايب الطعام الذي تشتهيه فلا تبادر
إلى تناوله؛ لئلا يعتبرك الناس شَرِهًا، واعلم أن جرعة ماء تروي الظمأ ولقمة
خبز تغذي الجسم.
(7)
احفظ هذه النصائح واعمل بها تكن سعيدا ًومحمودًا بين الناس.
***
أمثال فتاح حتب
الحكيم المصري القديم
(1)
إن التعرف بأعاظم الناس نفحة من نفحات الله.
(2)
لا توقع الفزع في قلوب البشر؛ لئلا يضربك الرب بعصا انتقامه.
(3)
إذا شئت أن تعيش من مال الظلم أو تغتني منه، نزع الرب نعمته منك
وجعلك فقيرًا.
(4)
إن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء؛ لأن بيده مقاليد الأمور، فمن العبث
التعرض لإرادته تعالى.
(5)
إذا كنت عاقلاً فربِّ ابنك حسبما يرضي الله تعالى، وإذا شب على مثالك
وجدَّ في عمله فأحسِن معاملته واعتنِ به، أما إذا طاش وساء سلوكه فهذب أخلاقه
وأبعده عن الأشرار؛ لئلا يستخف بأمرك.
(6)
إن تدبير الخلق بيد الله الذي يحب خلقه.
(7)
إذا نلت الرفعة بعد الضعة وحزت الثروة بعد الفاقة فلا تدخر الأموال
بمنع الحقوق عن أهلها؛ فإنك أمين على نعم الله والأمين يؤدي أمانته، واعلم أن
جميع ما وصل إليك سينتقل منك إلى غيرك ولا يبقى فيه لك إلا الذكر.
(8)
ما أعظم الإنسان الذي يهتدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.
(9)
من خالف الشرائع والقوانين نال شر الجزاء.
(10)
لا ينجو الأثيم من النار في الحياة الآخرة.
(11)
ألا إن حدود العدالة لثابتة وغير قابلة للتغيير.
(12)
إذا دعاك كبير إلى الطعام فاقبل ما يقدمه لك ولا تطل نظرك إليه
ولا تبادره بالحديث قبل أن يسألك لأنك تجهل ما يخالف مشربه؛ بل تكلم عندما
يسألك فحينئذٍ يعجبه كلامك.
(13)
إذا كلفك كبير حاجة فأنجزها له حسب رغبته.
(14)
إذا تعرفت برجل رفيع المقام فلا تتعاظم عليه بل احترمه لمركزه.
(15)
إذا جلست في مجلس رئيسك فعليك بالكمال والصمت ولا تتفوق في
الكلام؛ لئلا يعارضك من هو أكبر منك نفوذًا وأكثر منك خبرة، واعلم أن
من الجهل أن تتكلم في مواضيع شتى في آن واحد.
(16)
لا تَعُق كبيرًا عن عمله متى رأيته مشغولاً؛ فإنه عدو لمن يعوق أعماله.
(17)
لا تخن من ائتمنك تزدد شرفًا ويعمر بيتك.
(18)
من الحمق أن يتشاجر المرءوس مع رئيسه؛ فإن الإنسان لا يعيش
عيشة راضية إلا إذا كان مهذبًا لطيفًا ظريفًا.
(19)
إذا دخلت بيت غيرك فاحذر من الميل إلى نسائه، فكم أناس تهافتوا
على هذه اللذة القصيرة التي تمر كالحلم فأودت بهم إلى المخاطر والمهالك. واعلم
أن بيت الزاني للخراب، والزاني نفسه فاقد الرشد وهالك وممقوت عند الله
والناس، ومخالف للشرائع والنواميس [1] .
(20)
إذا كنت عاقلاً فدَبِّر منزلك وأحب زوجتك التي هي شريكتك في حياتك،
وقم لها بالمؤونة لتحسن لك المعونة وأحضر لها الطيب، وأدخل عليها السرور،
ولا تكن شديدًا معها إذ باللين تملك قلبها وقم بمطالبها الحق (أو بالمعروف) ليدوم
معها صفاؤك ويستمر هناؤك.
(21)
لا تعجب بعلمك؛ لأن العلم بحر لا يصل إلى آخره متبحرٌ مهما
خاض فيه وسبح، واعلم أن الحكمة أغلى من الزمرد لأن الزمرد تجده الفَعَلَة في
الصخور بخلاف الحكمة فإنها نادرة الوجود.
(22)
لا تترك التحلي بحلية العلم ودماثة الأخلاق.
(23)
إذا كنت زعيم قوم فنفذ سلطتك المخولة لك، وكن كاملاً في جميع
أعمالك ليذكرك الخلف. ولا تسرف في المواهب والنعم التي تقود إلى الكبرياء
وتؤدي إلى الكسل.
(24)
إذا كنت قاضيًا فكن لين الجانب مع المتقاضين ولا تجعل أحدهم
يتردد في كلامه ولا تنهره ودعه يتكلم بحرية لكي يعبر عن مظلمته بصراحة؛ وإذا
لم تنصفه يكون سببًا لسوء سمعتك، فحسن الإصغاء أفضل طريقة لكشف الحقيقة.
(25)
ليكن أمرك ونهيك لحسن الإدارة، لا لإظهار الرياسة والإمارة.
(26)
لا تستبد لئلا تضل.
(27)
لا تكن يابسًا فتكسر ولا لينًا فتعصر.
(28)
إذا شئت أن تطاع، فسل ما يُسْتَطَاع.
(29)
إذا حكمت بين الناس فاسلك طريق العدل ولا تتحيز لفريق دون
آخر وإلا نسبوك للجور والعسف.
(30)
إذا عفوت عمن أساء إليك فاجتنبه واجعله ينسى إساءته إليك حتى
لا يذكرها مرة ثانية.
(31)
بقدر الكد تُكتسَب الثروة فمن جَدَّ في طلبها أنجح الله مسعاه.
(32)
اجتهد دائمًا في عملك ولا تترك فرصة اليوم للغد، فمن جد وجد.
(33)
إذا كنت منتظمًا في حياتك صرت غنيًّا وحسنت سمعتك، وتحسنت
صحتك، وطار صيتك، وملكت حاجتك، أما الذي ينقاد لشهواته فإنه يصير
ذميمًا سمجًا وعدوًّا لنفسه.
(34)
إذا وقفت أمام الحاكم فاخفض جناحك واحن رأسك ولا تعارضه
وجاوبه بوداعة لينجذب قلبه إليك.
(35)
إذا فاه أخوك بالشر فازجره لتكون خيرًا منه.
(36)
اصغ لكلام غيرك فإن السكوت من ذهب.
(37)
لا تحتقر فقيرًا، وإذا زارك فلا تتركه سدى لئلا تخذله، ولا
تغضبه ولا تحتقر رأيه فإن هذا ليس من شيم الكرام.
(38)
احذر من تحريف الحقيقة بين الناس؛ لئلا تزرع الشقاق بينهم.
(39)
لا تخبر أحدًا بما صرَّح به لك غيرك لئلا يبغضك الناس.
(40)
من ساءت سيرته ضل الصراط المستقيم.
(41)
إذا كنت في مجتمع فاسلك دائمًا حسب قوانينه.
(42)
إذا عاشرت قومًا فاجذب قلوبهم إليك.
(43)
ليكن كلامك دائمًا سديدًا مفيدًا.
(44)
إياك والطمع فإنه داء دفين لا دواء له، والمتصف به قليل الحظ
لأن الطمع مجلبة الشحناء والشقاق بين الأهل والأقارب وهو سبب كل الشرور
والرذائل. أما القناعة فهي أساس النجاح والفلاح ومصدر الخير والبر.
(45)
لا تُفرط في الكلام ولا تُصغِ إلى البذاءة؛ لأنها صادرة عن التهيج
والغيظ، وإذا أسرف أحد أمامك في الكلام فأطرق رأسك إلى الأرض لترشده بذلك
إلى طريق الحكمة.
(46)
من يلقي بنفسه في متاعب الدنيا ويستغرق فيها كل أوقاته لا يجد لذة
في حياته.
(47)
من يعكف طول نهاره على شهواته ضاعت مصالح بيته.
(48)
إذا شئت أن تعرف طباع صديقك فلا تسأل عنه أحد بل استنتج
ذلك بانفرادك معه في المحادثة المرة بعد المرة، ولا تغضبه، ومتى أخبرك عن
أصل ماضيه عرفت جميع أخلاقه، وإذا فاتحك الحديث فسايره ولا تدعه يحترس
في حديثه، وإياك أن تقاطعه في الحديث أو تزدريه، وبهذا يمكنك أن تستطلع
جميع أحواله.
(49)
كن بشوشًا ما دمت حيًّا.
(50)
من زرع الشقاق بين الناس عاش حزينًا لا يصحبه أحد.
(51)
من طابت سريرته، حمدت سيرته.
(52)
متى كبر الإنسان في السن عادت إليه حالة صغره؛ فيعمش بصره [2]
وينقص سمعه ويصمت فمه ويسخف كلامه ويظلم عقله وتضعف ذاكرته وتخور
قواه وتقف حركة قلبه وترق عظامه ويهزل جسمه ويفقد ذوقه وشمه، حقًّا إن
الشيخوخة آفة الإنسانية.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
أنطون زكري
…
...
…
...
…
...
…
... بالمتحف المصري
_________
(1)
هذا موافق لقوله تعالى: [وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً](الإسراء: 32) .
(2)
العمش: توصف به العين، ومعناه كثرة تحلل الدمع منها، ويلزمه ضعف البصر الذي هو العشى، ويقال عشي الرجل (كرضي) وعمشت عينه فهو أعمش أعشى.
الكاتب: أحمد بن تيمية
أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء
وأصنافهم والدعاوى فيهم
لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية قدس سره
بسم الله الرحمن الرحيم
(مسألة) ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم في أهل
الصفة كم كانوا؟ وهل كانوا بمكة أو بالمدينة؟ وأين موضعهم الذي كانوا يقيمون به؟
وهل كانوا مقيمين بأجمعهم لا يخرجون إلا خروج حاجة، أو كان منهم من يقعد
بالصفة، ومنهم من يتسبب في القوت؟ وما كان تسببهم: هل يعملون بأبدانهم أم
يشحذون بالزنبيل؟
وما قول العلماء - وفقهم الله تعالى - فيمن يعتقد أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين
مع المشركين؟ وفيمن يعتقد أن أهل الصفة أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان
وعلي رضي الله عنهم، ومن الستة الباقين من العشرة، وأفضل من جميع الصحابة؟
وهل كان فيهم أحد من العشرة؟ وهل كان أحد في ذلك العصر ينذر لأهل الصفة؟
وهل تواجدوا على دف أو شبابة أو كان لهم حادٍ ينشد لهم أشعارًا ويتحركون عليها
بالتصدية ويتواجدون؟
وما قول العلماء في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الكهف: 28) هل هي عامة أم مخصوصة بأهل
الصفة رضي الله عنهم؟ وهل هذا الحديث الذي يرويه كثير من العوام ويقولون:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله
لا الناس تعرفه ولا الولي يعرف أنه ولي) وهل تخفى حالة الأولياء أو طرقهم على
أهل العلم أو غيرهم؟ ولماذا سمي الولي وليًّا؟ وما الفقراء الذين يسبقون الأغنياء
إلى الجنة، والفقراء الذين أوصى الله عليهم في كلامه وذكرهم خاتم أنبيائه ورسله
وسيد خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في سننه؟ هل هم الذين لا يملكون كفايتهم
أهل الفاقة والحاجة أم لا؟ والحديث المروي في الأبدال هل هو صحيح أم مقطوع؟
وهل الأبدال مخصوص بالشام أم حيث تكون شعائر الإسلام قائمة بالكتاب والسنة
يكون بها الأبدال بالشام وغيره من الأقاليم؟ وهل صحيح أن الولي يكون قاعدًا في
جماعة ويغيب جسده؟
وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تَسَمَّى بها أقوام من المنسوبين
إلى الدين والفضيلة ويقولون: هذا غوث الأغواث وهذا قطب الأقطاب، وهذا
قطب العالم، وهذا القطب الكبير وهذا خاتم الأولياء؟
وأيضًا فما قول العلماء في هؤلاء (القلندرية) الذي يحلقون ذقونهم ما هم؟
ومن أي الطوائف يحسبون؟ وما قولكم في اعتقادهم أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أطعم شيخهم قلندر عنبًا وكلَّمَه بلسان العجم؟ وهل يحل لمسلم يؤمن بالله تعالى
أن يدور في الأسواق والقرى ويقول: من عنده نذر للشيخ فلان أو لقبره؟ وهل يأثم
من يساعده أم لا؟ وما تقولون فيمن يقول: إن (الست نفيسة) هي باب الحوائج إلى
الله تعالى وأنها خفيرة مصر؟ وما تقولون فيمن يقول: إن بعض المشايخ إذا قام
لسماع المكاء والتصدية يحضره رجال الغيب وينشق السقف والحيطان وتنزل
الملائكة ترقص معهم أو عليهم، وفيهم من يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحضر معهم؟ وماذا يجب على مَن يعتقد هذا الاعتقاد؟ وما صفة رجال الغيب وما
معنى قول من يقول: إنه من خفراء التتار؟ وهل يكون للتتار خفراء أم لا؟ وإذا
كانوا فهل يغلب حال هؤلاء خفراء الكفار كحال خفراء أمة النبي صلى الله عليه
وسلم.
وهل هذه المشاهِد المسماة باسم أمير المؤمنين علي وولده الحسين رضي الله
عنهما صحيحة أم مكذوبة؟ وأين ثبت قبر علي ابن عم رسول الله؟
والمسئول من إحسان علماء الأصول كشف هذه الاعتقادات والدعاوى والأحوال
كشفًا شافيًا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والحالة هذه أفتونا مأجورين
أثابكم الله.
أجاب رضي الله عنه وأرضاه، آمين:
الحمد لله رب العالمين: أما الصُّفَّة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في
شمال المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل
ولا مكان يأوي إليه. وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أمر نبيه والمؤمنين أن
يهاجروا إلى المدينة النبوية حين آمن به من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس
والخزرج وبايعهم بيعة العقبة عند منى وصار للمؤمنين دار عز ومَنَعَة - جعل
المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة، وكان المؤمنون السابقون بها
صنفين: المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم، والأنصار الذين هم أهل المدينة
وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر، وآخرون
كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس، وآخرون كانوا
مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم، وكل هذه الأصناف مذكورة في
القرآن وحكمهم باقٍ إلى يوم القيامة في أشباههم ونظرائهم، قال الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا
وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن
شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم
مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن
فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: 72-
74) فهذا في السابقين ثم ذكر من اتبعهم إلى يوم القيامة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ
بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال: 75) وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ} (التوبة: 100) الآية، وذكر في السورة الأعراب المؤمنين وذكر المنافقين
من أهل المدينة وممن حولها، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ
قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً
فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ
عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُواًّ غَفُوراً} (النساء: 97-99) .
فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على
الأنصار بأهله أو بغير أهله؛ لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم ويواسوهم، وكان
في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على مَن ينزل منهم، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم قد حالف بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم. ثم صار
المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئًا بعد شيء، فإن الإسلام صار ينتشر والناس
يدخلون فيه والنبي صلى الله عليه وسلم يغزو الكفار تارة بنفسه، وتارة بسراياه
فيسلم خلق تارة ظاهرًا وباطنًا، وتارة ظاهرًا فقط، ويكثر المهاجرون إلى المدينة من
الأغنياء والفقراء والآهلين والعزاب، فكان مَن لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي
إلى تلك الصفة التي في المسجد. ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت
واحد بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له ويجيء ناس بعد ناس
وكانوا تارة يكثرون وتارة يقلون. فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون
عشرين وثلاثين وأكثر وتارة يكونون ستين وسبعين.
وأما جملة من آوى إلى الصفة مع تفرقهم فقد قيل: كانوا نحو أربعمائة من
الصحابة، وقد قيل: كانوا أكثر من ذلك. جمع أسماءهم الشيخ أبو عبد الرحمن
السلمي ولم يُعرِّف كل واحد منهم في كتاب تاريخ أهل الصفة [1] وكان معتنيًا بجمع
أخبار النساك والصوفية والآثار التي يستندون إليها والكلمات المأثورة عنهم، وجمع
أخبار زهاد السلف وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة وكم بلغوا.
والصوفية المستأخرون بعد القرون الثلاثة [2] وجمع أيضًا في الأبواب مثل حقائق
التفسير ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه، ومثل كلامهم في التوحيد
والمعرفة والمحبة ومسألة السماع، وغير ذلك من الأحوال وغير ذلك من الأبواب.
وفيما جمعه فوائد كثيرة ومنافع جليلة وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين
والصلاح والفضل. وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير، ويروي
أحيانًا آثارًا ضعيفة بل موضوعة يُعلم أنها كذب.
وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه، وكان البيهقي إذا روى عنه يقول:
حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه. وما يُظَنُّ به وبأمثاله - إن شاء الله تعالى -
تعمُّدُ الكذب [3] لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية، فإن النساك
والعباد منهم مَن هو متقن في الحديث مثل ثابت البناني والفضيل بن عياض
وأمثالهم ومنهم مَن قد يقع في بعض حديثه غلط وضعف مثل مالك بن دينار وفرقد
السنجي ونحوهما.
وكذلك ما يؤثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر
له من الأقوال والأحوال فيه من الهدى والعلم شيء كثير. وفيه أحيانًا من الخطأ
أشياء، وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ. بعضه باطل قطعًا مصدره - مثل ما ذكر
في حقائق التفسير - قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة
وذكر عن بعض طائفة أنواعًا من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة واستدلالات
مناسبة وبعضها من نوع الباطل واللغو، والذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن في
تاريخ أهل الصفة وأخبار زهاد السلف وطبقات الصوفية يُسْتَفَاد منه فوائد جليلة
ويجتنب ما فيه من الروايات، ومن أهل الآراء والأذواق من الفقهاء والزهاد
والمتكلمة وغيرهم يؤخذ فيما يأثرونه عمن قبلهم، وفيما يذكرونه معتقدين له شيء
كثير وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله. ويوجد أحيانًا
عندهم من جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير، ومن له من الأمة
لسان صدق عام بحيث يُثْنَى عليه ويُحْمَد في جماهير أجناس الأمة فهؤلاء هم أئمة
الهدى ومصابيح الدجى وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم وعامته من موارد
الاجتهاد التي يُعْذَرُونَ بها وهم الذي يتبعون العلم والعدل فهم بعداء عن الجهل
والظلم وعن اتباع الظن وما تهوى الأنفس.
***
(فصل)
وأما حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين (الذين) لم يكونوا في
الصفة أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات، فكما وصفهم الله تعالى في كتابه
حيث بين مستحقي الصدقة منهم ومستحقي الفيء. فقال: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا
هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة: 271) إلى قوله: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ
لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (البقرة: 273) وقال في أهل الفيء: {لِلْفُقَرَاءِ
المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً
وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 8) .
وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب
الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله من الكسب، وأما إذا أحصروا في
سبيل الله عن الكسب فكانوا يقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله.
وكان أهل الصفة ضيف الإسلام يبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بما
يكون عنده، فإن الغالب كان عليهم الحاجة، لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما
يحتاجون إليه من الرزق.
وأما المسألة فكانوا فيها كما أدَّبهم النبي صلى الله عليه وسلم: حرمها على
المستغني عنها، وأباح منها أن يسأل الرجل حقه مثل أن يسأل ذا السلطان أن
يعطيه حقه من مال الله أو يسأل إذا كان لا بد سائلاً الصالحين الموسرين إذا احتاج
إلى ذلك ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقًا حتى كان السوط يسقط من يد
أحدهم فلا يقول لأحد ناولني إياه. وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل، وكلام للعلماء
لا يسعه هذا الكتاب مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه
(ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل له ولا مشرف فخذه وما لا، فلا تتبعه
نفسك) [3] . ومثل قوله: (من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن
يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر) [4] . ومثل
قوله: (من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشًا - أو خموشًا أو كدوشًا -
في وجهه) [5] . وقوله: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل
الناس أعطوه أو منعوه) [6] إلى غير ذلك من الأحاديث.
وأما الجائز منها فمثل ما أخبر الله عز وجل عن موسى والخضر أنهما أتيا
أهل قرية استطعما أهلها. ومثل قوله: (لا تحل المسألة إلا لذي ألم مُوجع أو غُرم
مُفظع أو فقر مُدقع) . ومثل قوله لقبيصة بن مخارق الهلالي (يا قبيصة لا تحل
المسألة إلا لثلاثة: رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فسأل حتى يجد سدادًا من
عيش - أو: قوامًا من عيش - ثم يمسك، ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته
ثم يمسك، وما سوى ذلك من المسألة فإنما هو سُحتٌ أكله صاحبه سحتًا) [7] .
ولم يكن في الصحابة - لا أهل الصفة ولا غيرهم - من يتخذ مسألة الناس
والإلحاف في المسألة بالكدية والمشاحذة لا بالزنبيل ولا غيره - صناعة وحرفة بحيث
لا يبتغي الرزق إلا بذلك. كما لم يكن في الصحابة أيضًا أهل فضول من الأموال لا
يؤدون الزكاة ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يعطون في النوائب، بل هذان
الصنفان الظالمان المُصِرَّان على الظلم الظاهر من مانعي الحقوق الواجبة والمعتدين
حدود الله في أخذ أموال الناس كانا معدومين في الصحابة المُثْنَى عليهم.
(فصل) من توهم أن أحدًا من الصحابة. أهل الصفة أو غيرهم، أو التابعين
أو تابع التابعين قاتل مع الكفار أو قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه أو
أنهم كانوا يستحلون ذلك أو أنه يجوز ذلك - فهذا ضال غاوٍ بل كافر يجب أن يستتاب
من ذلك فإن تاب وإلا قتل {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:
115) .
بل كان أهل الصفة ونحوهم كالقُرَّاء الذين قنت النبي صلى الله عليه وسلم
يدعو على قَتَلَتِهِم، هم من أعظم الصحابة إيمانًا وجهادًا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ونصرًا لله ورسوله كما أخبر الله عنهم بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 8) وقال: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هذا التاريخ لأبي عبد الرحمن محمد السلمي المذكور المتوفى سنة 412.
(2)
المنار: ذكر الحافظ في لسان الميزان (السلمي) هذا ووصفه بأنه شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم وأنه عني بالحديث ورجاله وقال: تكلموا فيه، وليس بعمدة، بل قال ابن القطان: كان يضع الأحاديث للصوفية. وأن الحاكم قال: كان كثير السماع والحديث متقنًا فيه، من بيت الحديث والزهد والتصوف (قال) وقال السراج: مثله - إن شاء الله - لا يتعمد الكذب، ونَسَبَه إلى الوهم.
(3)
المنار: الحديث في الصحيحين وغيرهما، ولفظ البخاري في كتاب الأحكام: عن عبد الله بن عمر قال: سمعت عمر يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة فقلت: أعطه أفقر مني، فقال:(خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك) وله في كتاب الزكاة: (إذا جاءك بدل فما جاءك) ولفظ مسلم (خذه فتموله أو تصدق به وما جاءك) إلخ وزاد في آخره: قال سالم: (فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدًا شيئًا ولا يرد شيئًا أعطيه) .
(4)
هو في الصحيحين أيضًا على اختلاف في ألفاظه وأوله: (ما يكون عندي من مال فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله) إلخ.
(5)
رواه أحمد وأصحاب السنن وفيه زيادة تحدد الغنى بخمسين درهمًا، وفي سنده حكيم بن جبير ضعيف، وتكلم فيه شعبة من أجل هذا الحديث، ومعنى الخموش والخدوش والكدوش واحد.
(6)
روياه أيضًا واللفظ للبخاري.
(7)
لفظ الحديث في صحيح مسلم: (يا قبيصة: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال: سدادًا من عيش - ورجل أصابته فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال: سدادًا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا) .
الكاتب: حسني عبد الهادي
من الخرافات إلى الحقيقة
(8)
فوز روح زردشت على روح الإسلام
من المجربات أنه إذا تأصلت عقيدة ما في نفس فرد أو جماعة يتعذر على
معتقدها أو على غيره إزالتها. فإن اتفق أن نُزعت هذه العقيدة، فلا بد أن يبقى
لها آثار في النفس تظهر بين آونة وأخرى بالرغم من الجهد الذي يبذله صاحب
العقيدة ليتناساها. هذا شأن العقائد الدينية، فإن ضُم إليها عقيدة قومية وامتزجت
العقيدتان يتعذر حينئذ إزالة هذه العقيدة المزدوجة.
أضرب مثلاً هؤلاء الإيرانيين أرادوا التأليف بين حاجاتهم الروحية وبين
موجبات تقاليدهم التاريخية وبين مقتضيات الدين الإسلامي فلم يفلحوا. لماذا؟ لأن
زردشت ولد في إيران ونشر مذهبًا ملائمًا لروح الفرس وموافقًا لتقاليدهم التاريخية،
فرسخ هذا الدين في أنفسهم، لأنه جاء موافقًا لحاجاتهم الروحية حتى إن ملك ذلك
العصر (كستاسب) ووزراءه وسائر الطبقات أقبلوا على دين (زردشت) إقبال
العاشق المشتاق؛ لأن روح البلاد كانت تطلب وصايا زردشت فكان معبرًا عما في
ضميرها.
نعم إن العرب ضربوا دولة الفرس في القادسية ضربة زلزلوا بها أركانها،
وقوضوا عمود خيمتها. إلا أن روح إيران بقيت بمعزل عن تلك الضربة، ولم
تتبدل لأن تبديلها محالٌ، حتى إن أحكام الإسلام المنطقية العلوية، لم تستطع فتح
الروح الإيرانية؛ لأن هذه الروح كانت قد اعتادت وألِفَت عقائد أمشاجًا مركبة
ممزوجة بالخيالات والأوهام، فلم تكن أسس الدين الإسلامي البسيطة لتحل محل
تلك الأسس المركبة. روح الإيراني كانت تطلب أحيانًا عبادات مقرونة بمظاهر
العظمة والفخفخة وأحيانًا بمظاهر الحزن المشعشع المعظم، فلذلك كانوا يرون قواعد
الدين الإسلامي كالشيء اليابس غير المرن. وهذا ما تأباه أرواحهم، وتنبو عنه
أذواقهم.
الدين والحكومة كانا يرتكزان على قاعدة واحدة عند الفرس. فلما سقطت
الحكومة سقط الدين معها؛ لأن سقوط القاعدة يقتضي سقوط ما بُنِيَ عليها.
إن إعادة دين (زردشت) كانت في نظر الإيرانيين أسهل وأسلم من التوسل
لإعادة عرش كسرى. ولكن إعادته تتوقف بالطبع على إضعاف الدين الذي حل
محله. لذلك صمموا على الأمور الآتية
(1)
زلزلة قواعد الإسلام.
(2)
إدخال تقاليد الفرس في سويداء قلبه.
(3)
إحداث مذاهب جديدة.
(4)
ابتداع طرق مُستحدَثة.
والقصد من ذلك كله إضاعة جوهر الإسلام الساذج بين هذه المركبات أو
إلباسه ثوب (زردشت) السابغ الفضفاض على الأقل، حتى إذا ما عثرت رجلاه
بأذيال هذا الثوب ووقع أو ضعفت مشيته تمهدت لهم السبيل لنصب عرش كسرى.
لذلك يجد المدقق منا في حوادث التاريخ أن جميع الفرق الضالة ولدت في
إيران وأن الخرافات والبدع السيئة جاءت من إيران؛ لأن الأحكام الإسلامية
البسيطة لم تستطع تطويع النفس الفارسية التي اعتادت الانحناء تحت أثقال التقاليد
القديمة.
هذا هو السبب الإيجابي. وهناك سبب معنوي أيضًا، وهو أن الإيراني
قضى عمره وهو يئن تحت استعباد السلالات المالكة؛ لأنه كان يتدحرج بين
استبداد آل (البيشداديين) و (الإشكانيين) و (الكيسانيين) و (الساسانيين) وكل
شعب وقع في نيران الاستبداد تطلب روحه دائمًا مبعثًا لأنينها وبث شكواها، وهذه
المظاهر التخييلية التي يحتفل بها الإيرانيون في أيام مخصوصة هي مبعث الأسى
الذي يجتمع فيه ما يفيض من دموعهم، ففي تلك الاجتماعات والاحتفالات يفرغ كل
امرئ آلامه ويخرج منها بدون آلام.
ذلك - يا سيدي القارئ - سر مأتم (المُحَرَّم) التي يبكي فيها الإيرانيون الحسين
السبط رضي الله تعالى عنه، وإذا اعتاد الروح عملاً وصار له ملكة؛ فإنه يصدر عنه
دائمًا لا يعيقه عنه عائق مهما يكن قويًّا، ولا شأن للمظاهر والأشكال عند الروح وإنما
الشأن عنده للإدراك والشعور الذي يبعث على العمل، فثم شعور يحرك داعية البكاء،
وسيان أبكى على كسرى أم على الحسين رضي الله عنه. باعث البكاء أساسي
وصورة المأتم فرع عنه [1] .
روح الإيراني يريد أن يرى رجلاً جالسًا على عرش الملك بكل عظمة وفخامة،
يريد أن يحصر حق التعظيم فيه وفي ورثته؛ لأن هذا المعنى تبوأ ورسخ في
سويداء قلب الشعب وأمسى روحًا ثانيًا له، يريد أن يرى آمرًا كبيرًا ذا أبهة وبهجة
يأمر وينهي متأبهًا متألهًا - لا عبدًا متواضعًا - ومن تحته أمة تأتمر وتطيع وتخضع،
وأنى يجد هذا في الإسلام؟ الإسلام حرم الاستبداد والتعظم والكبرياء، ونسخ
توارث الأمر والنهي وجعل الخلافة تابعة للشورى. وكان الخليفة كآحاد الناس
بعيدًا عن العظمة وعن الفخفخة. لذلك أحدثوا مسألة (الإمامة المعصومة) لتقوم
مقام الكسروية المقدسة، فيتوارثون عروش الأكاسرة، فاستعانوا ببني هاشم لا
لإجلاسهم على عرش الخلافة؛ بل لإجلاس أحفاد إسماعيل الشاه على عرش كسرى.
إن عقل الإيراني ما كان يقدر أن يفهم معنى أصول انتخاب الرئيس السياسي
من الناس. وكان انتخاب الخلفاء الراشدين الأربعة في نظره من أغرب الغرائب
لأن (زردشت) غرس في قلبه فكرة توارث الرئاسة والعظمة والجلال. لذلك كانوا
يتعجبون من ترجيح أحد على علي كرم الله وجهه؛ لأن الفضل الذاتي كان في
نظرهم شيئًا غريبًا؛ ولا سيما أولاد سيدنا علي رضي الله عنهم أسباط الرسول
صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو سر تولد مسألة (الإمامة) فإنها من مقتضيات روح إيران. ولما
كان الحسين رضي الله عنه قد تزوج إحدى عقائل بيت الملك في إيران من أسرة
(الساسانيين) كان الفرس يعلقون أهمية كبرى على هذه النقطة.
كانت روح الإيراني تطلب (خداوند) أي رئيسًا إلهيًّا لتنقاد له وتطيعه طاعة
وجدانية وتمتثل أوامره بغير بحث ولا مراجعة. وأنى لها في الإسلام مثل ذلك
وأكبر خليفة يقول علنًا: (أيها الناس من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومه) فيجاب
من آحاد الناس بكل بساطة: (لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا)[2] .
