المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فاتحة كتاب الخلافةأو الإمامة العظمى - مجلة المنار - جـ ٢٤

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (24)

- ‌جمادى الأولى - 1341ه

- ‌فاتحة المجلد الرابع والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌الملحق الفني التابع لفتوى طهارة الكحولفي ج9 (م23)

- ‌استعمال الذهب والفضة

- ‌كتب ابن تيمية وابن القيموالشوكاني والسيد حسن صديق

- ‌الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية [*](2)

- ‌وصف استقلال العراق

- ‌رد على الرسالة الرملية فيما سمته العقائد الوهابية

- ‌أهم أخبار العالم

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌جمادى الآخرة - 1341ه

- ‌التصوير واتخاذ الصور والتماثيل

- ‌فتاوى المنار

- ‌الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية(3)

- ‌وصف ثورة الهند السياسية السلبيةوانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*](2)

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌نبأ عن النهضة الأفغانيةوكونها دينية مدنية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌رجب - 1341ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌وصف ثورة الهند السياسية السلبيةوانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية*(3)

- ‌أقدم كتاب في العالمأثر مصري

- ‌منشور عامفي المسألة العربية العامة والفلسطينية خاصة

- ‌وفاة عالم عربي

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌شعبان - 1341ه

- ‌إماطة اللثام عما علق بأذهان بعض المنتسبينإلى العلم من الأوهام

- ‌رسائل الطعن في الوهابية

- ‌رمضان - 1341ه

- ‌النفس التي خلق منها البشر

- ‌الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنجليزيةالعالم العلامة الأستاذ أبو الكلام(2)

- ‌الخوارج والإباضية

- ‌وفاة زعيم عربي علوي عظيمالسيد محمد علي الإدريسي

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تقريظ للمنار

- ‌شوال - 1341ه

- ‌الحلف بالطلاق - وأنواط النقود

- ‌ليلة نصف شعبان والاكتساب بالقرآن

- ‌خطاب مفتوح من روح الإسلام والجامعة العربيةإلى الشعب الإنجليزي والحكومة البريطانية

- ‌دعوة عامةمن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطينلعمارة الحرم القدسي الشريف

- ‌صفة المسجد الأقصى الشريفوخلاصة تاريخية له [1]

- ‌فاتحة كتاب الخلافةأو الإمامة العظمى

- ‌المراسلة والمناظرة

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ذو القعدة - 1341ه

- ‌التصرف في الكونوحكم من ادعى أن الله أعطى حق التصرف في ملكهللسيد البدوي

- ‌المعاهدة البريطانية الحجازيةوخدعة الوحدة العربية(2)

- ‌نص البيانالذي أصدره المؤتمر الفلسطيني السادس عن المعاهدة

- ‌منشور للإمام يحيى حميد الدين

- ‌اللورد فاروق هدلي وخوجه كمال الدين

- ‌وفاة رجل كبير ومحسن شهيرهو الحاج مقبل الذكير

- ‌ذو الحجة - 1341ه

- ‌الراتبة القَبلية للجمعةالقياس في العبادات، والتردد في نية الصلاةومن صلى غير ما نوى [*]

- ‌المسيحية الإسلامية القاديانيةالملقبة بالأحمدية

- ‌الأستاذ الخوجه كمال الدين

- ‌حقيقة الوهابية ومنشأ الطعن فيها

- ‌الاستفتاء في مَلك الحجاز

- ‌جهاد مسلمي الهند في سبيل الخلافة الإسلاميةوتحرير الجزيرة العربية

- ‌الخلاف بين مصر والحجاز

- ‌رجل مات والرجال قليلالأستاذ محمد وهبي

- ‌مصاب مصر بعالمها الأثري الأكبرأحمد كمال باشا

- ‌منشور الإمام يحيى والإنجليز

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌المحرم - 1342ه

- ‌هل كان النبي صلى الله عليه وسلميعرف لغة غير العربية

- ‌حركة الأرض وجريان الشمس لمستقر لها

- ‌حكم الصائم الذي يغطس في الماء

- ‌حقيقة الإيمان والكفر وشُعبهما

- ‌بطل العرب والإسلام العظيمالقائد الكبير محمد عبد الكريم

- ‌الخلافة والسلطان القوميوجهة نظر الترك إلى هذه المسألة الكبرى

- ‌انتقاد المنار لكتاب خلافت وحاكميت ملية

- ‌العرب في إيطالية في القرون الوسطى

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌ربيع الأول - 1342ه

- ‌أسئلة في حقيقة الخمر والسبيرتووما يدخل فيه من أدوية وغيرها

- ‌لغة الإسلامواللغة الرسمية بين الممالك الإسلامية

- ‌الخلافة الإسلامية

- ‌بعثة تنصير المحمديينوبرنامج كيدها للإسلام والمسلمين

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌خاتمة المجلد الرابع والعشرين

