المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أقدم كتاب في العالمأثر مصري - مجلة المنار - جـ ٢٤

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (24)

- ‌جمادى الأولى - 1341ه

- ‌فاتحة المجلد الرابع والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌الملحق الفني التابع لفتوى طهارة الكحولفي ج9 (م23)

- ‌استعمال الذهب والفضة

- ‌كتب ابن تيمية وابن القيموالشوكاني والسيد حسن صديق

- ‌الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية [*](2)

- ‌وصف استقلال العراق

- ‌رد على الرسالة الرملية فيما سمته العقائد الوهابية

- ‌أهم أخبار العالم

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌جمادى الآخرة - 1341ه

- ‌التصوير واتخاذ الصور والتماثيل

- ‌فتاوى المنار

- ‌الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية(3)

- ‌وصف ثورة الهند السياسية السلبيةوانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*](2)

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌نبأ عن النهضة الأفغانيةوكونها دينية مدنية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌رجب - 1341ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌وصف ثورة الهند السياسية السلبيةوانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية*(3)

- ‌أقدم كتاب في العالمأثر مصري

- ‌منشور عامفي المسألة العربية العامة والفلسطينية خاصة

- ‌وفاة عالم عربي

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌شعبان - 1341ه

- ‌إماطة اللثام عما علق بأذهان بعض المنتسبينإلى العلم من الأوهام

- ‌رسائل الطعن في الوهابية

- ‌رمضان - 1341ه

- ‌النفس التي خلق منها البشر

- ‌الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنجليزيةالعالم العلامة الأستاذ أبو الكلام(2)

- ‌الخوارج والإباضية

- ‌وفاة زعيم عربي علوي عظيمالسيد محمد علي الإدريسي

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تقريظ للمنار

- ‌شوال - 1341ه

- ‌الحلف بالطلاق - وأنواط النقود

- ‌ليلة نصف شعبان والاكتساب بالقرآن

- ‌خطاب مفتوح من روح الإسلام والجامعة العربيةإلى الشعب الإنجليزي والحكومة البريطانية

- ‌دعوة عامةمن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطينلعمارة الحرم القدسي الشريف

- ‌صفة المسجد الأقصى الشريفوخلاصة تاريخية له [1]

- ‌فاتحة كتاب الخلافةأو الإمامة العظمى

- ‌المراسلة والمناظرة

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ذو القعدة - 1341ه

- ‌التصرف في الكونوحكم من ادعى أن الله أعطى حق التصرف في ملكهللسيد البدوي

- ‌المعاهدة البريطانية الحجازيةوخدعة الوحدة العربية(2)

- ‌نص البيانالذي أصدره المؤتمر الفلسطيني السادس عن المعاهدة

- ‌منشور للإمام يحيى حميد الدين

- ‌اللورد فاروق هدلي وخوجه كمال الدين

- ‌وفاة رجل كبير ومحسن شهيرهو الحاج مقبل الذكير

- ‌ذو الحجة - 1341ه

- ‌الراتبة القَبلية للجمعةالقياس في العبادات، والتردد في نية الصلاةومن صلى غير ما نوى [*]

- ‌المسيحية الإسلامية القاديانيةالملقبة بالأحمدية

- ‌الأستاذ الخوجه كمال الدين

- ‌حقيقة الوهابية ومنشأ الطعن فيها

- ‌الاستفتاء في مَلك الحجاز

- ‌جهاد مسلمي الهند في سبيل الخلافة الإسلاميةوتحرير الجزيرة العربية

- ‌الخلاف بين مصر والحجاز

- ‌رجل مات والرجال قليلالأستاذ محمد وهبي

- ‌مصاب مصر بعالمها الأثري الأكبرأحمد كمال باشا

- ‌منشور الإمام يحيى والإنجليز

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌المحرم - 1342ه

- ‌هل كان النبي صلى الله عليه وسلميعرف لغة غير العربية

- ‌حركة الأرض وجريان الشمس لمستقر لها

- ‌حكم الصائم الذي يغطس في الماء

- ‌حقيقة الإيمان والكفر وشُعبهما

- ‌بطل العرب والإسلام العظيمالقائد الكبير محمد عبد الكريم

- ‌الخلافة والسلطان القوميوجهة نظر الترك إلى هذه المسألة الكبرى

- ‌انتقاد المنار لكتاب خلافت وحاكميت ملية

- ‌العرب في إيطالية في القرون الوسطى

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌ربيع الأول - 1342ه

- ‌أسئلة في حقيقة الخمر والسبيرتووما يدخل فيه من أدوية وغيرها

- ‌لغة الإسلامواللغة الرسمية بين الممالك الإسلامية

- ‌الخلافة الإسلامية

- ‌بعثة تنصير المحمديينوبرنامج كيدها للإسلام والمسلمين

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌خاتمة المجلد الرابع والعشرين

الفصل: ‌أقدم كتاب في العالمأثر مصري

الكاتب: أنطون زكري

‌أقدم كتاب في العالم

أثر مصري

منذ 5500 سنة

نشر أولاً في جريدة الأهرام.

عثر أحد الفلاحين على أوراق بردية وهو يحفر مقبرة بناحية ذراع أبي النجا

بطيبة فباعها للعالم الأثري الفرنسي دافين الذي أذاعها سنة 1847 ثم قدمها هدية

لدار الكتب الأهلية بباريس، ولذلك اشتهرت بورقة باريس البردية، وهي أقدم كتاب

في العالم؛ لأنها كتبت منذ 5500 سنة، وقد كانت كتب الأولين كلها من هذا النوع،

وهي تشتمل على 18 صحيفة مكتوبة بالخط الهراطيقي بالحبر الأحمر والأسود

متضمنة نصائح ومواعظ وحكم وضعها رجلان: الأول يدعى (قاقمنه) وهو وزير

الملك (حوني) من الأسرة الثالثة والثاني يدعى (فتاح حتب) وهو وزير الملك

(آسي) من الأسرة الخامسة، كتبها وله من العمر 110 سنوات اقتبسها من السلف،

وجعلها موعظة للخلف، ولذا قال لابنه: إذا سمعت هذه الحكم السامية عمرت طويلاً،

وبلغت أوج الكمال، وتدرجت إلى معالي العلا والمجد.

ثم اعتنى بترجمتها من اللغة المصرية القديمة إلى الفرنسية العالمان (شاباس

دفيري) وباللاتنية العالم (لوث) وبالألمانية العلامة (بروكش باشا) وبالإنكليزية

الأثري المستر (جن) ومن هؤلاء نقلتها إلى العربية.