الإيراني ما كان يمكن أن يفهم هذا، وروحه يأبى قبوله. وإنما يريد (خداوند)
أي رئيسًا إلهيًّا يأمر فيطاع بلا نقد وبلا اعتراض. الإيراني ينشرح صدره إن قَتَلَ أو
كَسَرَ أو سَمَّمَ أحدًا امتثالاً لأمر (الخداوند) وتكفي أدنى إشارة منه ليطيع بكل سرور.
وهذا السرور لا بد له من (خداوند) إذًا ما العمل والإسلام يأبى ذلك؟ وجدوا فكرة
إحداث (إمام يورث) أقصر طريق لما نووا. وهكذا فعلوا.
من قرأ روح أبي مسلم من أفعاله يتضح له صدق ما نقول، وللقارئ الكريم
البيان:
أمر الإمامُ (إبراهيم) أبا مسلم الخراساني أن يقتل كل من اشتبه في إخلاصه
وإن كان ولدًا لا يتجاوز طوله خمسة أشبار، فامتثل أبو مسلم هذا الأمر بدون تردد؛
لأنه صدر من (خداوند) أي من إمام، ومجموع من قتل أبو مسلم على
الشبهة ستمائة ألف مسلم. ولقد صور المؤرخ ابن الأثير هذه الفواجع تصويرًا تامًّا
حتى إن (أبا سلمة الخلال) الذي أحرز عنوان (وزير آل محمد) لم يقدر أن
يصون دم نفسه من قانون الشبهة؛ لأن أبا مسلم كان يتلقى أوامر ممثل (الخداوند)
الإمام إبراهيم كأمر إلهي.
وياليت الأمر بقي مسوقًا بروح الإيرانيين وحدهم بل إن روح سورية المقتبسة
من روح الروم زاد الأمر اضطرابًا وتهويشًا؛ إذ من المعلوم أن بعض الجنود
السورية والعراقية أغريت يوم (صفين) بعدم الطاعة لعلي كرم الله وجهه
ولمعاوية أيضًا، وهذه الديمقراطية الواسعة ليست إلا من بقايا أفكار (بيزانس)
فتشوشت أفكار العرب بين هذا الجزر الإيراني والمد الرومي (وكان العربي من
القديم قانعًا بالانكماش في جزيرته ولا يحلو له إلا ما عنده فلا يعرف ما عند غيره.
والسياسة هي معرفة المتغير ومعاملته حسبما علم من أحواله) وأوضح دليل على
عقلية الإيرانيين ما عمله أهل بلدة (راوند) من توابع أصفهان يوم جاءوا لمقابلة
الإمام المنصور إذ نادوه (يا خداوند) أي إلهنا؛ لأن كلمتي (إمام وخدواند) في نظر
الفرس لا يتجزآن، وعندما عدلوا عن تسمية المنصور إمامًا لم تستطع الروح
الفارسية أن تعيش بدون إمام ففتشت عليه واستمرت تفتش حتى وجدته ولكن من
وجدت؟ وجدت أبا مسلم الخرساني وادعت بأن الألوهية حلت فيه. أي في قاتل
ستمائة ألف مسلم.
لا يتعجب العاقل من إسناد الإيرانيين الألوهية لأبي مسلم لأنه - والحق يقال -
بطل من أبطال التاريخ وسياسي هائل، وهو ليس أكثر من إيراني وطني متغالٍ،
ولكن العجب كل العجب تقديس غير الإيرانيين له، والأحزاب التي أُلّفت لذلك.
حزب الرزامية:
إن قانون الشبهة الذي أحدثه الإمام إبراهيم لم يستثن أبا مسلم بل طبَّقه الخليفة
المنصور عليه بالذات، وعلى ذلك اجتمع بعض الفرس وبسطاء العرب وأعلنوا
إمامة أبي مسلم على رءوس الأشهاد وسموا جمعيتهم باسم (حزابي) ثم أعلن (رزام
بن شاقو) مؤسس الحزب الرزامي ألوهية أبي مسلم وقبل الناس ألوهية أبي مسلم
الذي صار إمامًا قبل مدة وجيزة حتى إن بعض الحزابين ما كان يصدق أن أبا مسلم
يموت بل كانوا يعتقدون بأنه سيظهر يومًا ما ويملأ العالم عدلاً وبعضهم كان يقول:
إنه مات، وإن الإمامة انتقلت إلى بنته.
ما هذه العقائد وما هذه الأقوال؟ إن هي إلا بقايا دين (زرادشت) وبمدة قليلة
كثر هذا الحزب.
جميع هذا الخرافات ليست من ديننا في شيء، إن هي إلا خرافات وما
أبو مسلم إلا سياسي تام وإمامته وألوهيته وقدسيته شيء موهوم خيالي.
حزب المبيضة:
ثم ظهر كاتب أبي مسلم المقنع فالتف حوله الخراسانيون الذين كانت أجسامهم
مسلمة وأرواحهم أسيرة عقائد (بوذا) و (زردشت) .
اسم المقنع (هاشم بن حاكم) وكان يغطي وجهه لقبحه، ولذلك سُمي المقنع.
رأى المقنع بحرانًا في أفكار الخراسانيين: رآهم مسلمين ولكن قواعد الإسلام
الساذجة لم توافق مشربهم، وطلب الرجوع إلى دين زردشت صعب وكذلك الاكتفاء
بالإسلام، بل هو عنده أصعب، ولذلك عزم على صبغ الإسلامية بصبغة زردشتية،
وهذا يحتاج لجسارة ومهارة، وبما أن هذا كان خصيصًا بالعلوم الطبيعية أخذ يقدم
لهم قوانينها وقواميسها كمعجزات فصدقوه واتبعوه. وكانت أعماله معطوفة على هدم
بناء العرب السياسي والديني معًا لذلك توسل بإحياء عقيدة الناسخ التي اكتست ثوبًا
هنديًّا وآخر مصريًّا وثالثًا يونانيًّا وثوبًا رابعًا إيرانيًّا ولكنه زاد على أثوابها ثوبًا
خامسا إسلاميًّا، وللقارئ الكريم ما كان يقول هذا المقنع:
إن الله تجلى في بادئ الأمر في وجود آدم ثم انتقل إلى نوح ثم إلى إبراهيم
ومن بعده إلى موسى ثم إلى محمد عليهم السلام، ومن بعده إلى علي كرم الله وجهه،
ثم إلى محمد بن الحنفية وفي النهاية حل في أبي مسلم الخرساني، ومن بعده انتقل
إلى وجود المقنع.
إن هذه العقيدة القديمة وُجد من استأنس بها في إيران وسورية ومصر والهند
والتف حوله عدد ليس بالقليل حتى إن الخليفة المهدي اضطر لأن يسوق عليه ثلاثة
جيوش، وكان الغالب في الثلاث المعارك المقنع، فهذا الظفر أطلق لسان الفرس
وطفقوا يلهجون بإيران واستقلالها. عندئذ جمع الخليفة المهدي جندًا كثيفًا، وأرسله
لحربه فغلب في هذه المرة وقتل المقنع في مدينة (كسن) ولكن الخرافات التي نشرها
بين المسلمين لم تمت.
وأما سبب تسميتهم المبيضة فهو أنهم كانوا يلبسون لباسًا أبيض.
الزنادقة أو الحمرة:
هم من أتباع المقنع أيضًا وكانوا يسمون الحمرة؛ لأنهم كانوا يلبسون لباسًا
أحمر [3] لقد أضر المحمرة بالإسلام أضرارًا أبلغ من أضرار المبيضة، وأدخلوا فيه
خرافات أكثر منهم وأتعبوا العرب والمسلمين أتعابًا دامت أحقابًا طويلة.
قبل الإسلام بقرنين ونصف ظهر في إيران رجل اسمه (مزدك) ونشر مذهبًا
جديدًا فيها. ومن مقتضيات هذا المذهب: إهمال كل قانون وكل نظام وحل جميع
الروابط الأدبية وفتح الباب على مصراعيه لكل شهوة بشرية، بَذَلَ الأكاسرةُ جُلَّ
المستطاع لقمع هذا المذهب ولكنهم لم يفلحوا؛ لأن الاشتراك بثروة الأغنياء
وبالنساء الجميلات كان يجذب الشبان من جميع الأطراف إليه، وانتشر هذا المذهب
حتى إنه لم يبق هنالك أثر للقانون والنظام وللحق وللأدب وللحياء، وعُدَّ كل شيء
يوافق تسكين الشهوة البشرية مباحًا بل مشروعًا.
وفي خلافة المهدي بدأ هذا المذهب ينتشر بين المسلمين ولكن بلباس إسلامي،
بذل الخليفة المشار إليه كل ما يمكنه لمحوه وسالت الدماء كالأنهار ولكن بدون
جدوى، بل ظل ينتشر في خراسان والعراق انتشارًا سريعًا، ومن الغريب أن جميع
المذاهب التي كان الإيرانيون ينشرونها بعد الإسلام هي مقتبسة مما كان يجري في
الهند وإيران، ولكن كانوا يبدلون اسم مؤسسها القديم ويضعون عليها أسم أحد أولاد
سيدنا علي رضي الله عنه، ولم يوجد حزب أضر بأخلاق المسلمين أكثر من هذا
الحزب لأنهم لم يكتفوا بإباحة النساء والأولاد بينهم، بل طفقوا يخطفون النساء
الحسان من الأسواق، وبهذا الشكل أتعبوا الخليفة المهدي وحكومته تعبًا ما وراءه
تعب.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المترجم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حسني عبد الهادي
…
...
…
...
…
...
…
... نابلس
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كان الروح الإيراني يريد أن يبكي على (زردشت) وكسرى فبكى على الحسين، والروح البريطاني يريد أن يبكي على طريق الهند فبكى على ملك بني هاشم فروح الأولين من الفرس رأى بني أمية حاجزًا فكسره وأقام مقامه دولة فارسية: دولة الشاه إسماعيل الصفوي ! وكذلك الروح الأوروبي رأى الأتراك حائلاً دون مرامه فأزاله ولكن من أقام مقامه؟ السر برسي كوكس في العراق والسر هربرت صمويل في فلسطين وغورو في الشام. الأوروبيون والإيرانيون سلكوا طريقًا واحدًا وعملوا عملاً واحدًا وعيون العرب مغمضة عن مشاهدة التاريخ، وإن نصحهم عارف بالأمر يَصُمُّونَ الآذان ويقابلونه بالافتراء والبهتان! رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون (المترجم) .
(2)
المنار: ليس كل ما في الإسلام ولا أهمه قول هذا الخليفة وهو عمر، بل قيَّد الله تعالى طاعة خاتم رسله في آية المبايعة بالمعروف فقال:[وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ](الممتحنة: 12) مع العلم بأنه لا يأمر إلا بالمعروف، وصح عنه أنه كان يقول:(إنما الطاعة في المعروف) وما في معناه. وقال أبو بكر في خطبته الأولى عقب مبايعته: (قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت
فأعينوني، وإذا زغت فقوموني) وعلى هذا جرى الخلفاء الراشدون كلهم.
(3)
رجع الناس في هذا العصر إلى جعل الملابس الملونة بلون خاص شعارًا للأحزاب والجمعيات كالقميص الأسود لحزب الفاشستي في إيطالية.
الكاتب: نظمي عنتباوي النابلسي
منشور عام
في المسألة العربية العامة والفلسطينية خاصة
إن النهضة الوطنية الفلسطينية في مدينة نيويرك العظمى قد عقدت اجتماعًا
عامًّا بعدما اتصل بها من تصديق عصبة الأمم على الوصايات، وقررت بإجماع
الأصوات إصدار هذا النداء لكل الجمعيات والمؤتمرات السورية والفلسطينية ولجميع
السلطات العربية لتقرر الجمعيات خطة دفاعية عامة تجاه ما لَحِق بالبلاد من الأذى
والعبودية، على أن يحتوي على المواد الآتية:
أولاً - إن الحلفاء قد خاضوا غمرات الحرب واتخذوا لأنفسهم مبدأ تحرير
الشعوب المستضعفة، كما صرَّحوا بلسان وزرائهم في أثناء الحرب العظمى وبعدها،
وكما صرح المستر ولسن في خطبه وفي مواده الأربع عشرة؛ فاستنادًا على هذا
المبدأ ووفقًا للمعاهدة المربوطة بين جلالة الملك حسين الأول وبين بريطانية العظمى
سنة 1915 بلسان العميد البريطاني بمصر السر هنري مكماهون، ووفقًا للرسائل
المتبادلة بين الحكومة الحجازية والإنكليزية قد ساعد العربُ الحلفاءَ منذ سنة 1916
بدخولهم الحرب وإعلانهم الثورة ضد الحكومة العثمانية [1] .
ولم يكن حق العرب في الاستقلال يقتصر على الوعود والمعاهدات الدولية،
ولا على نظام عصبة الأمم ولا على مواد الرئيس ولسن الأربعة عشرة، بل على ما
للعرب السوريين من تراث المجد والوطنية وما فُطِرُوا عليه من التقاليد وما هم عليه
من الكفاءة السياسية والإدارية كما يدل على ذلك وجود نواب العرب من الندوة
العثمانية في الدور العثماني وإدارة كثير منهم مناصب رفيعة من سياسية وعسكرية
وإدارية وعلمية مما يجعل للعرب حقًّا أكيدًا فوق ما لهم من الحق الطبيعي في
الاستقلال والحرية، غير أن الحلفاء قد ساروا فعلا على طريقة الاستعمار واضطهاد
الشعوب ونفع الذات. فوعدت الحكومة الإنكليزية بكتاب حِبِّي أرسله المستر بلفور
إلى اللورد روتشلد في 2 نوفمبر سنة 1917 بوطن قومي في فلسطين وتواطأ
المسيو كليمانصو والمستر لويد جورج بعد الحرب على اتفاق سايكس بيكو، فتقسمت
البلاد السورية إلى أجزاء ولحق بها من الضرر والحَيْف والظلم والجَوْر والعبودية
ما لم نتوقعه، فهدمت بذلك جميع المبادئ التي افتخر الحلفاء باتخاذها مبدأً لهم ورموا
بالعهود والوعود التي ربطوها بعد الحرب عرض الحائط! والأغرب من ذلك أن
عصبة الأمم التي ولدتها المبادئ الديموقراطية الحديثة والتي لها السلطة في رؤية
عهود الوصايات، والتي من جملة وظائفها حماية الأقوام المستضعفة كما خوَّلَها هذا
الحق عهد الجمعية الموقع عليه في فرسايل في 28 يونيو سنة 1919 قد صمَّتْ
آذانها عن سماع صوتنا الممزوج بحلاوة الحق وتغاضت عن كل المساوئ التي
يقترفها الأوصياء في بلادنا، فصدقت بلا تردد بعد جلسة سرية عهود الوصايات،
اللهم إلا العراق وبذلك تحقق الرأي القائل: إن عصبة الأمم لم تكن إلا للتوفيق بين
الروح القومية الجديدة والسياسة الاستعمارية القديمة. ولما كان العرب قد فشلوا في
جميع الأعمال السياسية الخارجية ولم يلاقوا من الأوربيين إلا تصلفًا كلما ازدادوا
تقربًا إليهم - وجب عليهم أن يحصروا أعمالهم في بلادهم وفيما يهمهم من أمرها من
حيث هي بلاد عربية أو بلاد دينية مقدسة مع المثابرة في الجهاد سياسيًّا واقتصاديًّا
وعلميًّا.
ثانيًا - إن القضية العربية كانت في بدء نشأتها جامعة لكل الأقطار العربية من
سورية (شمالية وجنوبية) وعراقية وحجازية وكانت الوعود التي يستند عليها
العرب تتضمن كل هذه الأقطار حتى اشترك في الجيش العربي أناس من مختلفي
الأقطار والأمصار من سائر بلاد العرب، غير أن الدول الاستعمارية الأجنبية قد
جَزَّأَتْ بلادنا وفَكَّكَتْ أوصالها وجعلت لكل قطر منها قضية تختلف عن قضية القطر
الآخر من حيث طريقة الحل وارتباطها بحكومة خاصة؛ تأييدًا لسياستهم في تفريق
كلمة العرب ليعسُر بذلك حل القضايا العربية التي هي متمم بعضها لبعض، وفضلاً
عن أن القضية العربية قد ابتدأت شاملة جامعة فإن موقع بلاد العرب الجغرافي من
حيث فقدان الحواجز الطبيعية بينها وافتقار كل قطر إلى آخر لاختلاف تربته وموارده
مما يزيد الترابط الطبيعي بين العرب بالنظر لجامعة اللغة والعنصر، ومما يجعلنا
نؤكد أن هذه القضية المتحدة سياسيًّا واقتصاديًّا يجب أن يشترك في حلها العرب كلهم
ويتعاونوا على دَرْء الخطر في كل الأقطار كما كان في بدء الحركة العربية سنة
1915 ولما كانت الأمة العربية قد امتشقت حسامها لتأييد استقلالها - فالنهضة ترى أن
الوسيلة الأولى التي تجب أن يتخذها الفلسطينيون هي نشر الدعوة في بلاد العرب كلها
لتتعاون على درء العبودية عنا على أن يكون مبدأ التعاون وسيلة لاستقلال البلاد عن
طريق الجامعة العربية وبذلك يجب على العرب مقاومة الصهيونية والأجانب
المستعمرين على السواء كما يقاومهم الفلسطينيون فيما لو كانوا منفردين. فلهذا تحبذ
النهضة إجماع الرأي على طريقة هذا الجهاد السياسي الفعلي وينظر إلى تقوية هذا
الجهاد بالطرائق العلمية الواجبة التي يقر عليها الرأي.
ثالثًا - مقاطعة اليهود، على أن يباح لهم ما عدا الأراضي (أي الأموال
المنقولة فقط) ويحرم الشراء منهم، وتأييدًا لذلك فالنهضة تهتم الآن بمشروع تأسيس
بنك في فلسطين لتكون المقاومة على أساس اقتصادي علمي عملي ليستفيد المزارع
والتاجر، ولكي لا تضر المقاطعة بالوطن، وهنا لا يسعنا إلا أن نصرح أن فشل هذا
المشروع ونجاحه يتوقف على أهل البلاد، فإذا لم ير المهاجرون الذين يعملون في
سبيل القضية كل ما يمكن عمله إقدامًا من أهل البلاد على شراء الأسهم، فالمشروع
سيبقى في طي الخفاء كما أن ذلك يدل على أن أهل البلاد لا يفقهون للطرق الوطنية
الحقيقية معنًى. نحن لا نرى أن الجهاد الاقتصادي هو بتحبير المقالات على أعمدة
الجرائد بل بالعمل، وهذا المشروع هو أعظم العمل فائدة من هذه الوجهة.
رابعًا - نشر الدعوة بين جميع العامة في المدن والقرى: إما بتأسيس النوادي،
وإما بإلقاء الخطب والمواعظ في أوقات معينة لإضاءة الأقطار بنور المعرفة
وبالقضية الوطنية وبالأضرار التي تنجم عن بيع الأراضي، وبتصوير العبودية التي
تلحق بالأهالي، وللجوامع والكنائس في هذا العمل قسط وافر.
خامسًا - من أهم الأسباب القويمة لحفظ كيان أمتنا وحصولنا على أمانينا
الوطنية، انتشار العلم، فعلى كل رجل أن يرسل ابنه إلى المدارس لطلب العلم،
وعلى الأخص المدارس الوطنية؛ لأنها تولد في النفوس غريزة الوطنية الصحيحة.
سادسًا - تتخذ النهضة ما تضمنته البنود السالفة مبدأ لها في جهادها المقبل
راجية من كل جمعية أو سلطة عربية إبداء أي اقتراح يتعلق بالعمل الأساسي
للنهضة، كما أننا نرغب في مراسلتنا لاتخاذ الطرق الفعالة المشتركة للحصول على
أمانينا الحقة.
الخاتمة - قد أدرك العرب بعد أن حلب الدهر شطريهم، ورأوا من صنوف
العذاب ما رأوا أن وقت الاحتجاج والصراخ قد مضى وأن الطريقة الوحيدة لوصولنا
إلى حقنا وبلوغ أمانينا الوطنية هي أن نكون أقوياء. وكما أن الضعف فينا سبب في
اضطهادنا وامتهان كرامتنا العربية، فالقوة ستكون سببًا حقيقيًّا في إيصالنا إلى ما
نبتغي من الحرية والاستقلال، فما مضى بنا من العبر السياسية والتجارب الزمنية
علَّمنا أن ضعف العرب في تفرقهم وتشتيت شملهم، ولولا ذلك لما رأينا للأجنبي
إصبعًا تلعب في مقدرات الأمة العربية، فكفى فيما سبق عبرة لنا، وآن لنا أن
نحيي الاستقلال والحرية بقلوب مرتبطة معتمدين على أنفسنا في هذا الجهاد
الشريف.
لتحي فلسطين عربية حرة، لتحي سورية متحدة، لتحي الجامعة العربية.
…
...
…
...
…
... النهضة الوطنية الفلسطينية. نيويرك
…
...
…
...
…
...
…
نظمي عنتباوي. النابلسي
_________
(1)
المنار: إن ما ذكر من الرسائل بين الحجاز والإنكليز، وما سماه معاهدة هو خزي للعرب! خُدعوا به فيجب أن يردوه على صاحب الحجاز ولا يعترفوا به؛ لأنه يعُدُّهم بالصراحة قاصرين تحت حجر الإنكليز، أفما آن لهم أن يدركوا ويعقلوا؟ .
الكاتب: محمد رشيد رضا
وفاة عالم عربي
علوي
كتب إلينا صديقنا العالم الرحالة الشهير السيد محمد بن عقيل من المكلا ما
يأتي:
وصل إليَّ تلغرف من حيدر آباد وتأخر بعدن لعدم الراكب، فوصل بالأمس،
وفيه الإعلام بوفاة عالم الشرق البدر المشرق المناضل عن النبي الأمين والأنزع
البطين والآل الميامين وعدو النواصب أجمعين: شيخنا السيد أبي بكر عبد الرحمن
ابن محمد شهاب الدين باعلوي رحمه الله رحمة الأبرار، وألحقه بمن أحبهم،
وألحقنا بهم في عاقبته، وعظَّم فيه الأجر، وأحسن الخلف، وإنا لله وإنا إليه
راجعون.
توفي ليلة الجمعة قبيل العشاء الساعة 7 زوالية 9 الجاري، في حيدر آباد
الدكن ودفن بعد صلاة الجمعة، وكانت ولادته سنة 1262 ويجمعها حروف:
(أبو بكر عبد الرحمن بن شهاب الدين باعلوي)
231 -
25 - 405 - 52 - 403 - 119
وله مصنفات في الأصلين والفقه والأنساب والحساب والطبيعيات، والأدب
والمنطق، وغير ذلك فتاوى جمة وديوان شعر، وقد نُشر في الجرائد كثير من
قصائده، وبآخر النصائح الكافية له قصيدتان، وأرسلت إليكم عددًا منها وأظن أن
أخانا السيد عبد الله دحلان يكتب له ترجمة، وقد أفظعني نعيه {لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ
وَمِنْ بَعْدُ} (الروم: 4) وفيه خلف عن كل هالك وهو المستعان.
…
...
…
...
…
... في 24 جمادى الأولى سنة 1341
(المنار) نعزي صديقنا الكاتب وسائر السلالة العلوية والبلاد الحضرمية
والهندية والأمة العربية عن هذا العالم المتفنن الذي خدم العلم واللغة العربية بكتبه
الكثيرة وبتدريسه وتعليمه وبتصحيحه لكثير من مطبوعات (مطبعة دائرة المعارف
النظامية) في حيدر آباد الدكن موطن إقامته، ومما بلغنا من ترجمته أنه هو الذي جدَّد
الدعوة إلى موالاة آل البيت ومعاداة أعدائهم في القديم والحديث، فراجت في علوية
الحضارمة المنتشرين في جزائر جاوه وما جاورها، فغلا فيها أناس غلوًّا لا يرضاه
الفقيد ولا تلاميذه المعتدلين حتى وجد فيهم من ضل بنزغات الباطنية التي دسوها
في الشيعة، لم يقفوا عند حد ما كانت به الشيعة شيعة ونشروا في ذلك رسائل عديدة
فنهد لهم آخرون يردون عليهم، وعظم الشقاق بين جوَّالي العرب في تلك البلاد من
الأفراد والجماعات وطفق بعضهم يطعن في بعض، وقد كان المسلمون هنالك
متفقين على تكريم السادة العلويين وتفضيلهم على غيرهم وإن كان يفوقهم علمًا
وتقوى، فصار لهم بعد ذلك أعداء وخصوم أقوياء. ولم نقف لهذه الدعوة على فائدة
توازي ذلك أو ترجح عليه، فعسى أن يشرح لنا صديقنا السيد عبد الله دحلان
في ترجمة الفقيد الكريم - تغمده الله برحمته - أو في مقال خاص، فقد كثرت علينا
الرسائل من الفريقين المتنازعين ونحن معرضون عنها؛ لأننا نكره الشقاق والتنازع
ونتحرى أن نكتب ما نرجو به إصلاح ذات البين، وهو على معرفة كنه الحال بين
الفريقين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات
(المرأة في التاريخ والشرائع)
هو (كتاب مُصَوَّر فيه 27 رسمًا، يبحث في تطور المرأة في التاريخ منذ عهد
البشر البدائي حتى الآن حيث تبوأت كراسي مجالس الأمم. فيدخل في ذلك الكلام
عن المصرية القديمة والبابلية والآشورية والصينية واليابانية واليونانية والرومانية
والفينيقية، ولا سيما العربية قبل الإسلام وبعده، ويختتم الكتاب في الكلام عن تطور
شأن المرأة في التمدن الحديث في الغرب وفي الشرق الأدنى خاصة ملمًّا بتاريخ
مسألة الحقوق النسائية - فهو إذًا يكاد يكون بما فيه من أحكام الشرائع تاريخًا عامًّا) .
مؤلف هذا الكتاب صديقنا البحاثة محمد جميل بك بيهم من سروات بيروت،
وقد ذكر في مقدمته أن الباعث له على تأليفه ما يراه من تطور شأن النساء في
الشرق تبعًا لتأثير حضارة الغرب فيه واكتساحه لأخلاقه وتقاليده وآدابه، فأحب أن
ينبه الأمة العربية أن لا تؤخذ في هذا على غرة، وأن ينشط الكُتاب للتأليف في هذا
الموضوع ويمهد السبيل لعقد رأي عام في مسألة المرأة.
طبع الكتاب في بيروت سنة 1339 وقد نظرت في بعض فصوله نظرة
عجلى فأعجبني طريقة البحث فيه والتأليف، ثم أمسكته بالقرب مني راجيًا أن أجد
فرصة أطالعه فيها بالدقة التي تمكنني من نقده فلم أظفر بها، ولكني أشهد له بما
علمت من النظرة الإجمالية أنه من الكتب الجديرة بالمطالعة والاعتبار والنقد،
وصفحاته 270 ونيف ماعدا الصور والرسوم، وثمن النسخة منه عشرون قرشًا
ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
***
(تهذيب الألفاظ العامية)
اللغة العامية المستعملة في مصر وغيرها من البلاد الأفريقية والآسيوية
العربية هي اللغة العربية طرأ عليها التحريف والتصحيف وترْك الإعراب في
التركيب والتأليف، ودخل فيها ألفاظ من لغات الشعوب المخالطة والمجاورة لأهلها
ممن دخل الإسلام كالفرس والترك والبربر ثم من الإفرنج.
وإن في هذه العامية كثيرًا من فرائد اللغة المهجورة يتحاماها الكتاب والمؤلفون
في اللغة الصحيحة المُعْربة لغفلتهم أو لجهلهم بأنها من اللغة، وقد يكونون في أشد
الحاجة إليها ولا سيما المترجمين لبعض الكتب الأعجمية منهم - فلهذا عُنِيَ بعض
علماء اللغة قديمًا وحديثًا ببيان الدخيل والمولد وتمييز العربي الصحيح من ألفاظ
العامة من الدخيل، ورد المصَحَّف أو المحَرَّف إلى أصله، وأجمع ما كتب في هذا
العصر وأوسعه وأنفعه - فيما نعلم - كتاب (تهذيب الألفاظ العامية) للأستاذ الشيخ
محمد علي الدسوقي خريج دار العلوم المصرية، والمدرس في المدارس الأميرية،
وقد نفدت الطبعة الأولى منه فأعاد النظر فيه، وصحح ما كان قد ظهر له من خطأ
فيه وزاد فيه زيادة صالحة ثم طبعه 1338 طبعة ثانية بلغت صفحاتها 318 صفحة.
وقد وضع الكتاب مقدمة في أدواء العربية العامية وأدويتها التي ترجع بها إلى
أصلها - وهي اللحن ودواؤه النحو، والتحريف ودواؤه بيان أصله ورده إليه،
والدخيل ودواؤه يتوقف على تأليف مجمع لغوي
…
وانتقل إلى مبحث التعريب
فأطال الكلام فيه، وما يتعلق به ولا سيما التعريب من اللغات الإفرنجية الذي كثر
الجدال وعظم الخلاف فيه في المجمع اللغوي الذي ألف بمصر وفي غيره، ويلي
ذلك فصول في الوسائل العلمية لتعميم اللغة الصحيحة ونسخ العامية بها سماها
(الأدوية العامة) وفصول أخرى من تاريخ اللغة بحث فيها تهذيبها وأدوار تنقيحها قبل
الإسلام وبعده وفي الأعراض التي ظهرت عن داء التحريف وهي عشرة، وفي
بعض اللهجات الموروثة عن العرب. هذه جملة مباحث المقدمة، وأما مباحث الكتاب
فقد جعلها في جداول مقسمة إلى أقسام:
(الأول) ما تنطق به العامة صحيحًا ويُظَنُّ أنه عامي.
(الثاني) المُحَرَّف بالحركات والأوزان.
(الثالث) المُصَحَّف بالحروف. ويتبعه مباحث المهموز والممدود والمشدَّد
والمخفَّف واللازم والمتعدي، وما تزيد فيه العامة، وما تنقص منه وما تقلبه، وما
تستعمله من البحث والجمع والإفراد والنسب أي ما تخالف فيه العربية الفصيحة من
ذلك وغيره ويليه المُوَلَّد والفرق بينه وبين المصنوع.
(والقسم الرابع) في سرد الكلمات العامية ومرادفاتها العربية في أثاث المنزل
ومتاعه وماعونه وهو مُرَتَّب على حروف المعجم.
ولا يحتاج القارئ بعد هذا البيان الوجيز لمباحث هذا الكتاب إلى شهادة له بأنه
جدير بأن يسمى تأليفًا جديدًا مفيدًا، وأنه جدير بعناية علماء اللغة العربية والساعين
لإحيائها وأنه ينبغي لأهل الأقطار العربية الأخرى في الشرق والمغرب بأن يحصوا
من ألفاظ عوام بلادهم ما أحصاه المؤلف.