الفصل: ‌فاتحة كتاب الخلافةأو الإمامة العظمى

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة كتاب الخلافة

أو الإمامة العظمى

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن

ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124) .? {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا

مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ

لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي

شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) .

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: 165) .

هدانا الكتاب الحق، والنظر في تاريخ الخلق إلى الاعتبار بخلافة الشعوب

بعضها لبعض، وما فيها من حق مشروع وتراث مغصوب، وإلى ما للرب تعالى

في ذلك من الحِكَم والسنن الاجتماعية، والأحكام والسنن الشرعية، ومن العهد

بالإمامة العامة لبعض المرسلين، والوعد بالاستخلاف وإرث الأرض لعباده

الصالحين.

ومن تلك السنن العامة: ابتلاء بعض الشعوب ببعض، ليظهر أيها أقوم

وأقرب إلى العدل والحق، فيكون حجة له على الخلق؛ ولينتقم من الظالمين، تارة

بأمثالهم من المفسدين، وتارة بأضدادهم من المصلحين وتكون عاقبة التنازع

للمتقين، فالمتقون هم الذين يتقون باب الخيبة والفشل، ويسيرون على سنن الله

الشرعية والكونية في العمل، والصالحون هم الذين يجتنبون الفساد، ويسلكون

سبيل الرشاد، ويقَوِّمُون ما اعوَج من أمر العباد.

عهد الله تعالى بالإمامة العامة لنبيه وخليله إبراهيم، وللعادلين من ذريته غير

الظالمين [1] ، فوعد بها قوم موسى من بني إسرائيل، وقوم محمد من بني إسماعيل،

قال تعالى في الوعد الأول {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ

وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) وقال في الوفاء به: {وَأَوْرَثْنَا

القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ

رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف: 137) الآية، وقال

في الوعد الثاني: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي

الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (النور:

55) إلخ، وقد صدق الله هذه الأمة وعده ووفى لها، كما وفى لمن قبلها، ثم

سلبها جل ما أعطاها، كما عاقب بذلك سواها، إذ نقضت عهدها كما نقضوا،

وفسقت عن أمر ربها كما فسقوا، واغترت بنسبها وبكتابها كما اغتروا، وإنما ناط

تعالى إرث الأرض بإقامة الحق والعدل، وبالصلاح والإصلاح لأمور الخلق،

واستثنى من نيل عهده الظالمين، وتوعد بسلبه من الفاسقين، وكان الواجب عليها

أن تعتبر بذلك فتثوب إلى رشدها، وتتوب إلى ربها، عسى أن يرحمها ويتم

لآخرها ما أنجز من عهده لأولها، ولكنها لما تفعل، وعسى أن تفعل.

إن المريض الجاهل بمرضه لا يصيب نجاحًا، وإن داء المسلمين ودواءه

مُبَيَّن في كتابهم المُنَزَّل، ولكنهم حرموا على أنفسهم العلم والعمل به، استغناء

عنهما بفقه المقلدين وكتبهم، ويمكن العلم بهما مما أرشدهم إليه الكتاب من السير في

الأرض للنظر في أمور الأمم والاعتبار بسنن الله في الخلق، ولكنهم قلما كانوا

يسيرون، وإذا ساروا فقلما ينظرون ويعتبرون.

الإسلام هداية روحية وسياسة اجتماعية مدنية، أكمل الله به دين الأنبياء وما أقام

عليه نظام الاجتماع البشري من سنن الارتقاء.

فأما الهداية الدينية المحضة فقد جاء بها تامة أصلاً وفرعًا، وفرضًا ونفلاً،

ولما طرأ الضعف على المسلمين جهلوا هذا الأصل، فغلا بعضهم في الدين، فزاد

في أحكام العبادات والمحرمات الدينية والمواسم، والأحزاب والأوراد الصوفية، ما

ألفت فيه المجلدات، ويستغرق العمل به جميع الأوقات، ويستلزم جعله من الدين

نقصان دين الصحابة والتابعين إذ لم يكن لديهم شيء منه، ولو اشتغلوا بمثله لما

وجدوا وقتًا لفتح البلاد وإصلاح أمور العباد.

