المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (27)

- ‌رمضان - 1344ه

- ‌فاتحة المجلد السابع والعشرين

- ‌نموذج من آراء أساتذة المدارس المصرية

- ‌حكم الشرع الشريف في لبس القبعة

- ‌مكان الإسلام من مسلمي الزمانوالحكم عليهم بنصوص القرآن

- ‌مسألة صفات الله تعالىوعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

- ‌الصحة

- ‌حديث عن الجامعة الأحمديةالمشهورة - في بلادنا - باسم القاديانية [*]

- ‌سوانح وبوارح [*]

- ‌فتنة ملاحدة الترك في سورية ومصر

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌شوال - 1344ه

- ‌مسألة صفات الله تعالىوعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

- ‌فتاوى لابن تيمية

- ‌دعاية الإلحاد في مصر

- ‌الإلحاد في الجامعة المصرية

- ‌بلاغ عام

- ‌مذكرةمقدمة إلى مؤتمر الخلافة العامفي مصر القاهرة

- ‌الصحة

- ‌رجال الدين في أمريكايعارضون عقد معاهدة مع أمة غير مسيحية

- ‌ذو القعدة - 1344ه

- ‌علماء مصر يؤيدون مذهب السلف الصالح

- ‌علاقة الأحياء بالأموات [*]

- ‌مقدمة مجموعة مقالاتالوهابيون والحجاز

- ‌مسألة صفات الله تعالىوعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

- ‌الصحة

- ‌أفحكم الجاهلية يبغون

- ‌رأي في الجديد ومدعي التجديد

- ‌محاربة البغاء

- ‌جواب الأستاذ الإمامعن كتاب لبعض علماء الشام

- ‌أمر القادياني قد فصّل

- ‌ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله(5)

- ‌ذو الحجة - 1344ه

- ‌الإرشاد

- ‌الصحة

- ‌ساعة مع جلالة الملك عبد العزيز بن السعود

- ‌الوهابية والعقيدة الدينية للنجديين

- ‌الألفة والاتحاد أساس مجد الإسلام

- ‌الجماعة الإسلامية في برلينونداؤها العام وبلاغاتها

- ‌استدراك آخرعلى إهداء العبادات أو ثوابها إلى الموتى

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌المحرم - 1345ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌الصحة

- ‌جمعية تجديد الإلحاد والزندقةوالإباحة المطلقة

- ‌البابية البهائية في بلاد العرب

- ‌عودتنا من الحجاز

- ‌صفر - 1345ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌جمعية الإلحاد والزندقةالعلم والدين [*]

- ‌الصحة

- ‌مبحث في الجرح والتعديل(2)

- ‌ذات بين مصر والحجاز

- ‌نموذج من كتابالقول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌ربيع الأول - 1345ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌العلم والدين(2)

- ‌الصحة

- ‌كعب الأحبار ووهب بن منبه

- ‌الزعيمانشوكت علي ومحمد علي

- ‌نموذج من كتابالقول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌ربيع الآخر - 1345ه

- ‌ما يباح للرجل من محارمهوشراء السلعة بأكثر من ثمن المثل لأجَل

- ‌الإيمان والكفر والنفاق والظلم والفسق(2)

- ‌قاعدة جليلةفيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌القرآن والعلم الحديث

- ‌الصحة

- ‌بطلان الدفاع عنجرح كعب الأحبار ووهب بن منبه

- ‌جهل زعماء المسلمين

- ‌الحجاز والمؤتمرات الإسلاميةفي الهند وجاوة

- ‌جمادى الأولى - 1345ه

- ‌البدعة اللغوية والبدعة الشرعية

- ‌طلاق الغضبانوالتزوج بالنصرانية

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلقبأحكام السفر والإقامة

- ‌إعجاز القرآن

- ‌كتاب في الشعر الجاهليدعاية إلى الإلحاد والزندقةوطعن في الإسلام

- ‌الصحة

- ‌مذكرة مرفوعة

- ‌نموذج من كتابالقول الوثيقفي الرد على أدعياء الطريق

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌مطبوعات المكتبة الأهلية

- ‌جمادى الآخرة - 1345ه

- ‌أسئلة عن الأبدال والأوتادوالقطب الغوث

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلقبأحكام السفر والإقامة

- ‌منهج الدكتور طه حسين العلمي في البحث

- ‌الصحة

- ‌الطحال والكبد.. هل هما دمان

- ‌وجوب الحج

- ‌تتمة القول في مسألة الجسدالذي ألقي على كرسي سليمان عليه السلام

- ‌أثر المقتطف في نهضةاللغة العربية بالعلم

- ‌العرب وجزيرتهم بين الإمامينيحيى بن حميد الدين وعبد العزيز آل سعود

- ‌خاتمة المجلد السابع والعشرين

الفصل: ‌شوال - 1344ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد السابع والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي العربي خاتم رسل الله،

وآله وصحبه ومن والاه، ولعنة الله والملائكة والنبيين، وجميع عباد الله الصالحين،

على جميع فرق المبتدعين في هذا الدين، الذين فرقوا كلمة الموحدين، وأضعفوا

جماعة المسلمين، فكانوا شرًّا عليهم من جميع فرق المشركين، ونالوا من الإسلام

ما لم ينل أحد من أعدائه الكافرين.

أما بعد فإن المنار يبتدئ هديه في مجلده السابع والعشرين، وقد تجدد في

العالم الإسلامي أمر عظيم أيّ عظيم، وهو استيلاء الدولة الإسلامية السُّنية السلفية

الوحيدة على الحجاز، وتمكنها من مهد الإسلام، وظهور أمارات أعلام النبوة

المصرحة بأن الإسلام سيأرز بين المسجدين (الحرمين الشريفين) كما تأرز الحية

في جحرها. ويعتصم من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل فقد صار للإصلاح

الإسلامي دولة مسلحة تقاوم البدع التي فتكت بالمسلمين ففرقت كلمتهم، ومزقت

شملهم، وجعلتهم باتباع شياطين الأهواء أعداء بعد أن ألف الله قلوب سلفهم

بالقرآن فأصبحوا بنعمته إخوانًا.

وإننا نعرض على قراء المنار أهم شؤون الإسلام الحديثة في فاتحة هذا المجلد

كعادتنا كما في سوابقه فنقول:

حال الإسلام والمسلمين في هذا العهد:

بالأمس خسر الإسلام دولة كانت منذ الأجيال الوسطى من تاريخه أشد دولة

بأسًا - وهى آل عثمان - وخلفتها دويلة تركية هي أشد دول الأرض عداوة له،

واليوم تجدد له دولة جديدة هي أرجى دولة لتجديد هدايته وإعادة مجده إلى شبيبته،

إذا عرف سائر المسلمين كيف يؤيدونها وينصرونها، ويفيدونها ويفيدون بها،

وهي الدولة العربية السعودية التي قامت في مهد الإسلام، ويرجى أن تكون مظهر

أنباء الرسول عليه الصلاة والسلام.

فأين مسلمو هذا الزمان منها ومن الإسلام؟

إننا نقرأ ما كتب أئمة الدين في خير القرون من إنكار البدع والمحدثات التي

شوهت الإسلام، ثم نجد الشكوى من ذلك قد تضاعفت في القرون الوسطى، ثم

تفاقمت وطغى طوفانها في القرون الأخيرة. حتى صرنا نسمع خطباء المساجد في

هذا العصر -على جهل أكثرهم وابتداعهم- يقولون على منابرهم: لم يبق من

الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، وإن المعروف قد صار منكرًا،

والمنكر قد صار معروفًا، ومن المصائب أن هذه الأقوال تصدُق عليهم وعلى

أمثالهم من المتصدرين للتعليم والوعظ والإرشاد، فالذي يحذرك من البدع

والمنكرات هو من أشد أنصارهما.

فرض الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكد أمره، ولعن تاركي

التناهي عن المنكرات التي يفعلها بعضهم في كتبه، وعلى ألسنة رسله، لئلا يترك

المعروف، ويفشو المنكر فيصير كالمعروف، فيختل أمر الفضائل ويفسد نظام

الآداب، بل قال الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (من رأى منكم منكرًا فليغيره

بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه

أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وإذا كان إنكار المنكر بالقلب وحده - وهو كراهته واستقباحه والنفور منه

ومن أهله - أضعف الإيمان، وكأن أقواه وأكمله لا يكون إلا بإزالته بالفعل، فما

القول إذًا في الذين لا ينكرونه بقلوبهم لألفتهم له وأنسهم به؟ وما القول فيمن هم شر

منهم وهم الذين مرنوا على المنكر واستحلُّوه واستعذبوه حتى استحلُوه، أو

اعتقدوا أنه معروف وليس بمنكر؟

ترك المسلمون تغيير المنكر بالفعل بضعف الخلافة وصيرورتها لقب تشريف،

ثم تركوا إنكاره بالقول لفشوّه في الحكام المستبدين والزعماء الظالمين وضعف

الدين في جماعات المسلمين، إلا قليلاً منهم كانوا يظهرون حينًا ويخفون أحيانًا،

ولا يجدون لهم شوكة ولا سلطانًا، حتى ظهر في أواخر القرن الثاني عشر للهجرة

وأول ما بعده الإصلاح الوهابي في نجد.

قام عالم نجدي اسمه محمد بن عبد الوهاب يدعو إلى التوحيد الخالص، وهو

عبادة الله تعالى وحده بما شرعه للناس في كتابه وعلى لسان رسوله، ويأمر

بالمعروف من السنن، وينهى عن المنكرات من المعاصي والبدع.

قاومه الناس وآذوه كما آذوا من قبله ومن بعده كل داع إلى الحق والخير،

وسخر الله من الزعماء الأقوياء من آزره حتى تأيد القول بالفعل، وكان أول منكر

من منكرات الشرك أزيل بالفعل قطع شجرة كانت تعبد في تلك البلاد كذات أنواط

في الجاهلية، وشجرة الحنفي وشجرة المنضورة في بلدنا هذا (مصر) فقامت

البلاد وقعدت، وعزم عباد الشجرة على الفتك به، فحماه زعيم هذا البيت السعودي

ومنعه من كل من يريد به سوءًا، وانتشرت دعوته الإصلاحية بقوه سيوف هذا

البيت الكريم في جزيرة العرب حتى استولوا على الحجاز، وكادوا يجددون للإسلام

مجده وحضارته بمثل نهضته الأولى، كما صرح بذلك كل من عرف كنه حالهم من

الشرقيين والغربيين، لولا أن تصدت لهم الدولة العثمانية، فحاربتهم من جهة

العراق والحجاز، ولما عجزت عنهم استعانت عليهم بدولة مصر الفتاة، فحاربهم

محمد علي حتى أخرجهم من الحجاز.

ولم تكتف الدولة التركية وأعوانها حتى من العرب بهذه الحرب، بل أثارت

عليهم حربًا شرًّا منها وأشأم، وهي حرب الدعاية بالطعن في عقائدهم وأعمالهم،

وتسمية سنتهم بدعة، وخيرهم شرًا، عرفهم نكرًا، بل إيمانهم كفرًا - أيضًا،

وكتب المتزلقون في ذلك الكتب والرسائل الكثيرة وأودعوها من فنون الكذب

والبهتان ما لايخطر إلا في بال الشيطان، حتى إن بعض زنادقة العراق،

وملاحدته المجاهرين بالتعطيل والإلحاد، ألف كتابًا في الافتراء عليهم تزلفًا إلى

الوالي التركي والدولة التي كانوا يدهنون لها بوصفها بحامية السنة، وإنما كانت

تريد حماية ملكها وسلطانها وقطع الطريق على الأمة العربية، حتى لا تتجدد لها

دولة قوية، وإلا فإن بلادها كانت مملوءة بالبدع والضلالات وهي لم تُزل منها شيئًا،

وكانت تعترف بإسلام بقايا طوائف الباطنية حتى الإسماعيلية الذين يعبدون آغا

خان المشهور.

وقد ألقى رجال السلطان عبد الحميد الأخير الشقاق والعداوة بين آل سعود وآل

رشيد في نجد، وما زالوا يمدون ابن الرشيد بالسلاح والمال إلى أن تمكن من

إخراج آل سعود من نجد، واستولى على الرياض عاصمة إمارتهم، حتى كان ما

كان من نهضة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل المؤيد بنصر الله وتوفيقه،

واستعادته لنجد، ثم استيلائه على إمارة ابن الرشيد وعلى بلاد الإحساء وكل ما كان

بيد الدولة العثمانية من تلك البلاد، ثم على بلاد عسير، ثم على المملكة الحجازية

برمتها.

هذا هو الطور الجديد المرجو للإسلام، وهذه هي الفرصة السانحة لتجديد

هدية وإعادة مجده، فهل يضيعها المسلمون كما أضاعوها أول مرة؟ وما موقف

حزب الإصلاح الإسلامي المنتشر في جميع الأقطار مع هذا الزعيم الشاكي السلاح،

وقد فشل أئمة الإصلاح الذين أجرَّتهم الرماح؟ ثم ما موقف الأمة العربية معه

وهي قد عرفت نفسها، وطفقت تنشد زعيمًا تجدد تحت لوائه حضارتها ومجدها؟ .

ثم ماذا يكون عمل المبتدعة، وسدنة القبور المعبودة، والخرافات المستغَلَّة -

وعمل المتفرنجيين واللادينيين من ناحية أخرى - في مقاومة الدولة الجديدة،

والنهضة العتيدة؟

إن بين مسلمي هذه الأيام ومسلمي أول القرن الثالث عشر (الذي طفت فيه

الدولة الوهابية الأولى ورسبت) وبين عرب القرنين أيضًا وبين الأحوال العامة

فيهما فروقًا كثيرة نعد منها أهم ما يتعلق به الرجاء من إيجابية وسلبية ونقفي عليه

بما يعارض هذا الرجاء من الخوف - فنقول:

آيات الرجاء في الدولة الجديدة:

(1)

إن الدولة العثمانية التي كانت بالمرصاد للأمة العربية تمنعها من كل

نهوض قد زالت من الوجود، والدولة التركية المحضة التي خلقتها لا شأن للإسلام

ولا للعرب عندها، وليس لها أدنى مصلحة أو فائدة من عداوة الدولة السعودية، بل

موادتها خير لها من محادّتها.

(2)

إن الدولة المصرية لا تزال تجاهد في سبيل استقلالها، فلا هي

دولة عسكرية مستقلة يغريها حب التوسع في السلطان بفتح الحجاز ونجد، ولا

هي حكومة شخصية استبدادية يتصرف فيها حاكم مطلق بهواه كما كانت في عهد

محمد علي، فيخشى أن يدُعَّها إلى فتح الحجاز وغيره تلذذًا به، أو اقتفاء لأثر جده،

ولم تبق آلة جامدة صامتة في أيدي الأجانب يدفعونها إلى ما شاءوا بغير معارض،

بل هي دولة أمة عربية مسلمة من مصلحتها التواد مع الدولة الجديدة والاكتفاء

منها بتأمين الحرمين الشريفين ليؤدي شعبها مناسكه وزيارته براحة واطمئنان،

بل مصلحتها في التواد والتعاون مع الحجاز ونجد فوق ذلك وليس من غرضنا بيانه

هنا.

(3)

إن مسلمي هذا العصر أوسع علمًا بالإسلام ومصلحة المسلمين من أهل

ذلك العصر، فلا تروج فيهم الدعاية الظاهرة البطلان، التي راجت منذ قرن

ونصف بأكاذيب أحمد زيني دحلان وأمثاله ومقلديه العميان، أو الطامعين بنوال

السلطان، وقد كانت الدعاية التي أذاعها الشريف حسين وأولاده في الطعن في

الوهابية وسلطانهم أوسع من كل ما سبقها نشرًا، ولكن كان جل تأثيرها الخيبة

وخسران ألوف الدنانير أنفقت عبثًا، وقد كتبنا في إبطالها بضع مقالات نشرناها في

جريدة الأهرام ثم في المنار، كان لها من حسن التأثير وقوة البرهان، ما يصح أن

يسمى هدمًا لما كان بني في قرن ونصف قرن من الإفك والبهتان، لا لما بناه دعاة

هذا الزمن وحده.

(4)

تغير ما يسمى (الرأي الإسلامي العام) في الحكم على الوهابية

وسلطانهم حتى إن استيلاءهم على الحرمين الشريفين تُلُقي بالقبول والارتياح في

جميع البلاد الإسلامية، ولم يظهر صوت عال في استنكاره وعده مصابًا على

الإسلام في قطر من الأقطار كما كان يرجو الشريف حسين وأولاده وأعوانهم،

وإنما سمع نئيم خافت وأنين ضعيف من بعض الروافض وعباد القبور وأنصار

الخرافات.

ومن الآيات على ذلك إقبال الألوف الكثيرة من المسلمين على طلب الرخصة

بالسفر إلى الحجاز إلا دولة العجم الشيعية، فقد منعت الحج لسبب خرافي سنعود

إلى الكلام عليه.

ومن الآيات الخاصة ببعض الأقطار الإسلامية بل بأهمها وأعظمها شأنًا

وقدرًا أن صاحب السيادة والمقام الجليل الإمام يحيى حميد الدين صاحب اليمن قد

هنأ الملك عبد العزيز بن السعود على انتصاره، ووثق روابط المودة والولاء معه،

وسيكون له مندوب يمثله في المؤتمر الحجازي القريب.

ومن هذه الآيات أيضًا ما كان من روابط المودة بين ملك مصر وملك

الحجاز، وقد بدأ الأول بإرسال مندوب من قِبله في أثناء زمن الحرب، ثم تلاه

الآخر بإرسال مندوب يحمل هدايا المودة وعاد إلى مكة يحمل جزاءها. والذي يرجوه

جميع المسلمين - وإن كرهته جماعة الملاحدة واللادينيين - أن يكون التوادّ والولاء

بين مصر والحجاز مبنيًا على أقوى قواعد الصدق والإخلاص، وأن يكون التعاون

المادي والمعنوي بينهما بالكمال.

ومن هذه الآيات الخاصة بأرقى الطبقات الدينية في مصر، ذلك الاحتفال

الفخم الجميل الذي كرم به أساتذة مدرسة القضاء الشرعي الحاضرون والسابقون

وتلاميذها مندوب الملك عبد العزيز آل سعود في مصر، وهو الشيخ حافظ وهبة

المصري الذي كان من تلاميذ هذه المدرسة. فقد اشترك فيه وحضره أرقى شيوخ

التعليم وكهوله وشبابه في المدارس العليا وما دونها، وتبارى فيه مصاقع خطبائهم،

وفحول شعرائهم في مدح الملك عبد العزيز آل سعود بالدين والإصلاح ونوط رجاء

المسلمين به. وهذا محل دلالة الآية على أن أرقى رجال التعليم الديني وأساتذة

العربية من أهل السنة بمصر يعتقدون أن هذا الرجل مام مصلح في الإسلام ومجدد

لهداية الدين ومجده، لا أنه مسلم سني فحسب، بهذا كانوا يرفعون أصواتهم في

ذلك الاحتفال البهيج المهيب، وكان جمهور السامعين الكبير يصفق لهم تصفيق

الإعجاب والممالأة، وسنذكر لهم نموذجًا من ذلك في هذا الجزء.

(5)

إجابة زعماء المسلمين من أقطار الشرق والغرب لدعوة ملك الحجاز

وسلطان نجد إلى عقد مؤتمر في مكة، حتى إن بعض الوفود التي كانت انتخبت

لحضور مؤتمر الخلافة بمصر تحولت إلى مؤتمر مكة حتى من كان يمكنهم الجمع

بين المؤتمرين.

(6)

إن قبائل العرب في سورية وفلسطين والعراق صارت تستجيب

لدعوة التدين التي يقوم بها الوهابيون بالاختيار، وأما قبائل الحجاز فقد بايعت الملك

السلطان عبد العزيز آل سعود على السمع والطاعة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

والجهاد في سبيل الله، وقد انبث فيها المعلمون المرشدون كما انبثوا من قبل في

عشائر عسير وتهامة، وسيكون هؤلاء كلهم إخوانًا في الدين صادقين، ومظهرًا

لقوله تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) .

(7)

إن أُولى الدعاية الجنسية العربية في سورية وفلسطين كانوا مختلفين

في الرأي والميل في مناط الزعامة والقيادة لهذه الأمة حتى بعد ظهور الفارس

المغوار عبد العزيز آل سعود في الميدان، فقد كان بعضهم يفضل زعامة شرفاء

مكة على ما كان يظهر على التوالي من ضعفهم وعجزهم وخذلانهم للوطنيين

وتفانيهم في الإخلاص للأجانب لأنه - كما كانوا يقولون - أولاً: ليس في الميدان

غيرهم، ولإحاطتهم بالبلاد السورية في الحجاز وشرق الأردن والعراق، لأن ابن

سعود بعيد عن البلاد، ولأن خطته دينية لا مدنية- ومن هؤلاء كثير من اللادينيين

والمفتونين بالتفرنج، والشرفاء كانوا يرضون كلاًّ منهم بما يهواه ولا سيما فيصل،

فهو لا ديني مع اللادينيين واليهود والإفرنج، سني مع السنيين، شيعي مع الشيعيين.