***
(مذكرات غليوم الثاني)
شرع الكاتبان: محب الدين أفندي الخطيب، وأسعد أفندي داغر في ترجمة هذه
المذكرات وطبعها في أجزاء صغيرة كالمجلات، وسيكون الكتاب بعد تمامه 200
صفحة، وثمنه خمسة قروش، وقد صدر العدد الأول منه في 52 صفحة، وهو
ربعه ولكن جعل ثمنه 4 قروش، وقد طبع بالمطبعة السلفية على ورق جيد ويطلب
من مكتبتها وسائر المكاتب.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الخلافة الإسلامية
(5)
33-
كراهية غير المسلمين لحكومة الخلافة:
قد يقول قائل: إن غير المسلمين في البلاد التي توصف بالإسلامية (نسبة
للسواد الأعظم من أهلها) يكرهون أن تؤسس حكومة الخلافة فيها، ولا سيما
النصارى الذين يرون أن ضعف النفوذ والتشريع والآداب والتقاليد الإسلامية في كل
بلد إسلامي إنما يكون بقوة نفوذ الإفرنج وتشريعهم وآدابهم وتقاليدهم - وكذا لغاتهم -
وبذلك تكون مقومات الأمة ومشخصاتها أقرب إلى النصرانية منها إلى الإسلام، ومن
لم يؤمن بالعقيدة النصرانية والوصايا الإنجيلية بمحبة الأعداء وكراهية الغنى وإدارة
الخد الأيسر لمن يضربه على خده الأيمن - فإنه قد يكون أشد استمساكًا بالنصرانية
الاجتماعية السياسية أقوى من المؤمنين بالإنجيل إيمانًا، فتلك النصرانية المُزَوَّرَة
التي تنسب إليها المدنية المادية الأوربية هي مثار التعصب والكراهة لكل ما هو
إسلامي، لا نصرانية الإنجيل الزاهدة المتواضعة الخاشعة ذات الإيثار الذي يسمونه
(إنكار الذات) .
وإذا كان أمثالهم من مُتَفَرْنِجَة المسلمين يكرهون الحكومة الدينية ويعارضون
في إحياء منصب الخلافة، أفلا يكون متفرنجة النصارى أولى؟ وإذا كان الأمر
كذلك فكيف نعود إلى تجديد حكومة دينية يكرهها كثير من رعاياها وينفرون منها؟
الجواب عن هذا يحتاج إلى تفصيل نكتفي بالضروري منه فنقول: إذا صح
ما يُعْزَى إلى من ذُكر من أهل الوطن بمقتضى العاطفة وتأثير التربية فإن مَن
يمحص الحقيقة وينظر إليها بعين المصلحة سواء كان منهم أو من غيرهم فإنهم
يحكمون فيها حكمًا آخر.
إن حكومة الخلافة إسلامية مدنية قائمة على أساس العدل والمساواة إلا أن
لغير المسلمين فيها من الحرية الشخصية ما ليس للمرتد والمنافق من المسلمين،
فهؤلاء يريدون أن يكون الإسلام رابطة جنسية أدبية حرة بحيث يكون لهم في
حكومته جميع حقوق المسلمين الشرعية والعرفية والقانونية، وإن صرحوا بأنهم لا
يدينون الله بالإيمان بعقيدته ولا بإقامة أركانه وشعائره وهم يعلمون أن الحكومة
الإسلامية لا تعطيهم شيئًا من ذلك، حتى إن المرأة إذا علمت من زوجها أنه ارتد عن
الإسلام حرم عليها أن تقيم معه وتستمر على عصمته، وأحكام المرتدين معروفة،
فأمرهم أغلظ من أمر الوثنيين، دع الكتابيين الذين تحل ذبائحهم والتزوج
بالمحصنات من نسائهم، ولا تعاقب الحكومة الإسلامية غير المسلمين على كل
شيء يحل لهم في دينهم - وإن لم يكن حلالاً في الإسلام - إلا ما فيه إيذاء لغيرهم -
بل لا تحاسبهم على شيء من أعمالهم الشخصية التي لا تضر المسلمين ولا غيرهم
من رعيتها وإن خالفت دينهم، ولكنها تحاسب المسلمين وتعاقبهم على المعاصي
بالحدود وأنواع التعزير كالتوبيخ والحبس، وذلك أن من أصول الإسلام حفظ
الآداب والفضائل ومنع الفواحش والمنكرات، وقد وصف الله المسلمين بقوله:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ المُنكَرِ} (الحج: 41) وقال فيهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) وأحكام الردة
والحسبة في الإسلام معروفة.
فعُلم بهذا أن ملاحدة المسلمين وفُسَّاقهم المستهترين أجدر أن يكونوا أشد
كراهية لإقامة أحكام الشريعة من غير المسلمين؛ لأنها تكلفهم ما لا تكلف غيرهم
وتؤاخذهم بما لا تؤاخذهم به، وقد اقترح بعض هؤلاء الملاحدة على جماعة المؤتمر
السوري العام الذي عقد في دمشق أن يقرروا جعل الحكومة السورية غير دينية،
ولا أذكر أن أحدًا من الأعضاء النصارى وافق على الاقتراح، بل صرح بعضهم
برده كأكثر المسلمين، واقتُرِحَ في ذلك المؤتمر أن تقيد مادة الحرية الشخصية من
القانون الأساسي بقيد عدم الإخلال بالآداب العامة، فرد هذا الاقتراح بعض هؤلاء
الموصوفين بالمسلمين وصرَّح بعضهم بتعليل الرد بأنه يترتب عليه أن يجوز
للشرطة منع الرجل من الجلوس مع امرأة في ملهي من الملاهي أو مقهى من
المقاهي العامة لمعاقرة الخمر !! وقد كان ردُّ هذا الاقتراح أقبحَ خزيٍ صدر من
ذلك المؤتمر، وإن علل الرد بعضهم بالاستغناء عن قيد الآداب العامة بقيد القوانين
التي يمكن أن ينص فيها على ذلك القيد، وخُدع بعض أهل الدين والأدب بذلك،
وما كان ينبغي لهم أن يُخدعوا، بل أقول: إن أكثر النصارى من أعضاء ذلك
المؤتمر كانوا أقرب إلى المسلمين المتمسكين بأحكام الإسلام منهم إلى المنفلتين من
الدين، وإن كانوا يتقربون إليهم وينتصرون لهم فيما يوافق أهواءهم من مخالفة
هداية الدين العامة.
وقد ثبت بالتجارب أن غير المتدينين إذا اختلفوا لأسباب سياسية أو غيرها
فإنهم يكونون أشد عداوة وقسوة بعضهم على بعض من المتدينين بالفعل من الفريقين -
فالمتدين وإن شذ يكون أقرب إلى الرحمة من المادي - واعتبر ذلك بما وقع من
القسوة في هذه الحرب البلقانية العامة بين الأوربيين أنفسهم وبين من غلبت عليهم
تربيتهم من الأرمن والروم والترك.
وأضرب مثلاً آخر: الدكتور (برتكالوس) الرومي قال لجماعة من السوريين
كانوا يُظْهِرُونَ الابتهاج والسرور بالدستور العثماني عقب إعلانه: إن حكم الشريعة
الإسلامية خير لنا - معشر النصارى - من حكم الدستور الذي يسلبنا كثيرًا مما أعطتنا
الشريعة من الامتيازات، ويُحمِّلنا ما أعفتنا من التكليفات. وأيد كلامَه اشتدادُ العداء
بين الترك وبين الروم والأرمن وغيرهما بعد الدستور الذي ترتب عليه سلب هؤلاء
كثيرًا مما كان لهم منذ كان الحكم بالشرع وحده.
وإنني أعقب على هذا القول بأن أشد ما يتبرم به متفرنجة الترك من أحكام
الشريعة هو ما أعطته من الحرية الواسعة لغير المسلمين في بلاد الإسلام، ويرون
أنه لولاها لصارت هذه البلاد ملة واحدة كبلاد أوربا التي لم يكن فيها شيء من هذه
الحرية، ولاستراحت من العداوات والفتن التي أثارها عليهم نصارى الرومللي
فالأناضول بدسائس أوربة حتى كانت سبب انحلال السلطنة العثمانية. هذا رأيهم،
ومن الغريب أن كثيرًا من نصارى بلادنا المتفرنجين يوافقونهم على هذه النظرية،
ويقولون ياليت المسلمين أكرهوا أجدادنا على الإسلام في أزمنة الفتح والقوة، إذًا كنا
في أوطاننا أمة واحدة ذات ملة واحدة فنسلم من شقاء هذا الشقاق والفتن المخربة
للبلاد.
لا مجال في هذا المقام لتحرير القول في هذه المسألة، وليس من الصعب بيان
خطأ مَن يظن أن معاملة نصارى الدولة بعدل الشريعة الإسلامية وحريتها هو الذي
ألبهم عليها، ولا إثبات أن الذي ألبهم ثم أثارهم هو جهل رجال الدولة وغفلتهم عن
دسائس أوربة في هذه الشعوب وما بثوا في مدارسها وكنائسها، وإنما غرضنا من
ذكرها أن الشريعة الإسلامية خير للنصارى في بلاد أكثر أهلها مسلمون، من حكومة
مدنية لا يتقيد أهلها بأصول هذه الشريعة - كما كانوا في عهد الخلفاء من العرب - فإن
الفرق الحقيقي بين الحكومتين هو أن الأكثرية المسلمة لا يحل لها أن تتبع هواها
في التشريع الديني ولا في التنفيذ بما يعد ظلمًا للأقلية غير المسلمة؛ لأن الله تعالى
حرَّم الظلم تحريمًا مطلقًا لا هوادة فيه ولا عذر، وأوجب العدل إيجابًا مطلقًا عامًّا لا
محاباة فيه، وحذَّر تحذيرًا خاصًّا من ترك العدل في حالة الكراهية والبغض من أي
فريق كان بقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) أي ولا يحملنكم بُغْضُ
قوم لكم أو بغضكم لهم - قال بعض المفسرين: أي الكفار، والصواب أنه أعم - على
أن لا تعدلوا فيهم بل اعدلوا فيهم كغيرهم - وحذفُ المعمول دليلُ العموم- أي
اعدلوا عدلاً مطلقًا عامًّا في المؤمن والكافر والبر والفاجر والصديق والعدو إلخ، وقال
في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى
أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135)
أي كونوا قائمين بالعدل في الأحكام وغيرها على أكمل وجه - كما تدل صيغة
المبالغة - شهداء لله في إثبات الحق، وما كان لله لا يميز فيه المؤمن نفسه ولا والديه
وأقرب الناس إليه على غيره؛ لأن هذا التمييز إيثار لنفسه أو لقريبه على ربه الذي
جعل الشهادة له سبحانه، ولا يفرق فيه بين الغني والفقير بأن يحابي الغني طمعًا في
نواله والفقير رحمة به، وقَفَّى على هذا الأمر بالنهي عن ضده وهو اتباع هوى النفس
كراهية للعدل، وبحظر اللَّىّ والتحريف للشهادة أو الإعراض عنها أو عن الحكم
بالحق، وتهدد فاعل ذلك وتوعده بأنه خبير بأمره لا يخفى عليه منه شيء. دع ما
ورد في الأحاديث النبوية من الوصية بأهل العهد والذمة خاصة، ولولا ذلك لفعلت
الحكومات الإسلامية القوية بالمخالفين لهم ما فعل غيرهم من إبادة بعض وإجلاء
آخرين عن ديارهم أو إكراههم على الإسلام أو سن قوانين استثنائية لقهرهم وإذلالهم.
وفي التاريخ العثماني أن السلطان سليمان استفتى شيخ الإسلام أبا السعود العمادي
الدمشقي الأصل في إكراه النصارى على الإسلام أو الجلاء، فأبى أن يفتيه وبيَّن له
أن الشريعة لا تبيح ذلك، فأذعن وكان يريد أن يفعل بهم كما فعلت الدولة الأسبانية
بمسلمي الأندلس.
وثَم فرق آخر بين الشرع الإسلامي والاشتراع البشري الذي لا تتقيد حكومته
بالدين هو في مصلحة غير المسلمين أيضًا، وهو أن كل مسلم يعتقد أن الحكم
الشرعي حكم إلهي، وأن طاعته قربة وزلفى عند الله يُثاب عليها في الآخرة،
وعصيانه عصيان لله تعالى يُعاقَب عليه فيها، سوء حكم به الحاكم عليه أم لا، ولكن
حكم الحاكم يرفع خلاف المذاهب فتكون طاعته ضربة لازب، وهذا ضمان لغير
المسلم، الوازع فيه نفسيّ، ولا ضمان مثله للمسلم من غيره.
(فإن قيل) : كل ذي دين يحاسب نفسه (أو ضميره) على ما يعتقده من
حق عليه.
(قلنا) : هذا عام مشترك وما نحن فيه أخص منه، وهو احترام الحكم
الشرعي، ووجوب طاعة الحاكم إذا حكم عليه سواء اعتقد صحته أم لم يعتقد، وإن
أمن عقاب الحكومة في التفصي منه بالحيلة.
وجملة القول: إنه ليس في الشريعة ظلم لغير المسلم يُعْذَر به على كراهيتها،
وهي تساوي بين أضعف ذمي أو معاهد وبين الخليفة الأعظم في موقف القضاء
وتقرير الحقوق، والشواهد على هذا في عصر الخلافة الراشدة وما بعدها متعددة،
وإننا نصرح بكل قوة بأن العدل العام المطلق لم يوجد إلا في الإسلام
ولا نعرف لهم مطعنًا في هذه المساواة إلا مسألة رد شهادة غير المسلم على المسلم،
وهي مسألة لا يقوم دليل على إطلاق القول فيها بل لها مخرج من الكتاب والسنة
وأصول الشريعة، فقد قال تعالى في سورة المائدة، وهي من آخر ما نزل من القرآن
ليس فيها حكم منسوخ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ
حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: 106) الآية -
والمتبادَر الذي عليه جمهور السلف والخلف أن المراد بـ (غيركم) غير المخاطبين
بالآية، وهم المسلمون، وخصه بعض العلماء بأهل الكتاب، ولا دليل على هذا
التخصيص، وقيَّدَه بعضهم بمثل الحالة التي نزلت فيها الآية بناء على أن الأصل
في شهادة غير المسلم العدل أن ترد؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) وقد بيَّنا ضعف الاستدلال بهذه الآية على ما ذكر في تفسير آية المائدة
بتفصيل، منه أن هذا في الأمر بالإشهاد في مسألة المطلقات المعتدات من المسلمات
لا في الشهادة مطلقًا ولا في كل إشهاد، وقد قال الله تعالى في الإشهاد على الأموال:
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} (النساء: 6) ولم يقيِّد هذا الإشهاد
بالعدول من المؤمنين كما قيده في المسألة الخاصة بالنساء المسلمات، وبيَّنا ضعف
حمل المُطْلَق على المقيَّد في الآيتين مع اختلاف موضوعهما، والفرق بين الإشهاد
والشهادة، كما بيَّنا ضعف القول بأن غير المسلم لا يكون عدلاً بدليل القرآن؛ إذ جاء
فيه: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: 159) وقوله:
{وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (آل عمران: 75) كما بيَّنا
ضعفه بدليل سيرة البشر المعلومة بالاختبار والعقل، وهو أنه لم توجد أمة من الأمم
جردت من الصدق والعدالة بحيث لا يصدق أحد من أهلها، وبيَّنا أيضًا سبب
تفضيل الفقهاء للمسلم على غيره في الشهادة من أربعة أوجه، أهمها ما كان عليه
المسلمون الأولون من التقوى والصدق وعدم المحاباة عملاً بوصايا الدين التي تقدم
بعض الآيات فيها آنفًا، وما اتفق عليه المؤرخون في مقابلة ذلك من غلبة فساد
الأخلاق على الأمم الأخرى التي فتح المسلمون بلادها.
وفي أصول الشريعة مستند آخر لشهادة غير المسلم، وهو دخولها في عموم
البينة إذا ثبت عند القاضي صدقه فيها، فإن البينة في اللغة كل ما يتبين به الحق،
وقد فصَّل المحقق ابن القيم هذا المعنى في كتابه: (إعلام الموقعين) ونشرنا ذلك
في المنار وبيَّنا أنه يدخل في عموم البينة كل ما تجدد في هذا العصر من أنواع الكشف
عن الجرائم، كأثر خطوط الأصابع على الأشياء مثلاً، ومن أراد التفصيل فعليه
بالمنار وتفسيره.
فلم يبق بعد هذا البيان على إجماله من عذر لغير المسلمين إذا كرهوا إحياء
الشريعة الإسلامية العادلة لمحض التعصب الأعمى أو لتفضيل تشريع الأجانب على
تشريع من يشاركهم في وطنهم، وليس من الحق ولا من العدل أن تكلف أمة ترك
منقبة التشريع الفضلى ومثل هذه الحكومة المثلى؛ إرضاء لفئة قليلة لا مصلحة لها
في تركها وإنما تكرهها لمحض التعصب على السواد الأعظم من أهل وطنها،
وناهيك بما تأرّث من الضغائن بين مسلمي الأناضول والروم والأرمن الذين خرجوا
على الترك في زمن محنتهم وساعدوا أعداءهم عليهم في حربهم.
وموضوع الكلام في إقامة الخلافة في هذه البلاد التركية، فإذا رضي الترك
بذلك وعاملوا هؤلاء الجناة البغاة بعدل الشريعة ورحمتها، فلا يُعقل أن يكرهوا ذلك
أو يفضلوا عليه غيره إن كانوا يعقلون، وإنما أخشى أن يكون هذا الأمر نفسه مما
ينفر كثيرًا من الترك عن إقامة الشريعة التي تحرم أن يتبعوا الهوى في معاملة أقوام
أولئك الجناة القساة الذين خربوا ديارهم بالنار والبارود وهم يرونها بأعينهم أكوامًا
من الرماد والأنقاض.
وهذه حكومات جزيرة العرب إسلامية محضة ليس فيها قوانين وضعية ولا
تشريع أوربي، وأقدَمها حكومة أئمة اليمن، وهنالك كثير من اليهود وهم راضون من
حكومة الإمامة الشرعية لم يشْكوا منها ظلمًا ولا هضمًا ولا يفضِّلون عليها حكومة
أخرى، ولو سرى إليهم سم السياسة الاستعمارية من طريق التعليم أو غيره لأفسدوهم
على حكومتهم وأثاروهم عليها لطلب وطن قومي لهم في البلاد، وَلَوَعَدَهم نافثو السم
بالمساعدة على ذلك حبًّا في الإنسانية، أي حبًّا بإفساد الإنسانية وإثارة البغضاء بين
المختلفين في الدين والجنس أو اللغة بعضهم على بعض؛ ليتمكنوا هم من استعباد
الجميع {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
***
34-
الخلافة ودول الاستعمار:
من البديهي [1] أن إقامة الخلافة الإسلامية يسوء رجال دول الاستعمار، وأنهم
قد يقاومونها بكل ما أوتوا من حول، وقوة وأحرصهم على ذلك الدولة البريطانية.
ولا أجهل ممن يظنون أنها كانت تسعى قبل الحرب لجعل الخلافة في الأمة العربية،
إلا الذين يظنون اليوم أنها تود تأسيس دولة أو دول عربية! ولو كانت تريد هذا من
قبل لكان أقرب طرقه مساعدة أئمة اليمن المجاورين لها في منطقة عدن على التُّرك
بالسلاح والمال لتنظيم جيشهم والاستيلاء على الحجاز؛ فإن حكومة الإمامة في اليمن
قوية عادلة قديمة راسخة يرجع تاريخها إلى القرن الثالث من الهجرة وقد حاربتها
الدولة العثمانية زهاء أربعة قرون لإسقاطها فعجزت عن ذلك، ولكن الحكومة
البريطانية كانت لها بالمرصاد، وما زالت تكيد لها وتسعى بالدسائس والفتن للتدخل
في شؤونها والتوسل بذلك للاستيلاء عليها ولم تستطع ذلك، ولن يجعل الله لها
عليها سبيلاً.
ولقد اشتهر لدى الخاص والعام أن الدولة البريطانية كانت ظهيرة للخلافة
العثمانية التركية، وما ذلك إلا لعلمها أنه صورية وأنها هي التي تنتفع بإظهار
صداقتها لها، وكان رجال هذه الدولة الداهية أعلم الناس بأن هذه الدولة قد دَبَّ في
جسمها الانحلال، وأنها سائرة في طريق الفناء والزوال، وإنما كانوا يحاولون أن
تبقى حصنًا بين القيصرية الروسية المخيفة بسرعة تكونها ونموها، وبين البحر
الأبيض المتوسط على شرط أن تكون قوة هذا الحصن بما وراءه من المساعدة
البريطانية لا بنفسه، وقد بيَّنا هذا في المنار من قبل، وأن الغازي أحمد مختار باشا
وافقنا على أن قاعدة الدولة البريطانية في السياسة العثمانية: أن لا تموت الدولة ولا
تحيا، وبيَّنا أيضًا أن هذه القاعدة قد تغيرت بما كان بين الدولتين - البريطانية
والروسية - على مسائل الشرق، واقتسامهما بلاد إيران قبل الحرب، وأنها تجنح إلى
إقامة خلافة عربية صورية تكون آلة بيدها بعد الحرب العامة، والتمكن من خداع
شريف مكة وتسخيره لمساعدتها، ونحمد الله أن جعلنا من أسباب خيبة هذا السعي
حتى لم يتم لها.
قد عنيت الدولة البريطانية منذ أول زمن هذه الحرب بالبحث في مسألة
الخلافة، وطفق رجالها يستطلعون علماء المسلمين وزعماءهم في مصر والسودان
والهند وغيرها آراءهم فيها ليكونوا على بصيرة فيما يريدونه من إبطال تأثير إعلان
الخليفة العثماني الجهاد الديني بدعوى بطلان صحة خلافته من جهة، وبدعوى أن
هذه الحرب لا شأن للدين فيها من جهة أخرى، وقد وجد من منافقي الهند مَن كَتَبَ
لهم رسالة باللغة الإنكليزية في ذلك وأرسلها إلينا ناشرها لنترجمها بالعربية
وننشرها في المنار، فعجبنا من جهله ونفاقه، ولولا المراقبة الشديدة على الصحف
عامة والمنار خاصة في تلك الأيام لرددنا عليها، وقد اطلعنا على ما كتبه بعض
علماء مصر لهم في الخلافة، وهو نقل عبارة (شرح المقاصد) وعبارات أخرى
في معناها، وعلمنا أن بعض العلماء كتب لهم بعض الحقائق فيها.
وقد دارت بيننا وبين بعض رجالهم مناقشات في المسألة العربية اقتضت أن
تكتب لهم مذكرات في تخطئة سياستهم فيها، بيَّنا في المذكرة الأولى منها التي قدمناها
لهم في أوائل سنة 1915 أن أكثر مسلمي الأرض متمسكون بالدولة العثمانية
وخليفتها؛ لأنها أقوى الحكومات الإسلامية وأنهم يخافون أن يزول بزوالها حكم
الإسلام من الأرض، وأن هذا أعظم شأنًا من بقاء المعاهد المقدسة سليمة مصونة،
بل بيَّنا لهم أيضًَا أن إعلانها الجهاد شرعي، وأن سبب ضعف تأثيره في مثل مصر
هو الاعتقاد بأنها منتصرة مع حلفائها فلا تحتاج إلى مساعدة.
وعدت إلى بحث الخلافة في آخر مذكرة منها وهي التي أرسلتها إلى الوزير
لويد جورج في منتصف سنة 1919 فقلت في بيان ما يرضي المسلمين من إنكلترا:
(إن الوزير قد علم أن الاعتراف باستقلال الحجاز وتسمية أمير مكة ملكًا لم يكن
له ذلك التأثير الذي كان الإنكليز يتوقعونه من قلوب المسلمين - ذلك بأن بلاد
الحجاز أفقر البلاد الإسلامية وأضعفها في كل شيء، وهي موطن عبادة لا ملك
وسيادة، ولم يكن المسلمون مضطربين من الخوف على المساجد المقدسة أن تهدم أو
يمنع الناس من الصلاة فيها والحج إليها وزيارته، بل الاضطراب الأعظم على
السلطة الإسلامية التي يعتقدون أن لا بقاء للإسلام بدونها، والحرص على بقائها
ممزوج بدم كل مسلم وعصبه، فهو لا يرى دينه باقيًا إلا بوجود دولة إسلامية
مستقلة قوية قادرة بذاتها على تنفيذ أحكام شرعه بغير معارض ولا سيطرة أجنبية،
وهذا هو السبب في تعلق أكثر مسلمي الأرض بمحبة دولة الترك واعتبارهم إياها
هي الدولة الممثلة لخلافة النبوة مع فقد سلطانهم لما عدا القوة والاستقلال من شرطها
الخاصة، ولولا ذلك لاعترفوا بخلافة إمام اليمن لشرف نسبه وعلمه بالشرع
واستجماعه لغير ذلك من شروط الخلافة، ذلك بأن الشروط تعد ثانوية بالنسبة إلى
أصل المطلوب. مثال ذلك: أن الحكومة المصرية تشترط في مستخدميها أن يكونوا
مصريي الجنس عارفين باللغة العربية حاملين لشهادات مخصوصة - ولكنها عندما
تحتاج إلى مستخدم فني لعمل لا يوجد مصري يعرفه تترك اشترط ذلك فيه؛ لأنه
إنما يُقَدَّم المستوفِي للشروط على غيره إذا كان قادرًا على أصل العمل المطلوب) .
اهـ. المراد هنا من مذكرتنا إلى لويد جورج.
وكان الغرض من هذا أن لا يغترُّوا بما يعلمون من عدم استجماع الخليفة
التركي لشروط الخلافة، ولا بما كانوا يرمون إليه من جعل شريف مكة خليفة بعد
اعترافه لهم بأن مكان الأمة العربية من إنكلترا مكان القاصر بالطفولية أو العَتَه من
الوصي ورضاه بحمايتهم له ولها، وقد صرحنا للوزير في هذه المذكرة بأن الذي
يرضي العالم الإسلامي من دولته ترك الشعوب الإسلامية العربية والتركية
والفارسية أحرارًا مستقلين في بلادهم وبقاء مسألة الخلافة على ما هي عليه إلى أن
يمكن تأليف مؤتمر إسلامي عام لحل مشكلتها، وقد بيَّنا فيها أيضًا أن هذه الدولة
مستهدفة لعداوة الشرق كله بالتبع لعداوة العالم الإسلامي، فلا يغرنها ضعف المسلمين
وتفرقهم فتحتقر عداوتهم مع كونهم مئات الملايين، فإنهم لن يكونوا أضعف من
(ميكروبات) الأوبئة، وسننشر هذه المذكرة في الوقت المناسب.
لم يبال هذا الوزير بنصح هذه المذكرة فاستمر على سياسة القضاء على دولة
الترك واستعباد العرب حتى خذله الله وخذله قومه وأسقطوا وزارته، لكن بقي أشد
أنصاره في الوزارة التي خلفتها وهو لورد كرزون الذي هو أشد تعصبًا وعداوة
للمسلمين منه؛ فلذلك لم يتغير من سياسة الدولة شيء في المسألة الإسلامية إلا ما
اضطرت إليه من مجاملة الدولة التركية الجديدة بعد تنكيلها بالجيش اليوناني الذي
أغرته وزارة لويد جورج بالقضاء على ما بقي للترك من القوة في الأناضول، فأثبتت
بذلك أنها لا تلين إلا للقوة وأما الحق والعدل والوفاء بالعهود والوعود فلها في
قاموس سياستها معانٍ أخرى غير ما يعرفه سائر البشر في لغاتهم.
* * *
35-
الخلافة وتهمة الجامعة الإسلامية:
إن العيب الأول لكون الدولة البريطانية هي الخصم الأكبر الأشد الأقوى من
خصوم الخلافة الإسلامية هو أنها تخشى أن تتجدد بها حياة الإسلام وتتحقق فكرة
الجامعة الإسلامية فيحول ذلك دون استعبادها للشرق كله، وقد نشرنا في مجلدات
المنار أقولاً كثيرة للساسة الأوربيين في هذه المسألة، من أهمها ما نشرناه في المجلد
العاشر سنة 1325 من رأي كرومر في تقريره السنوي في مصر والسودان سنة
1906 فيها، وأهمه قوله:
(المقصود من الجامعة الإسلامية بوجه الإجمال اجتماع المسلمين في العالم
كله على تحدي قوات الدول المسيحية ومقاومتها، فإذا نُظر إليها من هذا الوجه وجب
على كل الأمم الأوربية التي لها مصالح سياسية في الشرق أن تراقب هذه الحركة
مراقبة دقيقة لأنه يمكن أن تؤدي إلى حوادث متفرقة فتضرم فيها نيران التعصب
الديني في جهات مختلفة من العالم .....)
ثم ذكر أن للجامعة الإسلامية معانيَ أخرى أهم من المعنى الأصلي، وهي:
(أولها) في مصر الخضوع للسلطان وترويج مقاصده
…
(وثانيها) استلزامها لتهييج الأحقاد الجنسية والدينية إلا فيما ندر
…
(وثالثها) السعي في إصلاح أمر الإسلام على النهج الإسلامي!! وبعبارة
أخرى السعي في القرن العشرين لإعادة مبادئ وضعت منذ ألف سنة هدًى لهيئة
اجتماعية في حالة الفطرة والسذاجة.
وذكر أن عيب هذه المبادئ والسنن والشرائع هو المناقضة لآراء أهل هذا
العصر في علاقة الرجال بالنساء. وأمرًا ثالثًا، قال: إنه أهم من ذلك كله، وهو
إفراغ القوتين المدنية والجنائية والملية في قالب واحد لا يقبل تغييرًا ولا تحويرًا
(قال) : وهذا ما أوقف تقدم البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام) .
ثم قَفَّى على تحذير الأوربيين من الجامعة الإسلامية بتحذيرهم من الجامعة
الوطنية؛ لئلا تتجلبب بها الأولى (التي هي أعظم الحركات المتقهقرة) .
رددنا على اللورد كرومر في كل هذه المسائل ردًّا مسهبًا ورد غيرنا عليه
أيضًا، وفي هذه المباحث ما فيها من تفنيد كلامه، وغرضنا هنا أن نبين شدة
اهتمام الإنكليز بمقاومة الجامعة الإسلامية بكل معنى من معانيها وتحريضهم جميع
الأوربيين وجميع النصارى عليها، وعلى مَن يتصدى لها وتخويف المسلمين منها.
ولقد كان من إرهاب أوربة للشعوب الإسلامية وحكومتها أن جعلتها تخاف
وتحذر كل ما يكرهه الأوربيين منها وتُظهر الرغبة في كل ما يدعونها إليه وجروا
على ذلك حتى صار الكثيرون منهم يعتقدون أن ما يَستحسن لهم هؤلاء الطامعون
فيهم هو الحسنُ، وما يستقبحونه منهم هو القبيحُ؛ إذ تربوا على ذلك ولم يجدوا
أحدًا يبين لهم الحقائق. وكان هذا عونًا لهم على سلب استقلال هؤلاء المخدوعين
والمرهبين في بعض البلاد وغلبة نفوذهم على نفوذ الحكومة في بلاد أخرى كمصر
والدولة العثمانية، واستحوذ الجبن والخور على رجال الحكومات في هذه البلاد حتى
إن أركان الدولة العثمانية لم يتجرأوا على الإذن لنا بإنشاء مدرسة إسلامية في
عاصمتها باسم (دار الدعوة والإرشاد) كما تقدم، ولم يكونوا كلهم يجهلون ما
ذكرت، بل قال لي شيخ الإسلام حسني أفندي رحمه الله تعالى: إن عندنا قاعدة
مطردة في الإفرنج هي أن كل ما يرغبوننا فيها فهو ضار بنا وكل ما ينفروننا عنه
فهو نافع لنا. وإنما هو جبن بعض الرؤساء وفساد عقائد بعض، وما الجبن إلا
غشاوة من الوهم على عين البصيرة انقشعت عن ترك الأناضول فرأوا أنهم بعد
انكسارهم في الحرب العامة وفقدهم لتلك الممالك الواسعة أعز وأقوى مما كانوا عليه
منذ مائتي سنة؛ إذ كانت البلاد فيها تنتقص من أطرافها ونفوذ الأجانب في عاصمة
الدولة فوق نفوذ خليفتها وسلطانها.
