المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جمادى الأولى - 1345ه - مجلة المنار - جـ ٢٧

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (27)

- ‌رمضان - 1344ه

- ‌فاتحة المجلد السابع والعشرين

- ‌نموذج من آراء أساتذة المدارس المصرية

- ‌حكم الشرع الشريف في لبس القبعة

- ‌مكان الإسلام من مسلمي الزمانوالحكم عليهم بنصوص القرآن

- ‌مسألة صفات الله تعالىوعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

- ‌الصحة

- ‌حديث عن الجامعة الأحمديةالمشهورة - في بلادنا - باسم القاديانية [*]

- ‌سوانح وبوارح [*]

- ‌فتنة ملاحدة الترك في سورية ومصر

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌شوال - 1344ه

- ‌مسألة صفات الله تعالىوعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

- ‌فتاوى لابن تيمية

- ‌دعاية الإلحاد في مصر

- ‌الإلحاد في الجامعة المصرية

- ‌بلاغ عام

- ‌مذكرةمقدمة إلى مؤتمر الخلافة العامفي مصر القاهرة

- ‌الصحة

- ‌رجال الدين في أمريكايعارضون عقد معاهدة مع أمة غير مسيحية

- ‌ذو القعدة - 1344ه

- ‌علماء مصر يؤيدون مذهب السلف الصالح

- ‌علاقة الأحياء بالأموات [*]

- ‌مقدمة مجموعة مقالاتالوهابيون والحجاز

- ‌مسألة صفات الله تعالىوعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

- ‌الصحة

- ‌أفحكم الجاهلية يبغون

- ‌رأي في الجديد ومدعي التجديد

- ‌محاربة البغاء

- ‌جواب الأستاذ الإمامعن كتاب لبعض علماء الشام

- ‌أمر القادياني قد فصّل

- ‌ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله(5)

- ‌ذو الحجة - 1344ه

- ‌الإرشاد

- ‌الصحة

- ‌ساعة مع جلالة الملك عبد العزيز بن السعود

- ‌الوهابية والعقيدة الدينية للنجديين

- ‌الألفة والاتحاد أساس مجد الإسلام

- ‌الجماعة الإسلامية في برلينونداؤها العام وبلاغاتها

- ‌استدراك آخرعلى إهداء العبادات أو ثوابها إلى الموتى

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌المحرم - 1345ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌الصحة

- ‌جمعية تجديد الإلحاد والزندقةوالإباحة المطلقة

- ‌البابية البهائية في بلاد العرب

- ‌عودتنا من الحجاز

- ‌صفر - 1345ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌جمعية الإلحاد والزندقةالعلم والدين [*]

- ‌الصحة

- ‌مبحث في الجرح والتعديل(2)

- ‌ذات بين مصر والحجاز

- ‌نموذج من كتابالقول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌ربيع الأول - 1345ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌العلم والدين(2)

- ‌الصحة

- ‌كعب الأحبار ووهب بن منبه

- ‌الزعيمانشوكت علي ومحمد علي

- ‌نموذج من كتابالقول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌ربيع الآخر - 1345ه

- ‌ما يباح للرجل من محارمهوشراء السلعة بأكثر من ثمن المثل لأجَل

- ‌الإيمان والكفر والنفاق والظلم والفسق(2)

- ‌قاعدة جليلةفيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌القرآن والعلم الحديث

- ‌الصحة

- ‌بطلان الدفاع عنجرح كعب الأحبار ووهب بن منبه

- ‌جهل زعماء المسلمين

- ‌الحجاز والمؤتمرات الإسلاميةفي الهند وجاوة

- ‌جمادى الأولى - 1345ه

- ‌البدعة اللغوية والبدعة الشرعية

- ‌طلاق الغضبانوالتزوج بالنصرانية

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلقبأحكام السفر والإقامة

- ‌إعجاز القرآن

- ‌كتاب في الشعر الجاهليدعاية إلى الإلحاد والزندقةوطعن في الإسلام

- ‌الصحة

- ‌مذكرة مرفوعة

- ‌نموذج من كتابالقول الوثيقفي الرد على أدعياء الطريق

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌مطبوعات المكتبة الأهلية

- ‌جمادى الآخرة - 1345ه

- ‌أسئلة عن الأبدال والأوتادوالقطب الغوث

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلقبأحكام السفر والإقامة

- ‌منهج الدكتور طه حسين العلمي في البحث

- ‌الصحة

- ‌الطحال والكبد.. هل هما دمان

- ‌وجوب الحج

- ‌تتمة القول في مسألة الجسدالذي ألقي على كرسي سليمان عليه السلام

- ‌أثر المقتطف في نهضةاللغة العربية بالعلم

- ‌العرب وجزيرتهم بين الإمامينيحيى بن حميد الدين وعبد العزيز آل سعود

- ‌خاتمة المجلد السابع والعشرين

الفصل: ‌جمادى الأولى - 1345ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد السابع والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي العربي خاتم رسل الله،

وآله وصحبه ومن والاه، ولعنة الله والملائكة والنبيين، وجميع عباد الله الصالحين،

على جميع فرق المبتدعين في هذا الدين، الذين فرقوا كلمة الموحدين، وأضعفوا

جماعة المسلمين، فكانوا شرًّا عليهم من جميع فرق المشركين، ونالوا من الإسلام

ما لم ينل أحد من أعدائه الكافرين.

أما بعد فإن المنار يبتدئ هديه في مجلده السابع والعشرين، وقد تجدد في

العالم الإسلامي أمر عظيم أيّ عظيم، وهو استيلاء الدولة الإسلامية السُّنية السلفية

الوحيدة على الحجاز، وتمكنها من مهد الإسلام، وظهور أمارات أعلام النبوة

المصرحة بأن الإسلام سيأرز بين المسجدين (الحرمين الشريفين) كما تأرز الحية

في جحرها. ويعتصم من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل فقد صار للإصلاح

الإسلامي دولة مسلحة تقاوم البدع التي فتكت بالمسلمين ففرقت كلمتهم، ومزقت

شملهم، وجعلتهم باتباع شياطين الأهواء أعداء بعد أن ألف الله قلوب سلفهم

بالقرآن فأصبحوا بنعمته إخوانًا.

وإننا نعرض على قراء المنار أهم شؤون الإسلام الحديثة في فاتحة هذا المجلد

كعادتنا كما في سوابقه فنقول:

حال الإسلام والمسلمين في هذا العهد:

بالأمس خسر الإسلام دولة كانت منذ الأجيال الوسطى من تاريخه أشد دولة

بأسًا - وهى آل عثمان - وخلفتها دويلة تركية هي أشد دول الأرض عداوة له،

واليوم تجدد له دولة جديدة هي أرجى دولة لتجديد هدايته وإعادة مجده إلى شبيبته،

إذا عرف سائر المسلمين كيف يؤيدونها وينصرونها، ويفيدونها ويفيدون بها،

وهي الدولة العربية السعودية التي قامت في مهد الإسلام، ويرجى أن تكون مظهر

أنباء الرسول عليه الصلاة والسلام.

فأين مسلمو هذا الزمان منها ومن الإسلام؟

إننا نقرأ ما كتب أئمة الدين في خير القرون من إنكار البدع والمحدثات التي

شوهت الإسلام، ثم نجد الشكوى من ذلك قد تضاعفت في القرون الوسطى، ثم

تفاقمت وطغى طوفانها في القرون الأخيرة. حتى صرنا نسمع خطباء المساجد في

هذا العصر -على جهل أكثرهم وابتداعهم- يقولون على منابرهم: لم يبق من

الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، وإن المعروف قد صار منكرًا،

والمنكر قد صار معروفًا، ومن المصائب أن هذه الأقوال تصدُق عليهم وعلى

أمثالهم من المتصدرين للتعليم والوعظ والإرشاد، فالذي يحذرك من البدع

والمنكرات هو من أشد أنصارهما.

فرض الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكد أمره، ولعن تاركي

التناهي عن المنكرات التي يفعلها بعضهم في كتبه، وعلى ألسنة رسله، لئلا يترك

المعروف، ويفشو المنكر فيصير كالمعروف، فيختل أمر الفضائل ويفسد نظام

الآداب، بل قال الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (من رأى منكم منكرًا فليغيره

بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه

أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وإذا كان إنكار المنكر بالقلب وحده - وهو كراهته واستقباحه والنفور منه

ومن أهله - أضعف الإيمان، وكأن أقواه وأكمله لا يكون إلا بإزالته بالفعل، فما

القول إذًا في الذين لا ينكرونه بقلوبهم لألفتهم له وأنسهم به؟ وما القول فيمن هم شر

منهم وهم الذين مرنوا على المنكر واستحلُّوه واستعذبوه حتى استحلُوه، أو

اعتقدوا أنه معروف وليس بمنكر؟

ترك المسلمون تغيير المنكر بالفعل بضعف الخلافة وصيرورتها لقب تشريف،

ثم تركوا إنكاره بالقول لفشوّه في الحكام المستبدين والزعماء الظالمين وضعف

الدين في جماعات المسلمين، إلا قليلاً منهم كانوا يظهرون حينًا ويخفون أحيانًا،

ولا يجدون لهم شوكة ولا سلطانًا، حتى ظهر في أواخر القرن الثاني عشر للهجرة

وأول ما بعده الإصلاح الوهابي في نجد.

قام عالم نجدي اسمه محمد بن عبد الوهاب يدعو إلى التوحيد الخالص، وهو

عبادة الله تعالى وحده بما شرعه للناس في كتابه وعلى لسان رسوله، ويأمر

بالمعروف من السنن، وينهى عن المنكرات من المعاصي والبدع.

قاومه الناس وآذوه كما آذوا من قبله ومن بعده كل داع إلى الحق والخير،

وسخر الله من الزعماء الأقوياء من آزره حتى تأيد القول بالفعل، وكان أول منكر

من منكرات الشرك أزيل بالفعل قطع شجرة كانت تعبد في تلك البلاد كذات أنواط

في الجاهلية، وشجرة الحنفي وشجرة المنضورة في بلدنا هذا (مصر) فقامت

البلاد وقعدت، وعزم عباد الشجرة على الفتك به، فحماه زعيم هذا البيت السعودي

ومنعه من كل من يريد به سوءًا، وانتشرت دعوته الإصلاحية بقوه سيوف هذا

البيت الكريم في جزيرة العرب حتى استولوا على الحجاز، وكادوا يجددون للإسلام

مجده وحضارته بمثل نهضته الأولى، كما صرح بذلك كل من عرف كنه حالهم من

الشرقيين والغربيين، لولا أن تصدت لهم الدولة العثمانية، فحاربتهم من جهة

العراق والحجاز، ولما عجزت عنهم استعانت عليهم بدولة مصر الفتاة، فحاربهم

محمد علي حتى أخرجهم من الحجاز.

ولم تكتف الدولة التركية وأعوانها حتى من العرب بهذه الحرب، بل أثارت

عليهم حربًا شرًّا منها وأشأم، وهي حرب الدعاية بالطعن في عقائدهم وأعمالهم،

وتسمية سنتهم بدعة، وخيرهم شرًا، عرفهم نكرًا، بل إيمانهم كفرًا - أيضًا،

وكتب المتزلقون في ذلك الكتب والرسائل الكثيرة وأودعوها من فنون الكذب

والبهتان ما لايخطر إلا في بال الشيطان، حتى إن بعض زنادقة العراق،

وملاحدته المجاهرين بالتعطيل والإلحاد، ألف كتابًا في الافتراء عليهم تزلفًا إلى

الوالي التركي والدولة التي كانوا يدهنون لها بوصفها بحامية السنة، وإنما كانت

تريد حماية ملكها وسلطانها وقطع الطريق على الأمة العربية، حتى لا تتجدد لها

دولة قوية، وإلا فإن بلادها كانت مملوءة بالبدع والضلالات وهي لم تُزل منها شيئًا،

وكانت تعترف بإسلام بقايا طوائف الباطنية حتى الإسماعيلية الذين يعبدون آغا

خان المشهور.

وقد ألقى رجال السلطان عبد الحميد الأخير الشقاق والعداوة بين آل سعود وآل

رشيد في نجد، وما زالوا يمدون ابن الرشيد بالسلاح والمال إلى أن تمكن من

إخراج آل سعود من نجد، واستولى على الرياض عاصمة إمارتهم، حتى كان ما

كان من نهضة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل المؤيد بنصر الله وتوفيقه،

واستعادته لنجد، ثم استيلائه على إمارة ابن الرشيد وعلى بلاد الإحساء وكل ما كان

بيد الدولة العثمانية من تلك البلاد، ثم على بلاد عسير، ثم على المملكة الحجازية

برمتها.

هذا هو الطور الجديد المرجو للإسلام، وهذه هي الفرصة السانحة لتجديد

هدية وإعادة مجده، فهل يضيعها المسلمون كما أضاعوها أول مرة؟ وما موقف

حزب الإصلاح الإسلامي المنتشر في جميع الأقطار مع هذا الزعيم الشاكي السلاح،

وقد فشل أئمة الإصلاح الذين أجرَّتهم الرماح؟ ثم ما موقف الأمة العربية معه

وهي قد عرفت نفسها، وطفقت تنشد زعيمًا تجدد تحت لوائه حضارتها ومجدها؟ .

ثم ماذا يكون عمل المبتدعة، وسدنة القبور المعبودة، والخرافات المستغَلَّة -

وعمل المتفرنجيين واللادينيين من ناحية أخرى - في مقاومة الدولة الجديدة،

والنهضة العتيدة؟

إن بين مسلمي هذه الأيام ومسلمي أول القرن الثالث عشر (الذي طفت فيه

الدولة الوهابية الأولى ورسبت) وبين عرب القرنين أيضًا وبين الأحوال العامة

فيهما فروقًا كثيرة نعد منها أهم ما يتعلق به الرجاء من إيجابية وسلبية ونقفي عليه

بما يعارض هذا الرجاء من الخوف - فنقول:

آيات الرجاء في الدولة الجديدة:

(1)

إن الدولة العثمانية التي كانت بالمرصاد للأمة العربية تمنعها من كل

نهوض قد زالت من الوجود، والدولة التركية المحضة التي خلقتها لا شأن للإسلام

ولا للعرب عندها، وليس لها أدنى مصلحة أو فائدة من عداوة الدولة السعودية، بل

موادتها خير لها من محادّتها.

(2)

إن الدولة المصرية لا تزال تجاهد في سبيل استقلالها، فلا هي

دولة عسكرية مستقلة يغريها حب التوسع في السلطان بفتح الحجاز ونجد، ولا

هي حكومة شخصية استبدادية يتصرف فيها حاكم مطلق بهواه كما كانت في عهد

محمد علي، فيخشى أن يدُعَّها إلى فتح الحجاز وغيره تلذذًا به، أو اقتفاء لأثر جده،

ولم تبق آلة جامدة صامتة في أيدي الأجانب يدفعونها إلى ما شاءوا بغير معارض،

بل هي دولة أمة عربية مسلمة من مصلحتها التواد مع الدولة الجديدة والاكتفاء

منها بتأمين الحرمين الشريفين ليؤدي شعبها مناسكه وزيارته براحة واطمئنان،

بل مصلحتها في التواد والتعاون مع الحجاز ونجد فوق ذلك وليس من غرضنا بيانه

هنا.

(3)

إن مسلمي هذا العصر أوسع علمًا بالإسلام ومصلحة المسلمين من أهل

ذلك العصر، فلا تروج فيهم الدعاية الظاهرة البطلان، التي راجت منذ قرن

ونصف بأكاذيب أحمد زيني دحلان وأمثاله ومقلديه العميان، أو الطامعين بنوال

السلطان، وقد كانت الدعاية التي أذاعها الشريف حسين وأولاده في الطعن في

الوهابية وسلطانهم أوسع من كل ما سبقها نشرًا، ولكن كان جل تأثيرها الخيبة

وخسران ألوف الدنانير أنفقت عبثًا، وقد كتبنا في إبطالها بضع مقالات نشرناها في

جريدة الأهرام ثم في المنار، كان لها من حسن التأثير وقوة البرهان، ما يصح أن

يسمى هدمًا لما كان بني في قرن ونصف قرن من الإفك والبهتان، لا لما بناه دعاة

هذا الزمن وحده.

(4)

تغير ما يسمى (الرأي الإسلامي العام) في الحكم على الوهابية

وسلطانهم حتى إن استيلاءهم على الحرمين الشريفين تُلُقي بالقبول والارتياح في

جميع البلاد الإسلامية، ولم يظهر صوت عال في استنكاره وعده مصابًا على

الإسلام في قطر من الأقطار كما كان يرجو الشريف حسين وأولاده وأعوانهم،

وإنما سمع نئيم خافت وأنين ضعيف من بعض الروافض وعباد القبور وأنصار

الخرافات.

ومن الآيات على ذلك إقبال الألوف الكثيرة من المسلمين على طلب الرخصة

بالسفر إلى الحجاز إلا دولة العجم الشيعية، فقد منعت الحج لسبب خرافي سنعود

إلى الكلام عليه.

ومن الآيات الخاصة ببعض الأقطار الإسلامية بل بأهمها وأعظمها شأنًا

وقدرًا أن صاحب السيادة والمقام الجليل الإمام يحيى حميد الدين صاحب اليمن قد

هنأ الملك عبد العزيز بن السعود على انتصاره، ووثق روابط المودة والولاء معه،

وسيكون له مندوب يمثله في المؤتمر الحجازي القريب.

ومن هذه الآيات أيضًا ما كان من روابط المودة بين ملك مصر وملك

الحجاز، وقد بدأ الأول بإرسال مندوب من قِبله في أثناء زمن الحرب، ثم تلاه

الآخر بإرسال مندوب يحمل هدايا المودة وعاد إلى مكة يحمل جزاءها. والذي يرجوه

جميع المسلمين - وإن كرهته جماعة الملاحدة واللادينيين - أن يكون التوادّ والولاء

بين مصر والحجاز مبنيًا على أقوى قواعد الصدق والإخلاص، وأن يكون التعاون

المادي والمعنوي بينهما بالكمال.

ومن هذه الآيات الخاصة بأرقى الطبقات الدينية في مصر، ذلك الاحتفال

الفخم الجميل الذي كرم به أساتذة مدرسة القضاء الشرعي الحاضرون والسابقون

وتلاميذها مندوب الملك عبد العزيز آل سعود في مصر، وهو الشيخ حافظ وهبة

المصري الذي كان من تلاميذ هذه المدرسة. فقد اشترك فيه وحضره أرقى شيوخ

التعليم وكهوله وشبابه في المدارس العليا وما دونها، وتبارى فيه مصاقع خطبائهم،

وفحول شعرائهم في مدح الملك عبد العزيز آل سعود بالدين والإصلاح ونوط رجاء

المسلمين به. وهذا محل دلالة الآية على أن أرقى رجال التعليم الديني وأساتذة

العربية من أهل السنة بمصر يعتقدون أن هذا الرجل مام مصلح في الإسلام ومجدد

لهداية الدين ومجده، لا أنه مسلم سني فحسب، بهذا كانوا يرفعون أصواتهم في

ذلك الاحتفال البهيج المهيب، وكان جمهور السامعين الكبير يصفق لهم تصفيق

الإعجاب والممالأة، وسنذكر لهم نموذجًا من ذلك في هذا الجزء.

(5)

إجابة زعماء المسلمين من أقطار الشرق والغرب لدعوة ملك الحجاز

وسلطان نجد إلى عقد مؤتمر في مكة، حتى إن بعض الوفود التي كانت انتخبت

لحضور مؤتمر الخلافة بمصر تحولت إلى مؤتمر مكة حتى من كان يمكنهم الجمع

بين المؤتمرين.

(6)

إن قبائل العرب في سورية وفلسطين والعراق صارت تستجيب

لدعوة التدين التي يقوم بها الوهابيون بالاختيار، وأما قبائل الحجاز فقد بايعت الملك

السلطان عبد العزيز آل سعود على السمع والطاعة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

والجهاد في سبيل الله، وقد انبث فيها المعلمون المرشدون كما انبثوا من قبل في

عشائر عسير وتهامة، وسيكون هؤلاء كلهم إخوانًا في الدين صادقين، ومظهرًا

لقوله تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) .

(7)

إن أُولى الدعاية الجنسية العربية في سورية وفلسطين كانوا مختلفين

في الرأي والميل في مناط الزعامة والقيادة لهذه الأمة حتى بعد ظهور الفارس

المغوار عبد العزيز آل سعود في الميدان، فقد كان بعضهم يفضل زعامة شرفاء

مكة على ما كان يظهر على التوالي من ضعفهم وعجزهم وخذلانهم للوطنيين

وتفانيهم في الإخلاص للأجانب لأنه - كما كانوا يقولون - أولاً: ليس في الميدان

غيرهم، ولإحاطتهم بالبلاد السورية في الحجاز وشرق الأردن والعراق، لأن ابن

سعود بعيد عن البلاد، ولأن خطته دينية لا مدنية- ومن هؤلاء كثير من اللادينيين

والمفتونين بالتفرنج، والشرفاء كانوا يرضون كلاًّ منهم بما يهواه ولا سيما فيصل،

فهو لا ديني مع اللادينيين واليهود والإفرنج، سني مع السنيين، شيعي مع الشيعيين.