أما وقد استولى ابن سعود على الحجاز واعترفت له الدول العظمى

بالاستقلال المطلق، وظهر خذلان الشرفاء في كل شيء، وعلم أنه لا دين يهمهم

أمره ولا وطن فلم يبق لطلاب إحياء مدنية العرب زعيم يتوجهون إليه غير ابن

السعود، ولا يضر غير المتدين وغير المسلم منهم تدينه؛ لأنهم ليسوا في كره

الإسلام كأساتذتهم من ملاحدة الترك، فأولئك يمقتون الإسلام لأنه عربي، ولو كان

لسلفهم دين علم وحكمة وآداب وتشريع يداني الإسلام في فضائله ومزاياه لفخروا فيه

على جميع الأمم، وباعوا به جميع الملل، وكيف وقد ارتأى بعضهم أن تكون

صورة الذئب الأغبر شعارًا لهم لأن أجدادهم عبدوه وقدسوه في جاهليتهم الأولى،

ورأينا منهم من يفتخر بجنكيز خان وهلاكو خان، أعداء البشر ومخربي العمران؟

فلو اقتدى متفرنجة العرب في مصر وسورية والعراق بهم حق الاقتداء في العصبية

القومية لكانوا أجدر بالافتخار بالإسلام ورجاله: محمد خاتم النبيين، وخلفائه

الراشدين، وأهل بيته الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين، وأئمة العلوم

الشرعية، لدينه الحق وملته الحنيفية، بأشد من افتخارهم بغيرهم من رجال العرب

العظماء كالملوك والأمراء والقواد والحكماء والأدباء، ففضائل العرب وحضارتهم

العليا إسلامية.

وقد قال أحد أدباء السوريين الأحرار من المسيحيين لبعض أصحابه:

إني أعجب لكم كيف تفتخرون بالانتماء إلى أحد أنبياء اليهود [1] وأنتم لا تؤمنون به،

وتتركون في الانتماء إلى نبيكم العربي والفخر به، ولماذا تعظمون مثل المعري

والمتنبي من شعراء قومكم، والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم منهم فضلاً

على لغتكم وأمتكم؟

(8)

إن زعماء المسلمين وعقلاءهم من العرب والعجم الراسخين في الدين

الإسلامي المبين، والواقفين على شؤون هذا العصر - ولا سيما الهنود منهم - هم

شديدو الغيرة على مهد الإسلام: الحجاز وسياجه من البلاد العربية، وضمان

استقلاله للمسلمين، وحفظه من عدوان الاستعمار الغربي عليه، ويعلمون أن هذا لا

يتم ويدوم إلا بوجود دولة إسلامية حربية عزيزة الجانب فيه، ولم تتحقق هذه

الأمنية إلا بعقل ابن السعود وسيفه، فهم بما يجب عليهم من صيانة دينهم مدفوعون

إلى مساعدة هذه الدولة الجديدة على تنظيم قوتها، وتفجير ينابيع الثروة لها،

ومساعدتها على نشر العلم وإقامة دعائم العمران في الحجاز وسائر جزيرة العرب،

وهؤلاء هم عمدة حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل الذي وضع أساسه السيد جمال

الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري.

فهذه الفروق بين العشر الخامس من القرن الرابع عشر للهجرة النبوية التي

قامت فيه الدولة السعودية الجديدة، وبين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن

الثالث عشر التي تأسست فيها الدولة السعودية القديمة - هي مناط الرجاء في نجاح

الدولة الجديدة وفوزها.

***

الغوائل المهددة للتجديد الإسلامي

ولكن تجاه هذه المبشرات الست ثلاث غوائل أو مفاسد مما يفتك بوحدة

الإسلام في داخلها، قد تؤيدها الدسائس الأجنبية التي تهاجمها مما يحيط بها:

الأولى: عصبية غلاة الشيعة.

الثانية: جهالة مبتدعة القبوريين وأمثالهم من أهل الدجل والخرافات والبدع.

الثالثة: دعاية اللادينية ومفاسد ملاحدة المتفرنجة.

الشيعة وأهل السنة:

فأما غلاة الشيعة فقد كانوا أشد النقم والدواهي التي أصيب بها الإسلام:

هم مبتدعو أكثر البدع المفسدة لتعاليمه ولأهله، هم الذين صدّعوا وحدته،

وأضعفوا شوكته، وشوهوا جماله، وانتقصوا كماله، وجعلوا توحيده وثنية،

وأُخوته عداوة وبغضاء، وبثوا فيه فتنة عبادة أناس لأجل أنسابهم، وتقديس أناس

بأحسابهم، وجعل سعادة الدنيا والآخرة بوساطتهم عند الله وتأثيرهم في علمه

وإرادته، على ضد عقيدة القرآن من كون الخالق تعالى لا يطرأ على صفاته تأثير

من المخلوق، وكون مناط سعادة البشر هو الإيمان الصحيح السالم من خرافات

الوثنية المفسدة للعقول، وتزكية النفس بالعلم وعبادة الله تعالى وحده بما شرعه،

وأنه ليس لمخلوق أن يشرع لمثله عبادة بدون وحيه تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا

لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) .

وجميع الفرق التي ارتدت عن الإسلام في القرون السابقة كانت من غلاة

الشيعة فمنهم جميع (فرق الباطنية) الذين كانوا يلبسون لباس المسلمين ويظهرون

التلبس به لتقبل دعايتهم لهدمه بالتأويل، وكانت طائفة البكداشية المنتشرة في بلاد

الترك والارنؤط منهم، ولما دعا ملاحدة الكماليين إلى اللادينية ولبس البرنيطة

وإبطال جميع النظم الإسلامية وتفريق جماعاتها كانوا هم أول من أجاب الدعوة

بسرور وارتياح، وصرح بعض رؤسائهم بأنهم قد وصلوا إلى غايتهم من طريقتهم

وهي هدم تعاليم الإسلام والتفصي من أحكامه وسلطانه.

كذلك كان غلاة الشيعة مثارًا لأفظع الكوارث التي هدت قوى الإسلام،

وضعضعت الخلافة العباسية، ودمرت الحضارة العربية، التي كانت زينة الأرض

وفخار أهلها - وهي كارثة التتار - كما كانوا أولياء وأنصارًا لأعداء المسلمين أيهم

أشد عداوة لهم وفتكًا بهم لإسلامهم حتى الصليبيين.

زالت الأسباب التي دعت زنادقة الفرس إلى ما ذُكر، وغلب الإسلام على

بلادهم بالفعل فقل من عاد يعاديه لذاته، بل وجهت العداوة الشيعية إلى أهل السنة

خاصة، وزال ملك العرب من بلادهم وصار السلطان فيه للترك فانتقل ما كان من

عدواتهم للعرب إلى الترك على اختلاف طوائفهم، وكان قد انتشر مذهب السنة في

البلاد الإيرانية كلها وضعف التشيع فيها ثم زاد وقوي بتعصب الترك

العثمانيين، فهم الذين كانوا سبب تأسيس دولة شيعية تقاتلهم لحماية التشيع وتضطهد

السنة، حتى صارت السنة في بلاد إيران أضعف من المجوسية، ولم تبق لها دعوة

مطلقًا، بل بث شيعة إيران مذهبهم في عرب العراق حتى كاد يكون أكثر البدو منهم

يقيمون مآتم الإمام الحسين عليه السلام، ويلعنون أبا بكر وعمر عليهما من الله

أفضل الرضوان، ولم يجدوا في بث دعايتهم هذه مقاومة من الدولة العثمانية

الجاهلة الغبية، ولا معارضة لها بمثلها من علماء أهل السنة إلى أن ظهرت

جماعة الوهابية.

الحق أن أهل السنة قد أهملوا في القرون الأخيرة دعوة غير المسلمين إلى

الإسلام، ودعوة المبتدعين في الإسلام إلى السنة، إلى أن حرك دعاة النصرانية

بعض مسلمي الهند إلى ذلك فحملتهم الغيرة والمباراة على تجديد الدعوة إلى الإسلام،

وقلما يغارون من الشيعة فيدعونهم إلى السنة كما يدعون هم أهل السنة إلى التشيع،

فالشيعة كلهم دعاة إلى مذهبهم حتى النساء، ولكن أهل السنة في الهند يعادون

الشيعة بما لا يفيد السنة، بل بما ينافي الوحدة الإسلامية العامة، وهذا ما ننكره

على الفريقين ونسعى لتلافي شره، وأعني بقولي (نسعى) حزب الإصلاح ذي

الأنصار في جميع البلاد الإسلامية.

وأما الوهابية فقد شرعوا في إحياء دعوة الإسلام على مذهب أهل السنة

والجماعة الذي كان عليه السلف الصالح وأئمة الحديث في القرون الثلاثة التي شهد

لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وإنكار البدع واجتناب التأويلات

المحدثة حتى ما فشا منها في أهل السنة، فعادتهم الشيعة وعادوها في بدء ظهورهم

أو في نهضتهم الأولى كما عاداهم جهلة المدعين للسنة تأييدًا لسياسة الدولة.

وأما معيد هذه النهضة ومجدد دولتها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن

الفيصل آل سعود فهو على شدة تمسكه بالسنة ونصرها واسع الصدر، عارف

بحاجة الأمة العربية والشعوب الإسلامية إلى التعاون والتكافل في هذا العصر، وقد

استولى على بلاد الإحساء التي كانت تحت تصرف الدولة العثمانية وفيها كثير من

الشيعة، ولم نسمع أن أحدًا منهم شكًّا منه أو من عماله اضطهادًا أو ظلمًا أو محاباة

لأهل السنة دونهم، وقد عنى أشد العناية بالتواد والموالاة بينه وبين الإمام يحيى

حميد الدين إمام الزيدية من الشيعة، فارتاح إلى ذلك عقلاء المسلمين وأهل الرأي

فيهم من أهل مصر والهند وسورية وسائر الأقطار.

وقد سعينا لعقد روابط المودة والاتفاق بينه وبين حكومة إيران وشاهها الجديد

الهمام، كما سعينا مثل هذا السعي من القبل بينه وبين الإمام يحيى، فصادف السعي

الثاني ما صادف الأول عنده من الارتياح؛ لأنه صادف رأيًا في العقل، وهوى في

الفؤاد، على كونه وقع بعد أن جمع فيصل ملك العراق مؤتمرًا من مجتهدي الشيعة

في النجف كفّروا فيه النجديين، ونبزوهم بلقب أعداء المسلمين (يعنون أنفسهم)

وعلى أثر قيام الشيعة في الهند وفي إيران بالتهييج العام عليه وعلى قومه وزعمهم

أنه هدم قبة الحجرة النبوية، وغير ذلك من الاختلاق الذي عرفوا من بعد أنه من

بهتان دعاية الشريف عليّ؛ إذ أرسلت حكومة طهران وزيرها المفوض

بمصر وقنصلها في سوريا إلى الحجاز ليكشفا لها كنه الحال في مكة المكرمة وفي

المدينة المنورة قبل خضوع الشريف علي واستسلام حاميتي المدينة وجدة - فقابلهما

ابن السعود بمكة بالود والاحترام، وأعطى الوزير المفوض نسخة من منشور الدعوة

إلى مؤتمر الحجاز لأجل تبليغها لحكومته ونسخة أخرى لإيصالها إلى

أمير أفغانستان، بل منحه من الثقة ما هو فوق ذلك، ولم تكن دولة آل عثمان

على إغماضها في أمر السنة ترى أن تعطي لدولة الشيعة من حق الاشتراك في أمر

الحرمين الشريفين شيئًا، وكنا نظن أن الدولة الإيرانية الجديدة تقدر هذه العواطف

قدرها، وتعلم أنها أحوج إلى مقابلتها بمثلها، فبلغنا مع الأسف أن استباب الأمر

لسلطان نجد في الحجاز ومبايعة أهله له بالملك عليهم قد وقع على دولة الشيعة

وزعمائها وقوع الصاعقة، وأنها منعت رعاياها من أداء فريضة الحج إعلانًا

لكراهة ملكها الجديد واحتجاجًا عليه بإقامته للسنة في منع عبادة القبور وهدم المعبود

منها، على حين قد صنع بعض شيعة إيران تمثالاً لعلي - كرم الله وجهه -

وهو منكس التماثيل وطامسها، وهادم الوثنية ومدمرها.

ندع عصبية غلاة الشيعة تغلي مراجلها في إيران والعراق والهند، فهي

عاجزة أن تنال من الدولة السنية الحية منالاً، ولن تغني عنهم جريدة المقطم

الممقوتة عند المسلمين شيئًا، وامتناعهم من أداء فريضة حجة عليهم، نرجو أن

تكون سببًا لرجحان رأي المعتدلين بعد سكون العاصفة، فنعود إلى السعي لجمع

الكلمة.

مقاومة الخرافيين لدولة السنة:

وأما جهالة دجاجلة الخرافات والقبوريين من أهل الطرق وأعوانهم من العوام

فهي بمعنى عصبية غلاة الشيعة، ولكنها أضعف منها كيدًا، وإن كانوا أهلها

أكثر عددًا، وذلك أن أكثر شيوخها جاهلون لا يستطيعون دفع حجة ولا تأييد

شبهة، وليس للعوام أدنى فائدة منهم، وهم ينتمون إلى مذاهب السنة التي تحتجّ

بكتب الحديث المشهورة من الصحيحين والسنن والمسانيد المشهورة، وكلها تؤيد

الإصلاح الذي يدعو إليه الوهابية، وكذلك أقوال الأئمة المجتهدين الذين لا خلاف

في جلالتهم عند أهل الطريق.

فإذا روى الوهابي لأي مسلم سني حديث أبي الهياج الأسدي عن علي - كرم

الله وجهه - في الأمر بهدم القبور وتسويتها بالتراب وعزاه إلى سنن الإمام الشافعي

وصحيح مسلم لا يسعه إلا قبوله، ولا سيما إذ قال له: إن الشافعي ذكر في كتابة الأم

أن الأئمة بمكة كانوا يهدمون ما يُبنى من القبور فيها عملاً بهذا الحديث. وأما

الشيعة فلا يقبلونه بشبهة أنه من رواية أئمة السنة، وهل للسنة رواة إلا

من أهلها؟ ولسنا نعد من وصفوا بالتشيع من أصحاب الحديث من غلاة الشيعة الذين

كلامنا فيهم، بل معنى تشيعهم زيادة حب علي وذريته والعناية بمناقبهم، وهذا من

روح السنة، ولكن لا يوجد حافظ من حفاظ السنة يطعن في أبي بكر وعمر

وجمهور الصحابة رضي الله عنهم أو يبغضهم، وما أبغضهم الروافض لا

لأنهم أزالوا دولة الفرس وملة المجوس من إيران.

دعاية اللادينيين والدولة الجديدة:

بقي من غوائل الإصلاح والعقبات الثلاث في سبيل الدولة الإسلامية الجديدة

دعاية اللادينيين وملاحدة المتفرنجين، وهؤلاء ضد علي جميع المتدينين من أهل

السنة حقيقة أو ادعاءً ومن الشيعة وغيرهم، وهم يحاربون الدين بالشبهات الفلسفية،

والآراء العلمية والنظريات القانونية والاجتماعية وبما يزعمون من معارضته

للإصلاحات العصرية، وبما يعزون إليه من الأمور الخرافية، ومنهم كثير من كبار

رجال الحكومة في مصر وإيران، وقد تعدت فتنتهم إلى أفغانستان، وهم يرجون

أن يعملوا في هذه الممالك ما عمل الترك، فهم الخطر الأكبر على الدين وأهله،

ولكنهم قليلون في الحجاز، ولا وجود لأحد منهم في نجد، فخطرهم على الدولة

الجديدة جله في خارجها، وأما خطرهم على مصر وإيران ففي صميمهما وأحشائها،

وليست أفغانستان بمأمن من شرهم.

كنا معشر طلاب الإصلاح وتجديد ما أخلق ورثَّ من أمر الإسلام، نعالج

جمود المتفقهة، ونكافح بدع أدعياء المتصوفة، ونناضل شبهات الملاحدة، على

ما لا بد لنا منه من مجاهدة دعاة النصرانية، وكانت الحكومات الإسلامية المتفرنجة

مذبذبة تداري الجامدين، وترضي المبتدعين، وتقرب الملحدين، وتعرض عن

المصلحين، على أنها كانت أحوج إلى هؤلاء لجمع الكلمة وتحقيق وحدة الأمة.

ولكن لم يكن أحد من كبار رجال حكومة الآستانة ولا مصر ولا طهران يعقل

ذلك، وهي الحكومات الكبرى التي ابتليت بالتفرنج، فلم تهتد السبيل إلى اتقاء فتنه،

ولا إلى الانتفاع بما تحتاج إليه من فنونه ونظمه.

وقد كانت سائر الشعوب الإسلامية وحكوماتها شرًّا من هذه الحكومات

وشعوبها في الجهل والخرافات والبدع، والحرمان من هداية الدين؛ فقضى عليها

الجهل كلها إلا ثلاثًا: ثنتان عربيتان وهما حكومتا اليمن ونجد، وواحدة عجمية

وهي حكومة الأفغان، كانت هذه الثلاث -وما زالت- أقرب إلى هداية الدين،

وأبعد عن فتن التفرنج وضلالات الملحدين، ولن يظللن على ما كنّ عليه كالسفن

الشراعية الرواكد على ظهر اليم عند سكون الريح، فرياح الحوادث في

محيط الكون الأعظم لن تدع في هذا العصر بحرًا ولا خليجًا ساكنًا، فيجب على

حزب الإصلاح المعتدل أن يؤيد هذه الدولة الجديدة ويشد أزرها ويساعدها بعلمه

ورأيه وسعيه على الجمع بين هداية الدين على طريقة السلف في الصدر الأول،

وعزة الملك وسؤدده بالعدل والعمران على أحدث الفنون والتجارب والصناعات

والنظم الحربية والاقتصادية، أن يقف موقفه في الوسط بين أنصار الدين وطلاب

السيادة والاستقلال والحضارة بفنونها ونظمها المجربة، فبهذا يجذب إليه الخيار من

جميع الطبقات في الأقطار الإسلامية فيقضي بهم على من لا خير فيهم من

المارقين والخرافيين باتباع خطة حزب الإصلاح الجمالي - فهي الخطة التي تجذب

كثيرًا منهم على حظيرة الإصلاح. وسنفصل القول في ذلك تفصيلاً، بما هو أشد

عليهم وطأ وأقوم قيلاً، وأقرب إلى الاتفاق والتعاون سبيلاً {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ

فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (المزمل: 19) .

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

(1)

يعني سيدنا عيسى المسيح عليه السلام.

ص: 1

الكاتب: عبد المطلب

‌نموذج من آراء أساتذة المدارس المصرية

في الوهابيين ومؤسس الدولة السعودية

من قصيدة للأستاذ الشيخ عبد المطلب شاعر البداوة في الحضارة، ألقاها في

حفلة القضاء الشرعي التي أشرنا إليها في مقالنا الافتتاحي.

عادت إلى الإسلام دولته

وسما له ببلاده بند

وعلى تِهامة من بشاشته

سبغ الندى والعيشة الرغد

نجد تمدُّ إلى الحجاز يدا

ليست لغير الله تمتد

هذي كتائبها تجول به

غضبى لدين الله تحتد

ومنها:

فأتته خيل الله معلمة

نجبًا تزاءر فوقها الأسد

يحملن من نجد غطارفة

للبأس في زفراتها وفد

في الفيلق الخضراء يقدمها

ملك أشم وكوكب نجد

ينمي السعود إلى أرومته

نسب أغر وطالع سعد

لا يرهب الموت الزؤام ولو

أن السماء لوقعه رعد

فجلا عن الحرمين من خبث الأ طماع ما أشرى به الجهد

والسيف أعدل في حكومته

للعدل فوق ذبابه حد

وحكومة الشورى أحق بهم

من أن يحكم فيهم الفرد

عبد العزيز لك السلام من

الإسلام والإطراء والحمد

أرضيت أحمد في شريعته

شيدت منها ماله هدوا

رضيت قلوب المسلمين بما

قمتم به ورضاؤها أيد

أنفذت حكم السيف حين قضى

ورددته للسلم إذ ردوا

وعفوت إذ فاءوا فلا إحن فيهم تحكمها ولا حقد

وكذاك جند الله إن نُصروا

نام الهوى واستيقظ الرشد

فأعد إلى الحرمين مجدهما

فخمًا فما لسواهما مجد

وأعد لدين الله جدته

إن الورى في كيده جدوا

من الناس من لا يربيه ويهذبه إلا الشدة والبؤس، كما أن منهم من يربيه

ويهذبه الرخاء والنعمة، وبكل يبتلي الله عباده ويمتحنهم كما قال: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ

وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35) وقال في بني إسرائيل: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ

وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168) ولكن هؤلاء القوم لم يزدهم البؤس

والسوء إلا عتوًا وإصرارًا على الفسق والظلم فدمدم عليهم ربهم بذنبهم ومسخهم مسخ

خلق وبدن فكانوا قردة بالفعل، أو مسخ خلق ونفس، فكانوا كالقردة في طيشها

وشرها، وإفسادها لما تصل إليه أيديها، والأول قول الجمهور والثاني قول

مجاهد قال: مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق.

_________

ص: 19

الكاتب: محمد عرفة

‌حكم الشرع الشريف في لبس القبعة

بيان أصدره المعهد الديني في الإسكندرية، ورغب إلينا في نشره [1] .

دعا بعض الشبان المسلمين في مصر من تلاميذ المدارس إلى التشبه بالأمم

الأوروبية المسيحية فيما يلبسون على رؤوسهم، وأرادوا حمل أنفسهم وغيرهم على

خلع الطرابيش واستبدال القبعات بها، وأيدهم في ذلك بعض الكتاب في مصر.

ولما كان الظن بأولئك وهؤلاء أنهم لم يدعوا إلى ما دعوا إليه إلا لجهلهم حظر

دينهم له وسوء نسبة ما يريدون أن يتردوا ويردوا غيرهم فيه، وضرر ذلك بالوحدة

الوطنية التي تقطعت بها السبل، ولم يبق لنا طريق إلا هو في إقالة عثرتنا

وإنهاضنا من كبوتنا، وإصلاح ما أثأث يد الغفلات منا، أردنا أن نبين لهم منع

دينهم لما يدعون إليه، وأدلة ذلك وحكمة هذا المنع {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ

وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42) .

