الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
بطلان الدفاع عن
جرح كعب الأحبار ووهب بن منبه
تتمة ما نشر في الجزء الماضي
الانتقاد الرابع
الاحتجاج بما لا يحتج به
ادعى المنتقد الفاضل أننا احتججنا في جرح الحبرين بما لا يصح الاحتجاج
لعدم صحته أو لخروجه عن موضوع البحث، قال: ومنه تفسير وهب بن منبه لقوله
تعالى في قصة موسى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: 107) .
سلم المنتقد أن ما نقلناه عن ابن كثير في ذلك أمر لا يتصوره عاقل وطعن في
صحة إسناده إلى وهب عند ابن جرير والإمام أحمد في الزهد وابن أبي حاتم في
تفسيره، قال: في سند ابن جرير من هو مجهول، وكتاب الزهد للإمام أحمد لم
يكن من كتب الحديث المعروفة، فلا يبعد أن يكون في سنده انقطاع، وابن أبى حاتم
تفسيره كتفسير ابن جرير، بل إنه يروي في الموضع الواحد متناقضات.
(قال) (وعلى ذلك لم يوجد سند صحيح بأن هذا الخبر الغريب صدر من
وهب ويدل على أنه موضوع على وهب أنه لم يروه أحد من أصحاب كتب الحديث
المعتبرة مثل البخاري أو مسلم أو غيرهما من الكتب التي يصح للمطلع عليها أن
يقطع أو يظن أنه صدر منه) .
أقول (أولاً) : إذا سلمنا أن في سند ابن جرير مجهولاً، فلا نسلم أن الراوي
المجهول حاله عند المؤلفين في الجرح والتعديل يقتضي أن تكون روايته
موضوعة فهذا لم يقل به أحد منهم ولا من غيرهم وإنما غايته التوقف عن الاحتجاج
بما ينفرد به وليس هذا منه إذ رواه غيره.
و (ثانيًا) إن طعنه في كتاب الزهد للإمام أحمد جرأة عظيمة لا ينبغي أن
يقدم عليها الحريص على توثيق كعب الأحبار، ووهب بن منبه؛ لئلا يعد جرحهما
طعنًا في رواة الحديث فنحن لو طرحنا كل ما روي عنهما لم نخسر من الدين ولا
من العلم شيئًا مهمًّا، وأما الإمام أحمد فهو إمام الأئمة شيخ البخاري ومسلم،
وغيرهما من أساطين السنة أحد الأربعة الذين عرض عليهم البخاري صحيحه
قبل أن يظهره للناس؛ ليرى رأيهم فيه عمدة المحدثين في الجرح والتعديل صاحب
المسند الذي كتبه ليكون إماماً يرجع إليه العلماء فيما اختلفوا فيه من السنة، أفقه
المحدثين، وأزهد الزهاد، وأورعهم، فهل يصح أن نطعن في كتاب ألفه لهداية
الناس لأجل توثيق وهب بن منبه، ويدعي الطاعن أنه يوثق وهبًا وكعبًا لئلا يعد
الطعن فيهما طعناً في السنة؟
سبحان الله! أيقول الشيخ عبد الرحمن الجمجوني المشتغل في جل أوقاته
بالزراعة الذي يرجع عنده إرادة الكتابة في مثل هذا المقام إلى الكتب فيقرأ منها ما
يريد أن يؤيد به رأيه الذي سنح له، وقد تقدم ما يدل على مبلغ فهمه لعباراتها الجلية؟
أيقول: إن كتاب الزهد للإمام أحمد غير معروف عنده، ويرتب على هذا أن يعد
بعض ما روي فيه موضوعًا أي كاذبًا، وهو لم يطلع على سنده؟ ! أيروي الإمام
أحمد الموضوعات في كتاب ألفه لهداية الناس في الدين، ولا يعد ذلك شبهة على
السنة وهو إمامها الأعظم ثم يعد من الشبهة عليها الطعن في مرويات كعب الأحبار
ووهب بن منبه الخرافية؟
و (ثالثاً) إن طعنه في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم مع تشبيهه بتفسير الإمام
محمد بن جرير الطبري أغرب من طعنه في كتاب الزهد للإمام أحمد رحمهم الله
تعالى، إننا نحن نخبره بأن هذين التفسيرين هما أعظم ما كتبه أئمة الحفاظ رواة الأثر
على الإطلاق وإذا كانوا قد اتفقوا على أن تفسير ابن جرير أجل التفاسير على
الإطلاق وأن الذي يليه هو تفسير ابن أبي حاتم كما نقله السيوطي، فما ذلك إلا لما في
الأول من علوم اللغة والنحو الترجيح بين الروايات واستنباط الأحكام، وأما من جهة
الرواية عن الصحابة والتابعين فابن أبي حاتم أشد من ابن جرير وسائر رواة التفسير
تحريًا للصحيح.
قال السيوطي في سياق كلامه عن الروايات المأثورة في التفسير ورواتها بعد
نقله عن الإرشاد تفضيل تفسير السدي ما نصه: وتفسير السُّدِّي الذي أشار إليه يورد
منه ابن جرير كثيرًا من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن
عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة هكذا، ولم يورد ابن أبي حاتم
منه شيئًا؛ لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد والحاكم يخرِّج منه في مستدركه
أشياء ويصححه لكن من طريق مرة عن ابن مسعود إلخ (راجع الإتقان) .
فكيف أباح لك دينك وحرصك على الصحيح من السنة أيها المسلم أن تطعن
في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم مع تصريح أهل الحديث بأنه التزم فيه أصح ما ورد
وتحامى ما تساهل في روايته الإمام ابن جرير، والحاكم في مستدركه على
الصحيحين وغيرهما من رواة التفسير المأثور أتجعل روايات هذا الحافظ مع هذه
الشهادة في حكم الموضوع لتبريء وهب بن منبه صاحب الخرافات من رواية من
رواياته غير المعقولة، وترى مع هذا أنك تنصر السنة وتدفع الشبه عنها؟ ؟
ومن غرائب منطق هذا المنتقد أنه يجعل كلامه المفتجر قواعد وأصولاً علمية
دينية يبني عليها أحكامًا كما فعل بطعنه في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم الذي قال
الحافظ السيوطي: إنه التزم فيه إيراد أصح الروايات فقد قال بعد ما تقدم:
(ومثل ذلك بل أقل منه ثبوتًا ما جعلتموه عمدتكم في الطعن على الحبرين
أخيرًا وذكر ما نقلناه عن الحافظ ابن أبي حاتم من زعم وهب بن منبه أن التوراة
والإنجيل لا يزالان كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منها حرف ثم قال: فهذا رواه ابن
أبي حاتم وحده فهو أقل ثبوتًا من سابقه فلا يصح أن تجرحوا وهبًا بناءً على مثل
هذه الرواية الساقطة) .