لهذا السبب ينوط الرجاء بحكومة الأناضول ألوف الألوف من المسلمين أن
تحيي منصب الخلافة وتجدد به مجد الإسلام وشريعته الغراء التي يُرْجَى أن يتجدد
بإحيائها مجد الإنسانية ويدخل البشر في عصر جديد ينجون به من مفاسد المَدَنِيَّة
المادية التي تهدد العمران الأوربي بالزوال.
أنا لا أتصور أن يكون الرعب من معارضة دول أوربة الاستعمارية هو الذي
يمنع الترك من إقامة الخلافة الإسلامية؛ فإن هذا شكل حكومتنا ومقتضى ديننا،
وطالما صرحت هذه الدول بعد الحرب بأنها لا تفتات على المسلمين في أمر الخلافة،
وأما الجامعة الإسلامية فهي مسألة أخرى، ولكل دولة لها رعايا من المسلمين أن
تسوسهم بالطريقة التي تراها أحفظ لمصلحتها، نعم لن يكون الإفرنج هم الذين
يمنعون إقامة الخلافة ولكن الذي يخشى أن يمنعها إنما هم المتفرنجون دون غيرهم
وقد شرحنا ذلك من قبل.
من المعقول في السياسة أن يطعن المستعمرون للبلاد الإسلامية في جامعة
دينية يظنون أنها قد تفضي إلى انتفاض أهل هذه البلاد عليهم، ويخافون أن تكون
الخلافة الحق سببًا لتحقق هذه الجامعة، وأن يطعنوا في الشريعة الإسلامية وينفروا
المسلمين منها لأجل ذلك كما يطعن فيها دعاة النصرانية لهذه العلة وللطمع في
تنصير المسلمين، وهذا الخوف من إقامة الخلافة يكون على أشده إذا كان الباعث
على إقامتها السياسة المحضة التي يستحل أصحابها كل عمل لأجل مصلحتهم، وقد
يكون ذلك إذا كان الباعث دينيًّا محضًا وهو إقامة حكم الإسلام كما شرعه الله تعالى،
وليس من شروطها أن يتبعها جميع المسلمين، ونحن نعلم أن هذا متعذِرٌ غير
مُسْتَطَاع في هذا الزمان وتكليفُ غير المستطاع ممنوعٌ في الإسلام: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) بل نحن نرى الرأي الغالب في بعض البلاد
يأبى إحياء الخلافة حتى إننا نجتهد في إقناع الحكومة التركية الحاضرة به ونشك في
قبولها، فإن زعيمها وصاحب النفوذ الأعلى في أقوى أحزابها يصرح في خطبه بأن
السلطة في هذه الحكومة للأمة التي يمثلها المجلس الوطني الكبير بلا شرط ولا قيد،
وأنه لا يمكن أن يكون لشخص معين نفوذ فيها مهما يكن لقبه، أي خليفة سُمِيَ أو
سلطانًا.
لما أذاع الاتحاديون عزمهم على إنشاء مدرسة جامعة إسلامية في المدينة
المنورة وابتداع سجل لطلاب الشفاعة النبوية فيها، وقالت الجرائد وغير الجرائد: إن
مرادهم بذلك إحياء الجامعة الإسلامية - كتبتُ مقالة في هذا الموضوع نشرتها في
المجلد السابع عشر من المنار (سنة 1330) قلت فيها نصه:
(وأما رأيي الذي أنصح به الدولة فهو أن تصدي رجاله السياسيين لتحريك
أوتار الجامعة الإسلامية يضر الدولة كثيرًا ولا ينفعها إلا قليلاً، ويوشك أن تكون
هذه الأقوال التي قيلت في هذه المسألة - على قلة تأثيرها- من أسباب ما نراه من
شدة تحامل أوربة عليها، وأكتفي في هذا المقام بالمثل الذي يكرِّره الإمام الغزالي
(كن يهوديًّا صِرْفًا وإلا فلا تلعب مع اليهود) .
ومُرَادي من هذا أنه يجب عليها أحد أمرين:
(الأول) أن تؤسس حكومة إسلامية خالية من التقاليد والقوانين الإفرنجية إلا
ما كان من النظام الذي يتفق مع الشرع ولا يختلف باختلاف الأقوام، وتعطي مقام
الخلافة حقه من إحياء دعوة الإسلام وإقامة الحدود وحرية أهل الأديان ولا يعجزها
حينئذ أن ترضي غير المسلمين من رعاياها الذين ليس لهم أهواء سياسية ولا ضلع
مع الدول الأجنبية، بل يكون إرضاؤهم أسهل عليها منه الآن إن شاءته، ولو كان لي
رجاء في إصغائها إلى هذا الرأي أو جعله محل النظر والبحث لبينت ذلك بالتفصيل
ولأوردت ما أعلمه من المشكلات والعقبات التي تعترض في طريق تنفيذه من
داخلية وخارجية مع بيان المَخْرَج منها، ثم ما يترتب عليه من تجديد حياة الدولة،
وكونه هو المُنْجِي لها من الخطر، وإن تراءى لكثير من الناس أنه هو المسرع
بالخطر ظنًّا منهم أن أوربة تعجل بالإجهاز على الدولة إذا علمت أنها شرعت
بنهضة إسلامية لعلمها بأن هذه هي حياتها الحقيقية، وكون حياتها بهذا هو ما
يصرح به بعض أحرار الأوربيين، وإن خوف منه بالتمويه والإيهام أكثر
السياسيين.
(الثاني) أن تدع كل ما عدا الأمور الرسمية المعهودة لديها من أمور الدين
إلى الجمعيات الدينية الحرة والأفراد الذين يدفعهم استعدادهم إلى هذه الخدمة، ولها
أن تساعد ما يستحق المساعدة من هذه الأعمال بالحماية، وكذا بالإعانة المالية من
أوقاف المسلمين الخيرية (إذا كانت تريد بقاء الأوقاف العامة في يدها ولم تُجِبْ
طلاب الإصلاح إلى جعل أوقاف كل ولاية في أيدي أهلها) مع بقائها بمَعْزِل عن
السياسة وأهلها، ولولا أن هذا هو رأيي لَمَا اشترطت على رجال الدولة وجمعية
الاتحاد - إذ عرضت عليها مشروع الدعوة والإرشاد - أن يكون في يد جماعة حرة
لا علاقة لها بالسياسة، وأن لا تخصص لها إعانة من خزينة الدولة بل تكون نفقاتها
مما تجمعه هي من الإعانات بأنواعها، ومما تعطاه من أوقاف المسلمين الخيرية
44) اهـ.
هذا ما كتبناه في ذلك الوقت، وقد شرحنا آراء الإفرنج في الجامعة الإسلامية
وما فيها من الأوهام وما ينبغي للمسلمين، مرارًا في مجلدات المنار.
***
36-
شهادة لوردين للشريعة الإسلامية:
ما كل من يتكلم في الإسلام وشريعته من الإفرنج يتكلم عن علم صحيح، وما
كل من لديه علم يقول ما يعتقد؛ فإن منهم من تنطقه السياسة بما تريه من مصلحة
دولته، ومنهم المتعصب الذي لا يبحث عن شيء من أمر الإسلام إلا ما يمكن
الطعن فيه لتشكيك المسلمين في دينهم أو لتحريض أعدائهم عليهم، وقد وُجد فيهم
من قال الحق في الإسلام وشريعته في أحوال اقتضت ذلك.
من هؤلاء لورد كرومر الذي طعن الشريعة تلك الطعنة النجلاء التي أقامت
مصر وأقعدتها، قد اضطر إلى إنصافها وتقييد ما أطلقه من الطعن فيها بما لا ينكره
أحد، وذلك في مجلد المنار العاشر إذ كان هو بمصر، فقد قلت في سياق الرد على
طعنته: إن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى حدثني أنه كان يكلمه مرة في مسألة
إصلاح المحاكم الشرعية في إبان اهتمام الشعب والحكومة بها واعتراض بعض
العلماء على إصلاحها فأقام له الدلائل على أن الإسلام يدعو إلى كل إصلاح ويناسب
كل زمان فقال له اللورد ما ترجمته:
(أتصدق يا أستاذ أنني أعتقد أن دينًا أوجد مدنية جديدة وقامت به دولة
عظيمة لا يكون أساسه العدل؟ هذا محال ولكنني أعلم أن هذه المقاومات - أي
لإصلاح المحاكم - أمور إكليركية) أي تقاليد لرجال الدين الإسلامي كتقاليد الكنيسة
عند النصارى.
هذه الكلمة حملتني على إرسال كتاب إلى اللورد هذا نصه:
القاهرة في 20 ربيع الأول سنة 1325
جناب اللورد العظيم:
أحييك بما يليق بمكانتك وإن لم يسبق لي شرف المعرفة لحضرتك، وأرجو
أن تَمُنَّ عليَّ ببضع دقائق من وقتك الثمين تجيبني فيها عن السؤال الآتي الذي
يهمني من حيث أنا صاحب مجلة إسلامية تدافع عن الدين وتبحث في فلسفته وهو:
هل عنيت بما قلت في تقريرك الأخير عن الحكم بالشريعة الإسلامية التي
وُضِعَتْ منذ أكثر من ألف سنة الدين الإسلامي نفسه الذي هو عبارة عن القرآن
الكريم والسنة النبوية؟ أم عنيت بذلك الفقه الإسلامي الذي وضعه الفقهاء؟ فإن
كنت تعني الثاني فهو من وضع البشر، وقد مزجت فيه آراؤهم بما يأخذونه عن
الأول، وخطَّأ فيه بعضهم بعضًا، وقد ترك حكام المسلمين أنفسهم العمل بكثير منه،
ولطلاب الإصلاح من المسلمين انتقاد على كثير من تلك الآراء في كل مذهب،
وإن كنت تعني الأول فهذا العاجز مستعد لأن يبين لجنابكم أن معظم ما جاء في
الدين نفسه من الأحكام القضائية والسياسية هو من القواعد العامة - وهي توافق
مصلحة البشر في كل زمان ومكان؛ لأن أساسها درء المفاسد وجلب المصالح بحكم
الشورى - وما فيه من الأحكام الجزئية (وهو مُقابل المُعْظَم) راجع إلى ذلك
وأختم رقيمي مودعًا لجنابكم بالتحية والاحترام.
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار بمصر
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا
وقد أجابنا بالكتاب الآتي بنصه العربي موقعًا ومؤرخًا بخطه الإفرنجي، وهو:
كتاب لورد كرومر إلى صاحب المنار:
حضرة صاحب الفضيلة العلامة الشيخ رشيد رضا صاحب جريدة المنار؛
جوابًا على خطابكم أقول: إني عنيت بما كتبت مجموع القوانين الإسلامية التي
تسمونها الفقه؛ لأنها هي التي تجري عليها الأحكام، ولم أَعْنِ الدين الإسلامي نفسه،
ولذلك قلت في هذا التقرير الأخير وفي غيره بوجوب مساعدة الحزب الإسلامي
الذي يطلب الإصلاح، ويسير مع المدنية من غير أن يمس أصول الدين، ولعل
العبارة التي كتبتها بتقريري كانت موجزة فلم تؤدِّ المراد تمامًا، واقبلوا يا حضرة
الأستاذ احترامي الفائق.
…
...
…
...
…
في4 مايو سنة 1907
…
... كرومر
كلمة لورد كتشنر للسيد الزهراوي:
زار السيد عبد الحميد الزهراوي عقب تعيينه عضوًا في مجلس الأعيان
العثماني مصر ونزل ضيفًا عند صديقه صاحب المنار؛ وزار لورد كتشنر العميد
البريطاني في ذلك الوقت بإيعاز، وكنت معه فكان مما قاله له اللورد باللغة
العربية [2] :
إن الدولة العثمانية لا تصلح بالقوانين التي تقتبسها منا - معشر الأوربيين -
ونحن ما صلحت لنا هذه القوانين إلا بعد تربية تدريجية في عدة قرون كنا نغير فيها
ونبدل بحسب اختلاف الأحوال، وإن عندكم شريعة عادلة موافقة لعقائدكم ولأحوالكم
الاجتماعية، فالواجب على الدولة أن تعمل بها وتترك قوانين أوربة، فتقيم العدل
وتحفظ الأمن، وتستغل بلادها الخصبة، وعندي أنها لا تصلح بغير هذا) .
هذه الكلام حق، وإن جاز على قائله الجهل والخطأ فيما يظن أنه لا يصلح لنا
من قوانين أوربة، ونحن نعلم أن كل ما لديهم من حق وعدل في ذلك فشريعتنا قد
سبقت إلى تقريره كما علم مما تقدم، ولتفصيل ذلك مقام آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
إننا نختار ما اختاره علماء المعقول من قدمائنا في النسبة إلى البديهة والطبيعة والغريزة على ألفاظها كالسليقة الذي ثبت سماعًا.
(2)
نشرنا هذا في ص 77 م 17 من المنار.
الكاتب: أحمد بن تيمية
أهل الصُّفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء
وأصنافهم والدعاوي فيهم
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس سره
تابع لما قبله
وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوات متعددة، وكان القتال منها في
تسع مغازٍ مثل بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين، وانكسر المسلمون يوم أحد
وانهزموا. ثم عادوا يوم حنين، ونصرهم الله ببدر وهم أذلة، وحصروا في الخندق
حتى دفع الله عنهم أولئك الأعداء، وفي جميع المواطن (كان) يكون المؤمنون من
أهل الصفة وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقاتلوا مع الكفار قط.
وإنما يَظن هذا ويقوله من الضُلاّل والمنافقين قسمان (قسم منافقون) وإن
أظهروا الإسلام، وكان في بعضهم زهادة وعبادة يظنون أن إلى الله طريقًا غير
الإيمان بالرسول ومتابعته، وأن من أولياء الله من يستغني عن متابعة الرسول
كاستغناء الخضر عن اتباع موسى، وفي هؤلاء من يفضل شيخه أو عالمه أو مَلِكَهُ
على النبي صلى الله عليه وسلم إما تفضيلاً مطلقًا أو في بعض صفات الكمال.
وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم، فإن الله بعث محمدًا صلى الله
عليه وسلم إلى جميع الثقلين إنسهم وجنهم زهادهم وملوكهم، وموسى عليه السلام إنما
بعث إلى قومه لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباعه، بل
قال له: إني على علم من علم الله عَلَّمَنِيهِ الله لا تعلمه، وأنت على علم من الله تعالى
عَلَّمَكَهُ الله لا أعلمه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يُبْعَثُ إلى
قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة) وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأعراف: 158)
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28) .
(القسم الثاني) من يشاهد ربوبية الله تعالى لعباده التي عمت جميع البرايا،
ويظن أن دين الله الموافقة للقدر سواء كان ذلك في عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء
والشفعاء من دونه، وسواء كان في الإيمان بكتبه ورسله والإعراض عنهم والكفر
بهم، وهؤلاء يسوون بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض،
وبين المتقين والفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويجعلون الإيمان والتقوى
والعمل الصالح بمنزلة الكفر والفسوق والعصيان، وأهل الجنة كأهل النار وأولياء
الله كأعداء الله، وربما جعلوا هذا من باب الرضا بالقضاء وربما جعلوه التوحيد
والحقيقية، بنوا على أنه توحيد الربوبية الذي يقر به المشركون وأنه الحقيقة
الكونية، وهؤلاء يعبدون الله على حرف فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابتهم
فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة، وغايتهم يتوسعون في ذلك حتى
يجعلوا قتال الكفار قتال الله، وحتى يجعلوا أعيان الكفار الفجار والأوثان من نفس
الله وذاته، ويقولون: ما في الوجود غيره ولا سواه، بمعنى أن المخلوق هو الخالق
والمصنوع هو الصانع، وقد يقولون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا
مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 148) ويقولون: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} (يس:
47) إلى نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي شر من مقالات اليهود
والنصارى بل ومن مقالات المشركين والمجوس وسائر الكفار من جنس مقالة
فرعون والدجال ونحوهما ممن ينكر الصانع الخالق الباري رب العالمين، أو
يقولون: إنه هو، أو إنه حل فيه.
وهؤلاء كفار بأصل الإسلام، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول
الله؛ فإن التوحيد الواجب: أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا فلا نجعل له ندًّا في
ألوهيته ولا شريكًا ولا شفيعًا، فأما توحيد الربوبية وهو الإقرار بأنه خالق كل شيء،
فهذا قد قاله المشركون الذين قال الله فيهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُم
مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) قال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض؟
فيقولون: (الله) وهم يعبدون غيره، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 84-89) .
فالكفار المشركون مُقِرُّونَ بأن الله خالق السموات والأرض وليس في جميع
الكفار من جعل لله شريكًا مساويًا له في ذاته وصفاته وأفعاله، هذا لم يقله أحد قط لا
من المجوس الثنوية ولا من أهل التثليث ولا من الصابئة المشركين الذين يعبدون
الكواكب والملائكة، ولا من عُبَّاد الأنبياء والصالحين ولا من عُبَّاد التماثيل والقبور
وغيرهم، فإن جميع هؤلاء، وإن كانوا كفارًا مشركين متنوعين في الشرك فهم
يقرون بالرب الحق الذي ليس له مثل في ذاته وصفاته وجميع أفعاله، ولكنهم مع هذا
مشركون به في ألوهيته بأن يعبدوا معه آلهة أخرى يتخذونها شركاء أو شفعاء. أو
في ربوبيته بأن يجعلوا غيره رب الكائنات دونه مع اعترافهم بأنه رب ذلك الرب
وخالق ذلك الخالق.
وقد أرسل الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب بالتوحيد الذي هو عبادة الله
وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: 45) وقال
تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ
هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (النحل: 36) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: 51-52) .
وقد قالت الرسل كلهم مثل نوح وهود وصالح وغيرهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (نوح: 3) فكل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له
وإلى طاعتهم.
والإيمان بالرسل هو الأصل الثاني من أصلي الإسلام، فمن لم يؤمن بأن هذا [1]
رسول الله إلى جميع العالمين؛ وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وأن الحلال ما
أحله والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرعه - فهو كافر مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم
ممن يُجَوِّزُ الخروجَ عن دينه وشريعته وطاعته إما عمومًا وإما خصوصًا ويُجَوِّزُ
إعانة الكفار والفجار على إفساد دينه وشرعته.
ويحتجون بما يفترونه أن أهل الصفة قاتلوه وأنهم قالوا: نحن مع الله، من
كان مع الله كنا معه، يريدون بذلك الحقيقة الكونية دون الأمر والحقيقة الدينية.
ويحتج بمثل هذا مَن ينصر الكفار والفجار ويخفرهم بهمته وقلبه وتوجهه من ذوي
الفقر. ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله وأن الخروج عن الشريعة المحمدية
سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل، وإن كان لأصحابه زهد وعبادة، فهُم في العبادة
مثل أوليائهم في الأجناد، فإن المرء على دين خليله والمرء مع من أحب. هكذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جعل الله المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكافرين بعضهم أولياء بعض،
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين من الإسلام مع عبادتهم العظيمة
الذين قال فيهم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع
قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من
الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة؛ لئن
أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما خرجوا
عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وفارقوا جماعة المسلمين، فكيف
بمن يعتقد أن المؤمنين كانوا يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم؟
ومثل هذا ما يرويه بعض هؤلاء المفترين أن أهل الصفة سمعوا ما خاطب الله
به رسوله ليلة المعراج، وأن الله أمره أن لا يُعْلِمَ به أحدًا فلما أصبح وجدهم
يتحدثون به فأنكر ذلك فقال الله له: أنا أمرتك أن لا تُعْلِمَ به أحدًا، لكن أنا الله
أعلمتهم. إلى أمثال هذه الأكاذيب التي هي من أعظم الكفر، وهي كذب واضح فإن
أهل الصفة لم يكونوا إلا بالمدينة ولم يكن بمكة أهل الصفة، والمعراج إنما كان من
مكة كما قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى
المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1) ومما يشبه هذا من بعض
الوجوه رواية بعضهم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه
وسلم يتحدث هو وأبو بكر وكنت كالزنجي بينهما، وهذا من الإفك المُخْتَلَق. ثم
إنهم مع هذا يجعلون عمر الذي سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه، وهو
أفضل الخلق بعد الصديق لم يفهم ذلك الكلام بل كان كالزنجي، ويدعون أنهم هم
سمعوه وعرفوه، ثم كل منهم يفسره بما يدعيه من الضلالات الكفرية التي يزعم أنها
علم الأسرار والحقائق، إما الاتحاد وإما تعطيل الشرائع. ونحو ذلك مثلاً ما يدعي
النُّصَيْرِيَّة والإسماعيلية والقرامطية والباطنية والثنوية والحاكمية وغيرهم - من
الضلالات المخالفة لدين الإسلام ما ينسبونه إلى علي بن أبى طالب أو جعفر الصادق
أو غيرهما من أهل البيت كالبطاقة والهفت والجدول والجفر وملحمة ابن عقب، وغير
ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة، وكل هذا باطل فإنه لما كان لآل
رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم به اتصال النسب والقرابة، وللأولياء
والصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة - صار كثير ممن يخالف
دينه وشريعته وسنته يُمَوه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته وأهل موالاته
ومتابعته، وصار كثير من الناس يغلو إما في قوم من هؤلاء أو من هؤلاء حتى
يتخذهم آلهة أو يقدم ما يضاف إليهم على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته،
وحتى يخالف كتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه السلف الطيب من أهل بيته ومن
أهل الموالاة له والمتابعة، وهذا كثير في أهل الضلال.
(فصل) وأما تفضيل أهل الصفة على العشرة وغيرهم فخطأ وضلال بل
خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما تواتر ذلك عن أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب موقوفًا ومرفوعًا، وكما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفق عليه سلف
الأمة وأئمة العلم والسنة وبعدهما عثمان وعلي، وكذلك سائر أهل الشورى مثل
طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وهؤلاء مع أبي عبيدة بن الجراح
أمين هذه الأمة ومع سعيد بن زيد هم العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد قال الله تعالى
في كتابه: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ
الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى} (الحديد: 10) فَفَضَّل
السابقين قبل فتح الحديبية إلى الجهاد بأنفسهم وأموالهم على التابعين بعدهم، وقال
الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح:
18) وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ} (التوبة: 100) .
وقد ثبت في فضل البدريين ما تميزوا به على غيرهم، وهؤلاء الذين فضلهم
الله ورسوله، فمنهم من هو من أهل الصفة. والعشرة لم يكن فيهم مَن هو من أهل
الصفة إلا سعد بن أبي وقاص، فقد قيل: إنه أقام بالصفة مرة. وأما أكابر المهاجرين
والأنصار مثل الخلفاء الأربعة ومثل سعد بن معاذ وأُسَيْد بن الحُضَيْر وعبَّاد بن بِشْر
وأبي أيوب الأنصاري ومعاذ بن جبل وأُبَيّ بن كعب ونحوهم - لم يكونوا من أهل
الصفة بل عامة أهل الصفة إنما كانوا من فقراء المهاجرين. والأنصار كانوا في
ديارهم، ولم يكن أحد ينذر لأهل الصفة ولا لغيرهم.
(فصل) وأما سماع المكاء والتصدية - وهو الاجتماع لسماع القصائد الربانية
سواء كان بِكَفٍّ أو بقضيب أو بدُفٍّ أو كان مع ذلك شبَّابَة فهذا لم يفعله أحد من
الصحابة ولا من أهل الصفة ولا من غيرهم ولا من التابعين، بل القرون الثلاثة
المفضلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون القرن الذي بعثت
فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) لم يكن فيهم أحد يجتمع على هذا السماع
لا في الحجاز ولا في الشام ولا في اليمن ولا في العراق ولا مصر ولا خراسان ولا
المغرب. إنما كان السماع الذين يجتمعون عليه سماع القرآن وهو الذي كان الصحابة
من أهل الصفة وغيرهم يجتمعون عليه، فكان أصحاب محمد إذا اجتمعوا أَمَرَوا واحدًا
منهم يقرأ والباقي يستمعون، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على
أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ فجلس معهم، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي
موسى: يا أبا موسى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا. فيقرأ وهم يستمعون، وكل مَن نقل أنهم كان لهم
حادٍ ينشد القصائد الربانية بصلاح القلوب، أو أنهم لما أُنشد بعض القصائد تواجدوا
على ذلك أو أنهم مزقوا ثيابهم أو أن قائدًا أنشدهم:
قد لسعت حية الهوى كبدي
…
فلا طبيب لها ولا راق
إلا الطبيب الذي شغفت به
…
فعنده رقيتي وترياقي
أو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن الفقراء يدخلون الجنة قبل
الأغنياء بنصف يوم) أنشدوا شعرًا وتواجدوا عليه - فكل هذا وأمثاله إفك مفترًى
وكذب مُخْتَلَق باتفاق أهل الآفاق من أهل العلم وأهل الإيمان لا يُنَازِع في ذلك إلا
جاهلٌ ضال، وإن كان ذُكر في بعض الكتب شيء من ذلك فكله كذب باتفاق أهل
العلم والإيمان.
(فصل) وأما قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الكهف: 28) فهي عامة فيمن تناوله هذا الوصف مثل الذين
يصلون الفجر والعصر في جماعة، فإنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه،
سواء كانوا من أهل الصفة أو غيرهم. أمر الله نبيه بالصبر مع عباد الله الصالحين
الذين يريدون وجهه، وأن لا تعدو عيناه عنهم:{تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 28) وهذه الآية في الكهف، وهي سورة مكية، وكذلك الآية التي هي في
سورة الأنعام: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا
عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ
الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 52) .
وقد روي أن هاتين الآيتين نزلتا في المؤمنين المستضعَفِينَ لما طلب
المستكبرون أن يُبْعِدَهم النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه الله تعالى عن طرد من يريد
وجهه وإن كان مُسْتَضْعَفًا ثم أمره بالصبر معهم، وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة
وقبل وجود الصفة، لكن هي متناولة لكل مَن كان بهذا الوصف من أهل الصفة
وغيرهم.
والمقصود بذلك أن يكون مع المؤمنين المتقين الذين هم أولياء الله، وإن كانوا
فقراء ضعفاء، فلا يتقدم أحد عند الله تعالى بسلطانه وماله ولا بذُلِّه وفقره وإنما
يتقدم عنده بالإيمان والعمل الصالح، فنهى الله سبحانه وتعالى أن يطاع [2] أهل
الرئاسة والمال الذين يريدون إبعاد من كان ضعيفًا أو فقيرًا وأمره أن لا يطرد مَن
كان منهم يريد وجهه، وأن يصبر نفسه معهم في الجماعة التي أمر فيها بالاجتماع
بهم كصلاة الفجر والعصر، ولا يطيع أمر الغافلين عن ذكر الله المتبعين لأهوائهم.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المناسب أن يقال: بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم.
(2)
لعل الأصل: فنهى الله سبحانه وتعالى نبيه أن يطيع إلخ، بدليل ما عطف عليه من قوله: وأمره إلخ.
الكاتب: أبو الكلام
الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنكليزية
العالم العلامة الأستاذ أبو الكلام
إني قد كنت عازمًا على أن لا أقدم إلى المحكمة بيانًا ما؛ لأنها مكان لا رجاء
لنا فيه ولا طلب منه، ولا شكوى إليها، وإنما هي كمنعرج الطريق إلى المنزل لا بد
من قطعه للسابل، ولذا نقف فيه وقفة على كُرْهٍ منا وإلا لدخلنا السجن تَوًّا.
إن الجمعية الوطنية وجمعية الخلافة وجمعية العلماء قد أبحن تقديم بيان إلى
المحاكم لا للدفاع بل لإعلام الأمة الحقيقة، بيد أني ما برحت أشير على الناس بأن
يؤثروا الصمت على الكلام، وأن يقاطعوا المحاكم مقاطعة تامة، وذلك لأني أرى
أن كل من يقدم بيانًا لدحض التهمة وكشف الحق - وإن كان قصده به إعلام
الجمهور- لا يسلم من الظنة؛ إذ يجوز أن يكون في نفسه أدنى هوى للتخلص من
العقاب أو في أعماق قلبه أقل رجاء في عدل المحاكم مع أن سبيل (تارك التعاون)
مستقيم نَيِّر لا ينبغي أن توسخه الظنون والشبهات.
اليأس التام من العدل:
إن (اللا تعاون) نتيجة لليأس التام من الحالة الحاضرة، وهذا اليأس هو
الذي ألجأ الأمة إلى أن تغيرها وتتبدل غيرها بها، فكأن مَن يقاطع الحكومة ويأبى
معاونتها يعلن بأنه يئس من عدلها وحبها للحق، وأنه لا يعترف بها بل يعدها
حكومة غاصبة جائرة وغير شرعية؛ لهذا يود إسقاطها وتحطيمها، أفبعد هذا يرجع
القهقرى، فينتظر منها أن تنصفه كحكومة عادلة صالحة للبقاء والدوام؟
وإن غضضنا الطرف عن هذه الحقيقة الثابتة، فإن السعي للتبرئة من التهمة
ليس إلا فعلاً عبثًا وإنكارًا للحقائق؛ إذ كل بصير يعلم أنه لا رجاء في المحاكم أن
تنصف وتعدل في الحالة الحاضرة لا لأن رجالها لا يحبون العدل؛ بل لأنها سائرة
على نظام لا يستطيع معه حاكم أن ينصف أولئك الذين لا تريد الحكومة نفسها أن
تنصفهم، وإني ههنا أصرح بأن خطاب (اللاتعاون) ليس مع الأفراد والآحاد بل
مع الحكومة ونظامها ومبادئها.
موقف أصحاب الحق أمام المحاكم والقضاة:
إن هذه الحالة مثل سائر حالات عصرنا ليست بفذة، فالتاريخ شاهد على أنه
كلما طغت القوات الحاكمة ورفعت السلاح في وجه الحرية والحق، كانت المحاكم
آلات مسخرة بأيديها تفتك بها كيف تشاء، وليس هذا بعجيب، فإن المحاكم تملك
قوة قضائية، وتلك القوة يمكن استعمالها في العدل والظلم على سواء! فهي في يد
الحكومة العادلة أعظم وسيلة لإقامة العدل والحق، وبيد الحكومات الجائرة أفظع آلة
للانتقام والجَوْر ومقاومة الحق والإصلاح.