ونحن بما قمنا به من ذلك العمل نؤدي نصحًا لأمة وجب علينا ألا نألوا جهدًا

في نصحها، وإنارة السبيل أمامها، ونخدم وطنًا له دين في أعناقنا، ونرجو أن

نخرج بذلك من رذيلة كتمان العلم التي توعد عليها الله أشد الوعيد بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ

يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ

اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ} (البقرة: 159) .

إن المنع من التشبه بالكفار في لباسهم مبني على أصل عظيم في الشرع وهو

النهي عن التشبه بالكفار مطلقًا باطنًا وظاهرًا، والأمر بمخالفتهم فيهما، فلنتكلم عن

ذلك الأصل الآن، ثم نرده بما اندرج فيه من منع التشبه بهم في لباسهم.

***

النهي عن التشبه بالكفار

إن المتتبع لآي القرآن الكريم والسنة النبوية وما جاء عن الصحابة والتابعين

والأئمة المجتهدين يعتقد ذلك الأصل الذي قدمناه وهو النهي عن التشبه بمن خالفنا

في الدين. فأما القرآن الكريم فمنه قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ

فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ

الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ} (الجاثية: 18-19) . وقوله:

{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا

تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) وقوله {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا

أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) . وقوله {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ

وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة: 49) . وقوله {وَأَنَّ

هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام:

153) . وقوله {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً

فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ

كَالَّذِي خَاضُوا} (التوبة: 69) .

فإن قيل إن آي القرآن هذه تنهى عن التشبه بهم فيما كان فعله مفسدة في نفسه

من الاعتقادات الباطلة والاستمتاع بالخلاق

إلخ - وليست نصًّا في النهي عن

التشبه بهم فيما ليس فعله مفسدة في نفسه وليس يأتيه الفساد إلا من جهة التشبه بهم -

قلنا: إن السنة انتظمت الأمرين جميعًا والسنة مبينة للكتاب، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا

إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) .

***

(السُّنّة)

روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبَّهوا باليهود ولا

بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالكف)

وروى أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: (صوموا

يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، صوموا يومًا قبله ويومًا بعده) [2] وروى مسلم من

خطبة حجة الوداع قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت

قدمي موضوع) وروي في الصحيحين عن رافع بن خديج قال: (قلت يارسول الله

إنا لاقوا العدو غدًا وليس معنا مُدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر

اسم الله عليه فكلْ، ليس السِّن والظُّفر وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم وأما الظفر

فمدى الحبشة) وروى أبو داود في سننه وغيره من حديث الآذان: (اهتم النبي -

صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع لها الناس؟ فقيل له: انصب راية عند

حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه ذلك، فذكروا له القنع شبور

اليهود - أي البوق - فلم يعجبه ذلك وقال: هو من أمر اليهود، قال: فذكر له

الناقوس، فقال: هو من فعل النصارى) إلخ الحديث.

***

أقوال الصحابة

روى الإمام أحمد أن عمر لما دخل بيت المقدس، وأراد الصلاة سأل كعبًا أين

ترى أن أصلي؟ قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فقال عمر:

ضاهيت اليهود، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فتقدم إلى القبلة فصلى.

ودعي حذيفة بن اليمان إلى وليمة فرأى شيئًا من زي الأعاجم، فخرج

وقال: من تشبه بقوم فهو منهم [3] ، ودخل على أنس بن مالك غلام له قرنان أو

قصتان فمسح على رأسه وبرك عليه وقال: احلقوا هذين أو قصوهما

فإن هذا زي اليهود.

***

أقوال الأئمة المجتهدين

علل الأئمة النهي عن كثير من الأشياء بمخالفة الكفار أو مخالفة الأعاجم وهو

أكثر من أن يمكن استقصاؤه، فمن ذلك أن الحنفية كرهوا تأخير المغرب، وقالوا لِما

فيه من التشبه باليهود، وقالوا: إن صام يوم الشك ينوي أنه من رمضان، كره

لأنه تشبه بأهل الكتاب؛ فإنهم زادوا في مدة صومهم، وقالوا: أيضًا لا يجوز

الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة للنصوص ولأنه تشبه بالكافرين، وقد تكلم

أصحاب أبي حنيفة في تكفير من تشبه بالكفار في ملابسهم وأعيادهم.

وقال مالك: لا يجوز أن يحرم بالأعجمية ولا يدعو بها ولا يحلف، وقال:

يكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب يوم السبت والأحد، وقال بعض

أصحاب مالك: من ذبح بطيخة في أعيادهم فكأنما ذبح خنزيرًا.

وعلل الشافعية النهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس، لأن المشركين

يسجدون للشمس حينئذٍ، وذكروا في تأخير السحور: إن ذلك فرق بين صيامنا

وصيام أهل الكتاب، وقال الإمام أحمد: (أكره النعل الصرار وهو من زي

العجم وكره حلق القفا وقال: هو من فعل المجوس) ، وقال: (من تشبه بقوم فهو

منهم) [4] وكره تسمية الشهور بالعجمية، والأشخاص بالأسماء الفارسية.

***

ما ورد من النهي عن التشبه بالكفار في اللباس

وقد وردت آثار كثيرة تَنهى عن التشبه بالكفار في لباسهم فمن ذلك ما يأتي:

روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التشبه

بالأعاجم وقال (من تشبه بقوم فهو منهم) وروى أبو داود [5] من حديث ركانة قال

سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم

على القلانس) وروي أيضًا عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه

وسلم- أو قال: قال عمر: (إذا كان لأحدكم ثوبان فليصلّ فيهما فإن لم يكن له إلا

ثوب فليأتزر ولا يشتمل اشتمال اليهود) وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه

من حديث عياش عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن

أن يجعل الرجل بأسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم أو يجعل على منكبيه حريرًا مثل

الأعاجم) وروى مسلم عن عبد الله بن عمر قال: (رأى النبي - صلى الله

عليه وسلم- علي ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار لا تلبسها) .

***

أقوال الصحابة في التشبه بهم في اللباس

كتب عمر بن الخطاب إلى عامله على أذربيجان عتبة بن فرقد: (ياعتبة

إياك وإيا التنعم وزي أهل الشرك) ومما أخذه عمر على أهل الذمة فيما شرطوه

على أنفسهم قولهم أن نلزم زيَّنا حيثما كنا، وأن لا نتشبه بالمسلمين في شيء من

ملابسهم قلنسوة أو عمامة، ورأى علي قومًا قد سدلوا في الصلاة، فقال: ما لهم

كأنهم اليهود خرجوا من فهورهم أي (مدراسهم) .

***

حكمة الشارع في النهي عن التشبه بالكفار والأمر بمخالفتهم في لباسهم

فإن قيل: قد علمنا حكمة الشارع في النهي عن التشبه بالكفار في عقائدهم،

وهي أنهم كانوا على عقائد باطلة وأخلاق فاسدة، فنهى الشارع عن أن نعتقد

اعتقادهم ونتخلق بأخلاقهم لما في نفس هذه الاعتقادات وتلك الأخلاق من قبح

وفساد، فما الحكمة في النهي عن التشبه بهم في لباسهم وزيهم وعاداتهم؛ مع أن

نفس اللباس والزي ليس فيه فساد؟ وهل فرق بين لباس ولباس؟ قلنا:

إن للشارع في ذلك حكمة وهي: أنه يريد أن يجعل من المسلمين أمة متجانسة؛

متحدة ذات أخلاق وعادات، ونزعات، وعقائد، ومشارب متحدة فلما وفق بينهم في

الهدى الباطن أراد أن يوفق بينهم في الهدي الظاهر ليكمل هذا التوافق والاتحاد،

وأن الاتحاد في الزي الظاهر أدعى على التحاب والتوادّ والمشاكلة والمجانسة، ولذلك

يقول علماء الاجتماع: (إن الاتحاد في العقيدة واللغة العادة واللباس من مقومات

الأمة؛ ومن دواعي وحدتها؛ فتكون بينهما وحدة معنوية تجعلها كشخص

واحد؛ إذا رمت عن قوس واحدة، وإذا لاقت الخطوب لاقتها جميعًا) .

وأخرى، وهي: أن الشارع أراد أن يجعل للمسلمين زيًّا مخصوصًا ليتمايزوا

فيتعارفوا لأول وهلة وبادئ الأمر، فيقدم أحدهم للآخر ما يقدر عليه من خير،

ويدفع عنه ما يقدر على دفعه من شر، ويختصه بمعاملته؛ فتكون معاملاتهم

ومتاجراتهم بعضهم مع بعض ما أمكن ذلك، وبذلك تكون خيراتهم لهم ومنافعهم

منهم وإليهم، وقد أدركت ذلك (الجمعيات السرية) كالماسونية فجعلوا علامة تميز

بينهم وبين غيرهم لهذا الغرض.

لست أدري كيف يجمع هؤلاء الدعاة إلى تغيير زيهم ولباسهم بعد أن أصبح زيًّا

قوميًّا بين الدعوة إلى ذلك وبين الدعوة إلى الوطنية التي يتفانون فيها؟ ليست

الوطنية ألفاظاًَ تُلاك، وجملاً يملأ الشخص بها ماضغيْه، إنما هي أن يعطف

الوطني على أخيه الوطني، ويختصه بمعونته ومنافعه، وأن يقوم أهل الوطن

بالتعاون على جلب الخيرات إليهم ودفع المضرات عنهم، وكيف يسلس لهم ذلك

إذا انبهموا فيما سواهم من الأمم المغيرة عليهم، وغمرتهم هذه السيول الجارفة من

الشعوب النازحة إليهم.

ألا إن مصر كانت تأكل فاتحِيها فتهضمهم وتحيلهم إلى عصارة تتحول إلى

لحم ودم وأعصاب يتقوم بها بدنها، والآن يسعى أبناؤها ليأكلها غيرها من الشعوب

الأخرى، وتنماع فيهم كما تنماع القطرة في المحيط.

قالوا: إن لبسنا القبعة طريق إلى ذلك الحلم اللذيذ، وهو الوحدة الإنسانية

العامة، والوحدة الإنسانية أغنية يتغنى بها الدكتور منصور فهمي ومحمد أفندي

دياب وغيرهما، ونحن نقول لهؤلاء: إن وقت هذه الدعوة لم يحِن، إن الأمم

تسعى في إنماء قوميتها وتقويتها، والوحدات القومية والجنسية والدينية هي أسلحة

الأمم في الحياة وحصونها المنيعة ومعاقلها الرفيعة، فإذا دعوتم إلى الاندماج في

الإنسانية العامة، والأمم على ما ذكرنا من تقوية قوميتها، فلستم تفعلون أكثر من

تجريد أمتنا من أسلحتهم وحصونهم، فتلتهمهم الأمم ذوات المعاقل والحصون -

اتركونا من نشيد الموت هذا، وأنشدونا نشيد الحياة، ووجهوا كل ما في الأمة من

جهود وتعليم وأخلاق وعادات إلى بناء القومية، والاحتفاظ بما فيها من مقومات -

نسائلكم بالله لا تفرقوا وحدتنا، ولا تحلوا عقدتنا، ولا تفكوا رابطتنا، ولا تقولوا:

إن الأتراك قد سبقونا إلى ذلك، فلسنا مثل الأتراك ولا الأتراك مثلنا، إن الجسم

القوي فيه مناعة وحصانة من الأمراض أما الجسم الضعيف فأدنى الأمراض يفتك

به، ويحل ارتباطه وتماسكه [6] .

وقالوا أيضًا: إن زيَّنا زيّ أهل الجمود والتأخر، وتلك القبعة زي أهل

المدنية والتقدم، وإننا نتشبه بهم في قبعاتهم لنتقدم ونتمدين كما تقدموا وتمدينوا. لو

كان التمدين بخلع لباس ولبس لباس غيره لكان أهل الأرض جميعًا متمدينين،

ولكنتم أعجز الأمم؛ إذا مكثتم هذا الزمن الطويل في هذه الضعة، والكمال في

متناول أيديكم لن يكلفكم أكثر من خلع لباس ولبس لباس غيره.

لا يا سادة، الشقة بعيدة والطريق وعثاء شديدة، والمعالي لا تُنال على الدعة

والراحة واللعب، إنما هي منيعة لا ينالها إلا أروع جليد يركب الأهوال أهول من

الأهوال، ويخبط الصخر أصلب من الصخر، ويلمس الليل أخشن من الليل

ويهجم على الأسد في عرينه الأسد ليثًا حديد الأنياب والبراثن يلاقي حديد الأنياب

والبراثن:

لولا المشقة ساد الناس كلهم

الجود يفقر والإقدام قتال

ليس التمدين والتقدم بتغيير لباس الرأس، وإنما هو بتغيير ما في الرأس،

فبدل أن تعمدوا إلى رؤوسكم فتجردوها من لباسها، اعمدوا إلى ما بداخلها فجردوها

من أوهام وخرافات قد عششت وباضت وأفرخت وسدت مسالك الأمور عليكم،

وقعدت بكم عن كل خير، وورطتكم في كل تهلكة، وجمحت بكم فأوردتكم موارد

ماؤها آسن ومرعاها وخيم، وانزعوا منها خلق الضعف والانحلال الذي قعد بكم

عن مجاراة الأمم ومزاحمة الشعوب، وبطأ بكم عن قوم جدّوا فكانوا السابقين

الأولين، وكنتم القاعدين المتخلفين، وبدل أن تُحلوا رؤوسكم بقبعات الأمم الأخرى

حلوا ما بداخلها بالعلم والمعرفة، وزينوها بالفضيلة والخلق الصالح المتين. بهذا

وحده تتقدمون، وأقسم لكم أنكم ما دمتم مجدبي الرؤوس من الفضيلة والعلم، لن

ينفعكم لبس القبعات ولو وضعتم هرمًا من قبعات، قاعدته فوق رؤوسكم وقمته

تتصل بعنان السماء.

يخيل إلي أن أشباحًا غير منظورة تتآمر على تمزيق جامعتنا، وقطع

أواصرنا ووشائجنا، وأن هذه الأيدي الخفية تخرج لنا بين حين وآخر وشيجة من

وشائج الصلة بيننا؛ فتضعها بين شقي مقص حديد، وأننا إذا (لِنَّا) في أيديهم

سيقطعون وشائجنا وشيجة وشيجة، وسينقضون حبالنا حبلاً حبلاً، ويفكون عرانا

عروة عروة، حتى نصبح ولا جامعة تجمعنا، أرسالاً بددًا ككومة من أنقاض، لا

أتساق بينها ولا ارتباط.

الآن، قد بينا حكم الله في تغيير الزي والحكمة الاجتماعية فيه، وبينا فيه ضرر

ذلك لوحدتنا وقوميتنا، فإن كنتم أيها الدعاة مسلمين فأجيبوا داعي الله يغفر لكم من

ذنوبكم ويُجركم من عذاب أليم، وإن كنتم قد انسلختم عن دينكم فظننا بكم أنكم لم

تنسلخوا عن وطنيتكم، فإن لم تجيبوا تدينًا، فأجيبوا لداعي المصلحة القومية

والوطنية وإنكم إن شاء الله فاعلون - ألا قد بلغت، اللهم فاشهد.

...

...

...

...

... محمد عرفة

...

... أستاذ بمعهد الإسكندرية

الإسكندرية في 10 رمضان سنة 1344هـ.

_________

(1)

كذلك كتبت رياسة المعاهد الدينية العليا في الأزهر فتوى بهذا المعنى إلا أن هذه أفصح قيلاً، وأوضح دليلاً.

(2)

هذه رواية ضعيفة وفي الصحيح ما يعني عنها وهو ما رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس

قال: (صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى، فقال: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع) وفي رواية (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) ولكنه توفي ولم يبق فِداه أبي وأمي وولدي ونفسي.

(3)

روي هذا اللفظ مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وأبو داود والطبراني في الكبير من حديث ابن عمر بسند ضعيف وابن حبان وصححه، وعن الصحابة ماكتبه عمر إلى عتبة بن فرقد قائد جيشه في بلاد العجم ومنه:(إياك وزي الأعاجم) وتقدم تفصيله في فتوى المنار في المسألة من المجلد الماضي 26.

(4)

أي على سبيل الاستدلال وهو حديث مرفوع كما تقدم لنا وسيأتي للكاتب.

(5)

وكذا الترمذي.

(6)

المنار: كان للترك سلطنة واسعة لم تنل مثلها دولة من دول الأرض فخدعها الإفرنج برُقية العصبية القومية حتى أضاعوها وصاروا إمارة صغيرة يخشى أن يضيعوها أيضًا بهذا الهوس.

ص: 25

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مكان الإسلام من مسلمي الزمان

والحكم عليهم بنصوص القرآن

هو نص كتاب خاص أرسله الأستاذ -رحمه الله تعالى - إلى أحد خواص

العلماء من أعضاء الجمعية السياسية الإسلامية التي كانت تصدر جريدة العروة

الوثقى في باريس عقب احتلال الإنكليز لمصر. وهو من أجلّ كتبه الدينية

الإصلاحية، بل من أبلغ ما قال أو كتب أئمة الدين وعرفاء الصدِّيقين، من

المواعظ والنُّذر، والآيات والعبر التي تنير البصائر وتطهر السرائر وتُزيِّل

بين المؤمن والكافر، وتفرّق بين البر والفاجر، فهي ميزان الإيمان، ومسبار

العرفان، وهذا نصه منقولاً من الطبعة الثانية للجزء الثاني من تاريخه رحمه الله.

لا إله إلا الله وحده لا شريك له وبه الحول والقوة

سرني ما نقل إلي كتابك أنك استجبت لربك فيما دعا إليه عموم خلقه بقوله:

{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} (الأنعام: 11) وإنما يستجيب إليه أهل الرغبة فيه،

ولقد حمدت الله أنك لم تجعل سيرك سير الغافلين، ولم تمر على ما لاقاك مرور

الذاهلين، بل استعملت بصيرتك ونظرت فيما قام لك من أحوال الناس، لتعلم ماذا

أبقت الحوادث فيهم من الاستعداد لقبول الحق والميل للرجوع إليه، وما أظنه

ذهب عليك أيام كنت تقلب عين اعتبارك في أطوار أولئك المحجوبين، إن ما هم

فيه لا تختلف عن عواقب المكذبين، الذين يأمرنا الله بالنظر كيف كان عاقبة أمرهم،

وما أحل الله بدارهم من بوار، وما ألحق بعمرانهم من دمار، وما ألصق بذكرهم

من عار وشنار، وكيف يختلف الحال عن الحال، وإنما التكذيب أثر غين يُغشي

عين القلب، فيواري عنها وجه الحقيقة، فتعمه ظلمة أشبه بظلمة الخسوف تعلو

وجه القمر، فإذا أظلم القلب وهو مستودع السر الذي به كان الإنسان إنسانًا فقد أظلم

الإنسان كله، وذهبت قواه تخبط في أفاعيلها على غير هدي، وتعسر عليها أن

تلزم طريق الحق والصراط المستقيم.

وهذه الحال كما تراها فيمن ينكر الحق بلسانه، ويكذب الداعي إليه

بإنكار بيانه. تراها بعينها في هؤلاء المخدوعين الذين يزعمون أنهم آمنوا بالله

وبرسوله وبكتابه، ثم هم في أعمالهم وآمالهم أبعد الناس عن سننه، وأشدهم التواء

على أمره ونهيه، وقد علمت أن الله لم ينظر إلى قوم يقولون بأفواههم ما ليس في

قلوبهم، وأن اليهود لم ينفعهم أن آمنوا بموسى وخلفائه من الأنبياء، وبما جاءوا به

من الوحي الإلهي إيماناً يحاكي ما يدعيه المسلمون في هذه الأوقات: كان اليهود

يعرفون موسى نبيًّا لهم، والتوراة وكتب الأنبياء هدايات من الله لعقولهم، كما يعرف

المسلمون ذلك في كتاب الله تعالى، ولكن الله نعى إلينا أحوالهم في مزاعمهم فقال:

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5) . فقد جعل

تأويلهم التوراة وصرفهم لألفاظها إلى غير ما أراد الله بها وحَيَدَانهم عن العمل بما دعت

إليه تكذيباً بآيات الله، وجعل نقضهم لما حُمِّلوا من أحكامها مروقًا منها حيث

قال (لم يحلموها) وجعل تصديقهم بها على هذا الوجه بمنزلة احتمال حمار

لأسفار، فهو في عناء من ثقلها، على بعد من فائدة ما أودع فيها. أفليس هذا النبأ

بعينه يحدث عن أحوال المنتحلين اسم الإسلام في هذه الأيام، وأنهم حملوا القرآن

الكريم ثم لم يحملوه، إلى آخر الآية؟ ألم يكن في ظلم أهل هذا العنوان

وجمودهم عن حدود الله ما يستحقون به تسجيل الضلالة عليهم كما سجلت على

اليهود في قوله (والله لا يهدي القوم الظالمين) ؟ وأشد الظلم ظلم النفس

بعدولها عن سنن الحق.

ألا يصدق عليهم أنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون؟ ألا

ينعي حالهم {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر: 14) ،

ألا يحكي جهلهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ

يَظُنُّونَ} (البقرة: 78) أي أنهم لا يعلمون منه إلا أن يتلوه تلاوة بغير فهم، فإن

طلبوا شيئًا من المعنى لم يكونوا فيه على بصيرة أن يظنون إلا ظنًّا.