أقول: جعل هذه الرواية أقل ثبوتًا مما قبلها وهي التي حكم بوضعها أي كذبها
ولا نعلم أن عند المحدثين شيئًا أقل ثبوتًا من الموضوع ولكن عند الأستاذ الجمجوني
من فنون الحديث ما ليس عند المحدثين ومن قواعد العلم ما ليس عند أحد من
العلماء ووجه هذه الأقلية أنه افتجر أي: اختلق ما لم يقل به أحد ولا يوافقه عليه
أحد من الطعن بكل ما رواه ابن أبي حاتم ولما كانت كذبة وهب في مسألة عصا موسى
قد رواها عنه ابن أبي حاتم وابن جرير، والإمام أحمد، وحكم هو بأنها موضوعة،
كان لا بد أن تكون هذه الكذبة التي رواها ابن أبي حاتم وحده فيما يظهر أقلّ
ثبوتًا منها عنده.
***
الانتقاد الخامس
ما احتججنا به وهو خارج عن الموضوع عنده
هذا آخر انتقاد له علينا وخلاصته أننا احتججنا بالتوراة والإنجيل على كذب
ما رواه عنهما كعب الأحبار ووهب بن منبه من حيث إن ما يعزوانه إليهما لا يوجد
فيهما شيء منه على كثرته، قال: فهذا فضلا عن خروجه عن الموضوع لما هو
مقرر عند جميع علماء المسلمين من أن كتابي اليهود والنصارى الموجودين لا يصح
الاحتجاج بهما
…
إلخ.
أقول: ليتأمل العلماء والعوام المُلمُّون بالقراءة والكتابة وغير السلمين أيضًا هذا
الفهم العجيب والمنطق الغريب:
يقول الأستاذ الجمجوني النقادة: إن قولنا فيما رواه الحبران الإسرائيلي
والفارسي النسب عن التوراة والإنجيل: إنه لم يوجد فيهما شيء منه، وعدم وجوده
فيهما دليل على كذبهما فيما روياه عنهما خارج عن الموضوع؛ فما موضوع طعننا
فيهما؛ إذًا إنه قد اعترف أولاً بأن هذا الدليل هو عمدتنا في تكذيبهما في رواياتهما عن
الكتب السابقة ثم يقول: إنه خارج عن الموضوع وما هو إلا عين الموضوع وإن لم
يكن عين الموضوع فما الموضوع إذاً؟ سبحان الخلاق العظيم ماذا في خلقه من
عجائب!
ثم زعم بعد هذا أنني نقضت هذا القول بقولي: إن ابن كثير كان يعلم من
كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلمه رجال الجرح والتعديل الأولون الذين جعلوا كعبًا
ووهبًا من الثقات في الرواية؛ ولذلك انتقد بعض ما روي عنهما ولم يأخذه بالتسليم
فأي نقض هذا؟ ؟
وقد ذكرت أيضًا أن ابن حزم وابن تيمية من علماء القرون الوسطى قد
اطلعوا على كتب أهل الكتاب التي لم يطلع عليها المتقدمون الذين وثقوا الرجلين كابن
حبان وغيره قال المنتقد: ولكن لم يرد عن أحد من هؤلاء ولا من غيرهم أنهم
طعنوا فيهما وهذا قول يقال ليس خارجاً عن العقل والفهم كالأقوال السابقة.
ويقال في الرد عليه أولاً: إن هذا النفي العام يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه
فعدم علمه لا يدل على عدمه كما أنه لا يدل على وجوده.
(ثانيًا) إن من ذكرناهم لا يبحثون في جرح راوٍ إلا إذا عرض لهم بحث في
تمحيص رواياته غير الثابتة عندهم، فمن سكت عن جرح الرجلين يمكن أن يقال:
إنه لم يتفق له ذلك فإن ابن حزم وابن تيمية لما تصديا للرد على أهل الكتاب ونظرا
في كتبهم لأجل ذلك لم يخطر في بالهما مراجعة ما روي عن هذه الكتب والرد عليه؛
لأنه ليس من موضوعهما بل ربما يعد حجة عليهما من حيث إن بعض كبار الرواة
الموثقين قد شهدوا لهذه الكتب.
(ثالثًا) إننا نرى الحافظ ابن كثير يستنكر بعض الروايات عن كعب ووهب
من غير طعن في سندها لعلمه بصحته وهذا يتضمن تكذيبها وإن لم يصرح به إذ
موضوعه نقد المروي؛ لأنه باطل لا الطعن في الرواة.
***
خلاصة الرد على الانتقاد:
إننا لم ننكر ولن ننكر أن جمهور رجال الجرح والتعديل عدوا كعبًا ووهبًا من
الثقات في الرواية ولم يقبلوا طعن ابن الفلاس منهم في وهب؛ لأنهم نقلوا عنه ما يدل
على رجوعه عما رماه به من البدعة، وإن منهم من تأول تكذيب معاوية لكعب بأنه
يعني به وقوع الكذب في رواياته لكذب من أخذ عنهم لا لكذبه هو أو بغير ذلك حتى
قال بعضهم ما ترده العبارة العربية ولا تحتمله ولو تكلفًا.
وإننا مع هذا نقول: إنه ظهر لنا ما لم يظهر لأولئك الموثقين لهما وهو أننا
رأينا الشيء الكثير من رواياتهما مما نقطع بكذبه، كمخالفة ما رواه عنهما الثقات مما
كانا يعزوانه للتوراة وغيرها من كتب الأنبياء لما عند أهل الكتاب فجزمنا بكذبهما
وهذا مما لم يكن يعلمه المتقدمون؛ لأنهم لم يطلعوا على كتب أهل الكتاب، وإننا بهذا
الطعن في روايتهما ندفع شبهات كثيرة عن كتب الإسلام سيما تفسير كتاب الله تعالى
بالمأثور عن السلف، وقد حشي خرافات كثيرة يأخذها القارئون للتفسير وقصص
الأنبياء بالتسليم.
وإننا إذا سلمنا للمنتقد أن كل من وثقه جمهور المتقدمين فهو ثقة، وإن ظهر
خلاف ذلك بالدليل نفتح بابًا آخر للطعن في أنفسنا بنبذ الدليل، والأخذ في مقدماته
بالتقليد ومخالفة هداية القرآن المجيد، نعم، إننا نعترف بأن نقض رواة السنة
والآثار من حيث جودة الحفظ والضبط وعدم الشذوذ ونحوه من العلل قد محصه
رجال الجرح والتعديل ووفوه حقه إلى درجة تقرب من الكمال ولم يبقوا لمن بعدهم
فيه إلا اجتهادًا قليلاً جُلّه فيما اختلفوا فيه.
