المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التصرف في الكونوحكم من ادعى أن الله أعطى حق التصرف في ملكهللسيد البدوي - مجلة المنار - جـ ٢٤

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (24)

- ‌جمادى الأولى - 1341ه

- ‌فاتحة المجلد الرابع والعشرين

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌الملحق الفني التابع لفتوى طهارة الكحولفي ج9 (م23)

- ‌استعمال الذهب والفضة

- ‌كتب ابن تيمية وابن القيموالشوكاني والسيد حسن صديق

- ‌الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية [*](2)

- ‌وصف استقلال العراق

- ‌رد على الرسالة الرملية فيما سمته العقائد الوهابية

- ‌أهم أخبار العالم

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌جمادى الآخرة - 1341ه

- ‌التصوير واتخاذ الصور والتماثيل

- ‌فتاوى المنار

- ‌الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية(3)

- ‌وصف ثورة الهند السياسية السلبيةوانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*](2)

- ‌الشفاعة الشرعيةوالتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌نبأ عن النهضة الأفغانيةوكونها دينية مدنية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌رجب - 1341ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌وصف ثورة الهند السياسية السلبيةوانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية*(3)

- ‌أقدم كتاب في العالمأثر مصري

- ‌منشور عامفي المسألة العربية العامة والفلسطينية خاصة

- ‌وفاة عالم عربي

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌شعبان - 1341ه

- ‌إماطة اللثام عما علق بأذهان بعض المنتسبينإلى العلم من الأوهام

- ‌رسائل الطعن في الوهابية

- ‌رمضان - 1341ه

- ‌النفس التي خلق منها البشر

- ‌الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنجليزيةالعالم العلامة الأستاذ أبو الكلام(2)

- ‌الخوارج والإباضية

- ‌وفاة زعيم عربي علوي عظيمالسيد محمد علي الإدريسي

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌تقريظ للمنار

- ‌شوال - 1341ه

- ‌الحلف بالطلاق - وأنواط النقود

- ‌ليلة نصف شعبان والاكتساب بالقرآن

- ‌خطاب مفتوح من روح الإسلام والجامعة العربيةإلى الشعب الإنجليزي والحكومة البريطانية

- ‌دعوة عامةمن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطينلعمارة الحرم القدسي الشريف

- ‌صفة المسجد الأقصى الشريفوخلاصة تاريخية له [1]

- ‌فاتحة كتاب الخلافةأو الإمامة العظمى

- ‌المراسلة والمناظرة

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ذو القعدة - 1341ه

- ‌التصرف في الكونوحكم من ادعى أن الله أعطى حق التصرف في ملكهللسيد البدوي

- ‌المعاهدة البريطانية الحجازيةوخدعة الوحدة العربية(2)

- ‌نص البيانالذي أصدره المؤتمر الفلسطيني السادس عن المعاهدة

- ‌منشور للإمام يحيى حميد الدين

- ‌اللورد فاروق هدلي وخوجه كمال الدين

- ‌وفاة رجل كبير ومحسن شهيرهو الحاج مقبل الذكير

- ‌ذو الحجة - 1341ه

- ‌الراتبة القَبلية للجمعةالقياس في العبادات، والتردد في نية الصلاةومن صلى غير ما نوى [*]

- ‌المسيحية الإسلامية القاديانيةالملقبة بالأحمدية

- ‌الأستاذ الخوجه كمال الدين

- ‌حقيقة الوهابية ومنشأ الطعن فيها

- ‌الاستفتاء في مَلك الحجاز

- ‌جهاد مسلمي الهند في سبيل الخلافة الإسلاميةوتحرير الجزيرة العربية

- ‌الخلاف بين مصر والحجاز

- ‌رجل مات والرجال قليلالأستاذ محمد وهبي

- ‌مصاب مصر بعالمها الأثري الأكبرأحمد كمال باشا

- ‌منشور الإمام يحيى والإنجليز

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌المحرم - 1342ه

- ‌هل كان النبي صلى الله عليه وسلميعرف لغة غير العربية

- ‌حركة الأرض وجريان الشمس لمستقر لها

- ‌حكم الصائم الذي يغطس في الماء

- ‌حقيقة الإيمان والكفر وشُعبهما

- ‌بطل العرب والإسلام العظيمالقائد الكبير محمد عبد الكريم

- ‌الخلافة والسلطان القوميوجهة نظر الترك إلى هذه المسألة الكبرى

- ‌انتقاد المنار لكتاب خلافت وحاكميت ملية

- ‌العرب في إيطالية في القرون الوسطى

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌ربيع الأول - 1342ه

- ‌أسئلة في حقيقة الخمر والسبيرتووما يدخل فيه من أدوية وغيرها

- ‌لغة الإسلامواللغة الرسمية بين الممالك الإسلامية

- ‌الخلافة الإسلامية

- ‌بعثة تنصير المحمديينوبرنامج كيدها للإسلام والمسلمين

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌خاتمة المجلد الرابع والعشرين

الفصل: ‌التصرف في الكونوحكم من ادعى أن الله أعطى حق التصرف في ملكهللسيد البدوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التصرف في الكون

وحكم من ادعى أن الله أعطى حق التصرف في ملكه

للسيد البدوي

(س21) جاء في عدد جريدة الأهرام التي صدرت في 24 ذي القعدة و9

يوليو تحت عنوان (أفتونا برأيكم) رسالة من مراسلها في بركة السبع هذا نصها:

(حدث أمس في جامع الدبابة نزاع بين المصلين سببه أن إمام البلدة عند

الصلاة في خطبة الجمعة قال: إن الله سبحانه وتعالى أعطى السيد البدوي حق

التصرف بملكه العزيز) .

(فقاطعه أستاذ آخر وقال له: إنه كاذب؛ إذ إنه طبقًا لشريعة الإسلام لا

يكون لله شريك) .

(فترتب على ذلك قطع الصلاة بضع دقائق حصل في فترتها نزاع بين

المصلين، ولما وصل ضابط بوليس بركة السبع أفهمهم أن المسألة دينية لا تستلزم

إلا الاستفتاء، وتمكن من إصلاح ذات البين بين الأستاذين فاستحق حضرته ثناء

الحاضرين. فما رأي أصحاب الفضيلة العلماء في هذا الخلاف في الرأي ا. هـ.

وقد طلب منا بعض علماء الأزهر وغيرهم أن نجيب عن هذا السؤال، فنقول

وبالله التوفيق ونسأله الهداية للصواب:

(الجواب) المراد بالتصرف في الكون أن الله تعالى قد وكل أمور العالم إلى

بعض الصالحين من الأحياء والميتين فهم يفعلون في الكون ما شاءوا بالخوارق لا

بالأسباب المشتركة العامة من بَسْطِ الرزق لبعض الناس وقَدْرِهِ - أي تضييقه على

بعض - ومن شفاء المرضى، وإحياء الموتى وإماتة بعض الأصحاء الذين ينكرون

عليهم أو الذين يستعديهم عليهم بعض زوارهم، والمتقربين بالنذور والهدايا

لأضرحتهم، وغير ذلك من أمور الناس وأمور الكون كالرياح والبحار والجبال

والحيوان والنبات. كما حكي عن بعضهم أنه مد رجله مرة وقال: إن سفينة خُرقت

في البحر وأشرفت على الغرق فاستغاث به بعض راكبيها فمد رِجله وسد بها ذلك

الخَرق، وذكروا أن ذلك المستغيث رأى عقب استغاثته رِجل الشيخ قد سدت ذلك

الخرق ونجت السفينة.

وسمعتُ مرة امرأة تستصرخ المتبولي وتستغيث به بِوَجْدٍ وجُؤَارٍ تستعديه على

رجل آذاها (تحيله عليه) لينتقم منه. فقلت لها: لماذا لم تطلبي من الرب تعالى

أن يجازيه؟ فقالت ما معناه: إن الله يمهل والمتبولي لا يمهل، واستدلت على ذلك

بأن رجلاً سرق فسيخة فأحال عليه صاحبها المتبولي فما عتم أن قيأه إياها.

وأمثال هذه الحكايات عنهم كثيرة جدًّا لعله لا يوجد أحد لم يسمع منها ما لم

يسمعه غيره، دع ما يتداوله الكثيرون في كل بلد وكل جيل مما يعدونه متواترًا،

وما المتواتر إلا نقل الكثيرين عن (المفتري) الأول الذي اختلق الحكاية أو تخيلها أو

توهمها فقصها وتناقلها عنه أمثاله.

وليست هذه الحكايات كلها من مفتريات العوام الأميين ومن هم على مقربة

منهم في قبول الأوهام والخرافات، بل تجد كتب المتصوفة محشوة بها؛ لأنها

أدخلت في عقائد الملة من أبواب ما يسمونه كرامات الأولياء، وهي تكثر في

المسلمين على نسبة إعراضهم عن الدين علماً وعملاً، فالمنقول عن الصحابة

رضي الله عنهم، وهم خير هذه الأمة بإجماع أهلها تبعًا للنص على ذلك من النبي

صلى الله عليه وسلم قليل جدًّا وأقله ما روي بإسناد آحادي قوي، وليس فيه شيء

قطعي، وما روي عن التابعين أكثر، ولكنه لا يعد شيئًا يذكر في عدده، ولا في

نوعه بالنسبة إلى ما اختلق في القرون الوسطى وتسلسل إلى هذا العصر.

ففي بعض كتب الرفاعية أن الشيخ أحمد الرفاعي كان يُفقِر ويُغْنِي، ويُسعد

ويُشقي، ويُميت ويُحيي - أي وإن حصر القرآنُ مثلَ هذا في عمل الخالق بقوله:

{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (النجم: 48){وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النجم:

44) وأنه وصل إلى درجة صارت السموات السبع في رجله كالخلخال، وأن

الله تعالى وعده بأن من مسه لا تحرقه النار في الدنيا ولا في الآخرة، وأن هذا له

ولمريديه وأتباعه إلى يوم القيامة، وذكروا أن سبب إخباره إياهم بهذه (الكرامة)

أنه كان قد لمس سمكة حية فوضعوها بعد لمسه إياها على النار لشيها فلم تؤثر فيها

النار، فسألوه عن سبب ذلك فذكره.

وفي بعض كتب مناقب الشيخ عبد القادر الجيلي - رحمه الله تعالى - أن مريدًا

له مات فطلبت أمه منه إحياءه فطلب روحه من ملك الموت، فأجابه بأنه لا يعطيه إلا

بإذن من الله تعالى، وكان ملك الموت جمع الأرواح التي قبضها يومئذ في زنبيل

وطار بها إلى السماء ليستأذن الرب ماذا يفعل بها فطار الشيخ عبد القادر في إثره

وجذب الزنبيل منه وأخذ روح مريده فتناثرت منه جميع الأرواح فذهب كل روح إلى

جسده فحيي جميع من مات في ذلك اليوم كرامة للشيخ عبد القادر. ولا أذكر هنا ما

قاله مفتري الحكاية في شكوى ملك الموت لربه تعالى من اعتداء الشيخ عليه (في حال

التلبس بأداء وظيفته) !! كما يقال في اصطلاح أهل هذا العصر - وما افتروا على الله

تعالى في جوابه - لا أذكره أدبًا مع الرب عز وجل وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا

كبيرًا.

وقد شاع بين الناس أن الأقطاب الأربعة المتصرفين أو (المدّركين بالكون)

كما يقولون هم السادة الجيلاني والرفاعي والبدوي والدسوقي، فلا يجري في العالم

العلوي ولا السفلي شيء إلا بتصرفهم، وعلى هذا يكون سائر المتصرفين في الكون

عمالاً أو جندًا لهم.

ماذا كان من تأثير فشو هذا الاعتقاد في المسلمين؟ أن ألوف الألوف منهم

باتوا لا يعنون أقل عناية بشئون أمتهم العامة، ولا بشئون أنفسهم الصحية ولا

الدينية ولا الاجتماعية إلا ما تقتضيه الضرورة والعادة من القيام بضروريات المعاش

والقناعة منه بأخسه؛ لأن كل ما عدا ذلك موكول إلى أولئك الميتين!! فإذا وقع أحدهم

في شدة أو مرض أو حاجة استغاث بأحد المدركين بالكون أو أحد أعوانهم وجندهم

من المشايخ الميتين لينقذه من شدته أو يشفيه هو أو ولده من مرضه أو ينتقم له من

عدوه أو

أو

وإذا عظم الخطب يتقرب إليه بعجل أو خروف ينذره له، وإذا

أبطأت الإغاثة يشد رحله إلى قبره ويستنجده بالقرب منه مع اعتقاده أن القرب عنده

كالبعد في إحاطة علمه بالغيوب كإحاطة قدرته بالعالم، ولذلك يقولون للولي عند

قبره: (يا سيدي: العارف لا يُعَرَّف) وقد صح عندنا أن بعض أصحاب العمائم

الكبرى يقولون ذلك، ومن المروي في الكتب عن الجيلي أنه متصرف في اثني

عشر عالمًا أحاطيًّا، السموات والأرض واحد منها.