وقد وجدت هذه النصائح مكرَّرة وغير مرتبة فلخصتها واقتصرت فيها على

فرائد الفوائد.

ولأهمية هذه النصائح الدَّرية اعتنى بها الإنكليز اعتناء عظيمًا حتى قرروها

في برنامج الدراسة للأطفال فأكسبتهم المبادئ الشريفة التي أشربتها قلوبهم في

الصغر فسادوا العالم وقادوا الأمم وذلك بفضل اتباعهم مناهج أجدادنا العظام التي

دونوها لنا، وكنزوها لأجلنا، فكان نفعها لغيرنا، ويا حبذا لو اهتدينا إليها واقتدينا

بها فنحن أحق بها.

نصائح قا قمنا

الحكيم المصري القديم

(1)

اسلك طريق الاستقامة لئلا ينزل عليك غضب الله.

(2)

احذر أن تكون عنيدًا في الخصام فتستوجب عقاب الله.

(3)

الابن الذي ينكر الجميل يُحزن والديه.

(4)

متى كان الإنسان خبيرًا بأحوال الدنيا سهل عليه قيادة ذريته.

(5)

إن قليل الأدب لبليد ومذموم.

(6)

إذا دعيت إلى وليمة وقدم لك من أطايب الطعام الذي تشتهيه فلا تبادر

إلى تناوله؛ لئلا يعتبرك الناس شَرِهًا، واعلم أن جرعة ماء تروي الظمأ ولقمة

خبز تغذي الجسم.

(7)

احفظ هذه النصائح واعمل بها تكن سعيدا ًومحمودًا بين الناس.

***

أمثال فتاح حتب

الحكيم المصري القديم

(1)

إن التعرف بأعاظم الناس نفحة من نفحات الله.

(2)

لا توقع الفزع في قلوب البشر؛ لئلا يضربك الرب بعصا انتقامه.

(3)

إذا شئت أن تعيش من مال الظلم أو تغتني منه، نزع الرب نعمته منك

وجعلك فقيرًا.

(4)

إن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء؛ لأن بيده مقاليد الأمور، فمن العبث

التعرض لإرادته تعالى.

(5)

إذا كنت عاقلاً فربِّ ابنك حسبما يرضي الله تعالى، وإذا شب على مثالك

وجدَّ في عمله فأحسِن معاملته واعتنِ به، أما إذا طاش وساء سلوكه فهذب أخلاقه

وأبعده عن الأشرار؛ لئلا يستخف بأمرك.

(6)

إن تدبير الخلق بيد الله الذي يحب خلقه.

(7)

إذا نلت الرفعة بعد الضعة وحزت الثروة بعد الفاقة فلا تدخر الأموال

بمنع الحقوق عن أهلها؛ فإنك أمين على نعم الله والأمين يؤدي أمانته، واعلم أن

جميع ما وصل إليك سينتقل منك إلى غيرك ولا يبقى فيه لك إلا الذكر.

(8)

ما أعظم الإنسان الذي يهتدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.

(9)

من خالف الشرائع والقوانين نال شر الجزاء.

(10)

لا ينجو الأثيم من النار في الحياة الآخرة.

(11)

ألا إن حدود العدالة لثابتة وغير قابلة للتغيير.

(12)

إذا دعاك كبير إلى الطعام فاقبل ما يقدمه لك ولا تطل نظرك إليه

ولا تبادره بالحديث قبل أن يسألك لأنك تجهل ما يخالف مشربه؛ بل تكلم عندما

يسألك فحينئذٍ يعجبه كلامك.

(13)

إذا كلفك كبير حاجة فأنجزها له حسب رغبته.

(14)

إذا تعرفت برجل رفيع المقام فلا تتعاظم عليه بل احترمه لمركزه.

(15)

إذا جلست في مجلس رئيسك فعليك بالكمال والصمت ولا تتفوق في

الكلام؛ لئلا يعارضك من هو أكبر منك نفوذًا وأكثر منك خبرة، واعلم أن

من الجهل أن تتكلم في مواضيع شتى في آن واحد.

(16)

لا تَعُق كبيرًا عن عمله متى رأيته مشغولاً؛ فإنه عدو لمن يعوق أعماله.

(17)

لا تخن من ائتمنك تزدد شرفًا ويعمر بيتك.

(18)

من الحمق أن يتشاجر المرءوس مع رئيسه؛ فإن الإنسان لا يعيش

عيشة راضية إلا إذا كان مهذبًا لطيفًا ظريفًا.

(19)

إذا دخلت بيت غيرك فاحذر من الميل إلى نسائه، فكم أناس تهافتوا

على هذه اللذة القصيرة التي تمر كالحلم فأودت بهم إلى المخاطر والمهالك. واعلم

أن بيت الزاني للخراب، والزاني نفسه فاقد الرشد وهالك وممقوت عند الله

والناس، ومخالف للشرائع والنواميس [1] .

(20)

إذا كنت عاقلاً فدَبِّر منزلك وأحب زوجتك التي هي شريكتك في حياتك،

وقم لها بالمؤونة لتحسن لك المعونة وأحضر لها الطيب، وأدخل عليها السرور،

ولا تكن شديدًا معها إذ باللين تملك قلبها وقم بمطالبها الحق (أو بالمعروف) ليدوم

معها صفاؤك ويستمر هناؤك.

(21)

لا تعجب بعلمك؛ لأن العلم بحر لا يصل إلى آخره متبحرٌ مهما

خاض فيه وسبح، واعلم أن الحكمة أغلى من الزمرد لأن الزمرد تجده الفَعَلَة في

الصخور بخلاف الحكمة فإنها نادرة الوجود.

(22)

لا تترك التحلي بحلية العلم ودماثة الأخلاق.

(23)

إذا كنت زعيم قوم فنفذ سلطتك المخولة لك، وكن كاملاً في جميع

أعمالك ليذكرك الخلف. ولا تسرف في المواهب والنعم التي تقود إلى الكبرياء

وتؤدي إلى الكسل.

(24)

إذا كنت قاضيًا فكن لين الجانب مع المتقاضين ولا تجعل أحدهم

يتردد في كلامه ولا تنهره ودعه يتكلم بحرية لكي يعبر عن مظلمته بصراحة؛ وإذا

لم تنصفه يكون سببًا لسوء سمعتك، فحسن الإصغاء أفضل طريقة لكشف الحقيقة.

(25)

ليكن أمرك ونهيك لحسن الإدارة، لا لإظهار الرياسة والإمارة.