وأما السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها، وشرع

للأمة الرأي والاجتهاد فيها؛ لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وترتقي

بارتقاء العمران وفنون العرفان، ومن قواعده فيها أن سلطة الأمة لها وأمرها

شورى بينها، وأن حكومتها ضرب من الجمهورية، وخليفة الرسول فيها لا يمتاز

في أحكامها على أضعف أفراد الرعية، وإنما هو منفذ لحكم الشرع ورأي الأمة،

وأنها حافظة للدين ومصالح الدنيا، وجامعة بين الفضائل الأدبية والمنافع المادية،

وممهدة لتعميم الأخوة الإنسانية، بتوحيد مقومات الأمم الصورية والمعنوية، ولما

طرأ الضعف على المسلمين قصروا في إقامة القواعد والعمل بالأصول، ولو

أقاموها لوضعوا لكل عصر ما يليق به من النظم والفروع.

ظهرت مدنية الإسلام مشرقة من أفق هداية القرآن، مبنية على أساس البدء

بإصلاح الإنسان، ليكون هو المصلح لأمور الكون وشئون الاجتماع، فكان جل

إصلاح الخلفاء الراشدين إقامة الحق والعدل، والمساواة بين الناس في القسط،

ونشر الفضائل، وقمع الرذائل، وإبطال ما أرهق البشر من استبداد الملوك

والأمراء، وسيطرة الكهنة ورؤساء الدين على العقول والأرواح، فبلغوا بذلك حدًّا

من الكمال، لم يعرف له نظير في تاريخ الأمم والأجيال، واستتبع ذلك مدنية

سريعة السير، جامعة بين الدين والفضيلة، وبين التمتع بالطيبات والزينة، ارتقت

فيها العلوم والفنون بسرعة غريبة، حتى قال الفيلسوف المؤرخ موسيو غوستاف

لوبون في كتابه (تطور الأمم) : إن ملكة الفنون لم تستحكم لأمة من الأمم فيما دون

الثلاثة الأجيال الطبيعية إلا للعرب. ويعني بالثلاثة الأجيال: الجيل المقلد، والجيل

المخضرم، والجيل المستقل.

لقد أتى على الناس حينٌ من الدهر وهم يظنون أن المدنية الإسلامية قد ماتت

وبليت فلا رجاء في بعثها، وأن المدنية الإفرنجية قد كسبت صفة الخلود فلا مطمع في

موتها، ثم استدار الزمان، وظهر خطأ الحسبان، وكثر في حكماء أوروبة وعلمائها

من يرتقب اقتراب أجل مدنيتها، بما يفتك بها من أوبئة الأفكار المادية والروح

الحربية، والمطامع الأشعبية، والإسراف في الشهوات الحيوانية، وقد كان من

أساطين أهل هذا الرأي شيخ فلاسفة العصر هربرت سبنسر الإنجليزي مؤسس علم

الاجتماع، وكثر أهله بعد الحرب الكبرى؛ لما ترتب عليها من المفاسد التي لا

تُحْصَى، فقد أرَّثت الأحقاد والأضغان بين الشعوب الأوروبية، وضاعفت المفاسد

والمشاكل المالية والسياسية، ولكنها قد هزت العالم الإسلامي والشرق كله هزة عنيفة،

وأحدثت في شعوبه ثورات لم تكن مألوفة، فسنحت له فرصة للعمل، هي مناط

الرجاء وقوة الأمل.