وناهيكم بشد الرحال إلى احتفالات الموالد التي تتخذ أعيادًا ومواسم دينية لهم،

واجتماع مئات الألوف من الرجال والنساء والأطفال في كل مولد يقام لهؤلاء

المتصرفين في الكون الذين يقضون مصالح الناس في الدنيا وينجونهم من عذاب الله

في الآخرة مهما تكن جرائمهم وفواحشهم، ومن المشهور الذي يكاد يبلغ درجة

التواتر أن المُعْسِرين منهم يقترضون الأموال بالربا الفاحش لأجل إنفاقها في المولد،

على أن الكثيرين من هؤلاء الذين يَسْخُونَ بالألوف في هذه السبيل - وإن رهنوا في

ضمان قروضها أطيانهم - أشحة بخلاء ربما يقتل أحدهم أخاه أو أباه لأجل جاموسة

أو مال قليل.

هذا تذكير وجيز بمعنى التصرف في الكون وما له من سوء التأثير في إفساد

الدين والدنيا. وتجد رجال الشرع يشاركون رجال الطرق المنسوبة إلى الصوفية

في إقامة هذه الموالد وحضور دعواتها، وأكل نذورها، حتى ما كان مسيبًا للسيد

البدوي من العجول والخرفان، كالسوائب التي كانت تسيب للأصنام، ولا يرون في

هذا حرجًا ولا إفسادًا؛ لأنه داخل عندهم في باب كرامات الأولياء الواسع الذي لا

حدَّ له، وقد قال صاحب الجوهرة تبعًا لغيره من مؤلفي العقائد رضي الله عنهم

وأرضاهم:

وأثبتن للأوليا الكرامه

ومن نفاها فانبذن كلامه

كما أن منكرات القبور التي تعد بالعشرات والمئات في بنائها ووضع السُّرُج

عليها واتخاذها مساجد وتشييدها وما فيها من مفاسد اجتماع النساء والرجال والأطفال

- كل ذلك يُقَرَّر ولا يُنْهَى عن شيء منه؛ لأنه يدخل في باب ما ورد من استحباب

زيارة القبور للرجال؛ لأجل تذكر الموت والآخرة، فالأمر المستحب يرتكب لأجله ما

لا يعد من كبائر المعاصي التي لعن الشارع مرتكبيها كمتخذي القبور مساجد وواضعي

السرج عليها وزيارة النساء لها وغير ذلك مما وردت فيه الأحاديث الصحيحة.

إعطاء الله حق التصرف في ملكه للبدوي:

بعد هذا أقول كلمتي في موضوع السؤال وأُقَفِّي عليها بكلمة في الكرامات

موضوع السؤال: زعم ذلك الخطيب أن الله تعالى قد أعطى السيد أحمد البدوي

الميت صاحب القبر المشهور في طنطا حق التصرف في ملكه العزيز.

ليست هذه المسألة مسألة جواز الكرامات ووقوعها وما فيها من خلاف لا يُعَدُّ

من أصول الدين وعقائده ولا من فروعه، بل هي مسألة تتعلق بأصول عقائد الدين؛

لأنها إسناد شيء إلى الله تعالى لا يمكن العلم به إلا منه عز وجل، وقد انقطع

الوحي عنه تعالى بموت خاتم النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله،

ولا طريق للعلم الصحيح عنه تعالى غير الوحي، وقد قال تعالى في بيان أصول

كبائر الكفر والفسق: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ

وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا

تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .

بيَّنَ بعضُ المحققين أن هذه المحرمات في دين الله تعالى على ألسنة جميع

رسله قد ذكرت على طريقة الترقي في الحظر من المعاصي القاصرة إلى المتعدية

كالبغي على الناس، ومن الكفر القاصر على صاحبه كالشرك إلى المتعدي الضرر

كالقول على الله بغير علم، فإنه أصل جميع الفساد في الدين وجميع البدع.

والقول على الله بغير علم قسمان: أحدهما خاص بالعقائد كالكلام في ذاته

وصفاته وأفعاله ومنه نازلة الفتوى، ومثلها القول باتخاذ الولد قال تعالى: {قَالُوا

اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن

سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (يونس: 68) نفى أن يكون عندهم

سلطان- أي برهان قطعي- على هذا القول ووبَّخهم أن قالوا على الله ما لا يعلمون

بعد أن بيَّنَ البرهان على بطلان قولهم بأنه هو الغني الكامل غناه المطلق، وبأن ما

في السموات والأرض أي العالم كله ملك له، وهذا عين البرهان على بطلان اتخاذ

الناس يتصرفون في ملكه، ومن أصول المناظرة أن البينة على المُدَّعِي ويكفي

المنكر المنع، ولكن القرآن هداية لا جدل، ولذلك بيَّن بطلان الدعوى في نفسها

بالدليل، وبيَّن أنه لا دليل عليها، وأن مثلها لا يصح أن يقال بالظن والوهم، وإنما

يُطْلَبُ فيه العلم القطعي، كما قال تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ

وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم: 28) .

ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ

وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي

الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) فقولهم: (إنهم شفعاؤهم عند

الله) من القول على الله بغير علم، فإن العلم بالشفيع المعين للمشفوع له المعين

خاص به تعالى؛ إذ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، وهو لا يأذن بأصل الشفاعة إلا

لمن ارتضاه شفيعًا، ثم لا يأذن له بأن يشفع إلا لمن كان سبحانه راضيًا عنه، كما

قال في شأن عباده المكرمين: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا

بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 27-28) .

والقسم الثاني من القول على الله بغير علم: خاص بالتشريع كابتداع عبادة لم

يشرعها الله تعالى ألبتة، أو شرع أصلها فجيء بها على غير الصفة التي شرعها

كأذكار أهل الطريق بألفاظ لم ترد في الشرع مع الرقص والغناء، وغير ذلك مما

فصَّله الشاطبي في كتابه الاعتصام وابن الحاج في المدخل وغيرهما من الأعلام -

وكتحريم ما لم يحرمه الله تعالى في وحيه. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم

مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وقال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ

أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} (النحل: 116)

الآية.

فعُلِمَ من هذه الآيات وما في معناها أن القول على الله بغير علم أغلظ أنواع

الكفر وأشدها إفسادًا لدين الناس ولعقولهم وفطرتهم، وأنه يسمى شركًا ويتضمن ذلك

عد فاعله شريكًا لله تعالى، ومن قَبِلَ تشريعًا من غير الله فقد اتخذه ربًّا وشريكًا،

وقد ورد في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ

وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) أن معناه أنهم كانوا يتبعونهم فيما

يحلون لهم ويحرمون عليهم. ومن شرع للناس عقيدة لم يشرعها ربهم لهم فهو أجدر

بانتحال الربوبية وجعْل نفسه شريكًا للرب تعالى ممن يشرع لهم تحريم شيء من

طعام أو شراب مثلاً.

وهل عنى هذا من قال لخطيب الفتنة المُضِلّ: ليس لله شريك، ردًّا لقوله:

إن الله أعطى السيد البدوي حق التصرف في ملكه العزيز؟ أم عنى أن هذا

التصرف يقتضي أن يكون البدوي شريكًا لله تعالى في تدبير أمر عباده؟ أيًّا ما عنى

فله وجه وجيه.

ذلك بأن الذين يقولون بهذا التصرف لا يعنون به أنه منتظم في سلسلة الأسباب

والمسببات العادية كتصرف البدوي في رعي ماشيته وسوقها حين يريح وحين

يسرح، وتصرف الفلاح في أرضه حين يعزق وحين يزرع، وإنما هو عندهم

بسلطة غيبية هي فوق الأسباب العادية والسنن الكونية المعروفة للبشر في الأعمال

التي يتناولها كسبهم، وهذه السلطة هي الخاصة بالخالق عز وجل، بمعنى أنه ليس

للناس فيها عمل ولا كسب، وهي التي تمتاز بها العبادات من العادات، فكل دعاء

أو تعظيم قولي أو عملي يوجهه الإنسان إلى من يؤمن بأن له سلطانًا غيبيًّا هو فوق

الأسباب المشتركة بين الخلق - فهو عبادة له وإلا فلا، فالفرق جليٌّ بين من يدعو

ميتًا لشفاء مرضه أو مرض ولده مثلاً أو للانتقام من عدوه، أو ينذر لأجل ذلك

وبين من يدعو الطبيب للمعالجة أو يشكو إلى الحاكم ظالمه، وسواء اعتقد من يدعو

الميت أنه يفعل ذلك وحده بقدرته الذاتية أو اعتقد أنه يفعل ذلك بتأثيره في علم الله

تعالى وإرادته بأن يكون واسطة وسببًا لأنْ يفعل سبحانه ما لم يكن ليفعله لولاه،

وذلك يقتضي تأثير الحادث في القديم وتعليل أفعاله تعالى بالحوادث، وكون هذا

الفعل لم يقع إلا باشتراك سلطتين غيبيتين هما فوق سنن الخالق في الأسباب

والمسببات - هو صورة هذا الوجه في المسألة، ولم يكن مشركو العرب وأمثالهم

يقولون بمساواة آلهتهم لرب العالمين في شيء بل كانوا يقولون: إنه ربهم وخالقهم،

وهم شفعاء عنده فقط. على أن هذا التحليل لا يخطر في بال أكثر الذين يدعون

هؤلاء الموتى وينذرون لهم ويشدون الرحال إلى قبورهم خاشعين متضرعين،

تاركين للصلاة مقترضين بالربا مرتكبين لكثير من المنكرات إرضاء لهم، لأجل أن

يقضوا لهم حاجتهم. وإنما هو تأويل من تلقوا عن شيوخهم كتبًا في العقائد قررت

فيها وحدانية الأفعال لله تعالى بما ينافي ما تلقوه ورسخ في أنفسهم ممن نشأوا بينهم

من تصرف بعض هؤلاء الشيوخ الميتين في الكون - فاخترعوا هذه التأويلات

للجمع بين العقيدتين.

ولئن سألتهم ليقولُن: إنه ليس لهم أدنى تأثير في إرادة الله تعالى ولا في

أفعاله وإنما هم أسباب خفية يخلق الله الأشياء عندها لا بها، كما يقول أكثرهم في

الأسباب الجلية العادية كإحراق النار وإرواء الماء، ولو كان هؤلاء المفتونون

بالقبور يعتقدون أنه لا تأثير لأصحابها ألبتة لما وجد شيء من هذه الخرافات والبدع

التي أفسدت الأمة ولوقف الناس في زيارة القبور عند هداية السنة، يزورونها

لتذكرة الآخرة ويدعون لأربابها ولا يدعونهم، ويشفعون لهم بالدعاء ولا يستشفعون

بهم؛ لأن هذا هو الوارد في السنة. على أن الأسباب الظاهرة من عالم الشهادة قد

علم كونها أسبابًا بالمشاهدة والتجربة المُطَّرِدَة. وأما تصرف الموتى فهو أمر غيبي

لم يثبت بالمشاهدة ولا بالتجربة المطردة، ولا جاءنا الوحي من عالِم الغيب والشهادة

بأنه جعلهم أسبابًا لشيء من ذلك، بل كل من التجربة الدقيقة في الأمم المختلفة ومن

الوحي الصادق يدل على خلاف ذلك.

أما التجربة فإننا قد علمنا من تاريخ الأمم أن هذا الاعتقاد إنما يفشو ويَرُوجُ

فيها في زمن الجهل والانحطاط فتكون به أشقى الأمم وأشدها خسارًا في دينها

ودُنياها وصحتها ومعيشتها، فالمسلمون لم يكونوا كذلك في خير القرون التي فتحوا

بها الممالك ودونوا العلوم وأسسوا الحضارة، فلم يَرْوِ لنا أصحاب الصحاح ولا

السنن أن الصحابة كانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره الشريف ولا

عند اشتداد الخطوب في الحروب ولا في حالة المرض لأجل النصر والشفاء، ولا

روى التاريخ لنا ذلك عن التابعين ولا تابعيهم من علماء الأمصار كأئمة الفقه الأربعة

وأئمة آل البيت النبوي رضي الله عنهم أجمعين. بل رووا لنا أن النبي صلى الله

عليه وسلم وأصحابه كانوا ينوطون الأشياء بأسبابها وأنهم لما قصروا فيها يوم أحد

انكسروا ونال المشركون منهم حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم شج رأسه

الشريف وكسرت سنه. ولما تعجب الصحابة وتساءلوا في ذلك أنزل الله تعالى:

{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165) .

وقد فشت هذه البدع في الأمم الوثنية فالكتابية من قبلنا، فكان فشوها فيهم من

أسباب ضعفهم والعون لسلفنا على السيادة عليهم، فلما ضعفت هذه العقائد الخرافية

فيهم بارتقائهم في علوم الكون وسنن الله تعالى في الأسباب والمسببات، وقل فيهم

من يعتمد في إصلاح حال الأفراد والجماعات على تصرف الأولياء الأحياء

والأموات، بعد أن سرت إلينا منهم هذه الخرافات، دالت لهم الدولة علينا، وصاروا

أحسن منا صحة، وأشد قوة، وأعلى سيادة، وأرفه معيشة.