(26)

لا تستبد لئلا تضل.

(27)

لا تكن يابسًا فتكسر ولا لينًا فتعصر.

(28)

إذا شئت أن تطاع، فسل ما يُسْتَطَاع.

(29)

إذا حكمت بين الناس فاسلك طريق العدل ولا تتحيز لفريق دون

آخر وإلا نسبوك للجور والعسف.

(30)

إذا عفوت عمن أساء إليك فاجتنبه واجعله ينسى إساءته إليك حتى

لا يذكرها مرة ثانية.

(31)

بقدر الكد تُكتسَب الثروة فمن جَدَّ في طلبها أنجح الله مسعاه.

(32)

اجتهد دائمًا في عملك ولا تترك فرصة اليوم للغد، فمن جد وجد.

(33)

إذا كنت منتظمًا في حياتك صرت غنيًّا وحسنت سمعتك، وتحسنت

صحتك، وطار صيتك، وملكت حاجتك، أما الذي ينقاد لشهواته فإنه يصير

ذميمًا سمجًا وعدوًّا لنفسه.

(34)

إذا وقفت أمام الحاكم فاخفض جناحك واحن رأسك ولا تعارضه

وجاوبه بوداعة لينجذب قلبه إليك.

(35)

إذا فاه أخوك بالشر فازجره لتكون خيرًا منه.

(36)

اصغ لكلام غيرك فإن السكوت من ذهب.

(37)

لا تحتقر فقيرًا، وإذا زارك فلا تتركه سدى لئلا تخذله، ولا

تغضبه ولا تحتقر رأيه فإن هذا ليس من شيم الكرام.

(38)

احذر من تحريف الحقيقة بين الناس؛ لئلا تزرع الشقاق بينهم.

(39)

لا تخبر أحدًا بما صرَّح به لك غيرك لئلا يبغضك الناس.

(40)

من ساءت سيرته ضل الصراط المستقيم.

(41)

إذا كنت في مجتمع فاسلك دائمًا حسب قوانينه.

(42)

إذا عاشرت قومًا فاجذب قلوبهم إليك.

(43)

ليكن كلامك دائمًا سديدًا مفيدًا.

(44)

إياك والطمع فإنه داء دفين لا دواء له، والمتصف به قليل الحظ

لأن الطمع مجلبة الشحناء والشقاق بين الأهل والأقارب وهو سبب كل الشرور

والرذائل. أما القناعة فهي أساس النجاح والفلاح ومصدر الخير والبر.

(45)

لا تُفرط في الكلام ولا تُصغِ إلى البذاءة؛ لأنها صادرة عن التهيج

والغيظ، وإذا أسرف أحد أمامك في الكلام فأطرق رأسك إلى الأرض لترشده بذلك

إلى طريق الحكمة.

(46)

من يلقي بنفسه في متاعب الدنيا ويستغرق فيها كل أوقاته لا يجد لذة

في حياته.

(47)

من يعكف طول نهاره على شهواته ضاعت مصالح بيته.

(48)

إذا شئت أن تعرف طباع صديقك فلا تسأل عنه أحد بل استنتج

ذلك بانفرادك معه في المحادثة المرة بعد المرة، ولا تغضبه، ومتى أخبرك عن

أصل ماضيه عرفت جميع أخلاقه، وإذا فاتحك الحديث فسايره ولا تدعه يحترس

في حديثه، وإياك أن تقاطعه في الحديث أو تزدريه، وبهذا يمكنك أن تستطلع

جميع أحواله.

(49)

كن بشوشًا ما دمت حيًّا.

(50)

من زرع الشقاق بين الناس عاش حزينًا لا يصحبه أحد.

(51)

من طابت سريرته، حمدت سيرته.

(52)

متى كبر الإنسان في السن عادت إليه حالة صغره؛ فيعمش بصره [2]

وينقص سمعه ويصمت فمه ويسخف كلامه ويظلم عقله وتضعف ذاكرته وتخور

قواه وتقف حركة قلبه وترق عظامه ويهزل جسمه ويفقد ذوقه وشمه، حقًّا إن

الشيخوخة آفة الإنسانية.

...

...

...

...

أنطون زكري

...

...

...

... بالمتحف المصري

_________

(1)

هذا موافق لقوله تعالى: [وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً](الإسراء: 32) .

(2)

العمش: توصف به العين، ومعناه كثرة تحلل الدمع منها، ويلزمه ضعف البصر الذي هو العشى، ويقال عشي الرجل (كرضي) وعمشت عينه فهو أعمش أعشى.

ص: 212

الكاتب: أحمد بن تيمية

أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء

وأصنافهم والدعاوى فيهم

لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية قدس سره

بسم الله الرحمن الرحيم

(مسألة) ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم في أهل

الصفة كم كانوا؟ وهل كانوا بمكة أو بالمدينة؟ وأين موضعهم الذي كانوا يقيمون به؟

وهل كانوا مقيمين بأجمعهم لا يخرجون إلا خروج حاجة، أو كان منهم من يقعد

بالصفة، ومنهم من يتسبب في القوت؟ وما كان تسببهم: هل يعملون بأبدانهم أم

يشحذون بالزنبيل؟

وما قول العلماء - وفقهم الله تعالى - فيمن يعتقد أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين

مع المشركين؟ وفيمن يعتقد أن أهل الصفة أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان

وعلي رضي الله عنهم، ومن الستة الباقين من العشرة، وأفضل من جميع الصحابة؟

وهل كان فيهم أحد من العشرة؟ وهل كان أحد في ذلك العصر ينذر لأهل الصفة؟

وهل تواجدوا على دف أو شبابة أو كان لهم حادٍ ينشد لهم أشعارًا ويتحركون عليها

بالتصدية ويتواجدون؟

وما قول العلماء في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم

بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الكهف: 28) هل هي عامة أم مخصوصة بأهل

الصفة رضي الله عنهم؟ وهل هذا الحديث الذي يرويه كثير من العوام ويقولون:

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله

لا الناس تعرفه ولا الولي يعرف أنه ولي) وهل تخفى حالة الأولياء أو طرقهم على

أهل العلم أو غيرهم؟ ولماذا سمي الولي وليًّا؟ وما الفقراء الذين يسبقون الأغنياء

إلى الجنة، والفقراء الذين أوصى الله عليهم في كلامه وذكرهم خاتم أنبيائه ورسله

وسيد خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في سننه؟ هل هم الذين لا يملكون كفايتهم