إني أستلفتك إلى أولئك الذين يتناولون مصاحف القرآن الكريم بأيديهم

خصوصاً في شهر رمضان، ثم يطفقون يلوكونه بألسنتهم ويزعمون أنهم يتقربون

إلى الله بترنمهم، ويصعدون إلى منازل القرب عنده بنغماتهم ورنين أصواتهم،

ويجعلون كل همهم في هز رؤوسهم، والتوفيق بين الهزات وتموج النغمات وما

شاكل ذلك من لواحق الصور والهيئات، مما قد يعجب له عرفاء الدين، ويستغرب

حدوثه في المسلمين أهل اليقين لبعد النسبة بينه وبين دينهم، والمنافرة الثابتة بينه

وبين مقتضى إيمانهم، حتى إذا انصرف أولئك القارئون والتمسوا من قلوبهم

عبرة مما قرأوا أو عظة مما سمعوا، لم يجدوا من ذلك قليلاً ولا كثيرًا، بل

رجع كل منهم إلى هواه، وأوى إلى قعيدة نواه، وما كان قد انصرف عن وساوسه،

ولا انقطع عما استحكم سلطانه في نفسه من شياطين أهوائه، إلا في ظاهر ما

يرى للناظر، وإذا سئل أحدهم عن شيء من معنى ما قرأه التجأ إلى الجهل، أو

خبط في مضلة من الوهم، وإذا قيس عمله إلى أحكام ما يقرأه، وجدت تبايناً كما

بين الإسلام والكفر، فبالله إلا ما أجبتني: هل تجد فرقًا بينهم وبين اليهود فيما قص

الله عنهم في قوله (ومنم أميون) ؟ إلخ. ألا تجد الوصول إلى الفرق نزر

الوسائل، متعذر الذرائع، ولو سردت من أحوال اليهود والنصارى والمشركين

التي قص الله علينا تحذيراً لنا من التدنس بمثلها ووضعتها مع أحوال المسلمين في

كفتي ميزان ألا ترجح أحوال المسلمين سوءًا على أحوال أولئك الضالين؟

أصبح المسلم في هذه الأيام حجة للكافر على كفره، وفتنة له يضل بها عما

أقام الحق من أعلامه، فإذا قيل إن الإسلام خير الأديان بل هو دين الله الذي أخذ به

الأمم السابقة فضلوا فضربهم بأنواع من عذابه في الدنيا، واستبقى لهم ما لا نهاية له

من الشقاء في الآخرة، ظهر فيهم بصور مختلفة، ثم جاء في أكمل صورة ببعثة

خاتم الأنبياء، مستتمًّا لنوره مكملاً لأمره، لتقوم به الحجة، وتتضح به المحجة،

وأصحب هذا القول بألف دليل كلها أوضح من الشمس، وأنفى للشك من ضوء

البدر لظلام الليل - رأيت علة واحدة تهدم كل ما بني من الأدلة وهي: لو كان

الإسلام دينًا صحيحًا ما وجدنا أهله المستمسكين به (في زعمهم) على ما نرى من

فساد الأخلاق وسقوط الهمم، وضلال العقول، هكذا أيها الحبيب أصبحنا فتنة للذين

كفروا، والله ينبهنا على ما صرنا إليه بتعليمه إيانا كيف ندعوه إذ يقول {رَبَّنَا لَا

تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) وما كان تعليمه الدعاء إلا لنتوسل

بالعمل إلى ما نطلب منه، ثم ندعوه المعونة على ما نقصد من موافقة رضاه، فلو

فقه المسلم لابتعد جهده عما يجعله فتنة للكافر، وجعل ورده ليله ونهاره {رَبَّنَا لَا

تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) ولكان همه في أن يكون بكماله قذى في

عين أعدائه، لا أن يكون حقيرًا في أعينهم، ضحكة لهم في محافلهم.

ولقد حدث في هذه الأيام الأخيرة أن قسيسًا إنكليزيًّا [1] هداه البحث إلى شيء

من محاسن دين الإسلام فأخذ يبث ما علم في الجرائد الإنجليزية وفي المحافل الدينية

في إنكلترا، إلا أنه يصعب عليه أن يعلن إسلامه، ويصرح بحقيقة إيمانه لأنه

يخاف أن تطول إليه أيدي الاعتداء من قومه وهو يدعو إلى الإسلام تحت حجاب

أنه لا يخالف المسيحية الحقيقية بل هو متمم لها، وله فيما يدعو إليه شيعة تنمو في

لندرا، وبيننا وبينه مخاطبات لتشجيعه وتقريبه من حقيقة الإيمان، ولا نعلم اليوم

ماذا يكون من نهاية أمره، وله معارضون كثيرون من الإنكليز وغيرهم، وإذا

تقصيت البحث في جميع حججهم لا تجد في مقدماتها إلا ما يكون راجعًا إلى ما عليه

المسلمون الآن من الأخلاق والعوائد والأفكار، وكلما جاء الرجل لهم بشيء من

أحكام كتاب الله أو بأثر من آثار المسلمين الأولين.

رأيت أولئك الجاحدين يقابلونه بأحكام يعدها المسلمون من حدود دينهم، يعولون

عليها في أعمالهم، وهي مقصية لهم عن الكمال، ساقطة بهم عن أدنى مراتب

الرجال، فكلما ردهم إلى الله ورسوله ردوه إلى أحوال المنتسبين إلى هذا الدين

القويم، وهم عاره، وبهم يهدم مناره، وتخفي آثاره، لو بقى في أيديهم أمره،

غير أني أرى الله سيحول أمر دينه عن هؤلاء الذين لبسوا على أنفسهم، وانقلبوا فتنة

لغيرهم، ثم ينتقم منهم بأيدي الظالمين والصالحين {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ

فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} (الأنعام: 89) - {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ

قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) فهنيئاً لمن أعد نفسه، وسبق

تعسة، فشحذ همته، وطهر نيته وقوم إرادته واستجمع عزيمته، للقاء ركب الله

الذي سيفد عليه، فيكون إما راجلاً في مشاته، أو فارساً من كماته، أو خادمًا في

حاجاته، أو سيدًا في رياساته، ولا يكون شيئًا من ذلك حتى يكون الله ورسوله

أحب إليه من نفسه، وحتى يكون كتاب الله أصدق الشاهدين له لا عليه،

وحاشا كتاب الله أن يشهد إلا لمن لبّى دعوته، وقبل شهادته، ونصبه إماماً في

محراب الوجود يتبعه بصره، ويحذوه في سيره، يقوم إذا قام ويقعد إذا قعد يعظم

ما عظم ويحقر ما حقر ويطلق ما أطلق ويقيد ما قيد، ثم أقام له من زواجره خطيبًا

إلى قلبه، وواعظًا يصدع بأمر ربه على منبر لبه، يعلمه إذا جهل، ويوقظه إذا

غفل، ويذكره إذا ذهل، ويحثه إذا كسل، ويسرع به إذا أبطأ، وينهضه إذا تلكأ

ويستلفته إلى الصواب إذا أخطأ، يهديه إذا تحير، ولا يعدو به الخير إذا تخير،

يرد جماحه إذا جمح، ويكف من غربه إذا طمح، حتى يقيمه على الصراط السوي

ويصعد به إلى المقام العلي، وكيف يستعمر القرآن قلبًا تشغله الأهواء الباطلة

وتستوكره الرغائب الزائلة؟ إن القرآن طاهر لا يجاور إلا طاهرًا، وقويم يأبى أن

يساكن جائرًا، زكي لا يأنس للأرجاس عليّ يأنف من مقاربة الأدناس، فلا عجب

إذا استوبل المقام في هذه القلوب المحتشية بالعيوب وتركها وشياطين الوساوس

تخبط بها في مخاري الدنيا ومهالك الآخرة.

يا عجبًا لمن يدعي الإسلام، وهو يعرف من نفسه أن أمرًا لو جاءه من أصغر

الحكام عليه بلغة غير لغته لما قرت له راحة، ولا اطمأنت به نفس، حتى يقف

على ترجمته. ولا يكتفي بمترجم واحد حتى تكون ثقته به كثقته بنفسه وإلا راجع

ثانياً وثالثاً طلباً لدقائق المعاني لا يفوته شيء مما حواه أمر آمره فيقع في مخالفته

إلى غير هواه، وكلما عظم مكان الأمر أشتد الحرص على استجلاء مراده، خشية

الوقوع في حداده، أو ما يبعث الظن إلى التحرش بعناده، وقد يكون الأمر مما

يضره ولا ينفعه، ويخفضه ولا يرفعه، كل ذلك للبعد عن مساخطه والارتياح إلى

مراضيه - هذا وهو يزعم الاعتقاد بأن القابض على ناصية أمره هو الله سبحانه

وتعالى وهو المقلب لقلبه والآخذ بعنان إرداته. ثم هذا أمر سام ورد له من عليّ

متعال، رب الأرباب ومخضع الرقاب، قهار السماوات والأرض، الذي لا ترد

مشيئته، ولا تخالف إرادته.

الكتاب المجيد يتجلى به في منازل الرحمة، ويستفيض من ديم النعمة، ويقيم

به على السعادة أعلامًا، ويضع لاجتناء ثمر الكرامة أحكامًا، ويعد المستجيبين

لأمره هذا - وهو القادر على كل شيء - أن يمكن لهم في الأرض، ويخدمهم أهلها،

ويجعلهم الأعلين فيها، وأن تكون عزتهم مقرونة بعزة الله ورسوله، وأن لايبيد

سلطانهم، ما ثبت إيمانهم، ولم يَشُبْه كفرانهم، كما قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا

مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ

لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي

شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) .

وليس في المواعيد السماوية أصرح مما وعد الله في كتابه المبين، ولا أقطع

للشبهة منه. ثم زادهم على ذلك نعيمًا أبديًّا، وأوعدهم في المخالفة خزيًا دنيويًّا،

وشقاء سرمديًّا، والذين يكفرون، وسجل عليهم أنهم الفاسقون، هم الذين تبطرهم

النعم فتستزلهم عن مقامات الشكر. ثم تنتابهم الغفلة فيعدلون عن سبيل الذكر الحكيم،

ومن فسق عن أمره أحل به غضبه وأنفذ فيه عامل انتقامه وسلبه ملابس

إنعامه، إما بشقي مثله أو ولي من أهله. ثم ضاعف له العذاب يوم القيامة،

وأخلده فيها مهانًا، إلا أن يتوب فيغفر له ما قد سلف. ويعلم المخدوع أن صاحب هذا

الأمر العلي مطلع على السرائر، بادية لعلمه صفحات الضمائر. ومع هذا وذاك لا

يتفهم أحكامه، ولا يتبع أعلامه، وينبذه وراء ظهره، كأن لا علم له بنهيه وأمره،

ويمني نفسه أن ينال ما ادخر الله لأوليائه إذ قصرت همته عن نيل سعادة الدنيا ليتنعم

به في الآخرة، شهوة تحول دونها أعماله، وأحلاماً تنافي صدقها أحواله. وما

أعجب حال من يزعم الإيمان بالله ولا تفنى أهواؤه في إرادته، ولا تضمحل

نشزات طبعه لمهابته، ولا تتضاءل عزائم نفسه لعظمته، ولا يجعل القسم الأعظم

من حياته للسعي في مرضاته، ولا يبذل من نفسه وماله ما لا يخسره في مآله.

حدثتني عن اليائسين من علية (ق) - وأشباههم فهؤلاء لم ييأسوا من الله،

حتى ساء به ظنهم، وما ساء ظنهم حتى انتقض إيمانهم، فحالهم حال القائلين {مَّا

وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَاّ غُرُوراً} (الأحزاب: 12) ورويت لي عن أهل النفرة

سكنة (س) فهؤلاء بقيت فيهم بقية لابد أن يؤيدوها بالعمل، ولا مكمل لما بقي

فيهم إلا رجوعهم إلى الله ورسوله، ولن يرجعوا إليه حتى يكون مزاج وحدتهم،

وحبل اعتصامهم كتاب الله، يهزون به هممهم، ويلمون به شعثهم، ويشهدون الله

أنهم نصروه في الأحوال والأعمال، فينصرهم في مواطن الجلاد ومواقع الجدال.

إن كنت وثقت بشيخ الإسلام الذي ذكرته فخذ العهد عليه، وسق إليه ببعض

كتابي هذا أو بكله إن رأيت ذلك ملائمًا لحاله، وإلا فزدني فيه بصيرة فاكتب إليه

بما يلهمه الله.

وافِني بكتبك بما أمكن من السرعة، ولا تبطئ عليّ بعد الآن والسلام.

_________

(1)

هو إسحاق طيار، وفي الكتاب بعض مكتوبات الأستاذ له.

ص: 33

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌مسألة صفات الله تعالى

وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

جوابُ سؤالٍ رُفِعَ إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

(الوجه الثاني) في تبيين وجوب الإقرار بالإثبات، علو الله على السموات

أن يقال: من المعلوم أن الله تعالى أكمل الدين، وأتم النعمه، وأن الله أنزل الكتاب

تبياناً لكل شيء وأن معرفة ما يستحقه الله وما تنزه عنه هو من أجلّ أمور الدين

وأعظم أصوله وأن بيان هذا وتفصيله أولى من كل شيء، فكيف يجوز أن يكون هذا

الباب لم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفصله ولم يعلم أمته ما يقولون

في هذا الباب؟ وكيف يكون الدين قد كمل وقد تركوا على البيضاء ولا يدرون بماذا

يعرفون ربهم، أبما تقوله النفاة، أو بأقوال أهل الإثبات؟

(الثالث) أن يقال: كل من فيه أدنى محبه للعلم، أو أدنى محبة للعبادة

لا بد أن يخطر بقلبه هذا الباب ويقصد فيه الحق ومعرفة الخطأ من الصواب، فلا

يتصور أن يكون الصحابة والتابعون كلهم كانوا معرضين عن هذا لا يسألون

عنه، ولا يشتاقون إلى معرفته، ولا تطلب قلوبهم الحق منه، وهم ليلاً ونهارًا

يتوجهون بقلوبهم إليه ويدعونه تضرعاً وخيفة ورغبًا ورهبًا، والقلوب مجبولة

مفطورة على طلب العلم. فهذا ومعرفة الحق فيه وهي مشتاقة إليه أكثر من شوقها إلى

كثير من الأمور ومع الإرادة الجازمة والقدرة يجب حصول المراد وهم قادرون على

سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم وسؤال بعضهم بعضًا، وقد سألوه عما هو دون

هذا: سألوه هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فأجابهم. وسأله أبو رزين: أيضحك

ربنا؟ فقال نعم فقال: لن نعدم من رب يضحك خيرًا. ثم إنهم لما سألوه عن

الرؤية قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس القمر) فشبه الرؤية

بالرؤية. والنفاة لا يقولون يُرى كما تُرى الشمس والقمر بل قولهم الحقيقي أنه

لا يرى بحال ومن قال يرى موافقة لأهل الإثبات ومنافقة لهم فسر الرؤية بمزيد

علم فلا تكون كرؤية الشمس والقمر.

والمقصود هنا أنهم لا بد أن يسألوا عن ربهم الذي يعبدونه - إن كان ما تقوله

الجهمية حقًّا - وإذا سألوه فلابد أن يجيبهم، ومن المعلوم بالاضطرار أن ما تقوله

الجهمية النفاة لم ينقله عنه أحد من أهل التبليغ عنه، وإنما نقلوا عنه ما يوافق قول

أهل الإثبات.

(الوجه الرابع) أن يقال: إما أن يكون الله يحب منا أن نعتقد قول النفاة أو

نعتقد قول أهل الإثبات أو لا نعتقد واحداً منهما. فإن كان مطلوبه منا اعتقاد قول

النفاة وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه وأنه ليس فوق السموات رب ولا على

العرش إله، وأن محمداً لم يُعرج به إلى الله وإنما عُرج به إلى السموات فقط لا إلى

الله، فإن الملائكة لا تعرج إلى الله بل إلى ملكوته، وأن الله لا ينزل منه شيء ولا

يصعد إليه شيئًا، وأمثال ذلك وإن كانوا يعبرون عن ذلك بعبارات مبتدعه فيها

إجمال وإبهام كقولهم: ليس بمتحيز ولا جسم ولا جوهر ولا هو في جهة ولا مكان،

وأمثال هذه العبارات التي تفهم منها العامة تنزيه الرب تعالى عن النقائض،

ومقصدهم أنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش إله يعبد، ولا عرج

بالرسول إلى الله وإنما المقصود أنه إن كان الذي يحبه الله لنا أن نعتقد هذا النفي

فالصحابة والتابعون أفضل منا، فقد كانوا يعتقدون هذا النفي والرسول صلى الله

عليه وسلم كان يعتقده، وإذا كان الله ورسوله يرضاه لنا، وهو إما واجب علينا أو

مستحب لنا فلابد أن يأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو واجب علينا،

ويدنينا إلى ما هو مستحب لنا، ولابد أن يظهر عنه وعن المؤمنين ما فيه إثبات

لمحبوب الله ومرضاته، وما يقرب إليه لاسيما مع قوله عز وجل {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ

لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (المائدة: 3) لا سيما والجهمية تجعل هذا

أصل الدين، وهو عندهم التوحيد الذي لا يخالفه إلا شقي، فكيف لا يعلِّم الرسول

صلى الله عليه وسلم أمته التوحيد؟ وكيف لا يكون التوحيد معروفًا عند

الصحابة والتابعين؟ والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم يسمون مذهب النفاة التوحيد

وقد سمى صاحب المرشدة أصحابه الموحدين إذ عندهم مذهب النفاة هو التوحيد،

وإذا كان كذلك كان من المعلوم أنه لابد أن يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم،

وقد علم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يتكلموا بمذهب

النفاة، فعلم أنه ليس بواجب ولا مستحب، بل عُلم أنه ليس من التوحيد الذي

شرعه الله تعالى لعباده.

وإن كان يحب منا مذهب الإثبات، وهو الذي أمرنا به فلا بد أيضًا أن يبين

ذلك لنا، ومعلوم أن في الكتاب والسنة من إثبات العلو والصفات أعظم مما فيهما من

إثبات الوضوء والتيمم والصيام وتحريم ذوات المحارم وخبيث المطاعم ونحو ذلك

من الشرائع. فعلى قول أهل الإثبات يكون الدين كاملاً، والرسول صلى الله عليه

وسلم مبلغًا مبينًا والتوحيد عند السلف مشهورًا معروفًا. والكتاب والسنة يصدق

بعضه بعضاً والسلف خير هذه الأمة وطريقهم أفضل الطرق، والقرآن كله حق

ليس فيه إضلال، ولا دل على كفر ومحال، بل هو الشفاء والهدى والنور. وهذه

كلها لوازم ملتزمة ونتائج مقبولة. فقولهم مؤتلف غير مختلف ومقبول غير مردود.

وإن كان الذي يحبه الله ألا نثبت ولا ننفي بل نبقى في الجهل البسيط وفي

ظلمات بعضها فوق بعض لا نفرق الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال ولا

الصدق من الكذب بل نقف بين المثبتة والنفاة موقف الشاكّين الحيارى {مُذَبْذَبِينَ

بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلاءِ} (النساء: 143) لا مصدقين ولا مكذبين -

لزم من ذلك أن يكون الله يحب منا عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه

وسلم، وعدم العلم بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الصفات التامات، وعدم العلم

بالحق من الباطل، ويحب منا الحيرة والشك.

ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل ولا الشك ولا الحيرة ولا الضلال وإنما

يحب الدين والعلم واليقين. وقد ذم الحيرة بقوله تعالى {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا

لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي

الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى

وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنعام: 71-72) وقد أمرنا الله تعالى أن نقول {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ *

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) .

وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه

وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عالم

الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختُلف فيه

من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) فهو يسأل ربه أن يهديه لما

اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عدم الهدى في مسائل الخلاف؟ وقد

قال الله له: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114) وما يذكره بعض الناس عنه

أنه قال: (زدني فيك تحيرًا) كذب باتفاق أهل العلم بحديثه، بل هذا سؤال من هو

حائر وقد سأل المزيد من الحيرة، ولا يجوز لأحد أن يسأل ويدعو بمزيد الحيرة إذا

كان حائراً بل يسأل الهدى والعلم، فكيف بمن هو هادي الخلق من الضلال وإنما

ينقل هذا عن بعض الشيوخ الذين لا يقتدي بهم في مثل هذا إن صح النقل عنه فهذا

يلزم عليه أمور.

(أحدها) أن من قال هذا فعليه أن ينكر على النفاة، فإنهم ابتدعوا ألفاظًا

ومعاني لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة. وأما المثبتة إذا اقتصروا على

النصوص فليس له الإنكار عليهم - وهؤلاء الواقفة هم في الباطن يوافقون النفاة أو

يقرونهم، وإنما يعارضون المثبتة فعلم أنهم أقروا أهل البدعة، وعادوا أهل السنة.

(الثاني) أن يقال: عدم العلم بمعاني القرآن والحديث ليس مما يحب الله

ورسوله فهذا القول باطل.

(الثالث) أن يقال الشك والحيرة ليست محمودة في نفسها باتفاق المسلمين

غاية ما في الباب، إن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات يسكت.

فأما من علم الحق بدليله الموافق لبيان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم

فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على العالم الجازم المستبصر المتبع المرسول

للعالم بالمنقول والمنقول.

(الرابع) أن يقال السلف كلهم أنكروا على الجهمية النفاة وقالوا بالإثبات

وأفصحوا به، وكلامهم في الإثبات والإنكار على النفاة أكثر من أن يمكن إثباته في

هذا المكان، وكلام الأئمة المشاهير مثل مالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة

وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح

والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيدة وأئمة أصحاب مالك

وأبي حنيفة والشافعي وأحمد موجود كثير لايحصيه أحد.

وجواب مالك في ذلك صريح في الإثبات فإن السائل قال له: يا أبا عبد الله

{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) كيف استوى؟ فقال مالك:

الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وفي لفظ: استواؤه معلوم أو معقول، والكيف

غير معقول والإيمان به واجب، السؤال عنه بدعه. فقد أخبر رضي الله عنه بأن

نفس الاستواء معلوم وأن كيفية الاستواء مجهولة، وهذا بعينه قول أهل

الإثبات.