والتاريخ يدلنا على أن قاعات المحاكم كانت مسارح للفظاعة والظلم بعد
ميادين القتال، فكما أهريقت الدماء البريئة في ساحات الحروب حوكمت النفوس
الزكية في إيوانات المحاكم فشنقت وصلبت وقتلت وأُلقيت في غياهب السجون،
وليس هنالك عصبة صالحة محبة للحق من الأنبياء والحكماء والعلماء والصالحين إلا
ونراها واقفة كالجناة والمجرمين في قاعات المحاكم أمام القضاء، نعم إن كَرَّ الأيام
ومَرَّ العشي قد محا كثيرًا من مساوئ العهد القديم، فلا يوجد الآن شيء من المحاكم
الرومية للقرن الثاني المسيحي ولا جمعيات التفتيش السرية (jnquisifon) التي
كانت في القرون المتوسطة، ولكني لا أستطيع الاعتراف بأن عصرنا هذا قد نجا من
تلك العوامل النفسية التي كانت تعمل في تلك المحاكم - حقًّا إن تلك الأبنية التي كانت
مكامن للأسرار الرهيبة قد دُكت دكًّا، ولكن مَن ذا الذي يقدر أن يقلب تلك القلوب التي
تكمن فيها الأسرار المخيفة لحب الذات والظلم؟
مقام عجيب ولكنه عظيم:
إن جدول مظالم المحاكم وفظائعها طويل عريض - تلك المظالم التي لم يفرغ
التاريخ إلى الآن من البكاء منها - فترى فيه اسم المسيح صلى الله عليه وسلم
الإنسان الكامل الذي أُوقف مع اللصوص في محكمة أجنبية، وسقراط الحكيم الذي
اضطر إلى شرب كأس من السم (لأنه كان أصدق رجل في بلاده) وكذا فلورنس
غيليلو الذي لم يكذب مشاهداته العلمية؛ لأنها كانت جناية في عين القضاء والمحاكم
(وصفت المسيح بالإنسان الكامل لأني اعتقد أنه إنسان، ولكن الملايين من الناس
يعتقدون أنه فوق هذا) إذن ما أعجب قفص الجناة وما أعظم شأنه !! إنه موقف
للصنفين معًا: الأبرار والأشرار، حتى إنه كان لائقًا بهذا الوجود العظيم.
حمدًا وشكرًا:
وإني إذ أتدبر التاريخ العظيم لهذا الموقف وأراني قد شرُفت بالوقوف فيه
يسبح روحي بحمد الله ويلهج لساني بشكره من غير قصد مني، وهو وحده يعلم ما
أجده من الجذل والابتهاج؛ إذ أحسبني في هذا القفص محسودًا للملوك والسلاطين
العظام، فأين لهم في قصورهم المريحة تلك المسرة والراحة التي يرقص لها قلبي
في صدري؟ ويا ليت الإنسان الغافل والعاكف على هواه يشعر بنفحة منها! وإني
أقول حقًّا: إنه لو أدركها الناس لتمنوا المثول في هذا المكان، ولنذروا النذور لأجله!
***
لِمَ أخاطب المحكمة؟
إني كنت عازمًا على السكوت في المحكمة، ولمَّا أُحضرت فيها ورأيت
الحكومة تقدم في إثبات جريمتي الخطبتين اللتين ألقيتا في بعض مجامع (كلكتا)
وهما لا يحتويان على جميع الأمور التي ما زلت أكررها في جميع خطبي ورسائلي
ومقالاتي التي تعدو الحصر، والتي إن قدمت كانت أنفع لمقصدها - علمت أنها
عاجزة حتى عن تهيئة ذلك المستند الذي يعتبر في هذه الأيام كافيًا لإنزال العقاب مع
شدة رغبتها وحرصها على سجني. فغيرت قصدي وقلت: إن العلة التي كانت
مانعة من الكلام أصبحت موجبة له فأردت أن أثبت بلساني الأمر الذي لا تستطيع
الحكومة إثباته مع علمها به وشدة رغبتها في إثباته، وإني أعلم أن قوانين المحاكم
لا توجبه عليَّ ولا تضطرني إلى الاعتراف به من تلقاء نفسي، ولكن قانون الحقيقة
فوق هذه القوانين الوضعية، وهو الذي يسوقني إلى ما سأقوله؛ إذ ليس من الحق
أن نذر شيئًا مستورًا؛ لأن الخصم لا يستطيع إثباته.
الاعتراف بالجناية:
إن الاستبداد الذي ابتليت به الهند نوع من ذلك الاستبداد الذي يصيب الأمم في
طور ضعفها ووهنها وهو من طبعه يبغض الحركة الوطنية والحرية والمطالبة
بالحقوق بغضًا شديدًا؛ لأنه يعلم أنها إذا نجحت سقطت قوته الظالمة وانمحى وجوده
الفاحش، وما من وجود يحب سقوط نفسه وزواله مهما يكن زواله ضروريًّا في
عين الحق والإنصاف. فالتدافع بين الحرية والاستبداد (تنازع للبقاء) و (تزاحم في
الحياة) كل من الفريقين يجدّ ويكد للفوز والبقاء: الأمة تريد أن تنال حقها
المغصوب، والاستبداد يأبى عليها ولا يريد التزحزح عن مقامه، ولا تثريب عليه
لأنه - وإن كان وجوده خلافًا للحق - يدافع عن نفسه وحياته، وليس لنا أن ننكر
مقتضيات الطبيعة فكما يسعى الخير لبقائه يسعى الشر أيضًا، ومهما يكن ملومًا في
نفسه لا يلام على رغبته في الحياة.
وقد بدأ التزاحم في الهند بين هاتين القوتين: الحرية والاستبداد - فليس ببدع
أن تكون الحرية والمطالبة بالحقوق جناية في عين الاستبداد، وأن يكون محاربو
وجوده الباطل جناة وأثمة وأهلاً للعقاب الشديد. فما دام الأمر كذلك فإني أعلن على
مسمع من المحكمة والحكومة بأنني أنا قد ارتكبت هذه الجناية ارتكابًا واقترفتها
اقترافًا، وإن كانت الحكومة لا تعلم - وهي تعلم - فلتعلم الآن أني من أولئك الجناة
الذين بذروا بذور هذه الجناية في قلوب أمتهم ووقفوا حياتهم على سقيها وتنميتها
وتثميرها بل إني - ولا فخر - أول مسلم في الهند دعى أمته من اثنتي عشرة سنة
إلى هذه الجناية دعوة عامة وحول وجهتها في خلال ثلاث سنوات عن العبودية التي
كانت الحكومة زينتها لها إلى الحرية التي قد أشرقت شمسها الآن، ولن تنكسف أبدًا.
فإن كنت آثمًا في زعمها فلتعاقبني بما تشاء، فها أنا ذا معترف بالجناية بصدر رحب
ولسان طلق غير جذع منها ولا نادم عليها؛ لأن هذا ما كنت أتوقعه وأعرفه من قبل.
وإني لا أنتظر من الحكومة إلا الغلظة والقسوة لأني - وإن ألفيتها تدعي العصمة
من الخطأ والزلل ولا تعترف بذنوبها - أعلم أنها ما ادّعت أبدًا أنها مثل المسيح في
لينه وحنانه، فإذًا كيف أنتظر منها أن تقبل أعدائها وتحبهم كأصدقائها.
وأعلم أنها لا تعاملهم إلا بتلك المعاملة التي نراها منها الآن والتي ما زال
الاستبداد يختارها لمحق الحرية والحق وخنق أصحابه وحماته، فالشدة الغلظة من
الحكومة شيء طبيعي لا ينبغي لنا أن نشكو أو نعجب منه بل على كل من الحزبين
أن يعملا على مكانتهما حتى يفصل الله بينهما وهو خير الفاصلين.
(ثم قال بعد هذا: إنه لم يقبض عليه لأجل الخطبتين اللتي قُدمتا في
المحكمة بل ليخلو للحكومة جو كلكتا كيلا يقاطع احتفال ولي عهد إنكلترة عند قدومه
إليها وتضعف الحركة الوطنية والإسلامية. ثم ذكر أشد ما في الخطبتين وهو ما
يلي) :
أشد ما في الخطبتين:
إن الحكومة التي تأسست على الظلم لظالمة، وهي إما أن تتوب من ذنوبها
وفظائعها وتخضع للحق، وإما أن تزول من الوجود.
أيها الناس: إن كنتم تتألمون لإخوانكم الذين قُبِضَ عليهم فعلى كل منكم أن يبت
في نفسه الآن: هل هو راضٍ بأن تظل هذه الحكومة قائمة في بلادنا كما كانت عند
القبض على إخواننا؟
إذا كنتم تريدون تحرير بلادكم من رق العبودية فطريقته واحدة، وهي أن لا
تَدَعوا فرصة لأعدائكم الماكرين لاستعمال أسلحتهم القتالة التي عندهم بغير
حساب....
إن بعض الناس يظن أن الخطيب إذا فاه بمثل هذه الأقوال يحتاط لنفسه وإلا
فإنه بالحقيقة لا يقصد بها شيئًا، ولكني أيها الإخوان أعتقد أنه ليس فيكم أحد يحسب
أولئك الذين يتعبون من أجلكم خوافين من السجن أو الاعتقال أو مخلصين لهذه
الحكومة الظالمة في نفسها وقوتها بقولهم: إن أعمالنا يجب أن تكون بالأمن والنظام
- لا لا، إن هذا لا يتصور أبدًا، بل الحق الذي لا مراء فيه أنهم يقولون ذلك لأنهم
يرون نجاحكم متوقفًا على الأمن والنظام؛ إذ أنتم لا تملكون تلك الآلات الجهنمية
التي تتسلح بها هذه الحكومة، وإنما الأسلحة التي لديكم هي الإيمان والضمير وقوة
التضحية، فاستعملوها في وجهه تنجحون، وإلا فلا نجاح لكم بالأسلحة المادية.
أيها الناس: إن كنتم تريدون أن تعرقلوا الحكومة برهة من الزمن فطرقه
كثيرة، ولو كنت - لا سمح الله - من المحبين للحكومة لبُحْتُ بها ودعوتكم إليها ولكن
الذي أريده منكم هو (الحرب الحرب) الحرب التي لا تنتهي في يوم واحد بل تمتد
إلى يوم الفصل، وما أدراكم ما يوم الفصل؟ اليوم الذي إما أن تُمحى فيه هذه الحكومة
الجائرة، وإما أن تُفني ثلاثمائة مليون من النفوس البشرية.
***
الاعتراف فوق الاعتراف:
إن كانت هذه التصريحات (جناية) فإني معترف بأن قلبي قد اشتغل بها
ولساني قد نطق بها، وإني الذي صرحت بها أمام عشرات الألوف من الناس ليس
في هاتين الخطبتين فقط، بل في خطب أكثر من أن تُعَدَّ وتُحْصَى بل ما برحتُ
أقول أكبر وأشد منها؛ ذلك بأني أعتقد أن الصدع بها واجب عليَّ، ولن يمنعني من
أداء الواجب كونه مُعَاقَبًا عليه بقانون 124 من القوانين الهندية [1] بل إني لأجدني
الآن مدفوعًا إلى التصريح بها أمام المحكمة، ولا أزال قائلاً بها ما دام لساني بين
أسناني وروحي في جثماني. وإن لم أفعل ذلك أكن ظالمًا لنفسي وعاصيًا عند الله
وعند الناس أجمعين.
الحكومة الحاضرة (ظالمة) :
نعم إني قلت: (إن الحكومة الحاضرة ظالمة) وإن لم أقل هذا فماذا أقول يا
ترى؟ وأيم الله إني لأعجب كيف يُطْلَبُ مني أن أسمي شيئًا بغير اسمه، وأن أدعو
الأسود بالأبيض؟
إن ما قلته هو أهون ما يجب أن يقال في هذا الباب؛ إذ لا أعلم حقيقة ملفوظة
أخف منه.
لا ريب أني ما زلت أقول: إنه ليس إلا أن تتوب الحكومة من آثامها، وتغير
خطتها، وترجع عن ظلمها، فإن لم تستطعه فبُعْدًا لها وسُحْقًا، وليت شعري ماذا
يقال غير هذا؟ الشر إما أن يصلح وإما أن يزول وهل بينهما طريق آخر؟ إن هذه
الحقيقة قديمة العهد طويلة العمر لا يضاهيها في الكبر إلا الجبال والبحار وإني ما
دمت أعتقد أن هذه الحكومة من أولها إلى آخرها شر على شر، فكيف أستطيع أن
أدعو لها وأقول: دومي ولا تصلحي.
لماذا أعتقد هذا؟
لماذا أعتقده أنا وملايين من أبناء وطني وإخوان ديني؟ الجواب أصبح الآن
واضحًا جليًّا حتى يصح أن يعبر عنه بقول الشاعر الإنجليزي (ملتون) : إنه بعد
الشمس أوضح شيء وأجلى محسوس. على أني أصرح ههنا بأني أعتقد ذلك لأني
هندي ولأني مسلم ولأني إنسان.
الحكم الشخصي ظلم بالذات:
إني أعتقد أن الحرية حق طبيعي لكل إنسان ولكل أمة {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) وليس لشخص أو حكومة أن تستعبد عباد الله
وتتخذهم خولاً. وسَمِّ الاستعباد والرق بأي اسم شئت، غير أنه على كل حال
استعبادٌ ورقٌّ، ومشيئة الله وناموسه يمقته وينفيه، وإني لأجله لا أعترف بالحكومة
الهندية، بل أَعُدُّهَا حكومة غير شرعية؛ لأنها مستبِدَّة طاغية استعبدت البلاد
وقهرت العباد داست الشرائع وخانت المواثيق! ليسخطها الشعب ويمجها الحق،
فهي معدومة في نظر الأمة، وإن كانت موجودة بقوة السلاح، وأرى واجباتي الدينية
والوطنية والإنسانية تطالبني بأن أحرر بني جلدتي من رقها وعبوديتها الشائنة.
ولا يقاطع كلامي (بالإصلاحات الإدارية) و (الترقي التدريجي) كلمات
خَطَّتها الحكومة وزخرفتها لتخادع به البُلْهَ والحَمْقَى. أما أنا فلا أُخْدَعُ بها؛ إذ
الحرية في اعتقادي حق طبيعي للإنسان، وليس لأحد أن يحدد ويقسم في تأدية
الحقوق، وإن مَثَلَ الذي يقول: إن أمة تنال حريتها تدريجيًّا، كَمَثَل الذي يقول
للدائن: يُرد إليك الدَّين قسطًا قسطًا، نعم إن لم يستطع أخذه دفعة واحدة يضطر إلى
قبوله بالأقساط، ولكن لا يسقط به حق الأخذ مرة واحدة.
(الإصلاحات) وما هي (الإصلاحات؟) إن هي إلا كما قال الفليسوف
الروسي تولستوي:
(إن أبيح للمسجونين انتخاب سجانهم بالأصوات، فإنهم لا يصيرون أحرارًا)
الحكومة الحاضرة حسنة أو قبيحة؟ سؤال ثانوي، أما السؤال الأساسي فهو:
هل وجودها حق وشرعي؟ فإني أعتقد أن مثل هذه الحكومة الأجنبية المتسلطة
باعتبار أصل خلقتها غير شرعية؛ لأن نفس وجودها ظلم وشر، فهي لو لم ترتكب
جميع تلك الفظائع التي ارتكبتها بهذه الكثرة لكانت في اعتقادي ظالمة وجائرة،
ويكفي لقبحها وشناعتها أنها موجودة! نعم نعترف بحسناتها إن كانت لها حسنات،
ولكن يظل وجودها على كل حال ظلمًا غير شرعي. ومثاله أن لو تسلط أحد على
بيتنا وأدارها إدارة حسنة وعمل أعمالاً صالحة، فإنه بهذه الحسنات لا يصير تسلطه
حقًّا شرعيًّا.
إن الشر يصح أن يُنْعَتَ ويُقْسَمَ بالكم والكيف، فنقول: (كم هو؟ وكيف
هو؟) ولكن لا يصح نعته وتقسيمه بالحسن والقبيح فلا تقول (أَحَسَنٌ هو أم قبيح؟)
نعم يقال: (سرقة قبيحة) و (سرقة أقبح) ولكن لا يقال: (سرقة حسنة)
و (سرقة قبيحة) وهكذا الاستبداد؛ فإني لا أستطيع أن أتصوره حسنًا وشرعيًّا في
حال من الأحوال؛ لأنه بذاته ووجوده قبيحٌ وشرٌّ وغير شرعي. نعم ربما يوجد نوع
من الاستبداد أخف وطأة وأقل ظلمًا وأكثر لينًا من غيره، ولكن الاستبداد الذي دهم
الهند لم يقف عند حد قبحه الخلقي، بل ما زال يكتسب السيئات فوق السيئات
والمنكرات تلو المنكرات (ظلمات بعضها فوق بعض) فإذن كيف لا يُعْلَن ظلمُهُ
ولا يُشْهَرُ قبحُهُ ولا يُشَدَّدُ النكيرُ عليه؟
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
إن المادة 124 هذه مثل المادة 151 من القوانين المصرية الخاصة بالذين يحرضون على كراهية الحكومة بأي واسطة من وسائط النشر أو الصور أو الكلام أو الخطابة إلخ (المترجم) .
الكاتب: شكيب أرسلان
انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى
طرفة تاريخية من قلم الأمير شكيب أرسلان الشهير
(3)
آثار العرب في سويسرة:
لم تزل للعرب آثار كثيرة في سويسرة، منها برج السارازين (لا يخفى أن
لفظة سارازين كان يطلقها الإفرنج على المسلمين في القرون الوسطى واختلفوا كثيرًا
في أصل هذه الكلمة وكيفية اشتقاقها، وقرأت في رحلة ابن بطوطة أن الملك الرومي
الذي كان في القسطنطينية سأله هل أنت سراكنوا؟ قال: وهذا اللفظ معناه مسلم
بلغتهم) وهو برج بقرب بلدة فيفاي بجوار (مونتروا) من مقاطعة (لوزان) ومما
ينسب إليهم مغارة وكهف في جهات لوستس.
وقال بعض المؤرخين ممن نقل عنه كلر: مِن المُحقَّق أن عصائب العرب
زحفت إلى (الجورة) وبحيرة جنيف وأنه لم يوجد من مؤرخينا من يذكر دخولهم إلى
روارسيه، وكانت كتبنا صامتة عن ذلك. فالتواتر ورواية الأخلاف عن الأسلاف
متصلة بالسند تقومان مقام ذلك، وكثير من أسماء هذه البلاد تدل على وقوع هذه
الغزاة.
وعلى نصف ساعة من دفليه في الجبل من جهة الشمال الغربي على مقربة
من الطريق الروماني المؤدي من دليمون إلى آجوا يوجد مضيق بين جندلين اسمه
كهف (السارازين) وشيوخ دفليه يروون عن آبائهم وأجدادهم خلفًا عن سلف أن
هذا المكان كانت أقامت فيه شرذمة من (السارازين) كانوا يوردون جمالهم (يظهر
أنه أينما تكون العرب تكون الجِمَال ولو في قلب أوربا) ماء سورن بقرب كورتتل،
وهذا اسم طريق روماني مهجور الآن، ثم إلى أحد صخور غار السارازين عدد
23 منقور نقرًا غريبًا بأرقام عربية لا يعرف السبب في نقر هذا العدد خاصة
لانقطاع سند التواتر وعدم وجود تاريخ لذلك، وإنما المعروف أن العرب كانوا
مقيمين هناك دركًا ثم إنه بقرب روسميزون تجاه جبل شبوت يوجد طريق اسمه
طريق السارازين.
ثم إنه يوجد في بلاد البيامون ووادي ساس في الجبل طريقان: أحدهما يمر من
فوركنتال مخترقًا ممر أنترونه، والثاني يمر من مونتومورو أي جبل المورو -
وهو المسلم المغربي في عرف الإفرنج - وكل من المضيقين كان إلى سنة 1440
يقال له الممر القديم، ويقول فرديناند كلر نقلاً عن المؤرخين أنه مما لا يجوز أن
ننساه أن المعاهدة التي عقدها الملك (هوغ كونت برفاتس) مع العرب كان من جملة
شروطها: سد جميع المضايق والثنايا إلا ثنية سان برنار فقط؛ فلذلك ترى هناك
محلاًّ اسمه (الماجل) وهو بدون شك محطة بريدية، وتجد في وادي ساس مكانًا
يسمى (ألا لاين) وهو (العين) وهناك ماء على الطريق في أعلى الوادي كما أن
في شرقي الوادي عين ماء اسمها Eienapl أي عين الألب.
وفي غربي وادي ساس محل اسمه ميشابل وهو حسبما يظن الأستاذ هيتسيغ
مُحَرَّف عن (مشبل) أي اللبوة التي معها أشبالها بدليل أن هناك غربي ممر
سيميلون جبلاً اسمه جبل الأسد، ونحن نظن أن الاسم هو (مشابل) كما يلفظونه
الآن لا (مشبل) وهو جمع (مشبل) اسم مكان، كقولك: مأسدة. أو هو
(مشابيل) جمع (مشبول) ومكان مشبول: كثير الأشبال.
ومن أكثر الأشياء في تلك الجهات التي جال فيها العرب اسم (مورو) الذي
هو - كما تقدم - اسم المغربي عند الإفرنج؛ لأن الرومان كانوا يسمون المغرب
الأقصى (موريتانيه) فمن ذلك جبل مورو الذي عند فراكسينة، وعليه قصر من آثار
العرب ويوجد ممر اسمه موروباس في ناحية (ماكوغناغه) في البيامول، كذلك في
واد يقال له وادي أنزا (ولعله وادي العنزة) محل يقال له (سيما دليمورو) أي قنة
المغربي وهو إلى الشمال من بريسينون، وفي جبل سان برنار غربي الدير الشهير
قنة شاهقة اسمها مونتمور.
وما عليه اسم (سارازين) شيء لا يكاد يُحْصَى. ذكر المسيو إدوارد كلرك في
تاريخ ولاية (فرانش كونته بفرنسة) أن الأسماء المضافة إلى سارازين كثيرة في
تلك الولاية، قال: عندنا خمسة كهوف يسمى كل واحد منها بكهف السارازين،
وجسران اسم كل منهما جسر السارازين، وثلاثة قصور كل منها يقال له قصر
السارازين، وطريقان كل منهما يسمونه السارازين، وسد طاحون منسوب إلى
السارازين، وواد صغير يسمونه وادي السارازين، وجندلان كبيران كل منهما يقال
له صخر السارازين، وباب يُرْفَع ويخفض من آثار السارازين، وقرية اسمها ساراز،
وهناك أيضًا حائط السارازين ومعسكر السارازين إلخ، وأمثال هذه الأسماء يجدها
الإنسان في مقاطعة بريس وفي الليونه، فمن ليون إلى حدود فرنسة الجنوبية تكثر
الأبواب التي ترفع وتحط أمام القلاع، وكلها منسوبة إلى السارازين.
ويقول هؤلاء المؤرخون الذين أثرنا عنهم ما تقدم من تاريخ العرب في
سويسرة: إنه كان للعرب قدرة بالغة على البناء وتشييد الأبراج وتحصينها وإحكام
أقفالها، وقد تركوا آثارًا بديعة مدهشة، ففي إيطالية وغربي سويسرة لا تزال جدران
كثيرة مبنية بالحجارة الكبرى من بناء العرب، وفي كل بناء تركوه ظهر أنهم أهل
هندسة وقوة حيلة يُعْجَب بها كل من تأملها، فتركوا بهذه الآثار ذكرًا عظيمًا بين
الأهالي؛ ثم إنه قد وجدت في سويسرة مسكوكات كثيرة عربية، وأكثرها من
مسكوكات الإسلام في إفريقيا منها ضرب سنة 169 للهجرة ومنها ضرب 182
للهجرة، وأكثرها من عصر هارون الرشيد، وقسم منها مضروب في القيروان،
ويُظن أن أكثر هذه النقود وصلت إلى سويسرة بواسطة النورمانديين، وكذلك وجدت
في بلدة مودون من سويسرة مسكوكات منها من سنة 170 للهجرة مضروب في أفريقيا
ومنها ضرب إسماعيل بن أحمد في أيام الخليفة المعتضد سنة 283 للهجرة، ومنها
ضرب في بغداد سنة 361 هجرية مكتوب على بعضها من الوجه الواحد (لا إله إلا
الله وحده لا شريك له. ركن الدولة أبو علي بويه، ومن الوجه الآخر: بسم الله، قد
ضرب هذا الدرهم في مدينة السلام عام ثلاث مائة وأربع وستين. ووجدت على
بعضها: محمد رسول الله. الطائع لله الملك العادل عضد الدولة أبو شجاع.
ويظن أن هذه المسكوكات وصلت بواسطة الحروب الصليبية أو عن طريق
التجارة.
ومما وجد من آثار العرب في سويسرة ثوب حريري مُطَرَّز في دير بقرب
(شور) يستعمله القسوس في القداس عليه كتابات عربية مطرَّزَة بالقصب، ولا شك
أنه قبل أن يصير ثوبًا كَنَسِيًّا كان خلعة ملوكية أو حلة لأحد الأمراء، وقد أتى
المسيو سلنستر دوساسي في كتابه (المنتخب من تآليف العرب) في الصفحة 305
على بحث دقيق يتعلق بهذه المنسوجات العربية الفاخرة فقال ما ترجمته:
(عرفنا منسوجات كثيرة من هذا النوع الذي يسميه ابن خلدون بالطراز، منها
المعطف الذي كان يلبسه قياصرة ألمانية عند تتويجهم، فهذا الرداء عليه كتابات
عربية منسوجة بخيوط ذهبية، وقد قرأها وترجمها المسيو تيسشن فظهر أنه نسج في
بلرم في دولة الملك روجر (والعرب يقولون رجار) سنة 528 هجرية أي 1133
ميلادية وتجزم بأنه في أيام رجار؛ لأن الكتابات ليس فيها شيء من آثار الدين
الإسلامي، ومنها قطعة حريرية مطرَّزَة بالذهب محفوظة في خزانة ذخائر كنيسة
(نوتردام) الكبرى بباريز بديعة الصنع مكتوب عليها اسم الخليفة الحاكم بأمر الله
المتوفى سنة 411 للهجرة، ثم قطعة ثالثة شبيهة في النفاسة بالثانية وجدت في
ضريح بدير (سان جيرمان) المروج، عليها كلمتان عربيتان مكررتان مرارًا. كذلك
في مؤلف ظهر على آثار بلرم باللغة الإيطالية طبع في نابلي سنة 1814 مذكورة كتابة
عربية وجدت على أكمام القميص الذي وجد في ضريح الإمبراطور فريدريك الثاني
المتوفى في 13 ديسمبر سنة 1250. كذلك يذكر المسيو (دومور) سجادة عليها
كتابة عربية نسجت في مصر في زمان الخليفة المستعلي بالله وذلك يكون بين سنة
1094 وسنة 1101 للميلاد وهذه السجادة هي في خزانة آثار الفاتيكان الآن (أي
في زمان دساسي وهذا عاش بين سنة 1758 وسنة 1838) .
قد نقلنا كثيرًا من هذا التاريخ عن المسيو رينو الفرنسي وهو من المستشرقين
المشهورين، كان عضوًا للمجمع الملكي للآثار والآداب وأحد حفظة الكتب الشرقية
المخطوطة في مكتبة باريز الملوكية وتأليفه المسمى غارات العرب في جنوبي
فرنسة وفي البيامون (شمالي إيطالية) وفي سويسرة طبع بباريز سنة 1836 وقد
طالعنا منه نسخة في مكتبة منيخ عاصمة البافيار وذلك سنة 1920.
وأما المؤرخ الألماني الذي اعتمد عليه (فرديناند كلر) فهو (ليود براند)
المؤرخ الشهير القديم العهد ولد سنة 922 في لومباردية من أصل شريف ونشأ في
بلاط الملك هوغ المارّ الذِكْرِ في بافيان سنة 945 وعندما نفي الملك هوغ دخل
(ليود براند) في خدمة (برانجر) خلفه وقد سفر لبرانجر هذا إلى ملك القسطنطينية
وكانت وفاته سنة 970 وألف كتابين باللاتينية أحدهما اسمه: (معالي الإمبراطور
أوتون الكبير) والثاني اسمه (سياحتي إلى القسطنطينية) ملأه هزؤًا بدولة
بيزنطية وصنَّف كتابًا اسمه (الانتقام) كله نكات ونوادر على أبناء عصره. وفي
زمانه كانت وقائع العرب في سويسرة.
هذا ما اتصل إليه علمنا من تاريخ إقامة العرب بسويسرة، أو بالأحرى
(انتداب) العرب لإدارة تلك البلاد في القرن العاشر.
فإن قيل: إنك تُعَرِّضُ بما تسميه دول الحلفاء اليوم (انتدابًا) على سورية
وفلسطين والعراق، وهذا لا يشبه ذاك؟ أجبنا أنه لا يوجد أدنى فرق بين الانتدابين،
فإذا كان العرب سفكوا دماء بسويسرة فهو - ولا شك - أقل جدًّا مما سفكه الحلفاء في
سورية والعراق، وإذا كان أخذوا جماعة بثأر واحد فالحلفاء لم يتوقفوا دقيقة واحدة عن
تدمير قرى بتمامها ورمي القنابر الديناميتية على النساء والأطفال والعاجزين وحصد
رءوس الألوف لأجل الانتقام من عمل رجل واحد أو عصابة مؤلفة من بضعة رجال.
وإن قيل: إن العرب في سويسرة سلبوا ونهبوا، فهل إذا تأمل المنصف إدارة الحلفاء
في البلاد الشرقية التي احتلوها وما جمعوه منها من الذهب وما وزعوا من الأوراق
المالية بدون ضمان وما حمّلوا الأهلين من المغارم وما استأثروا لأنفسهم من معادن
البلاد وأصناف مرافقها - يجد شيئًا غير السلب والنهب؟ وزد على ذلك شيئًا، وهو
أن العرب لم يخدعوا أهل سويسرة في القرون الوسطى بقولهم: أنهم حلفاؤهم وأنهم
إنما جاءوهم لتحريرهم من رق الأجانب حتى إذا انكشف الغطاء عرفوا أنها خدعة
وظهرت الذئاب من تحت أصواف الحملان، كلا كان عمل العرب في سويسرة
أشرف، وأبعد عن اللؤم، ولم يكونوا مع ذلك دولاً عظامًا بل شرذمة صعاليك لا
يعيبهم ما يعيب الدول العظام {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .
…
...
…
...
…
...
…
...
…
شكيب أرسلان
…
...
…
...
…
...
…
... في 15 إبريل سنة 1922
(المنار)
إننا نود لو يكون للقراء من العبرة بهذه الأثارة من تاريخهم ما هو في نظرنا أهم
من المقارنة التي ختمها بها الأمير الكاتب مراعاة لمقتضى الحال، وهي المقارنة بين
أحوال الأمة في طَوْر حياتها وإقبالها، وطور ضعفها وإدبارها. تتقاذف الأمواج برهط
من صعاليك العرب لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين فتلقيهم بسواحل بلاد لا يشاركهم
أهلها في لغة ولا دين، ولا تربطهم معرفة ولا عهد ! يكون من أمرهم وأمر شراذم
تتبعهم ما استخرجه لنا الكاتب من أسفار تواريخهم من عزة ومنعة، وتمكن في
الأرض، وقتال أو إجارة للأمراء والملوك وفرض الضرائب والمكوس، وإقامة
للصروح والحصون. ثم يكون من أمر هذه الأمة أن يذل ألوف الألوف منهم في عقر
دارهم، ويسلمون قيادهم فيها لأعدائهم باختيارهم، حتى يكون من مثل أمير الحجاز،
تلك البلاد المقدسة التي تحترمها الدول الكبرى ولا تدنو منها بسوء، أن يقترح
باختياره على الدولة الإنجليزية أن تنتزع البلاد العربية حتى المقدسة من الترك
وتجعلها تحت حمايتها - وأن يكون هذا الاقتراح في الوقت الذي كانت فيه هذه الدولة
تتوقع محو اسمها من الدول العظمى بقوة الحلف الألماني التركي، حتى لو أجمع
العرب أمرهم واقترحوا عليها الاعتراف باستقلالهم المطلق ومساعدتهم عليه، ولو
في مقابلة عدم مساعدة الترك عليها - فضلاً عن مساعدتها على الترك - لقبلوا
شاكرين {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: أحمد عطية قوره
إماطة اللثام عما علق بأذهان بعض المنتسبين
إلى العلم من الأوهام
جاءتنا الرسالة الآتية في مسألة تسويد النبي صلى الله عليه وسلم في
العبادات المشروعة، ومسألة التوسل، فننشرها مع الوعد بنشر ما يجيئنا من رد
عليها تُرَاعى فيه آداب المناظرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله الهادين المرشدين
(أما بعد) فإنا نحرِّر هذه الرسالة قيامًا بما أوجبه (الدين النصيحة) في الكشف عن
مسألتين خلط فيهما بعض من ينتسب للعلم: (الأولى) راجعة إلى الأحكام
(والثانية) راجعة إلى العقائد.