أهل الفاقة والحاجة أم لا؟ والحديث المروي في الأبدال هل هو صحيح أم مقطوع؟

وهل الأبدال مخصوص بالشام أم حيث تكون شعائر الإسلام قائمة بالكتاب والسنة

يكون بها الأبدال بالشام وغيره من الأقاليم؟ وهل صحيح أن الولي يكون قاعدًا في

جماعة ويغيب جسده؟

وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تَسَمَّى بها أقوام من المنسوبين

إلى الدين والفضيلة ويقولون: هذا غوث الأغواث وهذا قطب الأقطاب، وهذا

قطب العالم، وهذا القطب الكبير وهذا خاتم الأولياء؟

وأيضًا فما قول العلماء في هؤلاء (القلندرية) الذي يحلقون ذقونهم ما هم؟

ومن أي الطوائف يحسبون؟ وما قولكم في اعتقادهم أن رسول الله صلى الله عليه

وسلم أطعم شيخهم قلندر عنبًا وكلَّمَه بلسان العجم؟ وهل يحل لمسلم يؤمن بالله تعالى

أن يدور في الأسواق والقرى ويقول: من عنده نذر للشيخ فلان أو لقبره؟ وهل يأثم

من يساعده أم لا؟ وما تقولون فيمن يقول: إن (الست نفيسة) هي باب الحوائج إلى

الله تعالى وأنها خفيرة مصر؟ وما تقولون فيمن يقول: إن بعض المشايخ إذا قام

لسماع المكاء والتصدية يحضره رجال الغيب وينشق السقف والحيطان وتنزل

الملائكة ترقص معهم أو عليهم، وفيهم من يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

يحضر معهم؟ وماذا يجب على مَن يعتقد هذا الاعتقاد؟ وما صفة رجال الغيب وما

معنى قول من يقول: إنه من خفراء التتار؟ وهل يكون للتتار خفراء أم لا؟ وإذا

كانوا فهل يغلب حال هؤلاء خفراء الكفار كحال خفراء أمة النبي صلى الله عليه

وسلم.

وهل هذه المشاهِد المسماة باسم أمير المؤمنين علي وولده الحسين رضي الله

عنهما صحيحة أم مكذوبة؟ وأين ثبت قبر علي ابن عم رسول الله؟

والمسئول من إحسان علماء الأصول كشف هذه الاعتقادات والدعاوى والأحوال

كشفًا شافيًا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والحالة هذه أفتونا مأجورين

أثابكم الله.

أجاب رضي الله عنه وأرضاه، آمين:

الحمد لله رب العالمين: أما الصُّفَّة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب

النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في

شمال المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل

ولا مكان يأوي إليه. وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أمر نبيه والمؤمنين أن

يهاجروا إلى المدينة النبوية حين آمن به من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس

والخزرج وبايعهم بيعة العقبة عند منى وصار للمؤمنين دار عز ومَنَعَة - جعل

المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة، وكان المؤمنون السابقون بها

صنفين: المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم، والأنصار الذين هم أهل المدينة

وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر، وآخرون

كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس، وآخرون كانوا

مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم، وكل هذه الأصناف مذكورة في

القرآن وحكمهم باقٍ إلى يوم القيامة في أشباههم ونظرائهم، قال الله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا

وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن

شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم

مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن

فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ

آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: 72-

74) فهذا في السابقين ثم ذكر من اتبعهم إلى يوم القيامة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ

بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي

كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال: 75) وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ

الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا

عَنْهُ} (التوبة: 100) الآية، وذكر في السورة الأعراب المؤمنين وذكر المنافقين

من أهل المدينة وممن حولها، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ

قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً

فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ

وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ

عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُواًّ غَفُوراً} (النساء: 97-99) .

فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على

الأنصار بأهله أو بغير أهله؛ لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم ويواسوهم، وكان

في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على مَن ينزل منهم، وكان النبي

صلى الله عليه وسلم قد حالف بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم. ثم صار

المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئًا بعد شيء، فإن الإسلام صار ينتشر والناس

يدخلون فيه والنبي صلى الله عليه وسلم يغزو الكفار تارة بنفسه، وتارة بسراياه

فيسلم خلق تارة ظاهرًا وباطنًا، وتارة ظاهرًا فقط، ويكثر المهاجرون إلى المدينة من

الأغنياء والفقراء والآهلين والعزاب، فكان مَن لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي

إلى تلك الصفة التي في المسجد. ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت

واحد بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له ويجيء ناس بعد ناس

وكانوا تارة يكثرون وتارة يقلون. فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون

عشرين وثلاثين وأكثر وتارة يكونون ستين وسبعين.

وأما جملة من آوى إلى الصفة مع تفرقهم فقد قيل: كانوا نحو أربعمائة من

الصحابة، وقد قيل: كانوا أكثر من ذلك. جمع أسماءهم الشيخ أبو عبد الرحمن

السلمي ولم يُعرِّف كل واحد منهم في كتاب تاريخ أهل الصفة [1] وكان معتنيًا بجمع

أخبار النساك والصوفية والآثار التي يستندون إليها والكلمات المأثورة عنهم، وجمع

أخبار زهاد السلف وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة وكم بلغوا.

والصوفية المستأخرون بعد القرون الثلاثة [2] وجمع أيضًا في الأبواب مثل حقائق

التفسير ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه، ومثل كلامهم في التوحيد

والمعرفة والمحبة ومسألة السماع، وغير ذلك من الأحوال وغير ذلك من الأبواب.

وفيما جمعه فوائد كثيرة ومنافع جليلة وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين

والصلاح والفضل. وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير، ويروي

أحيانًا آثارًا ضعيفة بل موضوعة يُعلم أنها كذب.

وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه، وكان البيهقي إذا روى عنه يقول:

حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه. وما يُظَنُّ به وبأمثاله - إن شاء الله تعالى -

تعمُّدُ الكذب [3] لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية، فإن النساك

والعباد منهم مَن هو متقن في الحديث مثل ثابت البناني والفضيل بن عياض

وأمثالهم ومنهم مَن قد يقع في بعض حديثه غلط وضعف مثل مالك بن دينار وفرقد

السنجي ونحوهما.