وأما النفاة فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته بل عند هذا القائل الشاك وأمثاله

أن الاستواء مجهول غير معلوم. وإن كان الاستواء مجهولاً لم يحتج أن يقال: الكيف

مجهول لا سيما إذا كان الاستواء منفيًا فالمنفي المعدوم لا كيفية له حتى يقال: هي

مجهولة أو معلومة، وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء، وأنه معلوم وأن له كيفية

لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن. ولهذا بدع السائل الذي سأله عن هذه

الكيفية، فإن السؤال إنما يكون عن أمر معلوم لنا، ونحن لا نعلم كيفية استوائه،

وليس كل ما كان معلومًا وله كيفية تكون تلك الكيفية معلومة لنا. يبين ذلك أن

المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال: الله في السماء وعلمه في كل مكان

حتى ذكر ذلك مكي في كتاب التفسير الذي جمعه من كلام مالك ونقله أبو عمر

والطلمنكي وأبو عمر بن عبد البر وابن أبي زيد في المختصر وغير واحد ولو كان

مالك من الواقفة أو النفاة لم ينقل هذا الإثبات.

والقول الذي قاله مالك قاله قبله ربيعة بن عبد الرحمن شيخه كما رواه عنه

سفيان بن عيينة وقال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشوني كلاماً طويلاً

يقرر مذهب الإثبات ويرد على النفاة وقد ذكرناه في غير هذا الموضع.

وكلام المالكية في ذم الجهمية النفاة مشهور في كتبهم، وكلام أئمة المالكية

وقدمائهم في الإثبات كثير مشهور، لأن علماءهم حكموا إجماع أهل السنة والجماعة

على أن الله بذاته فوق عرشه. وابن أبي زيد إنما ذكر ما ذكره سائر أئمة السنة ولم

يكن من أئمة المالكية من خالف ابن أبي زيد في هذا وهو إنما ذكر هذا في مقدمة

الرسالة لتُلَقَّن لجميع المسلمين لأنه عند أئمة السنة من الاعتقادات التي يلقنها كل أحد.

ولم يرد على ابن أبي زيد في هذا إلا من كان من أتباع الجهمية النفاة لم يعتمد من

خالفه على أنه بدعة ولا أنه مخالف للكتاب والسنة، ولكن زعم من خالف ابن أبي زيد

وأمثاله إنما خالفه مخالف للعقل [1] وقالوا: إن ابن أبي زيد لم يكن يحسن الكلام

الذي يعرف فيه ما يجوز على الله وما لا يجوز. والذين أنكروا على ابن أبي زيد

وأمثاله من المتأخرين تلقوا هذا الإنكار عن متأخري الأشعرية كأبي المعالي وأتباعه

وهؤلاء تلقوا هذا الإنكار عن الأصول التي شركوا فيها المعتزلة ونحوهم

من الجهمية، فالجهمية من المعتزلة وغيرهم هم أصل هذا الإنكار.

وسلف الأمة وأئمتها متفقون على الإثبات، رادّون على الواقفة والنفاة، مثل

ما رواه البيهقي وغيره عن الأوزاعي قال: كنا - والتابعون متوافرون - نقول إن

الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.

وقال أبو مطيع البلخي في كتاب الفقه الأكبر: سألت أبا حنيفة عمن يقول لا

أعرف ربي في السماء أو في الأرض، قال: كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى

العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وعرشه فوق سبع سمواته، فقلت إنه يقول على

العرش ولكن لا أدرى العرش في السماء أو في الأرض، فقال إنه إذا أنكر أنه في

السماء كفر، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يُدعى من أعلى لا من أسفل.

قال عبد الله بن نافع كان مالك بن أنس يقول: الله في السماء وعلمه كل مكان.

وقال معدان: سألت سفيان الثوري عن قوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد: 4) قال علمه. وقال حماد بن زيد فيما ثبت عنه من غير وجه رواه

ابن أبي حاتم والبخاري وعبد الله بن أحمد وغيرهم. إنما يدور كلام الجهمية

على أن يقولوا ليس في السماء شيء. وقال علي بن الحسن بن شقيق قلت لعبد الله بن

المبارك بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه. قلت

بحد؟ قال: بحد لا يعلمه غيره، وهذا مشهور عن ابن المبارك ثابت عنه من غيره

وجه، وهو نظر صحيح ثابت عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغير

واحد من الأئمة. وقال رجل لعبد الله بن المبارك يا أبا عبد الرحمن قد خفت

الله من كثرة ما أدعو على الجهمية. قال لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في

السماء ليس بشيء. وقال جرير بن عبد الحميد: كلام الجمهية أوله شهد وآخره

سُمّ، وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله.

رواه ابن أبي حاتم ورواه هو وغيره بأسانيد ثابته عن عبد الرحمن بن مهدي

قال: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الله كلم موسى بن عمران، وأن يكون

على العرش، أرى أن يُستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. وقال يزيد بن

هارون: من زعم أن الله على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو

جهمي. وقال سعيد بن عامر الضبعي - وذكر عنده الجهمية فقال - هم شر قول

من اليهود والنصارى، قد أجمع أهل الأديان مع المسلمين أن الله على العرش،

وقالوا هم: ليس عليه شيء. وقال عباد بن العوام الواسطي: كلمت بشرًا

المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا ليس في السماء شيء،

أرى أن لا يناكحوا ولا يوارثوا. وهذا كثير من كلامهم.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كذا في الأصل وفي هامشه الظاهر: إنما خالفه لمخالفته العقل.

ص: 39

الكاتب: مهاتما غاندي

‌الصحة

تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتماغاندي

ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي

الباب الرابع

الماء

الماء يلي الهواء في المكانة والمنفعة. فالإنسان يستطيع أن يعيش بدونه

بضعة أيام. ولا بد له منه على كل حال. ويمكنه أن يعيش بدون غذاء مدة أكثر من

المدة التي يستطيع أن يعيشها بدون الماء. إن نسبة الماء إلى غيره في أغذيتنا أكثر

من 70 في المائة، وهو يوجد بمثل هذا المقدار في الجسم الإنساني، وإذا حرم منه

ينقص ثقله كثيرًا.

ولكنا مع شدة حاجتنا إلى الماء قلما نبالي بالمحافظة على نقائه ونظافته، إن

الطاعون والهيضة وغيرهما من الأوبئة الجارفة تنشأ من فساد الهواء والماء، وكذلك

يتولد مرض الحصاة (النواة) في المثانة من شرب الماء القذر.

يفسد الماء بسببين: فهو إما أن يكون في مكان مفسد له، وإما أن نفسده نحن

بأنفسنا. فأما الماء المجتمع في المكان القذر فيجب الحذر من شربه، ونحن نحترز

منه فعلاً، ولكننا لا نشمئز من شرب الماء الذي أفسدناه نحن بأيدينا.

فماء الأنهار الذي يعد أصلح المياه للشرب نفسده بإلقاء أنواع الأقذار فيه،

وكذلك نغتسل ونغسل الأثواب الوسخة فيه. يجب أن نحذر كل الحذر من شرب

الماء الذي يغتسل فيه الناس. ويجب أن نخصص الجهة العليا من النهر للشرب

وحده، ونترك الجهة السفلى للاغتسال وغسل الأشياء الوسخة. أما البلاد التي لا

يتبع فيها هذا النظام فقد تعود كثير من الناس هناك عادة حسنة وهي أنهم يحفرون

حفرة في الرمل على طرف النهر ويأخذون منها الماء لشربهم، وهذا الماء يكون

نظيفًا جدًّا، لأنه يصفو وينظف برشحه من غربال (مصفاة) الرمل.

إن شرب ماء الآبار يحدث ضررًا كبيرًا إذا لم تكن البئر مبنية بناءً محكمًا.

فتقاطر الماء الوسخ من فوقه، وسقوط الطيور والهوام وتعفنها فيه، واتخاذ الطيور

أوكارها في داخله، كل ذلك يفسد ماءه. وكذلك قد تتسرب إليه الوساخات

والرطوبات من باطن الأرض فتفسده وتجعله غير صالح للشرب، يجب علينا أن

نحترس كثيراً في شرب ماء الآبار.

وكذلك خزن الماء في الأحواض الوسخة المكشوفة تفسده، فللمحافظة على

نقائه يجب تنظيف الأحواض حيناً بعد حين وتغطيتها، ويجب أن نراعي ونلاحظ

الأحواض والآبار، هل هي في حالة حسنة أم لا؟ ومن المؤسفات أن قليلاً من الناس

يراعي طهارة الماء مراعاة تامة.

وأحسن طريقة لإزالة كل ما يطرأ على الماء من الفساد هي أن يُغلى جيدًا

ويصفى بعد برده في قماش سميك نظيف إلى إناء آخر بكل احتياط. لا تنتهي

وظيفتنا عند هذا الحد، بل علينا واجب آخر أكبر من هذا الواجب وهو أن نراعي

صحة أبناء جنسنا أيضًا، فتتجنب كل ما من شأنه إفساد الماء الذي يشربه الناس

بنحو الاغتسال أو غسل الملابس في موارد العامة للشرب خاصة، أو قضاء الحاجة

والبول على شواطئ الأنهار، وكذلك إحراق الموتى هنالك وإلقاء رمادها في

الماء [1] .

مهما يفعل من العناية والاحتياط فإن المحافظة التامة على طهارة الماء في

غاية العسر لأنه قد يذوب فيه الملح أو يسقط الحشيش وغيره من الأشياء التي إذا

بقيت في الماء تعفنت وأفسدته. إن ماء المطر أطهر المياه وأنظفها بلا ريب.

ولكنه أيضاً يفسد في أكثر الأحيان قبل وصوله إلينا لاختلاطه بالذرات الموجودة في

الفضاء. إن الماء النقي له تأثير حسن جدًا في الجسم، ولذلك يهيىء الأطباء الماء

المقطر لمرضاهم. فالذين يشكون الإمساك أكثرهم يشفون بشرب الماء المقطر. لقد

جاء في كتاب حديث في (الماء المقطر وطرق استعماله) أن جميع الأمراض يمكن

معالجتها بشرب الماء المقطر بطريقة مخصوصة. نعم، إن هذا القول لا يخلو من

المبالغة، ولكن مما لا ريب فيه أن الماء الطاهر من جميع المفسدات يؤثر تأثيراً

عظيماً جدًّا في الجسم.

لا يعرف كثير من الناس أن الماء على نوعين: خفيف وثقيل. فالماء الثقيل

هو الذي قد امتزجت فيه بعض الأملاح! ولذلك لا يرغو فيه الصابون كثيرًا، ولا

ينضج معه الطعام بسهولة، ويكون طعمه مالحًا، وطعم الماء الخفيف حلو عذب،

أو على الأقل بدون طعم. ويرى بعض الناس أن شرب الماء الثقيل أولى من شرب

الماء الخفيف. ولكن التجارب أثبتت أن الماء الثقيل يضعف قوة الهضم. ولذلك

يبدو لنا أن شرب الماء الخفيف بالجملة أحسن وأسلم. إن ماء المطر أصلح أنواع

المياه الخفيفة للشرب إذا سلم من الفساد. إن الماء الثقيل إذا أغلي جيداً وترك على

النار نحو نصف ساعة من الزمن يعود خفيفًا، ويصح شربه بعد تقطيره.

كثيرًا ما سئلت الأطباء هذا السؤال: متى ينبغي شرب الماء؟ وما مقدار ما

يشرب منه؟ والجواب الوحيد هو أنه لا ينبغي لإنسان أن يشرب الماء إلا إذا

عطش، ولا يشرب إلا المقدار الذي يزيل عطشه، ولا بأس من شربه أثناء الأكل

وبعده مباشرة. ولكن لا ينبغي إساغة اللقم به. إن بشاعة اللقمة واستعصاءها على

البلع، معناه أنها لم تمضغ جيدًا أو أن المعدة ليست في حاجة إليها.

لا ضرورة بل لا حاجة إلى شرب الماء في كل وقت، فإن في مواد غذائنا

مقدارًا كبيرًا من الماء كما تقدم، ونحن نزيده في أثناء الطبخ، فإذن لماذا نحن

نعطش؟ إن الذين لا يستعملون في أطعمتهم البهارات والتوابل والبصل وغيرها من

الأشياء التي توجب العطش الصناعي، قلَّما يحتاجون إلى شرب الماء، والذين

يعطشون كثيرًا لا بد أن يكونوا مصابين ببعض الأمراض.

قد نرغب في شرب الماء من أي نوع كان. وما ذلك إلا لأننا نرى بعض

الناس يفعلون ذلك بلا مبالاة فنقلدهم نحن أيضاً. لقد فصلنا جواب هذه المسألة في

باب الهواء.

إن في الدم نفسه قوة تقتل كثيرًا من الجراثيم السامة التي تدخل فيه، ولكن

يجب تنظيفه وإصلاحه مثل ما يصلح حد السيف بالشحذ كلما تثلم بالاستعمال، إذا

كنا نشرب الماء الفاسد فلا ينبغي أن نتعجب إن وجدنا دمنا قد تسمم على مر الأيام.

***

الباب الخامس

الغذاء

إن الماء والهواء والحبوب كل هذه الثلاثة داخله في غذائنا، ولكننا نعد

الحبوب وحدها هو الغذاء، مع أن الهواء هو أول غذاء لنا؛ لأننا لا يمكننا أن

نعيش بدونه، ثم يليه الماء الذي هو أهم من الحبوب. وقد أوجدته الطبيعة بكمية

كبيرة فنجده بسهولة خلافًا للحبوب التي هي في الدرجة الثالثة من غذائنا.

لا يمكن وضع القوانين المنضبطة بكل دقة في مسألة الغذاء. وأي نوع من

الغذاء ينبغي استعماله؟ كم يكون مقداره؟ وفي أي الأوقات؟ هذه المسألة قد اختلف

فيها الأطباء اختلافًا كبيرًا. إن عوائد الناس في البلاد المختلفة متباينة جدًّا، حتى

إن الغذاء الواحد قد يحدث تأثيرات مختلفة في فردين مختلفين. فعلى ذلك لا يمكن

تحديد الغذاء والبتّ في الأسئلة السابقة. فإنه يوجد على الكرة الأرضية قوم يأكلون

لحوم البشر، فلحم البشر غذاء لهم. وآخرون يقتاتون بالقاذورات فهي غذاء لهم.

ويعيش أقوام على اللبن فهو غذاء لهم، ويعيش غيرهم على الثمار فهي غذاء لهم.

ولكن مع تعذر تحديد الغذاء تحديدًا تامًّا يجب أن نتدبر في المسألة بكل اهتمام

لا حاجة إلى التذكير بأن الجسم لا بقاء له بدون الغذاء، ولذلك نركب الصعاب

ونتحمل المصائب في تحصيله. ثم إنه مما لا ريب فيه أن 99 في المائة من

الرجال والنساء يأكلون للذة البطن واللسان فقط، فهم لا يتوقفون أثناء الأكل للتأمل

في النتائج التي تتبعه بعد تناوله، ويشرب كثير من الناس المسهلات ويتعاطون

الحبوب الهاضمة ليتمكنوا من الإكثار من الأكل ثانية وكذلك يوجد أناس يشحنون

بطونهم فوق طاقتها ثم يستفرغون ما أكلوا ليتمكنوا من الأكل مثل المقدار الأول.

ومن الناس من يكثر من الأكل حتى لا يجوع أيامًا عديدة، وقد وجد أناس

ماتوا لأنهم أكلوا فوق طاقتهم، أقول: كل هذا على تجربتي الشخصية. وإني كلما

أتفكر في حياتي الماضية أضحك على كثير من أعمالي ولا أتمالك من الاستحياء من

بعضها. فقد كنت في تلك الأيام المظلمة أشرب الشاي صباحاً، ثم أتناول الفطور

بعده بساعتين أو ثلاث، ثم أتغذى الساعة الواحدة، ثم أشرب الشاي ثانية، ثم

أجلس للعشاء بين السادسة والسابعة، ولا تسأل عن تعاستي وسوء حالتي في تلك

الأيام فقد كانت تستدعي العطف والرحمة، فكان حشو جسمي الكثير من الشحم

وقوارير الأدوية لا تبرح يدي. وكنت أكثر من شرب المسهلات وأستعمل الأدوية

المقوية لأتمكن من الأكل الكثير، وأما قواي العقلية والجسدية فكانت في حالة يرثى

لها. فما كنت أملك ثلث نشاطي ومقدرتي على العمل التي أجدها الآن، مع أني

كنت إذ ذاك في عنفوان شبابي. لا ريب أن مثل هذه الحالة تعسة حقًّا، وإننا لو

نتدبر في الأمر بجد وتروِّ نجزم بأنها حالة رذلة آثمة مستحقة لكل مقت وتقبيح.

إن الإنسان لم يخلق للأكل ولا ينبغي له أن يعيش للأكل. إن وظيفته الحق

هي أن يعرف خالقه ويعبده حق عبادته وإنما الأكل لتقوية الجسم ليقوم بهذه العبادة

لا غير. حتى إن الملاحدة أيضاً يسلمون أننا لا نأكل إلا لحفظ الصحة وكل ما زاد

على ذلك فلا حاجة إليه مطلقًا.

انظر إلى الطيور والحيوانات تجد أنها لا تأكل لمجرد التمتع باللذة، فهي لا

تملأ بطونها ملأ ولا تقبل الأكل إلا إذا جاعت ولا تأكل إلا القدر الذي يزول به ألم

الجوع وتقتصر عليه، ثم هي لا تجاوز الغذاء الذي هيئته لها الطبيعة بأيديها فلا

تطبخ طعامها، ولا تغير طعمه بطرق صناعية. فهل يمكن يا ترى أن يكون

الإنسان وحده قد خلق ليعبد لذته؟ وهل يمكن أن يكون هو وحده قد قدر عليه الشقاء

بالأمراض دائمًا؟ إن الحيوانات التي تعيش وتحيا حياة حرة طبيعية لا يموت منها

أحد بسبب الجوع، ولا يوجد بينها التمييز بين الفقير والغني - بين الذين يأكلون

مرات عديدة في اليوم، والذين لا يجدون الطعام ولا مرة واحدة في يومهم - إن هذا

التفاوت والتمايز لا يوجد إلا في البشر وحدهم. ومع ذلك نحن نعد أنفسنا أفضل

وأعلى من الحيوانات! لا ريب أن الذين يقضون أعمارهم في عبادة بطونهم لأحطّ

من الطيور والبهائم!

إن التدبر العميق يثبت لنا أن جميع الذنوب مثل الكذب والغش والسرقة إنما

هي نتائج لازمة لعبوديتنا للذة، والذي يستطيع أن يملك زمام لذته يستطيع أن يملك

بسهولة مشاعره الأخرى. إن كنا نكذب أو نسرق أو نزني تسقط منزلتنا من أعين

المجتمع الإنساني. ولكن ما أعجب ما نرى من أن الناس لا يبدون أي اشمئزاز أو

تحقير لأولئك الذين يتدينون للذة بطونهم بلا خجل ولا استحياء كأن هذا الإثم لا

علاقة لها بالأخلاق مطلقًا! وما ذلك إلا لأن أحسن الناس وأكبرهم أيضًا يعبدون

لذاتهم.

إن جميع المتمدينين يجتنبون مصاحبة الكذابين واللصوص والزناة، ولكنهم

أنفسهم يأكلون فوق كل حد، ولا يعدون ذلك ذنباً أصلاً! إن الخضوع للذة لا يعد

فينا ذنباً لأننا جميعاً نرتكبه، كما أن اللصوصية لا تعد جناية في قرية اللصوص!

وأقبح من كل هذا أننا عوضًا من أن نستحي من هذه العادة نفتخر ونتباهى بها.

فترى عبادة اللذة في الأعراس والأفراح والأعياد كوظيفة مقدسة واجبة علينا،

حتى في المآتم لا نخجل من القيام بهذا العار الفظيع! وإذا جاءنا ضيف بادرنا إلى

شحن بطنه بالحلوى، وإذا لم نُقم لأصحابنا وأقاربنا المآدب أو لم نشترك في

ولائمهم ووضائمهم كل حين نبوء بسخطهم، ونكون عرضة لملامتهم، وإن دعونا

أصحابنا إلى مائدتنا، ثم قصرنا في شحن بطونهم بالأطعمة الثمينة فإننا بلا ريب

نعد من البخلاء! وأما أيام المواسم والأعياد فنرى إعداد الطعام اللذيذ الشهي فيها

واجبًا كبيرًا علينا. لا ريب أن القضية قد انعكست الآن فأصبح الإثم الكبير في

الحقيقة محمدة وحسنة في عرفنا. نحن قد زعمنا في مسألة الأكل مزاعم باطلة

وجعلناها حقائق، فهي التي لا تسمح لنا بأن نفهم عبوديتنا وبهيميتنا. كيف نخلص

أنفسنا من هذه الحالة المحزنة المقلقة؟ إني أخاف إن توغلت في الجواب أن

أخرج من موضوع الصحة، ولذلك أقف عند القول بأنه يجب على الأفراد وعلى

الجماعات سواء أن يقفوا جميعًا أمام هذه المسألة المهمة وقفة المتدبر، ويتأملوا فيها

من الوجهة الصحية فقط.