إن أعظم مظاهر هذه الفرصة نهضة الشعب التركي من كبوته التي قضت

على السلطنة العثمانية، وتوثيقه عرى الإخاء بين الدولتين الإيرانية والأفغانية،

وبثه دعوة الاعتصام مع سائر الشعوب الإسلامية الأعجمية، ونجاحه في إلغاء

الامتيازات الأجنبية، والنقص من سائر القيود والأغلال السياسية والمالية،

فرجاؤها فيه أن يشد أواخيّ الإخاء مع الأمة العربية، ويتعاون معها على إحياء

المدنية الإسلامية، بتجديد حكومة الخلافة على القواعد المقرَّرة في الكتب الكلامية

والفقهية، وأن لا يرضى بما دون ذلك من المظاهر الدنيوية، ولا يغتر بتحبيذ عوام

المسلمين لما قرره في أمر الخلافة الروحية، فما أضاع على المسلمين دنياهم ودينهم،

إلا تحبيذ دهمائهم لكل ما تفعله حكوماتهم ودولهم، وناهيك بشعور المسلمين

الذين يئطون من أثقال حكم المستعمرين. إنه شعور شريف، وإنما يعوزه الرأي

الحصيف، فقد كان السواد الأعظم من هؤلاء الملايين يرمي من يخالف أهواء

السلطان عبد الحميد بالخيانة أو المروق من الدين، وهو السلطان الذي أقنع جمهور

ساسة الترك بإسقاط سلطة السلاطين، الذي تحمده اليوم هذه الملايين، وما لهم بهذا

ولا ذاك من علم ولا سلطان مبين.

أيها الشعب التركي الحي: إن الإسلام أعظم قوة معنوية في الأرض، وإنه هو

الذي يمكن أن يحيي مدنية الشرق وينقذ مدنية الغرب، فإن المدنية لا تبقى إلا

بالفضيلة، والفضيلة لا تتحقق إلا بالدين، ولا يوجد دين يتفق مع العلم والمدنية إلا

الإسلام، وإنما عاشت المدنية الغربية هذه القرون بما كان فيها من التوازن بين بقايا

الفضائل المسيحية، مع التنازع بين العلم الاستقلالي والتعاليم الكنسية، فإن الأمم لا

تنسل من فضائل دينها بمجرد طروء الشك في عقائده على أذهان الأفراد والجماعات

منها، وإنما يكون ذلك بالتدريج في عدة أجيال، وقد انتهى التنازع بفقد ذلك التوازن،

وأصبح الدين والحضارة على خطر الزوال، واشتدت حاجة البشر إلى إصلاح

روحي مدني ثابت الأركان، يزول به استعباد الأقوياء للضعفاء، واستذلال الأغنياء

للفقراء وخطر البلشفية على الأغنياء، ويبطل به امتياز الأجناس، لتتحقق الأخوة

العامة بين الناس، ولن يكون ذلك إلا بحكومة الإسلام التي بيناها بالإجمال في هذا

الكتاب، ونحن مستعدون للمساعدة على تفصيلها، إذا وفق الله للعمل بها.

أيها الشعب التركي الباسل: إنك اليوم أقدر الشعوب الإسلامية، على أن

تحقق للبشر هذه الأمنية، فاغتنم هذه الفرصة لتأسيس مجد إنساني خالد، لا يذكر

معه مجدك الحربي التالد، ولا يجرمنك المتفرنجون على تقليد الإفرنج في سيرتهم،

وأنت أهل لأن تكون إمامًا لهم بمدنية خير من مدنيتهم، وما ثم إلا المدنية الإسلامية،

الثابتة قواعدها المعقولة على أساس العقيدة الدينية، فلا تزلزلها النظريات التي

تعبث بالعمران، وتفسد نظم الحياة الاجتماعية على الناس.

أيها الشعب التركي المتروي: انهض بتجديد حكومة الخلافة الإسلامية،

بقصد الجمع بين هداية الدين والحضارة لخدمة الإنسانية، لا لتأسيس عصبية

إسلامية تهدد الدول الغربية، فإن فعلت ذلك وأثبت إخلاصك وصحة نيتك فيه،

فإنك تجد من علماء الإفرنج وفضلاء أحرارهم من يشد أزرك ويرفع ذكرك،

ويدفع عنك تهم الساسة المفترين، وإغراء الطامعين المغررين.

أيها الشعب التركي العاقل: إنني أهدي إليك هذه المباحث التي كتبتها في بيان

حقيقة الخلافة وأحكامها، وشيء من تاريخها وعلو مكانتها، وبيان حاجة جميع

البشر إليها، وجناية المسلمين على أنفسهم بسوء التصرف فيها، والخروج بها عن

موضوعها، وما يعترض الآن في سبيل إحيائها، مع بيان المَخْرَج منها بما أشرع

السبيل وأنار الدليل، بمقال وسط بين الإجمال والتفصيل، جامع لآراء العارفين

بمصالح الدنيا وحقيقة الدين، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، وإنما الشكر لها

بالعمل بها: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) .