أما وقد استولى ابن سعود على الحجاز واعترفت له الدول العظمى

بالاستقلال المطلق، وظهر خذلان الشرفاء في كل شيء، وعلم أنه لا دين يهمهم

أمره ولا وطن فلم يبق لطلاب إحياء مدنية العرب زعيم يتوجهون إليه غير ابن

السعود، ولا يضر غير المتدين وغير المسلم منهم تدينه؛ لأنهم ليسوا في كره

الإسلام كأساتذتهم من ملاحدة الترك، فأولئك يمقتون الإسلام لأنه عربي، ولو كان

لسلفهم دين علم وحكمة وآداب وتشريع يداني الإسلام في فضائله ومزاياه لفخروا فيه

على جميع الأمم، وباعوا به جميع الملل، وكيف وقد ارتأى بعضهم أن تكون

صورة الذئب الأغبر شعارًا لهم لأن أجدادهم عبدوه وقدسوه في جاهليتهم الأولى،

ورأينا منهم من يفتخر بجنكيز خان وهلاكو خان، أعداء البشر ومخربي العمران؟

فلو اقتدى متفرنجة العرب في مصر وسورية والعراق بهم حق الاقتداء في العصبية

القومية لكانوا أجدر بالافتخار بالإسلام ورجاله: محمد خاتم النبيين، وخلفائه

الراشدين، وأهل بيته الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين، وأئمة العلوم

الشرعية، لدينه الحق وملته الحنيفية، بأشد من افتخارهم بغيرهم من رجال العرب

العظماء كالملوك والأمراء والقواد والحكماء والأدباء، ففضائل العرب وحضارتهم

العليا إسلامية.

وقد قال أحد أدباء السوريين الأحرار من المسيحيين لبعض أصحابه:

إني أعجب لكم كيف تفتخرون بالانتماء إلى أحد أنبياء اليهود [1] وأنتم لا تؤمنون به،

وتتركون في الانتماء إلى نبيكم العربي والفخر به، ولماذا تعظمون مثل المعري

والمتنبي من شعراء قومكم، والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم منهم فضلاً

على لغتكم وأمتكم؟

(8)

إن زعماء المسلمين وعقلاءهم من العرب والعجم الراسخين في الدين

الإسلامي المبين، والواقفين على شؤون هذا العصر - ولا سيما الهنود منهم - هم

شديدو الغيرة على مهد الإسلام: الحجاز وسياجه من البلاد العربية، وضمان

استقلاله للمسلمين، وحفظه من عدوان الاستعمار الغربي عليه، ويعلمون أن هذا لا

يتم ويدوم إلا بوجود دولة إسلامية حربية عزيزة الجانب فيه، ولم تتحقق هذه

الأمنية إلا بعقل ابن السعود وسيفه، فهم بما يجب عليهم من صيانة دينهم مدفوعون

إلى مساعدة هذه الدولة الجديدة على تنظيم قوتها، وتفجير ينابيع الثروة لها،

ومساعدتها على نشر العلم وإقامة دعائم العمران في الحجاز وسائر جزيرة العرب،

وهؤلاء هم عمدة حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل الذي وضع أساسه السيد جمال

الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري.

فهذه الفروق بين العشر الخامس من القرن الرابع عشر للهجرة النبوية التي

قامت فيه الدولة السعودية الجديدة، وبين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن

الثالث عشر التي تأسست فيها الدولة السعودية القديمة - هي مناط الرجاء في نجاح

الدولة الجديدة وفوزها.

***

الغوائل المهددة للتجديد الإسلامي

ولكن تجاه هذه المبشرات الست ثلاث غوائل أو مفاسد مما يفتك بوحدة

الإسلام في داخلها، قد تؤيدها الدسائس الأجنبية التي تهاجمها مما يحيط بها:

الأولى: عصبية غلاة الشيعة.

الثانية: جهالة مبتدعة القبوريين وأمثالهم من أهل الدجل والخرافات والبدع.

الثالثة: دعاية اللادينية ومفاسد ملاحدة المتفرنجة.

الشيعة وأهل السنة:

فأما غلاة الشيعة فقد كانوا أشد النقم والدواهي التي أصيب بها الإسلام:

هم مبتدعو أكثر البدع المفسدة لتعاليمه ولأهله، هم الذين صدّعوا وحدته،

وأضعفوا شوكته، وشوهوا جماله، وانتقصوا كماله، وجعلوا توحيده وثنية،

وأُخوته عداوة وبغضاء، وبثوا فيه فتنة عبادة أناس لأجل أنسابهم، وتقديس أناس

بأحسابهم، وجعل سعادة الدنيا والآخرة بوساطتهم عند الله وتأثيرهم في علمه

وإرادته، على ضد عقيدة القرآن من كون الخالق تعالى لا يطرأ على صفاته تأثير

من المخلوق، وكون مناط سعادة البشر هو الإيمان الصحيح السالم من خرافات

الوثنية المفسدة للعقول، وتزكية النفس بالعلم وعبادة الله تعالى وحده بما شرعه،

وأنه ليس لمخلوق أن يشرع لمثله عبادة بدون وحيه تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا

لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) .

وجميع الفرق التي ارتدت عن الإسلام في القرون السابقة كانت من غلاة

الشيعة فمنهم جميع (فرق الباطنية) الذين كانوا يلبسون لباس المسلمين ويظهرون

التلبس به لتقبل دعايتهم لهدمه بالتأويل، وكانت طائفة البكداشية المنتشرة في بلاد

الترك والارنؤط منهم، ولما دعا ملاحدة الكماليين إلى اللادينية ولبس البرنيطة

وإبطال جميع النظم الإسلامية وتفريق جماعاتها كانوا هم أول من أجاب الدعوة

بسرور وارتياح، وصرح بعض رؤسائهم بأنهم قد وصلوا إلى غايتهم من طريقتهم

وهي هدم تعاليم الإسلام والتفصي من أحكامه وسلطانه.

كذلك كان غلاة الشيعة مثارًا لأفظع الكوارث التي هدت قوى الإسلام،

وضعضعت الخلافة العباسية، ودمرت الحضارة العربية، التي كانت زينة الأرض

وفخار أهلها - وهي كارثة التتار - كما كانوا أولياء وأنصارًا لأعداء المسلمين أيهم

أشد عداوة لهم وفتكًا بهم لإسلامهم حتى الصليبيين.

زالت الأسباب التي دعت زنادقة الفرس إلى ما ذُكر، وغلب الإسلام على

بلادهم بالفعل فقل من عاد يعاديه لذاته، بل وجهت العداوة الشيعية إلى أهل السنة

خاصة، وزال ملك العرب من بلادهم وصار السلطان فيه للترك فانتقل ما كان من

عدواتهم للعرب إلى الترك على اختلاف طوائفهم، وكان قد انتشر مذهب السنة في

البلاد الإيرانية كلها وضعف التشيع فيها ثم زاد وقوي بتعصب الترك

العثمانيين، فهم الذين كانوا سبب تأسيس دولة شيعية تقاتلهم لحماية التشيع وتضطهد

السنة، حتى صارت السنة في بلاد إيران أضعف من المجوسية، ولم تبق لها دعوة

مطلقًا، بل بث شيعة إيران مذهبهم في عرب العراق حتى كاد يكون أكثر البدو منهم

يقيمون مآتم الإمام الحسين عليه السلام، ويلعنون أبا بكر وعمر عليهما من الله

أفضل الرضوان، ولم يجدوا في بث دعايتهم هذه مقاومة من الدولة العثمانية

الجاهلة الغبية، ولا معارضة لها بمثلها من علماء أهل السنة إلى أن ظهرت

جماعة الوهابية.

الحق أن أهل السنة قد أهملوا في القرون الأخيرة دعوة غير المسلمين إلى

الإسلام، ودعوة المبتدعين في الإسلام إلى السنة، إلى أن حرك دعاة النصرانية

بعض مسلمي الهند إلى ذلك فحملتهم الغيرة والمباراة على تجديد الدعوة إلى الإسلام،

وقلما يغارون من الشيعة فيدعونهم إلى السنة كما يدعون هم أهل السنة إلى التشيع،

فالشيعة كلهم دعاة إلى مذهبهم حتى النساء، ولكن أهل السنة في الهند يعادون

الشيعة بما لا يفيد السنة، بل بما ينافي الوحدة الإسلامية العامة، وهذا ما ننكره

على الفريقين ونسعى لتلافي شره، وأعني بقولي (نسعى) حزب الإصلاح ذي

الأنصار في جميع البلاد الإسلامية.

وأما الوهابية فقد شرعوا في إحياء دعوة الإسلام على مذهب أهل السنة

والجماعة الذي كان عليه السلف الصالح وأئمة الحديث في القرون الثلاثة التي شهد

لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وإنكار البدع واجتناب التأويلات

المحدثة حتى ما فشا منها في أهل السنة، فعادتهم الشيعة وعادوها في بدء ظهورهم

أو في نهضتهم الأولى كما عاداهم جهلة المدعين للسنة تأييدًا لسياسة الدولة.

وأما معيد هذه النهضة ومجدد دولتها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن

الفيصل آل سعود فهو على شدة تمسكه بالسنة ونصرها واسع الصدر، عارف

بحاجة الأمة العربية والشعوب الإسلامية إلى التعاون والتكافل في هذا العصر، وقد

استولى على بلاد الإحساء التي كانت تحت تصرف الدولة العثمانية وفيها كثير من

الشيعة، ولم نسمع أن أحدًا منهم شكًّا منه أو من عماله اضطهادًا أو ظلمًا أو محاباة

لأهل السنة دونهم، وقد عنى أشد العناية بالتواد والموالاة بينه وبين الإمام يحيى

حميد الدين إمام الزيدية من الشيعة، فارتاح إلى ذلك عقلاء المسلمين وأهل الرأي

فيهم من أهل مصر والهند وسورية وسائر الأقطار.

وقد سعينا لعقد روابط المودة والاتفاق بينه وبين حكومة إيران وشاهها الجديد

الهمام، كما سعينا مثل هذا السعي من القبل بينه وبين الإمام يحيى، فصادف السعي

الثاني ما صادف الأول عنده من الارتياح؛ لأنه صادف رأيًا في العقل، وهوى في

الفؤاد، على كونه وقع بعد أن جمع فيصل ملك العراق مؤتمرًا من مجتهدي الشيعة

في النجف كفّروا فيه النجديين، ونبزوهم بلقب أعداء المسلمين (يعنون أنفسهم)

وعلى أثر قيام الشيعة في الهند وفي إيران بالتهييج العام عليه وعلى قومه وزعمهم

أنه هدم قبة الحجرة النبوية، وغير ذلك من الاختلاق الذي عرفوا من بعد أنه من

بهتان دعاية الشريف عليّ؛ إذ أرسلت حكومة طهران وزيرها المفوض

بمصر وقنصلها في سوريا إلى الحجاز ليكشفا لها كنه الحال في مكة المكرمة وفي

المدينة المنورة قبل خضوع الشريف علي واستسلام حاميتي المدينة وجدة - فقابلهما

ابن السعود بمكة بالود والاحترام، وأعطى الوزير المفوض نسخة من منشور الدعوة

إلى مؤتمر الحجاز لأجل تبليغها لحكومته ونسخة أخرى لإيصالها إلى

أمير أفغانستان، بل منحه من الثقة ما هو فوق ذلك، ولم تكن دولة آل عثمان

على إغماضها في أمر السنة ترى أن تعطي لدولة الشيعة من حق الاشتراك في أمر

الحرمين الشريفين شيئًا، وكنا نظن أن الدولة الإيرانية الجديدة تقدر هذه العواطف

قدرها، وتعلم أنها أحوج إلى مقابلتها بمثلها، فبلغنا مع الأسف أن استباب الأمر

لسلطان نجد في الحجاز ومبايعة أهله له بالملك عليهم قد وقع على دولة الشيعة

وزعمائها وقوع الصاعقة، وأنها منعت رعاياها من أداء فريضة الحج إعلانًا

لكراهة ملكها الجديد واحتجاجًا عليه بإقامته للسنة في منع عبادة القبور وهدم المعبود

منها، على حين قد صنع بعض شيعة إيران تمثالاً لعلي - كرم الله وجهه -

وهو منكس التماثيل وطامسها، وهادم الوثنية ومدمرها.

ندع عصبية غلاة الشيعة تغلي مراجلها في إيران والعراق والهند، فهي

عاجزة أن تنال من الدولة السنية الحية منالاً، ولن تغني عنهم جريدة المقطم

الممقوتة عند المسلمين شيئًا، وامتناعهم من أداء فريضة حجة عليهم، نرجو أن

تكون سببًا لرجحان رأي المعتدلين بعد سكون العاصفة، فنعود إلى السعي لجمع

الكلمة.

مقاومة الخرافيين لدولة السنة:

وأما جهالة دجاجلة الخرافات والقبوريين من أهل الطرق وأعوانهم من العوام

فهي بمعنى عصبية غلاة الشيعة، ولكنها أضعف منها كيدًا، وإن كانوا أهلها

أكثر عددًا، وذلك أن أكثر شيوخها جاهلون لا يستطيعون دفع حجة ولا تأييد

شبهة، وليس للعوام أدنى فائدة منهم، وهم ينتمون إلى مذاهب السنة التي تحتجّ

بكتب الحديث المشهورة من الصحيحين والسنن والمسانيد المشهورة، وكلها تؤيد

الإصلاح الذي يدعو إليه الوهابية، وكذلك أقوال الأئمة المجتهدين الذين لا خلاف

في جلالتهم عند أهل الطريق.

فإذا روى الوهابي لأي مسلم سني حديث أبي الهياج الأسدي عن علي - كرم

الله وجهه - في الأمر بهدم القبور وتسويتها بالتراب وعزاه إلى سنن الإمام الشافعي

وصحيح مسلم لا يسعه إلا قبوله، ولا سيما إذ قال له: إن الشافعي ذكر في كتابة الأم

أن الأئمة بمكة كانوا يهدمون ما يُبنى من القبور فيها عملاً بهذا الحديث. وأما

الشيعة فلا يقبلونه بشبهة أنه من رواية أئمة السنة، وهل للسنة رواة إلا

من أهلها؟ ولسنا نعد من وصفوا بالتشيع من أصحاب الحديث من غلاة الشيعة الذين

كلامنا فيهم، بل معنى تشيعهم زيادة حب علي وذريته والعناية بمناقبهم، وهذا من

روح السنة، ولكن لا يوجد حافظ من حفاظ السنة يطعن في أبي بكر وعمر

وجمهور الصحابة رضي الله عنهم أو يبغضهم، وما أبغضهم الروافض لا

لأنهم أزالوا دولة الفرس وملة المجوس من إيران.

دعاية اللادينيين والدولة الجديدة:

بقي من غوائل الإصلاح والعقبات الثلاث في سبيل الدولة الإسلامية الجديدة

دعاية اللادينيين وملاحدة المتفرنجين، وهؤلاء ضد علي جميع المتدينين من أهل

السنة حقيقة أو ادعاءً ومن الشيعة وغيرهم، وهم يحاربون الدين بالشبهات الفلسفية،

والآراء العلمية والنظريات القانونية والاجتماعية وبما يزعمون من معارضته

للإصلاحات العصرية، وبما يعزون إليه من الأمور الخرافية، ومنهم كثير من كبار

رجال الحكومة في مصر وإيران، وقد تعدت فتنتهم إلى أفغانستان، وهم يرجون

أن يعملوا في هذه الممالك ما عمل الترك، فهم الخطر الأكبر على الدين وأهله،

ولكنهم قليلون في الحجاز، ولا وجود لأحد منهم في نجد، فخطرهم على الدولة

الجديدة جله في خارجها، وأما خطرهم على مصر وإيران ففي صميمهما وأحشائها،

وليست أفغانستان بمأمن من شرهم.

كنا معشر طلاب الإصلاح وتجديد ما أخلق ورثَّ من أمر الإسلام، نعالج

جمود المتفقهة، ونكافح بدع أدعياء المتصوفة، ونناضل شبهات الملاحدة، على

ما لا بد لنا منه من مجاهدة دعاة النصرانية، وكانت الحكومات الإسلامية المتفرنجة

مذبذبة تداري الجامدين، وترضي المبتدعين، وتقرب الملحدين، وتعرض عن

المصلحين، على أنها كانت أحوج إلى هؤلاء لجمع الكلمة وتحقيق وحدة الأمة.

ولكن لم يكن أحد من كبار رجال حكومة الآستانة ولا مصر ولا طهران يعقل

ذلك، وهي الحكومات الكبرى التي ابتليت بالتفرنج، فلم تهتد السبيل إلى اتقاء فتنه،

ولا إلى الانتفاع بما تحتاج إليه من فنونه ونظمه.

وقد كانت سائر الشعوب الإسلامية وحكوماتها شرًّا من هذه الحكومات

وشعوبها في الجهل والخرافات والبدع، والحرمان من هداية الدين؛ فقضى عليها

الجهل كلها إلا ثلاثًا: ثنتان عربيتان وهما حكومتا اليمن ونجد، وواحدة عجمية

وهي حكومة الأفغان، كانت هذه الثلاث -وما زالت- أقرب إلى هداية الدين،

وأبعد عن فتن التفرنج وضلالات الملحدين، ولن يظللن على ما كنّ عليه كالسفن

الشراعية الرواكد على ظهر اليم عند سكون الريح، فرياح الحوادث في

محيط الكون الأعظم لن تدع في هذا العصر بحرًا ولا خليجًا ساكنًا، فيجب على

حزب الإصلاح المعتدل أن يؤيد هذه الدولة الجديدة ويشد أزرها ويساعدها بعلمه

ورأيه وسعيه على الجمع بين هداية الدين على طريقة السلف في الصدر الأول،

وعزة الملك وسؤدده بالعدل والعمران على أحدث الفنون والتجارب والصناعات

والنظم الحربية والاقتصادية، أن يقف موقفه في الوسط بين أنصار الدين وطلاب

السيادة والاستقلال والحضارة بفنونها ونظمها المجربة، فبهذا يجذب إليه الخيار من

جميع الطبقات في الأقطار الإسلامية فيقضي بهم على من لا خير فيهم من

المارقين والخرافيين باتباع خطة حزب الإصلاح الجمالي - فهي الخطة التي تجذب

كثيرًا منهم على حظيرة الإصلاح. وسنفصل القول في ذلك تفصيلاً، بما هو أشد

عليهم وطأ وأقوم قيلاً، وأقرب إلى الاتفاق والتعاون سبيلاً {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ

فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (المزمل: 19) .

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

(1)

يعني سيدنا عيسى المسيح عليه السلام.

ص: 1

الكاتب: عبد المطلب

‌نموذج من آراء أساتذة المدارس المصرية

في الوهابيين ومؤسس الدولة السعودية

من قصيدة للأستاذ الشيخ عبد المطلب شاعر البداوة في الحضارة، ألقاها في

حفلة القضاء الشرعي التي أشرنا إليها في مقالنا الافتتاحي.

عادت إلى الإسلام دولته

وسما له ببلاده بند

وعلى تِهامة من بشاشته

سبغ الندى والعيشة الرغد

نجد تمدُّ إلى الحجاز يدا

ليست لغير الله تمتد

هذي كتائبها تجول به

غضبى لدين الله تحتد

ومنها:

فأتته خيل الله معلمة

نجبًا تزاءر فوقها الأسد

يحملن من نجد غطارفة

للبأس في زفراتها وفد

في الفيلق الخضراء يقدمها

ملك أشم وكوكب نجد

ينمي السعود إلى أرومته

نسب أغر وطالع سعد

لا يرهب الموت الزؤام ولو

أن السماء لوقعه رعد

فجلا عن الحرمين من خبث الأ طماع ما أشرى به الجهد

والسيف أعدل في حكومته

للعدل فوق ذبابه حد

وحكومة الشورى أحق بهم

من أن يحكم فيهم الفرد

عبد العزيز لك السلام من

الإسلام والإطراء والحمد

أرضيت أحمد في شريعته

شيدت منها ماله هدوا

رضيت قلوب المسلمين بما

قمتم به ورضاؤها أيد

أنفذت حكم السيف حين قضى

ورددته للسلم إذ ردوا

وعفوت إذ فاءوا فلا إحن فيهم تحكمها ولا حقد

وكذاك جند الله إن نُصروا

نام الهوى واستيقظ الرشد

فأعد إلى الحرمين مجدهما

فخمًا فما لسواهما مجد

وأعد لدين الله جدته

إن الورى في كيده جدوا

من الناس من لا يربيه ويهذبه إلا الشدة والبؤس، كما أن منهم من يربيه

ويهذبه الرخاء والنعمة، وبكل يبتلي الله عباده ويمتحنهم كما قال: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ

وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35) وقال في بني إسرائيل: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ

وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168) ولكن هؤلاء القوم لم يزدهم البؤس

والسوء إلا عتوًا وإصرارًا على الفسق والظلم فدمدم عليهم ربهم بذنبهم ومسخهم مسخ

خلق وبدن فكانوا قردة بالفعل، أو مسخ خلق ونفس، فكانوا كالقردة في طيشها

وشرها، وإفسادها لما تصل إليه أيديها، والأول قول الجمهور والثاني قول

مجاهد قال: مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق.

_________

ص: 19

الكاتب: محمد عرفة

‌حكم الشرع الشريف في لبس القبعة

بيان أصدره المعهد الديني في الإسكندرية، ورغب إلينا في نشره [1] .

دعا بعض الشبان المسلمين في مصر من تلاميذ المدارس إلى التشبه بالأمم

الأوروبية المسيحية فيما يلبسون على رؤوسهم، وأرادوا حمل أنفسهم وغيرهم على

خلع الطرابيش واستبدال القبعات بها، وأيدهم في ذلك بعض الكتاب في مصر.

ولما كان الظن بأولئك وهؤلاء أنهم لم يدعوا إلى ما دعوا إليه إلا لجهلهم حظر

دينهم له وسوء نسبة ما يريدون أن يتردوا ويردوا غيرهم فيه، وضرر ذلك بالوحدة

الوطنية التي تقطعت بها السبل، ولم يبق لنا طريق إلا هو في إقالة عثرتنا

وإنهاضنا من كبوتنا، وإصلاح ما أثأث يد الغفلات منا، أردنا أن نبين لهم منع

دينهم لما يدعون إليه، وأدلة ذلك وحكمة هذا المنع {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ

وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42) .