ولننظر في المسألة من وجهة أخرى: نحن نشاهد بأعيننا أمرًا واقعًا لا مُشَاحَّة

فيه، وهو أن الطبيعة قد هيئت بنفسها لجميع المخلوقات - سواء فيها الإنسان

والحيوان والطير والحشرات - غذاء وافرًا يكفي لحياتها وبقائها، هذه هي سنة

الطبيعة الأبدية، أن في مملكة الطبيعة لا يغفل أحد، ولا ينسى أحد وظيفته، ولا

يأخذه في أدائها كسل ولا ملل، إن الشغل كله يؤدي فيها بغاية الإتقان وفي الوقت

المحدد له بلا تأخير لمحة من البصر، إننا لو نسعى سعياً صحيحًا دائمًا في جعل

حياتنا مطابقة لسنن الطبيعة الأبدية الثابتة لرأينا بلا بشك أنه لا يوجد إنسان في هذه

المعمورة الواسعة يموت جوعًا، وذلك لأن الطبيعة تهيئ دائمًا غذاءً وافرًا يكفي

لتغذية جميع المخلوقات. ومن هنا نعلم أن الذي يأخذ من الغذاء أكثر من نصيبه

الاعتيادي، يحرم الآخر من سهمه الشرعي، أليس هذا الأمر واقعًا، أليست مطابخ

الملوك والأمراء والأغنياء عامة تعد من الأطعمة أضعاف حاجتهم وحاجة أتباعهم؟

هكذا هم يغتصبون غذاءً كثيرًا من نصيب الفقراء فهل يتعجب بعد هذا إن مات

بعض الفقراء جوعًا؟ إن كان هذا صحيحًا (وقد اعترف بهذا الأمر الواقع كثير من

المفكرين) فمعناه أن كل ما نأكله أكثر من حاجتنا الضرورية ليس إلا اختلاسًا من

بطون الفقراء، إن كل ما نأكله لمجرد الاستمتاع والالتذاذ لا بد من أن يهدد صحتنا

بالخطر.

بعد هذه التوطئة يمكننا أن نتدبر في الغذاء الأصلح للإنسان.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هو ما يفعله قوم المؤلف في الهند تعبدًا.

ص: 48

الكاتب: المغربي

‌حديث عن الجامعة الأحمدية

المشهورة - في بلادنا - باسم القاديانية [*]

تمهيد:

اتفق لي في السنة الأولى من سني الحرب العامة وأنا في القدس أن تعرفت

بشاب هندي اسمه (زين العابدين) من خيرة من عرفت من الشبان علماً وفضلاً،

وأدبًا وأخلاقًا، وحمية لدينه، ودفاعًا عن يقينه، وقد استحكمت بيني وبينه وشائج

الثقة. وكذلك كان شأنه مع كل من عرفه، ووقف على جميل سجاياه. وكان يقول:

إنه إنما جاء سورية لأجل درس اللغة العربية وتحصيل ملكة الكتابة فيها. وأن

جمعيته في الهند البالغ عددها خمسمائة ألف نفس هي التي أوفدته على نفقتها لهذا

الغرض. وأن الحرب قد حالت بينه وبين الرجوع إلى بلاده. ثم انقضت الحرب

فأوطن دمشق فنذرت به السلطة الإنكليزية فساقته إلى مصر وحاكمته بحجة أنه كان

يشغتل في أثناء الحرب ضد المصلحة البريطانية. ثم تبرأ وعاد إلى بلاده (بنجاب)

وجعل يكاتبني حتى زار دمشق في صيف سنة 1924 الميرزا بشير الدين زعيم

الفرقة الأحمدية الملقب بخليفة المسيح الموعود ومعه كتاب من الصديق (زين

العبادين) يخبرني فيه بقدوم الميرزا ويوصيني بحسن استقباله. ففهمت إذ ذاك أن

زين العابدين هو من أتباع مسيح البنجاب بل هو (الماكينة) المحركة في ذلك

الدولاب. كما فهمت أنه يتولى كتابة السر في المسيحية الموعودة ويقوم بشؤون

التربية والتعليم في تلك الجامعة الجديدة.

ثم كان من أمر (الميرزا بشير الدين) مع أهل دمشق وهياجهم عليه ما كان

فغادر الرجل دمشق إلى لندره لشهود مؤتمر الأديان العام فيها. وفي صيف السنة

التالية أي سنة 1925 جاء زين العابدين نفسه إلى دمشق، فرحبت به، ولم آل

جهداً في معاتبته، ثم لم يكن يضمني وإياه مجلس إلا جاء فيه ذكر فرقتهم، وغريب

دعوتهم، فكنا تارة نجادله، وطوراً نهازله، وآونة نعجب منه، وأحياناً ننافح عنه،

وشد ما تمنيت عليه أو تفرغ نحلتهم في قالب إصلاحي جدي، غير القالب الذي

أفرغوها فيه، فيكون لها من حسن الأثر في التربية العامة ما كان للطرائق

الصوفية الحكيمة، فكان تارة يصغي إلى قولي ويرتاح إليه، وطورًا يخالفني إلى

فكر يريغ مني الموافقة عليه.

أما القصد من مجيئه مع رفيق له من علماء فرقتهم إلى دمشق - فهو أنه يريد

إزالة سوء التفاهم الذي كان وقع بين أفاضلها وبين زعيم الفرقة الميرزا (بشير

الدين) ويكشف الغموض والإبهام عن بعض تعابير وأقوال كانوا يسمعونها منه

فيسيئون بها وبه الظن، مع أنها تنطبق - في زعمه - على تعاليم الإسلام

وتلتحم بنصوصه. وقد باشر (زين العابدين) بالفعل وظيفته هذه ونشر بهذا

المعنى مقالات في بعض الصحف، وناظر نفرًا من العلماء والشبان، وكتب رسالة

وطبعها في دمشق تتضمن بعض تلك المناظرات، ثم رأى أن يضع كتابًا آخر يكون

أغزر مادة، وأجمع للفائدة فألفه وسماه (حياة المسيح ووفاته) بلغ نحو (215)

صفحة وقد طبعه في دمشق ووزعه على أصدقائه ومعارفه، وأهدى منه إلى

بعض المشهورين من العلماء والصحافيين، وقد زارني في داري وقدم إليَّ نسخة

منه، وكلفني بلهجة الصديق المحب أن أكتب كلمة تنشر وتؤثر عنه، فكتبت هذه

الكلمة، وقد رأيتها خير كلمة تعبر عن الحقيقة، ويعاتب بها الصديق صديقه،

واخترت (مجلة المنار) لتنشر فيها، ويكون الصديق الأبرّ السيد رشيد حكمًا ومهيمنًا

عليها، وهذه هي الكلمة:

***

كتاب حياة المسيح

ووفاته

طالعت كتابك يا صديقي (زين العابدين) في موضوع (حياة المسيح وموته)

بعد أن كلفتني مطالعته وإبداء رأيي فيه، فها أنا ذا أذكر ذلك ما كان يجول في

نفسي وأنا أتصفحه، وقد أعرضت في كلمتي هذه عن الاستشهاد بالنصوص الدينية

وسرد ما قالوه في تأويلها، كما أنني لم أنازعك فيما ذكرت أنت وأولت من هذا

القبيل؛ لأنني صرت أعتقد أن إصلاح أمرنا والتوفيق بين فرقنا - معشر المسلمين -

عن طريق تلك النصوص وتأويلها أصبح عقيمًا لا يفيد. فأنا أرجح الإصلاح

والتوفيق من طريق (المحاكمات) العقلية والاجتماعية والتاريخية، ثم الاعتبار

بحوادث الزمان، والرجوع إلى نواميس العمران، فأقول:

إن صاحب دعوتكم (غلام أحمد) يذهب إلى أن السيد عيسى عليه السلام

أنزل عن الصليب وفيه رمق ثم تداوى وشفي وساح في الأرض حتى بلغ كشمير

ودفن ثمة، فليس هو الآن حيًّا في السماء بجسده كما يعتقد المسلمون والنصارى.

وبالضرورة أنه سوف لا ينزل من السماء في آخر الزمان وإنما يقوم من بين

المسلمين رجل على سمته وهديه فَيَلِمّ شعث الأمة الإسلامية ويجمع فرقتها بعد

الشتات، وقد ذهب (غلام أحمد) إلى أن هذا هو معنى ما ورد من نزول السيد عيسى

عليه السلام، ثم أولَ جميع النصوص وأرجعها إلى هذا المعنى.

قد يوجد في أحرار المسلمين المتعلمين اليوم من يقول بما قال به (غلام أحمد)

بشان موت المسيح موتًا حقيقيًّا، ويؤوّل الآثار الدالة على نزوله ولكن ليس قولهم

هذا من قبيل المتابعة لغلام أحمد ومذهبه المُوحى إليه به، وإنما هذه الموافقة له

جاءت من كون حياة عيسى وصعوده إلى السماء ثم نزوله في آخر الزمان هي

كسائر العقائد من نوعها التي اعتمد جمهور علمائنا رضي الله عنهم ظاهرها إيمانًا

بشمول القدرة الإلهية. وقد غلب هذا الاعتقاد فيما كان من هذا النوع من مسائل

الكلام، وشاع حتى دُوِّن في كتب العقائد الإسلامية، وإن كان يوجد في علماء الإسلام

المتقدمين من يذهب إلى غير ما عليه الجمهور فيؤول ظاهر الآيات ويرجعها إلى

معان توائم العقل، وتكون أظهر التحامًا مع النواميس الطبيعية وأمثله ذلك كثيرة منها:

(1)

الكوثر الذي أُعطي للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة: المشهور

أنه نهر جارٍ، وهناك من يعتقد أنه الخير الكثير.

(2)

مسخ الذين اعتدوا في السبت قردة: المشهور أنهم مسخوا حقيقة،

وهناك من يقول: إنه مسخ قلوب وأخلاق.

(3)

كرسي الله وعرشه: المشهور أنه جسم مادي في أعلى السماوات،

وهناك من يعتقد له معنى مجازيًّا كالعظمة والسلطة.

(4)

النفخ في الصور: المشهور أنه بوق حقيقي ينفخ فيه يوم القيامة،

وهناك من يعتقد أنه كناية عن إعلان الأمر وإشهاره.

(5)

وزن الأعمال يوم القيامة: المشهور أنه وزن حقيقي بميزان ذي لسان

وكِفتين، وهناك من يعتقد أن المراد بالوزن القضاء العادل، وقال الطبري: إنه قول

مجاهد.

إلى غير ذلك من المسائل، ومن جملتها مسألة حياة عيسى بجسده العنصري

في السماء ونزوله منها، وما دام ابن عباس يقول (كما في تفسير الطبري) : إن

المراد بقوله تعالى {مُتَوَفِّيكَ} (آل عمران: 55) مميتك، لا جرم أن يوجد في

المسلمين من يقول بموته اتباعًا لابن عباس لا اتباعًا لوحي (غلام أحمد) إذ إن

المسألة مسألة فهم في الدين؛ فهي لا تحتاج إلى عناء دعوى الوحي أو نزول ملك من

أجلها.

غير أن الواحد من هؤلاء المخالفين للجمهور لا يصرح بما يذهب إليه في

أمثال ما ذكرنا أمام الناس خشية تشنيعهم عليه، فهو يدع الناس في غفلاتهم ويعتقد

هو أمرًا إن كان يخالفهم فيه فربما كان موافقاً لبعض علماء السلف أو لعلماء

المعتزلة الذين هم من أهل قبلتنا، وليسوا بخارجين عن ملتنا.

أما حضرة (غلام أحمد) فقد وجد من بيئة الهند وعقلة سكانها ومن ذلك

الوسط المشبع بالحرية الفكرية التي أيدتها السلطة الإنكليزية - ما ساعده على الجهر

برأيه في موت المسيح، لا سيما أن (غلام أحمد) في صدد ادعاء الوحي لنفسه

وأنه هو المسيح الموعود ليتوصل بذلك إلى إفحام أعدائه المبشرين.

فعيسى إذًا ميت على ما يُفهم من قول ابن عباس، وهو ما استند عليه غلام

أحمد في دعوته، وربما ذهب مذهبه طائفة من أحرار علماء المسلمين المتقدمين

والمتأخرين كما قلنا.

أما أن عيسى كان موته قبل أن يُصلب أو وهو على الصليب أو أنزل عن

الصليب حيًّا ثم مات في فلسطين أو في الهند؟ وفي أي مكان دفن؟ فكل هذا لم

ينص عليه القرآن بصراحة، فيبقى بحثًا تاريخيًّا، ولكل إنسان أن يذهب فيه مذهبًا

يراه صوابًا حسب الأدلة التي تتوفر لديه ويقتنع بها.

بقي أن يقال: إن هناك آثارًا وأحاديث تدل على أن عيسى سوف ينزل (أي

يظهر) في آخر الزمان. فبالطبع تكون هذه الأحاديث مؤولة بأحد طرق التأويل عند

الطائفة التي تقول بموته، ومن هذه التآويل التي تتبادر إلى ذهن كل من له وقوف

على العلوم الإسلامية - التأويل الذي ذهب إليه (غلام أحمد) من ظهور رجل من

المسلمين في آخر الزمان يكون على سمت المسيح وهديه ، فينهض بالمسلمين بعد

خمولهم وذهاب ريحهم.

ولا ريب أن الأعلق بمصلحة المسلمين أن لا يقال: إن عيسى الذي سيظهر

في آخر الزمان هو شخص واحد يقوم في زمان واحد ومكان واحد ، بل القول

الصواب في ذلك ما قاله (غلام أحمد) نفسه ونقله عنه صديقنا زين العابدين في

كتاب (حياة المسيح ووفاته) صفحة 211 وهذا هو نص قوله بحرفه:

(وأنا كذلك لا أقول: إن مقام العيسوية ختم بي وانطوى ولا يأتي مسيح بعدي،

كلا بل إني لأؤمن وأقول مرة بعد أخرى إنه بالإمكان أن يجيء أكثر من عشرة

آلاف مسيح) .

وعلى هذا فالمسحاء الذين يظهرون في آخر الزمان لهداية الناس كثيرون في

اعتقاد (غلام أحمد) واعتقاده هذا يتفق مع مذهب أهل السنة من أنه تعالى (يبعث

على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) بناءً على أثر وارد في هذا

المعنى.

لكن غلام أحمد يتسامح فيسمي كل من يقوم في آخر الزمان للهداية العامة

(مسيحًا ومهديًّا) كما يسميه (مجددًا) أما أهل السنة فيسمونه (مجددًا) فقط

ويحتفظون بلقب عيسى والمهدي للمجدد الأخير. ويوشك أن نتفق ونجعل الخلاف

بيننا وبين (غلام أحمد) لفظياً لو لم نره يعود فيخالفنا ويزداد في التسامح والتساهل

فيسمى المجدد (نبيًّا ورسولاً) كما يسميه (مسيحًا ومهديًّا) ، إذ تكون دائرة التجديد

في العيسوية أوسع مما كنا نظن. فالآن وبعد الآن يقوم وسيقوم وسوف يقوم في

المسلمين (مجددون ومسحاء ومهديون ورسل وأنبياء) ألفاظ مختلفة والمعنى

واحد رجال من المسلمين يظهرون في أوقات متعددة وأمكنة متباينة لهداية

المسلمين.

في هذه الدائرة الواسعة وجد (غلام أحمد) لنفسه متبوءًا حسنًا فتبوأه، أعطى

نفسه كل هذه الحُلى والألقاب، فهو يسمي نفسه في كتبه (نبيًا ورسولاً) من دون

جمجمة ولا تقية. بل الأغرب أن صاحبنا (زين العابدين) لا يذكر اسمه إلا

مشفوعًا بالصلاة والسلام عليه، كما يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.

ويمكن أن يقال: ماذا يضركم التسامح في إطلاق الألفاظ؟ فإذا كان (غلام

أحمد) يطلق على كل مجدد يظهر في الإسلام اسم (نبي ورسول) كما يطلق عليه

اسم (مهدي) و (عيسى) فنسلم له هذه التسمية تفاديًا من النزاع حول الألفاظ.

وكل ما في الأمر أننا نسمي المجدد مجددًا فقط. وهو يتسامح كل التسامح، فيسميه

(نبيًّا ورسولاً) ويبني تسامحه هذا على التوسع في أصل المعنى اللغوي للنبوة

والرسالة.

فنقول في الجواب: نعم، ولكن (غلام أحمد) لا يكتفي بما مر، بل يعود

فيفرط إفراطًا آخر، ويزعم أن ذلك المجدد المهدي المسيح النبي الرسول - يتلقى

وحيًا من الله - وهو بالطبع يريد كل مجدد لا المجدد الذي قام بقاديان وحده. إذ لا

يتصور أن يبشر بالمجددين ويسميهم أنبياء ومرسلين. ثم يقول: إنهم لا يُوحى

إليهم، وإنما يوحي إليه وهو وحده خاصة.

وبعد جدال وحوار طويلين مع (غلام أحمد) في مفهوم معنى كلمة (الوحي)

الذي يكون لهؤلاء المجددين لغة واصطلاحًا - نعود ونقول له: سلمنا بما قلت ولكن:

(1)

هل هذا الوحي الذي تتلقاه أنت وزملاؤك يكون بتكليم ملك وبصوت

مسموع كما كان يوحى إلى الأنبياء المذكورين في القرآن، وخاصة محمدًا صلى الله

عليه وسلم؟ فإن قال (غلام أحمد) إن وحي هؤلاء المجددين المتأخرين ليس

بتكليم ملك، وإنما هو محض إلهام ومجرد شعور نفسي. نسلم له ونتفق معه أو

نكاد نتفق، وإن قال: إن وحينا نتلقاه بواسطة ملك وبصوت مسموع منه فنسأله؟ .

(2)

هل إن هذا الوحي (مطلقًا سواء ادعيته إلهامًا أو كلامًا مسموعًا) هو

وحي معصوم لا يتطرق إليه خطأ ولا وهم، أو أنه قد يخطئ، وقد يصيب؟ فإن

قال: إنه غير معصوم، قد يخطئ وقد يصيب، سلمنا ورضينا وقلنا: ها نحن قد

اتفقنا- أو كدنا -. وإن قال: إن وحيه ووحي إخوانه وحي معصوم لا يأتيه

الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذا قال ذلك نُبلت وننقطع عن الكلام، ثم نعود

ونتشدد ونسأله:

(3)

هل وَحْيكُم المعصوم هذا توجبون اتباعه على كل من يبلغه أمره، أو

أن المسلم في وسعه أن يتبعه، وفي وسعه أن يرفضه؟ فإن قال: في وسعه أن

يتبعه، وفي وسعه أن يرفضه، عاد إلينا الأمل بحسن التفاهم، وإن قال: بل يجب

على كل مسلم بلغه وحينا أن يؤمن به وإلا استحق عقابًا أخرويًّا. إذا قال ذلك يعود

اليأس فيخامرنا ونرى هُوة واسعة بيننا وبين الرجل، وبعد سكوت طويل وهجر

جميل، نرجع إلى (غلام أحمد) ثانية فنسأله سؤالاً قد يكون جوابه قد فهم مما سبق،

غير أننا نعود إليه زيادة في الاستيثاق والتثبيت.

(4)

هل تستبد أنت وتستعلي على سائر إخوانك المجددين، والأنبياء

المتأخرين، فتدعي أنك وحدك الذي يجب الإيمان به، واتباع وحيه، وأن الآخرين

لا يجب اتباعهم ولا الإيمان بهم؟ إن قال: نعم، أنا وحدي الذي يجب عليكم اتباعه،

ودعناه وانصرفنا بسلام. وإن قال: لا، بل عليكم أن تتبعوا جميع أولئك المسحاء

والمهديين المتأخرين.

إذا قال ذلك ختمنا الحديث معه، بقولنا: إن المجددين الذين اعترفت لهم

بمنصب التجديد (أو بمقام العيسوية كما هي عباراته) وقد ظهروا في عصور مختلفة

من تاريخ الإسلام لم نسمع أحدهم ادّعى بأنه يُوحى إليه وحيًا معصومًا، وأنه يجب

على الناس اتباعه، مع أنهم و (غلام أحمد) سواء في المرتبة والمقام، فلماذا هذا

(الامتياز) ؟ دعنا من المجددين المتقدمين، فإن (غلام أحمد) قد يقول: إن زمانهم

لم يكن آخر الزمان الذي يظهر فيه المسحاء المجددون حسبما يفهم

من الآثار الدينية، فلم يكن أولئك سوى مجددين وليسوا مسحاء موعودين.

أجل وماذا يقول في الزعماء الذين قاموا في هذه الأزمنة المتأخرة باسم الهداية

العامة، وقد استنار بهم واهتدى بهديهم خلق كثيرون كالشيخ محمد بن عبد

الوهاب المجدد في الجزيرة العربية، والسيد أحمد السنوسي وابنه المهدي [1]

المجددين في قارة أفريقيا والحرمين الشريفين، وكالسيد جمال الدين الأفغاني،

وتلميذه الأستاذ الإمام اللذين يعتقد مريدوهما أنهما مجددا هذا العصر وغير هؤلاء

ممن قام بإرشاد وهداية انتفع بها الكثيرون، ونرى أتباعهم يتفانون في حبهم،

والاعتراف ببلائهم، وحسن خدمتهم للإسلام، ويذهب كل منهم إلى أن

صاحبه هو المجدد الحقيقي المَعْنيّ فيما ورد من الآثار، نعم إن أحدًا من هؤلاء

المجددين المعاصرين لم يدع وحيًا ولا مهدوية ولا (مقام عيسوية) ولكن لو

فرضنا أن أحدهم ادعى هذه الدعوى، وأَيَّدَ دعواه بظهور أثر الإصلاح والخير

في أتباعه، وأن له كرامات يسردها له مريدوه (كما يفعل غلام أحمد وأتباعه) لو

ادعى ذلك فماذا نقول له؟ وهذا (غلام أحمد) نفسه قد بشر بهم إن لم يكن

بأعيانهم وأشخاصهم فبمنصبهم (ومقامهم العيسوي) ، ونحن الآن إنما نتكلم عن

طبيعة هذا (المقام العيسوي) الذي نحله (غلام أحمد) لنفسه ولغيره من المجددين

عفوًا.