وأما الوحي فالله تعالى قد أمر خاتم رسله الذي أكمل دينه وأتمه على لسانه

وهديه أن يخاطب من آمن به بقوله عز وجل في {قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ

وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأنعام: 50) فقد نفى أن تكون عنده

خزائن رزقِ اللهِ يتصرف فيها، ويأتي ما اقترحوا عليه من الآيات لإثبات رسالته

من تفجير الينبوع في مكة وإيجاد جنة فيها يفجر الأنهار خلالها تفجيرًا كما قال

الفخر الرازي، ونفى أن يكون يعلم الغيب، وأن يكون مَلَكًا كما اقترحوا أو يقدر

على ما يقدر عليه الملَك، ثم أمره أن يقول بعد ذلك {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (الأنعام: 50) كما قال في الرد على ما اقترحوه عليه من الآيات التي أشرنا إليها:

{سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَاّ بَشَراً رَّسُولاً} (الإسراء: 93) أي فهو من حيث

إنه بشر لا يقدر على ما لا يقدر عليه البشر، ومن حيث إنه رسول ليس عنده إلا

ما يوحيه الله إليه فيبلغه ويبينه للناس. فأين هذا ممن يدعون أن السموات السبع في

رِجْلِ أحدهم كالخلخال إلخ.

وأمره أيضًا أن يخاطب الناس بقوله تعالى: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا

ضَراًّ إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ

أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) وبقوله: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ

لَكُمْ ضَراًّ وَلَا رَشَداً} (الجن: 21) أي: ولا نفعًا ولا غيًّا، ففي الآية احتباك.

أي: وإنما الذي يملك ذلك كله الله تعالى، ونفي الإغواء لا يقتضي جواز وقوعه منه

صلى الله عليه وسلم، فهو كنفي الظلم عن الرب تعالى بيّن به الحق الواقع فلا يقتضي

أنه مظنة الوقوع، والمراد هنا أن هداية الناس وضلالهم ونفعهم وضرهم كلها بيد الله

تعالى من حيث إنه هو الخالق المدبر الواضع للسنن والأسباب لكل من ذلك، فليس

وراء هذه الأسباب تصرف لغيره.

هذا نوع من أنواع دلالة الوحي على بطلان تلك الدعوى، أعني نفي علم الغيب

ونفي القدرة على التصرف في ملك الله وخزائن رزقه عن الرسل عليهم السلام.

ويتصل به نوع آخر وهو كون الآيات (المعجزات) التي يؤيدهم الله تعالى بها لا

تتعلق بها قدرتهم، وإنما هي لله وعند الله وبيد الله عز وجل، والآيات فيها معروفة،

وهناك نوع إيجابي أقوى من هذا ويُجَامِع ما قبله وهو دلائل وحدانية الأفعال التي

فسرها الأشعرية بأنه لا فعل لغير الله، وأن الله تعالى يخلق المسببات عند الأسباب

لا بها، وهل يمكن أن يطلب المؤمن بهذه الوحدانية شيئًا من الموتى وهم لم يصح

شرعًا ولا علمًا أن الله جعلهم أسبابًا؟

كرامات الأولياء:

علم مما مر أن فتنة الغلو في كرامات الأولياء قد هدمت من عقول الألوف

وألوف الألوف من الناس عقيدة تجريد التوحيد وهو أساس الدين الذي بني عليه

غيره منه، وأعلى علوم البشر ومعارفهم التي يتحقق بها تكريم الله تعالى لهم

بإعتاقهم من الذل والعبودية لغيره عز وجل، ونسخت من أذهانهم وقلوبهم الآيات

المحكمة في العقائد الإلهية ومعنى الرسالة ووظائف الرسل، ووضعت في مكانها ما

لا يُحْصَى من الخُرَافات والأوهام التي أفسدت عليهم أمري الدين والدنيا، ويزعم

كثير من أنصار هذه الخرافات المُعَمَّمِين أن تشكيك العوام فيها يفضي إلى شكهم في

الرسالة وفي سائر أصول الدين، وقد جهلوا أن هذا الغلو فيها هو الذي أفسد عقائد

جماهير العوام وأعمالهم، ونفَّر جماهير الخواص الذين تلقوا العلوم العقلية والكونية

والاجتماعية من الإسلام نفسه، إذ حسبوا أنه مجموعة خرافات لا تليق إلا بأمثال

هؤلاء العوام.

ولو صح أن بعض هؤلاء لا يقنعه بأصل الإسلام إلا هذه الكرامات لكان ذلك

مفسدة أخرى يطلب من العلماء إزالتها وبناء العقيدة على البراهين العقلية والنقلية

القطعية؛ وهو الواجب الذي قرره جميع العلماء، وإلا فإن التشكيك في هذه

الكرامات من أسهل الأمور وقلما ترى أحدًا من المتعلمين المتدينين يصدق شيئًا مما

يرويه هؤلاء العوام منها دع غير المتدينين الذين لا شبهة لأكثرهم على الدين إلا

جعلها من أركانه وأسس بنيانه.

ما هذه الكرامات؟ إنها ليست من عقائد الدين وإنما تُذْكَرُ في كتب الكلام

بالتبع لبحث معجزات الرسل كما يذكر السحر وغيره مما عَدُّوا من خوارق العادات.

وقد اختلف نظار العلماء في جوازها، واختلف المُجَوِّزُونَ لها في وقوعها،

واختلف القائلون بوقوعها هل تقع في جميع خوارق العادات التي يؤيد الله تعالى

بمثلها الرسل أم لا تقع إلا في أمور محدودة؟ وهل تكون بقصد من الولي واختيار

أم بغيرهما؟ وهل تتكرر أم لا وكيف يكون المكرر من الخوارق.

جاء في المواقف وشرحه ما نصه: (المقصد التاسع) في كرامات الأولياء

وأنها جائزة عندنا خلافًا لمن منع جواز الخوارق، واقعة خلافًا للأستاذ أبي إسحاق

والحليمي منا، وغير أبي الحسين من المعتزلة اهـ. فهذان إمامان من أكبر أئمة

الأشعرية ينكران وقوع الكرامات، ولم يكن ذلك مطعنًا في دينهما ولا مُسْقِطًا من

مكانتهما من أئمة أهل السنة، بل ظلا في الذروة، وكان أبو إسحاق الإسفرايني هذا

إمام الأئمة في عصره، ولا يزال يعبر عنه في كتب العقائد والأصول بالأستاذ،

فإذا أطلق لا ينصرف إلى سواه.

لا تتسع هذه الفتوى لتمحيص القول في مسألة الكرمات وقد كتبنا من قبل

مقالات كثيرة فيها خاصة، وألممنا ببعض مسائلها في مقالات أخرى نشرت في

مجلدات المنار المتفرقة. منها بضع مقالات بعنوان (الكرمات) في المجلد الثاني

لخصنا فيها ما أورده التاج السبكي في طبقات الشافعية من الخلاف فيها، وحجج

منكريها ومثبتيها، والمأثور منها، ومنها إحدى عشرة مقالة بهذا العنوان في المجلد

السادس ذكرنا فيها ما أورده السبكي من أنواعها، وتأويل ما ورد منها على تقدير

صحة الرواية فيه. ومنها مقالات أخرى بعنوان الخوارق والتصرف في الكون

والموالد وغير ذلك.

وفي هذه المقالات فوائد كثيرة من المنقول والمعقول تعطي المُطَلَّع عليها

بصيرة في الدين والدنيا، نشير إلى بعضها بالأرقام:

(1)

إن ما يُنقل إلينا من الوقائع المخالفة لسنن الله تعالى في الخلق

وفي سير الاجتماع البشري يجب أن لا يُقْبَل فيجعل محلاٍّ للبحث فيه إلا إذا ثبت

ببرهان يقيني؛ لأنه جاء على خلاف الأصل من المعقول والمنقول، وأعني

بالمنقول ما ثبت في نص القرآن من أن سنن الله تعالى في نظام الخلق وشئون

الأمم لا تتبدل ولا تتحول.

(2)

إن كثيرًا مما يظهر بادي الرأي أنه من خوارق العادات لا يكون كذلك

في الواقع ونفس الأمر، بل منه شعوذة وتخييل، ومنه ما له أسباب خفية من

طبيعية وصناعية، كقوله تعالى في الحبال والعصي التي ألقاها سحرة فرعون:

{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) وقد أثبت صاحب جامع التواريخ

أو (نشوار المحاضرة) عن معاصري الحلاج وكذا الحافظ ابن الجوزي أن كراماته

كلها كانت من قبيل الحِيَل وقد اكتشفوا حيله في عصره كالذي عرف الدار والبستان

الخفيين اللذين كان يحفظ فيهما السمك الحي والفاكهة والأطعمة فيأتي بها عند الحاجة

وأنذره الحلاج القتل إذا هو فضحه، وقد ذكرنا في مقالات المنار شواهد كثيرة

للحيل ولما في معناها من الخواص الكونية.

(3)

إن روايات الكرامات مأثورة عن جميع الأمم الوثنية والكتابية، وإن

دعواها تكثر في العصور التي يضعف فيها العلم والدين ويكثر الكذب والدَّجَل،

وتقل في عصر العلم وعهد التقوى، ولذلك ترى المروي عن الصحابة والتابعين

منها قليلاً، وقد زعم بعض الناس أن سبب هذا: حاجة الناس في زمن الجهل

والفسق إلى ما يقوي إيمانهم، ولكننا نرى أنها لا تزيد الناس في هذا الحال إلا

فسقًا وجهلاً ودجلاً وغرورًا وضعفًا في الدين والدنيا، وخضوعًا للدجالين الذين

يعبثون بأموال الناس وأعراضهم، كما أشرنا إليه في أوائل الفتوى.

(4)

إن الأصل في الكرامات أن تكون خفية، وأن الأولياء لا يَدَّعونها ولا

يظهرونها إلا لضرورة حتى قال السبكي إنه (لا يجوز إظهارها إلا بسبب ملزم،

وأمر مهم) فأين هذا وذاك من معمل الكرامات الكبير بل معاملها (فبريكاتها)

الكثيرة المعبر عن صناعاتها الدائمة بالتصرف في الكون؟ الذي ينقلون عن كل قبر

من قبور عماله الكثيرين ما لا يحصى من الكرامات لأحقر الأسباب كإصابة زيد من

الناس بداءٍ قَتَّال أو مرض عضال أو إماتته فجأة أو إصابته بجائحة في زرعه أو

هلاك لبهائمه لأجل استغاثة خصم أو عدو له بولي يستعديه عليه ولو بالباطل، أو

لأنه قال كلمة اعتراض وإساءة أدب مع صاحب القبر، كأن أولياءهم من الأشرار

الذين خلقوا للأذى والضرر. دع قسم المستشفيات من معمل التصرف في الكون الذي

يبرئ كل يوم ألوفًا من المرضى الذين لا يذكر مرض أجسامهم في جانب أمراض

عقولهم وأديانهم.

(5)

كون الكرامات الحقيقية لا تتكرر وعلله الشيخ محيي الدين بن عربي

في الفتوحات المكية بأن ما يتكرر يكون معتادًا فلا يدخل في خوارق العادات،

ونحن نرى أن ما يدعونه للمتصرفين في الكون من (صادرات المعامل الدائمة)

يتكرر في كل يوم وفي كل ساعة.

(6)

إن أكثر ما فشا ويتناقله الناس من الأمور التي يسمونها كرامات،

والكثير مما يصح نقله - من المصادفات التي يكثر وقوعها، وإنما الاعتقاد هو الذي

يحمل غير المدقق في معرفة أسبابها على جعلها من الكرامات، والجاهل بالمنطق لا

يفرق بين القضية الشرطية الحقيقية، كقولهم: إذا كانت الشمس طالعة فالنهار

موجود - والشرطية الاتفاقية، كقولهم: إن كان الإنسان ناطقًا فالحمار ناهق. فإذا

استدعى أحد شيخًا (وليًّا) على عدوه (أو حاله عليه كما يقولون) أو إذا أنكر منكر

على الشيخ وأصابه عقب هذا أو ذاك مصيبة في نفسه أو أهله أو ماله قال أصحاب

العقول الخرافية: إنه تصرف به، وقد وقع مثل هذا لنا ولأهل بيتنا كما وقع لغيرنا

مرارًا ولم نعده من الكرامات. ولو شئنا أن نعد لنفسنا عشرات من الكرامات التي

يثبت مثلها لدجال الشيخ يوسف النبهاني لفعلنا وكنا أصدق منه في النقل، وأقدر على

الإتيان عليه بالشهود العدول من الأحياء.

(7)

إن ما يُعَدُّ بادي الرأي خارقًا للعادة يجوز أن يكون له أسباب خفية،

ومنه ما يسميه علماء الكون فلتات الطبيعة. ومنه ما هو من خواص الأنفس

البشرية التي يتفاوت فيها الناس تفاوتًا بعيدًا، كالمكاشفة والتأثير النفسي في بعض

الناس ولا سيما أصحاب الإرادات الضعيفة وناهيك أصحاب الأمزجة العصبية من

النساء وبعض الرجال الذين يعتقدون أن لزيد من الأموات والأحياء سلطانًا غيبيًّا

يتصرف به في الكون، فإن هؤلاء يكونون سريعي التأثر والانفعال بما يعتقدون

تأثيره حتى إن بعض الأطباء يعالجونهم بما للأوهام من السلطان على أنفسهم،

ولذلك تجد هذه الأنواع كثيرة الوقوع.