وأما تمحيص متون الروايات وموافقتها أو مخالفتها للحق الواقع وللأصول أو
الفروع الدينية القطعية أو الراجحة وغيرها فليس من صناعتهم ويقل الباحثون فيه
منهم ومن تعرض له منهم كالإمام أحمد والبخاري لم يوفه حقه كما نراه فيما يورده
الحافظ ابن حجر في التعارض بين الروايات الصحيحة له ولغيره ومنه ما كان
يتعذر عليهم العلم بموافقته أو مخالفته للواقع، كظاهر حديث أبي ذر عند الشيخين
وغيرهما أين تكون الشمس بعد غروبها؟ فقد كان المتبادر منه للمتقدمين أن الشمس
تغيب عن الأرض كلها وينقطع نورها عنها مدة الليل؛ إذ تكون تحت العرش تنتظر
الإذن لها بالطلوع ثانية، وقد صار من المعلوم القطعي لمئات الملايين من البشر أن
الشمس لا تغيب عن الأرض في أثناء الليل وإنما تغيب عن بعض الأقطار وتطلع
على غيرها، فنهارنا ليل عند غيرنا وليلنا نهار عندهم كما هو المتبادر من قوله
تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) وقوله
جلت قدرته: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: 54) فنحن بعد
العلم القطعي الثابت بالحس في مثل هذه المسألة وما في حكمها لا مندوحة لنا عن أحد
أمرين، أما الطعن في سند الحديث وإن صححوه؛ لأن رواية ما يخالف القطعي من
علامات الوضع عند المحدثين أنفسهم وأقرب تصوير للطعن فيما اشتهر
رواته بالصدق والضبط أن يكون الصحابي أو التابعي منهم سمعه من مثل كعب
الأحبار ونحن نعلم أن أبا هريرة روى عن كعب وكان يصدقه ونرى الكثير من
أحاديثه عنعنة لم يصرح رضي الله عنه بسماعها من النبي -صلى الله عليه
وسلم- ومن القطعي أنه لم يسمع الكثير منها من لسانه صلى الله عليه وسلم
لتأخر إسلامه فمن القريب أن يكون سمع بعضها من كعب الأحبار، ومرسل
الصحابي إنما يكون حجة إذا سمعه من صحابي مثله، ومثل هذا يقال في ابن عباس
وغيره ممن روى من كعب وكان يصدقه، وأما تأويل الحديث بأنه مروي بالمعنى،
وأن بعض رواية لم يفهم المراد منه فعبر عما فهمه كعدم فهم راوي هذا الحديث الذي
ذكرنا على سبيل التمثيل المراد من قوله صلى الله عليه وسلم إن الشمس
تكون ساجدة تحت العرش
…
إلخ فعبر عنه بما يدل على أنها تغيب عن الأرض
كلها وقد يكون المراد من معنى سجودها أنه من قبيل قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: 6) كما أن توقف طلوعها على إذن الله تعالى
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (الأعراف: 58) ، وهو إذن التكوين لا
التكليف وذلك أننا نؤمن بحق أن العالم كله بيد الله تعالى وتصرفه، وقد أول
الحديث بعض شراح الصحيحين ليوافق رأي المتقدمين من علماء الفلك فكان تأويلهم
متكلفًا يرده ظاهر الحديث ولا سيما رواية مسلم المطولة.
ومن هذا القبيل حكاية بعض الرواة ككعب ووهب عن كتب بني إسرائيل لم
يكن يحيى بن معين وأحمد وأبو حاتم وابنه وأمثالهم يعرفون ما يصح من ذلك وما لا
يصح لعدم اطلاعهم على تلك الكتب وعدم ظهور دليل على كذب الرواة المتقنين
للكذب فيما يعزونه إليها، فإذا ظهر لمن بعدهم في العصر أو فيما قبله أو فيما بعده ما
لم يظهر لهم من كذب اثنين أو أكثر من هؤلاء الرواة فهل يكابر حسه ويكذب نفسه
ويصدقهم بلسانه كذبًا ونفاقًا، أو يكتم الحق عن المسلمين لئلا يكون مخالفًا لمن قبله
فيما ظهر له ولم يظهر لهم، أفلم ير المنتقد الغيور على السنة أن الملاحدة الذين
يتقي طعنهم في السنة بتعديل كعب ووهب يشككون المسلمين في الأصول والمسائل
القطعية حتى في نصوص القرآن؟
ثم إننا نعيد القول ونؤكده بأن ظهور كذب كعب ووهب لنا لا يترتب عليه
خسراننا لشيء من أصول ديننا، ولا من فروعه فالعمدة في الدين هو القرآن وسنن
الرسول المتواترة وهي السنن العملية كصفة الصلاة والمناسك مثلا وبعض الأحاديث
القولية التي أخذ بها جمهور السلف، وما عدا هذا من أحاديث الآحاد التي هي غير
قطعية الرواية أو غير قطعية الدلالة فهي محل اجتهاد وإننا نرى بعض الأئمة
المجتهدين قد تركوا الأخذ بكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة حتى ما رواه
الشيخان منها ولا يزال يتبعهم الملايين من الناس في تركها ولا يعدهم سائر المسلمين
ضالين عن دينهم وقد أورد المحقق ابن القيم أكثر من مائة شاهد من هذه الأحاديث
الصحيحة التي خالفها الحنفية وغيرهم وهم أكثر مسلمي هذا العصر.
فماذا تكون قيمة روايات هذا الإسرائيلي (كعب الأحبار) وهذا الفارسي
(وهب بن منبه) وأكثرها خرافات إسرائيلية شوهت كتب تفسير كتاب الله وغيرها
من الكتب وكانت شبهًا على الإسلام يحتج بها أعداؤه الملاحدة بأنه كغيره، دين
خرافات وأوهام وما كان منها غير خرافة فقد تكون الشبهة فيه أكبر كالذي ذكره
كعب من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة واعترف المنتقد بصحته
عنه وقد أعدنا ذكره في هذا الرد.
نوه المنتقد برواية البخاري لقول أبي هريرة: إن عبد الله بن عمرو بن
العاص كان أكثر حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم منه، لأنه كان يكتب،
قال: وأنا لا أكتب إذ رواه من طريق وهب عن أخيه همام، ونقول أولاً: إن
البخاري قال عقب روايته له عنه: تبعه معمر عن همام يعني أن وهبًا لم ينفرد بهذه
الرواية عن همام بل رواها عنه معمر أيضًا، فلو أن وهبًا لم يروها ما كنا جهلناها،
ولو جهلناها لم يكن جهلها خسارة لشيء من أصول ديننا ولا فروعه، فقول أبي
هريرة ليس حجة شرعية وهو لا يدل علي أن ابن عمرو كان يكتب بأمر النبي -
صلى الله عليه وسلم ولا بإقراره فيصلح معارضًا لحديث نهيه - صلى الله عليه
وسلم - عن كتابه شيء عنه غير القرآن، وإن سماه المنتقد (حديثًا صحيحًا نافعًا)
ثم قال: (كما أن البخاري احتج بوهب في أول كتاب الجنائز، من صحيحه حيث
قال، وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلي، ولكن ليس
مفتاح إلا له أسنان؛ فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) اهـ
أقول:
(أولاً) إن هذا تعليق لا رواية مسندة وإنما رجال الصحيح من روى عنهم
المسند.