لا جرم أن قيام غلام أحمد بهذه الدعوة، وما يتوقع من قيام غيره بمثل دعوته

يجعل الأمة الإسلامية ترتكس - وهي في القرن العشرين - في ظلمات أشبه

بظلمات القرون الوسطى. بينما نرى الأمم الأخرى تسبح من العلم في أنوار،

وتتحصن من العزة والقوة بأسوار.

تنهض الأمم الحية في هذا العصر بنبوغ الكثيرين من أبنائها نهضة عمادها

الأسباب المعهودة في النهضات التي يعبرون عنها بكلمة (رينسانس)

Renaissance وتاريخ هذه النهضات في كل أمة وتطوراتها، والعوامل المؤثرة

فيها، مما يدرس للطلاب في المدارس لتقتدي به الأمم المقصرة، والشعوب

المتأخرة، وقد استفاد من هذه القدوة عدد ليس بقليل من أمم الأرض في الشرق

والغرب، فهي تنهض نهضتها وتلم شعثها وتتبوأ مكانتها من طريق الإصلاح

السياسي والاجتماعي، ونحن وحدنا معشر المسلمين يحاول قوم منا النهوض إلى

مستوى تلك الأمم من طريق ملتوٍ وعر، من طريق روحاني سماوي، من طريق

تمشي فيه القهقرى، من طريق يؤدي بطبيعته إلى الخلاف والنزاع وتمزيق الشمل

والتفرقة بين لمسلمين.

هذه هي نتيجة دعوى المهدوية الروحانية في عصرنا الحاضر. ومن ينكرها

وهي بارزة للعيان، في كل زمان ومكان، ولا ينس القارئ، متمهدي السودان.

لماذا لا نصلح اجتماعنا من طريق العلم، وإصلاح الأخلاق، وتنوير الأفكار،

فتنهض الأمة نهضة مشتركة، كما نهضت حمامات كليلة ودمنة منذ تعاونت على

الشبكة؟ أليس هذا الطريق هو الأجدر بنا أن نسلكه بدل ذلك الطريق الملتوي الذي

يريد غلام (أحمد) سوق الناس فيه؟

إذا كانت هذه الدعوى (دعوى الإصلاح الروحاني) تليق بالقرون الماضية

بحسب السنن الإلهية في استصلاح أهل تلك القرون، أتراها تروج اليوم وقد

اختلفت العقول والأفكار، وتبدل كل شيء حتى كاد يتبدل الليل والنهار؟

الأمم تتقدم إلى الأمام في ثقافتها وعقليتها ونحن نرجع إلى الوراء مئات من

السنين، أليس السبيل المطروق الذي سارت فيه أمم العصر للوصول إلى غايتها من

العزة والمدنية - هو الإصلاح الداخلي وتقوية الوحدة الوطنية ونشر العلوم

الصحيحة المؤسسة على التجربة والامتحان، وتقويم التربيتين السياسية والعائلية؟

هذا هو الطريق الأقوم في إنهاض الأمم التي زالت عن أبصارها غشاوات

الوهم، أما تلك التي مازالت مرتكسة في مهامة الجهالة، فربما راجت لديها دعوى

الوحي والعصمة والاستمداد من عالم الغيب، بل يغلو دعاتها إلى أسمى مرتقى من

الدعاوي والمزاعم ، كدعوى البهائيين في زعيمهم الذي اخترعوا له اسم (بهيّ

الأبهى) وهي مرتبة ربما كانت فوق النبوة والرسالة.

إن الخلافة العظمى على خطورة أمرها بين عقائد الإسلام أصبحت الأمم

الإسلامية الناهضة، مما تأبى انتحاله خشية أن يسيطر عليها الأجنبي بواسطته،

فما بالك بدعوى المهدوية أو العيسوية التي هي من تقاليد الإسلام لا من عقائده؟

فإن السيطرة الأجنبية إذا تمكنت من قياد مدعيها أمكنها بسهولة أن تبسط سلطانها

على الطائفة التي تخضع له، وتؤمن به.

طرق النهضات العصرية التي أشرنا إليها آنفًا توحد بين أبناء الأمة بخلاف

التجديد من طريق دعوى المهدوية والوحي السماوي، فإنه أصبح يفرق شمل الأمة

التي تظهر فيها هذه الدعوى بحيث يجعل كل فرقة في حيز خاص بها، وبذلك

تستفيد الدولة المستعمرة التي تطمع أن يطول أمد استيلائها على تلك الأمة.

وما يدرينا أن تكون دعوى (غلام أحمد) مما يروق لحكام الهند البريطانيين

ويرونه مساعدًا على تفريق كلمة المسلمين وفصم عروة وحدتهم، فيؤدي ذلك

بالطبع إلى رسوخ قدمهم في البلاد، ودوام سيطرتهم عليها.

ومن لطيف المصادفات أننا قرأنا في الصحف ونحن نكتب هذا المقال خبر

ذلك الهندي الوثني الشاب (كريشنا مورتي) الذي ادعى أنه (المسيح المنتظر)

وقد روج دعواه هذه جماعة من الأوربيين والأميركيين وأنشأوا له معبدًا في

مدراس، وعقدوا له فيه مؤتمرًا عامًّا في شهر كانون الأول من سنة 1925 شهده

نحو عشرين ألفًا من الأوربيين والأمريكيين، وسيطوفون بمسيحهم هذا أقطار

الأرض مبشرين ومنذرين، فلعل السياسة الإنكليزية هي التي مهدت الطريق لظهور

هذا المسيح الجديد بين وثنيي الهند فتستفيد من ورائه تفتيت الكتلة الوثنية التي تعب

(غاندي) في تكوينها، كما أنها استفادت من ظهور (غلام أحمد) تمزيق الوحدة

الإسلامية التي تسعى الجمعيات لا سيما جمعية الخلافة في تكوينها.

هذا ما أردت أن أحدثك به يا صديقي (زين العابدين) ولو كنت من أولئك

الجهلة الجامدين والأغبياء الجلجلوتيين، لأعرضت عن خطابك، ولما أطلت

النفس في لومك وعتابك، ولكنك ذلك العالم الفطن المُتنور الذي لا ينسى أنه

عاهدني وعاهدته على خدمة القرآن ونصرة تعاليمه، وما عاهدته يعلم الله على

ذلك إلا وأنا أريد أن أخدم القرآن من طريقه المعهود، لا من طريق المسيح الموعود،

فحقق ظني أيها الأخ بك، ودع كلمتي هذه تتغلغل إلى موضع الإنصاف من نفسك

والسلام.

...

...

...

...

... دمشق

...

...

...

...

... المغربي

(المنار)

الحق أقول: إن الكاتب قد أطال النفس في لوم صديقة وعتابه كما قال، بل

كان شأنه معه في هذا المقال، كما كان شأنه معه في ذلك الحوار والجدال، الذي

وصفه بقوله: فكنا تارة نجادله، وطورًا نهازله، وآونة نعجب منه، وأحيانًا ننافح

عنه. وما حمله على ذلك فيما يظهر إلا ظنه أن صديقه زين العابدين مخلص في

دعواه أنه هو وأهل نحلته يريدون الإصلاح للمسلمين، وأنه يُرجى أن يرجع إلى

الحق إذا دُعِي إليه بالرفق واللين، وأقيم عليه ما لا يمارى فيه من الحجج

والبراهين، فإن صَدَقَ ظَنُّه اعترفنا بأننا كنا في سوء ظننا بجميع القاديانية من

المخطئين، وآمنا بأن أسلوب صديقنا (المغربي) أفضل أساليب المناظرين.

كان (غلام أحمد القادياني) يُهْدي إليَّ كتبه في حياته وكنت أردّ عليها،

وأظهر له وللناس بعض ما دونه من الجهل فيها، وقد ظننت أولاً أنه من أولئك

الممسوسين، الذين يتخيلون فيخالون، ويتمنون فيعتقدون، فيدعون المهدوية تارة

والنبوة أخرى ولا يخلو زمان منهم، وقد رأينا بعضهم وسمعنا أخبار بعض. وهم من

طبقات مختلفة في تربيتها ومعارفها وصفاتها. وربما كان (الباب) منهم لا البهاء

ولا ولده عباس ذو الكيد والدهاء، الذي لقب نفسه بعبد البهاء، ولولا أدب الشرع

لبالغت في التجوز فسميته خالق البهاء.

وقد ترجح عندي أن القادياني على هوسه وغروره دجال لم يكن يعتقد ما

ادعاه، وإنما قصارى هوسه أنه ظن أنه يمكنه أن يقنع كثيرًا من الناس بأن بعض

كلامه وحي من الله، وأنه بلغ حد الإعجاز. وقد كان يتعمد خدمه الإنكليز بما أشار

إليه الكاتب، وبزعمه أن فرضيه الجهاد قد نسخت على لسانه، بل كان يدعو إلى

الإخلاص في الخضوع للإنكليز والرضا بسلطانهم، فهو مفسد في الدين وفي

السياسة معًا. وله في إطراء الحكومة البريطانية والدعوة إلى إخلاص المسلمين لها

كلام كثير كله نفاق، ومنه زعمه أن ملكة الإنكليز تفضل الإسلام وترجحه وتساعد

على نشره، كما صرح به في كتابه (حمامة البشرى) وغيره.

ومن قرأ نظمه ونثره يعلم أنه كان قد عني أشد العناية بدراسة اللغة العربية

بنفسه ولم يتلقها عن جهابذة علماء فنونها وآدابها، وأنه سلك إليها المنهج اللاحب

ولكنه لم يصل إلى الغاية، وأنه حفظ المعلقات السبع وغيرها من أشعار العرب

الخُلَّص والمولدين، وحفظ مقامات الحريري كلها أو كثيرًا منها، وعُني بالنظم

والنثر، مع تكلف التزام السجع، ولما رأى أن النظم والنثر بالعربية دانا له وسهلا

عليه على قله من اشتهر بهما من علماء الهند وأدبائها الذين مارسوا علومها وفنونها

في المدارس سنين كثيرة - ظن لجهله بفساد ما ينظم وينثر أنه مؤيد بالإلهام، وبالغ

من الفصاحة والبلاغة حد الإعجاز، وإنه يمكنه أن يدعي الوحي ويتحدى علماء

الهند بما يكتبه، فادعى أنه هو المهدي المنتظر عند الشيعة والجماهير من سائر

المسلمين. وأنه هو المسيح الموعود الذي ينتظر المسلمون ظهوره أو نزوله قبيل

قيام الساعة، والذي ينتظره النصارى أيضًا وكذا اليهود، ومن أكبر معجزاته أن

القمر قد خسف تصديقًا له! !

ألف كتابًا سماه (إعجاز أحمدي) وله قصائد إعجازيه أيضًا وكلها من سخف

القول وسقطه، وقد رددنا عليها في عدة مجلدات من المنار في عهده ومن بعده،

وسنعود إلى نشر شيء منها ولا سيما نظمه الذي لا يستقيم له وزن ولا يلتزم فيه

إعراب وإننا نذكر الآن أننا لما رددنا عليه أول مرة كبر عليه الأمر فألف كتابًا في

الرد على (المنار) سماه (الهدى والتبصرة لمن يرى) هذى فيه هذيان

المصروعين، وتهافت تهافت المعتوهين، وتناقض تناقض المخبولين وتوعد توعد

القادرين، أو من له ميثاق بالنصر المبين، من رب العالمين.

قال في (ص 8، 9) بعد أن ذكر إرساله كتاب الإعجاز إليَّ:

(ثم لما بلغ كتابي صاحب المنار، وبلغه معه بعض المكاتيب للاستفسار عما

اجتنى من ثمرة ذلك الكلام، وما انتفع بمعرفة من معارفه العظام، ومال إلى الكلم

والإيذاء بالأقلام، كما هو عادة الحاسدين والمستكبرين من الأنام، وطفق يؤذي

ويزوي غير وانٍ في الإزراء والالتطام، ولا لاوٍ إلى الكرم والإكرام، كما هو سيرة

الكرام، وعمد إلى أن يؤلمني ويفضحني في أعين العوام كالأنعام، فسقط من المنار

المنيع وألقى وجوده في الآلام، ووطئني كالحصى، واستوقد نار الفتن وحضى،

وقال ما قال وما أمعن كأولي النهي، وأخلد إلى الأرض وما استشرف كأهل التُّقى،

وخر بعد ماعلا، وإن الخرور شيء عظيم فما بال الذي من المنار هوى، وأشترى

الضلالة، وما اهتدى، أم له في البراعة يد طولى، سيهزم فلا يرى، نباء من الله

الذي يعلم السر وأخفى) .

فقوله: (وخر بعد ما علا - إلى قوله - سيهزم فلا يرى) وعيد لصاحب المنار

بانتقام من الله تعالى لا يبقي له في الوجود عينًا ولا أثرًا، وأن الله تعالى هو الذي

أنبأه بذلك فيما يوحيه إليه، فهو لا شك ولا مراء فيه! !

ولكن نعم الله الظاهرة والباطنة ما زالت تتوالى على صاحب المنار، وإن هذا

الدجال هو الذي انهزم وزال من الوجود، ولم تقر عينه ولا نعم سمعه بمكروه

أصاب صاحب المنار، ولما مات كتبت مذكرًا بهذا الوعيد، وقلت: لو أنني أصبت

في عهده بسوء ولو مما يصاب به كل الناس لعدة معجزة له أكبر من خسوف القمر،

وأشد بهاءًا من نوره إذا انجلى وأسفر، ولكن أتباعه يملأون مواضغهم وصحفهم

وكتبهم تنويهًا بهذه المعجزة!

فعلينا نحن أن نستدل بما ذكر من خذلان له، وتكذيب ما ادعى أنه نبأ منه،

على كذبه في دعواه الوحي والمسيحية، وهذه الدلالة أقوى من تلك لو وقعت الشبهة

لأن المصائب تقع على جميع الناس، وأقوال الدجالين لا تمنع وقوع ما سبقت به

الأقدار، ولكن تخلف الوحي الإلهي الذي يؤيد الله به أنبياءه ورسله محال، ولو

كان جائزًا لما قامت حجة الله على خلقه بإرسالهم {قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ

لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) للأستاذ الكاتب الشهير صاحب الإمضاء.

(1)

السنوسي الكبير والد المهدي اسمه محمد علي لا أحمد.

ص: 55

الكاتب: عبد الرحيم مصطفى قليلات

‌سوانح وبوارح [*]

حضارة الإسلام

لا تعد بي إلى ربوع الخيام

بل أنِخْها عند القصور الفخام

عند صرح الحمرا وفسطاط مصر

عند نادي الفيحا ودار السلام

وقفة يا مطي قرب ثراها

لأحيي عظام أهل عظام

لأحيي الأرواح والعهد قد حـ

ـلّ مداه عناصر الأجسام

نحن منهم وسوف تجمعنا في

ساحة الموت جامعات الرّغام

ما شذذنا بالخلق عنهم ولكن

بشذوذ الأخلاق والأفهام

هم أباحوا ولوج باب اجتهاد

هو نبراس دين خير الأنام

كان نور الهدى لكل إمام

سار بالقوم في طريق الأمام

فانبرينا نقضي على ذلك الفضـ

ـل بأحمى سهم وأردى حسام

سهم حب الأفحام عن قول حق

وحسام الإبهام والإيهام

وسددنا الأبواب في كل وجه

غير وجه التقليد والإلهام

فالمنايا نصيب كل اجتهاد

والأماني تئن تحت الرّجام

والبلايا لناهض والرزايا

لفهيم والويل للمقدام

والعطايا لجامد والتحايا

لخمول والخير للمتعامي

آه واحسرة السلام على ما

مضى من حضارة الإسلام

ذهب الراشدون والشرع باك

لذهاب الأئمة الأعلام

وتولى على الجديدين عهد

حال دون الإحكام في الأحكام

فبدا الدين كالعروس بأهدا

ـم ولا بزة ولا هندام

وتبدّت للشامتين ثغور

باسمات باللوم والإيلام

أيها اللائمون مهلاً وعدلاً

نحن لا الدين باب هذا الملام

نحن لا الدين ـ وهو بدر تمام

سر هذا الإعتام والإظلام

قد تعاف الأنعام سوقًا وإنا

بعمانا نساق كالأنعام

وتعاف الأرسان هذي ونرضى

بخطام الشقا وذل اللجام

حسبنا عار ما جرى من خلاف

حسبنا عيب ما مضى من خصام

لا صديق للخلق يا خلق إلا

صادق القول صادق الأحلام

فأصيخوا وليت لي من أداة

غير هذي الطروس والأقلام

أجمود وقد قضت شرعة الدهـ

ـر على الجامدين بالإعدام

نقض هذي الأحكام حان فهيا

نتهيَّا للنقض والإبرام

بالتآخي نحيا وبالودّ نهنا

وننال المرام بعد المرام

إن في الدين فسحة هكذا

قال نبي الأعراب والأعجام

يسروا لا تعسروا كلُّ يسر

هو للصالحات أقوى قوام

بشروا لا تنفروا فلقول الـ

ـعرف فعلٌ يُزري بفعل المدام

واعملوا مثلما الفرنج بجدٍ

وثبات وهمة واهتمام

راقبوهم وراقبوا كيف سادوا

باحتمال الصعاب والإقدام

وافهموا كيف أنهم آخذونا

بسنام ومقود وزمام

أسمَعوا الكائناتِ شرقًا وغربًا

واستمعنا للهو والأنغام

أظهروا المعجزات برًّا وبحرًا

وظهرنا بالعجز والانقسام

سَبَحوا في الفضاء طولاً وعرضًا

وسبحنا في عالم الأوهام

بضليع التحصيل سادوا وسدنا

قبل فك الحروف والأرقام

هم لأوطانهم غيوث ولسنا

في سماء الأوطان غير جهام

كرم الدين بالتساهل فيه

والمداراة مصدر الإكرام

والتآخي مقام كل مقال

والتراضي مقال كل مقام

فخذوا شارة السماح شعارًا

إنما السمح زينة الأقوام

واكتساب القلوب باللين شرط

في مجاراة حكمة الأيام

لا تحلوا الحرام، لا بارك الله

بمن يستحل أي حرام

ما بأسيافنا القصار الدوامي

قد غدا مجدنا طويل الدوام

بل بعدل وحكمة واتحاد

واقتصاد وألفة ووئام

وصلاة طهورة الوِرد تنهى

عن شرور الفحشاء والآثام

هي للعبد صحة ونشاط

وهي لله طاعة باحترام

وصيام اللسان والقلب والجوف

عفافًا وفهم سر الصيام

فلئن لم نصم عن الشر قطعًا

غير مُجد صيامنا عن طعام

وزكاة تأتي على عوز المسكين

فينا وشقوة الأيتام

لو درى الاشتراك ما في جداها

من جزيل الإحسان والإنعام

وبنوالبلشفيك لو عرفوا ما

للصعاليك من زكاة العام

لرموا بالنظام واتخذوها

لحياة الرفاق خير نظام

أين أعياننا الكرام وأين

البر منهم وأين جود الكرام

أين أهل السخا ومن هو فيهم

دافع الفقر والطوى والأوام

أين أهل الحجى ومن هو منهم

ناصر الحق رافع الآلام

قيدوا سعينا وناموا ولا من

حسنات لهم سوى في المنام

وإذا حاول الفكاك حميم

هدَّدوه وصحبه بالحمام

ورموه بالكفر آنًا وبالإلحاد

حينًا، وتارة بالذام

ولو أن الطبيب أغضى لقالوا

فيه مس الشيطان والسر سام

راقب الله يا موارب واعلم

أن علم القلوب للعلام

أنا أشكو سقمي إلى الله لكن

أنت والله أصل هذا السقام

ما هيامي إلا بربي وقومي

ولساني أفخر به من هيام

أمتي، ملتي، بلادي وضادي

هن قصدي وقصد كل همام

كنت عبد الرحيم قبل غرامي

وأنا اليوم عبد هذا الغرام

أنا عند الأنساب ذاك العظاميّ

وعند الألقاب ذاك العصامي

حسنيّ الصفات جَدًّا وجِدًّا

عربي الأخوال والأعمام

ليس لي في البلاد خصم وأخصا

ـم بلادي دون الورى أخصامي

ليس لي في القضاء حكم ولا لي

أي رأي في قصة الإدغام

ولإدغام آل عيسى بآل الـ

... ـمصطفى كل خاطري وذمامي

إن في ذا السبل سهل مسيري

إن في ذا الحديث حلو كلامي

إن في ذا التمام خير تمام

إن في ذا الختام حسن الختام

فسلام على الشفيعين مني

وسلام على محب السلام

_________

(*) من نظم الأديب البيروتي المشهور السيد عبد الرحيم مصطفى قليلات.

ص: 68

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتنة ملاحدة الترك في سورية ومصر

{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} (النساء:89)

يود ملاحدة الكماليين من الترك لو يقتدي بهم مسلمو العرب في العراق

وسورية ومصر، ومسلمو العجم من سائر الترك والتتار والأفغان والفرس،

فيتركون الإسلام مثلهم، ويجعلونهم أئمة في اللادينية لهم، ويظن أولئك الملاحدة

أنهم ينالون بكفرهم من الزعامة في الشرق ما لم تنل مثله الدولة العثمانية بإسلامها

التي يحتقرونها لأجله، ويحاولون إخفاء ذكرها وذكره وتشويه تاريخها وتاريخه،

وهم يبثون الدعوة إلى الإلحاد، ويجرءون الزنادقة والمرتابين على ترك الإسلام

واحتقار تشريعه وآدابه، ولبس قلانس الإفرنج (البرانيط) لأنها الزي العام لهم،

والمميزة بين المسلمين وبينهم، ولأنها مانعة من سجود لابسها في الصلاة.