موضوع الأولى (تسويد) النبي صلى الله عليه وسلم، وقضاؤنا فيها أن من
أتى بها في الصلاة أو في الأذان أو في دعاء مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم
على أن تكون من شرع الله ودينه - فهو مبتدع، وفي الأوليين مبطلة لهما ? وفي
الثالث مكروهة كراهة تحريم، وقد رأينا أن نجري على ما كان عليه المهتدون
الأولون في الإرشاد، فنقدم الأدلة على هذه الأمور الثلاثة: التسويد في الصلاة، وما
بعدها؛ تطبيقًا للفروع على الأصول، وإن كانت أحوال المناظرة وقوانينها تقضي
على المثبت بإقامتها لا علينا كما هو معروف عند الأصوليين وسواهم أن المثبت
لأمر هو المُدَّعِي المطالَبُ بإقامة الأدلة على دعْواه، أما النافي فيكفي أن يقول: لم
يرد ونحوه، فنقول:
إن مرجع الأحكام إلى واحد من أربعة أمور أو خمسة على الخلاف في
الاستحسان والمصالح المرسلة:
(1)
كتاب الله.
(2)
صحيح السنة أو حسنها أو ضعيفها فيما يتبع العبادة المعروفة عندهم
بفضائل الأعمال، الخالي عن ورود شيء فيه من النوعين الأولين.
(3)
الإجماع بأنواعه، ولا سيما الثابت عن الصحابة.
(4)
القياس الصحيح فيما لا نصَّ فيه (دع الاستحسان والمصالح
المرسلة) .
أما الكتاب فلا تعرض لها فيه؛ إذ لم يذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم إلا
مجردًا عنها، وأما السنة فهي نافية لها؛ لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم المذكورة بعد التشهد على اختلاف الروايات فيها حال تعليم النبي صلى الله
عليه وسلم إياها للصحابة خالية من تسويده، وكل من الأذان والصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم توقيفي ثابت بِعَدِّ كلماته، ولم يذهب أحد من الأربعة ولا
غيرهم من علماء المسلمين - متقدميهم ومتأخريهم - إلى جواز ذكرها في الأذان ولا
في الإقامة، وأما بعد التشهد فالكثيرون أو الأكثرون على عدم جوازها، كما سيأتي
بيانه بعد مفصلاً.
لا يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم تركها تواضعًا، فإنها لو وجبت أو
شرعت ولو استحبابًا أو جوازًا لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم تبليغها،
وإلا لم يؤد وظيفة البلاغ كما أمره الله تعالى بقوله: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ} (المائدة: 67) الآية، خصوصًا وأنه في مقام البيان بعد سؤال الصحابة
رضي الله عنهم عن كيفية الصلاة عليه المشروعة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:
56) الآية. رواه مسلم وغيره. وأيضًا فهي مخالفة لقوله صلى الله عليه وسلم:
(صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري. ولقد فهموا رضي الله عنهم ما
أراده
ونِعْمَ ما فهموا، ولذلك امتنعوا عن الإتيان بها ولو كانت غير مبطلة فضلاً عن
كونها مندوبة كما يزعم البعيد عن معنى كونه صلى الله عليه وسلم مشرعًا وكونهم
ممتثلين، لَمَا فاتهم الإتيان بها وهم أفضل الأمة وأكثرها أدبًا وقدوة لمن بعدهم
إلى يوم القيامة، وإن اتفاقهم على عدم الإتيان بها من غير إنكار أحد منهم على أحد
مع ما هو معروف عنهم من إكباره صلى الله عليه وسلم وإجلاله - لهو أبلغ إجماع
على عدم الإتيان هذا، وقد روى النسائي عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه
أنه قال: (انطلقت في وفد من بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا:
أنت سيدنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السيد الله، قلنا: وأعظمنا
وأفضلنا، قال: قولوا بقولكم- أو: بعض قولكم - أنا محمد عبد الله ورسوله، ما
أُحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي رفعني الله عز وجل . فهذا الحديث صريح في
نفيها من وجهين: الأول دلالة الفحوى، فإنها إحدى طرق القصر، وذلك قوله:
(السيد الله) فإنها جملة مُعرَّفة الطرفين مفيدة للحصر؛ ولهذا وقع الرد بها في
القرآن ردًّا على الحصر بـ (إنما) في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ} (البقرة: 12) ردًّا لقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (البقرة: 11) وأمثال هذا
كثير.
الوجه الثاني: بالمنطوق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أحب أن
ترفعوني.. .) إلخ، ومنزلته بالحصر {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} (الفتح: 29) وقوله:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ} (آل عمران: 144) وأمثال هذا.
فقد تبين من هذا أن كلاًّ من الكتاب والسنة والإجماع يمنع الإتيان بها، ولا
يجترئ مسلم على القول بأن الصحابة (رضى الله عنه) اجتمعوا على منكر وهو
ترك شيء من الدين، وبهديهم اهتدى التابعون لهم بإحسان فمن بعدهم حتى دَبَّ
الفساد في المسلمين، وغلبت الأهواء على أئمة الدين، فجاءوا بالاستحسان
والمصالح المرسلة فزلزلوا سلطان الدين من النفوس [1] حتى صار لا يسمع إلا قول
فلان وفلان وصار الدين وضعًا فكريًّا لا وضعًا إلهيًّا.
وأما القياس فهو بنفيها أشبه وإن لم تكن إليه حاجة بعد النصوص؛ لأنه إنما
يُسْتَدَل به فيما لا نص فيه، وقد قدمنا النصوص من الكتاب والسنة والإجماع ومع
ذلك فهو قاطع في نفيها، ولنورد على ذلك بعض الأمثلة:
لا يجهل أحد أن أفضل ما ينطق به اللسان هو القرآن الكريم، وقد أجمعوا على
أنه لو أتى به في ركوعه أو سجوده كان مخالفًا للسنة، وقد روى مسلم في صحيحه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع سجاف حجرته في مرضه الذي مات فيه
فأشرف على الصحابة وهم متأهبون للصلاة، فقال: (نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا أو
ساجدًا) ولا يقال: إنه نهى عنه لإطالة الركوع والسجود لأن كثيره وقليله سواء في
النهي؛ ولأنه لو أطالهما بالتسبيح بمقدار سورة البقرة - ولا سيما في النوافل - لما
بطلت صلاته، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في ركعة واحدة البقرة ثم
النساء ثم آل عمران ثم كان سجوده قريبًا من ركوعه المذكور. رواه مسلم. فالسيادة
التي ليست بذكر ولم ترد في شىء مما تقدم من الأدلة أولى بالمنع.
مثال آخر: قال الإمام النووي في شرحه حديث كيفية تعليم النبي صلى الله
عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم أن يصلوا عليه، ما حاصله: أن قول القائل في
الصلاة (ورحمت) قبل (وباركت) أو بعدها - غير جائز وإن وردت في حديث
غريب؛ لأن العبادة لا يؤخذ فيها إلا بالحديث الصحيح أو الحسن الخالي عن علة
كالغرابة ونحوها اهـ.
فالسيادة أولى بالمنع لعدم ورودها ولا في حديث موضوع، بل ورد النهي عنها
كما تقدم في حديث النسائي فهي إحْدَاثٌ محضٌ في الدين [2] مردودةٌ على مُحْدِثها،
عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. يشهد بذلك قوله صلى الله عليه
وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) وفي رواية: (من عمل
عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم عن عائشة [3] .
هذا ما يتعلق بها من حيث الأصول الأربعة المُعَوَّل عليها. ولنرجع إليها من
حيث الفروع، فنقول: مذهب الشافعي أن كل كلام أجنبي - أي غير مشروع -
مُبْطِل للصلاة ولو حرفًا مفهمًا أو حرفين وإن لم يُفهِما. وقد تبين مما تقدم أنها كلام
أجنبي بالمعنى المذكور، والقول بالبطلان ليس بدعًا منا، بل هو قول المحقق
الطوسي من أئمة الشافعية، وقد نقل هذا العلامة الكردي المدني في حاشيته على شرح
ابن حجر الهيتمي، قال ما محصله: اختلف في تسويد النبي صلى الله عليه وسلم
عقب التشهد، فقيل بجوازه تأدبًا، وقيل بكراهته، وقيل بحرمته، وقال الطوسي من
أئمتنا: إنها مبطلة. قال الكردي بعد هذا: ولعل الطوسي غلط اهـ وقد تبين مما
تقدم أنه الحق، وأما تغليطه إياه فهو مبني على ما قدَّمه من جوازها تأدبًا، وعلى ما
قاله بعض المتأخرين من الشافعية وهم شذوذ بالنسبة إلى المتقدمين؛ لأن القول
بجوازها تأدبًا يؤدي إلى رفع الأدب عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو ما لا
يجترئ على القول به ذو دين.
هذا ولم يقل بجوازها أحد من الأئمة الأربعة، ولم ينقل عن أحد من أصحابهم
القول بالجواز. هذا ما يتعلق بها من حيث الفروع والأصول. وإن فيه لمقنعًا لمريد
الحق المنصف.
***
مسألة التوسل
والمسألة الثانية من الرسالة موضوعها ما ادعاه بعض من انتمى إلى العلم من
سنية التوسل مُرْتَكِنًا فيه على حديثين: أحدهما (اللهم إني أسألك بحق السائلين
عليك) الثاني ما ورد في تفسير الكلمات التي تلقت آدم أو تلقاها في قوله تعالى:
{فَتَلَقَّى آدَمُ} (البقرة: 37) الآية، وإنا نتكلم على كل من الحديثين ثم نفصل
المسألة من حيث المنقول فيهما عن الأئمة بالإيجاز، فنقول في شرح الحديث الأول،
وخير ما فسرته بالوارد
جاء من حديث معاذ عند مسلم ما ملخصه: (إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا
يشركوا به شيئًا، وإن حقهم عليه إذا هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم) فمعنى حق السائلين
أي العابدين المخلصين في عبادتهم - كما يؤخذ من الحديث - هو أن تشملهم رحمته،
وحينئذ يرجع معنى الحديث إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يدخله
في رحمته؛ لأنه خير عابد مخلص بصفة من صفاته الذاتية وهي الرحمة المبينة في
حديث: (إن رحمتي سبقت غضبي) وسؤال الله بصفة من صفاته لا شيء فيه،
وليس هو توسلاً بذات مخلوق أو عمله بل هو مسئول بجزاء على عمل الإنسان نفسه
في مقابلة عمله كما يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ (إذا هم فعلوا
ذلك) فإذا كان معنى الحديث ما قدمناه لم يدل على سنية ما زعم من التوسل ولا على
جوازه. وإنا ننقل عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم خصوصًا أئمة المذاهب الأربعة
وأصحابهم عدم الجواز.
رأي أبي حنيفة وأصحابه:
قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز أن يسأل بمخلوق ولا يقول أحد: أسألك
بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى (بشرح
الكرخي) بعد أن ذكر ما تقدم ما نصه: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي
حنيفة، قال بشر بن الوليد: حدثنا أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد
أن يدعو الله إلا به. وقال أبو يوسف: أكره أن يقول: بحق فلان، أو: بحق أنبيائك
ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام، وقال القدوري: المسألة بخلقه لا
تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقًا. وما يقول فيه أبو حنيفة
وأصحابه: (أكره كذا) هو عند محمد حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إلى
الحرام أقرب وجانب التحريم عليه أغلب.
رأي الشافعية:
في فتاوى أبي محمد العز بن عبد السلام ما نصه: لا يجوز سؤال الله بشيء
من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم. ثم قال: وأتوقف في جوازه بنبينا صلى الله
عليه وسلم لأني لا أعرف صحة الحديث فيه. والحديث الذي يشير إليه هو
(توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم)[4] حديث باطل باتفاق الحفاظ، ونقل ابن
القيم أن الدعاء عند القبر والصلاة عنده والتمسح به لأنه قبر فلان الصالح: بِدَعٌ
منكرة باتفاق أئمة المسلمين. وإن ما ينقله بعض الجهلة من دعاء الشافعي عند قبر
أبي حنيفة كذب ظاهر اهـ.
ونقل الثوري عن الشافعي ما نصه: أكره أن يُعَظَّم مخلوق. واصطلاحه في
مثل هذه العبارة معروف، وهو التحريم.
ولم يُنقل عن مالك وأحمد في المسألة شيء سوى السلام على النبي صلى الله
عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما لمن وُجد عند القبر، بل نقلت موافقتهما
لغيرهما من الأئمة كما تقدم عن القدوري وابن القيم اهـ. الكلام على أحد الحديثين.
وأما على الثاني فقد قال السيوطي في تفسير الكلمات من قوله تعالى:
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} (البقرة: 37) الآية، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه فقال: أسألك بحق محمد إلا
غفرت لي، فأوحى الله إليه: ومن محمد؟ فقال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعتُ
رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس
أحد أعظم قدرًا ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله إليه: يا آدم إنه آخر النبيين
من ذريتك لولاه ما خلقتك) رواه الطبراني وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر
والحاكم وانفرد الأخير بتصحيحه اهـ. يرويه جميعهم عن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم عن أبيه عن جده عمر بن الخطاب يرفعه، ولم يتابع السيوطي عليه أحد من
المفسرين بالمأثور كابن جرير والحافظ ابن كثير وغيرهم، ولو شئنا أن ننقل أقوال
أولئك العلماء في تفسير الآية لاحتجنا إلى عدة أوراق ولكن نكتفي بأنهم أهملوا ما
قال السيوطي، وإسناد الحديث في الطبراني الصغير هكذا: عن محمد بن داود بن
أسلم الصوفي المعري عن أحمد بن سعيد المدني الفهري عن عبد الله بن إسماعيل
المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب
قال الطبراني: لا يُروى عن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به أحمد بن سعيد اهـ.
(ملحوظة) : (اتفق العلماء المحققون على عدم الاحتجاج بالحديث إذا روي
بالعنعنة المحضة [5] كالإسناد الذي مر معنا؛ إذ لم يصرح بلفظ التحديث أو الإخبار
أو السماع من طريق أخرى وقد صرَّح الطبراني أنه لا يُرْوَى إلا بهذا الإسناد كما
تقدم عنه) .
قال البيهقي: (وهو أحد رواته وتفرد به عبد الرحمن اهـ) يريد بذلك
أنه شاذ كما أراد الطبراني بأحمد بن سعيد، وقال بعضهم تعليقًا على تصحيح الحاكم:
ليس كل ما صحَّحه الحاكم مقبولاً، وقال المدارسي في هذا الحديث بخصوصه في
كتابه (كشف الأحوال في نقد الرجال) إن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف
باتفاق، وقال العلامة أحمد بن ناصر التميمي في كتابه (تقريب التهذيب) جوابًا
لسائل سأله عن تصحيح الحاكم لهذا الحديث: إنه من رواية عبد الرحمن بن زيد:
يعني ليس بصحيح، وقال أحمد بن حنبل: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف،
وقال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء. وضعَّفه علي بن المديني جدًّا وهو إمام
الحفاظ في عصره صاحب تآليف عديدة في الجرح والتعديل. وقال أبو داود
صاحب السنن: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعيف، وقال النسائي من أصحاب السنن:
ضعيف، وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثًا،
فقال: من حدثك؟ فذكر إسنادًا منقطعًا فقال مالك: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد
يحدثك عن أبيه عن جده عن نوح (ومالك هو الإمام الجليل) وقال أبو زرعة أحد
الحفاظ الذين يروي عنهم البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن في شأن
عبد الرحمن: إنه ضعيف، وقال أبو حاتم الحافظ المعروف: ليس عبد الرحمن بن
زيد بقوي في الحديث كان في نفسه صالحًا وفي الحديث واهيًا اهـ.
وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من
رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك اهـ.
وقال ابن سعد صاحب الطبقات في شأنه: كان كثير الحديث ضعيفًا جدًّا
اهـ وقال ابن خزيمة: ليس عبد الرحمن ممن يحتج أهل العلم بحديثه اهـ.
وقال الحاكم وأبو نعيم: وهو الراوي للحديث، روى عن أبيه أحاديث موضوعة
اهـ. وقال الحافظ ابن الجوزي الناقد للأحاديث: أجمعوا على ضعفه اهـ.
فهذا الحديث الذي يتمسك به جهلة المرتدين في جواز التوسل قد بينا شأنه
وأقوال العلماء فيه، وكان يصح لهم ذلك لو لم يعارضه اتفاق المسلمين كما نقلناه
عن الأئمة على عدم جواز التوسل فضلاً عن سنيته، نسأل الله التوفيق والاهتداء
بما جاء عن خير الأمة والمهديين بسنته، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على
محمد وعلى آله وصحبه آمين.
…
... تحريرًا بالعلاقمة في 4 شوال سنة 1340هـ.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
أحمد عطيه قوره
_________
(1)
المنار: إن مراعاة المصالح المرسلة في الأحكام الشرعية قال بها الإمام مالك، وهو عنده خاص بالمعاملات القضائية والسياسية دون العبادات التي جعل مدار إثباتها على الاتباع المحض، وهو الحق.
(2)
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) وقد عرف الإمام الشافعي رضي الله عنه البدعة بما نصه (ما أُحدث وخالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا فهو البدعة الضالة) وقد بينا أن تسويد النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والأذان والدعاء المأثور لم يرد في واحد من الأربعة التي ذكرها الشافعي في تعريف البدعة اهـ من حاشية الأصل.
(3)
اللفظ الثاني انفرد به مسلم، ورواه أحمد أيضًا، وأما الأول فمتفق عليه.
(4)
المنار: الذي نجزم به أن سلطان العلماء لا يخفى عليه أن هذا الحديث موضوع، وأنه إنما عنى حديث الأعمى، والرواية التي تدل على ما ذكر من رواياته ضعيفة كما حقَّقه شيخ الإسلام في كتاب التوسل والوسيلة.
(5)
المنار: لا يصح هذا على إطلاقه بل هو مقيد بعنعنة المدلسين.
الكاتب: مصطفى عبد الرازق
ذكرى رينان في الجامعة المصرية
محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني
(رينان) كاتب بليغ من كُتاب الفرنسيس وملاحدتهم اشتُهر اسمه في مصر
وبعض البلاد العربية الأخرى بخطاب (محاضرة) موضوعه (الإسلام والعلم)
وجه به قوة فصاحته وبلاغته الخلاّبة إلى الطعن في الدين الإسلامي والأمة العربية
لينقض بها ما شاده علماء فرنسة الفلاسفة الأعلام وغيرهم من التاريخ المجيد للعرب
والإسلام، وفي مقدمتهم الفيلسوف الاجتماعي الكبير (غوستاف لوبون) صاحب
كتاب (حضارة العرب) الذي سارت بذكره الركبان، والعلامة (سديو) الشهير
صاحب كتاب (تاريخ العرب) ولكنه تكلم بجهل وتكلموا بعلم.
وقد كان من مثار العجب للناس أن الجامعة المصرية أقامت حفلة حافلة لذكرى
(رينان) بمناسبة انقضاء قرن من عهد ولادته وحاروا في استنباط الباعث لأساتذة
الجامعة على اختيار هذا الملحد الطاعن في دين الإسلام وفي المسيحية أيضًا
للإشادة بذكره وإعلاء قدره، على عدم حفظ أي منقبة له نفع بها البشر فأصاب هذه
البلاد وهذه الأمة حظ منها يستحق بها ذلك عليها، والعهد قريب باحتفال فرنسة
وغيرها بذكرى عالم من علمائها بل من أكبر علماء الأرض ومكتشفيهم نفع البشر
كلهم بعلمه واكتشافاته وهو (باستور) الشهير، فلماذا لم تحتفل الجامعة بإحياء ذكره
وإعلاء قدره؟
وقد كان الدكتور طه حسين أحد مدرسي الجامعة المصرية ينشر في هذه
الأثناء التي وقع فيها الاحتفال بذكرى (رينان) مقالات في جريدة السياسة يحاول
فيها إثبات انتشار الارتياب في الدين الإسلامي، والإلحاد، والفسق عنه في أهل
القرن الثاني والثالث للهجرة الإسلامية في بلاد الحضارة العربية كالعراق بل في
الحجاز أيضًا!! ويستدل على ذلك بشبهات كشبهات رينان، كما أخبرنا الثقات الذين
رد بعضهم عليه.
وفي إثر ذلك نُشر في الجرائد إعلان يبشر الناس بأن الأستاذ الشيخ مصطفى
عبد الرازق سيلقي في الجامعة المصرية محاضرة موضوعها (الفيلسوف رينان
وجمال الدين الأفغاني) فظننا نحن وأمثالنا أنه يريد بهذه المحاضرة أن يمحو سيئة
ذلك الاحتفال بالإشادة بفضل فيلسوف الإسلام السيد الحسيني سليل البضعة النبوية
الطاهرة الذي اشتهر عنه أنه رد على محاضرة رينان في وقتها بما هدم بنيانها
وقوض أركانها، وقد أممنا دار الجامعة في مساء اليوم الثاني من شعبان (20
مارس) مع الكثيرين لسماع محاضرته فلما سمعناها دهشنا وخاب أملنا، فخرجنا
من دار الجامعة إلى دار جريدة الأهرام لموعد اجتماع مجلس إدارة نقابة الصحافة
فيها فخَفَّ بنا كثيرون ممن خرج معنا من الأزهريين وغيرهم فرأيناهم مستائين مما
سمعوا كارهين له، فذكرنا لهم بعض ما في الخطاب من الخطأ والخطل والضعف
في المحاضرة فتمنوا لو يكتب فوعدناهم بذلك، وقد كتبنا في تلك الليلة العجالة
التالية لجريدة الأهرام:
محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق
موسيو رينان وجمال الدين
نظرة عَجْلَى:
حضرتُ هذه المحاضرة في الجامعة المصرية وكنت قد سمعت من شيخنا
الأستاذ الإمام كلمة مجملة عن رد السيد على (رينان) فهمت منها ما سأذكره بعدُ.
كنت أظن أن سأسمع ما قاله (رينان) في الإسلام مفصلاً، وأن يكون فيه
شبهات ومطاعن دقيقة تحتاج إلى حجج جمال الدين وقوة عارضته فخاب ظني،
وكنت أنتظر أن أسمع تتمة المحاضرة المعلن عنها في الصحف، وهي ما كان بين
رينان ومحمد عبده لأرى هل أسمع عنه ضد ما أعلم منه عن نفسه، كما سمعت ضد
ما أعلم منه عن أستاذه، ولكن الأستاذ صاحب المحاضرة أطال في المقدمة فضاق
الوقت المعين عن الخاتمة، وهي على ما أظن رد الشيخ محمد عبده على رينان.
طعن رينان في الإسلام بأنه عدو العلم والعقل وطعن في العرب بأن عقولهم
قاصرة بطبعها غير مستعدة لفهم الفلسفة وما وراء الطبيعة، وكل ما ذكر في
المحاضرة من تلخيص كلامه يدل على أنه لم يكن يعرف من أصول الإسلام شيئًا
إلا بعض كلام دعاة النصرانية في الجزائر ورجال السياسة الفرنسية فيها، وناهيك
بإخلاص الفريقين والتحقيق والصدق منهما، فمن تحقيق الفريق الأول ما يعرفه
قراء العربية من كتاب (الإسلام للكونت دي كاستري) الذي ترجمه بالعربية
المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول، فإن فيه من العقائد المنسوبة إلى الإسلام ما لم
يخطر في بال أحد من البشر لم يطلع على مفترياته. ومن تحقيق الفريق الآخر
تفضيل البربر على العرب في العلم والمدنية، ودليلهم على ذلك أن أصلهم من
برابرة الشمال الأوربيين لا من همج الساميين! وقد اضطر إلى تجهيلهم الفليسوف
الاجتماعي بحق (غوستاف لوبون) أحد أفراد علماء الفرنسيس الذين أنصفوا
العرب حق الإنصاف على علم صحيح بالتاريخ.
ومن هذا الباب ثناء رينان على جمال الدين وعلى قومه الأفغان بأنهم من
الأرومة الآرية ذات العقل الراقي المستعد للفلسفة العليا التي تستعصي على عقول
العرب، وعلّل بذلك ما زعمه من عدم استمساك هذا الشعب بالإسلام. والحق الواقع
القطعي الدال على مبلغ جهل رينان هو أن السيد جمال الدين هو الفليسوف الوحيد
الذي خرج من الأفغان وهو من صميم العرب من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم
وأن الشعب الأفغاني هو أشد الشعوب الإسلامية اعتصامًا بدين الإسلام وتعصبًا له
لعله لا يفوقه في هذا أو يساويه فيه إلا عرب نجد، فإذا كان السيد جمال الدين غير
متدين كما تراءى لعقل رينان فقد نقضت قاعدته في العرب وفي الأفغان جميعًا، فما
هذه الفلسفة؟ وإذا كان هذا مبلغ علمه بهذا الشعب الحاضر، فما القول بعلمه
بالشعب العربي الأندلسي الغابر؛ إذ فضح نفسه فيما قاله عنه شر فضيحة.
على أننا لا نثق بما نقل إلينا الأستاذ صاحب المحاضرة من كلام فيلسوفي
الغرب والشرق - على رأيه - فإن السيد جمال الدين كتب رده على رينان بالعربية -
كما قال - وترجم لجريدة الديبا بالفرنسية، ونقل من الفرنسية إلى الألمانية، ومنها
إلى العربية، فهل حفظ الأصل مع كثرة النقل من لغة إلى لغة إلى أخرى.
نقل إلينا قبل هذا كلام من قول رينان في الإمام الغزالي وجدناه غلطًا مخالفًا
لما في كتبه المشهورة كتهافت الفلاسفة وإحياء علوم الدين، وهو لم يعتوره من تعدد
الترجمة ما أصاب رد السيد جمال الدين.
ملخص ما ذكر في المحاضرة من رد السيد الأفغاني على الفيلسوف الفرنسي
أنه وافقه على كون الإسلام عدو العلم والعقل كسائر الأديان وخالفه في طعنه في
العرب. ولكن الأستاذ صاحب المحاضرة نقل عن السيد كلمة وجيزة مجملة فيما
عزاه رينان إلى الإسلام هل هو من تأثير الدين نفسه أم هو تأثير فهم الناس له
واختلاف الشعوب في فهمه؟ خرجت هذه الكلمة بصوت غير جهوري فلم تَعِهَا كل
أذن؛ ولا فكَّر فيها كل سامع، ولعل كل ما في الرد من التسليم باضطهاد الإسلام
للعلم وعداوته للعقل مبني على هذه الكلمة.
ههنا أذكر كلمة الأستاذ الإمام عن رأي أستاذه السيد جمال الدين في الدين
والعلم، وهي أن الإسلام دين العقل والحكمة والفلسفة الصحيحة، وأنه لولا تأثير
هدايته لما انتقل العرب من الأمية إلى أعلى مما كان عليه جميع البشر في كل علم
وكل فن وكل نظام وكل عمران في مدة جيل واحد حتى سادوا الفرس والروم
والأوربيين وغيرهم. وهل يعقل أن تلك الشراذم التي خرجت من جزيرة العرب
حفاة عراة لا يعرفون من العلم شيئًا غير القرآن، ولم يكن كل واحد منهم يحفظه
كله - يمكن أن تدوخ كل هذه الأمم وتسودها وتسوسها من ساحل المحيط الأطلسي
إلى الشرق الأقصى وتُخْضِعَهَا لدينها ولغتها بالسيف؟
ولكن المسلمين ابتدعوا في الإسلام بِدَعًا كثيرة لم يمكن تداركها بسبب فساد
نظام الخلافة وإخراجها عن أصلها الذي يشترط فيه العلم الاستقلالي والعدالة، وبهذا
الابتداع الذي صار إسلام القرآن فيه غير إسلام المنتسبين إليه أضاعوا العلم به ثم
عادوا كل علم حتى صاروا إلى ما كان يسعى السيد لتلافيه وتداركه، فكأنه يقول
لرينان: كل ما ذكرت من عداوة الإسلام للعلم مما تكثر الشواهد عليه في التاريخ -
وإن كانت قليلة في عهد الإسلام بالنسبة إلى غيره من الأديان - فهو الإسلام الذي
فهمه خطأ أولئك الذين عادوا العلم والعقل والحضارة لا إسلام القرآن الذي يخاطب
العقل ويرفع شأن العلم في آيات كثيرة، ويبين أن لله سننًا في الكون قام بها نظامه،
وأن هذه السنن لا تبديل لها ولا تحويل.
من الكلمات المأثورة عن السيد جمال الدين: إن القرآن وحده كاف لرفع
البشر إلى أرقى مقام من العلم والعرفان والفضائل والحضارة، لو أن شعبًا وجده
على صخرة في جزيرة بالبحر لم ير غيره. وليس معنى هذا أن فيه مسائل جميع
العلوم والفنون التي يرقى بها البشر، وإنما معناه أنه يُصْلِحُ العقول والأنفس ويدفعها
بهدايته إلى طلب هذا الكمال.
وكتب إليَّ صديقي الشيخ عبد القادر المغربي من الآستانة أيام كان السيد فيها
أنه زاره فكان مما سمعه منه أنه ليس بين أوربا وبين القرآن من حجاب يمنعهم من
الاهتداء به إلا نحن معاشر المسلمين. قال: إنه رفع كفيه ووضعهما أمام وجهه
وفرج بين أصابعه وقال: ينظرون إلينا من خلال القرآن هكذا فيرون وراءه شعوبًا
قد فشا فيها الجهل والفقر والكسل و.. و.. فيقولون: لولا أن تعاليمه باطلة لما كان
أتباعه بهذه الدركة من الانحطاط! فإذا أردنا أن نهديهم إلى الإسلام فلنقنعهم أولاً أننا
لسنا مسلمين.
وقد سألت الأستاذ الإمام: هل وَفَّى السيد بما وعد به من كتابة كتاب يثبت فيه
أن المَدِينة الفاضلة التي مات الحكماء بحسرةٍ مِن فَقْدها لا تختطُّ في العالم إلا بالدين
الإسلامي؟ فقال: لا أعلم أنه كتب شيئًا بهذا العنوان، ولكنه كتب كتابًا أو قال
رسالة فارسية في العدالة العامة أثبت فيها هذه القضية، ولا أعلم ما فعل الله بهذا
الكتاب أو الرسالة (الشك مني) .
ومن أراد أن يعرف رأي السيد في تأثير الإسلام في إصلاح البشر فليقرأ
مقالات (العروة الوثقى) الاجتماعية في الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام. وأما
موضوع الإسلام والعلم فقد فصَّله الأستاذ الإمام في كتاب (الإسلام والنصرانية)
تفصيلاً. وسأعود إلى هذا الموضوع فأوفيه حقه في المنار إن شاء الله تعالى.