(وثانيًا) إنه أورده بصيغة التمريض، (قيل) قال الحافظ ابن حجر بعد
الكلام على صيغة الجزم في الروايات المعلقة في صحيح البخاري ما نصه:
والصيغة الثانية وهي صيغة التمريض لا يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه لكن
فيه ما هو صحيح، وفيه ما ليس بصحيح
…
إلخ، وثالثًا، إن هذا القول لوهب
قد انتقد المنار عليه وخطئ به؛ ولذلك قالوا لما رووا هذه العبارة مرفوعة من
حديث معاذ يحتمل أن تكون مدرجة فيه ولم يقولوا: إن وهبًا هو الذي سمعها وليس
هذا المقام محلاً لبسط هذا وأمثاله حتى إنني لم أجعله من الانتقادات علينا، وإن كان
المنتقد قد حاول به أن يجعل وهبًا من رواة أحاديث صحيح البخاري، كما حاول
أن يجعل كعبًا من رجاله، والحق أن البخاري - قدس الله سره - لم يرو عن كعب
شيئًا ولم يرو عن وهب حديثًا مسندًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإنما روى عنه عبارة وعلق عنه أخرى كما علمت آنفا.
كلمة بيني وبين المنتقد:
قد أطال صديقنا الأستاذ الجمجموني في انتقاده هذا فاضطرنا إلى الإطالة في
بيان أخطائه مع تحري الاختصار حتى لا يعود إلى مثل هذا الكلام الطويل المتهافت
على أنه إذا عاد لا ننشر له مثله، ولا سيما في هذا الموضوع [1] وإنما نشرنا هذا
تكريمًا له وتحسينًا للظن به على اعتقادنا أنه حسب أن ما جاء به حجج قيمة وبراهين
لا ترد وأنه أراد بإعادة كلامنا المنتقد عنده بنصوصه على كونه منشورًا في المنار
وأكثر النقول في الجرح والتعديل من جهة عامة وفي توثيق الحبرين مما نعرفه ولا
ننكره ولا أنكرناه من قبل أراد بهذا كله إظهار جهلنا، وإننا لو لم ننشره لظن أننا
لإصرارنا على خطئنا قد امتنعنا عن إظهار هذه الحقائق لقراء مجلتنا.
لقد كان يكفي في هذا الانتقاد ورقة أو ورقتان يذكر فيهما المنتقد أن جمهور
رجال الجرح والتعديل قد وثقوا الحبرين، وأن بعض شراح الحديث أولوا عبارة
معاوية في اختبار الكذب على كعب، وأن الروايات الخرافية عنهما يحتمل أن تكون
أسانيدها إليهما غير صحيحة وما في معنى هذا.
ولو اختصر لاختصرنا في الرد بأن جرحنا لهما إنما كان في شيء لم يكن
يعرفه رجال الجرح والتعديل المتقدمون، وهو وجيه يتعين قبوله لا يشكك أحدًا في
جمهور رواة الصحاح ولا من دونهم، وأن الروايات المعروفة صحتها عنهما كافية
في إثبات كذبهما وعدم صحة تأويل من أول لكعب بأن الكذب من غيره لما هو
معلوم بالبداهة من أن كعبًا من كبار أحبارهم، ولن يكون كذلك من لم يطلع على
التوراة وكتب الأنبياء بنفسه، وأن عدم الثقة بها سترد عن كتبنا شبهات كثيرة ولا
نخسر به شيئًا من علومها لغنانا بغيرها عنها.
بعد هذا كله أقول: إذا ثبت بما حررته كذب الرجلين بما ذكر فلا يبقى مجال
للشك في إنهما كانا يغشان المسلمين ويدخلان في كتبهم الدينية ورواياتهم ما يقتضي
الطعن في دينهم، وحينئذ لا يبقى محل لاستغراب اشتراكهما في تلك الجمعيات
اليهودية، والمجوسية التي كانت تكيد للإسلام والعرب.
هذا وإنني أستغفر الله تعالى لي ولأخي المنتقد، وقد وضح للقراء ما عندي
وما عنده في المسألة ولهم الحكم في ذلك، والله يحكم بين عباده فيما هم فيه يختلفون.
_________
(1)
قد جاءنا انتقاد آخر مفيد سننشره في الجزء التالي إن شاء الله.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدعوة إلى الإلحادبالتشكيك في الدين
كتاب
(في الشعر الجاهلي)
ظهر بمصر في أواخر السنة الماضية كتاب بهذا الاسم من وضع الدكتور طه
حسين مدرس الآداب في (الجامعة المصرية) وأحد أركان جمعية دعاية الإلحاد
بمصر، بنى بحثه فيه على منهج البحث في الآداب وغيرها، غريب هو أن يبنى
على الشك في كل ما روي عن المتقدمين، أو تكذيبه، وإن أجمعوا عليه وعلى
التجرد من الدين والجنسية والوطنية وجميع الروابط القومية والملية، وهو بناء
على هذه القاعدة يطعن فيما ثبت بنص القرآن المجيد وفي جميع ما صح عند علماء
الملة الإسلامية من الروايات الدينية والتاريخية والأدبية دع ما ليس له أسانيد تصل
إلى درجة الصحة كتواريخ سائر الأمم ومروياتها حتى إنه تجرأ على التصريح
بتكذيب القرآن المجيد فيما أثبته من بناء إبراهيم وإسماعيل لبيت الله الحرام بمكة
المكرمة، وشكك في آيات أخرى وفي أحاديث وروايات كثيرة من صدقه فيها من
تلاميذ الجامعة أو غيرها من الدهماء ينبذ الدين وراء ظهره ويمشي عاريًا مجردًا من
الوازع النفسي الذي ينهى عن الفواحش والمنكرات؛ فيستحل جميع ما قدر عليه من
أموال الناس وأعراضهم إذا عنت له وأمن العقاب عليها في الدنيا وحينئذ يكون
كالدكتور طه حسين في فلسفة وأحكامه التي كان منها عد أفسق الفساق في التاريخ
كأبي نواس، من كبار المصلحين ونشر أخبار فسقه في صحيفة السياسة وفيه ما
فيه من ترغيب الناس فيها. إن قاعدة الدكتور طه حسين التي جرى عليها في كتابة
هذا، وفي غيره هي أن الفلسفة العليا التي يتوقف عليها وصول الإنسان إلى العلم
الصحيح في الآداب والتاريخ وغير ذلك هي أن يكذب الله ورسله وأفضل البشر بعد
الرسل كالخلفاء الراشدين وأئمة العلم والدين أو يشكك في أقوالهم على الأقل، ويأخذ
بالقبول والتسليم ما فيه طعن في الإسلام وفي سلفه الصالح وكبار أئمته، وإن لم
يقله إلا بعض فساق المسلمين ومن لا ثقة بصدقه منهم ومن غيرهم، ثم ماذا؟
ثم يستبدل بها نظريات بل ضلالات اخترعتها مخيلات ملاحدة الإفرنج وكذا
دعاة النصرانية الذين تعلموا وربوا على الطعن في الإسلام، وجعل مدار معيشتهم
من جمعياتهم الدينية على تشكيك المسلمين بدينهم إن لم يقدروا على تحويلهم عنه
وجعلهم أعداء له، ويزين ذلك بخلابة اللفظ وشقشقة اللسان والقلم، وسفسطة الجدل
ولماذا؟ لأجل أن تنحل روابطهم الملية وتزول عقيدتهم الدينية وتفسد ملكاتهم الأدبية
فيقبلوا بارتياح أن يكونوا تابعين لدول الاستعمار الأجنبية فإن لم تكن هذه اللام لام
العلة والغاية، فلابد أن تكون لام الصيرورة والعاقبة.