وقد وضَّحْنَا هذه المسألة في المنار مرارًا، وشبهنا فيها أرواح البشر وأنفسهم

بأجسادهم في تفاوت الأفراد في قوتهما وضعفهما واختلاف استعدادهما واستعمالهما

لهذا الاستعداد.

مثال ذلك أن الروح هو المُدْرِك من الإنسان وإدراكه غير مقيد لذاته بالحواس

التي هي آلات له ما دام محبوسًا في الجسد بل يمكن أن يدرك بعض الأمور بذاته

في نوم أو يقظة، وقد يدرك بعض الأمور قبل وقوعها، وبيَّنا أن هذا النوع من

الإدراك ليس من العلم بالغيب الذي استأثر الله تعالى به، وإنما هو غيب إضافيٌّ لا

حقيقيٌّ، وأن قلة هؤلاء المدركين لهذه الأمور لا ينافي أن إدراكها مما أودع في

الفطرة البشرية وجعل من مقدورها، على أنها في الغالب تقع بدون إرادة من

صاحبها، ومن غير الغالب أن تكون بتوجيه الإرادة إلى إدراك الشيء وحصر الهمة

في التوجه إليه وصرفها عما عداه حتى إذا انحصر التوجه وصرفت عن الفكر

الشواغل، أدرك الروح ما توجه إليه إدراكًا ما، وضربنا له المثل في انفراد بعض

الأفراد بالقوة العضلية النادرة كقوة القيصر الروسي إسكندر الثالث الذي كان يأخذ

بيده الريال الروسي فيجوفه بأصابعه فيجعله كفنجان القهوة ويضع فيه زهرة يتحف

بها بعض النساء في مجلسه. وكان الشيخ علي العمري عندنا في طرابلس الشام

يلوي بأصابعه حديد النوافذ ويمسح القطعة من النقد فيزيل حرشة نقشها، وله

غرائب في قوة العضل كانوا يعدونها من كراماته الكثيرة، ولم يعد أحد مثلها من

القيصر الروسي كرامات له. ولا غرو فالمتكلمون يُجَوِّزُونَ وقوع خوارق العادات

من كل أحد حتى الفساق والكفار ووضعوا لها أسماء تختلف باختلاف حال من وقعت

لهم أو على أيديهم.

هذا وإن الروحيين من المتقدمين ومن فرنجة هذا العصر الذين يقولون: إن

أرواح الأحياء قد تتجرد من المادة الكثيفة، وإن أرواح الموتى قد تتجلى في مادة

لطيفة أو كثيفة تستمدها عن عناصر الكون - لم يثبت أحد منهم أنها قد أعطيت

التصرف في أمور العالم ونفع الناس وضرهم بل صرح بعضهم بأنها لم تُعْطَ هذا

ولا تقدر عليه.

وما نقل عن بعض كبار الصالحين العارفين من ادعاء ذلك فأكثره كذب وزور

لا تصح به الرواية عنهم، ومنه ما عَدُّوهُ من الشطح الذي يصدر عنهم في حال

غيبة ثم يتوبون منه، ومنه ما يقصد به الأسباب الظاهرة كالبيتين المنسوبين للسيد

الجيلي قدس الله روحه:

على بابنا قف عند ضيق المناهج

تفز بعليّ القدر من ذي المعارج

ألم تر أن الله أسبغ نعمه

علينا وولانا قضاء الحوائج

فقد كان - رحمه الله تعالى - ذا مقام رفيع عند الخلفاء وكبار الحكام فإذا

أوصى بكشف ظلامة لا تُرَدُّ وصيته، وقد كان الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ممن

يصدق عليه معنى هذين البيتين، على أن علماء النقل قد قالوا: إن الجيلي كان ذا

كرامات صحيحة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن أكثر ما في كتب مناقبه كذب،

وبعضها ليس من الكرامة في شيء.

وهاهنا مسألة يغفل الناس عنها بيناها في المنار مرارًا وهي كيف يصح أن

يكون أولياء الله الأحياء والأموات يتولون قضاء حاج المسلمين ودفع المضار عنهم

وجلب المنافع لهم بما أوتوا من التصرف في ملك الله الواسع بخوارق العادات ونحن

نرى المسلمين أسوأ حالاً من سائر الأمم - ولا سيما الإفرنج - في صحتهم وسعة

عيشهم وعزهم وعظمة ملكهم؟ وسائر ما يطلبه الناس من هؤلاء الأولياء من أمور

دنياهم، فلماذا لا يتصرفون في الأسطول البريطاني مثلاً؟ ونرى الذين لا يصدقون

بقدرة هؤلاء الأولياء على التصرف في أمور الكون من المسلمين أنفسهم أحسن حالاً

في ذلك كله من المصدقين الذين وصفنا حالهم من قبل، سواء كان سبب إنكار هذا

التصرف كمال التوحيد والعلم الصحيح بالكتاب والسنة والاعتصام بهما، أو العلم

بسنن الكون ونواميسه وتواريخ الملل وكون هذه الخرافات قد انتقلت من الوثنيين

إلى أهل الكتاب ومنهم إلى المسلمين، فكانت مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه

وآله وسلم: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر

ضب تبعتموهم. أو: لدخلتموه) رواه الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد وغيره.

تفاوت الأرواح وما تسعد به وتشقى:

هذا وإن ما ذكرناه من تفاوت أرواح البشر في أصل الخلق له أصل في

الكتاب والسنة يجب أن نعتبر به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن

كمعادن الفضة والذهب خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا،

والأرواح جنود مُجَنَّدَة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) رواه مسلم

هكذا حديثًا واحدًا بهذا اللفظ عن أبي هريرة ورويا حديثين في كل من الصحيحين،

وفي بعض ألفاظ الحديث الأول: (إن الناس معادن في الخير والشر) أي إن

أنفسهم في أصل فطرتها التي تؤثر فيها الوراثة كمعادن الذهب والفضة والنحاس

والحديد والقصدير وغيرهن.

وقال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ

مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 7 - 10) فالنفس الإنسانية مستعدة

في أصل الفطرة للخير والشر وللفجور والتقوى، على تفاوت في الاستعداد، ولكن

الفلاح والفوز بالسعادة مَنُوطٌ بتزكيتها بالعلم الصحيح وما يترتب عليه من العمل

الصالح، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (خيارهم في الجاهلية خيارهم

في الإسلام إذا فقهوا) والخيبة والشقاء منوطان بتدسيتها أي إهمال صقلها وتزكيتها

بالعلم الصحيح والعمل الصالح، وهو من دس الشيء في التراب مثلاً. ولذلك قال

البيضاوي في تفسير: {دَسَّاهَا} (الشمس: 10) أخفاها ونقصها بالجهالة

والفسوق.

فمدار السعادة والشقاء في الإسلام على صقل معدن النفس بالعلم والفضيلة أو

دسه فيما يفسد جوهره من الجهالات والخرافات والرذائل، ومن المعروف عند

الناس كافة أن الجوهر الأدنى يكون بجودة صقله أجمل وأنفع من الجوهر الأعلى

الذي دس في الأرض، ولا سيما الرطبة ذات المواد الملحية. ألم تر أن الذهب

والفضة يفسد جوهرهما بهذا الدس والإهمال، حتى إذا عثر عليهما الناس لا يكادون

يعرفونهما من حيث نرى الصفر المجلو والحديد المصقول يتلألآن كالمرآة فيكونان

أجمل منظرًا وأحسن مرتفقًا وفائدة للناس من الذهب والفضة المدسيان في السبخة؟

ولكن المعدن الأعلى إذا صُقِلَ كما يصقل المعدن الأدنى فإنه يكون أبهج منه منظرًا

وأكرم عند الناس استعمالاً.

فيجب أن نجعل هذه الحقيقة هي الأصل في تربية المسلمين وتعليمهم، وهي

أن سعادة كل فرد من الأفراد محصورة في تزكيته لنفسه بالعلم والفضيلة والعمل

الصالح وشقاؤه بضد ذلك، وإن من فسدت نفسه وخبثت لا ينفعه زكاة نفس غيره

من الأحياء ولا من الموتى لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى لو أعطي هؤلاء

تصرفًا في الكون لَمَا بالوا بمن دسوا أنفسهم وتركوا هداية ربهم اتكالاً على أن يعمل

لهم بعض خلقه ما كلفهم أن يعملوه هم لأنفسهم. ومِصْدَاق هذا الأصل ظاهر في

الأمم كلها لمن سار في الأرض أو قرأ التاريخ قراءة عبرة.

ولذلك كان فيما وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أقرب الناس منه قرابة حين

أنزل الله تعالى عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) أن دعا

بطون قريش وعمَّ وخصَّ، قال: (يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا

أملك لكم ضرًّا ولا نفعًا. إلى أن قال: يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار

فإني لا أملك لك ضرًّا ولا نفعًا) رواه أحمد والشيخان في الصحيحين وغيرهم من

حديث أبي هريرة. وفي رواية لأحمد ومسلم وغيرهما من حديث عائشة أنه قال

يومئذ: (يا فاطمة ابنة محمد يا صفية ابنة عبد المطلب يا بني عبد المطلب لا أملك

لكم من الله شيئًا، سلوني من مالي ما شئتم) .

مدار النجاة في الإسلام وفي الوثنية:

وجملة القول أن مدار دين التوحيد على أن النجاة في الآخرة بالإيمان والعمل

الصالح، ومدار أديان الوثنية على أن النجاة فيها بتأثير الصالحين عند الله في نجاة

الضالين، وحسبنا قول الله عز وجل في وصف هذا اليوم: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ

لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 19) وحكم الله في ذلك اليوم مبين في

كتابه كقوله الذي أنزله يوم تفاخر بعض الصحابة مع بعض أهل الكتاب: {لَيْسَ

بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ

وَلَا نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ

الجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} (النساء: 123-124) والعبرة عند جمهور أهل السنة

بالخاتمة فهم لا يقطعون بولاية شخص معين كالبدوي ولا بدخوله الجنة؛ لأن القطع

يختص مَن ورد النص بأنهم أهلها كالسبطين سيدَي شباب أهل الجنة والعَشرة رضي

الله عنهم أجمعين.

فيا أيها العلماء حسبكم إهمالاً لأمر عامة هذه الأمة ! بَيِّنُوا لها حقيقة دينها،

وأنذروها عاقبة هذه الخرافات التي أفسدت عليها دينها ودنياها، أما ترونها تتسلل

من الدين لواذًا، وتعلن الكفر والفسوق ثبات وأفذاذًا، حتى صاروا يدعون إلى

الإلحاد جهرًا، وإلى ترك الشريعة احتقارًا لها واستكبارًا، زاعمين أن الإسلام دين

خرافات وأوهام، لا يمكن أن ترتقي به الأمة في هذا الزمان، ويستدلون على هذا

بما أشرنا إليه من الضلالات والخرافات الفاشية في الأمة، ومشاركة الكثير من

علمائها لها فيها بحضور هذه الموالد معها، وترك إقامة شعائر الدين والدروس في

المساجد لأجلها، وبتأويل البدع والخرافات لها، واضطهاد مَن تصدى من العلماء

وطلاب المعاهد الدينية لإنكارها كما وقع في دمياط وطنطا والإسكندرية وغيرها.

فاتقوا الله وتداركوها قبل أن يخرج الأمر من يدكم، ولا عذر لكم بعد اليوم بما كنتم

تعتذرون به من سلب الحكام لحريتكم، فإن الدستور الذي كرهه بعضكم قد أعطاكم

من الحرية ما لم يكن لكم، وهو لم يعط الملاحدة والفساق شيئًا لم يكن لهم، فقد

كانت حرية الكفر والفسق تامة وحرية الإسلام صورية ناقصة، على أن نقصها

في مصر كان خاصًّا بالإنكار على الحكام والأحكام، دون ما يتعلق بإرشاد العوام.

ملخص الفتوى:

إن ذلك الخطيب قد قال على الله تعالى ما ليس له به علم، فدخل فيمن

شرعوا للناس ما لم يأذن به الله، وقد دل القرآن والسنة على أن هذا من الشرك،

فإنكار المنكِر عليه صحيح، فإن كان متأولاً أو معذورًا بجهله عذرًا يدرأ عنه الردة،

فعليه بعد العلم أن يتوب توبة صحيحة، وأنا لا أكفر شخصًا معينًا لم أختبر حاله

اختبارًا تامًّا. وأعلم أن أكثر مسلمي هذا العصر لم يلقنوا عقائد الإسلام كما أنزلها

الله تعالى. فأكثرهم يحبونه ولا يعرفونه، والواجب على العالم أن يبين الحق وعلى

من بلغه أن يحاسب نفسه، والقاعدة عند العلماء أن الجهل ليس بعذر في دار

الإسلام إلا لحديث العهد به، ولها فروع وجزئيات في باب الردة وغيرها دقيقة قد

حققناها في مواضع من المنار، والله أعلم.

_________

ص: 489

الكاتب: أحمد بن تيمية

أهل الصُّفَة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء

وأصنافهم والدعاوى فيهم

لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين ابن تيمية قدس سره

تابع لما قبله

(فصل) وأما الحديث المروي: (ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي

لله) [1] فمن الأكاذيب، ليس في دواوين الإسلام، وكيف والجماعة قد تكون كفارًا

وفساقًا يموتون على ذلك.