_________

(1)

ذكر أبو بكر الجصاص من أئمة الحنفية في القرن الرابع في كتابه (أحكام القرآن) أن في قوله تعالى لإبراهيم: [لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ](البقرة: 124) إجابة لسؤاله أن يجعل من ذريته أئمة وتعريفًا له بذلك، وبأن الظالمين منهم لا يكونون أئمة ثم قال: فلا يجوز أن يكون الظالم نبيًّا ولا خليفة لنبي ولا قاضيًا ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين من مُفْتٍ أو شاهد أو مخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرًا. فقد أفادت الآية أن شرط جميع من كان في محل الاتهام به في أمر الدين: العدالة والصلاح إلخ وذكر القاضي البيضاوي أن الجملة تفيد إجابة إبراهيم إلى مُلْتَمَسِهِ وأن الظالمين من ذريته لا ينالون الإمامة؛ لأنها أمانة من الله وعهد وإن الفاسق لا يصلح للإمامة اهـ. ملخصًا، والمراد أن إمامة غير العدل لا تصح فلا يكون إمامًا شرعيًّا؛ لأنها لا تقع، وقد نقل الجصاص وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا يلزم الوفاء بعهد الظالم فإن عقد عليك في ظلم فانْقُضْهُ.

ص: 459

الكاتب: مصطفى عبد الرازق

ذكرى رينان في الجامعة المصرية

محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني

(3)

كلمة المنار في المحاضرة

(الشاهد السادس)

(من العدد السابع من العروة الوثقى المؤرخ في أول مايو سنة 1884) .

موضوع المقالة الاجتماعية لهذا العدد (عقيدة القضاء والقدر) ذكر فيها أنها

من أصول عقائد الدين الإسلامي التي ارتقى بها المسلمون، وكانوا من أعظم

الفاتحين، وأنه لولا ما طرأ عليها من الالتباس ببدعة الجبر لَما حل بالمسلمين من

الضعف والفقر ما حل بهم، وزعم من زعموا أنها هي التي كانت سبب ضعفهم

وتقهقرهم. وهاك بعض عباراتها في ذلك:

(أما ما زعموه في المسلمين من الانحطاط والتأخر فليس منشؤه هذه العقيدة

ولا غيرها من العقائد الإسلامية، ونِسبته إليها كنسبة النقيض إلى نقيضه؛ بل أشبه

ما يكون بنسبة الحرارة إلى الثلج والبرودة إلى النار. نعم حدث للمسلمين بعد

نشأتهم نشوة من الظفر، وثمل من العز والغلب، وفاجأهم وهُم على تلك الحال

صدمتان قويتان: صدمة من طرف الشرق وهي غارة التتر من جنكيز خان وأحفاده،

وصدمة من جهة الغرب وهي زحف الأمم الأوروبية بأسرها على ديارهم. وإن

الصدمة في حال النشوة تذهب بالرأي وتوجب الدهشة والسبات بحكم الطبيعة،

وبعد ذلك تداولتهم حكومات متنوعة، ووسد الأمر فيهم إلى غير أهله، وولي على

أمورهم مَن لا يحسن سياستها، فكان حكامهم وأمراؤهم من جراثيم الفساد في

أخلاقهم وطباعهم، وكانوا مجلبة لشقائهم وبلائهم، فتمكن الضعف من نفوسهم

وقصرت أنظار الكثير منهم على ملاحظة الجزئيات التي لا تتجاوز لذته الآنية،

وأخذ كل منهم بناصية الآخر يطلب له الضرر ويلتمس له السوء من كل باب، لا

لعلة صحيحة ولا داع قوي، وجعلوا هذه ثمرة الحياة فآل الأمر بهم إلى الضعف

والقنوط، وأدى إلى ما صاروا إليه) .

(ولكني أقول وحق ما أقول: إن هذه الملة لن تموت ما دامت هذه العقائد

الشريفة آخذة مأخذها من قلوبهم، ورسومها تلوح في أذهانهم، وحقائقها متداولة بين

العلماء الراسخين منهم. وكل ما عرض عليهم من الأمراض النفسية والاعتلال

العقلي فلا بد أن تدفعه قوة العقائد الحقة ويعود الأمر كما بدأ، وينشطوا من عقالهم،

ويذهبوا مذاهب الحكمة والتبصر في إنقاذ بلادهم، وإرهاب الأمم الطامعة إليهم

وإيقافها عند حدها) . اهـ.