إن موضوعات هذا الكتاب هي من دروس للدكتور طه الأدبية التي
يلقيها على تلاميذ الجامعة المصرية؛ لأجل أن ينسلخوا من الإسلام الذي صار قديمًا
رثًّا باليًا في نظره، ويصيروا أمة جديدة لا يدينون بدين ولا يحرمون ما حرم الله
ورسوله، ولا يأبون الخنوع لكل حاكم وإن كان أجنبيًّا.
وكذلك فعل صديقه وأحد أركان جمعيته الشيخ علي عبد الرازق في كتابه
(الإسلام وأصول الحكم) فأرضيا بذلك دول الاستعمار ودعاة النصرانية فأثنيا على
هذا أجل الثناء كما أثنيا على ذاك وكانا عندهم محل الرجاء.
ظهر هذا الكتاب وأنا في مكة المكرمة فرأيت في الجرائد خبره وقيام رجال
العلم والدين بالرد عليه والطعن فيه ومطالبة الحكومة بمصادرته ومنع قراءته
ورأيت فيه أن الحكومة (عاقبته) بشراء نسخ جميع الكتاب منه دفعة واحدة بدلاً من أن يبيعها هو في عدة سنين وحفظها لدى وزارة المعارف ولا ندري لماذا؟
ولما رجعت إلى مصر لم يتح لي الحصول على نسخة منه وإنما اطلعت أمس
علي نسخة منه استعرتها ساعة واحدة أو أقل من ساعة فتصفحت فيها أهم صحائفه
ورأيت قبل هذا في الجرائد اضطربًا في مجلس النواب؛ إذ طلب بعض أعضائه
عقاب هذا المعتدي على دين الحكومة الرسمي وهو من عمالها، وإخراجه من
المدرسة الجامعة حرصًا على عقائد طلبتها وآدابهم وكاد هذا الاضطراب يؤول إلى
استقالة الوزارة العدليه؛ لأن صاحب الدولة رئيسها ووزير الداخلية فيها رأى أنه لا
حق لمجلس النواب في مطالبتها بما طالبها فطفق يرد على بعض النواب، وانبرى
صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول رئيس المجلس لمناقشته والدفاع عن
حقوق المجلس حتى اعتقد الحاضرون أن الجلسة لا تنتهي إلا باستقالة الوزارة،
ولما كان اتفاق هذه الوزارة مع المجلس هو قطب الرحى لاتحاد الأمة المصرية
بعد طول الشقاق اقترح بعض الأعضاء تأجيل الفصل في هذه المسألة إلى الجلسة
التالية لتلك الجلسة وذهب في تلك الليلة كل من صاحبي الدولة رئيس الوزارة
ورئيس مجلس الشيوخ حسين رشدي باشا إلى بيت الأمة، فسمرا مع دولة سعد
سمراً طويلاً انتهى بالاتفاق على قبول ما صرحت به الحكومة في مسألة الدكتور طه
حسين وهو: أنها تعمل ما يحب عليها، وأن يطلب بعض النواب من النيابة العامة
إقامة الدعوى على الدكتور طه حسين وهكذا كان.
طلب بعض النواب محاكمة الدكتور طه حسين فطلبته النيابة العامة للتحقيق
معه، وعين جماعة من كبار العلماء الجامع الأزهر لمناقشته ومناقشة وكلائه في
القضية، وقد ظهر من ضعف هؤلاء العلماء في المناقشة ما كان مدعاة الامتعاض
والأسى من أهل الدين والتقوى وقال بعض الملاحدة: إن علماء الأزهر أرادوا أن
يثبتوا كفر الدكتور طه حسين فأثبت هو كفرهم! !
ليست هذه القضية قضية فرد اسمه طه حسين يشك ويشكك في الدين فقط -بل
هي أعظم من ذلك - ولا هي قضية أستاذ في مدرسة الجامعة المصرية أعطي حقًّا
رسميًّا في إفساد عقائد الطلبة في المدرسة الجامعة الرسمية وتجريدهم من دينهم وإن
هذا لعظيم جدًّا جدًّا جدًّا، ولكن وراءه ما هو أعظم منه وهو الذي يفقهه أهل الفقه في
مصر، وفي أوربة، وسائر العالم، وبه كانت القضية أعظم وأكبر شأنًا من قضية
فرد اشتهر بعدم التدين، وبالصد عن الدين وأعظم وأكبر شأنًا من كونها قضية
أستاذ في الجامعة المصرية أعطى حقًّا رسميًّا من الحكومة يبث رأيه على
زيغه أي بإفساد عقائد الطلبة.
بماذا كانت هذه القضية أعظم من هذا الأمر الذي اعترفنا بأنه عظيم جدًا جدًا
جدًّا.
يذكر قراء المنار أننا كتبنا في إحدى المقالات التي استنكرنا فيها جريمة كتاب
الشيخ علي عبد الرازق أن أحد أذكياء الإسرائيليين في مصر صرح في محفل أدبي
بأن قضيته هي قضية التنازع بين مدرسة الجامعة الأزهرية الدينية ومدرسة الجامعة
المصرية اللادينية، أو لتنازع بين الدين والإلحاد في البلاد المصرية ولعلهم يذكرون
أيضاً أن الشيخ علي عبد الرازق هدد خصومه في بعض المقالات التي نشرها في
جريدة السياسة وأنذرهم الخيبة والفشل في مقاومته ومحاكمة الأزهر له، ثم ظهر أن
وزير الحقانية ورئيس الحزب الحر الدستوري يعارض في محاكمة هيئة كبار علماء
الأزهر له بحسب قانون الأزهر، ولما أصر رئيس الوزارة في ذلك الوقت (يحيى
إبراهيم باشا) على وجوب محاكمته وعضده أكثر أعضائها استقال وزير الحقانية هو
وسائر الوزراء الذين من حزبه الحر الدستوري كما هو مشهور ولم ينسه الجمهور.
وهذا الدكتور طه حسين قد جعل كتابه الجديد هدية إلى صاحب الدولة عبد
الخالق باشا ثروت وزير الخارجية في الوزارة الحاضرة وأحد الأركان المؤسسين
للحزب الحر الدستوري وصدره باسمه وفهم الكثيرون أن رئيس الوزارة صاحب
الدولة عدلي باشا قد ناضل مجلس النواب واشتدت الملاحة بينه وبين صاحب الدولة
سعد باشا رئيس المجلس لأجله حتى كاد يسمح بترك الوزارة في هذه السبيل.