(فصل) وأولياء الله تعالى هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما ذكر الله ذلك في

كتابه، وهم قسمان: المقتصدون أصحاب اليمين والمقربون السابقون، فولي الله

ضد عدو الله، قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *

الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 62-63) وقال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ

وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن

يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ} (المائدة: 55-56)

وقال: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الممتحنة: 1) وقال: {وَيَوْمَ

يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (فصلت: 19) وقال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ

وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (الكهف: 50) .

وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد

بارزني بالمحاربة، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي

المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء

ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت

سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي

بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يسعى) .

والولي: من الوَلْيِ [2] وهو القرب، كما أن العدو من العَدْو وهو البُعْد، فولي

الله مَن والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرب إليه بما أمر به من

طاعاته، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصنفين: المقتصدون [3]

أصحاب اليمين، وهم المتقربون إلى الله تعالى بالواجبات، والسابقون المقربون

وهم المتقربون بالنوافل بعد الواجبات. وذكرهم الله في سورة فاطر والواقعة

والإنسان والمطففين وأخبر أن الشراب الذي يُرْوَى به المقربون بشربهم إياه يُمْزَج

لأصحاب اليمين. والولي المطلق هو مَن مات على ذلك، فأما إن قام به الإيمان

والتقوى وكان في علم الله تعالى أنه يرتد عن ذلك فهل يكون في حال إيمانه وتقواه

وليًّا لله أو يقال لم يكن وليًّا لله قط لعلم الله بعاقبة هدايته؟ قولان للعلماء.

وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة

ما يحبط من الأعمال بعد كماله؟ أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب

الشمس في صيامه، ومن أحدث قبل السلام في صلاته أيضًا؟ فيه قولان للفقهاء

المتكلمين والصوفية، والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب الإمام

أحمد وغيرهم.

وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم. ولكن أكثر

أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة، وكثير من أصحاب مالك والشافعي

شرط سلامة العاقبة، وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث كالأشعري ومن

متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع هل ولي الله يصير عدو الله؟ وبالعكس،

ومن أحبه الله ورضي عنه هل أبغضه الله وسخط عليه في وقت ما؟ وبالعكس،

ومن أبغضه الله وسخط عليه هل أحبه الله ورضي عنه في وقت ما؟ على القولين.

والتحقيق - وهو الجمع بين القولين - فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من

محبته ورضاه وبغضه وسخطه وولايته وعداوته لا يتغير، فمن علم الله منه أنه

يوافي حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلقت به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلاً

وأبدًا.

وكذلك من علم الله منه أنه يوافي حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله

وعداوته وسخطه أزلاً وأبدًا لكن مع ذلك فإن الله يبغض ما قام بالأول من كفر

وفسوق قبل موته، وقد يقال: إنه يبغضه ويمقته على ذلك كما ينهاه عن ذلك،

وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى ويحب ما يأمر به

ويرضاه. وقد قال: إنه يوليه حينئذٍ على ذلك.

والدليل على ذلك اتفاق الأمة على أن مَن كان مؤمنًا ثم ارتد فإنه لا يُحْكَم بأن

إيمانه الأول كان فاسدًا بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال، وإنما

يقال كما قال الله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: 5)

وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر: 65) وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا

لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) ولو كان فاسدًا في نفسه لوجب أن

يُحْكَم بفساد أنكحته المتقدمة وتحريم ذبائحه وبطلان عباداته جميعها حتى لو كان حج

عن غيره كان حجه باطلاً، ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان لهم أن يعيدوا صلاتهم

خلفه، ولو شهد أو حكم ثم ارتد أن تفسد شهادته وحكمه ونحو ذلك. وكذلك أيضًا

الكافر إذا تاب من كفره فلو كان محبوبًا لله وليًّا له في حال كفره لوجب أن يقضى

بعدم أحكام ذلك الكفر، وهذه كلها خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.

والكلام في هذه المسألة نظير الكلام في الآجال والأرزاق ونحو ذلك، وهي

أيضًا على قاعدة الصفات الفعلية وهي قاعدة كبيرة، وعلى هذا يخرج جواب السائل.

فمن قال: إن ولي الله لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى

فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره. ومن قال: قد يكون ولي الله من كان مؤمنًا

تقيًّا وأن يعلم عاقبته، فالعلم بذلك أسهل، ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه

ولغيره، ولكنه قليل ولا يجوز التهجم بالقطع علي ذلك. فمن ثبتت ولايته لله

بالنص وأنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة يشهدون له بما شهد له

به النص. وأما من شاع له لسان صدق من الأمة بحيث اتفقت الأمة على الثناء

عليه فهل يشهد له بذلك؟ هذا فيه نزاع بين أهل السنة والأشبه أن يشهد له بذلك،

هذا في الأمر العام.

وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما يكشفه الله لهم. لكن ليس

هذا مما يجب التصديق العام به، فإن كثيرًا مما يظن به أنه حصل له هذا الكشف

يكون ظانًّا في ذلك ظنًّا لا يغني من الحق شيئًا، وأهل المكاشفات والمخاطبات

يصيبون تارة ويخطئون أخرى كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد؛ ولهذا

وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله وأن يزنوا مواجيدهم

ومشاهداتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن

سيد المحدثين المخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب رضي الله

عنه، وقد كان تقع له وقائع يردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه

التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المُحَدَّث الذي يحدث نفسه عن ربه؛ ولهذا

أوجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته في جميع

أمورهم الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على

الكتاب والسنة لكان مستغنيًا عن الرسول في بعض دينه، وهذا من أقوال المارقين

الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى، ومن قال هذا

فهو كافر. وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى

أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ

حَكِيمٌ} (الحج: 52) فقد ضمن الله للرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في

أمنيته، ولم يضمن ذلك للمحدث، ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به ابن

عباس وغيره: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى

ألقى الشيطان في أمنيته) .

ويحتمل -والله أعلم- أن يكون هذا الحرف متلوًّا حيث لم يضمن نسخ ما ألقى

الشيطان، فأما نسخ ما ألقى الشيطان فليس إلا للأنبياء والمرسلين؛ إذ هم

معصومون فيما يبلغون عن الله تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان،

وغيرهم لا يجب عصمته من ذلك، وإن كان من أولياء الله المتقين، فليس من

شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأً مغفورًا لهم،

بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر

الذي تعقبه التوبة، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ

المُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ

الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الزمر: 33-35) فقد

وصفهم الله تعالى بأنهم هم المتقون؛ والمتقون هم أولياء الله، ومع هذا بإجزائه،

ويكفر عنهم أسوأ الذي عملوا [4] ، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان،

وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض

المشايخ، ومن يعتقدون أنه من الأولياء، فالرافضة تزعم أن الاثني عشر

معصومون من الخطأ والذنب، ويرون هذا من أصول دينهم، والغالية في المشايخ

قد يقولون: إن الولي محفوظ والنبي معصوم، وكثير منهم لم يقل ذلك بلسانه،

فحاله حال من يرى أن الشيخ أو الولي لا يخطئ ولا يذنب، وقد يبلغ الغلو

بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي أو أفضل منه، وإن

زادوا الأمر جعلوا له نوعًا من الإلهية، وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهئة

للضلالات النصرانية، فإن في النصارى من الغلو في المسيح والرهبان والأحبار ما

ذمهم الله عليه في القرآن وجعل ذلك عبرة لنا لئلا نسلك سبيلهم؛ ولهذا قال سيد ولد

آدم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد

الله ورسوله) .

(فصل) وأما الفقراء الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه فهم صنفان: مستحقو

الصدقات، ومستحقو الفيء، أما المستحقون للصدقات فقد ذكرهم الله في قوله:

{إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة:

271) وفي قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ

} (التوبة: 60) وإذ

ذكر في القرآن اسم المسكين وحده أو الفقير وحده كقوله {ِإطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (المائدة: 89) فهما شيء واحد، وإذا ذكرا جميعها فهما صنفان.

والمقصود بهما أهل الحاجة، وهم الذين لا يجدون كفايتهم لا من مسألة ولا

من كسب يقدرون عليه، فمن كان كذلك من المسلمين استحق الأخذ من صدقات

المسلمين المفروضة والموقوفة والمنذورة والمُوصَى بها، وبين الفقهاء نزاع في

بعض فروع هذه المسائل معروفة عند أهل العلم.

وضد هؤلاء: الأغنياء الذين تحرم عليهم الصدقة؛ ثم هم نوعان، نوع تجب

عليه الزكاة، وإن كانت الزكاة تجب على من قد تباح له عند جمهور العلماء، ونوع

لا تجب عليه، وكل منهما قد يكون له فضل عن نفقاته الواجبة، وهم الذين قال الله

فيهم: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ} (البقرة: 219) وقد لا يكون له فضل.

وهؤلاء الذين رزقهم قوت وكفاف فهم أغنياء باعتبار غناهم عن الناس، وهم

فقراء باعتبار أنه ليس لهم فضول يتصدقون بها، وإنما يسبق الفقراء الأغنياء إلى

الجنة بنصف يوم؛ لعدم فضول الأموال التي يحاسبون على مخارجها ومصارفها،

فمن لم يكن له فضل كان من هؤلاء، وإن لم يكن من أهل الزكاة.

ثم أرباب الفضول إن كانوا محسنين في فضول أموالهم فقد يكونون بعد دخول

الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم، كما يقدم أغنياء الأنبياء

والصديقين عن السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم. ومن هنا قال الفقراء:

ذهب أهل الدثور بالأجور، وقيل لما ساواهم الأغنياء في العبادات البدنية وامتازوا

عنهم بالعبادات المالية: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فهذا هو الفقير في عرف

الكتاب والسنة.

وقد يكون الفقراء سابقين، وقد يكونون مقتصدين ويكونون ظالمي أنفسهم

كالأغنياء. وفي كلا الطائفتين المؤمن الصديق، والمنافق الزنديق.

وأما المستأخرون فالفقير في عرفهم عبارة عن السالك إلى الله تعالى كما هو

الصوفي في عرفهم أيضًا، ثم منهم من يرجح مسمى الصوفي؛ لأنه عنده الذي

قطع العلائق كلها، ولم يتقيد في الظاهر بغير الأمور الواجبة، وهذه منازعات

لفظية اصطلاحية، والتحقيق أن المراد المحمود بهذين الاسمين داخل في مسمى

الصديق أو الولي والصالح، ونحو ذلك من الأسماء التي جاء بها الكتاب والسنة

فمن حيث دخل في الأسماء النبوية يترتب عليه من الحكم ما جاءت به الرسالة.

وأما ما تميز به مما يعده صاحبه فضلاً وليس بفضل، أو مما يوالي عليه

صاحبه غيره، ونحو ذلك من الأمور التي يترتب عليها زيادة الدرجة في الدنيا - فهي

أمور مُهْدَرَة في الشريعة إلا إذا جعلت من المباحات من الأمور المستحبات [5] ،

وأما ما يقترن بذلك من الأمور المكروهة في دين الله من أنواع البدع والفجور

فيجب النهي عنه كما جاءت به الشريعة.

(فصل) وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث

الذي يكون بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين، والنجباء

الثلاثمائة - فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي أيضًا مأثورة عن

النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل إلا لفظ (الأبدال) فقد

روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعًا إلى النبي

صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال أربعين رجلاً،

كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً) .

ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذا الترتيب، ولا هي

مأثورة على هذا الترتيب والمعاني عن المشايخ المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا، وإنما

توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشايخ، وقد قالها إما أثرًا لها عن

غيره أو ذكرًا. وهذا الجنس ونحوه من العلم الذي قد التبس على أكثر المتأخرين حقه

بباطله، فصار فيه من الحق ما يوجب قبوله، ومن الباطل ما يوجب رده. وصار

كثير من الناس فيه على طرفي نقيض: قوم كذَّبوا به كله لما وجدوا فيه من الباطل،

وقوم صدقوا به كله لما وجدوا فيه من الحق، وإنما الصواب التصديق بالحق

والتكذيب بالباطل، وهذا تحقيق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ركوب

هذه الأمة سَنن من كان قبلها حذو القُذَّة بالقُذَّة، فإن أهل الكتابين لبسوا الحق بالباطل،

وهذا هو التبديل والتحريف الذي وقع في دينهم، ولهذا يعتبر [6] الدين بالتبديل تارة

وبالنسخ أخرى.

وهذا الدين لا يُنْسَخ أبدًا لكن يكون فيه مَن يدخِل فيه من التحريف والتبديل

والكذب والكتمان ما يلبس به الحق بالباطل، ولا بد أن يقيم الله فيه من تقوم به

الحجة خلفًا عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل

الجاهلين [7] ؛ ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون. فبالكتب المنزلة

من السماء والآثار من العلوم المأثورة عن الأنبياء يميز الله الحق من الباطل ويحكم

بين الناس فيما اختلفوا فيه.