ونحن بما قمنا به من ذلك العمل نؤدي نصحًا لأمة وجب علينا ألا نألوا جهدًا

في نصحها، وإنارة السبيل أمامها، ونخدم وطنًا له دين في أعناقنا، ونرجو أن

نخرج بذلك من رذيلة كتمان العلم التي توعد عليها الله أشد الوعيد بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ

يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ

اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ} (البقرة: 159) .

إن المنع من التشبه بالكفار في لباسهم مبني على أصل عظيم في الشرع وهو

النهي عن التشبه بالكفار مطلقًا باطنًا وظاهرًا، والأمر بمخالفتهم فيهما، فلنتكلم عن

ذلك الأصل الآن، ثم نرده بما اندرج فيه من منع التشبه بهم في لباسهم.

***

النهي عن التشبه بالكفار

إن المتتبع لآي القرآن الكريم والسنة النبوية وما جاء عن الصحابة والتابعين

والأئمة المجتهدين يعتقد ذلك الأصل الذي قدمناه وهو النهي عن التشبه بمن خالفنا

في الدين. فأما القرآن الكريم فمنه قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ

فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ

الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ} (الجاثية: 18-19) . وقوله:

{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا

تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) وقوله {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا

أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) . وقوله {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ

وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة: 49) . وقوله {وَأَنَّ

هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام:

153) . وقوله {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً

فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ

كَالَّذِي خَاضُوا} (التوبة: 69) .

فإن قيل إن آي القرآن هذه تنهى عن التشبه بهم فيما كان فعله مفسدة في نفسه

من الاعتقادات الباطلة والاستمتاع بالخلاق

إلخ - وليست نصًّا في النهي عن

التشبه بهم فيما ليس فعله مفسدة في نفسه وليس يأتيه الفساد إلا من جهة التشبه بهم -

قلنا: إن السنة انتظمت الأمرين جميعًا والسنة مبينة للكتاب، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا

إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) .

***

(السُّنّة)

روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبَّهوا باليهود ولا

بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالكف)

وروى أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: (صوموا

يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، صوموا يومًا قبله ويومًا بعده) [2] وروى مسلم من

خطبة حجة الوداع قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت

قدمي موضوع) وروي في الصحيحين عن رافع بن خديج قال: (قلت يارسول الله

إنا لاقوا العدو غدًا وليس معنا مُدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر

اسم الله عليه فكلْ، ليس السِّن والظُّفر وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم وأما الظفر

فمدى الحبشة) وروى أبو داود في سننه وغيره من حديث الآذان: (اهتم النبي -

صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع لها الناس؟ فقيل له: انصب راية عند

حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه ذلك، فذكروا له القنع شبور

اليهود - أي البوق - فلم يعجبه ذلك وقال: هو من أمر اليهود، قال: فذكر له

الناقوس، فقال: هو من فعل النصارى) إلخ الحديث.

***

أقوال الصحابة

روى الإمام أحمد أن عمر لما دخل بيت المقدس، وأراد الصلاة سأل كعبًا أين

ترى أن أصلي؟ قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فقال عمر:

ضاهيت اليهود، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فتقدم إلى القبلة فصلى.

ودعي حذيفة بن اليمان إلى وليمة فرأى شيئًا من زي الأعاجم، فخرج

وقال: من تشبه بقوم فهو منهم [3] ، ودخل على أنس بن مالك غلام له قرنان أو

قصتان فمسح على رأسه وبرك عليه وقال: احلقوا هذين أو قصوهما

فإن هذا زي اليهود.

***

أقوال الأئمة المجتهدين

علل الأئمة النهي عن كثير من الأشياء بمخالفة الكفار أو مخالفة الأعاجم وهو

أكثر من أن يمكن استقصاؤه، فمن ذلك أن الحنفية كرهوا تأخير المغرب، وقالوا لِما

فيه من التشبه باليهود، وقالوا: إن صام يوم الشك ينوي أنه من رمضان، كره

لأنه تشبه بأهل الكتاب؛ فإنهم زادوا في مدة صومهم، وقالوا: أيضًا لا يجوز

الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة للنصوص ولأنه تشبه بالكافرين، وقد تكلم

أصحاب أبي حنيفة في تكفير من تشبه بالكفار في ملابسهم وأعيادهم.

وقال مالك: لا يجوز أن يحرم بالأعجمية ولا يدعو بها ولا يحلف، وقال:

يكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب يوم السبت والأحد، وقال بعض

أصحاب مالك: من ذبح بطيخة في أعيادهم فكأنما ذبح خنزيرًا.

وعلل الشافعية النهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس، لأن المشركين

يسجدون للشمس حينئذٍ، وذكروا في تأخير السحور: إن ذلك فرق بين صيامنا

وصيام أهل الكتاب، وقال الإمام أحمد: (أكره النعل الصرار وهو من زي

العجم وكره حلق القفا وقال: هو من فعل المجوس) ، وقال: (من تشبه بقوم فهو

منهم) [4] وكره تسمية الشهور بالعجمية، والأشخاص بالأسماء الفارسية.

***

ما ورد من النهي عن التشبه بالكفار في اللباس

وقد وردت آثار كثيرة تَنهى عن التشبه بالكفار في لباسهم فمن ذلك ما يأتي:

روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التشبه

بالأعاجم وقال (من تشبه بقوم فهو منهم) وروى أبو داود [5] من حديث ركانة قال

سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم

على القلانس) وروي أيضًا عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه

وسلم- أو قال: قال عمر: (إذا كان لأحدكم ثوبان فليصلّ فيهما فإن لم يكن له إلا

ثوب فليأتزر ولا يشتمل اشتمال اليهود) وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه

من حديث عياش عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن

أن يجعل الرجل بأسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم أو يجعل على منكبيه حريرًا مثل

الأعاجم) وروى مسلم عن عبد الله بن عمر قال: (رأى النبي - صلى الله

عليه وسلم- علي ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار لا تلبسها) .

***

أقوال الصحابة في التشبه بهم في اللباس

كتب عمر بن الخطاب إلى عامله على أذربيجان عتبة بن فرقد: (ياعتبة

إياك وإيا التنعم وزي أهل الشرك) ومما أخذه عمر على أهل الذمة فيما شرطوه

على أنفسهم قولهم أن نلزم زيَّنا حيثما كنا، وأن لا نتشبه بالمسلمين في شيء من

ملابسهم قلنسوة أو عمامة، ورأى علي قومًا قد سدلوا في الصلاة، فقال: ما لهم

كأنهم اليهود خرجوا من فهورهم أي (مدراسهم) .

***

حكمة الشارع في النهي عن التشبه بالكفار والأمر بمخالفتهم في لباسهم

فإن قيل: قد علمنا حكمة الشارع في النهي عن التشبه بالكفار في عقائدهم،

وهي أنهم كانوا على عقائد باطلة وأخلاق فاسدة، فنهى الشارع عن أن نعتقد

اعتقادهم ونتخلق بأخلاقهم لما في نفس هذه الاعتقادات وتلك الأخلاق من قبح

وفساد، فما الحكمة في النهي عن التشبه بهم في لباسهم وزيهم وعاداتهم؛ مع أن

نفس اللباس والزي ليس فيه فساد؟ وهل فرق بين لباس ولباس؟ قلنا:

إن للشارع في ذلك حكمة وهي: أنه يريد أن يجعل من المسلمين أمة متجانسة؛

متحدة ذات أخلاق وعادات، ونزعات، وعقائد، ومشارب متحدة فلما وفق بينهم في

الهدى الباطن أراد أن يوفق بينهم في الهدي الظاهر ليكمل هذا التوافق والاتحاد،

وأن الاتحاد في الزي الظاهر أدعى على التحاب والتوادّ والمشاكلة والمجانسة، ولذلك

يقول علماء الاجتماع: (إن الاتحاد في العقيدة واللغة العادة واللباس من مقومات

الأمة؛ ومن دواعي وحدتها؛ فتكون بينهما وحدة معنوية تجعلها كشخص

واحد؛ إذا رمت عن قوس واحدة، وإذا لاقت الخطوب لاقتها جميعًا) .

وأخرى، وهي: أن الشارع أراد أن يجعل للمسلمين زيًّا مخصوصًا ليتمايزوا

فيتعارفوا لأول وهلة وبادئ الأمر، فيقدم أحدهم للآخر ما يقدر عليه من خير،

ويدفع عنه ما يقدر على دفعه من شر، ويختصه بمعاملته؛ فتكون معاملاتهم

ومتاجراتهم بعضهم مع بعض ما أمكن ذلك، وبذلك تكون خيراتهم لهم ومنافعهم

منهم وإليهم، وقد أدركت ذلك (الجمعيات السرية) كالماسونية فجعلوا علامة تميز

بينهم وبين غيرهم لهذا الغرض.

لست أدري كيف يجمع هؤلاء الدعاة إلى تغيير زيهم ولباسهم بعد أن أصبح زيًّا

قوميًّا بين الدعوة إلى ذلك وبين الدعوة إلى الوطنية التي يتفانون فيها؟ ليست

الوطنية ألفاظاًَ تُلاك، وجملاً يملأ الشخص بها ماضغيْه، إنما هي أن يعطف

الوطني على أخيه الوطني، ويختصه بمعونته ومنافعه، وأن يقوم أهل الوطن

بالتعاون على جلب الخيرات إليهم ودفع المضرات عنهم، وكيف يسلس لهم ذلك

إذا انبهموا فيما سواهم من الأمم المغيرة عليهم، وغمرتهم هذه السيول الجارفة من

الشعوب النازحة إليهم.

ألا إن مصر كانت تأكل فاتحِيها فتهضمهم وتحيلهم إلى عصارة تتحول إلى

لحم ودم وأعصاب يتقوم بها بدنها، والآن يسعى أبناؤها ليأكلها غيرها من الشعوب

الأخرى، وتنماع فيهم كما تنماع القطرة في المحيط.

قالوا: إن لبسنا القبعة طريق إلى ذلك الحلم اللذيذ، وهو الوحدة الإنسانية

العامة، والوحدة الإنسانية أغنية يتغنى بها الدكتور منصور فهمي ومحمد أفندي

دياب وغيرهما، ونحن نقول لهؤلاء: إن وقت هذه الدعوة لم يحِن، إن الأمم

تسعى في إنماء قوميتها وتقويتها، والوحدات القومية والجنسية والدينية هي أسلحة

الأمم في الحياة وحصونها المنيعة ومعاقلها الرفيعة، فإذا دعوتم إلى الاندماج في

الإنسانية العامة، والأمم على ما ذكرنا من تقوية قوميتها، فلستم تفعلون أكثر من

تجريد أمتنا من أسلحتهم وحصونهم، فتلتهمهم الأمم ذوات المعاقل والحصون -

اتركونا من نشيد الموت هذا، وأنشدونا نشيد الحياة، ووجهوا كل ما في الأمة من

جهود وتعليم وأخلاق وعادات إلى بناء القومية، والاحتفاظ بما فيها من مقومات -

نسائلكم بالله لا تفرقوا وحدتنا، ولا تحلوا عقدتنا، ولا تفكوا رابطتنا، ولا تقولوا:

إن الأتراك قد سبقونا إلى ذلك، فلسنا مثل الأتراك ولا الأتراك مثلنا، إن الجسم

القوي فيه مناعة وحصانة من الأمراض أما الجسم الضعيف فأدنى الأمراض يفتك

به، ويحل ارتباطه وتماسكه [6] .

وقالوا أيضًا: إن زيَّنا زيّ أهل الجمود والتأخر، وتلك القبعة زي أهل

المدنية والتقدم، وإننا نتشبه بهم في قبعاتهم لنتقدم ونتمدين كما تقدموا وتمدينوا. لو

كان التمدين بخلع لباس ولبس لباس غيره لكان أهل الأرض جميعًا متمدينين،

ولكنتم أعجز الأمم؛ إذا مكثتم هذا الزمن الطويل في هذه الضعة، والكمال في

متناول أيديكم لن يكلفكم أكثر من خلع لباس ولبس لباس غيره.

لا يا سادة، الشقة بعيدة والطريق وعثاء شديدة، والمعالي لا تُنال على الدعة

والراحة واللعب، إنما هي منيعة لا ينالها إلا أروع جليد يركب الأهوال أهول من

الأهوال، ويخبط الصخر أصلب من الصخر، ويلمس الليل أخشن من الليل

ويهجم على الأسد في عرينه الأسد ليثًا حديد الأنياب والبراثن يلاقي حديد الأنياب

والبراثن:

لولا المشقة ساد الناس كلهم

الجود يفقر والإقدام قتال

ليس التمدين والتقدم بتغيير لباس الرأس، وإنما هو بتغيير ما في الرأس،

فبدل أن تعمدوا إلى رؤوسكم فتجردوها من لباسها، اعمدوا إلى ما بداخلها فجردوها

من أوهام وخرافات قد عششت وباضت وأفرخت وسدت مسالك الأمور عليكم،

وقعدت بكم عن كل خير، وورطتكم في كل تهلكة، وجمحت بكم فأوردتكم موارد

ماؤها آسن ومرعاها وخيم، وانزعوا منها خلق الضعف والانحلال الذي قعد بكم

عن مجاراة الأمم ومزاحمة الشعوب، وبطأ بكم عن قوم جدّوا فكانوا السابقين

الأولين، وكنتم القاعدين المتخلفين، وبدل أن تُحلوا رؤوسكم بقبعات الأمم الأخرى

حلوا ما بداخلها بالعلم والمعرفة، وزينوها بالفضيلة والخلق الصالح المتين. بهذا

وحده تتقدمون، وأقسم لكم أنكم ما دمتم مجدبي الرؤوس من الفضيلة والعلم، لن

ينفعكم لبس القبعات ولو وضعتم هرمًا من قبعات، قاعدته فوق رؤوسكم وقمته

تتصل بعنان السماء.

يخيل إلي أن أشباحًا غير منظورة تتآمر على تمزيق جامعتنا، وقطع

أواصرنا ووشائجنا، وأن هذه الأيدي الخفية تخرج لنا بين حين وآخر وشيجة من

وشائج الصلة بيننا؛ فتضعها بين شقي مقص حديد، وأننا إذا (لِنَّا) في أيديهم

سيقطعون وشائجنا وشيجة وشيجة، وسينقضون حبالنا حبلاً حبلاً، ويفكون عرانا

عروة عروة، حتى نصبح ولا جامعة تجمعنا، أرسالاً بددًا ككومة من أنقاض، لا

أتساق بينها ولا ارتباط.

الآن، قد بينا حكم الله في تغيير الزي والحكمة الاجتماعية فيه، وبينا فيه ضرر

ذلك لوحدتنا وقوميتنا، فإن كنتم أيها الدعاة مسلمين فأجيبوا داعي الله يغفر لكم من

ذنوبكم ويُجركم من عذاب أليم، وإن كنتم قد انسلختم عن دينكم فظننا بكم أنكم لم

تنسلخوا عن وطنيتكم، فإن لم تجيبوا تدينًا، فأجيبوا لداعي المصلحة القومية

والوطنية وإنكم إن شاء الله فاعلون - ألا قد بلغت، اللهم فاشهد.

...

...

...

...

... محمد عرفة

...

... أستاذ بمعهد الإسكندرية

الإسكندرية في 10 رمضان سنة 1344هـ.

_________

(1)

كذلك كتبت رياسة المعاهد الدينية العليا في الأزهر فتوى بهذا المعنى إلا أن هذه أفصح قيلاً، وأوضح دليلاً.

(2)

هذه رواية ضعيفة وفي الصحيح ما يعني عنها وهو ما رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس

قال: (صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى، فقال: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع) وفي رواية (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) ولكنه توفي ولم يبق فِداه أبي وأمي وولدي ونفسي.

(3)

روي هذا اللفظ مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وأبو داود والطبراني في الكبير من حديث ابن عمر بسند ضعيف وابن حبان وصححه، وعن الصحابة ماكتبه عمر إلى عتبة بن فرقد قائد جيشه في بلاد العجم ومنه:(إياك وزي الأعاجم) وتقدم تفصيله في فتوى المنار في المسألة من المجلد الماضي 26.

(4)

أي على سبيل الاستدلال وهو حديث مرفوع كما تقدم لنا وسيأتي للكاتب.

(5)

وكذا الترمذي.

(6)

المنار: كان للترك سلطنة واسعة لم تنل مثلها دولة من دول الأرض فخدعها الإفرنج برُقية العصبية القومية حتى أضاعوها وصاروا إمارة صغيرة يخشى أن يضيعوها أيضًا بهذا الهوس.

ص: 25

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مكان الإسلام من مسلمي الزمان

والحكم عليهم بنصوص القرآن

هو نص كتاب خاص أرسله الأستاذ -رحمه الله تعالى - إلى أحد خواص

العلماء من أعضاء الجمعية السياسية الإسلامية التي كانت تصدر جريدة العروة

الوثقى في باريس عقب احتلال الإنكليز لمصر. وهو من أجلّ كتبه الدينية

الإصلاحية، بل من أبلغ ما قال أو كتب أئمة الدين وعرفاء الصدِّيقين، من

المواعظ والنُّذر، والآيات والعبر التي تنير البصائر وتطهر السرائر وتُزيِّل

بين المؤمن والكافر، وتفرّق بين البر والفاجر، فهي ميزان الإيمان، ومسبار

العرفان، وهذا نصه منقولاً من الطبعة الثانية للجزء الثاني من تاريخه رحمه الله.

لا إله إلا الله وحده لا شريك له وبه الحول والقوة

سرني ما نقل إلي كتابك أنك استجبت لربك فيما دعا إليه عموم خلقه بقوله:

{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} (الأنعام: 11) وإنما يستجيب إليه أهل الرغبة فيه،

ولقد حمدت الله أنك لم تجعل سيرك سير الغافلين، ولم تمر على ما لاقاك مرور

الذاهلين، بل استعملت بصيرتك ونظرت فيما قام لك من أحوال الناس، لتعلم ماذا

أبقت الحوادث فيهم من الاستعداد لقبول الحق والميل للرجوع إليه، وما أظنه

ذهب عليك أيام كنت تقلب عين اعتبارك في أطوار أولئك المحجوبين، إن ما هم

فيه لا تختلف عن عواقب المكذبين، الذين يأمرنا الله بالنظر كيف كان عاقبة أمرهم،

وما أحل الله بدارهم من بوار، وما ألحق بعمرانهم من دمار، وما ألصق بذكرهم

من عار وشنار، وكيف يختلف الحال عن الحال، وإنما التكذيب أثر غين يُغشي

عين القلب، فيواري عنها وجه الحقيقة، فتعمه ظلمة أشبه بظلمة الخسوف تعلو

وجه القمر، فإذا أظلم القلب وهو مستودع السر الذي به كان الإنسان إنسانًا فقد أظلم

الإنسان كله، وذهبت قواه تخبط في أفاعيلها على غير هدي، وتعسر عليها أن

تلزم طريق الحق والصراط المستقيم.

وهذه الحال كما تراها فيمن ينكر الحق بلسانه، ويكذب الداعي إليه

بإنكار بيانه. تراها بعينها في هؤلاء المخدوعين الذين يزعمون أنهم آمنوا بالله

وبرسوله وبكتابه، ثم هم في أعمالهم وآمالهم أبعد الناس عن سننه، وأشدهم التواء

على أمره ونهيه، وقد علمت أن الله لم ينظر إلى قوم يقولون بأفواههم ما ليس في

قلوبهم، وأن اليهود لم ينفعهم أن آمنوا بموسى وخلفائه من الأنبياء، وبما جاءوا به

من الوحي الإلهي إيماناً يحاكي ما يدعيه المسلمون في هذه الأوقات: كان اليهود

يعرفون موسى نبيًّا لهم، والتوراة وكتب الأنبياء هدايات من الله لعقولهم، كما يعرف

المسلمون ذلك في كتاب الله تعالى، ولكن الله نعى إلينا أحوالهم في مزاعمهم فقال:

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5) . فقد جعل

تأويلهم التوراة وصرفهم لألفاظها إلى غير ما أراد الله بها وحَيَدَانهم عن العمل بما دعت

إليه تكذيباً بآيات الله، وجعل نقضهم لما حُمِّلوا من أحكامها مروقًا منها حيث

قال (لم يحلموها) وجعل تصديقهم بها على هذا الوجه بمنزلة احتمال حمار

لأسفار، فهو في عناء من ثقلها، على بعد من فائدة ما أودع فيها. أفليس هذا النبأ

بعينه يحدث عن أحوال المنتحلين اسم الإسلام في هذه الأيام، وأنهم حملوا القرآن

الكريم ثم لم يحملوه، إلى آخر الآية؟ ألم يكن في ظلم أهل هذا العنوان

وجمودهم عن حدود الله ما يستحقون به تسجيل الضلالة عليهم كما سجلت على

اليهود في قوله (والله لا يهدي القوم الظالمين) ؟ وأشد الظلم ظلم النفس

بعدولها عن سنن الحق.

ألا يصدق عليهم أنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون؟ ألا

ينعي حالهم {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر: 14) ،

ألا يحكي جهلهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ

يَظُنُّونَ} (البقرة: 78) أي أنهم لا يعلمون منه إلا أن يتلوه تلاوة بغير فهم، فإن

طلبوا شيئًا من المعنى لم يكونوا فيه على بصيرة أن يظنون إلا ظنًّا.