ومما يعلمه الجمهور مع هذا أن جريدة السياسة التي هي لسان الحزب الرسمي
هي اللسان غير الرسمي لهؤلاء الذين يطعنون في الإسلام ويحاولون هدم دعائمه
الدينية واللغوية والأدبية كالشيخ علي عبد الرازق والدكتور طه حسين وغيرهما
وهنالك جريدة أخرى أسبوعية تمُتّ إلى هذا الحزب بسبب وهي تهزأ بالدين ورجاله
في كل عدد ولو بغير سبب.
ومما يعلمون مع هذا أن الملاحدة والزنادقة قد كثروا في مصر وأنهم صاروا
يجاهرون بالدعوة إلى الإلحاد وإلى تقليد زعماء الترك في المروق منه والتفصي من
جميع مقوماته والانسلاخ من جميع مشخصاته وتقليد ملاحدة الفرنج وإباحيهم دون
أهل الدين منهم الذين يبذلون الملايين في تأييد دينهم ونشر دعوته في العالم ومن
هؤلاء الملاحدة أصحاب المناصب العالية والدانية.
فمن فكر في هذه المقدمات كلها يعلم أن قضية الدكتور طه حسين هي قضية
التنازع بين دين الإسلام والجهر بالإلحاد الصريح كما كانت قضية الشيخ علي عبد
الرازق كذلك، وقد صرح بهذا فيهما بعض كتاب الجرائد الأوربية في مصر وفي
أوربة نفسها فإذا برئ الدكتور طه حسين منها تعد تبرئته في عرف الشرق والغرب
انتصارًا للكفر على الإيمان وللإلحاد على الإسلام وثأرًا للملاحدة من المسلمين
وشبهة في حزب الأحرار الدستوريين تجرئ سائر الملاحدة على الطعن في الدين
وأنه لم يبق بين أتباع الحكومة المصرية خطوات الحكومة التركية الحاضرة إلا قليل
ولا أقول أكثر من هذا ولا حاجة إلى قول يعرفه جماهير المفكرين من شرقيين
وغربيين لا من المصريين وحدهم.
ولكن يمكنني مع هذا أن أقول: إن الحزب الحر الدستوري في جملته مغبون
ومظلوم في جعل جريدة السياسة لسان حاله في كل ما تنشره خارجًا عن الخطة
السياسية الوطنية للحزب كالحملة على الدين ورجاله ودعوتها إلى تجديد الأمة
المصرية بثقافة جديدة تحل روابط الثقافة الإسلامية وتحل محلها فإننا
نعرف من أعضائه المسلمين الصادقين المصلين الصائمين بل ربما كان في
أعضائه من يكره كثيرًا مما نشرته في سبيل سياسة الحزب أيضًا، وأقول أيضًا:
إن ما أشرت إليه من سبب نضال صاحب الدولة عدلي باشا لمجلس النواب هو
المعقول دون ما قيل وما انتشر من كون المراد به الدفاع عن طه حسين وكتابه
وأقول ثالثًا: إن صاحب الدولة ثروت باشا لا يعقل أن يكون قد استشير في
تصدير كتاب (في الشعر الجاهلي) باسمه أو أنه رضي بذلك على علم بما
في الكتاب.
ثم أقول رابعًا: إن النيابة العامة إذا قررت عدم محاكمة طه حسين، وإن
القضاء إذا برأه بعد محاكمته من عقاب الطعن في الدين وتكذيب القرآن وكذا التوراة
فلا يكون هذا ولا ذاك برهاناً منطقيًّا ولا قانونيًّا على تعمد نصر القضاء الكفر علي
الإيمان والإلحاد على الإسلام؛ لأن كلاًّ من رجال النيابة والقضاء المشتركين في هذه
القضية قد ينظرون ويحكمون بمقتضى الألفاظ التي يقولها الخصوم في مجالس
التحقيق والمحاكمة وقد يغفلون عن كون كلام طه حسين ووكلائه مخالفًا لكل ما فهمه
رجال الدين وجماهير المسلمين والغربيين في كتاب الدكتور طه حسين، وعن كون
فهم هؤلاء الجماهير يجب أن يكون له قيمة، بل أكبر قيمة في إدانته، فإن العبرة أو
العمدة في إثبات طعنه في الدين وإهانته له بما يفهمه جماهير الناس منه لا بما يمكن
أن يقال في تأويل الكلام والجدال فيه، وقد فهم العرب والإفرنج جميعًا أن الكتاب
طعن صريح في القرآن والنبي وسلف المسلمين الصالحين وأئمتهم، ونكتفي بنشر
برقية واحدة مما جاء من أوربة في ذلك.
***
رأي أوربة
في قضية الدكتور طه حسين
لندن في أول نوفمبر لمراسل الأهرام الخاص نشرت جريدة (الدايلي تلغراف)
اليوم مقالاً رئيسيًّا جاء فيه ما يأتي:
(ليس في العالم دين لا يوجد بين معتنقيه عدد من الهراطقة، فالدكتور طه
حسين رجل جسور فلا بد أن ينال جزاءه بالاضطهاد؛ فمن ينتقد القرآن فهو كافر؛
لأن القرآن منزل بحروفه، وهذا يعني أن الوحي لا يقتصر على ما يقوله القرآن،
بل يشمل أيضًا معنى ذلك القول كما فسره المفسرون القدماء، ثم إن المسلم المتمسك
بدينه يود أن يذهب إلى أبعد من الإيمان بوحي القرآن ويريد من الكتاب أن يكون
الحجة الفاصلة في الأدب العربي وينكر على كل إنسان أنه يستطيع الإتيان بمثل
لغته العالية؛ فمن الصعب على العقل الغربي أن يقبل هذا على أن المؤمنين أنفسهم
قد يجدون مثل هذه الصعوبة؛ فقد سأل اثنان من الصحابة النبي مرة كيف يقرأ آية
قرأها كل منهما قراءة مناقضة للأخرى فأجاب: إن القرآن أنزل عليه بسبع قراءات
ويظهر أن النبي لم يكن هو نفسه يكتب القرآن بل أنزل عليه بواسطة جبريل ثم
توقفت هذه البلاغات المكتوبة المرسلة من السماء وجعل النبي يتكلم بصوت الوحي
والصحابة يكتبون ما يقول، وقد نبه مرة إلى إحدى الآيات قائلاً: إنها وحي من
الشيطان فنسخت.
ليس في العالم عقيدة يسهل الدفاع عنها إذا شاء الناقدون البارعون تفنيدها
أمام جمهور يميل إلى النقد ومع ذلك فإذا لم يكن الوحي هو القوة التي جعلت
للقرآن ذلك السلطان، فما هي تلك القوة؟ لقد أوجد القرآن أحد الأديان العظمى التي
يعتنقها الجنس البشري وهو منذ ألف سنة من أعظم القوى الموجودة في العالم) اهـ.