وبذلك يتبين أن هذه الأسماء على هذا العدد والترتيب والطبقات ليست حقًّا في

كل زمان، بل يجب القطع بأن هذا على عمومه وإطلاقه باطل، فإن المؤمنين

يقلون تارة ويكثرون أخرى ويقل فيهم السابقون المقربون تارة ويكثرون أخرى

وينتقلون في الأمكنة، ليس من شرط أولياء الله أهل الإيمان والتقوى ومن يدخل

منهم في السابقين المقربين لزوم مكان واحد في جميع الأزمنة، وقد بعث الله رسوله

بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل من سبعة، ثم أقل من أربعين، ثم أقل

من سبعين ثم أقل من ثلاثمائة، فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد، ومن الممتنع أن

يكون منهم من كان في الكفار.

ثم هاجر هو وأصحابه إلى المدينة وكانت هي دار الهجرة والسنة والنصرة،

ومستقر النبوة وموضع خلافة النبوة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين لأبي بكر

وعثمان وعمر وعلي، وإن كان (علي) قد خرج منها بعد أن بويع له فيها. ومن

الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم مَن يكون أفضل منهم.

ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها وكان في المؤمنين في كل

وقت من أولياء الله المتقين بل من الصديقين السابقين المقربين مَن لا يُحْصي عدده

إلا رب العالمين، لا يحصون بثلاثمائة ولا بثلاثة آلاف، ولما انقرضت القرون

الثلاثة الفاضلة كان أيضًا في القرون الحالية من أولياء الله المتقين بل من السابقين

من جعل لهم عددًا محصورًا لازمًا فهو من المتظلمين (؟) عمدًا أو خطأً.

وأما لفظ الغوث والغياث فلا يستحقه إلا الله تعالى فهو غياث المستغيثين لا

يجوز لأحد الاستغاثة بغيره لا بمَلَك مقرب، ولا نبي مُرْسَل، ومن زعم أن أهل

الأرض يرفعون حوائجهم التي يطلبون بها كشف الضر عنهم ونزول الرحمة بهم،

إلى الثلاثمائة، والثلاثمائة إلى السبعين، والسبعين إلى الأربعين والأربعين إلى

السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الغوث - فهو كاذب ضال مشرك، فقد

كان المشركون كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن

تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} (الإسراء: 67) وقال: {أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (النمل: 62) فكيف يكون المؤمنون يرفعون إليه حوائجهم بعدة وسائط من

الحُجَّاب؟! وهو القائل تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ

الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ} (البقرة:

186) .

وقال الخليل عليه السلام داعيًا لأهل مكة: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ

غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي

إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى

عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ

إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (إبراهيم: 37 - 39) وقال النبي صلى

الله عليه وسلم لأصحابه لما رفعوا أصواتهم بالتلبية: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم

فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا وإنما تدعون سميعًا قريبًا إن الذي تدعونه أقرب إلى

أحدكم من عنق راحته) .

وهذا باب واسع وقد علم المسلمون كلهم أنه لم يكن عامة المسلمين ولا

مشايخهم المعروفون يرفعون إلى الله حوائجهم لا ظاهرًا ولا باطنًَا بهذه الوسائط

والحُجَّاب، فتعالى الله عن تشبيهه بالمخلوقين من الملوك، وسائر ما يقوله الظالمون

علوًّا كبيرًا.

وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لا بد في كل زمان من إمام معصوم يكون

حجة الله على المكلفين لا يتم الإيمان إلا به، ثم مع هذا يقولون: إنه كان صبيًّا دخل

السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، ولا يعرف له عين ولا أثر ولا يدرك

له حس ولا خبر.

وهؤلاء الذين يدعون هذه المراتب فيهم معناها للرافضة من بعض الوجوه،

بل هذه الترتيب والاعتداد يشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية والنصيرية

ونحوهم في السابق والثاني، والناطق والأساس والجسد وغير ذلك من الترتيب

الذي ما أنزل الله به من سلطان.

وأما الأوتاد فقد يوجد في كلام بعضهم أنه يقول فلان من الأوتاد، ومعنى ذلك أن

الله يثبت به من الدين والإيمان في قلوب من يهديهم الله به كما يثبت الأرض

بأوتادها، وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة، فكل مَن حصل به تثبيت العلم

والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة والجبال الكبيرة، ومن كان

دونه كان بحسبه، وليس ذلك محصورًا في أربعة ولا أقل ولا أكثر، بل جعل هؤلاء

أربعة مضاهاة لقول المنجمين في أوتاد الأرض.

(فصل) وأما القطب فيوجد في كلامهم أيضًا: فلان من الأقطاب وفلان قطب،

فكل من دار عليه أمر من أمور الدين والدنيا باطنًا أو ظاهرًا فهو قطب ذلك الأمر

ومداره، سواء كان الدائر عليه أمر داره أو قرية أو مدينة: أمر دينها أو دنياها

باطنًا أو ظاهرًا، ولا اختصاص لهذا المعنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر، لكن الممدوح

من ذلك من كان مدارًا لصالح الدين دون مجرد صلاح الدنيا، وهذا هو القطب في

عرفهم، وقد يتفق في عصر آخر أن تكافأ اثنان أو ثلاثة في الفضل عند الله، ولا

يجب أن يكون في كل زمان شخص واحد هو أفضل الخلق عند الله مطلقًا.

وكذلك لفظ (البدل) جاء في كلام كثير منهم، فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه

ليس كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الإيمان كان بالحجاز واليمن قبل فتوح

الشام وكانت الشام والعراق دار كفر، ثم في خلافة علي قد ثبت عن النبي صلى الله

عليه وسلم أنه قال: (تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين يقتلهم أولى

الطائفتين بالحق) فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام،

ومعلوم أن الذين كانوا مع علي من الصحابة مثل عمار وسهل بن حنيف ونحوهما

كانوا أفضل من الذين مع معاوية وإن كان سعد بن أبي وقاص ونحوه من القاعدين

أفضل ممن كان معهم، فكيف يُعْتَقَد مع هذا أن الأبدال جميعهم الذين هم أفضل

الخلق كانوا في أهل الشام؟ هذا باطل قطعًا، وإن كان قد ورد في الشام وأهله

فضائل معروفة فقد جعل الله لكل شيء قدرًا.

والكلام يجب أن يكون بالعلم وبالقسط فمن تكلم في الدين بغير علم دخل في

قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) وفي قوله: {وَأَن

تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169) ومن لم يتكلم بقسط وعدل خرج

من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (النساء:

135) ومن قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الأنعام: 152) {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا

بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25) .

والذين تكلموا باسم البدل فَرَّدُوهُ بمعانٍ: منها أنهم أبدال، ومنها أنهم كلما مات

منهم رجل أبدل الله مكانه رجلاً، ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم

وعقائدهم بالحسنات، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ولا بأقل ولا أكثر،

ولا تُحْصَر بأهل بقعة من الأرض، وبهذا التحرير يظهر المعنيّ باسم النجباء.

فالغرض أن هذه الأسماء تارة تفسر بمعان باطلة بالكتاب والسنة وإجماع السلف

مثل تفسير بعضهم بأن الغوث هو الذي يغيث الله به أهل الأرض من رزقهم

ونصرهم. فإن هذا نظير ما تقوله النصارى في الباب، وهو معدوم بالعلم والأثر،

وتشبيه بحال المنتظر الذي دخل السرداب من نحو أربعمائة وأربعين سنة، وكذلك من

فسر الأربعين الأبدال بأن الناس إنما يُنْصَرُونَ ويُرْزَقُونَ بهم، فذلك باطل، بل النصر

والرزق يحصل بأسباب من أوكدها دعاء المسلمين المؤمنين وصلاتهم وإخلاصهم ولا

يتقيد ذلك لا بأربعين ولا بأقل ولا أكثر كما في الحديث المعروف أن سعد بن أبي

وقاص قال: يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم أيسهم له مثل ما يسهم لضعفتهم؟

فقال: يا سعد وهل تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلا بضعفائكم؟ بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم)

وقد يكون للنصر والرزق أسباب أخر، فإن الكفار أيضًا والفجار ينصرون ويرزقون.

وقد يجدب الله الأرض على المؤمنين ويخيفهم من عدوهم؛ لينيبوا إليه ويتوبوا من

ذنوبهم، فيجمع لهم بين غفران الذنوب وتفريج الكروب، وقد يملي للكفار ويرسل

السماء عليهم مدرارًا ويمدهم بأموال وبنين ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، إما

ليأخذهم في الدنيا أخذ عزيز مقتدر، وإما ليضاعف عليهم العذاب في الآخرة، فليس

كل إنعام كرامة، ولا كل امتحان عقوبة، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا

ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ

فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَاّ} (الفجر: 15-17) .

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

زاد بعضهم فيه: (لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفسه) قال علي القاري في موضوعاته: وهو كلام باطل.

(2)

الوَلْيِ بوزن فلس: القرب، قاله في المصباح.

(3)

أي: وهم المقتصدون إلخ.

(4)

كذا في الأصل وهو محرف، والمعنى الذي يدل عليه السياق أنهم مع هذا يسيئون، ولكن الله يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، أي لغلبة إحسانهم على سيئاتهم.

(5)

كذا في نسختنا، ولا يظهر له معنى جلي بغير تكلف، ولعل أصله: إذا جعلت المباحات مما ذكر من المستحبات بالنية الصالحة كالسياحة الأصل فيها الإباحة وقد تكون مستحبة إذا نُوي بها أمر مستحب شرعًا كتحصيل العلوم والفنون النافعة غير الواجبة شرعًا كما تكون واجبة، وفنون الصناعات التي تتوقف عليها المصالح المعاشية والحربية من فروض الكفايات.

(6)

المنار: لعل الأصل: (يتغير) بدل: يعتبر.

(7)

هذا حديث أوله (يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُولُهُ ينفون عنه) إلخ.

ص: 508

الكاتب: أبو الكلام

الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنجليزية

العالم العلامةالأستاذ أبو الكلام

(3)

وظيفة المسلمين إذا ظُلموا:

إن الشريعة الإسلامية رسمت للمسلمين خطتين إذا ظُلموا: خطة ضد استبداد

الحكومة الإسلامية، وخطة ضد استبداد الحكومة الأجنبية - والأولى تنحصر في

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلان الحق وتقبيح الظلم من استطاع إليه

سبيلاً - أما الثانية فليست إلا السيف والحرب العوان وضرب الرقاب. وفي كلتيهما

أُمر المسلمون بأن يضحوا نفوسهم ويرحبوا بالموت صابرين ثابتين شاكرين،

راجين رحمة ربهم وفلاح الدنيا والآخرة. ولذا تجدهم كما تجرعوا كؤوس المنايا

بين الولاة الظلمة من أنفسهم في سبيل الحق، كذلك باعوا رءوسهم بيد الأجانب في

إعلاء كلمة الحق، وقد سبقوا سائر الأمم في هذا المضمار، فلا يوجد (لسعيهم

الحربي) مثال، ولا يوجد (لسعيهم المدني) مثال.

ولقد كان يجب على مسلمي الهند الآن أن يتخذوا الخطة الثانية فيحاربوا

الحكومة الإنجليزية بالسلاح ويتفانوا في جهادها، غير أنهم آثروا الأولى، وأعلنوا

أنهم لا يرفعون عليها السلاح، ولا يسفكون الدماء، بل يظلون متمسكين بعُرَى

الأمن والسلم، وإنما يقاطعونها، وينفضون أيديهم من التعاون معها ويشهرون

سوءاتها، ويطلبون تغييرها (بالسعي المدني) أي يعاملونها كما كانوا يعاملون

الحكومات الإسلامية الجائرة.

أجل إن فيهم ضعفًا ووهنًا، ولا يستطيعون محاربة الدولة البريطانية القوية،

إلا أنهم لم يكونوا عاجزين عن إلقاء أنفسهم في أفواه مدافعها وسد طريقها بجثثهم

الممزقة، ولكنهم مع قدرتهم عليه اختاروا الخطة الأولى، ولم يضيقوا عليها السبل،

فهلا كان يجب عليها أن تفكر في صنيعهم وتسامُحِهم معها؟ فحسبها أنهم يعاملونها

كمعاملتهم لحكوماتهم الإسلامية!

انقلاب الحال:

وإني أقول حقًّا: إنه لا يؤلمني أن أرى الحكومة عازمة على معاقبتي، وأنها

لا تحاكمني إلا لأن تزجني في السجون؛ إذ هذا أمر لا بد منه، وإنما الذي يؤلمني

فيفتت كبدي هو أن أرى الحالة تنقلب انقلابًا تامًّا، فبدلاً من أن ينتظر من المسلم

صدق اللهجة والقول الحق، يطلب منه السكوت عنه وكتمان الشهادة، وأن لا يقول

للظالم: (إنك ظالم) لأن قانون 124 يعاقب عليه.

ولقد كان المسلم في العهد الأول يوقف بين يدي ملك جبار لقوله له: (إنك

ظالم) فيصب عليه العذاب إلى أن تتشقق له القصب، ثم يمدون قصبة قصبة حتى

يذهب لحمه كله، فلا يسمعونه يستغيث أو يندم أو يتألم، بل لا ينفك لسانه يقول ما

قاله أولاً [1] فوازنوا بين هذا وبين قانونكم (124) .