إني أستلفتك إلى أولئك الذين يتناولون مصاحف القرآن الكريم بأيديهم

خصوصاً في شهر رمضان، ثم يطفقون يلوكونه بألسنتهم ويزعمون أنهم يتقربون

إلى الله بترنمهم، ويصعدون إلى منازل القرب عنده بنغماتهم ورنين أصواتهم،

ويجعلون كل همهم في هز رؤوسهم، والتوفيق بين الهزات وتموج النغمات وما

شاكل ذلك من لواحق الصور والهيئات، مما قد يعجب له عرفاء الدين، ويستغرب

حدوثه في المسلمين أهل اليقين لبعد النسبة بينه وبين دينهم، والمنافرة الثابتة بينه

وبين مقتضى إيمانهم، حتى إذا انصرف أولئك القارئون والتمسوا من قلوبهم

عبرة مما قرأوا أو عظة مما سمعوا، لم يجدوا من ذلك قليلاً ولا كثيرًا، بل

رجع كل منهم إلى هواه، وأوى إلى قعيدة نواه، وما كان قد انصرف عن وساوسه،

ولا انقطع عما استحكم سلطانه في نفسه من شياطين أهوائه، إلا في ظاهر ما

يرى للناظر، وإذا سئل أحدهم عن شيء من معنى ما قرأه التجأ إلى الجهل، أو

خبط في مضلة من الوهم، وإذا قيس عمله إلى أحكام ما يقرأه، وجدت تبايناً كما

بين الإسلام والكفر، فبالله إلا ما أجبتني: هل تجد فرقًا بينهم وبين اليهود فيما قص

الله عنهم في قوله (ومنم أميون) ؟ إلخ. ألا تجد الوصول إلى الفرق نزر

الوسائل، متعذر الذرائع، ولو سردت من أحوال اليهود والنصارى والمشركين

التي قص الله علينا تحذيراً لنا من التدنس بمثلها ووضعتها مع أحوال المسلمين في

كفتي ميزان ألا ترجح أحوال المسلمين سوءًا على أحوال أولئك الضالين؟

أصبح المسلم في هذه الأيام حجة للكافر على كفره، وفتنة له يضل بها عما

أقام الحق من أعلامه، فإذا قيل إن الإسلام خير الأديان بل هو دين الله الذي أخذ به

الأمم السابقة فضلوا فضربهم بأنواع من عذابه في الدنيا، واستبقى لهم ما لا نهاية له

من الشقاء في الآخرة، ظهر فيهم بصور مختلفة، ثم جاء في أكمل صورة ببعثة

خاتم الأنبياء، مستتمًّا لنوره مكملاً لأمره، لتقوم به الحجة، وتتضح به المحجة،

وأصحب هذا القول بألف دليل كلها أوضح من الشمس، وأنفى للشك من ضوء

البدر لظلام الليل - رأيت علة واحدة تهدم كل ما بني من الأدلة وهي: لو كان

الإسلام دينًا صحيحًا ما وجدنا أهله المستمسكين به (في زعمهم) على ما نرى من

فساد الأخلاق وسقوط الهمم، وضلال العقول، هكذا أيها الحبيب أصبحنا فتنة للذين

كفروا، والله ينبهنا على ما صرنا إليه بتعليمه إيانا كيف ندعوه إذ يقول {رَبَّنَا لَا

تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) وما كان تعليمه الدعاء إلا لنتوسل

بالعمل إلى ما نطلب منه، ثم ندعوه المعونة على ما نقصد من موافقة رضاه، فلو

فقه المسلم لابتعد جهده عما يجعله فتنة للكافر، وجعل ورده ليله ونهاره {رَبَّنَا لَا

تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) ولكان همه في أن يكون بكماله قذى في

عين أعدائه، لا أن يكون حقيرًا في أعينهم، ضحكة لهم في محافلهم.

ولقد حدث في هذه الأيام الأخيرة أن قسيسًا إنكليزيًّا [1] هداه البحث إلى شيء

من محاسن دين الإسلام فأخذ يبث ما علم في الجرائد الإنجليزية وفي المحافل الدينية

في إنكلترا، إلا أنه يصعب عليه أن يعلن إسلامه، ويصرح بحقيقة إيمانه لأنه

يخاف أن تطول إليه أيدي الاعتداء من قومه وهو يدعو إلى الإسلام تحت حجاب

أنه لا يخالف المسيحية الحقيقية بل هو متمم لها، وله فيما يدعو إليه شيعة تنمو في

لندرا، وبيننا وبينه مخاطبات لتشجيعه وتقريبه من حقيقة الإيمان، ولا نعلم اليوم

ماذا يكون من نهاية أمره، وله معارضون كثيرون من الإنكليز وغيرهم، وإذا

تقصيت البحث في جميع حججهم لا تجد في مقدماتها إلا ما يكون راجعًا إلى ما عليه

المسلمون الآن من الأخلاق والعوائد والأفكار، وكلما جاء الرجل لهم بشيء من

أحكام كتاب الله أو بأثر من آثار المسلمين الأولين.

رأيت أولئك الجاحدين يقابلونه بأحكام يعدها المسلمون من حدود دينهم، يعولون

عليها في أعمالهم، وهي مقصية لهم عن الكمال، ساقطة بهم عن أدنى مراتب

الرجال، فكلما ردهم إلى الله ورسوله ردوه إلى أحوال المنتسبين إلى هذا الدين

القويم، وهم عاره، وبهم يهدم مناره، وتخفي آثاره، لو بقى في أيديهم أمره،

غير أني أرى الله سيحول أمر دينه عن هؤلاء الذين لبسوا على أنفسهم، وانقلبوا فتنة

لغيرهم، ثم ينتقم منهم بأيدي الظالمين والصالحين {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ

فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} (الأنعام: 89) - {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ

قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) فهنيئاً لمن أعد نفسه، وسبق

تعسة، فشحذ همته، وطهر نيته وقوم إرادته واستجمع عزيمته، للقاء ركب الله

الذي سيفد عليه، فيكون إما راجلاً في مشاته، أو فارساً من كماته، أو خادمًا في

حاجاته، أو سيدًا في رياساته، ولا يكون شيئًا من ذلك حتى يكون الله ورسوله

أحب إليه من نفسه، وحتى يكون كتاب الله أصدق الشاهدين له لا عليه،

وحاشا كتاب الله أن يشهد إلا لمن لبّى دعوته، وقبل شهادته، ونصبه إماماً في

محراب الوجود يتبعه بصره، ويحذوه في سيره، يقوم إذا قام ويقعد إذا قعد يعظم

ما عظم ويحقر ما حقر ويطلق ما أطلق ويقيد ما قيد، ثم أقام له من زواجره خطيبًا

إلى قلبه، وواعظًا يصدع بأمر ربه على منبر لبه، يعلمه إذا جهل، ويوقظه إذا

غفل، ويذكره إذا ذهل، ويحثه إذا كسل، ويسرع به إذا أبطأ، وينهضه إذا تلكأ

ويستلفته إلى الصواب إذا أخطأ، يهديه إذا تحير، ولا يعدو به الخير إذا تخير،

يرد جماحه إذا جمح، ويكف من غربه إذا طمح، حتى يقيمه على الصراط السوي

ويصعد به إلى المقام العلي، وكيف يستعمر القرآن قلبًا تشغله الأهواء الباطلة

وتستوكره الرغائب الزائلة؟ إن القرآن طاهر لا يجاور إلا طاهرًا، وقويم يأبى أن

يساكن جائرًا، زكي لا يأنس للأرجاس عليّ يأنف من مقاربة الأدناس، فلا عجب

إذا استوبل المقام في هذه القلوب المحتشية بالعيوب وتركها وشياطين الوساوس

تخبط بها في مخاري الدنيا ومهالك الآخرة.

يا عجبًا لمن يدعي الإسلام، وهو يعرف من نفسه أن أمرًا لو جاءه من أصغر

الحكام عليه بلغة غير لغته لما قرت له راحة، ولا اطمأنت به نفس، حتى يقف

على ترجمته. ولا يكتفي بمترجم واحد حتى تكون ثقته به كثقته بنفسه وإلا راجع

ثانياً وثالثاً طلباً لدقائق المعاني لا يفوته شيء مما حواه أمر آمره فيقع في مخالفته

إلى غير هواه، وكلما عظم مكان الأمر أشتد الحرص على استجلاء مراده، خشية

الوقوع في حداده، أو ما يبعث الظن إلى التحرش بعناده، وقد يكون الأمر مما

يضره ولا ينفعه، ويخفضه ولا يرفعه، كل ذلك للبعد عن مساخطه والارتياح إلى

مراضيه - هذا وهو يزعم الاعتقاد بأن القابض على ناصية أمره هو الله سبحانه

وتعالى وهو المقلب لقلبه والآخذ بعنان إرداته. ثم هذا أمر سام ورد له من عليّ

متعال، رب الأرباب ومخضع الرقاب، قهار السماوات والأرض، الذي لا ترد

مشيئته، ولا تخالف إرادته.

الكتاب المجيد يتجلى به في منازل الرحمة، ويستفيض من ديم النعمة، ويقيم

به على السعادة أعلامًا، ويضع لاجتناء ثمر الكرامة أحكامًا، ويعد المستجيبين

لأمره هذا - وهو القادر على كل شيء - أن يمكن لهم في الأرض، ويخدمهم أهلها،

ويجعلهم الأعلين فيها، وأن تكون عزتهم مقرونة بعزة الله ورسوله، وأن لايبيد

سلطانهم، ما ثبت إيمانهم، ولم يَشُبْه كفرانهم، كما قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا

مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ

لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي

شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) .

وليس في المواعيد السماوية أصرح مما وعد الله في كتابه المبين، ولا أقطع

للشبهة منه. ثم زادهم على ذلك نعيمًا أبديًّا، وأوعدهم في المخالفة خزيًا دنيويًّا،

وشقاء سرمديًّا، والذين يكفرون، وسجل عليهم أنهم الفاسقون، هم الذين تبطرهم

النعم فتستزلهم عن مقامات الشكر. ثم تنتابهم الغفلة فيعدلون عن سبيل الذكر الحكيم،

ومن فسق عن أمره أحل به غضبه وأنفذ فيه عامل انتقامه وسلبه ملابس

إنعامه، إما بشقي مثله أو ولي من أهله. ثم ضاعف له العذاب يوم القيامة،

وأخلده فيها مهانًا، إلا أن يتوب فيغفر له ما قد سلف. ويعلم المخدوع أن صاحب هذا

الأمر العلي مطلع على السرائر، بادية لعلمه صفحات الضمائر. ومع هذا وذاك لا

يتفهم أحكامه، ولا يتبع أعلامه، وينبذه وراء ظهره، كأن لا علم له بنهيه وأمره،

ويمني نفسه أن ينال ما ادخر الله لأوليائه إذ قصرت همته عن نيل سعادة الدنيا ليتنعم

به في الآخرة، شهوة تحول دونها أعماله، وأحلاماً تنافي صدقها أحواله. وما

أعجب حال من يزعم الإيمان بالله ولا تفنى أهواؤه في إرادته، ولا تضمحل

نشزات طبعه لمهابته، ولا تتضاءل عزائم نفسه لعظمته، ولا يجعل القسم الأعظم

من حياته للسعي في مرضاته، ولا يبذل من نفسه وماله ما لا يخسره في مآله.

حدثتني عن اليائسين من علية (ق) - وأشباههم فهؤلاء لم ييأسوا من الله،

حتى ساء به ظنهم، وما ساء ظنهم حتى انتقض إيمانهم، فحالهم حال القائلين {مَّا

وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَاّ غُرُوراً} (الأحزاب: 12) ورويت لي عن أهل النفرة

سكنة (س) فهؤلاء بقيت فيهم بقية لابد أن يؤيدوها بالعمل، ولا مكمل لما بقي

فيهم إلا رجوعهم إلى الله ورسوله، ولن يرجعوا إليه حتى يكون مزاج وحدتهم،

وحبل اعتصامهم كتاب الله، يهزون به هممهم، ويلمون به شعثهم، ويشهدون الله

أنهم نصروه في الأحوال والأعمال، فينصرهم في مواطن الجلاد ومواقع الجدال.

إن كنت وثقت بشيخ الإسلام الذي ذكرته فخذ العهد عليه، وسق إليه ببعض

كتابي هذا أو بكله إن رأيت ذلك ملائمًا لحاله، وإلا فزدني فيه بصيرة فاكتب إليه

بما يلهمه الله.

وافِني بكتبك بما أمكن من السرعة، ولا تبطئ عليّ بعد الآن والسلام.

_________

(1)

هو إسحاق طيار، وفي الكتاب بعض مكتوبات الأستاذ له.

ص: 33

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌مسألة صفات الله تعالى

وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

جوابُ سؤالٍ رُفِعَ إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

(الوجه الثاني) في تبيين وجوب الإقرار بالإثبات، علو الله على السموات

أن يقال: من المعلوم أن الله تعالى أكمل الدين، وأتم النعمه، وأن الله أنزل الكتاب

تبياناً لكل شيء وأن معرفة ما يستحقه الله وما تنزه عنه هو من أجلّ أمور الدين

وأعظم أصوله وأن بيان هذا وتفصيله أولى من كل شيء، فكيف يجوز أن يكون هذا

الباب لم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفصله ولم يعلم أمته ما يقولون

في هذا الباب؟ وكيف يكون الدين قد كمل وقد تركوا على البيضاء ولا يدرون بماذا

يعرفون ربهم، أبما تقوله النفاة، أو بأقوال أهل الإثبات؟

(الثالث) أن يقال: كل من فيه أدنى محبه للعلم، أو أدنى محبة للعبادة

لا بد أن يخطر بقلبه هذا الباب ويقصد فيه الحق ومعرفة الخطأ من الصواب، فلا

يتصور أن يكون الصحابة والتابعون كلهم كانوا معرضين عن هذا لا يسألون

عنه، ولا يشتاقون إلى معرفته، ولا تطلب قلوبهم الحق منه، وهم ليلاً ونهارًا

يتوجهون بقلوبهم إليه ويدعونه تضرعاً وخيفة ورغبًا ورهبًا، والقلوب مجبولة

مفطورة على طلب العلم. فهذا ومعرفة الحق فيه وهي مشتاقة إليه أكثر من شوقها إلى

كثير من الأمور ومع الإرادة الجازمة والقدرة يجب حصول المراد وهم قادرون على

سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم وسؤال بعضهم بعضًا، وقد سألوه عما هو دون

هذا: سألوه هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فأجابهم. وسأله أبو رزين: أيضحك

ربنا؟ فقال نعم فقال: لن نعدم من رب يضحك خيرًا. ثم إنهم لما سألوه عن

الرؤية قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس القمر) فشبه الرؤية

بالرؤية. والنفاة لا يقولون يُرى كما تُرى الشمس والقمر بل قولهم الحقيقي أنه

لا يرى بحال ومن قال يرى موافقة لأهل الإثبات ومنافقة لهم فسر الرؤية بمزيد

علم فلا تكون كرؤية الشمس والقمر.

والمقصود هنا أنهم لا بد أن يسألوا عن ربهم الذي يعبدونه - إن كان ما تقوله

الجهمية حقًّا - وإذا سألوه فلابد أن يجيبهم، ومن المعلوم بالاضطرار أن ما تقوله

الجهمية النفاة لم ينقله عنه أحد من أهل التبليغ عنه، وإنما نقلوا عنه ما يوافق قول

أهل الإثبات.

(الوجه الرابع) أن يقال: إما أن يكون الله يحب منا أن نعتقد قول النفاة أو

نعتقد قول أهل الإثبات أو لا نعتقد واحداً منهما. فإن كان مطلوبه منا اعتقاد قول

النفاة وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه وأنه ليس فوق السموات رب ولا على

العرش إله، وأن محمداً لم يُعرج به إلى الله وإنما عُرج به إلى السموات فقط لا إلى

الله، فإن الملائكة لا تعرج إلى الله بل إلى ملكوته، وأن الله لا ينزل منه شيء ولا

يصعد إليه شيئًا، وأمثال ذلك وإن كانوا يعبرون عن ذلك بعبارات مبتدعه فيها

إجمال وإبهام كقولهم: ليس بمتحيز ولا جسم ولا جوهر ولا هو في جهة ولا مكان،

وأمثال هذه العبارات التي تفهم منها العامة تنزيه الرب تعالى عن النقائض،

ومقصدهم أنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش إله يعبد، ولا عرج

بالرسول إلى الله وإنما المقصود أنه إن كان الذي يحبه الله لنا أن نعتقد هذا النفي

فالصحابة والتابعون أفضل منا، فقد كانوا يعتقدون هذا النفي والرسول صلى الله

عليه وسلم كان يعتقده، وإذا كان الله ورسوله يرضاه لنا، وهو إما واجب علينا أو

مستحب لنا فلابد أن يأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو واجب علينا،

ويدنينا إلى ما هو مستحب لنا، ولابد أن يظهر عنه وعن المؤمنين ما فيه إثبات

لمحبوب الله ومرضاته، وما يقرب إليه لاسيما مع قوله عز وجل {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ

لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (المائدة: 3) لا سيما والجهمية تجعل هذا

أصل الدين، وهو عندهم التوحيد الذي لا يخالفه إلا شقي، فكيف لا يعلِّم الرسول

صلى الله عليه وسلم أمته التوحيد؟ وكيف لا يكون التوحيد معروفًا عند

الصحابة والتابعين؟ والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم يسمون مذهب النفاة التوحيد

وقد سمى صاحب المرشدة أصحابه الموحدين إذ عندهم مذهب النفاة هو التوحيد،

وإذا كان كذلك كان من المعلوم أنه لابد أن يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم،

وقد علم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يتكلموا بمذهب

النفاة، فعلم أنه ليس بواجب ولا مستحب، بل عُلم أنه ليس من التوحيد الذي

شرعه الله تعالى لعباده.

وإن كان يحب منا مذهب الإثبات، وهو الذي أمرنا به فلا بد أيضًا أن يبين

ذلك لنا، ومعلوم أن في الكتاب والسنة من إثبات العلو والصفات أعظم مما فيهما من

إثبات الوضوء والتيمم والصيام وتحريم ذوات المحارم وخبيث المطاعم ونحو ذلك

من الشرائع. فعلى قول أهل الإثبات يكون الدين كاملاً، والرسول صلى الله عليه

وسلم مبلغًا مبينًا والتوحيد عند السلف مشهورًا معروفًا. والكتاب والسنة يصدق

بعضه بعضاً والسلف خير هذه الأمة وطريقهم أفضل الطرق، والقرآن كله حق

ليس فيه إضلال، ولا دل على كفر ومحال، بل هو الشفاء والهدى والنور. وهذه

كلها لوازم ملتزمة ونتائج مقبولة. فقولهم مؤتلف غير مختلف ومقبول غير مردود.

وإن كان الذي يحبه الله ألا نثبت ولا ننفي بل نبقى في الجهل البسيط وفي

ظلمات بعضها فوق بعض لا نفرق الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال ولا

الصدق من الكذب بل نقف بين المثبتة والنفاة موقف الشاكّين الحيارى {مُذَبْذَبِينَ

بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلاءِ} (النساء: 143) لا مصدقين ولا مكذبين -

لزم من ذلك أن يكون الله يحب منا عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه

وسلم، وعدم العلم بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الصفات التامات، وعدم العلم

بالحق من الباطل، ويحب منا الحيرة والشك.

ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل ولا الشك ولا الحيرة ولا الضلال وإنما

يحب الدين والعلم واليقين. وقد ذم الحيرة بقوله تعالى {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا

لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي

الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى

وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنعام: 71-72) وقد أمرنا الله تعالى أن نقول {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ *

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) .

وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه

وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عالم

الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختُلف فيه

من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) فهو يسأل ربه أن يهديه لما

اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عدم الهدى في مسائل الخلاف؟ وقد

قال الله له: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114) وما يذكره بعض الناس عنه

أنه قال: (زدني فيك تحيرًا) كذب باتفاق أهل العلم بحديثه، بل هذا سؤال من هو

حائر وقد سأل المزيد من الحيرة، ولا يجوز لأحد أن يسأل ويدعو بمزيد الحيرة إذا

كان حائراً بل يسأل الهدى والعلم، فكيف بمن هو هادي الخلق من الضلال وإنما

ينقل هذا عن بعض الشيوخ الذين لا يقتدي بهم في مثل هذا إن صح النقل عنه فهذا

يلزم عليه أمور.

(أحدها) أن من قال هذا فعليه أن ينكر على النفاة، فإنهم ابتدعوا ألفاظًا

ومعاني لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة. وأما المثبتة إذا اقتصروا على

النصوص فليس له الإنكار عليهم - وهؤلاء الواقفة هم في الباطن يوافقون النفاة أو

يقرونهم، وإنما يعارضون المثبتة فعلم أنهم أقروا أهل البدعة، وعادوا أهل السنة.

(الثاني) أن يقال: عدم العلم بمعاني القرآن والحديث ليس مما يحب الله

ورسوله فهذا القول باطل.

(الثالث) أن يقال الشك والحيرة ليست محمودة في نفسها باتفاق المسلمين

غاية ما في الباب، إن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات يسكت.

فأما من علم الحق بدليله الموافق لبيان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم

فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على العالم الجازم المستبصر المتبع المرسول

للعالم بالمنقول والمنقول.

(الرابع) أن يقال السلف كلهم أنكروا على الجهمية النفاة وقالوا بالإثبات

وأفصحوا به، وكلامهم في الإثبات والإنكار على النفاة أكثر من أن يمكن إثباته في

هذا المكان، وكلام الأئمة المشاهير مثل مالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة

وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح

والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيدة وأئمة أصحاب مالك

وأبي حنيفة والشافعي وأحمد موجود كثير لايحصيه أحد.

وجواب مالك في ذلك صريح في الإثبات فإن السائل قال له: يا أبا عبد الله

{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) كيف استوى؟ فقال مالك:

الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وفي لفظ: استواؤه معلوم أو معقول، والكيف

غير معقول والإيمان به واجب، السؤال عنه بدعه. فقد أخبر رضي الله عنه بأن

نفس الاستواء معلوم وأن كيفية الاستواء مجهولة، وهذا بعينه قول أهل

الإثبات.