وكذلك ما يؤثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر

له من الأقوال والأحوال فيه من الهدى والعلم شيء كثير. وفيه أحيانًا من الخطأ

أشياء، وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ. بعضه باطل قطعًا مصدره - مثل ما ذكر

في حقائق التفسير - قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة

وذكر عن بعض طائفة أنواعًا من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة واستدلالات

مناسبة وبعضها من نوع الباطل واللغو، والذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن في

تاريخ أهل الصفة وأخبار زهاد السلف وطبقات الصوفية يُسْتَفَاد منه فوائد جليلة

ويجتنب ما فيه من الروايات، ومن أهل الآراء والأذواق من الفقهاء والزهاد

والمتكلمة وغيرهم يؤخذ فيما يأثرونه عمن قبلهم، وفيما يذكرونه معتقدين له شيء

كثير وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله. ويوجد أحيانًا

عندهم من جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير، ومن له من الأمة

لسان صدق عام بحيث يُثْنَى عليه ويُحْمَد في جماهير أجناس الأمة فهؤلاء هم أئمة

الهدى ومصابيح الدجى وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم وعامته من موارد

الاجتهاد التي يُعْذَرُونَ بها وهم الذي يتبعون العلم والعدل فهم بعداء عن الجهل

والظلم وعن اتباع الظن وما تهوى الأنفس.

***

(فصل)

وأما حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين (الذين) لم يكونوا في

الصفة أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات، فكما وصفهم الله تعالى في كتابه

حيث بين مستحقي الصدقة منهم ومستحقي الفيء. فقال: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا

هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا

تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة: 271) إلى قوله: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ

لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ

لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (البقرة: 273) وقال في أهل الفيء: {لِلْفُقَرَاءِ

المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً

وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 8) .

وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب

الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله من الكسب، وأما إذا أحصروا في

سبيل الله عن الكسب فكانوا يقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله.

وكان أهل الصفة ضيف الإسلام يبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بما

يكون عنده، فإن الغالب كان عليهم الحاجة، لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما

يحتاجون إليه من الرزق.

وأما المسألة فكانوا فيها كما أدَّبهم النبي صلى الله عليه وسلم: حرمها على

المستغني عنها، وأباح منها أن يسأل الرجل حقه مثل أن يسأل ذا السلطان أن

يعطيه حقه من مال الله أو يسأل إذا كان لا بد سائلاً الصالحين الموسرين إذا احتاج

إلى ذلك ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقًا حتى كان السوط يسقط من يد

أحدهم فلا يقول لأحد ناولني إياه. وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل، وكلام للعلماء

لا يسعه هذا الكتاب مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه

(ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل له ولا مشرف فخذه وما لا، فلا تتبعه

نفسك) [3] . ومثل قوله: (من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن

يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر) [4] . ومثل

قوله: (من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشًا - أو خموشًا أو كدوشًا -

في وجهه) [5] . وقوله: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل

الناس أعطوه أو منعوه) [6] إلى غير ذلك من الأحاديث.

وأما الجائز منها فمثل ما أخبر الله عز وجل عن موسى والخضر أنهما أتيا

أهل قرية استطعما أهلها. ومثل قوله: (لا تحل المسألة إلا لذي ألم مُوجع أو غُرم

مُفظع أو فقر مُدقع) . ومثل قوله لقبيصة بن مخارق الهلالي (يا قبيصة لا تحل

المسألة إلا لثلاثة: رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فسأل حتى يجد سدادًا من

عيش - أو: قوامًا من عيش - ثم يمسك، ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته

ثم يمسك، وما سوى ذلك من المسألة فإنما هو سُحتٌ أكله صاحبه سحتًا) [7] .

ولم يكن في الصحابة - لا أهل الصفة ولا غيرهم - من يتخذ مسألة الناس

والإلحاف في المسألة بالكدية والمشاحذة لا بالزنبيل ولا غيره - صناعة وحرفة بحيث

لا يبتغي الرزق إلا بذلك. كما لم يكن في الصحابة أيضًا أهل فضول من الأموال لا

يؤدون الزكاة ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يعطون في النوائب، بل هذان

الصنفان الظالمان المُصِرَّان على الظلم الظاهر من مانعي الحقوق الواجبة والمعتدين

حدود الله في أخذ أموال الناس كانا معدومين في الصحابة المُثْنَى عليهم.

(فصل) من توهم أن أحدًا من الصحابة. أهل الصفة أو غيرهم، أو التابعين

أو تابع التابعين قاتل مع الكفار أو قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه أو

أنهم كانوا يستحلون ذلك أو أنه يجوز ذلك - فهذا ضال غاوٍ بل كافر يجب أن يستتاب

من ذلك فإن تاب وإلا قتل {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ

غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:

115) .

بل كان أهل الصفة ونحوهم كالقُرَّاء الذين قنت النبي صلى الله عليه وسلم

يدعو على قَتَلَتِهِم، هم من أعظم الصحابة إيمانًا وجهادًا مع رسول الله صلى الله عليه

وسلم ونصرًا لله ورسوله كما أخبر الله عنهم بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ

أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 8) وقال: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ

مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ

وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي

الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ

بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ

بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) .

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذا التاريخ لأبي عبد الرحمن محمد السلمي المذكور المتوفى سنة 412.

(2)

المنار: ذكر الحافظ في لسان الميزان (السلمي) هذا ووصفه بأنه شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم وأنه عني بالحديث ورجاله وقال: تكلموا فيه، وليس بعمدة، بل قال ابن القطان: كان يضع الأحاديث للصوفية. وأن الحاكم قال: كان كثير السماع والحديث متقنًا فيه، من بيت الحديث والزهد والتصوف (قال) وقال السراج: مثله - إن شاء الله - لا يتعمد الكذب، ونَسَبَه إلى الوهم.

(3)

المنار: الحديث في الصحيحين وغيرهما، ولفظ البخاري في كتاب الأحكام: عن عبد الله بن عمر قال: سمعت عمر يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة فقلت: أعطه أفقر مني، فقال:(خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك) وله في كتاب الزكاة: (إذا جاءك بدل فما جاءك) ولفظ مسلم (خذه فتموله أو تصدق به وما جاءك) إلخ وزاد في آخره: قال سالم: (فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدًا شيئًا ولا يرد شيئًا أعطيه) .

(4)

هو في الصحيحين أيضًا على اختلاف في ألفاظه وأوله: (ما يكون عندي من مال فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله) إلخ.

(5)

رواه أحمد وأصحاب السنن وفيه زيادة تحدد الغنى بخمسين درهمًا، وفي سنده حكيم بن جبير ضعيف، وتكلم فيه شعبة من أجل هذا الحديث، ومعنى الخموش والخدوش والكدوش واحد.