***
(المنار)
اقتصرنا على هذه البرقية؛ لأن صاحب الجريدة الإنكليزية زاد على وصف
طه حسين بالهرطقة (يعني محاربة الدين) إن أيده في هرطقتة بأمور نشيرإلى
تخطئتها بالإيجاز، وشهدَ للقرآن شهادة معقولة نصفع بها وجوه الملاحدة
ودعاتها الذين يحاولون سلب هذه القوة من المسلمين والذين لا يفقهون
سر إعجاز القرآن فنقول:
1 -
إن الكاتب الإنكليزي علل كفر من ينتقد القرآن بأنه منزل بحروفه
وأستنبط من هذا أن تفسير القدماء للقرآن يدخل في معنى الوحي ومراده، أن من
ينتقد تفسير المتقدمين كان كافرًا كالذي ينتقد عبارة القرآن المنزلة يشير إلى أن طه
حسين قد يضطهد بمخالفته لتفسير قدماء العلماء وكأنه يلقنه بذلك نوعًا من أساليب
الدفاع.
وجوابه أن هذا خطأ كبير، فإنه لم يقل أحد من علماء المسلمين وأئمتهم إن
تفسير أحد من القدماء له حكم نص القرآن نفسه وكثيرًا ما نرى متأخري المفسرين
يخالفون بعض المتقدمين في تفاسيرهم حتى مفسري الصحابة منهم. نعم، إن
إجماع أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين على تفسير آية معتبر من أدلة
الشرع الواجب اتباعها، ولكن مخالفه لا يعد كافرًا إلا إذا كان أمرًا معلومًا من الدين
بالضرورة، وكان المخالف غير حديث عهد بالإسلام أو كان قد علم به وكذبه أو جحده
فالمدار في التكفير على اعتقاد المخالف أن هذا من قطعيات الدين المنصوصة في
القرآن ومخالفته أو جحوده مع ذلك.
2 -
قال: إن المتمسك بدينه يود أن يذهب إلى أبعد من الإيمان بوحي
القرآن
…
إلخ، وجوابه أن كل من قرأ القرآن أو سمعه من أهل المعرفة الصحيحة
باللغة العربية والذوق السليم في آدابها من المسلمين وغير المسلمين كانوا وما زالوا
يؤمنون بما ذكر الكاتب الإنكليزي من خصائص المسلم المتمسك بدينه وهو أن القرآن
هو الحجة الفاصلة في الأدب العربي، وأنه لم يستطع ولن يستطيع أحد
الإتيان بمثل لغته العالية ولا نسلم للكاتب قوله: (إن العقل الغربي يصعب عليه أن يقبل هذا فضلاًعن قوله: إن المؤمنين أنفسهم قد يجدون هذه الصعوبة. وذلك
أن العقل الغربي السليم لا يمكن أن يحكم في أمر لا يعرفه وهو ليس محالاً
لذاته) .
من المنصوص في القرآن والمعروف بالتواتر الإجماعي من تاريخ الإسلام أن
النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدى عرب قريش وهم أفصح العرب لغة، ثم
تحدى سائر الخلق بالإتيان بمثل القرآن أو بسورة من مثله، وجعل هذا
آيته الكبرى على كونه وحيًا من الله، وصرح بأنهم لن يستطيعوا ذلك فقال حاكيًا
عن الله تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُواْ} (البقرة: 24) فلو قدر أحد من الكافرين به وكان
أكثرهم كافرين أن يأتوا بسورة من مثله لأتوا بها لإبطال دعوته والاستراحة من
تعادي القبائل بمقابلته، ولكن ظهر عجزهم وعجز جميع الخلق عن الإتيان بسورة
من مثله في بلاغته وهم عن الإتيان بمثله في هدايته أعجز، فهذا النوع من
إعجازه قد اعترف به الكاتب الإنكليزي وغيره من الغربيين ولكنه امترى في
إعجازه ببلاغته؛ لأنه لا يعرف لغته فهذا العجز حجة للمسلمين الذين يعرفون البلاغة
العربية والذين يجهلونها من الأعاجم وعوام العرب على إعجاز القرآن وصدق وعد
الله عز وجل وهي حجة واقعية قطعية لا يمكن المراء والجدل فيها ولا مجال هنا
للزيادة على هذا وقد بسطناه في مواضع من التفسير وغير التفسير.
3 -
زعمه أن اثنين من الصحابة رضي الله عنهم سألا النبي - صلى الله
عليه وسلم - مرة كيف يقرأ آية قرأها كل منهما قراءة مناقضة للأخرى؟ فأجاب: إن
القرآن نزل عليه بسبع قراءات.
هذا النقل أو الزعم باطل وله أصل حرفه، أو لم يفهمه الناقل كدأب خصوم
الإسلام فيما ينقلون عنه، ونحن نذكر أصله الصحيح؛ ليعلم من يريد العلم الحق كيف
يكون الاختلاف والتحريف.
أقول:
أولاً: إن القرآن بالسبعة الأحرف وردت في حديث مستقل غير حديث
اختلاف بعض الصحابة في القراءة فقد روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن
عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرأني
جبريل على حرف فلم أزل أستزيده ويزيد لي حتى انتهى إلى سبعة أحرف، وفي
بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له هون على أمتي وإن
أمتي لا تطيق ذلك كما في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب، وهذه علة
منصوصة في سبب تعدُّد القراءات تنافي أن تكون لتصحيح ما اختلف فيه بعض
الصحابة.
ثم أقول عنهما: إن الاختلاف وقع بين عمر بن الخطاب وحكيم بن هشام رضي
الله عنهما في بعض آيات سورة الفرقان كما في الصحيحين وكل منهما ادَّعى أن
النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه كما قرأ، فلببه عمر بردائه وأخذه إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم وقص عليه ما سمعه منه مخالفًا لما أقرأه - صلى الله عليه
وسلم - فصدق كلا منهما بأنه هو الذي أقرأه كما قرأ، وقال: إن هذا القرآن
أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ووقع مثل ذلك لغيرهما، ولم يذكر
أحد من الرواة ما اختلف فيه عمر وهشام فمن أين أخذ هذا الإنكليزي قوله: إن
قراءة كل منهما كانت مناقضة للأخرى؟ هذا إذا كان قد عبر بما يدل على المناقضة
المعروفة في اللغة العربية أو اصطلاح علماء المناظرة عندنا. فأما إذا كان تعبيره
بمعنى المخالفة التي تصدق باللفظية بحيث لا ينقض معنى كل قراءة معنى
الأخرى؛ فيكون كلامه صحيحًا، وفي الفرقان ألفاظ كثيرة اختلف القراء في
قراءتها منها المتواتر الذي يعد قرآنا ومنها غيره وهو لا يعد قرآنا فالأول
كقراءة: {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} (الفرقان: 10) بضم لام (يجعل) وبجزمها
وقراءة (ضيقًا) من قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً} (الفرقان: 13)
بتخفيف الياء وبتشديدها وأمثال ذلك مما لا يتناقض معناه.