وأما النفاة فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته بل عند هذا القائل الشاك وأمثاله

أن الاستواء مجهول غير معلوم. وإن كان الاستواء مجهولاً لم يحتج أن يقال: الكيف

مجهول لا سيما إذا كان الاستواء منفيًا فالمنفي المعدوم لا كيفية له حتى يقال: هي

مجهولة أو معلومة، وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء، وأنه معلوم وأن له كيفية

لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن. ولهذا بدع السائل الذي سأله عن هذه

الكيفية، فإن السؤال إنما يكون عن أمر معلوم لنا، ونحن لا نعلم كيفية استوائه،

وليس كل ما كان معلومًا وله كيفية تكون تلك الكيفية معلومة لنا. يبين ذلك أن

المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال: الله في السماء وعلمه في كل مكان

حتى ذكر ذلك مكي في كتاب التفسير الذي جمعه من كلام مالك ونقله أبو عمر

والطلمنكي وأبو عمر بن عبد البر وابن أبي زيد في المختصر وغير واحد ولو كان

مالك من الواقفة أو النفاة لم ينقل هذا الإثبات.

والقول الذي قاله مالك قاله قبله ربيعة بن عبد الرحمن شيخه كما رواه عنه

سفيان بن عيينة وقال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشوني كلاماً طويلاً

يقرر مذهب الإثبات ويرد على النفاة وقد ذكرناه في غير هذا الموضع.

وكلام المالكية في ذم الجهمية النفاة مشهور في كتبهم، وكلام أئمة المالكية

وقدمائهم في الإثبات كثير مشهور، لأن علماءهم حكموا إجماع أهل السنة والجماعة

على أن الله بذاته فوق عرشه. وابن أبي زيد إنما ذكر ما ذكره سائر أئمة السنة ولم

يكن من أئمة المالكية من خالف ابن أبي زيد في هذا وهو إنما ذكر هذا في مقدمة

الرسالة لتُلَقَّن لجميع المسلمين لأنه عند أئمة السنة من الاعتقادات التي يلقنها كل أحد.

ولم يرد على ابن أبي زيد في هذا إلا من كان من أتباع الجهمية النفاة لم يعتمد من

خالفه على أنه بدعة ولا أنه مخالف للكتاب والسنة، ولكن زعم من خالف ابن أبي زيد

وأمثاله إنما خالفه مخالف للعقل [1] وقالوا: إن ابن أبي زيد لم يكن يحسن الكلام

الذي يعرف فيه ما يجوز على الله وما لا يجوز. والذين أنكروا على ابن أبي زيد

وأمثاله من المتأخرين تلقوا هذا الإنكار عن متأخري الأشعرية كأبي المعالي وأتباعه

وهؤلاء تلقوا هذا الإنكار عن الأصول التي شركوا فيها المعتزلة ونحوهم

من الجهمية، فالجهمية من المعتزلة وغيرهم هم أصل هذا الإنكار.

وسلف الأمة وأئمتها متفقون على الإثبات، رادّون على الواقفة والنفاة، مثل

ما رواه البيهقي وغيره عن الأوزاعي قال: كنا - والتابعون متوافرون - نقول إن

الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.

وقال أبو مطيع البلخي في كتاب الفقه الأكبر: سألت أبا حنيفة عمن يقول لا

أعرف ربي في السماء أو في الأرض، قال: كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى

العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وعرشه فوق سبع سمواته، فقلت إنه يقول على

العرش ولكن لا أدرى العرش في السماء أو في الأرض، فقال إنه إذا أنكر أنه في

السماء كفر، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يُدعى من أعلى لا من أسفل.

قال عبد الله بن نافع كان مالك بن أنس يقول: الله في السماء وعلمه كل مكان.

وقال معدان: سألت سفيان الثوري عن قوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد: 4) قال علمه. وقال حماد بن زيد فيما ثبت عنه من غير وجه رواه

ابن أبي حاتم والبخاري وعبد الله بن أحمد وغيرهم. إنما يدور كلام الجهمية

على أن يقولوا ليس في السماء شيء. وقال علي بن الحسن بن شقيق قلت لعبد الله بن

المبارك بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه. قلت

بحد؟ قال: بحد لا يعلمه غيره، وهذا مشهور عن ابن المبارك ثابت عنه من غيره

وجه، وهو نظر صحيح ثابت عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغير

واحد من الأئمة. وقال رجل لعبد الله بن المبارك يا أبا عبد الرحمن قد خفت

الله من كثرة ما أدعو على الجهمية. قال لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في

السماء ليس بشيء. وقال جرير بن عبد الحميد: كلام الجمهية أوله شهد وآخره

سُمّ، وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله.

رواه ابن أبي حاتم ورواه هو وغيره بأسانيد ثابته عن عبد الرحمن بن مهدي

قال: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الله كلم موسى بن عمران، وأن يكون

على العرش، أرى أن يُستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. وقال يزيد بن

هارون: من زعم أن الله على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو

جهمي. وقال سعيد بن عامر الضبعي - وذكر عنده الجهمية فقال - هم شر قول

من اليهود والنصارى، قد أجمع أهل الأديان مع المسلمين أن الله على العرش،

وقالوا هم: ليس عليه شيء. وقال عباد بن العوام الواسطي: كلمت بشرًا

المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا ليس في السماء شيء،

أرى أن لا يناكحوا ولا يوارثوا. وهذا كثير من كلامهم.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كذا في الأصل وفي هامشه الظاهر: إنما خالفه لمخالفته العقل.

ص: 39

الكاتب: مهاتما غاندي

‌الصحة

تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتماغاندي

ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي

الباب الرابع

الماء

الماء يلي الهواء في المكانة والمنفعة. فالإنسان يستطيع أن يعيش بدونه

بضعة أيام. ولا بد له منه على كل حال. ويمكنه أن يعيش بدون غذاء مدة أكثر من

المدة التي يستطيع أن يعيشها بدون الماء. إن نسبة الماء إلى غيره في أغذيتنا أكثر

من 70 في المائة، وهو يوجد بمثل هذا المقدار في الجسم الإنساني، وإذا حرم منه

ينقص ثقله كثيرًا.

ولكنا مع شدة حاجتنا إلى الماء قلما نبالي بالمحافظة على نقائه ونظافته، إن

الطاعون والهيضة وغيرهما من الأوبئة الجارفة تنشأ من فساد الهواء والماء، وكذلك

يتولد مرض الحصاة (النواة) في المثانة من شرب الماء القذر.

يفسد الماء بسببين: فهو إما أن يكون في مكان مفسد له، وإما أن نفسده نحن

بأنفسنا. فأما الماء المجتمع في المكان القذر فيجب الحذر من شربه، ونحن نحترز

منه فعلاً، ولكننا لا نشمئز من شرب الماء الذي أفسدناه نحن بأيدينا.

فماء الأنهار الذي يعد أصلح المياه للشرب نفسده بإلقاء أنواع الأقذار فيه،

وكذلك نغتسل ونغسل الأثواب الوسخة فيه. يجب أن نحذر كل الحذر من شرب

الماء الذي يغتسل فيه الناس. ويجب أن نخصص الجهة العليا من النهر للشرب

وحده، ونترك الجهة السفلى للاغتسال وغسل الأشياء الوسخة. أما البلاد التي لا

يتبع فيها هذا النظام فقد تعود كثير من الناس هناك عادة حسنة وهي أنهم يحفرون

حفرة في الرمل على طرف النهر ويأخذون منها الماء لشربهم، وهذا الماء يكون

نظيفًا جدًّا، لأنه يصفو وينظف برشحه من غربال (مصفاة) الرمل.

إن شرب ماء الآبار يحدث ضررًا كبيرًا إذا لم تكن البئر مبنية بناءً محكمًا.

فتقاطر الماء الوسخ من فوقه، وسقوط الطيور والهوام وتعفنها فيه، واتخاذ الطيور

أوكارها في داخله، كل ذلك يفسد ماءه. وكذلك قد تتسرب إليه الوساخات

والرطوبات من باطن الأرض فتفسده وتجعله غير صالح للشرب، يجب علينا أن

نحترس كثيراً في شرب ماء الآبار.

وكذلك خزن الماء في الأحواض الوسخة المكشوفة تفسده، فللمحافظة على

نقائه يجب تنظيف الأحواض حيناً بعد حين وتغطيتها، ويجب أن نراعي ونلاحظ

الأحواض والآبار، هل هي في حالة حسنة أم لا؟ ومن المؤسفات أن قليلاً من الناس

يراعي طهارة الماء مراعاة تامة.

وأحسن طريقة لإزالة كل ما يطرأ على الماء من الفساد هي أن يُغلى جيدًا

ويصفى بعد برده في قماش سميك نظيف إلى إناء آخر بكل احتياط. لا تنتهي

وظيفتنا عند هذا الحد، بل علينا واجب آخر أكبر من هذا الواجب وهو أن نراعي

صحة أبناء جنسنا أيضًا، فتتجنب كل ما من شأنه إفساد الماء الذي يشربه الناس

بنحو الاغتسال أو غسل الملابس في موارد العامة للشرب خاصة، أو قضاء الحاجة

والبول على شواطئ الأنهار، وكذلك إحراق الموتى هنالك وإلقاء رمادها في

الماء [1] .

مهما يفعل من العناية والاحتياط فإن المحافظة التامة على طهارة الماء في

غاية العسر لأنه قد يذوب فيه الملح أو يسقط الحشيش وغيره من الأشياء التي إذا

بقيت في الماء تعفنت وأفسدته. إن ماء المطر أطهر المياه وأنظفها بلا ريب.

ولكنه أيضاً يفسد في أكثر الأحيان قبل وصوله إلينا لاختلاطه بالذرات الموجودة في

الفضاء. إن الماء النقي له تأثير حسن جدًا في الجسم، ولذلك يهيىء الأطباء الماء

المقطر لمرضاهم. فالذين يشكون الإمساك أكثرهم يشفون بشرب الماء المقطر. لقد

جاء في كتاب حديث في (الماء المقطر وطرق استعماله) أن جميع الأمراض يمكن

معالجتها بشرب الماء المقطر بطريقة مخصوصة. نعم، إن هذا القول لا يخلو من

المبالغة، ولكن مما لا ريب فيه أن الماء الطاهر من جميع المفسدات يؤثر تأثيراً

عظيماً جدًّا في الجسم.

لا يعرف كثير من الناس أن الماء على نوعين: خفيف وثقيل. فالماء الثقيل

هو الذي قد امتزجت فيه بعض الأملاح! ولذلك لا يرغو فيه الصابون كثيرًا، ولا

ينضج معه الطعام بسهولة، ويكون طعمه مالحًا، وطعم الماء الخفيف حلو عذب،

أو على الأقل بدون طعم. ويرى بعض الناس أن شرب الماء الثقيل أولى من شرب

الماء الخفيف. ولكن التجارب أثبتت أن الماء الثقيل يضعف قوة الهضم. ولذلك

يبدو لنا أن شرب الماء الخفيف بالجملة أحسن وأسلم. إن ماء المطر أصلح أنواع

المياه الخفيفة للشرب إذا سلم من الفساد. إن الماء الثقيل إذا أغلي جيداً وترك على

النار نحو نصف ساعة من الزمن يعود خفيفًا، ويصح شربه بعد تقطيره.

كثيرًا ما سئلت الأطباء هذا السؤال: متى ينبغي شرب الماء؟ وما مقدار ما

يشرب منه؟ والجواب الوحيد هو أنه لا ينبغي لإنسان أن يشرب الماء إلا إذا

عطش، ولا يشرب إلا المقدار الذي يزيل عطشه، ولا بأس من شربه أثناء الأكل

وبعده مباشرة. ولكن لا ينبغي إساغة اللقم به. إن بشاعة اللقمة واستعصاءها على

البلع، معناه أنها لم تمضغ جيدًا أو أن المعدة ليست في حاجة إليها.

لا ضرورة بل لا حاجة إلى شرب الماء في كل وقت، فإن في مواد غذائنا

مقدارًا كبيرًا من الماء كما تقدم، ونحن نزيده في أثناء الطبخ، فإذن لماذا نحن

نعطش؟ إن الذين لا يستعملون في أطعمتهم البهارات والتوابل والبصل وغيرها من

الأشياء التي توجب العطش الصناعي، قلَّما يحتاجون إلى شرب الماء، والذين

يعطشون كثيرًا لا بد أن يكونوا مصابين ببعض الأمراض.

قد نرغب في شرب الماء من أي نوع كان. وما ذلك إلا لأننا نرى بعض

الناس يفعلون ذلك بلا مبالاة فنقلدهم نحن أيضاً. لقد فصلنا جواب هذه المسألة في

باب الهواء.

إن في الدم نفسه قوة تقتل كثيرًا من الجراثيم السامة التي تدخل فيه، ولكن

يجب تنظيفه وإصلاحه مثل ما يصلح حد السيف بالشحذ كلما تثلم بالاستعمال، إذا

كنا نشرب الماء الفاسد فلا ينبغي أن نتعجب إن وجدنا دمنا قد تسمم على مر الأيام.

***

الباب الخامس

الغذاء

إن الماء والهواء والحبوب كل هذه الثلاثة داخله في غذائنا، ولكننا نعد

الحبوب وحدها هو الغذاء، مع أن الهواء هو أول غذاء لنا؛ لأننا لا يمكننا أن

نعيش بدونه، ثم يليه الماء الذي هو أهم من الحبوب. وقد أوجدته الطبيعة بكمية

كبيرة فنجده بسهولة خلافًا للحبوب التي هي في الدرجة الثالثة من غذائنا.

لا يمكن وضع القوانين المنضبطة بكل دقة في مسألة الغذاء. وأي نوع من

الغذاء ينبغي استعماله؟ كم يكون مقداره؟ وفي أي الأوقات؟ هذه المسألة قد اختلف

فيها الأطباء اختلافًا كبيرًا. إن عوائد الناس في البلاد المختلفة متباينة جدًّا، حتى

إن الغذاء الواحد قد يحدث تأثيرات مختلفة في فردين مختلفين. فعلى ذلك لا يمكن

تحديد الغذاء والبتّ في الأسئلة السابقة. فإنه يوجد على الكرة الأرضية قوم يأكلون

لحوم البشر، فلحم البشر غذاء لهم. وآخرون يقتاتون بالقاذورات فهي غذاء لهم.

ويعيش أقوام على اللبن فهو غذاء لهم، ويعيش غيرهم على الثمار فهي غذاء لهم.

ولكن مع تعذر تحديد الغذاء تحديدًا تامًّا يجب أن نتدبر في المسألة بكل اهتمام

لا حاجة إلى التذكير بأن الجسم لا بقاء له بدون الغذاء، ولذلك نركب الصعاب

ونتحمل المصائب في تحصيله. ثم إنه مما لا ريب فيه أن 99 في المائة من

الرجال والنساء يأكلون للذة البطن واللسان فقط، فهم لا يتوقفون أثناء الأكل للتأمل

في النتائج التي تتبعه بعد تناوله، ويشرب كثير من الناس المسهلات ويتعاطون

الحبوب الهاضمة ليتمكنوا من الإكثار من الأكل ثانية وكذلك يوجد أناس يشحنون

بطونهم فوق طاقتها ثم يستفرغون ما أكلوا ليتمكنوا من الأكل مثل المقدار الأول.

ومن الناس من يكثر من الأكل حتى لا يجوع أيامًا عديدة، وقد وجد أناس

ماتوا لأنهم أكلوا فوق طاقتهم، أقول: كل هذا على تجربتي الشخصية. وإني كلما

أتفكر في حياتي الماضية أضحك على كثير من أعمالي ولا أتمالك من الاستحياء من

بعضها. فقد كنت في تلك الأيام المظلمة أشرب الشاي صباحاً، ثم أتناول الفطور

بعده بساعتين أو ثلاث، ثم أتغذى الساعة الواحدة، ثم أشرب الشاي ثانية، ثم

أجلس للعشاء بين السادسة والسابعة، ولا تسأل عن تعاستي وسوء حالتي في تلك

الأيام فقد كانت تستدعي العطف والرحمة، فكان حشو جسمي الكثير من الشحم

وقوارير الأدوية لا تبرح يدي. وكنت أكثر من شرب المسهلات وأستعمل الأدوية

المقوية لأتمكن من الأكل الكثير، وأما قواي العقلية والجسدية فكانت في حالة يرثى

لها. فما كنت أملك ثلث نشاطي ومقدرتي على العمل التي أجدها الآن، مع أني

كنت إذ ذاك في عنفوان شبابي. لا ريب أن مثل هذه الحالة تعسة حقًّا، وإننا لو

نتدبر في الأمر بجد وتروِّ نجزم بأنها حالة رذلة آثمة مستحقة لكل مقت وتقبيح.

إن الإنسان لم يخلق للأكل ولا ينبغي له أن يعيش للأكل. إن وظيفته الحق

هي أن يعرف خالقه ويعبده حق عبادته وإنما الأكل لتقوية الجسم ليقوم بهذه العبادة

لا غير. حتى إن الملاحدة أيضاً يسلمون أننا لا نأكل إلا لحفظ الصحة وكل ما زاد

على ذلك فلا حاجة إليه مطلقًا.

انظر إلى الطيور والحيوانات تجد أنها لا تأكل لمجرد التمتع باللذة، فهي لا

تملأ بطونها ملأ ولا تقبل الأكل إلا إذا جاعت ولا تأكل إلا القدر الذي يزول به ألم

الجوع وتقتصر عليه، ثم هي لا تجاوز الغذاء الذي هيئته لها الطبيعة بأيديها فلا

تطبخ طعامها، ولا تغير طعمه بطرق صناعية. فهل يمكن يا ترى أن يكون

الإنسان وحده قد خلق ليعبد لذته؟ وهل يمكن أن يكون هو وحده قد قدر عليه الشقاء

بالأمراض دائمًا؟ إن الحيوانات التي تعيش وتحيا حياة حرة طبيعية لا يموت منها

أحد بسبب الجوع، ولا يوجد بينها التمييز بين الفقير والغني - بين الذين يأكلون

مرات عديدة في اليوم، والذين لا يجدون الطعام ولا مرة واحدة في يومهم - إن هذا

التفاوت والتمايز لا يوجد إلا في البشر وحدهم. ومع ذلك نحن نعد أنفسنا أفضل

وأعلى من الحيوانات! لا ريب أن الذين يقضون أعمارهم في عبادة بطونهم لأحطّ

من الطيور والبهائم!

إن التدبر العميق يثبت لنا أن جميع الذنوب مثل الكذب والغش والسرقة إنما

هي نتائج لازمة لعبوديتنا للذة، والذي يستطيع أن يملك زمام لذته يستطيع أن يملك

بسهولة مشاعره الأخرى. إن كنا نكذب أو نسرق أو نزني تسقط منزلتنا من أعين

المجتمع الإنساني. ولكن ما أعجب ما نرى من أن الناس لا يبدون أي اشمئزاز أو

تحقير لأولئك الذين يتدينون للذة بطونهم بلا خجل ولا استحياء كأن هذا الإثم لا

علاقة لها بالأخلاق مطلقًا! وما ذلك إلا لأن أحسن الناس وأكبرهم أيضًا يعبدون

لذاتهم.

إن جميع المتمدينين يجتنبون مصاحبة الكذابين واللصوص والزناة، ولكنهم

أنفسهم يأكلون فوق كل حد، ولا يعدون ذلك ذنباً أصلاً! إن الخضوع للذة لا يعد

فينا ذنباً لأننا جميعاً نرتكبه، كما أن اللصوصية لا تعد جناية في قرية اللصوص!

وأقبح من كل هذا أننا عوضًا من أن نستحي من هذه العادة نفتخر ونتباهى بها.

فترى عبادة اللذة في الأعراس والأفراح والأعياد كوظيفة مقدسة واجبة علينا،

حتى في المآتم لا نخجل من القيام بهذا العار الفظيع! وإذا جاءنا ضيف بادرنا إلى

شحن بطنه بالحلوى، وإذا لم نُقم لأصحابنا وأقاربنا المآدب أو لم نشترك في

ولائمهم ووضائمهم كل حين نبوء بسخطهم، ونكون عرضة لملامتهم، وإن دعونا

أصحابنا إلى مائدتنا، ثم قصرنا في شحن بطونهم بالأطعمة الثمينة فإننا بلا ريب

نعد من البخلاء! وأما أيام المواسم والأعياد فنرى إعداد الطعام اللذيذ الشهي فيها

واجبًا كبيرًا علينا. لا ريب أن القضية قد انعكست الآن فأصبح الإثم الكبير في

الحقيقة محمدة وحسنة في عرفنا. نحن قد زعمنا في مسألة الأكل مزاعم باطلة

وجعلناها حقائق، فهي التي لا تسمح لنا بأن نفهم عبوديتنا وبهيميتنا. كيف نخلص

أنفسنا من هذه الحالة المحزنة المقلقة؟ إني أخاف إن توغلت في الجواب أن

أخرج من موضوع الصحة، ولذلك أقف عند القول بأنه يجب على الأفراد وعلى

الجماعات سواء أن يقفوا جميعًا أمام هذه المسألة المهمة وقفة المتدبر، ويتأملوا فيها

من الوجهة الصحية فقط.