(6)

روياه أيضًا واللفظ للبخاري.

(7)

لفظ الحديث في صحيح مسلم: (يا قبيصة: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال: سدادًا من عيش - ورجل أصابته فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال: سدادًا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا) .

ص: 218

الكاتب: حسني عبد الهادي

من الخرافات إلى الحقيقة

(8)

فوز روح زردشت على روح الإسلام

من المجربات أنه إذا تأصلت عقيدة ما في نفس فرد أو جماعة يتعذر على

معتقدها أو على غيره إزالتها. فإن اتفق أن نُزعت هذه العقيدة، فلا بد أن يبقى

لها آثار في النفس تظهر بين آونة وأخرى بالرغم من الجهد الذي يبذله صاحب

العقيدة ليتناساها. هذا شأن العقائد الدينية، فإن ضُم إليها عقيدة قومية وامتزجت

العقيدتان يتعذر حينئذ إزالة هذه العقيدة المزدوجة.

أضرب مثلاً هؤلاء الإيرانيين أرادوا التأليف بين حاجاتهم الروحية وبين

موجبات تقاليدهم التاريخية وبين مقتضيات الدين الإسلامي فلم يفلحوا. لماذا؟ لأن

زردشت ولد في إيران ونشر مذهبًا ملائمًا لروح الفرس وموافقًا لتقاليدهم التاريخية،

فرسخ هذا الدين في أنفسهم، لأنه جاء موافقًا لحاجاتهم الروحية حتى إن ملك ذلك

العصر (كستاسب) ووزراءه وسائر الطبقات أقبلوا على دين (زردشت) إقبال

العاشق المشتاق؛ لأن روح البلاد كانت تطلب وصايا زردشت فكان معبرًا عما في

ضميرها.

نعم إن العرب ضربوا دولة الفرس في القادسية ضربة زلزلوا بها أركانها،

وقوضوا عمود خيمتها. إلا أن روح إيران بقيت بمعزل عن تلك الضربة، ولم

تتبدل لأن تبديلها محالٌ، حتى إن أحكام الإسلام المنطقية العلوية، لم تستطع فتح

الروح الإيرانية؛ لأن هذه الروح كانت قد اعتادت وألِفَت عقائد أمشاجًا مركبة

ممزوجة بالخيالات والأوهام، فلم تكن أسس الدين الإسلامي البسيطة لتحل محل

تلك الأسس المركبة. روح الإيراني كانت تطلب أحيانًا عبادات مقرونة بمظاهر

العظمة والفخفخة وأحيانًا بمظاهر الحزن المشعشع المعظم، فلذلك كانوا يرون قواعد

الدين الإسلامي كالشيء اليابس غير المرن. وهذا ما تأباه أرواحهم، وتنبو عنه

أذواقهم.

الدين والحكومة كانا يرتكزان على قاعدة واحدة عند الفرس. فلما سقطت

الحكومة سقط الدين معها؛ لأن سقوط القاعدة يقتضي سقوط ما بُنِيَ عليها.

إن إعادة دين (زردشت) كانت في نظر الإيرانيين أسهل وأسلم من التوسل

لإعادة عرش كسرى. ولكن إعادته تتوقف بالطبع على إضعاف الدين الذي حل

محله. لذلك صمموا على الأمور الآتية

(1)

زلزلة قواعد الإسلام.

(2)

إدخال تقاليد الفرس في سويداء قلبه.

(3)

إحداث مذاهب جديدة.

(4)

ابتداع طرق مُستحدَثة.

والقصد من ذلك كله إضاعة جوهر الإسلام الساذج بين هذه المركبات أو

إلباسه ثوب (زردشت) السابغ الفضفاض على الأقل، حتى إذا ما عثرت رجلاه

بأذيال هذا الثوب ووقع أو ضعفت مشيته تمهدت لهم السبيل لنصب عرش كسرى.

لذلك يجد المدقق منا في حوادث التاريخ أن جميع الفرق الضالة ولدت في

إيران وأن الخرافات والبدع السيئة جاءت من إيران؛ لأن الأحكام الإسلامية

البسيطة لم تستطع تطويع النفس الفارسية التي اعتادت الانحناء تحت أثقال التقاليد

القديمة.

هذا هو السبب الإيجابي. وهناك سبب معنوي أيضًا، وهو أن الإيراني

قضى عمره وهو يئن تحت استعباد السلالات المالكة؛ لأنه كان يتدحرج بين

استبداد آل (البيشداديين) و (الإشكانيين) و (الكيسانيين) و (الساسانيين) وكل

شعب وقع في نيران الاستبداد تطلب روحه دائمًا مبعثًا لأنينها وبث شكواها، وهذه

المظاهر التخييلية التي يحتفل بها الإيرانيون في أيام مخصوصة هي مبعث الأسى

الذي يجتمع فيه ما يفيض من دموعهم، ففي تلك الاجتماعات والاحتفالات يفرغ كل

امرئ آلامه ويخرج منها بدون آلام.

ذلك - يا سيدي القارئ - سر مأتم (المُحَرَّم) التي يبكي فيها الإيرانيون الحسين

السبط رضي الله تعالى عنه، وإذا اعتاد الروح عملاً وصار له ملكة؛ فإنه يصدر عنه

دائمًا لا يعيقه عنه عائق مهما يكن قويًّا، ولا شأن للمظاهر والأشكال عند الروح وإنما

الشأن عنده للإدراك والشعور الذي يبعث على العمل، فثم شعور يحرك داعية البكاء،

وسيان أبكى على كسرى أم على الحسين رضي الله عنه. باعث البكاء أساسي

وصورة المأتم فرع عنه [1] .

روح الإيراني يريد أن يرى رجلاً جالسًا على عرش الملك بكل عظمة وفخامة،

يريد أن يحصر حق التعظيم فيه وفي ورثته؛ لأن هذا المعنى تبوأ ورسخ في

سويداء قلب الشعب وأمسى روحًا ثانيًا له، يريد أن يرى آمرًا كبيرًا ذا أبهة وبهجة

يأمر وينهي متأبهًا متألهًا - لا عبدًا متواضعًا - ومن تحته أمة تأتمر وتطيع وتخضع،

وأنى يجد هذا في الإسلام؟ الإسلام حرم الاستبداد والتعظم والكبرياء، ونسخ

توارث الأمر والنهي وجعل الخلافة تابعة للشورى. وكان الخليفة كآحاد الناس

بعيدًا عن العظمة وعن الفخفخة. لذلك أحدثوا مسألة (الإمامة المعصومة) لتقوم

مقام الكسروية المقدسة، فيتوارثون عروش الأكاسرة، فاستعانوا ببني هاشم لا

لإجلاسهم على عرش الخلافة؛ بل لإجلاس أحفاد إسماعيل الشاه على عرش كسرى.