ولست أنكر أن الحقيقة المحزنة هي أن المسلمين أنفسهم مسئولون عن هذا

الانقلاب المُخْزِي وتسلُّط الأجانب عليهم حتى أصبحوا بحالتهم الحاضرة أكبر فتنة

للإسلام - أقول هذا وقلبي يذوب حزنًا وكمدًا على وجود أناس من المسلمين في هذه

البلاد يتخذون أربابًا من دون الله ويعبدون الظلم والظلمة جهرًا وعلنًا، فإلى الله

المشتكى ثم إلى الله المشتكى.

الحرية أو الموت:

ولكن سوء حال المسلمين لا يسوِّد ناصية تعاليم الإسلام الحق البيضاء

المصونة بين دفتي الكتاب الحكيم. وهي لا تبيح للمسلمين في حال من الأحوال أن

يعيشوا عبيدًا وخولاً للأجانب والمستبدين بل توجب عليهم أن يحيوا أحرارًا، أو

يموتوا كِرَامًا، وليس بينهما سبيل.

وهذا الذي حملني قبل اليوم باثنتي عشرة سنة على أن أُذَكِّر المسلمين في

الهلال [2] بأن الجهاد في سبيل الحرية، وبيع الرءوس لإعلاء كلمة الحق هو إرثهم

الإسلامي القديم الذي ورثوه عن أجدادهم العظام، وأنه يجب أن يحافظوا عليها بكل

قوة، وأن دينهم يحتم عليهم أن يسبقوا جميع أبناء وطنهم في الجهاد الوطني، فلا

يكونوا فيه أذنابًا؛ بل رءوسًا وأعلامًا يُهْتَدَى بهم. ولقد كان من فضل الله أن

دعوتي لم تذهب أدراج الرياح، بل لقيت القبول والإجابة منهم، وها نحن أولاء

نراهم اليوم قد شمروا عن ساعديهم وعزموا عزمًا شديدًا على السعي والعمل مع

إخوانهم الوطنيين من الهندوس والنصارى والمجوس لتحرير وطنهم من ربقة

العبودية الأجنبية، ولا يقر لهم قرار إلا بعد نيل المرام.

مسألة الخلافة:

وإني لا أذكر ههنا مظالم الحكومة حيال الخلافة الإسلامية؛ لأنها أشهر من أن

تُذْكَر، ولكن الذي أريد التصريح به هو أنه لم يمض عليَّ يوم ولا ليلة في خلال

السنتين الماضيتين إلا وأعلنت تلكم المظالم على رءوس الأشهاد، وصرخت بأعلى

صوتي قائلاً: (إن الدولة التي تدوس الخلافة الإسلامية تحت أقدامها ولا تندم على

ما اقترفته في الهند من الفظائع والمنكرات لا تستحق أن يخلص لها أحد من أبناء

هذه البلاد؛ لأنها بأعمالها قد أصبحت عدوًّا ألد للإسلام والمسلمين ولسكان هذا

القطر!) .

ولا تلومن الحكومة أحدًا غير نفسها على سقوطها في هذا المأزق الذي يصعب

عليها الخروج منه؛ لأنني قد نبهتها سنة 1918 من معتقلي في كتاب مِنِّي إلى

(اللورد جيمس فورد) الوالي السابق فصَّلْتُ لها فيه الأحكام الإسلامية التي تتعلق

بالخلافة وجزيرة العرب، وصارحتها بأن الدولة البريطانية إذا نقضت عهودها،

واستولت على الخلافة والبلاد الإسلامية تُوقِع المسلمين في حالة حرجة جدًّا ولا

يبقى لهم إذ ذاك إلا أن يكونوا مع الإسلام أو مع البريطانية، ومعلوم أنهم يؤثرون

الإسلام عليها.

ولكنها لكبرها وعجرفتها لم تُبَالِ بما كتبتُ، فألقت كتابي ظِهْرِيًّا، ونكثت

أيمانها من بعد توكيدها، فاحتلت دار الخلافة الإسلامية واستولت على العراق

والشام وفلسطين، وبسطت نفوذها على جزيرة العرب، فعادت الإسلام والمسلمين

علنًا، واضطرتهم إلى مقاطعتها ونبذ معونتها والتبري من طاعتها (وهو أقل ما

توحيه الشريعة في مثل هذه الحالة كما مر) ثم إنها بإصرارها على غيها وإعراضها

عنهم واستنكافها من الإنصات إليهم أَيْأَسَتْهُمْ من نفسها، حتى أيقنوا أن لا سبيل إلى

الحياة ونيل حقوقهم المغصوبة إلا بإسقاط هذه الحكومة وإقامة حكومة وطنية بحتة،

وهي التي يسمونها في لغتهم (بالسوارج) .

أعدل هذا أم ظلم؟

والحاصل أن اعترافاتي في هذا الباب جلية وصريحة، فإني لا أعد الحكومة

الحاضرة إلا (بيوو كريسيا) غير شرعي وعدمًا محضًا في عين الحق والقانون

ولرضا مئات (؟) الملايين من أبناء البلاد، فهم يمقتونها أشد المقت، ويطلبون

زوالها وسقوطها بأسرع ما يمكن؛ لأنهم ألفوها دائمًا تؤثر الرهبة والشدة في أعمالها

على العدل والحق، وتبيح سفك الدماء البريئة بدون رحمة ولا شفقة في (جليانوا

لاباغ) [3] وتجلد الصبيان الذين ما عرفوا الذنوب بعدُ لأن ينحنوا أمام العلم

البريطاني المثلث. ثم إنهم وجدوها لا ترتدع عن دوس الخلافة الإسلامية، ولا

تسمع الصيحات المتوالية التي تعلو من أفواه المسلمين وغيرهم، وتسلم أزمير

وتراقية إلى اليونان ظلمًا وجورًا، وتسمح لهم بإراقة دماء المسلمين أنهارًا في سهول

الأناضول.

ولقد رأوا جرأتها في سحق الحق غير قليلة، وهمتها في لبس الصدق بالإفك

غير كليلة، ولسانها في تكذيب الحقائق غير عيي ولا متلعثم، فمع أنه يوجد في

ولاية أزمير 70 في المائة من المسلمين، يعلن رئيس وزرائها بدون أدنى لَكْنَة أن

الأكثرية للنصارى. ولقد وضع اليونانيون السيف في رقاب المسلمين وذبحوهم ذبح

الأنعام، هو يقلب الحقيقة فيتهم العثمانيين بالقتل وسفك الدماء، ويشهر المظالم

التركية المخترعة في العالم بلا مبالاة، ويخفى بكل وقاحة تقرير لجنة التفتيش

الأمريكية التي ندبتها حكومته بنفسها، ويؤلب على الأحرار العثمانيين الدول

الغربية كلها، ويدعوها إلى محاربتهم واستئصالهم.

ثم إنهم وجدوها لا تخجل ولا تندم على هذه الفضائح والمنكرات، ولا ترغب

في تلافيها وإصلاح عوجها، بل تعود، فتستبد أكثر من قبل، وتقهر البلاد وتكبح

سعيها الشرعي السلمي، وتعمل كل ما عملته في السنة الماضية، وما تعمله منذ

18 نوفمبر إلى الآن، من الأعمال الشنيعة التي تشمئز منها الإنسانية وتعافها.

فيا ليت شِعْرِي إن لم أقل لمثل هذه الحكومة (إنك ظالمة، فإما أن تتوبي وإما

أن تزولي) فماذا أقول؟ أفأكذب وأقول لها: لا بل إنك عادلة فلا تتوبي ولا تزولي؟

لعمر الله إن هذا لا يكون أبدًا! .

وهل يستحق الظلم أن يبدل اسمه ويسمى بغير اسمه؛ لأنه يملك القوة

والسجون والمشانق؟ كلا بل أقول كما قال صالح إيطالية وبطل الحرية (ميزني) :

إننا لا نسكت عن سيئاتكم؛ لأنكم تملكون قوة عما قليل تزول!

قرة عيني في (هذه الجناية) :

إني لأعجب كيف تقدم الحكومة هاتين الخطبتين الناقصتين ضدي؟ أفما كانت

تجد غيرهما؟ ألا توجد هذه الأقوال بعينها وأكثر منها في الألوف المؤلفة من

الصحائف التي حبَّرتُها، وفي جميع خطبي التي خطبتها في سائر أنحاء الهند؟ فلو

أنها رجعت إليها لوجدتها ممتلئة من هذه الأفكار الثوروية.

الحكومة تعلم أني لست حديث عهد (بمبادئ الثورة) كما سمتها فلقد مارستها

وأنا صغير، وباشرت الخطابة والكتابة فيها وأنا ابن ثماني عشرة سنة، وأفنيت

شبابي في عشقها والهيمان بها، ودعوت أمتي إليها جهرًا على مسمع من الحكومة

وحرضتها على المطالبة بحقوقها منها؛ ولذا اعتقلتني أربع سنوات، ولكن الاعتقال

لم يكن ليمنعني من أداء واجباتي فظللت تحت المراقبة الشديدة أرفع صوتي بها

وأدعو الناس إليها، لا سرًّا بل علنًا في رابعة النهار! وكيف لا، وفيها قرة عيني،

وهي مقصدي من الحياة، إن أعش: أعش لأجلها، وإن أمت: أمت عليها {إِنَّ

صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: 162) .

الحركة الإسلامية الأخيرة:

كيف أستطيع التبري من هذه (الجناية) وأنا الذي قمت بهذه (الحركة

الإسلامية) التي أحدثت انقلابًا عظيمًا في أفكار المسلمين السياسية، وأوصلتهم إلى

حيث نراهم الآن، فإنهم بقبولهم أفكاري أصبحوا شركائي في الجريمة واستحقوا

العقاب الذي تشرفني به الحكومة. ولقد أصدرت سنة 1912 صحيفة باسم (الهلال)

بَثَثْتُ فيها جراثيم هذا الذنب في المسلمين، فَعَلِقَتْ بقلوبهم وسَمَّمتْ أفكارهم، فبعد

أن كانوا أعداء لإخوانهم الهندوس وعقبة كئودًا في جهادهم الوطني، وآلة صماء بيد

الحكومة، يعتقدون أن البلاد إذا استقلت تغلب عليهم الهندوس وأسسوا دولتهم؛

لأنهم أكثر عددًا منهم - أصبحوا بدعوة (الهلال) يرجحون قوة الإيمان والحق على

قوة العُدد والعَدَد، وَدَعَتْهُمْ إلى مساهمة الهندوس في الجهاد الوطني، فأصبحوا

متحدين معهم وقاموا جميعًا بالحركة الحاضرة. وغني عن البيان أن الحكومة لم تكن

لتتحمل الحركة التي أحدثتها (الهلال) فعمدت إلى منعها وإقفال مطبعتها؛ ثم لما

أنشأتُ جريدة أخرى باسم (البلاغ) اعتقلتني.

وإني أصرح هنا بأن (الهلال) لم تكن إلا دعوة للحرية أو الموت، وإن ما

يعمله الآن (مهاتما غاندهي) من بث الروح الدينية في الهندوس، كانت (الهلال)

قد فرغت منه سنة 1914 وإن من المصادفات العجيبة أن المسلمين والهندوس ما

قاموا بالحركة الجديدة إلا بعد أن حلت فيهم الروحانية الدينية محل المدنية الغربية

المادية.

مؤتمر الخلافة بكلكتا:

ثم إني منذ خرجت من الاعتقال الطويل ما برحت أنشر هذه المبادئ بين

الناس وأدعوهم إليها: ففي مؤتمر الخلافة الذي انعقد في 28 و 29 فبراير بكلكتا

نفسها، والذي رَأَسْتُ جلساته، حَمَلْتُ المسلمين على أن يعلنوا القرار الآتي:

(إن أصرت الحكومة على غوايتها، ولم تُصْغِ لمطالبنا في مسألة الخلافة،

يضطر المسلمون بأوامر دينهم أن يصرموا جميع أواصر الولاء التي تربطهم

بها!) .

وألقيت في هذا المؤتمر خطبة طويلة بَيَّنْتُ فيها جميع تلك الأمور بيانًا تامًّا،

وهي توجد في هاتين الخطبتين ناقصة.

التعاون والخدمة العسكرية:

ولقد شرحت في هذه الخطبة أن الشريعة توجب على المسلمين في الحالة

الحاضرة أن يكفوا عن التعاون مع الحكومة وأن يقاطعوها مقاطعة تامة - وهذا هو

(اللاتعاون) الذي أطلق عليه بعد اسم cooperation Nen وتولى (مهاتما

غاندهي) قيادته.

وفي نفس هذا المؤتمر أعلن: أنه لا يحل للمسلمين أن ينسلكوا في الخدمة

العسكرية لهذه الحكومة؛ لأنها تحارب الخلافة والدولة الإسلامية! وإن من أعجب

العجب أن تؤاخذ الحكومة أناسًا [4] وتعاقبهم لإعلانهم هذا الحكم في مدينة كراجي

ولا تؤاخذني به، مع أني صرحت مرارًا على صفحات الجرائد وفي خطبي أن أول

من قدم هذا الاقتراح وأعلن هذا الحكم الديني، هو أنا بعيني، فقد قرر وصدق عليه

في ثلاثة مؤتمرات تحت رياستي: أولاً في كلكتا ثم في بريلي، ثم في لاهور.