ولننظر في المسألة من وجهة أخرى: نحن نشاهد بأعيننا أمرًا واقعًا لا مُشَاحَّة

فيه، وهو أن الطبيعة قد هيئت بنفسها لجميع المخلوقات - سواء فيها الإنسان

والحيوان والطير والحشرات - غذاء وافرًا يكفي لحياتها وبقائها، هذه هي سنة

الطبيعة الأبدية، أن في مملكة الطبيعة لا يغفل أحد، ولا ينسى أحد وظيفته، ولا

يأخذه في أدائها كسل ولا ملل، إن الشغل كله يؤدي فيها بغاية الإتقان وفي الوقت

المحدد له بلا تأخير لمحة من البصر، إننا لو نسعى سعياً صحيحًا دائمًا في جعل

حياتنا مطابقة لسنن الطبيعة الأبدية الثابتة لرأينا بلا بشك أنه لا يوجد إنسان في هذه

المعمورة الواسعة يموت جوعًا، وذلك لأن الطبيعة تهيئ دائمًا غذاءً وافرًا يكفي

لتغذية جميع المخلوقات. ومن هنا نعلم أن الذي يأخذ من الغذاء أكثر من نصيبه

الاعتيادي، يحرم الآخر من سهمه الشرعي، أليس هذا الأمر واقعًا، أليست مطابخ

الملوك والأمراء والأغنياء عامة تعد من الأطعمة أضعاف حاجتهم وحاجة أتباعهم؟

هكذا هم يغتصبون غذاءً كثيرًا من نصيب الفقراء فهل يتعجب بعد هذا إن مات

بعض الفقراء جوعًا؟ إن كان هذا صحيحًا (وقد اعترف بهذا الأمر الواقع كثير من

المفكرين) فمعناه أن كل ما نأكله أكثر من حاجتنا الضرورية ليس إلا اختلاسًا من

بطون الفقراء، إن كل ما نأكله لمجرد الاستمتاع والالتذاذ لا بد من أن يهدد صحتنا

بالخطر.

بعد هذه التوطئة يمكننا أن نتدبر في الغذاء الأصلح للإنسان.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هو ما يفعله قوم المؤلف في الهند تعبدًا.

ص: 48

الكاتب: المغربي

‌حديث عن الجامعة الأحمدية

المشهورة - في بلادنا - باسم القاديانية [*]

تمهيد:

اتفق لي في السنة الأولى من سني الحرب العامة وأنا في القدس أن تعرفت

بشاب هندي اسمه (زين العابدين) من خيرة من عرفت من الشبان علماً وفضلاً،

وأدبًا وأخلاقًا، وحمية لدينه، ودفاعًا عن يقينه، وقد استحكمت بيني وبينه وشائج

الثقة. وكذلك كان شأنه مع كل من عرفه، ووقف على جميل سجاياه. وكان يقول:

إنه إنما جاء سورية لأجل درس اللغة العربية وتحصيل ملكة الكتابة فيها. وأن

جمعيته في الهند البالغ عددها خمسمائة ألف نفس هي التي أوفدته على نفقتها لهذا

الغرض. وأن الحرب قد حالت بينه وبين الرجوع إلى بلاده. ثم انقضت الحرب

فأوطن دمشق فنذرت به السلطة الإنكليزية فساقته إلى مصر وحاكمته بحجة أنه كان

يشغتل في أثناء الحرب ضد المصلحة البريطانية. ثم تبرأ وعاد إلى بلاده (بنجاب)

وجعل يكاتبني حتى زار دمشق في صيف سنة 1924 الميرزا بشير الدين زعيم

الفرقة الأحمدية الملقب بخليفة المسيح الموعود ومعه كتاب من الصديق (زين

العبادين) يخبرني فيه بقدوم الميرزا ويوصيني بحسن استقباله. ففهمت إذ ذاك أن

زين العابدين هو من أتباع مسيح البنجاب بل هو (الماكينة) المحركة في ذلك

الدولاب. كما فهمت أنه يتولى كتابة السر في المسيحية الموعودة ويقوم بشؤون

التربية والتعليم في تلك الجامعة الجديدة.

ثم كان من أمر (الميرزا بشير الدين) مع أهل دمشق وهياجهم عليه ما كان

فغادر الرجل دمشق إلى لندره لشهود مؤتمر الأديان العام فيها. وفي صيف السنة

التالية أي سنة 1925 جاء زين العابدين نفسه إلى دمشق، فرحبت به، ولم آل

جهداً في معاتبته، ثم لم يكن يضمني وإياه مجلس إلا جاء فيه ذكر فرقتهم، وغريب

دعوتهم، فكنا تارة نجادله، وطوراً نهازله، وآونة نعجب منه، وأحياناً ننافح عنه،

وشد ما تمنيت عليه أو تفرغ نحلتهم في قالب إصلاحي جدي، غير القالب الذي

أفرغوها فيه، فيكون لها من حسن الأثر في التربية العامة ما كان للطرائق

الصوفية الحكيمة، فكان تارة يصغي إلى قولي ويرتاح إليه، وطورًا يخالفني إلى

فكر يريغ مني الموافقة عليه.

أما القصد من مجيئه مع رفيق له من علماء فرقتهم إلى دمشق - فهو أنه يريد

إزالة سوء التفاهم الذي كان وقع بين أفاضلها وبين زعيم الفرقة الميرزا (بشير

الدين) ويكشف الغموض والإبهام عن بعض تعابير وأقوال كانوا يسمعونها منه

فيسيئون بها وبه الظن، مع أنها تنطبق - في زعمه - على تعاليم الإسلام

وتلتحم بنصوصه. وقد باشر (زين العابدين) بالفعل وظيفته هذه ونشر بهذا

المعنى مقالات في بعض الصحف، وناظر نفرًا من العلماء والشبان، وكتب رسالة

وطبعها في دمشق تتضمن بعض تلك المناظرات، ثم رأى أن يضع كتابًا آخر يكون

أغزر مادة، وأجمع للفائدة فألفه وسماه (حياة المسيح ووفاته) بلغ نحو (215)

صفحة وقد طبعه في دمشق ووزعه على أصدقائه ومعارفه، وأهدى منه إلى

بعض المشهورين من العلماء والصحافيين، وقد زارني في داري وقدم إليَّ نسخة

منه، وكلفني بلهجة الصديق المحب أن أكتب كلمة تنشر وتؤثر عنه، فكتبت هذه

الكلمة، وقد رأيتها خير كلمة تعبر عن الحقيقة، ويعاتب بها الصديق صديقه،

واخترت (مجلة المنار) لتنشر فيها، ويكون الصديق الأبرّ السيد رشيد حكمًا ومهيمنًا

عليها، وهذه هي الكلمة:

***

كتاب حياة المسيح

ووفاته

طالعت كتابك يا صديقي (زين العابدين) في موضوع (حياة المسيح وموته)

بعد أن كلفتني مطالعته وإبداء رأيي فيه، فها أنا ذا أذكر ذلك ما كان يجول في

نفسي وأنا أتصفحه، وقد أعرضت في كلمتي هذه عن الاستشهاد بالنصوص الدينية

وسرد ما قالوه في تأويلها، كما أنني لم أنازعك فيما ذكرت أنت وأولت من هذا

القبيل؛ لأنني صرت أعتقد أن إصلاح أمرنا والتوفيق بين فرقنا - معشر المسلمين -

عن طريق تلك النصوص وتأويلها أصبح عقيمًا لا يفيد. فأنا أرجح الإصلاح

والتوفيق من طريق (المحاكمات) العقلية والاجتماعية والتاريخية، ثم الاعتبار

بحوادث الزمان، والرجوع إلى نواميس العمران، فأقول:

إن صاحب دعوتكم (غلام أحمد) يذهب إلى أن السيد عيسى عليه السلام

أنزل عن الصليب وفيه رمق ثم تداوى وشفي وساح في الأرض حتى بلغ كشمير

ودفن ثمة، فليس هو الآن حيًّا في السماء بجسده كما يعتقد المسلمون والنصارى.

وبالضرورة أنه سوف لا ينزل من السماء في آخر الزمان وإنما يقوم من بين

المسلمين رجل على سمته وهديه فَيَلِمّ شعث الأمة الإسلامية ويجمع فرقتها بعد

الشتات، وقد ذهب (غلام أحمد) إلى أن هذا هو معنى ما ورد من نزول السيد عيسى

عليه السلام، ثم أولَ جميع النصوص وأرجعها إلى هذا المعنى.

قد يوجد في أحرار المسلمين المتعلمين اليوم من يقول بما قال به (غلام أحمد)

بشان موت المسيح موتًا حقيقيًّا، ويؤوّل الآثار الدالة على نزوله ولكن ليس قولهم

هذا من قبيل المتابعة لغلام أحمد ومذهبه المُوحى إليه به، وإنما هذه الموافقة له

جاءت من كون حياة عيسى وصعوده إلى السماء ثم نزوله في آخر الزمان هي

كسائر العقائد من نوعها التي اعتمد جمهور علمائنا رضي الله عنهم ظاهرها إيمانًا

بشمول القدرة الإلهية. وقد غلب هذا الاعتقاد فيما كان من هذا النوع من مسائل

الكلام، وشاع حتى دُوِّن في كتب العقائد الإسلامية، وإن كان يوجد في علماء الإسلام

المتقدمين من يذهب إلى غير ما عليه الجمهور فيؤول ظاهر الآيات ويرجعها إلى

معان توائم العقل، وتكون أظهر التحامًا مع النواميس الطبيعية وأمثله ذلك كثيرة منها:

(1)

الكوثر الذي أُعطي للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة: المشهور

أنه نهر جارٍ، وهناك من يعتقد أنه الخير الكثير.

(2)

مسخ الذين اعتدوا في السبت قردة: المشهور أنهم مسخوا حقيقة،

وهناك من يقول: إنه مسخ قلوب وأخلاق.

(3)

كرسي الله وعرشه: المشهور أنه جسم مادي في أعلى السماوات،

وهناك من يعتقد له معنى مجازيًّا كالعظمة والسلطة.

(4)

النفخ في الصور: المشهور أنه بوق حقيقي ينفخ فيه يوم القيامة،

وهناك من يعتقد أنه كناية عن إعلان الأمر وإشهاره.

(5)

وزن الأعمال يوم القيامة: المشهور أنه وزن حقيقي بميزان ذي لسان

وكِفتين، وهناك من يعتقد أن المراد بالوزن القضاء العادل، وقال الطبري: إنه قول

مجاهد.

إلى غير ذلك من المسائل، ومن جملتها مسألة حياة عيسى بجسده العنصري

في السماء ونزوله منها، وما دام ابن عباس يقول (كما في تفسير الطبري) : إن

المراد بقوله تعالى {مُتَوَفِّيكَ} (آل عمران: 55) مميتك، لا جرم أن يوجد في

المسلمين من يقول بموته اتباعًا لابن عباس لا اتباعًا لوحي (غلام أحمد) إذ إن

المسألة مسألة فهم في الدين؛ فهي لا تحتاج إلى عناء دعوى الوحي أو نزول ملك من

أجلها.

غير أن الواحد من هؤلاء المخالفين للجمهور لا يصرح بما يذهب إليه في

أمثال ما ذكرنا أمام الناس خشية تشنيعهم عليه، فهو يدع الناس في غفلاتهم ويعتقد

هو أمرًا إن كان يخالفهم فيه فربما كان موافقاً لبعض علماء السلف أو لعلماء

المعتزلة الذين هم من أهل قبلتنا، وليسوا بخارجين عن ملتنا.

أما حضرة (غلام أحمد) فقد وجد من بيئة الهند وعقلة سكانها ومن ذلك

الوسط المشبع بالحرية الفكرية التي أيدتها السلطة الإنكليزية - ما ساعده على الجهر

برأيه في موت المسيح، لا سيما أن (غلام أحمد) في صدد ادعاء الوحي لنفسه

وأنه هو المسيح الموعود ليتوصل بذلك إلى إفحام أعدائه المبشرين.

فعيسى إذًا ميت على ما يُفهم من قول ابن عباس، وهو ما استند عليه غلام

أحمد في دعوته، وربما ذهب مذهبه طائفة من أحرار علماء المسلمين المتقدمين

والمتأخرين كما قلنا.

أما أن عيسى كان موته قبل أن يُصلب أو وهو على الصليب أو أنزل عن

الصليب حيًّا ثم مات في فلسطين أو في الهند؟ وفي أي مكان دفن؟ فكل هذا لم

ينص عليه القرآن بصراحة، فيبقى بحثًا تاريخيًّا، ولكل إنسان أن يذهب فيه مذهبًا

يراه صوابًا حسب الأدلة التي تتوفر لديه ويقتنع بها.

بقي أن يقال: إن هناك آثارًا وأحاديث تدل على أن عيسى سوف ينزل (أي

يظهر) في آخر الزمان. فبالطبع تكون هذه الأحاديث مؤولة بأحد طرق التأويل عند

الطائفة التي تقول بموته، ومن هذه التآويل التي تتبادر إلى ذهن كل من له وقوف

على العلوم الإسلامية - التأويل الذي ذهب إليه (غلام أحمد) من ظهور رجل من

المسلمين في آخر الزمان يكون على سمت المسيح وهديه ، فينهض بالمسلمين بعد

خمولهم وذهاب ريحهم.

ولا ريب أن الأعلق بمصلحة المسلمين أن لا يقال: إن عيسى الذي سيظهر

في آخر الزمان هو شخص واحد يقوم في زمان واحد ومكان واحد ، بل القول

الصواب في ذلك ما قاله (غلام أحمد) نفسه ونقله عنه صديقنا زين العابدين في

كتاب (حياة المسيح ووفاته) صفحة 211 وهذا هو نص قوله بحرفه:

(وأنا كذلك لا أقول: إن مقام العيسوية ختم بي وانطوى ولا يأتي مسيح بعدي،

كلا بل إني لأؤمن وأقول مرة بعد أخرى إنه بالإمكان أن يجيء أكثر من عشرة

آلاف مسيح) .

وعلى هذا فالمسحاء الذين يظهرون في آخر الزمان لهداية الناس كثيرون في

اعتقاد (غلام أحمد) واعتقاده هذا يتفق مع مذهب أهل السنة من أنه تعالى (يبعث

على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) بناءً على أثر وارد في هذا

المعنى.

لكن غلام أحمد يتسامح فيسمي كل من يقوم في آخر الزمان للهداية العامة

(مسيحًا ومهديًّا) كما يسميه (مجددًا) أما أهل السنة فيسمونه (مجددًا) فقط

ويحتفظون بلقب عيسى والمهدي للمجدد الأخير. ويوشك أن نتفق ونجعل الخلاف

بيننا وبين (غلام أحمد) لفظياً لو لم نره يعود فيخالفنا ويزداد في التسامح والتساهل

فيسمى المجدد (نبيًّا ورسولاً) كما يسميه (مسيحًا ومهديًّا) ، إذ تكون دائرة التجديد

في العيسوية أوسع مما كنا نظن. فالآن وبعد الآن يقوم وسيقوم وسوف يقوم في

المسلمين (مجددون ومسحاء ومهديون ورسل وأنبياء) ألفاظ مختلفة والمعنى

واحد رجال من المسلمين يظهرون في أوقات متعددة وأمكنة متباينة لهداية

المسلمين.

في هذه الدائرة الواسعة وجد (غلام أحمد) لنفسه متبوءًا حسنًا فتبوأه، أعطى

نفسه كل هذه الحُلى والألقاب، فهو يسمي نفسه في كتبه (نبيًا ورسولاً) من دون

جمجمة ولا تقية. بل الأغرب أن صاحبنا (زين العابدين) لا يذكر اسمه إلا

مشفوعًا بالصلاة والسلام عليه، كما يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.

ويمكن أن يقال: ماذا يضركم التسامح في إطلاق الألفاظ؟ فإذا كان (غلام

أحمد) يطلق على كل مجدد يظهر في الإسلام اسم (نبي ورسول) كما يطلق عليه

اسم (مهدي) و (عيسى) فنسلم له هذه التسمية تفاديًا من النزاع حول الألفاظ.

وكل ما في الأمر أننا نسمي المجدد مجددًا فقط. وهو يتسامح كل التسامح، فيسميه

(نبيًّا ورسولاً) ويبني تسامحه هذا على التوسع في أصل المعنى اللغوي للنبوة

والرسالة.

فنقول في الجواب: نعم، ولكن (غلام أحمد) لا يكتفي بما مر، بل يعود

فيفرط إفراطًا آخر، ويزعم أن ذلك المجدد المهدي المسيح النبي الرسول - يتلقى

وحيًا من الله - وهو بالطبع يريد كل مجدد لا المجدد الذي قام بقاديان وحده. إذ لا

يتصور أن يبشر بالمجددين ويسميهم أنبياء ومرسلين. ثم يقول: إنهم لا يُوحى

إليهم، وإنما يوحي إليه وهو وحده خاصة.

وبعد جدال وحوار طويلين مع (غلام أحمد) في مفهوم معنى كلمة (الوحي)

الذي يكون لهؤلاء المجددين لغة واصطلاحًا - نعود ونقول له: سلمنا بما قلت ولكن:

(1)

هل هذا الوحي الذي تتلقاه أنت وزملاؤك يكون بتكليم ملك وبصوت

مسموع كما كان يوحى إلى الأنبياء المذكورين في القرآن، وخاصة محمدًا صلى الله

عليه وسلم؟ فإن قال (غلام أحمد) إن وحي هؤلاء المجددين المتأخرين ليس

بتكليم ملك، وإنما هو محض إلهام ومجرد شعور نفسي. نسلم له ونتفق معه أو

نكاد نتفق، وإن قال: إن وحينا نتلقاه بواسطة ملك وبصوت مسموع منه فنسأله؟ .

(2)

هل إن هذا الوحي (مطلقًا سواء ادعيته إلهامًا أو كلامًا مسموعًا) هو

وحي معصوم لا يتطرق إليه خطأ ولا وهم، أو أنه قد يخطئ، وقد يصيب؟ فإن

قال: إنه غير معصوم، قد يخطئ وقد يصيب، سلمنا ورضينا وقلنا: ها نحن قد

اتفقنا- أو كدنا -. وإن قال: إن وحيه ووحي إخوانه وحي معصوم لا يأتيه

الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذا قال ذلك نُبلت وننقطع عن الكلام، ثم نعود

ونتشدد ونسأله:

(3)

هل وَحْيكُم المعصوم هذا توجبون اتباعه على كل من يبلغه أمره، أو

أن المسلم في وسعه أن يتبعه، وفي وسعه أن يرفضه؟ فإن قال: في وسعه أن

يتبعه، وفي وسعه أن يرفضه، عاد إلينا الأمل بحسن التفاهم، وإن قال: بل يجب

على كل مسلم بلغه وحينا أن يؤمن به وإلا استحق عقابًا أخرويًّا. إذا قال ذلك يعود

اليأس فيخامرنا ونرى هُوة واسعة بيننا وبين الرجل، وبعد سكوت طويل وهجر

جميل، نرجع إلى (غلام أحمد) ثانية فنسأله سؤالاً قد يكون جوابه قد فهم مما سبق،

غير أننا نعود إليه زيادة في الاستيثاق والتثبيت.

(4)

هل تستبد أنت وتستعلي على سائر إخوانك المجددين، والأنبياء

المتأخرين، فتدعي أنك وحدك الذي يجب الإيمان به، واتباع وحيه، وأن الآخرين

لا يجب اتباعهم ولا الإيمان بهم؟ إن قال: نعم، أنا وحدي الذي يجب عليكم اتباعه،

ودعناه وانصرفنا بسلام. وإن قال: لا، بل عليكم أن تتبعوا جميع أولئك المسحاء

والمهديين المتأخرين.

إذا قال ذلك ختمنا الحديث معه، بقولنا: إن المجددين الذين اعترفت لهم

بمنصب التجديد (أو بمقام العيسوية كما هي عباراته) وقد ظهروا في عصور مختلفة

من تاريخ الإسلام لم نسمع أحدهم ادّعى بأنه يُوحى إليه وحيًا معصومًا، وأنه يجب

على الناس اتباعه، مع أنهم و (غلام أحمد) سواء في المرتبة والمقام، فلماذا هذا

(الامتياز) ؟ دعنا من المجددين المتقدمين، فإن (غلام أحمد) قد يقول: إن زمانهم

لم يكن آخر الزمان الذي يظهر فيه المسحاء المجددون حسبما يفهم

من الآثار الدينية، فلم يكن أولئك سوى مجددين وليسوا مسحاء موعودين.

أجل وماذا يقول في الزعماء الذين قاموا في هذه الأزمنة المتأخرة باسم الهداية

العامة، وقد استنار بهم واهتدى بهديهم خلق كثيرون كالشيخ محمد بن عبد

الوهاب المجدد في الجزيرة العربية، والسيد أحمد السنوسي وابنه المهدي [1]

المجددين في قارة أفريقيا والحرمين الشريفين، وكالسيد جمال الدين الأفغاني،

وتلميذه الأستاذ الإمام اللذين يعتقد مريدوهما أنهما مجددا هذا العصر وغير هؤلاء

ممن قام بإرشاد وهداية انتفع بها الكثيرون، ونرى أتباعهم يتفانون في حبهم،

والاعتراف ببلائهم، وحسن خدمتهم للإسلام، ويذهب كل منهم إلى أن

صاحبه هو المجدد الحقيقي المَعْنيّ فيما ورد من الآثار، نعم إن أحدًا من هؤلاء

المجددين المعاصرين لم يدع وحيًا ولا مهدوية ولا (مقام عيسوية) ولكن لو

فرضنا أن أحدهم ادعى هذه الدعوى، وأَيَّدَ دعواه بظهور أثر الإصلاح والخير

في أتباعه، وأن له كرامات يسردها له مريدوه (كما يفعل غلام أحمد وأتباعه) لو

ادعى ذلك فماذا نقول له؟ وهذا (غلام أحمد) نفسه قد بشر بهم إن لم يكن

بأعيانهم وأشخاصهم فبمنصبهم (ومقامهم العيسوي) ، ونحن الآن إنما نتكلم عن

طبيعة هذا (المقام العيسوي) الذي نحله (غلام أحمد) لنفسه ولغيره من المجددين

عفوًا.

لا جرم أن قيام غلام أحمد بهذه الدعوة، وما يتوقع من قيام غيره بمثل دعوته

يجعل الأمة الإسلامية ترتكس - وهي في القرن العشرين - في ظلمات أشبه

بظلمات القرون الوسطى. بينما نرى الأمم الأخرى تسبح من العلم في أنوار،

وتتحصن من العزة والقوة بأسوار.