فعلم من هذا أن الذي يتفق مع ما كتبه السيد جمال الدين أو أملاه في حقيقة
الإسلام وكونه دين الحكمة والعقل والمدنية - هو أنه قد وافق على أن الإسلام
الممزوج بالبدع هو ذلك الذي اضطهد بعضُ أهله رجالَ العلم، كما كان يقول في
مجالسه بمصر عند رده على بعض آراء الأشعري في الكسب والجبر والتحسين
والتقبيح العقليين: إن دين الأشعري في المسألة كذا وإن إله الأشعري قادر مريد،
غير حكيم.
ويحب الملحد أن يكون عظماء الرجال ملاحدة مثله، وإذا كان مِن منتحلِي
الفلسفة والعلم والباحثين في الأدلة يظن أن من عرف بالعقل والعلم والحكمة لا يمكن
أن يكون ذا دين. وهذا ما كان يحمل بعض الناس على القول بأن جمال الدين
ومحمد عبده غير متدينين.
وقد كان يسألني بعض من يعرفون مني الصدق: هل الأستاذ الإمام متدين
بالفعل اعتقادًا وعملاً؟ بل كثيرًا ما سألني مثل هذا السؤال عن نفسي من يحسنون
الظن بي ويعدونني من (المتنورين) مثلهم ? وآخر مَن سألني هذا السؤال عن
نفسي أديب في حضرة جماعة من المسلمين والمسيحيين، منهم سليم أفندي سركيس
الكاتب المشهور، وموضوع السؤال الإيمان بالبعث والحياة الأخرى بعد الموت،
وقد أجبتهم بما أزالَ استبعادَهم للبعث، وصوّرته لهم بصورة تتفق مع العلوم والفنون
العصرية ولا سيما الكيمياء حتى اعترفوا بذلك.
إن الملحد يحكم على غيره بالإلحاد بأدنى شبهة، وقد حدثني الدكتور شميل أنه
سأل السيد جمال الدين عن الدليل على وجود الله تعالى! قال: فشرع يذكر لي قواعد
كلامية في استحالة الترجيح بغير مرجِّح، والممكن والواجب. لم أفهمها فعلمت أنه
شاك ولا يستطيع أن يقيم برهانًا علميًّا واضحًا. والذنب على الدكتور شمبل الذي
كان خالي الذهن من تلك الأصول والقواعد العقلية التي اعتمد عليها متكلمو الإسلام
في المسائل الإلهية، فظن أن السيد يقول ما لا يفهم؛ لأنه هو لم يفهم ما قاله السيد.
أرى في هذا البلد أفرادًا يعنون في هذه الأيام بإفساد عقائد المسلمين وتجرئتهم
على الكفر وعلى الفسق أيضًا [1] حتى زعم بعضهم أن أكثر المسلمين كانوا كذلك في
القرن الثاني للهجرة مرتابين في الدين وفاسقين عنه بدليل ما يوجد في بعض
كتب الخلاعة والأخبار من حكاية ما يؤثر في ذلك عن بعض الأفراد من الشعراء
والمغنين والمخنثين! على أن رواة هذه الأخبار لا يثق بهم، وأين هم من كتب
المحدثين الثقات وتراجم العلماء والصلحاء الذين ملأوا الدنيا علمًا وفضلاً وقدوة
صالحة؛ إنهم لا يستطيعون قراءة أمثال هذه الكتب ولا تصديق مؤلفيها {وَلِكُلٍّ
وَجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: 148) .
وأما نحن فإننا لا نقبل إلا رواية الثقات العدول وننصح للناس أن يعرضوا عن
اللغو والفضول، وروايات مَن لا يوثق بعدالتهم، ولا سيما إذا كانت مخالفة
للروايات الصحيحة التي تعارضها. وعلماء نقد الحديث يردون رواية العدل
المعروف بالصدق إذا خالفت روايات الثقات الأثبات المعروفة، فآراء حكيم الإسلام
السيد جمال الدين الأفغاني مُدَوَّنَة في رده على الدهريين وفي مقالات (العروة
الوثقى) وغيرها برواية الثقات، وقد طبعت في عصره وتلقاها الألوف ومئات
الألوف في الشرق والغرب، فهل يصح أن نردها بجمل مقتضبة منقولة عمن لا يوثق
بهم بعد مرورها من مضيق لغات مختلفة تعودنا أن نسمع من أهلها الاختلاق علينا في
ديننا وتاريخنا وسياستنا؟ كلا إنه لو صح ما فعلوه فيها عن السيد جمال الدين لكانت
دليلاً على جهله فيما نعلم أنه من أعلم الناس به، وعلى تناقضه وعلى كذبه ونفاقه.
ولو كان ذلك - أجلَّ اللهُ قدرَه - لما صح أن يكون قدوة لأحد، وفات على دعاة
الإلحاد أن يتخذوه قدوة فيه للناس، كيف وهو الذي أحيا النهضة العلمية والسياسية في
الإسلام. رحمه الله وبرأه من تهم أعداء الأديان، كرينان ومقلدة رينان، ونحن إنما
نهتدي بقوله تعالى: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .
***
كلمة المنار في المحاضرة
(1)
كتبنا كلمتنا العجلى للأهرام عقب حضور المحاضرة بحافز التأثير السيئ الذي
كان لها في نفسنا، وفي أنفس الجمهور كما علمنا، كما أن أحد أساتذة الجامعة جاء
الأهرام في تلك الليلة بكلمة أثنى فيها على المحاضرة، وزعم أن الجمهور تلقاها
بالقبول والارتياح
…
ورغّب إلى رئيس تحريرها أن ينشرها في الجريدة على أن
تكون باسمها ففعل، ثم استكتبوا رضا توفيق بك الملقب بالفيلسوف التركي مقالة في
الثناء على المحاضرة وتحبيذ موضوعها والتنويه بأمر الجامعة المصرية وأساتذتها
ونشروها.
ونحن وعدنا في كلمتنا العجلى أن نعود إلى الموضوع فَنُجَلِّيه في المنار -
والمنار أجدر به - لأجل أن نكتب ما نرى فيه الفائدة بعد قراءة المحاضرة؛ لعلمنا
بأن ستنشر في جريدة (السياسة) التي كانت خصصت بعض صفحاتها لنشر أمثالها،
فلما قرأناها ظهر لنا ما كان خفي علينا عند سماعها، وأوله افتتاحها بتدقيق البحث
في تاريخ إخراج السيد جمال الدين من مصر واعتقاله في الهند ومجيئه إلى باريس،
فقد أطال فيها بما لم ينشر كله في صحيفة السياسة إذ لم يكن مكتوبًا، وكان هو أول
ما تبرم به السامعون ونكروه فإنهم لم يحضروا لأجل سماع تاريخ السيد في أسفاره
وتحرير القول في تاريخها، ونرى أن نقسم القول في المنار إلى بيان ما ظهر لنا
من غرض الأستاذ الشيخ مصطفى من المحاضرة، فالدفاع عما رمى به السيد جمال
الدين فتُفنَّد مطاعن رينان الجهلية.
الغرض من المحاضرة:
كنا نظن أن الأستاذ الذي درس العلم الإسلامي في الجامع الأزهر، وبعض
العلم الأوربي في باريس أراد - بعد احتفال الجامعة المصرية برينان الذي لم يعرف
في هذه البلاد إلا بما اشتهر من طعنه في الإسلام - أن يقوم بما هو جدير به من
تلخيص رأي رينان في الإسلام وتلخيص رد السيد جمال الدين عليه، والزيادة عليه
بما يَعِنُّ له، وختْم الكلام بخلاصة الموضوع الذي هو (الإسلام مع العلم والفلسفة)
ذلك ما كنا نوده وما كان يظنه الكثيرون.
فكانت خلاصة المحاضرة أن السيد جمال الدين الذي اشتهر في العالم
الإسلامي كله بأنه حكيم الإسلام وموقظ شعوبه والداعية إلى تجديد مجده وإعزاز
دولته بهدي الدين وعدو الإلحاد وصاحب تلك الحملة المنصورة على أهله في رده
على الدهريين - قد كان ما كان من أمره في ذلك محصورًا في حياته قبل أن يذهب
إلى أوربة - بل إلى باريس - وإنما كان الغرض سياسي، وأنه بعد وصوله إلى
مدينة الكفر والإلحاد واجتماعه برينان وأمثاله في أوائل سنة 1883 قد تطور فكره
في أقل من ثلاث سنين، فمرق من الدين، واعتقد أنه عدو للعلم والعقل والمدنية،
حتى إنه قَبِلَ بكل تعظيم وارتياح طعن رينان في الإسلام، وعظَّمه وأثنى عليه من
جرائه أطيب الثناء، على ما سنبينه بالإجمال من بطلانه وسخفه الذي لا يخفى على
طالب علم بله حكيم الإسلام، ومكمل تربية الأستاذ الإمام.
بهذا أجاب الأستاذ الشيخ مصطفى عن المقارنة بين رد السيد على رينان سنة
1883 وبين سائر محرراته حتى رده على الدهريين الذي كتبه سنة 1881 - وهذا
سر ذلك التدقيق التاريخي الذي أشرنا إليه في فاتحة هذه الكلمة، ولكن المعروف من
تاريخ السيد الحكيم، ومن محرراته في سنة 1883 وما بعدها أنه لم يزدد بعد
إقامته في أوربة - وباريس خاصة - إلا استمساكًا بعروة الإسلام الوثقى ودفاعًا عنه
ودعوة إلى النهضة الإسلامية المدنية بهدايته العالية. وخلاصة المحاضرة أن
فليسوفي الشرق والغرب قد اتفقا على إثبات عداوة الدين للعلم والعقل وحرية الفكر
لا فرق بين الإسلام وغيره.
علمنا أن صاحب المحاضرة كان يبحث منذ سنين عن آثار السيد جمال الدين
والشيخ محمد عبده، فهل كل هذا التعب كان لأجل هذه النتيجة المستنبطة من تلك
المقدمات غير المُسَلَّمَة؟
الدفاع عن السيد جمال الدين:
إننا نرى التعارض تامًّا بين هذا الرد الذي استخرجه لنا صاحب هذه
المحاضرة من ترجمة ألمانية عن ترجمة فرنسية لم يرها عن أصل عربي مفقود -
وبين سيرة السيد ومكتوباته وما روى الثقات عنه من أول عمره إلى آخره حيث كان
في الآستانة يختلف إليه العلماء والكتاب والأذكياء الذين لقينا كثيرًا منهم، فأي
الأمرين نُرَجِّح؟
لدينا رجل معروف مشهور، روى لنا عنه آراءه وأفكاره كثير من العلماء
والفضلاء من أقطار مختلفة عاشروه وتلقوا عنه، منهم من توفي كالأستاذ الإمام
والأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان والأستاذ إبراهيم اللقاني الذي كان أقرب الناس
إليه، وألصقهم به وأكثرهم استفادة منه، ومنهم الأحياء كالأستاذ الشيخ بخيت
والأستاذ إبراهيم بك الهلباوي، ومنهم آخرون من أهل سورية والآستانة وغيرها من
الأقطار كالأمير شكيب أرسلان والشيخ طاهر الكيال والشيخ عبد القادر المغربي
وله آثار مخطوطة ومطبوعة في عصره، أشهرها رسالة الرد على الدهريين،
وجريدة العروة الوثقى التي نشرها بباريس سنة 1884.
كل ذلك متفق في تعريف الرجل إلينا أو تعريفنا به، ويعارضه تلخيص
بالعربية عن ترجمة ألمانية لترجمة فرنسية لرده بالعربية على رينان، فيه إبهام
التلخيص واحتمال الخطأ فيه وعدم الثقة بمطابقة الترجمة الألمانية للفرنسية
والترجمة الفرنسية للأصل العربي الذي كتبه السيد ردًّا على رينان، فإذا هو بهذه
الظلمات الثلاث أقرب إلى التأييد منه إلى الرد، والمشهور أنه رد على أننا فهمنا منه
غير ما فهمه صاحب المحاضرة.
فأي هذين الأمرين المتعارضين نُرجح؟ أَفَهْمُنَا المؤَيَّد بالآثار المخطوطات
والمطبوعات وبروايات الثقات الأثبات، أم فهمه المعارَض بكل ما ذكرنا الذي تعلوه
تلك الظلمات الثلاث، إننا نرى أهل الفرق المختلفين في أصول الدين الواحد منهم
على مذهبه بنصوص من كتاب ذلك الدين الإلهي، وكذلك المختلفون في الفروع قد
يرد بعضهم على بعض بنصوص الكتاب وأقوال الرسل عليهم السلام، بل نرى
أهل دين يستدلون بكتاب غير كتابهم على خلاف ما أجمع عليه المؤمنون بذلك
الكتاب، كما ألف بعض دعاة النصرانية كتابًا استدل فيه بآيات من القرآن على أن
التوراة والإنجيل اللذين بأيدي أهل الكتاب حق كما أنزلهما الله وأنه لا تحريف فيهما
ولا تبديل، وأنه يجب العمل بهما بعد الإسلام! !
إننا نجد فيما لخصه الأستاذ صاحب المحاضرة من رد السيد جمال الدين على
رينان جملاً متفرقة تخالف جملاً أخرى منها وتحول دون صحة النتيجة التي
استنبطها من مجموع الرد وقد يؤيدها في ذلك جملة من تلخيص رد رينان على
السيد.
أول ما لخصه من رد السيد قوله:
(تشتمل محاضرة الموسيو رينان على نقطتين أساسيتين، فقد حاول هذا
المفكر العظيم أن يبرهن على أن الديانة الإسلامية كانت بما لها من نشأة خاصة
تناهض العلم وأن الأمة العربية غير صالحة بطبيعتها لعلوم ما وراء الطبيعة ولا
للفلسفة.
ويظهر أن الموسيو رينان يقول: إن هذه النبتة الصالحة ذبلت في أيدي
المسلمين كما يذبل النبات تلفحه ريح الصحراء الساخنة.
وإن المرء ليتساءل بعد أن يقرأ المحاضرة عن آخرها: أَصَدَرَ هذا الشر عن
الديانة الإسلامية نفسها؟ أم كان منشؤه الصورة التي انتشرت بها الديانة الإسلامية
في العالم ? أم أن أخلاق الشعوب التي اعتنقت هذا الدين أو حُملت على اعتناقه
بالقوة - وعاداتها ومواهبها الطبيعية - هي جميعًا مصدر ذلك؟
ولا ريب [2] أن الوقت المخصص لرينان قد حال دون إجلائه هذه النقطة)
اهـ. بحروفه.
فيؤخذ من هذه الجملة أو الجمل أمور:
(أحدها) أن السيد صرَّح بأن رينان يحاول أن يبرهن على نظريته في
الإسلام، لا أنه برهن، ومعنى (حاوله) طلبه بحيلة كما بيَّنه الزمخشري في أساس
البلاغة، وإنما يلجأ إلى الحيلة العاجز.
(ثانيا) : أنه حاول ذلك بأخذه من نشأة هذا الدين الخاصة وكون العرب
الذين نزل كتابه بلغتهم غير مستعدين للعلم والفلسفة، لا من طبيعته وتعاليمه.
(ثالثها) : أن الإسلام نفسه نبتة صالحة - أو العلوم - فالعبارة محتملة،
وأنها ذبلت في أيدي المسلمين وتصوحت كما يتصوح النبات الغض تلفحه ريح
السَّمُوم.
ومعنى هذا على الوجه الثاني أن العلوم وجدت في عهد الإسلام ثم ذبلت،
وهذا حق، فالتاريخ يشهد أن العرب هم الذين أحيوا العلم والفلسفة بعد أن أخرجهم
الإسلام من أميتهم، وأنها إنما ذبلت بعد ضعف دولهم، ثم جفت ويبست بعد زوال
تلك الدول، وسيأتي تفصيل ذلك.
(رابعها) قوله: إن المرء ليتساءل بعد أن يقرأ المحاضرة عن آخرها:
أَصَدَرَ هذا الشر عن الديانة الإسلامية نفسها؟ أم كان منشؤه الصورة التي انتشرت
بها الديانة الإسلامية.. إلخ ما تقدم.
والذي يتفق مع سيرة السيد مجمَلَة ومفصَّلَة - بل الذي نقل عنه صراحة - هو
أن إسلام القرآن أكمل هداية للبشر، وأنه كافل للمدنية الفاضلة التي مات الفلاسفة
والحكماء في حسرة من فقدها وعدم اهتداء السبيل إليها، وأن المسلمين لم يقوموا بكل
ما أرشد إليه الإسلام من كل وجه، وأنهم جَنَوْا على دينهم حتى نَفَّرُوا الناس منه في
القرون الأخيرة، وقد نقلنا في الكلمة العجلى بعض ما روى لنا الثقات عنه في آخر
عمره في الآستانة، أي بعد التطور الذي استنبطه الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق
فكان منشأ أغلاطه. ومما يؤثر عنه وسمعه منه الكثيرون: أن القرآن لا يزال بِكْرًا لم
يفسره أحد حق تفسيره، وأن فيه من الهداية ما يناسب كل عصر، وأن المسلمين
أخذوا من هدايته المدنية في كل عصر بقدر استعدادهم وأحوالهم الاجتماعية، ولولا ما
سنشير إليه من الصدمات التاريخية لبلغوا به الكمال المدني كما بلغوا الكمال الديني.
يؤيد فهمنا هذا ما نقله الأستاذ صاحب المحاضرة من رد رينان على السيد جمال الدين
قبل خاتمتها، وهو قوله:
(ويلوح لي أن الشيخ جمال الدين قد زودني بطائفة من الآراء الهامة [3]
تعينني على نظريتي الأساسية وهي أن الإسلام في النصف الأول من وجوده لم
يَحُلْ دون استقرار الحركة العلمية في الأراضي الإسلامية. ولكن في النصف الثاني
خنق الحركة العلمية وهي في حظيرته فكان هذا من سوء حظه) . اهـ.
أضف إلى هذا إطناب السيد في تفنيد رأي رينان في العرب - واستنتِجْ منهما
أنه يعني بالنصف الأول عصر الدولة العربية المحضة قبل تغلب الأعاجم على
خلفاء العرب من ترك وفرس - وبهذا تعلم أن السيد قد هدم محاضرة رينان ونسفها
نسفًا برقة ولطف، كالماء تخلل أساس بناء بني على شفا جرف هار فانهار به،
وإن كل ما وافقه عليه هو أن المسلمين قد وجد منهم - كغيرهم - في نشأة الإسلام
الأعجمية في النصف الثاني من حياته ما خنق الحركة العلمية، فكل ما أسنده إلى
الإسلام موافقًا لرينان يُراد به الإسلام الأعجمي المشوه بالبدع، لا الإسلام العربي
المنصوص في القرآن والسنن، وإلا كان كلامه متناقضًا، ولا وجه لدفع التناقض
الذي يُصَان عنه كلام العقلاء إلا ما ذكرنا.
شرح الشيخ محمد عبده لرد الأفغاني على رينان:
إنني أستطيع أن أشرح لك أيها القاريء هذا الحكم ولكنك غني عن شرحي
بشرح أكبر تلاميذ السيد جمال الدين ومريديه وأعلم الناس بآرائه والمطلع على رده
على رينان بنصه، فهو قد شرح هذا الرد بكتاب حافل، تتزين به الخزائن
والمحافل ألا وهو (كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) .
أورد في هذا الكتاب بضعة من أصول الإسلام هي نصوص جليلة، وبراهين
قطعية، على كونه دين العمل والعقل والمدنية، ثم ذكر خلاصة تاريخية لمؤرخي
الإسلام والإفرنج عن الدول العربية، تثبت أن تلك المدنية الزاهرة وانتشار العلم
والفلسفة كان نتيجة تلك الأصول الإسلامية واستعداد الأمة العربية. ومما نقله من
كلام غوستاف لوبون الفيلسوف المؤرخ الفرنسي فيه: إن العرب أول من علَّم العالَم
كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.
وبعد أن شرح نتائج تلك الأصول فتح بابًا آخر للكلام عنوانه (الإسلام اليوم
أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام) وصف فيه سوء حال المسلمين علمائهم
ودهائهم، وذكر أنه هو الذي حمل رينان على الطعن في الإسلام واتخذه حجة له.
وقد أورد ذلك بصيغة السؤال ثم أجاب عنه بعد أن سماه (جمود المسلمين) جوابًا
بيَّن به أسبابه والمخرَج منه، ومما قاله في أوائل هذا الجواب (والعنوان لنا) :
ضعف الإسلام العربي بتغلب الأعاجم:
انظر كيف صارت مزية من مزايا الإسلام سببًا فيما صار إليه أهله: كان
الإسلام دينًا عربيًّا، ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيًّا بعد أن كان يونانيًّا، ثم أخطأ
خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنه خيرًا له: ظن أن
الجيش العربي قد يكون عونًا لخليفة علوي؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي
صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتخذ له جيشًا أجنبيًّا من الترك والديلم وغيرهم من
الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، وبصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج
عليه، ولا تعين طالب مكانه من الملك، وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما يبيح
له ذلك، هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميًّا) .
(خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخَلَفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه،
أكثر من ذلك الجند الأجنبي، وأقام عليه الرؤساء منه، فلم تكن إلا عشية أو
ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم ! وصارت
الدولة في قبضتهم. ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام والقلب الذي هذبه
الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم، لبسوا الإسلام على
أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في
خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار
وغيرهم، ومنهم من تولى أمره) .
(أي عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرف الناس منزلتهم ويكشف لهم قبح
سيرهم، فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم، أما العلم فلم يحفلوا بأهله،
وقبضوا عنه يد المعونة، وحملوا كثيرًا من أعوانهم أن يندرجوا في سلك العلماء،
وأن يتسربلوا بسرابيله، ليعدوا من قبيله، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يُبَغِّض
إليهم العلم ويبعد بهم عن طلبه، ودخلوا عليهم وهم أغرار من باب التقوى وحماية
الدين: زعموا الدين ناقصًا ليكملوه، أو مريضا ليعللوه، أو متداعيًا ليدعموه، أو
يكاد أن يَنْقَضَّ ليقيموه) .
(نظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية، وفي عادات من كان حولهم
من الأمم النصرانية، فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو براء منه، لكنهم نجحوا في
إقناع العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره، والغوغاء عون الغاشم،
وهم يد الظالم، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات، وتلك الاجتماعات، وسنوا لنا من عبادة
الأولياء والعلماء والمتشبهين بهم ما فرَّق الجماعة وأركس الناس في الضلالة،
وقرروا أن المتأخر، ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة
حتى يقف الفكر وتجمد العقول، ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية
ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم في الشئون
العامة. وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة فهو ما فرض فيه النظر على
الحكام دون من عداهم، ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا
يعنيه، وأن ما يظهر من فساد الأعمال واختلال الأحوال ليس من صنع الحكام،
وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة في
إصلاح حال ولا مآل، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله وما على المسلم إلا أن
يقتصر على خاصة نفسه، ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم
على ذلك وفي الموضوعات والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام، وقد
انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضلين، وتعاوَنَ ولاةُ الشر على مساعدتهم في
جميع الأطراف واتخذوا من عقيدة القدر مثبطًا للعزائم وغلا للأيدي عن العمل.
والعامل الأقوى في حمل النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف
البصيرة في الدين وموافقة الهوى، أمور إذا اجتمعت أهلكت، فاستتر الحق تحت
ظلال الباطل ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها
على خط مستقيم كما يقال.
هذه السياسة - سياسة الظلمة وأهل الأثرة - هي التي روجت ما أدخل على
الدين مما لا يعرفه وسلبت من المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السموات، وأخلدت
به إلى يأس يجاور به العجماوات، فجُلُّ ما تراه الآن مما نسميه إسلامًا فهو ليس
بإسلام، وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج، ومن الأقوال
قليلاً منها حُرِّفَت عن معانيها. ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع
والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدُّوه دينًا، نعوذ بالله منهم ومما يفترون على
الله ودينه، فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام، وإنما هو شيء آخر
سموه إسلامًا والقرآن شاهد صادق: {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) يشهد بأنهم كاذبون وأنهم عنه لاهون
وعما جاء به معرضون، وسنوفي لك الكلام في مفاسد هذا الجمود، ونثبت أنه علة
لا بد أن تزول اهـ. المراد منه هنا.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تساءل الناس في الجرائد عن هؤلاء الأفراد وهم غير محصورين، وليس لنا أن نطعن في تدين فرد معين منهم إلا بدليل لا يحتمل التأويل، والمحاضرة التي نرد عليها ليست كذلك، على ضررها في هذا الباب وتأييدها لهؤلاء الأفراد.
(2)
الظاهر أن هذه الجملة استئناف بياني، فواو العطف في أولها غلط.
(3)
المنار: الصواب (المهمة) فإن المهم ما يهتم به الإنسان، والهام المذنب، ومن سجع الأساس: أهمه حتى همه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
رسائل الطعن في الوهابية
كان السلطان عبد الحميد يخاف عاقبة نهضة العرب الدينية في نجد؛ إذ كان
يعتقد هو وبعض أركان دولته أن العرب لا تجتمع لهم كلمة ولا تقوم لهم دولة إلا
بدعوة دينية كما قرَّره حكيمهم ابن خلدون في مقدمته - فكان يغري بعض أمرائهم
ببعض كإغراء آل رشيد بآل سعود وكان المنافقون من المُعَمَّمِينَ يتقربون إلى
حكومته بالطعن في الوهابية ويزعمون أنهم يخدمون بذلك الدين وينصرون السنة،
ولكننا لم نر أحدًا من هؤلاء المنافقين نصر الدين بالرد على الملاحدة ولا على دعاة
النصرانية الذين يطعنون في أصل الإسلام وكتابه ورسوله لتنصير المسلمين، وكان
بعض حشوية الشام المُتَمَلقين أشد الناس إسرافًا في الطعن في الوهابية فلا يكادون
يُذكرون في كل البلاد العثمانية بقدر ما يذكرون في دمشق وحدها.
وقد خفت هذه الوطأة في السنين الأخيرة ثم اشتدت بعد أن استقرت إمارة عبد الله
ابن الملك حسين في شرق الأردن وشاع أن الوهابية سيزحفون للاستيلاء على هذه
المنطقة لانتزاعها من السلطة الحجازية البريطانية، وكان بعض الجرائد المسيحية
في دمشق والقدس أول ميادين هذه الحملة، فأصحابها النصارى يطعنون في
الوهابية ويفضلون أمراء الحجاز على أمراء نجد من طريق السياسة، بل ذكرت
جريدة (لسان العرب) التي تأخذ راتبًا شهريًّا من الأمير عبد الله، ومنحتها جريدة
القبلة الحجازية لقب (لسان أقوامنا) أنه يجب على النصارى في سورية وفلسطين
تأييد الملك حسين وأولاده؛ لأن حكومتهم مدنية لا إسلامية بخلاف حكومة نجد فإنها
إسلامية دينية متعصبة. وقد فتحوا أبواب صحفهم لكل من يطعن في الوهابية من
المسلمين طعنًا دينيًّا بحتًا لأجل هذه الغاية السياسية.
وفي هذه الأثناء جاءتنا عدة رسائل من دمشق ورسالة من بيروت في الطعن
في الوهابية كُتِبَ على ظهر بعضها أنها (تُوَزَّع مجانًا وقفًا لله تعالى) وعلى
البعض الآخر (توزع مجانًا في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير
معهود من أصحابها هذا السخاء في نشر العلم والدين! .
لم يرسل إلينا هذه الرسائل مؤلفوها، بل أرسلها بعض أهل العلم والدين لنرد
عليها، وقد تصفحنا أوراقًا من كل منها من أولها وآخرها فلم نر شيئًا منها يستحق
أن يكرم بالرد؛ لأنهم يقولون زورًا ويخلقون أفكارًا ويردون عليها كما يردون بعض
الحق بمحض الجهل وتقليد العوام ومجاراتهم وجعل البدع الفاشية فيهم سننًا مجمعًا
عليها، بل ذكروا في رسائلهم من الأحاديث الموضوعة والآثار المصنوعة والكذب
على السلف الصالح والأئمة ما يعد معه الكذب على الشيخ محمد عبد الوهاب وأهل
نجد أمرًا هينًا؛ فإن كذبًا عليه صلى الله عليه وسلم ليس ككذب على غيره، فمن كذب
عليه متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، كما تواتر عنه عليه صلوات الله وسلامه. على
أن بعض علماء دمشق الأثريين قد ردوا عليهم برسائل فضحوا بها ما ستروا ولقفوا
ما لفقوا.
فمن هذه الرسائل ثلاث لرجل في دمشق يدعي الشيخ عبد القادر الكيلاني
الإسكندراني لقيته في دمشق غير مرة فأوهمني أنه يكره الحشو والبدع ويحب
الإصلاح. وما كنت أظن فيه أن يكتب أمثال هذه الرسائل، ولكنها هي أدل على
حقيقة حاله مما تراءى لي منه.
(ومنها) رسالة لرجل عامي لا ندري أهو من طائفة المعممين أم من غيرهم
اسمه محمد توفيق السويقة، وقد كتب عليها أنها الرسالة الأولى.
(ومنها) رسالة للشيخ محمد جميل الشظي الحنبلي سماها (الوسيط بين
الإفراط والتفريط) نصب فيها نفسه حكمًا بين الوهابية وغلاة خصومهم، وكنا نظن
أنه يحكم عن علم، ويلتزم الحق فلا يجور في الحكم، فإذا هو خصم أي خصم،
نقل عنهم ما ليس عندهم، ولبَّس الحق بالباطل، ولم يميز بين الأواخر والأوائل،
بل جعل الخلف الطالح، كالسلف الصالح، وأيَّدهم في بعض المواضع من حيث لا
يدري بل في سياق الرد عليهم، واعتمد في هذا الرد على كلام أعدائهم ومقلدة
أعدائهم.
رد على هذه الرسائل الشيخ ناصر الدين الحجازي الأثري، والشيخ أبو اليسار
الدمشقي، فأتيا بما يكفي دافعًا لمفترياتها، ومزيلاً لشبهاتها، وإن لم يستقصيا جميع
ضلالاتها، وردهما عليها رد على رسالة الشيخ مصباح شبقلو البيروتي.
فإن كل الذين يردون على الوهابية يستمدون الافتراء عليهم من مصدر واحد
كما أن مصدر مادتهم العلمية والدينية واحد هو التقليد لمتأخري مقلدة الحشوية
وبدعهم، فلا تحري في النقل، ولا استقلال في الفهم، ولا رسوخ في شيء من
العلم، وأنَّى والعلم الذي فرضه الله على كل مسلم محرم عندهم؛ لأنه يدخل في مفهوم
الاجتهاد الذي أقفل بابه بعض شيوخ مشايخهم، وشرعوا للناس تقليد المجتهدين بدلاً
منه، ثم شرع آخرون لهم تقليد المقلدين، وجميع من ينسب إلى مذاهبهم من الميتين
إلى خمس طبقات مرتبة في خمس دركات على أنهم يستدلون فيجتهدون لتأييد التقليد؛
لأن الاجتهاد المحرم عندهم ما يطلب به الحق لذاته؛ ولذلك يحتجون بالأحاديث
الموضوعة أو المفتراة حديثًا لأن مشايخهم ذكروها، ولا يعلم الفريقان أن المحدثين
أنكروها أو لم يثبتوها، والتمييز بين الأحاديث الصحيحة والباطلة من شروط العلم
المحرم عندهم، وإن لنا كلمة فاصلة فيهم وفي بيان عقائد الوهابية سَيَرَوْنَهَا في جزء
آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة وبحث
في الفتوى الأولى من فتاوى هذا المجلد - 24
وموضوعها: استعمال الذهب والفضة
(11)
لصاحب الإمضاء بدار سعد (لحج) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين صاحب الفضل والفضيلة السيد محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار، حفظه الله، آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على
الدوام؛ سيدي: اطلعت على فتواكم الشريفة في استعمال آنية الذهب والفضة الصادرة
في الجزء الأول من المجلد 24 من مجلتكم المنار الغراء، وهي لعمري فتوى نفيسة
فيها توسيع وتيسير على كثير من المسلمين الذي ابتلوا باستعمال هذين النقدين في
الأسلحة والأواني والساعات والخواتم وغير ذلك، وفي دين الله سعة، وفي الحنيفية
السمحة والمحجة البيضاء ما يسع الخلق تفريجًا ومرحمة، وبحسب المؤمنين قوله
تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) وقوله تعالى:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (الأعراف: 32) وقوله تعالى: {إِنَّمَا
حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ} (الأعراف: 33) الآيات.