(الشاهد السابع)

(من العدد الثامن المؤرخ في 22 مايو سنة 1884) .

موضوع المقالة الاجتماعية في هذا العدد المقابلة بين ماضي المسلمين

وحاضرهم في العلم والعرفان، والسيادة والسلطان، والقوة الحربية البرية

والبحرية، وبيان سبب ما كان من الارتقاء الماضي، وتنازعهم الذي فرق الكلمة،

حتى شغلوا بأنفسهم عن أعدائهم ثم صاروا ينصرون أعداءهم على أنفسهم، استعانة

بهم على استبقاء سلطانهم والتفوق على أقرانهم من إخوانهم.

قال في هذا السياق: (أما وعزة الحق وسر العدل، لو ترك المسلمون وأنفسهم

بما هم عليه من العقائد مع رعاية العلماء العاملين منهم، لتعارفت أرواحهم،

وائتلفت آحادهم، ولكن واأسفاه، تخللهم أولئك المفسدون الذين يرون كل السعادة

في لقب أمير أو ملك، ولو على قرية لا أمر له فيها ولا نهي) .

(هؤلاء هم الذين حولوا أوجه المسلمين عما ولاهم الله وخرجوا على ملوكهم

وخلفائهم، حتى تناكرت الوجوه واختلفت الرغائب) .

ثم قال في الخاتمة: (إن القرآن حي لا يموت، ومن أصابه نصيب من حمده

فهو محمود، ومن أصيب بسهم من مقته فهو ممقوت، كتاب الله لم ينسخ فارجعوا

إليه وحكموه في أحوالكم وطباعكم، وما الله بغافل عما تعملون. ولعل أمراء

المسلمين قد وعظوا بسوء مغبة أعمال السالفين، وهموا بملافاة أمرهم قبل أن

يقضى عليهم، بما رزئ به المفرطون من قبلهم) إلخ.

(الشاهد الثامن)

(من العدد التاسع المؤرخ في 5 يونيه 1884) .

موضوع المقالة الاجتماعية لهذا العدد، ما يجب من التعاون على طلب السيادة

والغلب واتقاء سوء المنقلب، ومما جاء فيها:

(إن الميل للوحدة والتطلع للسيادة، وصدق الرغبة في حفظ حَوْزَة الإسلام،

كل هذه صفات كامنة في نفوس المسلمين قاطبة، ولكن دهاهم ما أشرنا إليه في

أعداد ماضية. فألهاهم عما يوحي به الدين في قلوبهم) إلخ.

(الشاهد التاسع)

(من العدد العاشر المؤرخ في 19 يونيه سنة 1884)

موضوع المقالة الاجتماعية لهذا العدد: الأمل الذي يبعث على العمل، وطلب

المجد المؤثل، واليأس المميت للهمم، والقاتل للأمم، وفيها الحجج من آيات القرآن

ومن العقل والوجدان، على أن اليأس لا يجتمع مع الإيمان في قلب إنسان، وحث

المسلمين عامة والعلماء خاصة على الرجوع إلى هداية الكتاب والعمل بها وهي

الضامنة لهم إعادة ملكهم، واسترجاع مجدهم.

وفيها مقال آخر عنوانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} (آل عمران: 118) ولا يخلو من شاهد ولكننا نود الاختصار.

(الشاهد العاشر)

(من العدد الخامس عشر المؤرخ في 11 سبتمبر سنة 1884)

في هذا العدد عدة مقالات اجتماعية إصلاحية إسلامية في كل منها شواهد

على ما نحن بصدد بيانه من حصر السيد جمال الدين كل ما يبغيه المسلمون من عز

ومجد وحضارة وسيادة في هداية دينهم، نكتفي منها بالكلمة الآتية التي نجعلها خاتمة

الشواهد وهي:

(لو تدبرنا آيات القرآن واعتبرنا بالحوادث التي ألمت بالممالك الإسلامية

لعلمنا أن فينا من حاد عن أوامر الله وضل عن هديه، ومنا من مال عن الصراط

المستقيم الذي ضربه الله لنا وأرشدنا إليه، وبيننا من اتبع أهواء الأنفس وخطوات

الشيطان {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ

وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) فعلى العلماء الراسخين وهم روح الأمة وفؤاد

الملة المحمدية أن يهتموا بتنبيه الغافلين عما أوجب الله، وإيقاظ النائمة قلوبهم عما