تنهض الأمم الحية في هذا العصر بنبوغ الكثيرين من أبنائها نهضة عمادها

الأسباب المعهودة في النهضات التي يعبرون عنها بكلمة (رينسانس)

Renaissance وتاريخ هذه النهضات في كل أمة وتطوراتها، والعوامل المؤثرة

فيها، مما يدرس للطلاب في المدارس لتقتدي به الأمم المقصرة، والشعوب

المتأخرة، وقد استفاد من هذه القدوة عدد ليس بقليل من أمم الأرض في الشرق

والغرب، فهي تنهض نهضتها وتلم شعثها وتتبوأ مكانتها من طريق الإصلاح

السياسي والاجتماعي، ونحن وحدنا معشر المسلمين يحاول قوم منا النهوض إلى

مستوى تلك الأمم من طريق ملتوٍ وعر، من طريق روحاني سماوي، من طريق

تمشي فيه القهقرى، من طريق يؤدي بطبيعته إلى الخلاف والنزاع وتمزيق الشمل

والتفرقة بين لمسلمين.

هذه هي نتيجة دعوى المهدوية الروحانية في عصرنا الحاضر. ومن ينكرها

وهي بارزة للعيان، في كل زمان ومكان، ولا ينس القارئ، متمهدي السودان.

لماذا لا نصلح اجتماعنا من طريق العلم، وإصلاح الأخلاق، وتنوير الأفكار،

فتنهض الأمة نهضة مشتركة، كما نهضت حمامات كليلة ودمنة منذ تعاونت على

الشبكة؟ أليس هذا الطريق هو الأجدر بنا أن نسلكه بدل ذلك الطريق الملتوي الذي

يريد غلام (أحمد) سوق الناس فيه؟

إذا كانت هذه الدعوى (دعوى الإصلاح الروحاني) تليق بالقرون الماضية

بحسب السنن الإلهية في استصلاح أهل تلك القرون، أتراها تروج اليوم وقد

اختلفت العقول والأفكار، وتبدل كل شيء حتى كاد يتبدل الليل والنهار؟

الأمم تتقدم إلى الأمام في ثقافتها وعقليتها ونحن نرجع إلى الوراء مئات من

السنين، أليس السبيل المطروق الذي سارت فيه أمم العصر للوصول إلى غايتها من

العزة والمدنية - هو الإصلاح الداخلي وتقوية الوحدة الوطنية ونشر العلوم

الصحيحة المؤسسة على التجربة والامتحان، وتقويم التربيتين السياسية والعائلية؟

هذا هو الطريق الأقوم في إنهاض الأمم التي زالت عن أبصارها غشاوات

الوهم، أما تلك التي مازالت مرتكسة في مهامة الجهالة، فربما راجت لديها دعوى

الوحي والعصمة والاستمداد من عالم الغيب، بل يغلو دعاتها إلى أسمى مرتقى من

الدعاوي والمزاعم ، كدعوى البهائيين في زعيمهم الذي اخترعوا له اسم (بهيّ

الأبهى) وهي مرتبة ربما كانت فوق النبوة والرسالة.

إن الخلافة العظمى على خطورة أمرها بين عقائد الإسلام أصبحت الأمم

الإسلامية الناهضة، مما تأبى انتحاله خشية أن يسيطر عليها الأجنبي بواسطته،

فما بالك بدعوى المهدوية أو العيسوية التي هي من تقاليد الإسلام لا من عقائده؟

فإن السيطرة الأجنبية إذا تمكنت من قياد مدعيها أمكنها بسهولة أن تبسط سلطانها

على الطائفة التي تخضع له، وتؤمن به.

طرق النهضات العصرية التي أشرنا إليها آنفًا توحد بين أبناء الأمة بخلاف

التجديد من طريق دعوى المهدوية والوحي السماوي، فإنه أصبح يفرق شمل الأمة

التي تظهر فيها هذه الدعوى بحيث يجعل كل فرقة في حيز خاص بها، وبذلك

تستفيد الدولة المستعمرة التي تطمع أن يطول أمد استيلائها على تلك الأمة.

وما يدرينا أن تكون دعوى (غلام أحمد) مما يروق لحكام الهند البريطانيين

ويرونه مساعدًا على تفريق كلمة المسلمين وفصم عروة وحدتهم، فيؤدي ذلك

بالطبع إلى رسوخ قدمهم في البلاد، ودوام سيطرتهم عليها.

ومن لطيف المصادفات أننا قرأنا في الصحف ونحن نكتب هذا المقال خبر

ذلك الهندي الوثني الشاب (كريشنا مورتي) الذي ادعى أنه (المسيح المنتظر)

وقد روج دعواه هذه جماعة من الأوربيين والأميركيين وأنشأوا له معبدًا في

مدراس، وعقدوا له فيه مؤتمرًا عامًّا في شهر كانون الأول من سنة 1925 شهده

نحو عشرين ألفًا من الأوربيين والأمريكيين، وسيطوفون بمسيحهم هذا أقطار

الأرض مبشرين ومنذرين، فلعل السياسة الإنكليزية هي التي مهدت الطريق لظهور

هذا المسيح الجديد بين وثنيي الهند فتستفيد من ورائه تفتيت الكتلة الوثنية التي تعب

(غاندي) في تكوينها، كما أنها استفادت من ظهور (غلام أحمد) تمزيق الوحدة

الإسلامية التي تسعى الجمعيات لا سيما جمعية الخلافة في تكوينها.

هذا ما أردت أن أحدثك به يا صديقي (زين العابدين) ولو كنت من أولئك

الجهلة الجامدين والأغبياء الجلجلوتيين، لأعرضت عن خطابك، ولما أطلت

النفس في لومك وعتابك، ولكنك ذلك العالم الفطن المُتنور الذي لا ينسى أنه

عاهدني وعاهدته على خدمة القرآن ونصرة تعاليمه، وما عاهدته يعلم الله على

ذلك إلا وأنا أريد أن أخدم القرآن من طريقه المعهود، لا من طريق المسيح الموعود،

فحقق ظني أيها الأخ بك، ودع كلمتي هذه تتغلغل إلى موضع الإنصاف من نفسك

والسلام.

...

...

...

...

... دمشق

...

...

...

...

... المغربي

(المنار)

الحق أقول: إن الكاتب قد أطال النفس في لوم صديقة وعتابه كما قال، بل

كان شأنه معه في هذا المقال، كما كان شأنه معه في ذلك الحوار والجدال، الذي

وصفه بقوله: فكنا تارة نجادله، وطورًا نهازله، وآونة نعجب منه، وأحيانًا ننافح

عنه. وما حمله على ذلك فيما يظهر إلا ظنه أن صديقه زين العابدين مخلص في

دعواه أنه هو وأهل نحلته يريدون الإصلاح للمسلمين، وأنه يُرجى أن يرجع إلى

الحق إذا دُعِي إليه بالرفق واللين، وأقيم عليه ما لا يمارى فيه من الحجج

والبراهين، فإن صَدَقَ ظَنُّه اعترفنا بأننا كنا في سوء ظننا بجميع القاديانية من

المخطئين، وآمنا بأن أسلوب صديقنا (المغربي) أفضل أساليب المناظرين.

كان (غلام أحمد القادياني) يُهْدي إليَّ كتبه في حياته وكنت أردّ عليها،

وأظهر له وللناس بعض ما دونه من الجهل فيها، وقد ظننت أولاً أنه من أولئك

الممسوسين، الذين يتخيلون فيخالون، ويتمنون فيعتقدون، فيدعون المهدوية تارة

والنبوة أخرى ولا يخلو زمان منهم، وقد رأينا بعضهم وسمعنا أخبار بعض. وهم من

طبقات مختلفة في تربيتها ومعارفها وصفاتها. وربما كان (الباب) منهم لا البهاء

ولا ولده عباس ذو الكيد والدهاء، الذي لقب نفسه بعبد البهاء، ولولا أدب الشرع

لبالغت في التجوز فسميته خالق البهاء.

وقد ترجح عندي أن القادياني على هوسه وغروره دجال لم يكن يعتقد ما

ادعاه، وإنما قصارى هوسه أنه ظن أنه يمكنه أن يقنع كثيرًا من الناس بأن بعض

كلامه وحي من الله، وأنه بلغ حد الإعجاز. وقد كان يتعمد خدمه الإنكليز بما أشار

إليه الكاتب، وبزعمه أن فرضيه الجهاد قد نسخت على لسانه، بل كان يدعو إلى

الإخلاص في الخضوع للإنكليز والرضا بسلطانهم، فهو مفسد في الدين وفي

السياسة معًا. وله في إطراء الحكومة البريطانية والدعوة إلى إخلاص المسلمين لها

كلام كثير كله نفاق، ومنه زعمه أن ملكة الإنكليز تفضل الإسلام وترجحه وتساعد

على نشره، كما صرح به في كتابه (حمامة البشرى) وغيره.

ومن قرأ نظمه ونثره يعلم أنه كان قد عني أشد العناية بدراسة اللغة العربية

بنفسه ولم يتلقها عن جهابذة علماء فنونها وآدابها، وأنه سلك إليها المنهج اللاحب

ولكنه لم يصل إلى الغاية، وأنه حفظ المعلقات السبع وغيرها من أشعار العرب

الخُلَّص والمولدين، وحفظ مقامات الحريري كلها أو كثيرًا منها، وعُني بالنظم

والنثر، مع تكلف التزام السجع، ولما رأى أن النظم والنثر بالعربية دانا له وسهلا

عليه على قله من اشتهر بهما من علماء الهند وأدبائها الذين مارسوا علومها وفنونها

في المدارس سنين كثيرة - ظن لجهله بفساد ما ينظم وينثر أنه مؤيد بالإلهام، وبالغ

من الفصاحة والبلاغة حد الإعجاز، وإنه يمكنه أن يدعي الوحي ويتحدى علماء

الهند بما يكتبه، فادعى أنه هو المهدي المنتظر عند الشيعة والجماهير من سائر

المسلمين. وأنه هو المسيح الموعود الذي ينتظر المسلمون ظهوره أو نزوله قبيل

قيام الساعة، والذي ينتظره النصارى أيضًا وكذا اليهود، ومن أكبر معجزاته أن

القمر قد خسف تصديقًا له! !

ألف كتابًا سماه (إعجاز أحمدي) وله قصائد إعجازيه أيضًا وكلها من سخف

القول وسقطه، وقد رددنا عليها في عدة مجلدات من المنار في عهده ومن بعده،

وسنعود إلى نشر شيء منها ولا سيما نظمه الذي لا يستقيم له وزن ولا يلتزم فيه

إعراب وإننا نذكر الآن أننا لما رددنا عليه أول مرة كبر عليه الأمر فألف كتابًا في

الرد على (المنار) سماه (الهدى والتبصرة لمن يرى) هذى فيه هذيان

المصروعين، وتهافت تهافت المعتوهين، وتناقض تناقض المخبولين وتوعد توعد

القادرين، أو من له ميثاق بالنصر المبين، من رب العالمين.

قال في (ص 8، 9) بعد أن ذكر إرساله كتاب الإعجاز إليَّ:

(ثم لما بلغ كتابي صاحب المنار، وبلغه معه بعض المكاتيب للاستفسار عما

اجتنى من ثمرة ذلك الكلام، وما انتفع بمعرفة من معارفه العظام، ومال إلى الكلم

والإيذاء بالأقلام، كما هو عادة الحاسدين والمستكبرين من الأنام، وطفق يؤذي

ويزوي غير وانٍ في الإزراء والالتطام، ولا لاوٍ إلى الكرم والإكرام، كما هو سيرة

الكرام، وعمد إلى أن يؤلمني ويفضحني في أعين العوام كالأنعام، فسقط من المنار

المنيع وألقى وجوده في الآلام، ووطئني كالحصى، واستوقد نار الفتن وحضى،

وقال ما قال وما أمعن كأولي النهي، وأخلد إلى الأرض وما استشرف كأهل التُّقى،

وخر بعد ماعلا، وإن الخرور شيء عظيم فما بال الذي من المنار هوى، وأشترى

الضلالة، وما اهتدى، أم له في البراعة يد طولى، سيهزم فلا يرى، نباء من الله

الذي يعلم السر وأخفى) .

فقوله: (وخر بعد ما علا - إلى قوله - سيهزم فلا يرى) وعيد لصاحب المنار

بانتقام من الله تعالى لا يبقي له في الوجود عينًا ولا أثرًا، وأن الله تعالى هو الذي

أنبأه بذلك فيما يوحيه إليه، فهو لا شك ولا مراء فيه! !

ولكن نعم الله الظاهرة والباطنة ما زالت تتوالى على صاحب المنار، وإن هذا

الدجال هو الذي انهزم وزال من الوجود، ولم تقر عينه ولا نعم سمعه بمكروه

أصاب صاحب المنار، ولما مات كتبت مذكرًا بهذا الوعيد، وقلت: لو أنني أصبت

في عهده بسوء ولو مما يصاب به كل الناس لعدة معجزة له أكبر من خسوف القمر،

وأشد بهاءًا من نوره إذا انجلى وأسفر، ولكن أتباعه يملأون مواضغهم وصحفهم

وكتبهم تنويهًا بهذه المعجزة!

فعلينا نحن أن نستدل بما ذكر من خذلان له، وتكذيب ما ادعى أنه نبأ منه،

على كذبه في دعواه الوحي والمسيحية، وهذه الدلالة أقوى من تلك لو وقعت الشبهة

لأن المصائب تقع على جميع الناس، وأقوال الدجالين لا تمنع وقوع ما سبقت به

الأقدار، ولكن تخلف الوحي الإلهي الذي يؤيد الله به أنبياءه ورسله محال، ولو

كان جائزًا لما قامت حجة الله على خلقه بإرسالهم {قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ

لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) للأستاذ الكاتب الشهير صاحب الإمضاء.

(1)

السنوسي الكبير والد المهدي اسمه محمد علي لا أحمد.

ص: 55

الكاتب: عبد الرحيم مصطفى قليلات

‌سوانح وبوارح [*]

حضارة الإسلام

لا تعد بي إلى ربوع الخيام

بل أنِخْها عند القصور الفخام

عند صرح الحمرا وفسطاط مصر

عند نادي الفيحا ودار السلام

وقفة يا مطي قرب ثراها

لأحيي عظام أهل عظام

لأحيي الأرواح والعهد قد حـ

ـلّ مداه عناصر الأجسام

نحن منهم وسوف تجمعنا في

ساحة الموت جامعات الرّغام

ما شذذنا بالخلق عنهم ولكن

بشذوذ الأخلاق والأفهام

هم أباحوا ولوج باب اجتهاد

هو نبراس دين خير الأنام

كان نور الهدى لكل إمام

سار بالقوم في طريق الأمام

فانبرينا نقضي على ذلك الفضـ

ـل بأحمى سهم وأردى حسام

سهم حب الأفحام عن قول حق

وحسام الإبهام والإيهام

وسددنا الأبواب في كل وجه

غير وجه التقليد والإلهام

فالمنايا نصيب كل اجتهاد

والأماني تئن تحت الرّجام

والبلايا لناهض والرزايا

لفهيم والويل للمقدام

والعطايا لجامد والتحايا

لخمول والخير للمتعامي

آه واحسرة السلام على ما

مضى من حضارة الإسلام

ذهب الراشدون والشرع باك

لذهاب الأئمة الأعلام

وتولى على الجديدين عهد

حال دون الإحكام في الأحكام

فبدا الدين كالعروس بأهدا

ـم ولا بزة ولا هندام

وتبدّت للشامتين ثغور

باسمات باللوم والإيلام

أيها اللائمون مهلاً وعدلاً

نحن لا الدين باب هذا الملام

نحن لا الدين ـ وهو بدر تمام

سر هذا الإعتام والإظلام

قد تعاف الأنعام سوقًا وإنا

بعمانا نساق كالأنعام

وتعاف الأرسان هذي ونرضى

بخطام الشقا وذل اللجام

حسبنا عار ما جرى من خلاف

حسبنا عيب ما مضى من خصام

لا صديق للخلق يا خلق إلا

صادق القول صادق الأحلام

فأصيخوا وليت لي من أداة

غير هذي الطروس والأقلام

أجمود وقد قضت شرعة الدهـ

ـر على الجامدين بالإعدام

نقض هذي الأحكام حان فهيا

نتهيَّا للنقض والإبرام

بالتآخي نحيا وبالودّ نهنا

وننال المرام بعد المرام

إن في الدين فسحة هكذا

قال نبي الأعراب والأعجام

يسروا لا تعسروا كلُّ يسر

هو للصالحات أقوى قوام

بشروا لا تنفروا فلقول الـ

ـعرف فعلٌ يُزري بفعل المدام

واعملوا مثلما الفرنج بجدٍ

وثبات وهمة واهتمام

راقبوهم وراقبوا كيف سادوا

باحتمال الصعاب والإقدام

وافهموا كيف أنهم آخذونا

بسنام ومقود وزمام

أسمَعوا الكائناتِ شرقًا وغربًا

واستمعنا للهو والأنغام

أظهروا المعجزات برًّا وبحرًا

وظهرنا بالعجز والانقسام

سَبَحوا في الفضاء طولاً وعرضًا

وسبحنا في عالم الأوهام

بضليع التحصيل سادوا وسدنا

قبل فك الحروف والأرقام

هم لأوطانهم غيوث ولسنا

في سماء الأوطان غير جهام

كرم الدين بالتساهل فيه

والمداراة مصدر الإكرام

والتآخي مقام كل مقال

والتراضي مقال كل مقام

فخذوا شارة السماح شعارًا

إنما السمح زينة الأقوام

واكتساب القلوب باللين شرط

في مجاراة حكمة الأيام

لا تحلوا الحرام، لا بارك الله

بمن يستحل أي حرام

ما بأسيافنا القصار الدوامي

قد غدا مجدنا طويل الدوام

بل بعدل وحكمة واتحاد

واقتصاد وألفة ووئام

وصلاة طهورة الوِرد تنهى

عن شرور الفحشاء والآثام

هي للعبد صحة ونشاط

وهي لله طاعة باحترام

وصيام اللسان والقلب والجوف

عفافًا وفهم سر الصيام

فلئن لم نصم عن الشر قطعًا

غير مُجد صيامنا عن طعام

وزكاة تأتي على عوز المسكين

فينا وشقوة الأيتام

لو درى الاشتراك ما في جداها

من جزيل الإحسان والإنعام

وبنوالبلشفيك لو عرفوا ما

للصعاليك من زكاة العام

لرموا بالنظام واتخذوها

لحياة الرفاق خير نظام

أين أعياننا الكرام وأين

البر منهم وأين جود الكرام

أين أهل السخا ومن هو فيهم

دافع الفقر والطوى والأوام

أين أهل الحجى ومن هو منهم

ناصر الحق رافع الآلام

قيدوا سعينا وناموا ولا من

حسنات لهم سوى في المنام

وإذا حاول الفكاك حميم

هدَّدوه وصحبه بالحمام

ورموه بالكفر آنًا وبالإلحاد

حينًا، وتارة بالذام

ولو أن الطبيب أغضى لقالوا

فيه مس الشيطان والسر سام

راقب الله يا موارب واعلم

أن علم القلوب للعلام

أنا أشكو سقمي إلى الله لكن

أنت والله أصل هذا السقام

ما هيامي إلا بربي وقومي

ولساني أفخر به من هيام

أمتي، ملتي، بلادي وضادي

هن قصدي وقصد كل همام

كنت عبد الرحيم قبل غرامي

وأنا اليوم عبد هذا الغرام

أنا عند الأنساب ذاك العظاميّ

وعند الألقاب ذاك العصامي

حسنيّ الصفات جَدًّا وجِدًّا

عربي الأخوال والأعمام

ليس لي في البلاد خصم وأخصا

ـم بلادي دون الورى أخصامي

ليس لي في القضاء حكم ولا لي

أي رأي في قصة الإدغام

ولإدغام آل عيسى بآل الـ

... ـمصطفى كل خاطري وذمامي

إن في ذا السبل سهل مسيري

إن في ذا الحديث حلو كلامي

إن في ذا التمام خير تمام

إن في ذا الختام حسن الختام

فسلام على الشفيعين مني

وسلام على محب السلام

_________

(*) من نظم الأديب البيروتي المشهور السيد عبد الرحيم مصطفى قليلات.

ص: 68

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتنة ملاحدة الترك في سورية ومصر

{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} (النساء:89)

يود ملاحدة الكماليين من الترك لو يقتدي بهم مسلمو العرب في العراق

وسورية ومصر، ومسلمو العجم من سائر الترك والتتار والأفغان والفرس،

فيتركون الإسلام مثلهم، ويجعلونهم أئمة في اللادينية لهم، ويظن أولئك الملاحدة

أنهم ينالون بكفرهم من الزعامة في الشرق ما لم تنل مثله الدولة العثمانية بإسلامها

التي يحتقرونها لأجله، ويحاولون إخفاء ذكرها وذكره وتشويه تاريخها وتاريخه،

وهم يبثون الدعوة إلى الإلحاد، ويجرءون الزنادقة والمرتابين على ترك الإسلام

واحتقار تشريعه وآدابه، ولبس قلانس الإفرنج (البرانيط) لأنها الزي العام لهم،

والمميزة بين المسلمين وبينهم، ولأنها مانعة من سجود لابسها في الصلاة.

وقد علمنا والأسف والعجب يملأ القلب أن بعض السوريين والمصريين الذين

لا يزالون يحتقرون أنفسهم ويفضلون الترك على قومهم، يميلون إلى تقليدهم في

ذلك؛ لأنهم مثلهم في الكفر والتعطيل وعدم الشعور بالرابطة الدينية، ودونهم في

النعرة القومية والعصبية الجنسية، ولو كان لهم كرامة دينية أو قومية لشعروا

بكليهما أو بكل منهما أنهم أشرف من الترك وأولى بأن يكونوا قدوة لهم، فهم

أكرم عنصرًا وأجل أثرًا في الدين والحضارة سواء كانوا من العرب أو من قدماء

المصريين.