إن عقل الإيراني ما كان يقدر أن يفهم معنى أصول انتخاب الرئيس السياسي

من الناس. وكان انتخاب الخلفاء الراشدين الأربعة في نظره من أغرب الغرائب

لأن (زردشت) غرس في قلبه فكرة توارث الرئاسة والعظمة والجلال. لذلك كانوا

يتعجبون من ترجيح أحد على علي كرم الله وجهه؛ لأن الفضل الذاتي كان في

نظرهم شيئًا غريبًا؛ ولا سيما أولاد سيدنا علي رضي الله عنهم أسباط الرسول

صلى الله عليه وسلم.

وهذا هو سر تولد مسألة (الإمامة) فإنها من مقتضيات روح إيران. ولما

كان الحسين رضي الله عنه قد تزوج إحدى عقائل بيت الملك في إيران من أسرة

(الساسانيين) كان الفرس يعلقون أهمية كبرى على هذه النقطة.

كانت روح الإيراني تطلب (خداوند) أي رئيسًا إلهيًّا لتنقاد له وتطيعه طاعة

وجدانية وتمتثل أوامره بغير بحث ولا مراجعة. وأنى لها في الإسلام مثل ذلك

وأكبر خليفة يقول علنًا: (أيها الناس من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومه) فيجاب

من آحاد الناس بكل بساطة: (لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا)[2] .

الإيراني ما كان يمكن أن يفهم هذا، وروحه يأبى قبوله. وإنما يريد (خداوند)

أي رئيسًا إلهيًّا يأمر فيطاع بلا نقد وبلا اعتراض. الإيراني ينشرح صدره إن قَتَلَ أو

كَسَرَ أو سَمَّمَ أحدًا امتثالاً لأمر (الخداوند) وتكفي أدنى إشارة منه ليطيع بكل سرور.

وهذا السرور لا بد له من (خداوند) إذًا ما العمل والإسلام يأبى ذلك؟ وجدوا فكرة

إحداث (إمام يورث) أقصر طريق لما نووا. وهكذا فعلوا.

من قرأ روح أبي مسلم من أفعاله يتضح له صدق ما نقول، وللقارئ الكريم

البيان:

أمر الإمامُ (إبراهيم) أبا مسلم الخراساني أن يقتل كل من اشتبه في إخلاصه

وإن كان ولدًا لا يتجاوز طوله خمسة أشبار، فامتثل أبو مسلم هذا الأمر بدون تردد؛

لأنه صدر من (خداوند) أي من إمام، ومجموع من قتل أبو مسلم على

الشبهة ستمائة ألف مسلم. ولقد صور المؤرخ ابن الأثير هذه الفواجع تصويرًا تامًّا

حتى إن (أبا سلمة الخلال) الذي أحرز عنوان (وزير آل محمد) لم يقدر أن

يصون دم نفسه من قانون الشبهة؛ لأن أبا مسلم كان يتلقى أوامر ممثل (الخداوند)

الإمام إبراهيم كأمر إلهي.

وياليت الأمر بقي مسوقًا بروح الإيرانيين وحدهم بل إن روح سورية المقتبسة

من روح الروم زاد الأمر اضطرابًا وتهويشًا؛ إذ من المعلوم أن بعض الجنود

السورية والعراقية أغريت يوم (صفين) بعدم الطاعة لعلي كرم الله وجهه

ولمعاوية أيضًا، وهذه الديمقراطية الواسعة ليست إلا من بقايا أفكار (بيزانس)

فتشوشت أفكار العرب بين هذا الجزر الإيراني والمد الرومي (وكان العربي من

القديم قانعًا بالانكماش في جزيرته ولا يحلو له إلا ما عنده فلا يعرف ما عند غيره.

والسياسة هي معرفة المتغير ومعاملته حسبما علم من أحواله) وأوضح دليل على

عقلية الإيرانيين ما عمله أهل بلدة (راوند) من توابع أصفهان يوم جاءوا لمقابلة

الإمام المنصور إذ نادوه (يا خداوند) أي إلهنا؛ لأن كلمتي (إمام وخدواند) في نظر

الفرس لا يتجزآن، وعندما عدلوا عن تسمية المنصور إمامًا لم تستطع الروح

الفارسية أن تعيش بدون إمام ففتشت عليه واستمرت تفتش حتى وجدته ولكن من

وجدت؟ وجدت أبا مسلم الخرساني وادعت بأن الألوهية حلت فيه. أي في قاتل

ستمائة ألف مسلم.

لا يتعجب العاقل من إسناد الإيرانيين الألوهية لأبي مسلم لأنه - والحق يقال -

بطل من أبطال التاريخ وسياسي هائل، وهو ليس أكثر من إيراني وطني متغالٍ،

ولكن العجب كل العجب تقديس غير الإيرانيين له، والأحزاب التي أُلّفت لذلك.

حزب الرزامية:

إن قانون الشبهة الذي أحدثه الإمام إبراهيم لم يستثن أبا مسلم بل طبَّقه الخليفة

المنصور عليه بالذات، وعلى ذلك اجتمع بعض الفرس وبسطاء العرب وأعلنوا

إمامة أبي مسلم على رءوس الأشهاد وسموا جمعيتهم باسم (حزابي) ثم أعلن (رزام

بن شاقو) مؤسس الحزب الرزامي ألوهية أبي مسلم وقبل الناس ألوهية أبي مسلم

الذي صار إمامًا قبل مدة وجيزة حتى إن بعض الحزابين ما كان يصدق أن أبا مسلم

يموت بل كانوا يعتقدون بأنه سيظهر يومًا ما ويملأ العالم عدلاً وبعضهم كان يقول:

إنه مات، وإن الإمامة انتقلت إلى بنته.

ما هذه العقائد وما هذه الأقوال؟ إن هي إلا بقايا دين (زرادشت) وبمدة قليلة

كثر هذا الحزب.

جميع هذا الخرافات ليست من ديننا في شيء، إن هي إلا خرافات وما

أبو مسلم إلا سياسي تام وإمامته وألوهيته وقدسيته شيء موهوم خيالي.

حزب المبيضة:

ثم ظهر كاتب أبي مسلم المقنع فالتف حوله الخراسانيون الذين كانت أجسامهم

مسلمة وأرواحهم أسيرة عقائد (بوذا) و (زردشت) .