فرض الدين، ويُعلّموا الجاهل، ويزعجوا نفس الذاهل، ويذكِّروا الجميع بما أنعم الله

به على آبائهم، ويستلفتوهم إلى ما أعد الله لهم لو استقاموا، ويحذروهم سوء العاقبة

لو لم يتداركوا أمرهم بالرجوع إلى ما كان عليه النبي وأصحابه، ورفض كل بدعة،

والخروج من كل عادة سيئة لا تنطبق على نصوص الكتاب العزيز، ويقصوا

عليهم أحوال الأمم الماضية وما نزل بها من قضاء الله عندما حادت عن شرائعه

ونبذت أوامره {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الخِزْيَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا

يَعْلَمُونَ} (الزمر: 26) .

(على العلماء أن يزيلوا اليأس بتذكير وعد الله - ووعده الحق - في قوله:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ

الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (النور: 55) هذه وظيفة العلماء الراسخين وما هم بقليل بين المسلمين ولا نظنهم

يتهاونون فيما فوَّض الله إليهم ووكَّل إلى ذمتهم، وهم أمناء الدين وحملة الشرع

ورافعو لواء الإسلام وأوصياء الله على المؤمنين، أعانهم الله على خير أعمالهم،

ونفع المؤمنين بإرشادهم) .

***

(خلاصة الكلام في السيد جمال الدين)

قد علم من هذه الشواهد صحة ما حقَّقْنَاه من أن السيد جمال الدين الأفغاني كان

يعتقد اعتقادًا راسخًا أن الإسلام هو الذي أحيا الأمة العربية الأمية التي كانت بعيدة

عن الحضارة وجعلها بإرشاد القرآن المنزل، وهدى النبي المرسل، وسيرة السلف

الأول، أرقى أمم الأرض علمًا وحكمة وحضارة، وأن كل ما يذمها به رينان اليوم

فسببه محصور في تركها لتلك الهداية، لا من العمل بها، ولا غرو فإن بقاء الشيء

ببقاء سببه وعلته، وإن الأمة العربية هي التي أحيت كثيرًا من الشعوب الأعجمية

وأنقذتهم من الذل والمهانة التي كانوا يُسامونها من ملوكهم وكهنتهم، وأن هؤلاء

الأعاجم هم الذين تغلبوا على الحضارة العربية بالقوة الوحشية حتى هدموها، وأنه

لا يمكن أن يعود للمسلمين مجدهم وحضارتهم وعلمهم وحكمتهم إلا برجوعهم إلى

هداية دينهم.

فسقط بهذا كل ما قاله رينان وعلم به خطأ استنتاج الأستاذ الشيخ مصطفى عبد

الرازق مما فهمه من كلام السيد أنه تطور بعد زيارته لباريس في أواخر سنة

1883 وتغير رأيه في الإسلام فصار يعتقد أنه مناف للعلم والحضارة.

***

الرد على رينان

بعد هذا نلخص ما أورده الشيخ مصطفى من طعن رينان في الإسلام نفسه

ونُبين بطلانه بغاية الإيجاز، من غير خروج عن الموضوع ولا استطراد فنقول:

(1)

(بدأ رينان محاضرته بالنظر فيما عليه المسلمون في هذا العصر من

الانحطاط في العلم والمدنية وملاحظة اتصال ذلك بالدين) كما قال صاحب

المحاضرة، ثم نقل عنه أنه زعم أن هذه الدول الإسلامية المنحطة في هذا العصر

لا تستقي معارفها وآدابها من غير الدين، وأن الذين زاروا الشرق استرعى نظرهم

ما يجعل المؤمن الصادق الإيمان لا ينجو من ضيق العقل، وأن الطفل الذكي النبيه

إذا لُقِّن دينه في سن العاشرة أو الثانية عشرة انقلب متعصبًا يملؤه زهو طائش بما

يزعم أنه الحقيقة المطلقة.

والجواب عن هذا أننا لا ننكر أنه يغلب على المسلمين الجهل وضيق العقل

في هذا العصر، وإنما ننكر أن سبب هذا ما لُقنوه من أصول دينهم وآدابه، بل

سببه الحق عدم تلقين عامتهم إياه ولا تربيتهم على ذلك وحمل طلاب العلم منهم على

التقليد الذي أجمع أئمة دينهم على أنه ينافي العلم، وعبروا عنه بالجهل، واختلفوا

في إيمان المقلد فبعضهم قال: إنه لا يُعْتَدُّ به، وهم أكثر المتقدمين، وقال بعض

آخر: إنه يصح إذا اتفق أنه لقن الحق وجزم به، واحتج مَن لا يقول بصحة إيمان

المقلد ولا يعتد بدينه بما شنع القرآن على التقليد والمقلدين وجعل التقليد منافيًا للعلم

والعقل بمثل قوله:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتبعوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ

كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) .