وقد أعلنته مرارًا في غير هذه المؤتمرات، ودعوت الحكومة إلى معاقبتي فلم تُجِبْنِي،

مع أني كنت أحق الناس وأولاهم بالعقاب عليه.

وقد طبعت خطبة مؤتمر كلكتا بعد زيادات فيها، ونشرت مع الترجمة

الإنجليزية مرارًا، وهي بمثابة جدول مكتوب لجرائمي وذنوبي.

(حياتي كلها جناية) :

إنني قد طفت البلاد الهندية كلها عدة مرات في خلال السنتين الماضيتين،

وحدي ومع (مهاتما غاندهي) ولا توجد بلدة إلا وقد خطبت فيها على مسألة الخلافة

وبنجاب (وسوراج) واللا تعاون. وبينت جميع تلك الأمور التي تحتوي عليها

هاتان الخطبتان.

ولقد انعقدت جمعية الخلافة الكبرى في ديسمبر سنة 1920 مع الجمعية الوطنية

العامة (بناغبور) وجمعية العلماء في إبريل سنة 1921 (بيريلي) وجمعية

الخلافة لمقاطعة (أورهر) في أكتوبر (بآغره) وجمعية العلماء العامة في نوفمبر

(بلاهور) وقد رأست هذه الجمعيات كلها، وخطبت فيها خطبًا طويلة، قلت فيها

ما قلت في هاتين الخطبتين، بل أكثر منه وأشد.

فإن كانت مطالب هاتين الخطبتين لا تلائم الحكومة، وتراني أستحق العقاب

لأجلها تحت قانون 124، فلم لا تعاقبني على جميع خطبي وهي كلها مثلهما، بل

أشد وطأة على الاستبداد منهما؟ بل إني مضطر إلى التصريح بأني ارتكبت هذه

الجناية مرارًا يستحيل عَدُّهَا، بل ما عملت في السنتين الماضيتين غير هذه الجناية!

اللاتعاون السلمي:

إننا قد وضعنا لجهادنا الحق خطة (اللاتعاون السلمي) أجل، إن القوات

المادية واقفة أمامنا بجميع أسلحتها القتالة، وموادها العظيمة، تريد أن تسحقنا سحقًا،

وتمحق الحرية والحق محقًا، ولكن هذا لا يهولنا؛ لأننا لا نثق بالمادة والأسلحة

المادية، إنما اتكالنا على الله الواحد القهار، وثقتنا بالضحايا المتوالية التي نقدمها،

والثبات القوي الذي نُظْهِرُه في هذه المعمعة القائمة بين الحق والباطل والحرية

والاستبداد. وإني لا أرى مثل (مهاتما غاندهي) أن استعمال السلاح لا يجوز

بحال، فإني مسلم وأعتقد أن استعماله مباح في المواقع التي أباحه الإسلام فيها.

ولكني مع هذا أسلم بجميع دلائل (مهاتما غاندهي) في المسألة الحاضرة وأعتقد

صحتها، وإني لعلى يقين من ربي في أن الهند ستفوز في قضيتها بخطة

(اللاتعاون السلمي) ويكون فوزها مثالاً عظيمًا لفوز القوة الروحانية والأخلاقية

والحق على الباطل والمادة.

الحالة الحاضرة طبيعية:

وإني أكرر أخيرًا ما قلته أولاً، وهو أن ما تعمله الحكومة معنا ليس بأمر

عجيب ولا غير منتظر فنلومها عليه أو نتبرم منه، فإن القهر والعنف لقمع الحرية

والحق دأب الحكومات الجائرة وطبعها منذ الأيام الخالية إلى اليوم، ولا ينبغي لنا

أن نُمَنِّي أنفسنا بتغير الطبيعة لأجلنا.

وهذا الضعف الطبيعي كما يوجد في الآحاد، يوجد في الجماعات، فكم من

الناس من يرد النزر اليسير المغصوب لأنه لا حق له فيه؟ وكيف ننتظر من دولة

أن تتخلى عن قارة تسلطت عليها ووجدتها تدر كالبقرة الحلوب؟ والقوة لا تقبل

شيئًا لأنه حق وعدل، بل تنتظر قوة مقاومة مثلها، فإذا تصادمت بها خضعت لكل

طلب مهما كان فاحشًا، فالحرب التي نشبت الآن بين البلاد والحكومة فلا بد من

طولها وامتدادها، ولا تأتي النتيجة إلا بعد شق الأنفس، وإن هذا لواضح جلي لكل

بصير، بل عادي مثل سائر أحوالنا العادية، فلا ينبغي أن نعجب معه أو نضجر.

وإني أسلم بأننا لم يصبنا ما أصاب الأمم قبلنا في هذه السبيل من العسف

والظلم ونقص الأموال والأنفس، ولا أدري أهذا لضعف في مطالبتنا بالحقوق

ووهن في سعينا وجهادنا؟ أم لأن ظلم الحكومة لم يبلغ منتهاه بعد؟ المستقبل رهين

بكشفه وبيانه.

وقد علمنا التاريخ أن هذا التزاحم كما يبتدئ في كل زمن متشابهًا، كذلك

ينتهي دائمًا متشابهًا، فالحرية والحق ينتصران ويغلبان، والاستبداد والباطل

يخذلان ويسقطان، فإذا كنا صادقين في قضيتنا وصابرين في ابتلائنا ننجح ونفوز

بلا ريب، وتضطر هذه الحكومة التي تعاملنا اليوم كالمجرمين، إلى أن ترحب بنا

غدًا كالأبطال والفاتحين.

الثورة:

إني قد اتُّهِمْتُ (بالثورة) مهلاً، ذروني أفهم معنى (الثورة) أهي ذلك

السعي الذي لم ينجح بعد؟ إن كان هذا هو الثورة، فنعم إني (لثائر) ومتمثل بين

يديكم، عاقبوني بأي عقاب شئتم؛ ولكن اعلموا أن هذا السعي إذا تكلل بالنجاح فإنه

يسمى (بحب الوطن) و (جهاد الحرية) فقد كنتم بالأمس تسمون قادة أيرلندة

(ثوارًا وعصاة) ولكن أي اسم تختاره اليوم الدولة البريطانية لديوليرا وغريفت؟

أهم ثوار الآن أم أبطال الحرية؟

ولقد قال مرة قائد أيرلندة بارنل: ما زال عملنا هذا يسمى في البداية (ثورة)

وفي النهاية (جهادًا وحربًا مقدسة للحرية والوطن!) .

ناموس القضاء بالحق:

إنني مسلم، وحسب المسلم يقينًا كتابه الذي يؤمن به، فالقرآن يدل على أن

ناموس (انتخاب الطبيعة وبقاء الأصلح) ناموس عام، كما يعمل عمله في الأجسام

والمادة، فيبقى منها الأصح والأصلح للبقاء كذلك يعمل في العقائد والأعمال،

فالأعمال الصالحة تخلُدُ وتثمر، والأعمال السيئة تفنَى وتصير هباء منثورًا وإذا

وقع بينهما نزاع غلبت الأولى وحلت محل الثانية: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا

مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .

ولذا يسمي القرآن العمل الصالح (بالحق) الذي معناه الثبوت والقيام،

ويسمي الشر والسوء (بالباطل) الذي من شأنه أن يزول {إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) .

فالتدافع الذي نراه قائمًا بين الحزبين سينتهي غدًا بفوز الحق والصدق،

وبخسران الباطل والظلم. تلك سنة الله {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب:

62) {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) .

وأني لا أدري قريب يوم الفصل أم بعيد؟ ولكنني أرى الجو قد اكفهر وتلبد

بالغيوم، واجتمعت الآيات على سقوط الأمطار، والويل كل الويل لمن يرى الآيات

والنذر ثم لا يأخذ أهبته، ولا يرتق فتقه، ولا يسد ثغره، وإني لأرى الحكومة

من أولئك الذين لا تغنيهم الآيات والنذر فإنها لا تزال متمادية في تيهها وخنزوانتها.

وقد قلت في هاتين الخطبتين: إن الحرية لا ينبت نبتها ولا تستوي على

سوقها إلا إذا سُقِيَتْ بماء الظلم والقهر. فها هي ذي الحكومة قد أخذت تسقيها

بظلمها وقهرها!

وكذلك قلت فيهما: إخواني لا تحزنوا على من حُبِسَ منكم، بل إن كنتم

تطلبون الحق والحرية حقًّا، فهلموا إلى السجون واملأوها! فها نحن أولاء نرى

السجون قد ازدحمت وامتلأت حُجُرها حتى لم يبق فيها محل للصوص والقتلة

واضطرت الحكومة إلى تشييد سجون جديدة!

وكيل الدعوى، البوليس، والقاضي:

وفي الختام أريد أن أسوق كلمة إلى هذا النفر من بني جِلْدَتِى الذين يعملون

ضدي في هذه القضية فأقول: أصحابي ثِقُوا بأني لا أغضب ولا أحقد عليكم، بل

لا أتهمكم بالكذب والزور عليَّ؛ لأن كل ما قلتموه في الشهادة حق وصدق، ولكني

أراكم قد عصيتم الله ربكم بمساعدة الحكومة في استبدادها وظلمها ومحاربتها للإسلام

والإنسانية. إني أعلم أن صوت الضمير يوبخكم في أعماق سرائركم على ما

تعملونه، ولكنكم إنما اضطررتم إليه اضطرارًا؛ لأنكم لا تملكون ما تسدون به

عوزكم، وترزقون به أهليكم، وليس فيكم قوة لتحمل البأساء والضراء في سبيل

الحق، فلذا لا أحنق عليكم ولا أعذلكم بل أعفو عنكم وأستغفر لكم الله.

وأما وكيل الدعوى فهو أيضًا أحد أبناء وطني، ولا علم لي بسريرته وإنما

أرى علانيته، وهي تشهد أنه لا حظ له في هذه القضية غير ما يُنْقَدُهُ من النقود،

فإنه أجير يعمل لأجرته فلذا لا أسخط ولا أحتمي عليه، بل أدعو لجميع هؤلاء

بدعوة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم لقومه: (اللهم اهد قومي فإنهم لا

يعلمون) .

فاقض ما أنت قاضٍ!

وأنت أيها القاضي ماذا عسى أن أقول لك؟ إن أقول إلا ما قاله المؤمنون قبلي

في مثل موقفي هذا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} (طه:

72) فإني لا أحس بأدنى هَمٍّ ولا ألم، مهما تبالغ في العقاب؛ لأن خطابي مع

الحكومة لا مع شخص واحد. وما دامت الحكومة فاسدة فلا رجاء في إصلاح

أعمالنا.

وأني لأختم خطابي بكلمات لفقيد إيطالية وشهيد الحق (غارينيو برونو) الذي

كان أُوقِف مثلي أمام المحاكم فقال: (عاقبوني بأكثر ما يمكنكم أن تعاقبوني به فإني

أؤكد لكم أن ما يشعر به قلبكم من العطف والحنان عند كتابتكم الجزاء لا يشعر قلبي

في مقابله بذرة من الفزع والهلع عند سماعي هذا الجزاء) .

الخاتمة:

أيها القاضي، لقد طال الحديث وآن أوان الوداع، فليودع كل منا صاحبه،

وإن ما يدور الآن بيننا سيسجله التاريخ بين دفاتره ويعتبر به المعتبرون، ولقد

تَشَارَكنا في ترتيبه على سواء: أنا من هذا القفص للجناة، وأنت من ذلك الكرسي

للقضاة، وإني عالم بأنه لا بد من هذا الكرسي، وكذلك لا بد من هذا القفص، فهلم

بنا نفرغ من هذا العمل الذي سيكون عبرة وتذكرة للآتين، فالمؤرخ ينتظرنا،

والمستقبل يترقب فراغنا، لنسرع إلى المجيء إليك ولتسرع أنت في القضاء علينا،

وإن هذا العمل لا يطول قليلاً حتى يفتح باب لمحكمة أخرى، وتلك المحكمة

محكمة قانون الله الحق، الزمان يقضي فيها، ويكون قضاؤه حقًّا وحكمه نافذًا.

ا. هـ.

_________

(1)

وقد فعل هذا الحجاج بن يوسف الثقفي مع حطيط الزيات الذي مرت حكايته آنفًا " المترجم ".

(2)

الهلال مجلة لصاحب الخطاب.

(3)

هو ميدان محيط بالجدران بمدينة أمرتسر من مقاطعة بنجاب، قتلت فيه الجيوش الإنجليزية مئات من الوطنيين، رجالاً وشيوخًا وأطفالاً، كانوا اجتمعوا فيه ليتشاوروا في بعض القوانين الجائرة

(المترجم) .

(4)

سجنت الحكومة الأخوين الشهيرين محمد علي وشوكت علي ونفرًا غيرهما سنتين لإعلانهم هذا في كراجى من مقاطعة السند (المترجم) .

ص: 520