4ـ قوله: ويظهر أن النبي لم يكن هو نفسه يكتب القرآن
…
إلخ وهذا لا
يحتاج إلى استنباط منه أو استظهار فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أميًّا وأميته
من دلائل نبوته لا يكتب شيئًا وإنما كان يكتب له أصحابه كل ما يوحى إليه به
ويحفظونه ويقرءونه كما يقرأه صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس وفي
خارجها كل يوم والذين اختلفوا من الصحابة في بعض الألفاظ من سورتي الفرقان
والنحل سمعه بعضهم من بعض في الصلاة.
5 -
قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه نبه مرة إلى إحدى الآيات
قائلا: إنها وحي من الشيطان فنسخت غير صحيح، وهذه هي المسألة المعروفة
بمسألة الغرانيق، وقد كتب شيخنا الأستاذ الإمام مقالاً مسهبًا في تحقيق الحق فيها
يراجعه من شاء في المجلد الرابع من المنار، أو في ملحقات تفسير الفاتحة
المطبوع مرارًا.
6 -
قوله: (ليس في العالم عقيدة يسهل الدفاع عنها)
…
إلخ، هذا نفي مطلق
لا يجزم به عقل منطقي، فالدفاع عن وجود الله، ووحدانيته وحكمته من أسهل الأمور
وقد جزم بها أكثر البشر من جميع الملل والنحل والمنكرون لها على قلتهم لم يسمعوا
براهينها من أهل العلم الصحيح ومن سمع ذلك ومارى فيه فشأنه كشأن
السوفسطائية الذين أنكروا الحسيات وماروا فيها فلا يعتد بإنكارهم إذ مقتضاه أنه لا
يثبت في العالم شيء وهذا جهل ما وراءه جهل.
وأما شهادة الكاتب الإنكليزي التي حمله استقلال عقله على التصريح بها فهي
أن سلطان القرآن الروحي الذي حدث به ذلك الانقلاب العظيم في البشر وأوجد أحد
الأديان العظمى فيهم، وهو منذ ألف سنة ونيف من أعظم القوى الموجودة في العالم
إذا لم يكن هذا السلطان، وهذه القوة قوة الوحي الإلهي وسلطانه فأي شيء هما؟ وهذا
بمعنى ما قلناه وكتبناه مرارًا، وهو أن إعجاز القرآن بهدايته أعظم من إعجازه
ببلاغته وقد صرح بمعناه غير هذا الكاتب من حكماء الغرب.
إننا نكتفي في هذه المقالة بل العجالة بتنبيه الأذهان لخطر هذا الكتاب وأمثاله
من مكتوبات الدكتور طه حسين وإخوانه دعاة الإلحاد وأوليائهم وندع الرد علي
قضايا كتابه في الشعر الجاهلي أو الأدب الجهلي إلي الذين وجدوا من فراغ الوقت
ما شغلوه بالرد على قضاياه الباطلة وشبهاته العاطلة ووجه الخطر أنه دعوة إلي
الكفر والإلحاد وتحقير الدين والصد عنه ولا سيما في نابتة المدارس العليا وغيرهم
ونحن ما زلنا نذكر الأمة بخطر هؤلاء، وضررهم منذ بلغنا أنهم ألفوا جمعية
للتعاون على إفساد الدين في مصر، وكان أول من بلغنا هذا الخبر بعد وقوفه عليه
المرحوم الشيخ محمد مهدي أحد أساتذة البلاغة والدين في دار العلوم ثم في مدرسة
القضاء الشرعي التي صار وكيلاً لها ثم بلغنا في العام الماضي أن لهم أو لبعضهم
صلة خفية بجمعية يهودية في مصر الجديدة تساعدهم على سعيهم هذا والله أعلم.
ولا شك عندنا في أن هذا الإفساد هو أفعل أسباب ما يتفاقم خَطْبه في بلادنا هذه
من تهتُّك النساء والشبان واستباحة الأعراض وانحلال روابط البيوت وذهاب
الصحة والثروة، وكذا الاستعداد لقبول تعاليم البلشفية وغيرها من بدع الإفرنج التي
لا تقوي بنية دولتنا، ولا بنية أمتنا الاجتماعية والعلمية بدون الدين على ما تقوي
عليه من أحمالها بنى دول أوربة، وشعوبها بعلومها ونظمها وقومها العسكرية، فإن
قيل: إن الدكتور طه حسين قد صرح حين أتهم بهذه التهمة بأنه يؤمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله، قلنا: إن مثل هذا التصريح المجمل المبهم في مقام دفع التهمة لا
يسلب منا لغتنا ولا عقولنا فتغير فهمنا لكتابه هذا وغيره من مكتوباته ومقالاته.
أهكذا يكتب المؤمنون؟ يضعون كلام الله المنزل موضع الشك، بل ينظمونه في
سلك الأساطير الخرافية، ثم ينقضونه بنظريات مخترعة لبعض أعداء الإسلام الإيمان
بكتب الله هو التصديق اليقيني بكل ما أنزله الله تعالى فيها مع الإذعان النفسي
والعملي له، فكيف يصدر عن صاحب هذا الإيمان ما ذكرناه وما لم نذكر من
تشكيك في القرآن، فتكذيب مقرون بالهزؤ؟ فترجيح لمطاعن أعدائه فيه على
نصوصه.
الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم هو تصديقه اليقيني القطعي في كل
ما جاء به عن الله تعالى، مع الإذعان النفسي والعملي لذلك، وهو يقتضي تعظيمه،
وتوقيره، وتعزيزه أي نصره، وتفخيمه، وتقديم حكمه على كل حكم وإننا نرى
له في هذا الكتاب ما نرى من التكذيب والهزؤ، ونراه إذا ذكر النبي الذي يدعي
ملته، فإنما يذكره كما يذكره الكافرون به بلا تعظيم، ولا صلاة، ولا سلام عليه،
قد كان يمكن لطه حسين أن يذكر شبهات أعداء الإسلام على بناء إبراهيم وإسماعيل
لبيت الله تعالى مثلاً بطريق الحكاية عنهم، وكان من مقتضى الإيمان أن يقفي عليها
بالرد، أو يجري فيها على قاعدته التشكيك على الأقل أو يقول: هذه نظريات مردودة
عندنا معشر المسلمين، أو عند المسلمين إذا لم يشأ أن يعد نفسه منهم بنص القرآن
الصريح الذي وصف في بعض سوره بأنه {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ
خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) ولكنني لم أر فيما قرأت من
الكتاب جملة تدل على أن كاتبه مسلم أو يدين بدين، وسأعود إن شاء الله تعالى إلى
النظر فيه؛ فإن وجدت شيئًا من ذلك أثبته له.
وصفوة القول فيه أنه لو لم يكن قاصدًا متعمدًا متوخيًا تجريد تلاميذه من دينهم
ووطنيتهم لادخر هذه الفلسفة لنفسه دونهم، وإن شاء ربي عليها أولاده الذين سماهم
بأسماء الإفرنج دون أسماء المسلمين عداوة لهذه اللغة وهذا الدين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________