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ

آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104) .

دع الآيات الكثيرة الناطقة بالمطالبة بالبرهان وبالعلم وبعدم الاعتداد بالظن في

الحق.

وسواء كان إيمان المقلد صحيحًا أو غير صحيح، فإن الجاهلين من رؤساء

المسلمين لم يجنوا عليهم جناية أضر عليهم في دينهم ودنياهم من نسخ ما شرعه الله

وفرضه من العلم بالبرهان، واستبدالهم إياه التقليد الأعمى الذي ألزمهم قبول كل

قول ينتسب صاحبه إلى المذهب الذي ينتمي إليه قوم الناشئ أو عشيرته؛ إذ أدى

ذلك إلى أخذ السواد الأعظم من المسلمين وهم الأميون بالرغم من بعثة رسولهم

لإبطال الأمية بقول آبائهم وأمهاتهم وما هم عليه من الجهل والخرافات بل غلب عليهم

التقليد في علوم الدنيا وفنونها وصنائعها حتى صاروا عالة على غيرهم في كل شيء.

إن فلسفة رينان، وعلمه النزر بالتاريخ وتعاليم الأديان، وجهله المطلق

بالقرآن، تحول دون فهمه لهذه الحقيقة - حتى بعد تنبيه السيد جمال الدين إياه لها -

كما فهمها غوستاف لوبون وسديو من علماء قومه وكثير من علماء الشعوب الغربية

الأخرى.

(2)

شتمه للمسلمين ونبزهم بألقاب الزهو والطيش والحمق والغرور

والتعصب لاعتقادهم أن دينهم هو (الحقيقة المطلقة)(قال) : هذا الغرور الأحمق

هو أكبر عيوب المسلم وما يلوح من بساطة دينه يلهمه احتقارًا لسائر الأديان غير

وجيه.

وجوابنا عن هذا: هل جهل الفيلسوف أن كل ذي دين يعتقد أن دينه هو

الحقيقة؟ أم بلغ من عقله وفلسفته أن يظن أن المؤمنين بالأديان ينظرون إليها

بالعين التي ينظره بها أمثاله من المعطلة فيرون أنها كالعادات القومية تحترم كلها

مجاملة، ويستهجن منها كلها ما يستهجن فلسفة؟ وإذن يجب أن يكون الناس كلهم

فلاسفة مثله! ولكن من يرى هذا فأجدر به أن يكون جاهلاً غبيًّا لا فيلسوفًا.

هذا وإن المسلمين أعلى أهل الملل كلها آدابًا في مخاطبة المخالفين لهم في

الدين، ومراعاة لشعورهم في التعبير عن دينهم، وأصدقهم في النقل عنهم، فإن

كابرنا في هذا أحد فليأتنا بأنكر ما ينكرونه على علمائنا في الرد على المخالفين لهم

عامة، وعلى النصارى منهم خاصة، ونحن نأتيه بأمثلة مما كتب أعظم رجال

الدين ورجال الدنيا من الأوروبيين في الكذب والبهتان على الإسلام والإيذاء لأهله

بأشنع المطاعن البذيئة، يعلم بها الفرق.

لقد بلغ من علو آدابنا الدينية وتنزهنا عن التعصب المذموم- دون المحمود -

أن أفتى بعض فقهائنا بتحريم مخاطبة الذمي والمعاهد بلقب الكافر إذا كان يتأذى به؛

لأن الله تعالى حرم إيذاءهم؛ ولأن وصف القرآن إياهم بالكافرين لم يكن سبًّا ولا

شتمًا بل بيان لعدم إيمانهم بما شرعه من تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم بأنزه

الألفاظ في اللغة وهو لفظ الكفر المرادف للتغطية والستر، كما سمى الزراع كفارًا

في قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (الحديد: 20) لأنهم يَكفرون

الحب الذي يزرعونه بالتراب، ويطلق لفظ الكافر في لغتنا على الليل وعلى البحر.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 466