ولكن المحتاط لدينه لا بد له من برهان وحجة قاطعة تقابل النصوص وتدفع
اعتقاده الذي قد رسخ في يقينه، وأصبح من أجزاء دينه التي لا يمكنه فصل بعضها
عن بعض، وها أنا ذا أتطفل عليكم وأستزيدكم بيانًا لما كتبتموه واقفًا موقف السائل
المستفيد ولا شأن لي في الاعتراض وإنما أتطلب الحقيقة.
بنيتم - سيدي - فتواكم على ما ذهب إليه الإمام داود ومن وافقه من منع
القياس، وقد علمتم أن جمهور الأمة آخذ بالقياس، وأن داود أيضًا ممن يأخذ بالجَلِيِّ
منه. وقلتم في تعليلهم بالخيلاء وكسر نفوس الفقراء ما هو الحق، ولكن الأصح
عندهم أن العلة هي العين مع شرط الخيلاء، وفرق بين العلل.
نعم - سيدي - علمنا من مذاهب جمهور الأمة الإسلامية تحريم الاستعمال
للآنية في الأكل والشرب بالنص وغيرها بالقياس عليها، وقالت طائفة بالحل
والإباحة مطلقًا، وقالت أخرى بتحريم ما جاء به النص فقط، ومنهم داود، وقال
الشافعي في مذهبه القديم بالكراهة للتنزيه.
ثم وجدنا ابن المنذر نقل الإجماع ووجدنا الإمام النووي أيضًا ناقلاً له مع قول
ابن المنذر: إن المخالف معاوية بن قرة، وقول الشافعي في القديم، ومع قول
النووي: إن المخالف داود وأصحابه ممن ينفي القياس وإسقاطه لهذا القول، ونقله عن
الأصحاب أنهم لا يعتبرون خلاف من لم يقل بالقياس وإسقاطه لمذهب الشافعي القديم
وكونه غير مذهب له الآن.
فهل نقل الأفراد للإجماع مقبول أو مردود، وإذا رُدَّ فمِن أين نعلم الإجماع،
وهل قولهم بالإجماع يُحْمَل على الإجماع الصحيح المقبول الذي هو حجة، أو يُحْمَل
على كونه وقع بعد الخلاف وموت أهله أم ماذا نقول؟ وهل تقولون بحجية الإجماع؟
وهل هو واقع في الماضي وممكن الوقوع في الحال والاستقبال أم لا؟ وقد نقل
النووي أيضًا الإجماع على تحريم خاتم الذهب مع وجود الخلاف وصحة كون
جماعة من الصحابة ومن العشرة قد لبسوه حتى راوي حديث النهي عنه، والقول
فيه كسابقه، أفيدوا عافاكم الله.
وإذا أسقطتم هذا الإجماع فما قولكم في حديث الذهب والحرير (هذان حرامان
على ذكور أمتي حلال لإناثها) وحديث: (من لبس الذهب في الدنيا لا يلبسه في
الجنة) أو كما قال، تفضلوا بالبيان الشافي وإظهار الحجة الساطعة في ذلك، لا
عدمكم المسلمون، ودمتم.
…
...
…
...
…
...
…
... الأمير: بدار سعد (لحج)
وأفيدونا عافاكم الله عن حديث النهي عن لبس الذهب إلا مقطعًا أو كما قال،
وعن حديث سيف رسول الله الذي تقلده يوم فتح مكة، وهو محلى بالذهب، وعن
إلباسه للبراء خاتم الذهب، وهو راوي حديث النهي عنه ويقول: ألبسنيه رسول
الله، ولماذا لبسه سعد بن أبي وقاص وطلحة وأسيد بن حضير وصهيب وحذيفة
وخباب وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، هل يجوز أن يقال: إنه لم يبلغهم
النهي، أم نقول: إنهم حملوا النهي على التنزيه؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا، فقد وقع
هنا سوء ظن لمخالفة إجماع المذاهب، حفظكم الله.
(المنار)
إننا أوجزنا في هذه الفتوى؛ لأنه سبق لنا تفصيل المسألة في الفتوى 57 من
المجلد السابع وغيرها، ولو اطلع عليها السائل لاستغنى بها عن أكثر هذه المسائل.
ولو أردنا أن نعيد كل ما حقَّقناه من المسائل في المنار كلما تكرر السؤال عنه ممن
يتجدد من المشتركين لكثر التكرار فيه حتى يمله أكثر القارئين له.
ومن مسائل تلك الفتوى (1) بيان ضعف حديث: (أحل الذهب والحرير
للإناث من أمتي وحرم على ذكورها) وتخطئة الترمذي في تصحيحه.
(2)
إعلال حديث (إن هذين حرام على ذكور أمتي)
…
إلخ.
(3)
أن حديث معاوية في النهي (عن لبس الذهب إلا مقطعًا) في إسناده
سليمان القناد فيه مقال، وبقية رجاله ثقات، ورواه أبو داود بسند آخر فيه بقية بن
الوليد وفيه مقال أيضًا.
(4)
أن حديث علي (نهاني رسول الله عن التختم بالذهب)
…
إلخ، رواه
أحمد ومسلم وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، وفي رواية فيه:(ولا أقول نهاكم)
وهي كما قيل قاضية على رواية (نهى) .
(5)
أن الذي ثبت في الصحاح هو النهي عن الأكل والشرب في صحاف
الذهب والفضة وأوانيهما مع الوعيد الدالّ على التحريم، وكذا التختم بالذهب.
(6)
اختلاف السلف والخلف في المسألة ومسألة الحرير.
(7)
اختلاف النصوص وآراء العلماء في علة النهي والتحريم، وقد استغرق
هذا وحده صفحتين من الفتوى وسيذكر بعضه فيما يأتي. وهاك تلخيص الكلام في
الحرير والذهب والفضة من خاتمة تلك الفتوى وهو:
(والجملة أن نص الشارع صريح في النهي عن الحرير الخالص إلا لحاجة
لُبْسًا وجلوسًا عليه، وأباح أنس وابن عباس الجلوس عليه. وقال الفقهاء أي بلا
حائل، فإن كان هنالك حائل كالنسيج الأبيض الذي يوضع على الكراسي والأرائك
فلا بأس عندهم، وعن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، والتختم بالذهب
على ما فيه، وإن بعض الفقهاء حملوا ذلك النهي على الكراهة دون التحريم
والجماهير حملوه على التحريم، وإن داود خصَّه بالشرب - وأكثر المحدثين بالأكل
والشرب - وعامة الفقهاء حرموا كل استعمال إلا نحو ضبة يصلح بها إناء. وأن
الاحتياط أن يجتنب المسلم ما ورد به النهي الصريح ويراعي المصلحة فيما وراء
ذلك بحسب اجتهاده مع الإخلاص، والله أعلم) .
وبقي هنا أسئلة نجيب عنها بالإيجاز:
(1)
حديث (من لبس الذهب في الدنيا لا يلبسه في الجنة) أخطأ السائل في
لفظه، فإنما ورد بهذا اللفظ في الحرير مع ذكر الآخرة بدل الجنة، وهو في
الصحيحين وغيرهما، والمراد به الحرير الخالص وهو مُقَيَّد بما لا تمس إليه
الحاجة جمعًا بين الروايات الصحيحة، ومنها: إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعبد
الرحمن بن عوف والزبير بلبسه لحَكَّةٍ كانت بهما. رواه الشيخان بل الجماعة كلهم،
وروى أبو داود لُبْسَهُ عن عشرين من الصحابة.
وأما حديث لبس الذهب فقد أخرجه أحمد والطبراني عن ابن عمر مرفوعًا
بلفظ (من مات من أمتي وهو يلبس الذهب حرم الله عليه ذهب الجنة) الحديث،
ولم أر لفقهاء الحديث الذين حصروا التحريم في الصِّحَاف والآنية والخواتيم كلامًا
في هذا الحديث، وما ذلك إلا لأنهم لم يَرَوْهُ صالحًا للاحتجاج فإنهم يأخذون بكل ما
يحتج به، وليسوا كمقلدة المذاهب الذي يأخذون بما وافق مذاهبهم ويردون غيره أو
يسكتون عنه. ولم يحتج به من رأينا كتبهم من فقهاء الحنابلة حتى المغني والشرح
الكبير للمقنع، ولكن ذكره الحافظ في الفتح ولم يتكلم عليه، وسيأتي ما يؤيد إعلاله.
(2)
حديث النهي عن لبس الذهب إلا مقطعًا أشرنا إلى ضعفه في خلاصة
فتوى المجلد السابع، وذلك أن صالح ابن الإمام أحمد قال عن أبيه: إن ميمون
القناد روى هذا الحديث ولا يصح، ووثقه ابن حبان ورواه أبو داود من طريق بقية
ابن الوليد وهو صدوق إلا أنه كثير التدليس عن الضعفاء، ولفظه عن معاوية: نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب النمار وعن لبس الذهب إلا مقطعًا،
والنمار والنمور جمع نمر، وفيه حذف مضاف فإنما النهي عن استعمال جلودها
بوضعها على الرَّحل، وعللوه بالخيلاء وبأنه زي العجم، ومعنى المقطع ما جعل
قِطَعًا كحلي النساء، وما يُجْعَل في سيف الرجل، كذا فسروه، قال في نيل الأوطار:
قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: والمراد بالنهي: الذهب الكثير لا
المقطع قطعًا يسيرة منه تجعل حلقة أو قُرْطًا أو خاتمًا للنساء أو في سيف الرجل،
وكُره الكثير منه الذي هو عادة أهل السرف والخيلاء والتكبر، وقد يضبط الكثير
منه بما كان نصابًا تجب فيه الزكاة (أي 20 مثقالاً) واليسير بما لا تجب فيه
(انتهى) وقد ذكر مثل هذا الكلام الخطابي في المعالم، ولعل هذا الاستثناء خاص
بالنساء، قال: لأن جنس الذهب ليس بمحرَّم عليهن كما حرم على الرجال قليله
وكثيره اهـ. وقوله هذا مراد به تأييد مذهبه وحمل الحديث عليه كدأب المقلدين.
وقد أباح قليل الذهب بعض المصنفين في فقه المذاهب. قال أبو القاسم
الخرقي من قدماء أئمة الحنابلة في مختصره المشهور: ويكره أن يتوضأ بآنية
الذهب والفضة، فإن فعل كره. اهـ. وحمل الشارح في المغني الكراهة على
التحريم ثم قال في اختلاف الأئمة في الضبة الكبيرة وتعليل التحريم بالإسراف
والخيلاء: إذا ثبت هذا فاختلف أصحابنا فقال أبو بكر: يباح اليسير من الذهب
والفضة لما ذكرنا. وأكثر أصحابنا على أنه لا يباح اليسير من الذهب ولا يباح إلا
ما دعت إليه الحاجة كأنف الذهب وما يربط به أسنانه
…
إلخ.
(3)
السؤال عن إلباس النبي صلى الله عليه وسلم البراء خاتم الذهب. ومن
لبسه غيره من الصحابة، هل يجوز أن يقال: إنه لم يبلغهم النهي أم نقول: إنهم
حملوا النهي على التنزيه؟ أقول: حديث البراء أسنده البخاري في عدة أبواب
اختلفت ألفاظها بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان ولفظه في كتاب اللباس: نهانا
النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع: عن خاتم الذهب - أو قال: حلقة الذهب -
والحرير، والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء، والقسي، وآنية الفضة
…
إلخ. وقد ذكر الحافظ في شرحه من الفتح ما نصه: وقد جاء عن جماعة من
الصحابة لبس خاتم الذهب، من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن
أبي إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وصهيب
وذكر ستة أو سبعة، وأخرج ابن أبي شيبة أيضًا عن حذيفة وعن جابر بن سمرة
وعن عبد الله بن يزيد الخطمي نحوه من طريق حمزة بن أبي أسيد: (نزعنا من
يدي أبي أسيد خاتمًا من ذهب) . وأغرب ما جاء في ذلك عن البراء الذي روى
النهي فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر قال: رأيت على البراء
خاتمًا من ذهب. وعن شعبة عن أبي إسحاق نحوه أخرجه البغوي في الجعديات،
وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك قال: رأيت على البراء خاتمًا من ذهب فقال:
قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا فألبسنيه فقال: (البس ما كساك الله
ورسوله) قال الحازمي: إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ. (قلت) : لو
ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رُوِيَ حديث
النهي المتَّفَق على صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله إما بأن يكون على التنزيه
أو فهم الخصوصية له من قوله: (البس ما كساك الله ورسوله) وهذا أولى من قول
الحازمي: لعل البراء لم يبلغه النهي. ويؤيد الاحتمال الثاني أنه وقع في رواية أحمد:
كان الناس يقولون للبراء: لِمَ تتختم بالذهب، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ فيذكر لهم هذا الحديث ثم يقول: كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (البس ما كساك الله ورسوله) اهـ.
فعلم من هذا أن أجوبة العلماء عن التعارض بين رواية البراء وعمله ثلاثة:
(أحدها) أن لبسه للخاتم كان قبل التحريم فهو منسوخ، وأدنى ما يُرَدُّ به هذا
القول إلى الأدب في التعبير أنه قيل عن غفلة، فإن الروايات في لبس البراء
للذهب صريحة في أنه كان بعد النهي، بل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
فإن كان هنالك نسخ، فالمنسوخ هو تحريم الذهب لا إباحته.
(ثانيها) الخصوصية، وهو ضعيف بل باطل أيضًا، لا لقولهم: (إن
الخصوصية خلاف الأصل) فقط؛ بل لأن الحلال والحرام لا تثبت فيه خصوصية
للأفراد لذواتهم، وإنما تُنَاط الرُّخَص بأسبابٍ تقتضيها، وليس هذا الموضع بالذي
يتسع لشرح هذه المسألة.
(ثالثها) اعتقاد أن النهي للكراهة وهو أقربها، ولكن فيه أن بعض أحاديث
النهي تتضمن الوعيد، وهو لا يكون إلا على المحرم، ويجاب بأن حديث البراء
المتفق عليه ليس فيه وعيد، ولو ثبت الوعيد عنده أو عند غيره من أكابر الصحابة
الذين روي عنهم التختم بالذهب لما لبسه أحد منهم، ومن المُسْتَبْعَد أن يخفى عليهم،
ويجوز أن يكون الوعيد عندهم مقيَّدًا بقيد كالإسراف أو الخيلاء مما لا ينطبق عليهم.
هذا، وإن حديث البراء وحديث علي رضي الله عنه في النهي يشتملان على
النهي عن لبس القسي (بفتح القاف وتشديد السين والياء) من الثياب - وهي ثياب
مصرية فيها شيء من الحرير - وعن المَيَاثِر الحمراء أو من جلود السباع أو مطلقًا
جمع ميثرة بالكسر، وهي حشايا صغيرة كان النساء يَصْنَعْنَهَا للرجال فتوضع على
سرج الفرس أو رحل البعير، وكُنَّ يَصْنَعْنَهَا من الأرجوان الأحمر أو جلود السباع
أو الديباج، وقد سبق إليها العجم فكان مما علل به النهي عنها تقليدهم والتشبه بهم،
وهو سبب عارض، وفي تحريمها خلاف بين الفقهاء أقواه أنَّ النهي يكون للتحريم
إذا كانت حريرًا خالصًا أو أكثرها من الحرير. وللتنزيه إذا لم تكن كذلك، على أنه
صح النهي عن الأحمر مطلقًا وعن جلود النمور، وفي تحريمهما خلاف مشهور.
(4)
نقل النووي وابن المنذر الإجماع على ما ذكره السائل غير صحيح،
ونكتفي في بيانه والجواب عنه بما قاله أهل الرواية من فقهاء الحديث الواسعي
الاطلاع المستقلي الفكر: قال القاضي الشوكاني في نيل الأوطار ما نصه:
قال النووي: قال أصحابنا انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب وسائر
الاستعمالات في إناء ذهب أو فضة إلا رواية عن داود في تحريم الشرب فقط،
ولعله لم يبلغه حديث تحريم الأكل وقول قديم للشافعي والعراقيين، فقال بالكراهة دون
التحريم وقد رجع عنه، وتأوله أيضًا صاحب التقريب، ولم يحمله على ظاهره،
فثبتت صحة دعوى الإجماع على ذلك، وقد نقل الإجماع أيضًا ابن المنذر على
تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة إلا عن معاوية بن قرة.
وقد أجيب من جهة القائلين بالكراهة عن الحديث بأنه للتزهيد بدليل: (إنها
لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ورد بحديث: (فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم)
وهو وعيد شديد، ولا يكون إلا على محرم. ولا شك أن أحاديث الباب تدل على
تحريم الأكل والشرب، وأما سائر الاستعمالات فلا. والقياس على الأكل والشرب
قياس مع فارق، فإن علة النهي عن الأكل والشرب هي التشبه بأهل الجنة حيث
يطاف عليهم بآنية من فضة، وذلك مناط معتبر للشارع كما ثبت عنه صلى الله عليه
وسلم لما رأى رجلاً مُتَخَتِّمًا بخاتم من ذهب فقال: (ما لي أرى عليك حلية أهل
الجنة) أخرجه الثلاثة من حديث بريدة وكذلك في الحرير وغيره، والإلزام تحريم
التحلي بالحلي والافتراش للحرير؛ لأن ذلك استعمال، وقد جَوَّزَه البعض من القائلين
بتحريم الاستعمال.
وأما حكاية النووي للإجماع على تحريم الاستعمال فلا تتم مع مخالفة داود
والشافعي وبعض أصحابه وقد اقتصر الإمام المهدي في (البحر) على نسبة ذلك إلى
أكثر الأمة على أنه لا يخفى على المُنْصِف ما في حُجِّيَّة الإجماع من النزاع
والإشكالات التي لا مخلص عنها. والحاصل أن الأصل الحل فلا نثبت الحرمة إلا
بدليل يسلمه الخصم ولا دليل في المقام بهذه الصفة، فالوقوف على ذلك الأصل
المعتضد بالبراءة الأصلية هو وظيفة المنصف الذي لم يخبط بسوط هيبة الجمهور
ولا سيما وقد أيَّد هذا الأصل حديث: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا)
أخرجه أحمد وأبو داود.
ويشهد له ما سلف وأن أم سلمة جاءت بجلجل من فضة فيه شعر من شعر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فخضخضت - الحديث في البخاري وقد سبق - وقد
قيل: إن العلة في التحريم الخيلاء، أو كسر قلوب الفقراء؛ يرد عليه جواز
استعمال الأواني من الجواهر النفيسة وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة،
ولم يمنعها إلا مَن شذَّ، وقد نقل ابن الصباغ في الشامل الإجماعَ على الجواز وتبعه
الرافعي ومَن بعده، وقيل: العلة التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر لثبوت الوعيد
لفاعله ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك. وأما اتخاذ الأواني بدون استعمال فذهب
الجمهور إلى منعه، ورخصت فيه طائفة اهـ.
وقال الحافظ محمد بن إسماعيل الأمير في (سبل السلام شرح بلوغ المرام)
بعد ذكر الإجماع على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة وصِحافهما ما
نصه (وأما غيرهما من سائر الاستعمالات ففيها الخلاف - قيل: لا تحرُم لأن النص
لم يرد إلا في الأكل والشرب، وقيل: تحرم سائر الاستعمالات إجماعًا، ونازع في
الأخير بعض المتأخرين وقال: النص ورد في الأكل والشرب لا غير، وإلحاق
سائر الاستعمالات قياسًا لا تتم فيه شرائط القياس. والحق ما ذهب إليه القائل بعدم
تحريم غير الأكل والشرب فيها؛ إذ هو الثابت بالنص، ودعوى الإجماع غير
صحيحة، وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوي بغيره فإنه ورد بتحريم الأكل والشرب
فقط، فعدلوا عن عبارته إلى الاستعمال، وهجروا العبارة النبوية وجاءوا بلفظ عام
من تلقاء أنفسهم، ولها نظائر في عباراتهم. اهـ. المراد منه.
فأنت ترى أنه أنكر صحة الإجماع، ولو لم يكن من دليله إلا ما تقدم عن
الصحابة رضي الله عنهم لكفى، وأنكر صحة القياس هنا ولا ينكر كل قياس،
وهو قياس في مسألة فيها نص، ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم بيان تحريم
كل استعمال لصرَّح به، وهو إنما صرَّح ببعض الاستعمال فصدق على الباقي قوله:
(وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها) .
وقد لخَّص الحافظ ابن حجر الأقوال في المسألة في الفتح فقال في آخر شرحه
لأحاديث النهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة والتختم بالذهب وتعليله
ما نصه:
وفي هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل
مكلف رجلاً كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء؛ لأنه ليس من التزين الذي
أبيح لهن في شيء. قال القرطبي وغيره: في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب
والفضة في الأكل والشرب ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب والتكحل وسائر
وجوه الاستعمال، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقًا،
ومنهم مَن قَصَرَ التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب؛ لأنه
لم يقف على الزيادة في الأكل اهـ. المراد منه، وهو صريح في عدم الإجماع.
وقد أطال بعده في سرد ما عللوا به النهي والبحث فيه، فإن قيل: لا يَبْعُدُ أن يكون
الإجماع قد وقع بعد ما ذكر من الخلاف، قلنا: إن هذا احتمال أرادوا به تصحيح
قول من ادعاه، ولا يصح أن يجعل الاحتمال دليلاً، وفي حُجِّيَّة إجماع غير
الصحابة، وفي إمكانه ثم إمكان العلم به ما فيه من الخلاف، بل يصح أن يقال:
إن كون تحريم الاستعمال قول الجمهور، فيه نظر، فإنه غير منقول عن كثير من
علماء السلف الذين يُعْتَدُّ بعلمهم، وإنما قبلت هذه الأقوال بعد فشو التقليد فصار ما
عليه المقلدون الكثيرون يشتبه بما عليه الأئمة الكثيرون، وإن كانت كثرة المقلدين
كقلتهم باتفاق علماء الأصول، فأخذ زهاء مئتي مليون من حنفية هذا الزمان بقول
أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أن رفع اليدين عند الركوع والقيام منه مكروه مثلاً،
لا يخرجه عن كونه قول فرد أو أفراد. ولا يلحقه بقول الجمهور لكثرتهم، بل جمهور
العلماء المجتهدين من سلف الأمة وقدوتها على سنية الرفع، ورواه البخاري عن
خمسين من الصحابة. بل لو خالف أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم
سائر علماء عصرهم فهم ومن قبلهم سواء في المسألة، أعني أنه لا يقال: إنها مذهب
جمهور الأمة بأخذ ثلاثمائة مليون من اتباعهم بها، فإن هؤلاء الملايين ليس لهم قول؛
لأنهم مقلدون لغيرهم لا مستدلون، ولكن بعض أتباع هؤلاء الأئمة صاروا يسمون
اتفاقهم إجماعًا، وألفوا في ذلك كتبًا جمعوا فيها ما اشتهر من هذا الاتفاق، على أنه
غير حجة في الدين باتفاق علماء الأصول كما يأتي، بل من المؤلفين من يطلق كلمة
الإجماع على اتفاق علماء مذهبه، وقد يتوهم هؤلاء وأولئك أن ذلك هو الإجماع الذي
جُعل حجة لعدم علمهم بالمخالف، ولا غرو فأقل المقلدين مَن له اطلاع على أقوال
سلف الأمة وأئمتها المخالفين لمذهبه.
(5)
السؤال عما يعرف به الإجماع، وجوابه أنه يعرف بالنقل الذي لا
مُعَارِض له، وكان العلم بالإجماع من أشق الأمور في العصر الأول، ويكاد يكون
من المتعذر بعده، بل قال بعضهم: إنه متعذر حتى الإجماع السكوتي المُخْتَلف فيه،
ولهذا كثر خطأ الذين حاولوا ضبط ما عرفوه من مسائله كابن المنذر وابن حزم
ولدينا رسالة لابن تيمية في تخطئة ابن حزم في كثير مما نقل الإجماع عليه. وأما
تحقيق الحق في مسألة حجية الإجماع فقد فصلناه في تفسير {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59)[1] فلا نُفْرِدُ لها بحثًا هنا.
(6)
قول السائل: إننا بنينا فتوانا على ما ذهب إليه داود ومن وافقه من منع
القياس. فهو سهو منه يظهر له بمراجعة الفتوى، وإنما بنيناها على نص القرآن
وقاعدة البراءة الأصلية وحديث (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا
عنها) وما في معناه، وتخصيص القياس بما عدا الزيادة في العبادات والتحريم
الديني المحض، وهذا مذهب المحققين من فقهاء الحديث وغيرهم.
وقد حققنا مسألة الاحتجاج به واختلاف أهل الحديث وأهل الرأي فيه حيث
حققنا مسألة الإجماع كما بيناه آنفًا، فيراجع هنالك فإنه طويل ونفيس جدًّا.
(7)
قوله: فقد وقع هنا سوء ظن لمخالف إجماع المذاهب. نقول: ما هذه
المذاهب التي أساءوا الظن بمن ينقل ما خالفها؟ الظاهر أنهم يعنون مذاهب أئمة
الفقه الأربعة الذين ينتمي إليهم أكثر مقلدة المسلمين السنيين: أبي حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم، فإن كانوا يسيئون الظن بمن ينقل ما
يخالف أقوالهم وأقوال أتباعهم، فسوء ظنهم هذا يتناول أساطين علماء الإسلام
الأعلام من المفسرين والمحدثين والمتكلمين والأصوليين، وإن كانوا يسيئون الظن
بمن يخالف مذاهبهم في العمل فهم يسيئون الظن بكل المجتهدين في زمنهم ومن
بعدهم، ويشرعون للناس حجية إجماعهم، وهذا شرع لم يأذن به الله، ولم يقل به
أحد من علماء الأصول المنتمين إليهم ولا من غيرهم؛ بل جمهور هؤلاء
الأصوليين يشترطون في الإجماع اتفاق المجتهدين في عصر من الأعصار، حتى
إنهم منعوا الاحتجاج بإجماع الخلفاء الأربعة مع ما ورد في الحديث من جعل سنتهم
كسنته صلى الله عليه وسلم، وإجماع أئمة آل البيت مع ما ورد من حديث الثقلين
وغيره، وإجماع أهل المدينة في عصر التابعين وتابعيهم الذي جرى عليه الإمام
مالك. فهل يقولون بحجية إجماع أربعة من المجتهدين كان عدد المجتهدين في
عصرهم غير محصور، وجميع هؤلاء الأصوليين يقولون - بالتبع لأئمة السلف -
كلهم بوجوب اتباع الدليل وتحريم التقليد ورد كل قول أحد يخالف نص الكتاب
والسنة، وهذا منقول عن الأئمة الأربعة نقلاً لا نزاع فيه فهو مما أجمعوا عليه، بل
نقل ابن حزم الإجماع العام على النهي عن التقليد، وإنما أباح التقليد المقلدون وأولوا
كلام أئمتهم في بطلانه، واشترطوا فيه العجز عن معرفة الدليل ولو في بعض المسائل
دون بعض، واختلف هؤلاء في التزام مذهب معين، ورجَّح ابن برهان والنووي عدم
الالتزام، واحتجوا بما كان عليه عوام السلف من الصحابة والتابعين. وقال التاج
السبكي في أواخر كتابه (جمع الجوامع) في الأصول الذي هو عمدة الأزهر وسائر
المعاهد الدينية بمصر: وإن الشافعي ومالكًا وأبا حنيفة وأحمد والأوزاعي وإسحاق
وداود وسائر أئمة المسلمين على هدًى من ربهم.
وليعلم مَن يسيء الظن ومَن يحسنه من أهل بلادكم أن المنار منار الإسلام لا
منار مذهب معين من المذاهب المتبعة، وأنه يحترم ويعظم جميع الأئمة ويخدم
الإسلام بنحو ما كانوا يخدمونه به، وهو بيان كتاب الله وسنة رسوله وسيرة سلفه
الصالح مع الدعوة إلى الاهتداء بذلك في هذا العصر في أمري الدين والدنيا، ومن
ذلك ذكر كل حكم بدليله. ويعتمد في الاستدلال على أشهر كتب التفسير والسنة
وشروحها المعتبرة، ويتحري بذلك إفادة جميع المسلمين وجمع كلمتهم، وإزالة ما
شجر من الخلاف والشقاق بينهم، ويرى أن اتباعهم لأولئك الأئمة يساعد على ذلك
دون اتباع كثير من المقلديد المتأخرين المفرقين.
وليعلم هؤلاء أيضًا أن كثيرًا من هذه الكتب المنتشرة المنسوبة إلى أناس
يصفون أنفسهم بالشافعي والحنفي إلخ، محشوة بالخرافات والأحاديث الموضوعة
والأقوال المخالفة لأحوال الأئمة ونصوصهم، ونحن - بحمد الله وتوفيقه - قد اتبعنا
الأئمة كلهم بالتزام ذكر الأحكام بأدلتها من غير تعصب لأحد من العلماء في المسائل
الخلافية، وإننا ننصح لكل أحد بأن يحتاط لنفسه في العمل، ومنه أن يجتنب ما
اختلف العلماء الذين يعتد بعلمهم في تحريمه، وإن لم يعتقد رجحان التحريم، وأما
إذا اعتقده بقوة دليله عنده أو بالثقة بقول إمامه فيتعين عليه تركه، ولكن ليس للمقلد
أن يعترض على مَن اتبع الدليل؛ لأنه ليس من أهله، ولا على مَن قلد غير إمامه
وغير الأربعة كالزيدي مثلاً لأنه مثلهم. ولا ينبغي للمسلمين أن يتعادوا بسبب هذه
الخلافات، فقد أضاع ذلك عليهم دينهم ودنياهم كما بيناه مرارًا، ولقد صدق حجة
الإسلام الغزالي في جعله ترك المسلمين لجميع المسائل الخلافية الاجتهادية دون
ضرر الاختلاف والتفرق في الدين، وقوله: إنهم لو عملوا بما أجمع عليه
المسلمون وحده لكان كافيًا في نجاتهم في الآخرة، كما بيَّنه في كتابه القسطاس
المستقيم، ونقلناه في (محاورات المصلح والمقلد) فليراجعه من أراد، والله يهدي
من يشاء إلى صراط مستقيم.
(تنبيه) جاءنا سؤال - بل أسئلة - من بيروت عن استعمال الذهب والفضة
لعل السائل يستغني بما يراه في هذا الجزء عن نشرها والجواب عنها، فإن بقي عنده
إشكال بعد قراءة ما هنا فليسأل عنه وحده.
والمرجو من كل مَن يسأل عن أشياء عديدة أن يميز بعضها من بعض،
ويجعلها معدودة بالأرقام.
_________
(1)
راجع ص 181 - 208 ج 5 تفسير وص 213 - 417 منه.