وقد علمنا والأسف والعجب يملأ القلب أن بعض السوريين والمصريين الذين

لا يزالون يحتقرون أنفسهم ويفضلون الترك على قومهم، يميلون إلى تقليدهم في

ذلك؛ لأنهم مثلهم في الكفر والتعطيل وعدم الشعور بالرابطة الدينية، ودونهم في

النعرة القومية والعصبية الجنسية، ولو كان لهم كرامة دينية أو قومية لشعروا

بكليهما أو بكل منهما أنهم أشرف من الترك وأولى بأن يكونوا قدوة لهم، فهم

أكرم عنصرًا وأجل أثرًا في الدين والحضارة سواء كانوا من العرب أو من قدماء

المصريين.

على أن هؤلاء الملاحدة قلما يثبت لهم نسب صحيح في الشعب التركي الذي

صار عريقًا في الإسلام، بل هم أو شاب منهم الروسي والرومي والبلقاني

واليهودي الأصل، وقد سلطوا على إفساد هذا الشعب بدعاية العصبية الجنسية،

ومحاولة جعله كأرقى الشعوب الأوربية علمًا وحضارة بقوتهم العسكرية،

وترجمتهم للقوانين الأوربية ولبسهم البرنيطة الإفرنجية، وهذا جهل فاضح وخبث

واضح. فإن أحوال الأمم وأطوارها لا تتبدل بتقليد غيرها في قوانينه

وأزيائه، مع مخالفته لها في تاريخه وتربيته وعقائده، كما هو معلوم عند علماء

الاجتماع.

وقد روى لنا الثقات الخبيرون منا ومن الأوربيين أن السواد من الترك

يمقتون هؤلاء الكماليين، أشد مما كانوا يمقتون إخوانهم الاتحاديين، وأنهم

يتربصون بهم الدوائر، بل أكد لنا بعض الذين عاشوا في الآستانة أو الأناضول

عدة سنين أن جمهور الشعب التركي كان يتمنى -منذ خرج الشريف حسين على

الدولة- لو تجددت للعرب دولة تنقذهم من الكفر وتستولي على بلادهم، بل

قالوا: إنهم صاروا يفضلون أية دولة أوربية على حكومتهم المعاصرة.

أفليس من العجب أن يكون هذا شعور الترك في وطنهم، ثم يوجد في سورية

من يمتهن نفسه بتقليد ملاحدة الكماليين، ويطب التجنس بجنسيتهم الجديدة المذبذبة

التي لا ثبات لها ولا استقرار، ويتخلى لأجلها عن دين القرآن وهداية الإسلام،

وأشرف لغات الأنام؟ ؟ {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة:

61) {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ

إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) .

***

(آراء الإنجليز في العالم الإسلامي)

جاء في برقية من لندن إلى الأهرام في 10 أبريل ما ترجمته:

نشرت جريدة (الديلي نيوز) اليوم مقالاً لمكاتب تكلم فيه عن إمكان تأسيس

جمعية أمم إسلامية ثم قال:

(إذا تألفت هذه الجمعية فإن الأقطاب الذين يسيطرون عليها هم من أعظم

الرجال الذين عرفهم العالم في هذا العصر جرأة وإقدامًا وشهرة، ولابد أن تقلب

الحركات التي يديرونها الآن بين شعوبهم وجه العالم الإسلامي في خلال ربع القرن

المقبل، ولو لم تتمكن من تأليف جمعية أمم.

إن العالم الإسلامي في الوقت الحاضر هو في طور انقلاب عظيم يشبه الطور

الذي مرت فيه أوربا عندما تلاشت الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وخلفت

بعدها شعوبًا رغب كل منها أولاً في الانفصال عن الآخر. فإذا استطاع أولئك

الرجال أن يؤلفوا جمعية أمم إسلامية، ويقيموا منها سدًّا في وجه السيطرة

الأوربية، فقد تتقوض أركان الحضارة الغربية) .

وهنا تكلم الكاتب عن زعماء العالم الإسلامي وقال: (إن عبد الكريم أحد

الأقطاب في أقوى حركة موجودة على وجه البسيطة الآن، وهي الحركة التي تقوم

بها الأمم المحكومة للمطالبة بحقها في تقرير مصيرها، على أن الإدارة الاستعمارية

البالغة منتهى القوة والمقدرة في الجزائر وتونس وطرابلس قد جعلت الحركة

القومية في هذه البلدان في منتهى الضعف.

وزغلول باشا أول حاكم حكم مصر بعد حصولها على نظام ذاتي بعدما تغلب

الفرس على الفراعنة منذ 2400 سنة، وهو أول رئيس وزارة منتخب في بلد

إسلامي ديمقراطي في التاريخ كله، وقد شهدت بنفسي جماهير غفيرة من الطلبة

المسلمين تتدفق كالسيل العرم في شوارع القاهرة، وتسير إلى منزل زغلول باشا

وأصواتها تشق كبد الفضاء بالهتاف له. إن هؤلاء الفتيان ليسوا سوى زبد يعوم

على بحار الحركات القومية الزاخرة في العالم الإسلامي. وليس زغلول باشا ومصر

سوى نور ضئيل بإزاء نيران مصطفى كمال باشا والحركة القومية التركية.

ويمثل مصطفى كمال باشا في تركية اللادينية دور موسوليني في إيطاليا،

ولكنه مكروه من ابن سعود العاهل العربي العظيم الذي يسير في طليعة الحركة

القومية العربية، وهو زعيمها الحربي. ولعله أقدر وأقوى شخصية ظهرت في

العرب منذ عهد النبي الهاشمي، وهو في الوقت ذاته صديق حميم لبريطانيا.

وأما إيران فإنها آخر معقل للفتور الذي أصاب العالم الإسلامي، ولكن الشاه

رضا خان يبث فيها الآن روحًا قومية جديدة.

وفي الهند ثمانية وستون مليوناً من المسلمين تقتسمهم حركتان لا يمكن التوفيق

بينهما، فهم يتمسكون بالمبدأ القومي، فلا بد لهم من أن يكونوا هنودًا وهم مسلمون،

ولذلك يعدون من ضمن العالم الإسلامي.

(وفي جزائر الهند الشرقية الهولندية 35 مليونًا من المسلمين، يرسلون كل

سنة عشرين ألفاً من الحجاج إلى مكة، ويعودون منها أعظم تمسكًا بالإسلام،

فالحركة الإسلامية في جاوى تعدّ والحالة هذه من أعظم الحركات حماسة في العالم

الإسلامي.

فإذا وضعنا هذه الحقائق أمامنا وتأملنا فيها استخرجنا منها ما يأتي:

1-

إن الحركة القومية في العالم الإسلامي قد تفوقت لأول مرة في التاريخ

على رابطة الإخاء في بيت الإسلام، وانتثرت كنانة مشروع الجامعة الإسلامية

القديمة، وظهرت منها سهام الحركات القومية.

2 -

لم يظهر حتى الآن أي دليل على التحالف بَين هذه الحركات، فلا

مصطفى كمال باشا ولا الملك ابن سعود يقبل أن يكون الملك فؤاد خليفة.

3 -

إذا حاولت الدول الغربية أن تسيطر على هذه الأمم وتستغلها فإننا نسوقها

إلى تأليف عصبة ضد العالم المسيحي في الغرب.

فيجب على سياسة الغرب وتجارته أن يتخليا عن كل رغبة في السيطرة،

ويقبلا موقف التعاون بكل ارتياح وإخلاص، ونحن في حاجة ماسة إلى مساعدة هذه

الشعوب وإعداد زعمائها لحكمها حكمًا ذاتيًّا سلميًّا.

ولا شك أن الجامعات الأمريكانية في القاهرة والآستانة وأزمير وبيروت قد

خطَت الخطوات العظمى حتى الآن في هذا السبيل. وفي الكليات والمدارس

الإنكليزية في فلسطين ومصر والعراق وإيران نحو خمسة آلاف طالب قد يخرج

منهم زعماء في العالم الإسلامي، فهم يتعلمون الآن ويرقون مواهبهم الطبيعية،

وسيكونون جسرًا بين العالم الإسلامي الجديد والعالم المسيحي الجديد) اهـ.

فليتأمل.

***

(الاحتفال بعيد المقتطف الخمسيني)

جاءنا من سكرتيرة لجنة الاحتفال ما يأتي:

حضرة العلامة صاحب مجلة (المنار) المفضال:

أتشرف أن أقدم مع هذا بيان تأليف لجنة مركزية في آخر يونيو سنة 1925

للاحتفال بيوبيل المقتطف الذهبي، والنداء الذي وجهتْه اللجنة إلى الأدباء والشعراء

والعلماء ليشتركوا في هذا اليوبيل. وقد نشرنا هذه الدعوة في مختلف الأقطار

الشرقية كفلسطين وشرق الأردن وشبه جزيرة العرب وسورية ولبنان والعراق

والجزائر والمغرب الأقصى وتركيا وبلاد الفرس والهند وفي الأقطار الأوربية

والأمريكية، فلبى أهل العلم والفضل هذه الدعوة من كل جانب ووافونا بما جادت

به القرائح شعرًا ونثرًا، مع رسائل الثناء العظيم على هذا المشروع، والشكر

للقائمين به وشد أزره، وقد نوهت به بعض الصحف التركية والفارسية والهندية

والفرنسية والألمانية والإيطالية، علاوة على الصحف العربية العديدة. وكان

لدعوتنا، عدا تلك النفثات التي ستجمع في كتاب (الذكرى) لليوبيل النتائج التالية:

أولاً: اكتتاب عام اشتركت فيه الجالية السورية واللبنانية في أمريكا الجنوبية

لتقديم هدية تذكارية، وقد وصلت هذه الهدية، وهي تمثال فاخر من البرونز، مقام

على قاعدة من المرمر، وعليها لوحة من الذهب الإبريز، نقش عليها بيتان من

الشعر باسم الذين أهدوا الهدية.

ثانيًا: اكتتاب أهالي حاصبيا في البرازيل لتقديم دوانين وقلمين من الذهب

لصاحبَي المقتطف.

ثالثًا: اشتراك الجامعة الأمريكية ببيروت اشتراكًا رسميًّا في هذا اليوبيل

وقرارها أن تقيم احتفالاً حافلاً في منتداها في نفس اليوم الذي يقام فيه الاحتفال

بالقاهرة.

رابعًا: اشتراك جمعيات متخرجي الجامعة المذكورة في مختلف الأقطار

للاحتفاء باليوبيل كل منها بالطريقة المتيسرة لها.

خامسًا: اشتراك أهل طرابلس الشام يرأسه صاحب مجلة (المباحث) اشتراكًا

فعليًا، فيقيمون حفلة في مدينتهم في اليوم الذي يقام فيه الاحتفال في القاهرة.

أما الاحتفال في القاهرة فسيقام بعد رمضان الكريم وسيعلن عن الموعد فيما

بعد. هذا وقد تفضل حضرة صاحب الجلالة المعظم الملك فؤاد الأول -أيده الله-

فشمل هذا اليوبيل برعايته السامية.

فالرجاء يا سيدي أن تفسحوا في صحيفتكم الغراء مكانًا لهذه التفاصيل بعد

نشر نداء اللجنة ليشترك معنا أهل العلم والفضل في مصر، خدمة للنهضة العلمية

الجديدة، وتقريرًا لجهود العاملين.

وتقبلوا خالص الشكر سلفًا مع عواطف الإكرام.

...

...

...

... سكرتيرة اللجنة

...

...

...

...

(مي)

...

...

...

...

...

القاهرة 24 مارس سنة 1926

ترون مع النشرة التي مع هذا أنه قد تألفت في مصر جماعة للاحتفاء باليوبيل

الذهبي لمجلة المقتطف تقديرًا لآثارها العلمية مدة نصف قرن. واختارت من بين

أعضائها لجنة تنفيذية لبث الدعوة وتنظيم العمل. واللجنة تود أن يشترك في هذا

الاحتفاء أبناء القومية العربية في أقطار الأرض جميعًا، لاعتقادها أن ذلك من

رغبات أنفسهم.

وإذا كان الاشتراك بالحضور فعلاً غير متيسر للجميع، فاللجنة تدعو العلماء

والأدباء والشعراء والجمعيات والمعاهد، والأندية العلمية والأدبية والنقابات

الصحافية، وأصحاب المجلات والصحف عامة إلى الاشتراك في هذا الاحتفاء بما

يتيسر الاشتراك به من الحضور بالفعل، أو بإرسال ما تجود به القرائح من شعر

أو نثر يناسب المقام. وسيجمع المختار مما سيرسل ويلقى في الاحتفال في كتاب

يكون ذكرى هذا اليوبيل الذهبي.

وترجو اللجنة أن يتفضل كل بإرسال بحثه أو قصيدته باسم (الآنسة مي زيادة

سكرتيرة لجنة الاحتفال بيوبيل المقتطف، مكتبة المنار شارع زين العابدين رقم 63

بمصر) على أن يصل قبل 20 أبريل 1926، لكي يتسنى للجنة أن تودعه في

كتاب الذكرى.

...

...

...

...

الرئيس

...

...

...

... محمد توفيق رفعت

...

...

مصر 26 يونيو (حزيران) سنة 1925

اللجنة التنفيذية

الرئيس: حضرة صاحب المعالي محمد توفيق رفعت باشا وزير المعارف

المصرية العمومية سابقًا (ووزير الأوقاف الآن)

الأعضاء

صاحب السعادة أحمد لطفي السيد بك مدير الجامعة المصرية.

صاحب السعادة أحمد شوقي بك.

صاحب الفضيلة السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار ورئيس المؤتمر السوري.

صاحب الفضيلة السيد مصطفى عبد الرازق المفتش بوزارة الحقانية.

الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير السياسة.

صاحب السعادة السر سعيد شقير باشا مدير عموم حسابات السودان.

السكرتيرة: الآنسة مي زيادة.

***

(المنار)

كانت الآنسة مي زيادة المشهورة في عالم الأدب العربي والغربي صاحبة السبق

إلى هذه العناية بتكريم العلم والعلماء، فدعت إلى دار والدها طائفة من أهل

العلم العصري، واقترحت عليهم السعي للاحتفال بمرور خمسين سنة على مجلة

المقتطف الشهيرة، فأجمعوا على القبول وانتخبوا لجنة منهم لتنفيذ ذلك. وسيكون

الاحتفال بمصر في مساء 30 أبريل الحالي، وسنعود إلى الكلام عليه إن شاء الله

تعالى.

_________

ص: 71

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(مرآة الحرمين الشريفين أو الرحلات الحجازية، والحج ومشاعره الدينية)

كتاب نفيس، متقن الصنع، تأليفًا وترصيفًا وترتيبًا وتنسيقًا، وطبعًا وورقًا

وحروفًا، وضعه اللواء إبراهيم رفعت باشا المصري الذي تولى قيادة حرس

المحمل مرة، وتولى إمارة الحج المصري ثلاث مرات في ثلاثة مواسم عني فيها

بكل ما يعنى به من يريد أن يؤلف كتابًا في شئون الحج والحجاز لم يُسبق إلى مثله،

فتم له هذا في سِفرين كبيرين. وقد وصفه الأستاذ الشيخ محمد عبد العزيز

الخولي المدرس في مدرسة القضاء الشرعي بتقريظ قال فيه ما نصه:

(فبينما تراه قد رسم (جدة) ومنازلها ومعاهدها ومساجدها ومرساها ورجالها

وذوي الشأن فيها؛ إذ تراه قدم لك من مناظر الطريق بين جدة ومكة صورًا مختلفة

ورسومًا متغايرة، فإذا ما وصل بك إلى مكة رأيت المسجد الحرام بأروقته وأساطينه،

تتوسطه الكعبة، تحيط بها المقامات، والناس حولها يصلون أفذاذًا وجماعات.

وترى أمثلة عديدة لفن العمارة العربية، أضف إلى ذلك جوامعها ومستشفياتها،

وثكناتها، ودور حكومتها، وأشكال أهلها.

فإذا ما خرج بك إلى عرفة تراه قد رسم الجبال والأودية والجمرات والمشاعر

والناس حولها خُشع يدعون، فإذا ما انتهى من الحج وواجباته ويمم المدينة المنورة

أخذ من مناظر طريقها كما فعل في سابقتها، وسلك مثل ذلك في الطرق المختلفة،

والمسجد النبوي، والجوامع الأثرية، والمشاهد المختلفة بالمدينة، ولا يمر بمكان

إلا وصفه وذكر نبذة من تاريخه، ولا بئر إلا سبر غورها، وعَرَّفك بمائها، حلوًا

ومُرًّا، قلا وكثرا، ولا بعقبة إلا دقق في وصفها، مبينًا لك أحسن السبل لاجتيازها،

شارحًا ذلك بالخرائط الجغرافية التي لم يسبق إلى وضعها، ولم يدع في الحج

صغيرة ولا كبيرة إلا تكلم فيها.

ففي الكتاب حجة الوداع التي حجها الرسول صلى الله عليه وسلم سنة

عشر مفصلة أحسن التفصيل ومشفوعة بخريتة فيها بيان الطريق الذي سلكه

الرسول صلى الله عليه وسلم والأماكن التي مر بها، وفيه الكلام على أحكام

الحج في المذاهب الأربعة بالتفصيل الواسع والجداول المجملة والصور الشارحة

وفيه قسم في حكمة الحج قلما تظفر بها في كتب أخرى [1] .

ولما كانت مكة في جزيرة العرب وكان المسلمون يفدون إليها من كل الأقطار،

دعاه ذلك إلى كتابة فصل جغرافي موجز في بلاد العرب وأقسامها وشفعه بفصل

تاريخي مجمل بَيَّن فيه كيف بدأ الإسلام وكيف انتشر وتكلم على دوله والبلاد التي

سار فيها والتي لا تزال مقرًّا له بحيث أعطيناك تاريخًا موجزًا للدول الإسلامية

وحال المسلمين من يوم أن وجدوا إلى وقتنا هذا.

وتكلم في الكتاب على الحج وإمارته قديمًا وحديثًا، وعلى المحمل والكسوة

كلامًا مسهبًا تتخلله الصور الأنيقة والمناظر البهيجة. فتراه ذكر المحامل

وأنواعها وتاريخها وأشكالها ونفقاتها والدول التي تقوم بإرسالها، وكذلك تكلم في

الكسوتين كسوة الكعبة وكسوة الحجرة النبوية.

ومما يدل على عناية المؤلف الشديدة، أنه تمكن من إحضار صورة إشهاد

كُتِب في منتصف القرن العاشر الهجري يتضمن ذكر القرى المصرية التي وقفت

على كسوة الكعبة والحجرة النبوية، وتراه ذكر ما يجب على كل موظف في ركب

المحمل وذكر ميزانية المحمل مفصلة بابًا بابًا، ونوعًا نوعًا، وأجمل ميزانيته في

نحو أربعين سنة، وكلما دخل في موضع أشبع الكلام فيه. فتراه لما ذكر مكة تكلم

على مواقعها وجبالها وشوارعها وأقسامها ومبانيها ومستشفياتها وتكاياها ودار خديجة

بها ودار الأرقم التي كان يتجمع فيها المسلمون في مفتتح الدعوة الإسلامية. وتكلم

على السيول في مكة وآثارها وذكر سكانها وجنسهم وأخلاقهم ولغتهم ودينهم وعادتهم

ووصف جوها وتجارتها ونقودها ومياهها وعين زبيدة بها وأمراءها منذ الفتح

الإسلامي إلى يومنا هذا. وكذلك فعل في المدينة والبلاد الهامة؟ .

وحسبك من الكتاب أن فيه ما ينيف على أربعمائة صورة وعشرين

خريطة كل طوابعها (أكلشيهاتها) مصنوعة في ألمانيا وإنجلترا، وهو يحتوي على

1000 صفحة يزينها حسن الورق وجمال الطباعة، ولا غرو فإنه مطبوع بمطبعة

دار الكتب المصرية. اهـ

(المنار)

ومن مزايا الكتاب التنبيه والتذكير بما يجهله الجمهور من الأمور المبتدعة

والقبور والمشاهد المزورة كقبر أمنا حواء في (جدة) وقبر أم النبي (صلى الله عليه

وسلم) في مكة، وبدع تعظيم القبور وغير ذلك.

وثمن الكتاب بالتجليد الجميل جنيه مصري وأجرة البريد 5 قروش في القطر

المصري و 15 في الخارج وهو يطلب من مؤلفه ومن مكتبة المنار بمصر.

***

(نهاية الأرب في فنون الأدب)

هذا الكتاب من أعظم كتب الأدب وأوسعها مادة، وأفصحها عبارة، وهو

تصنيف الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري المتوفي سنة 732،

وهذه الفنون التي اختارها خمسة، يحتوي كل فن منها على خمسة أقسام يدخل كل

قسم في عدة أبواب، فلم يدع شيئًا من هذا العالم إلا وأدخله فيها كالسموات والأرض

وما فيهما وما بينهما والإنسان من ذكر وأنثى، وأعضاء كل منهما وصفاتهما،

وأحوالهما، وشئونهما كالكلام بأنواعه، والحب والعشق، والأخلاق المحمودة

والمذمومة، والخمر والغناء والشعر، والملك والخلافة والقضاء وما قيل في ذلك كله

من نظم ونثر.

شرعت مطبعة دار الكتب المصرية في طبع هذا الكتاب الكبير منذ سنة

1342هـ، بحروفها الممتازة على جميع حروف المطابع العربية في العالم على

ورق جيد، صدر منه خمسة أجزاء كاملة القطع متوسطة الحجم، الجزء الأول منها

كله في الفن الأول وصفحاته أربعمائة ونيف، والأربعة التي بعدها لا يبلغ شيء

منها 400 صفحة ولم يستوف فيها الفن الثاني كله، وثمن الجزء من هذه الخمسة

15 قرشًا وأجرة البريد في القطر المصري 3 قروش و 6 خارجه وهو يطلب من

مكتبة المنار بمصر.

_________

(1)

هو منقول من رحلة صاحب المنار المنشورة في المنار.

ص: 78