اسم المقنع (هاشم بن حاكم) وكان يغطي وجهه لقبحه، ولذلك سُمي المقنع.

رأى المقنع بحرانًا في أفكار الخراسانيين: رآهم مسلمين ولكن قواعد الإسلام

الساذجة لم توافق مشربهم، وطلب الرجوع إلى دين زردشت صعب وكذلك الاكتفاء

بالإسلام، بل هو عنده أصعب، ولذلك عزم على صبغ الإسلامية بصبغة زردشتية،

وهذا يحتاج لجسارة ومهارة، وبما أن هذا كان خصيصًا بالعلوم الطبيعية أخذ يقدم

لهم قوانينها وقواميسها كمعجزات فصدقوه واتبعوه. وكانت أعماله معطوفة على هدم

بناء العرب السياسي والديني معًا لذلك توسل بإحياء عقيدة الناسخ التي اكتست ثوبًا

هنديًّا وآخر مصريًّا وثالثًا يونانيًّا وثوبًا رابعًا إيرانيًّا ولكنه زاد على أثوابها ثوبًا

خامسا إسلاميًّا، وللقارئ الكريم ما كان يقول هذا المقنع:

إن الله تجلى في بادئ الأمر في وجود آدم ثم انتقل إلى نوح ثم إلى إبراهيم

ومن بعده إلى موسى ثم إلى محمد عليهم السلام، ومن بعده إلى علي كرم الله وجهه،

ثم إلى محمد بن الحنفية وفي النهاية حل في أبي مسلم الخرساني، ومن بعده انتقل

إلى وجود المقنع.

إن هذه العقيدة القديمة وُجد من استأنس بها في إيران وسورية ومصر والهند

والتف حوله عدد ليس بالقليل حتى إن الخليفة المهدي اضطر لأن يسوق عليه ثلاثة

جيوش، وكان الغالب في الثلاث المعارك المقنع، فهذا الظفر أطلق لسان الفرس

وطفقوا يلهجون بإيران واستقلالها. عندئذ جمع الخليفة المهدي جندًا كثيفًا، وأرسله

لحربه فغلب في هذه المرة وقتل المقنع في مدينة (كسن) ولكن الخرافات التي نشرها

بين المسلمين لم تمت.

وأما سبب تسميتهم المبيضة فهو أنهم كانوا يلبسون لباسًا أبيض.

الزنادقة أو الحمرة:

هم من أتباع المقنع أيضًا وكانوا يسمون الحمرة؛ لأنهم كانوا يلبسون لباسًا

أحمر [3] لقد أضر المحمرة بالإسلام أضرارًا أبلغ من أضرار المبيضة، وأدخلوا فيه

خرافات أكثر منهم وأتعبوا العرب والمسلمين أتعابًا دامت أحقابًا طويلة.

قبل الإسلام بقرنين ونصف ظهر في إيران رجل اسمه (مزدك) ونشر مذهبًا

جديدًا فيها. ومن مقتضيات هذا المذهب: إهمال كل قانون وكل نظام وحل جميع

الروابط الأدبية وفتح الباب على مصراعيه لكل شهوة بشرية، بَذَلَ الأكاسرةُ جُلَّ

المستطاع لقمع هذا المذهب ولكنهم لم يفلحوا؛ لأن الاشتراك بثروة الأغنياء

وبالنساء الجميلات كان يجذب الشبان من جميع الأطراف إليه، وانتشر هذا المذهب

حتى إنه لم يبق هنالك أثر للقانون والنظام وللحق وللأدب وللحياء، وعُدَّ كل شيء

يوافق تسكين الشهوة البشرية مباحًا بل مشروعًا.

وفي خلافة المهدي بدأ هذا المذهب ينتشر بين المسلمين ولكن بلباس إسلامي،

بذل الخليفة المشار إليه كل ما يمكنه لمحوه وسالت الدماء كالأنهار ولكن بدون

جدوى، بل ظل ينتشر في خراسان والعراق انتشارًا سريعًا، ومن الغريب أن جميع

المذاهب التي كان الإيرانيون ينشرونها بعد الإسلام هي مقتبسة مما كان يجري في

الهند وإيران، ولكن كانوا يبدلون اسم مؤسسها القديم ويضعون عليها أسم أحد أولاد

سيدنا علي رضي الله عنه، ولم يوجد حزب أضر بأخلاق المسلمين أكثر من هذا

الحزب لأنهم لم يكتفوا بإباحة النساء والأولاد بينهم، بل طفقوا يخطفون النساء

الحسان من الأسواق، وبهذا الشكل أتعبوا الخليفة المهدي وحكومته تعبًا ما وراءه

تعب.

...

...

...

...

... المترجم

...

...

...

...

حسني عبد الهادي

...

...

...

... نابلس

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كان الروح الإيراني يريد أن يبكي على (زردشت) وكسرى فبكى على الحسين، والروح البريطاني يريد أن يبكي على طريق الهند فبكى على ملك بني هاشم فروح الأولين من الفرس رأى بني أمية حاجزًا فكسره وأقام مقامه دولة فارسية: دولة الشاه إسماعيل الصفوي ! وكذلك الروح الأوروبي رأى الأتراك حائلاً دون مرامه فأزاله ولكن من أقام مقامه؟ السر برسي كوكس في العراق والسر هربرت صمويل في فلسطين وغورو في الشام. الأوروبيون والإيرانيون سلكوا طريقًا واحدًا وعملوا عملاً واحدًا وعيون العرب مغمضة عن مشاهدة التاريخ، وإن نصحهم عارف بالأمر يَصُمُّونَ الآذان ويقابلونه بالافتراء والبهتان! رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون (المترجم) .

(2)

المنار: ليس كل ما في الإسلام ولا أهمه قول هذا الخليفة وهو عمر، بل قيَّد الله تعالى طاعة خاتم رسله في آية المبايعة بالمعروف فقال:[وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ](الممتحنة: 12) مع العلم بأنه لا يأمر إلا بالمعروف، وصح عنه أنه كان يقول:(إنما الطاعة في المعروف) وما في معناه. وقال أبو بكر في خطبته الأولى عقب مبايعته: (قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت

فأعينوني، وإذا زغت فقوموني) وعلى هذا جرى الخلفاء الراشدون كلهم.

(3)

رجع الناس في هذا العصر إلى جعل الملابس الملونة بلون خاص شعارًا للأحزاب والجمعيات كالقميص الأسود لحزب الفاشستي في إيطالية.

ص: 226