على أن هؤلاء الملاحدة قلما يثبت لهم نسب صحيح في الشعب التركي الذي

صار عريقًا في الإسلام، بل هم أو شاب منهم الروسي والرومي والبلقاني

واليهودي الأصل، وقد سلطوا على إفساد هذا الشعب بدعاية العصبية الجنسية،

ومحاولة جعله كأرقى الشعوب الأوربية علمًا وحضارة بقوتهم العسكرية،

وترجمتهم للقوانين الأوربية ولبسهم البرنيطة الإفرنجية، وهذا جهل فاضح وخبث

واضح. فإن أحوال الأمم وأطوارها لا تتبدل بتقليد غيرها في قوانينه

وأزيائه، مع مخالفته لها في تاريخه وتربيته وعقائده، كما هو معلوم عند علماء

الاجتماع.

وقد روى لنا الثقات الخبيرون منا ومن الأوربيين أن السواد من الترك

يمقتون هؤلاء الكماليين، أشد مما كانوا يمقتون إخوانهم الاتحاديين، وأنهم

يتربصون بهم الدوائر، بل أكد لنا بعض الذين عاشوا في الآستانة أو الأناضول

عدة سنين أن جمهور الشعب التركي كان يتمنى -منذ خرج الشريف حسين على

الدولة- لو تجددت للعرب دولة تنقذهم من الكفر وتستولي على بلادهم، بل

قالوا: إنهم صاروا يفضلون أية دولة أوربية على حكومتهم المعاصرة.

أفليس من العجب أن يكون هذا شعور الترك في وطنهم، ثم يوجد في سورية

من يمتهن نفسه بتقليد ملاحدة الكماليين، ويطب التجنس بجنسيتهم الجديدة المذبذبة

التي لا ثبات لها ولا استقرار، ويتخلى لأجلها عن دين القرآن وهداية الإسلام،

وأشرف لغات الأنام؟ ؟ {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة:

61) {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ

إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) .

***

(آراء الإنجليز في العالم الإسلامي)

جاء في برقية من لندن إلى الأهرام في 10 أبريل ما ترجمته:

نشرت جريدة (الديلي نيوز) اليوم مقالاً لمكاتب تكلم فيه عن إمكان تأسيس

جمعية أمم إسلامية ثم قال:

(إذا تألفت هذه الجمعية فإن الأقطاب الذين يسيطرون عليها هم من أعظم

الرجال الذين عرفهم العالم في هذا العصر جرأة وإقدامًا وشهرة، ولابد أن تقلب

الحركات التي يديرونها الآن بين شعوبهم وجه العالم الإسلامي في خلال ربع القرن

المقبل، ولو لم تتمكن من تأليف جمعية أمم.

إن العالم الإسلامي في الوقت الحاضر هو في طور انقلاب عظيم يشبه الطور

الذي مرت فيه أوربا عندما تلاشت الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وخلفت

بعدها شعوبًا رغب كل منها أولاً في الانفصال عن الآخر. فإذا استطاع أولئك

الرجال أن يؤلفوا جمعية أمم إسلامية، ويقيموا منها سدًّا في وجه السيطرة

الأوربية، فقد تتقوض أركان الحضارة الغربية) .

وهنا تكلم الكاتب عن زعماء العالم الإسلامي وقال: (إن عبد الكريم أحد

الأقطاب في أقوى حركة موجودة على وجه البسيطة الآن، وهي الحركة التي تقوم

بها الأمم المحكومة للمطالبة بحقها في تقرير مصيرها، على أن الإدارة الاستعمارية

البالغة منتهى القوة والمقدرة في الجزائر وتونس وطرابلس قد جعلت الحركة

القومية في هذه البلدان في منتهى الضعف.

وزغلول باشا أول حاكم حكم مصر بعد حصولها على نظام ذاتي بعدما تغلب

الفرس على الفراعنة منذ 2400 سنة، وهو أول رئيس وزارة منتخب في بلد

إسلامي ديمقراطي في التاريخ كله، وقد شهدت بنفسي جماهير غفيرة من الطلبة

المسلمين تتدفق كالسيل العرم في شوارع القاهرة، وتسير إلى منزل زغلول باشا

وأصواتها تشق كبد الفضاء بالهتاف له. إن هؤلاء الفتيان ليسوا سوى زبد يعوم

على بحار الحركات القومية الزاخرة في العالم الإسلامي. وليس زغلول باشا ومصر

سوى نور ضئيل بإزاء نيران مصطفى كمال باشا والحركة القومية التركية.

ويمثل مصطفى كمال باشا في تركية اللادينية دور موسوليني في إيطاليا،

ولكنه مكروه من ابن سعود العاهل العربي العظيم الذي يسير في طليعة الحركة

القومية العربية، وهو زعيمها الحربي. ولعله أقدر وأقوى شخصية ظهرت في

العرب منذ عهد النبي الهاشمي، وهو في الوقت ذاته صديق حميم لبريطانيا.

وأما إيران فإنها آخر معقل للفتور الذي أصاب العالم الإسلامي، ولكن الشاه

رضا خان يبث فيها الآن روحًا قومية جديدة.

وفي الهند ثمانية وستون مليوناً من المسلمين تقتسمهم حركتان لا يمكن التوفيق

بينهما، فهم يتمسكون بالمبدأ القومي، فلا بد لهم من أن يكونوا هنودًا وهم مسلمون،

ولذلك يعدون من ضمن العالم الإسلامي.

(وفي جزائر الهند الشرقية الهولندية 35 مليونًا من المسلمين، يرسلون كل

سنة عشرين ألفاً من الحجاج إلى مكة، ويعودون منها أعظم تمسكًا بالإسلام،

فالحركة الإسلامية في جاوى تعدّ والحالة هذه من أعظم الحركات حماسة في العالم

الإسلامي.

فإذا وضعنا هذه الحقائق أمامنا وتأملنا فيها استخرجنا منها ما يأتي:

1-

إن الحركة القومية في العالم الإسلامي قد تفوقت لأول مرة في التاريخ

على رابطة الإخاء في بيت الإسلام، وانتثرت كنانة مشروع الجامعة الإسلامية

القديمة، وظهرت منها سهام الحركات القومية.

2 -

لم يظهر حتى الآن أي دليل على التحالف بَين هذه الحركات، فلا

مصطفى كمال باشا ولا الملك ابن سعود يقبل أن يكون الملك فؤاد خليفة.

3 -

إذا حاولت الدول الغربية أن تسيطر على هذه الأمم وتستغلها فإننا نسوقها

إلى تأليف عصبة ضد العالم المسيحي في الغرب.

فيجب على سياسة الغرب وتجارته أن يتخليا عن كل رغبة في السيطرة،

ويقبلا موقف التعاون بكل ارتياح وإخلاص، ونحن في حاجة ماسة إلى مساعدة هذه

الشعوب وإعداد زعمائها لحكمها حكمًا ذاتيًّا سلميًّا.

ولا شك أن الجامعات الأمريكانية في القاهرة والآستانة وأزمير وبيروت قد

خطَت الخطوات العظمى حتى الآن في هذا السبيل. وفي الكليات والمدارس

الإنكليزية في فلسطين ومصر والعراق وإيران نحو خمسة آلاف طالب قد يخرج

منهم زعماء في العالم الإسلامي، فهم يتعلمون الآن ويرقون مواهبهم الطبيعية،

وسيكونون جسرًا بين العالم الإسلامي الجديد والعالم المسيحي الجديد) اهـ.

فليتأمل.

***

(الاحتفال بعيد المقتطف الخمسيني)

جاءنا من سكرتيرة لجنة الاحتفال ما يأتي:

حضرة العلامة صاحب مجلة (المنار) المفضال:

أتشرف أن أقدم مع هذا بيان تأليف لجنة مركزية في آخر يونيو سنة 1925

للاحتفال بيوبيل المقتطف الذهبي، والنداء الذي وجهتْه اللجنة إلى الأدباء والشعراء

والعلماء ليشتركوا في هذا اليوبيل. وقد نشرنا هذه الدعوة في مختلف الأقطار

الشرقية كفلسطين وشرق الأردن وشبه جزيرة العرب وسورية ولبنان والعراق

والجزائر والمغرب الأقصى وتركيا وبلاد الفرس والهند وفي الأقطار الأوربية

والأمريكية، فلبى أهل العلم والفضل هذه الدعوة من كل جانب ووافونا بما جادت

به القرائح شعرًا ونثرًا، مع رسائل الثناء العظيم على هذا المشروع، والشكر

للقائمين به وشد أزره، وقد نوهت به بعض الصحف التركية والفارسية والهندية

والفرنسية والألمانية والإيطالية، علاوة على الصحف العربية العديدة. وكان

لدعوتنا، عدا تلك النفثات التي ستجمع في كتاب (الذكرى) لليوبيل النتائج التالية:

أولاً: اكتتاب عام اشتركت فيه الجالية السورية واللبنانية في أمريكا الجنوبية

لتقديم هدية تذكارية، وقد وصلت هذه الهدية، وهي تمثال فاخر من البرونز، مقام

على قاعدة من المرمر، وعليها لوحة من الذهب الإبريز، نقش عليها بيتان من

الشعر باسم الذين أهدوا الهدية.

ثانيًا: اكتتاب أهالي حاصبيا في البرازيل لتقديم دوانين وقلمين من الذهب

لصاحبَي المقتطف.

ثالثًا: اشتراك الجامعة الأمريكية ببيروت اشتراكًا رسميًّا في هذا اليوبيل

وقرارها أن تقيم احتفالاً حافلاً في منتداها في نفس اليوم الذي يقام فيه الاحتفال

بالقاهرة.

رابعًا: اشتراك جمعيات متخرجي الجامعة المذكورة في مختلف الأقطار

للاحتفاء باليوبيل كل منها بالطريقة المتيسرة لها.

خامسًا: اشتراك أهل طرابلس الشام يرأسه صاحب مجلة (المباحث) اشتراكًا

فعليًا، فيقيمون حفلة في مدينتهم في اليوم الذي يقام فيه الاحتفال في القاهرة.

أما الاحتفال في القاهرة فسيقام بعد رمضان الكريم وسيعلن عن الموعد فيما

بعد. هذا وقد تفضل حضرة صاحب الجلالة المعظم الملك فؤاد الأول -أيده الله-

فشمل هذا اليوبيل برعايته السامية.

فالرجاء يا سيدي أن تفسحوا في صحيفتكم الغراء مكانًا لهذه التفاصيل بعد

نشر نداء اللجنة ليشترك معنا أهل العلم والفضل في مصر، خدمة للنهضة العلمية

الجديدة، وتقريرًا لجهود العاملين.

وتقبلوا خالص الشكر سلفًا مع عواطف الإكرام.

...

...

...

... سكرتيرة اللجنة

...

...

...

...

(مي)

...

...

...

...

...

القاهرة 24 مارس سنة 1926

ترون مع النشرة التي مع هذا أنه قد تألفت في مصر جماعة للاحتفاء باليوبيل

الذهبي لمجلة المقتطف تقديرًا لآثارها العلمية مدة نصف قرن. واختارت من بين

أعضائها لجنة تنفيذية لبث الدعوة وتنظيم العمل. واللجنة تود أن يشترك في هذا

الاحتفاء أبناء القومية العربية في أقطار الأرض جميعًا، لاعتقادها أن ذلك من

رغبات أنفسهم.

وإذا كان الاشتراك بالحضور فعلاً غير متيسر للجميع، فاللجنة تدعو العلماء

والأدباء والشعراء والجمعيات والمعاهد، والأندية العلمية والأدبية والنقابات

الصحافية، وأصحاب المجلات والصحف عامة إلى الاشتراك في هذا الاحتفاء بما

يتيسر الاشتراك به من الحضور بالفعل، أو بإرسال ما تجود به القرائح من شعر

أو نثر يناسب المقام. وسيجمع المختار مما سيرسل ويلقى في الاحتفال في كتاب

يكون ذكرى هذا اليوبيل الذهبي.

وترجو اللجنة أن يتفضل كل بإرسال بحثه أو قصيدته باسم (الآنسة مي زيادة

سكرتيرة لجنة الاحتفال بيوبيل المقتطف، مكتبة المنار شارع زين العابدين رقم 63

بمصر) على أن يصل قبل 20 أبريل 1926، لكي يتسنى للجنة أن تودعه في

كتاب الذكرى.

...

...

...

...

الرئيس

...

...

...

... محمد توفيق رفعت

...

...

مصر 26 يونيو (حزيران) سنة 1925

اللجنة التنفيذية

الرئيس: حضرة صاحب المعالي محمد توفيق رفعت باشا وزير المعارف

المصرية العمومية سابقًا (ووزير الأوقاف الآن)

الأعضاء

صاحب السعادة أحمد لطفي السيد بك مدير الجامعة المصرية.

صاحب السعادة أحمد شوقي بك.

صاحب الفضيلة السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار ورئيس المؤتمر السوري.

صاحب الفضيلة السيد مصطفى عبد الرازق المفتش بوزارة الحقانية.

الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير السياسة.

صاحب السعادة السر سعيد شقير باشا مدير عموم حسابات السودان.

السكرتيرة: الآنسة مي زيادة.

***

(المنار)

كانت الآنسة مي زيادة المشهورة في عالم الأدب العربي والغربي صاحبة السبق

إلى هذه العناية بتكريم العلم والعلماء، فدعت إلى دار والدها طائفة من أهل

العلم العصري، واقترحت عليهم السعي للاحتفال بمرور خمسين سنة على مجلة

المقتطف الشهيرة، فأجمعوا على القبول وانتخبوا لجنة منهم لتنفيذ ذلك. وسيكون

الاحتفال بمصر في مساء 30 أبريل الحالي، وسنعود إلى الكلام عليه إن شاء الله

تعالى.

_________

ص: 71

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(مرآة الحرمين الشريفين أو الرحلات الحجازية، والحج ومشاعره الدينية)

كتاب نفيس، متقن الصنع، تأليفًا وترصيفًا وترتيبًا وتنسيقًا، وطبعًا وورقًا

وحروفًا، وضعه اللواء إبراهيم رفعت باشا المصري الذي تولى قيادة حرس

المحمل مرة، وتولى إمارة الحج المصري ثلاث مرات في ثلاثة مواسم عني فيها

بكل ما يعنى به من يريد أن يؤلف كتابًا في شئون الحج والحجاز لم يُسبق إلى مثله،

فتم له هذا في سِفرين كبيرين. وقد وصفه الأستاذ الشيخ محمد عبد العزيز

الخولي المدرس في مدرسة القضاء الشرعي بتقريظ قال فيه ما نصه:

(فبينما تراه قد رسم (جدة) ومنازلها ومعاهدها ومساجدها ومرساها ورجالها

وذوي الشأن فيها؛ إذ تراه قدم لك من مناظر الطريق بين جدة ومكة صورًا مختلفة

ورسومًا متغايرة، فإذا ما وصل بك إلى مكة رأيت المسجد الحرام بأروقته وأساطينه،

تتوسطه الكعبة، تحيط بها المقامات، والناس حولها يصلون أفذاذًا وجماعات.

وترى أمثلة عديدة لفن العمارة العربية، أضف إلى ذلك جوامعها ومستشفياتها،

وثكناتها، ودور حكومتها، وأشكال أهلها.

فإذا ما خرج بك إلى عرفة تراه قد رسم الجبال والأودية والجمرات والمشاعر

والناس حولها خُشع يدعون، فإذا ما انتهى من الحج وواجباته ويمم المدينة المنورة

أخذ من مناظر طريقها كما فعل في سابقتها، وسلك مثل ذلك في الطرق المختلفة،

والمسجد النبوي، والجوامع الأثرية، والمشاهد المختلفة بالمدينة، ولا يمر بمكان

إلا وصفه وذكر نبذة من تاريخه، ولا بئر إلا سبر غورها، وعَرَّفك بمائها، حلوًا

ومُرًّا، قلا وكثرا، ولا بعقبة إلا دقق في وصفها، مبينًا لك أحسن السبل لاجتيازها،

شارحًا ذلك بالخرائط الجغرافية التي لم يسبق إلى وضعها، ولم يدع في الحج

صغيرة ولا كبيرة إلا تكلم فيها.

ففي الكتاب حجة الوداع التي حجها الرسول صلى الله عليه وسلم سنة

عشر مفصلة أحسن التفصيل ومشفوعة بخريتة فيها بيان الطريق الذي سلكه

الرسول صلى الله عليه وسلم والأماكن التي مر بها، وفيه الكلام على أحكام

الحج في المذاهب الأربعة بالتفصيل الواسع والجداول المجملة والصور الشارحة

وفيه قسم في حكمة الحج قلما تظفر بها في كتب أخرى [1] .

ولما كانت مكة في جزيرة العرب وكان المسلمون يفدون إليها من كل الأقطار،

دعاه ذلك إلى كتابة فصل جغرافي موجز في بلاد العرب وأقسامها وشفعه بفصل

تاريخي مجمل بَيَّن فيه كيف بدأ الإسلام وكيف انتشر وتكلم على دوله والبلاد التي

سار فيها والتي لا تزال مقرًّا له بحيث أعطيناك تاريخًا موجزًا للدول الإسلامية

وحال المسلمين من يوم أن وجدوا إلى وقتنا هذا.

وتكلم في الكتاب على الحج وإمارته قديمًا وحديثًا، وعلى المحمل والكسوة

كلامًا مسهبًا تتخلله الصور الأنيقة والمناظر البهيجة. فتراه ذكر المحامل

وأنواعها وتاريخها وأشكالها ونفقاتها والدول التي تقوم بإرسالها، وكذلك تكلم في

الكسوتين كسوة الكعبة وكسوة الحجرة النبوية.

ومما يدل على عناية المؤلف الشديدة، أنه تمكن من إحضار صورة إشهاد

كُتِب في منتصف القرن العاشر الهجري يتضمن ذكر القرى المصرية التي وقفت

على كسوة الكعبة والحجرة النبوية، وتراه ذكر ما يجب على كل موظف في ركب

المحمل وذكر ميزانية المحمل مفصلة بابًا بابًا، ونوعًا نوعًا، وأجمل ميزانيته في

نحو أربعين سنة، وكلما دخل في موضع أشبع الكلام فيه. فتراه لما ذكر مكة تكلم

على مواقعها وجبالها وشوارعها وأقسامها ومبانيها ومستشفياتها وتكاياها ودار خديجة

بها ودار الأرقم التي كان يتجمع فيها المسلمون في مفتتح الدعوة الإسلامية. وتكلم

على السيول في مكة وآثارها وذكر سكانها وجنسهم وأخلاقهم ولغتهم ودينهم وعادتهم

ووصف جوها وتجارتها ونقودها ومياهها وعين زبيدة بها وأمراءها منذ الفتح

الإسلامي إلى يومنا هذا. وكذلك فعل في المدينة والبلاد الهامة؟ .

وحسبك من الكتاب أن فيه ما ينيف على أربعمائة صورة وعشرين

خريطة كل طوابعها (أكلشيهاتها) مصنوعة في ألمانيا وإنجلترا، وهو يحتوي على

1000 صفحة يزينها حسن الورق وجمال الطباعة، ولا غرو فإنه مطبوع بمطبعة

دار الكتب المصرية. اهـ

(المنار)

ومن مزايا الكتاب التنبيه والتذكير بما يجهله الجمهور من الأمور المبتدعة

والقبور والمشاهد المزورة كقبر أمنا حواء في (جدة) وقبر أم النبي (صلى الله عليه

وسلم) في مكة، وبدع تعظيم القبور وغير ذلك.

وثمن الكتاب بالتجليد الجميل جنيه مصري وأجرة البريد 5 قروش في القطر

المصري و 15 في الخارج وهو يطلب من مؤلفه ومن مكتبة المنار بمصر.

***

(نهاية الأرب في فنون الأدب)

هذا الكتاب من أعظم كتب الأدب وأوسعها مادة، وأفصحها عبارة، وهو

تصنيف الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري المتوفي سنة 732،

وهذه الفنون التي اختارها خمسة، يحتوي كل فن منها على خمسة أقسام يدخل كل

قسم في عدة أبواب، فلم يدع شيئًا من هذا العالم إلا وأدخله فيها كالسموات والأرض

وما فيهما وما بينهما والإنسان من ذكر وأنثى، وأعضاء كل منهما وصفاتهما،

وأحوالهما، وشئونهما كالكلام بأنواعه، والحب والعشق، والأخلاق المحمودة

والمذمومة، والخمر والغناء والشعر، والملك والخلافة والقضاء وما قيل في ذلك كله

من نظم ونثر.

شرعت مطبعة دار الكتب المصرية في طبع هذا الكتاب الكبير منذ سنة

1342هـ، بحروفها الممتازة على جميع حروف المطابع العربية في العالم على

ورق جيد، صدر منه خمسة أجزاء كاملة القطع متوسطة الحجم، الجزء الأول منها

كله في الفن الأول وصفحاته أربعمائة ونيف، والأربعة التي بعدها لا يبلغ شيء

منها 400 صفحة ولم يستوف فيها الفن الثاني كله، وثمن الجزء من هذه الخمسة

15 قرشًا وأجرة البريد في القطر المصري 3 قروش و 6 خارجه وهو يطلب من

مكتبة المنار بمصر.

_________

(1)

هو منقول من رحلة صاحب المنار المنشورة في المنار.

ص: 78

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌مسألة صفات الله تعالى

وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

جواب سؤال رفع إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية [1]

رحمه الله تعالى

وهكذا ذكر أهل الكلام الذين ينقلون مقالات الناس مقالة أهل السنة وأهل

الحديث، كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين،

ومقالات الإسلاميين، فذكر فيه أقوال الخوارج والرافضة والمعتزلة، والمرجئة

وغيرهم، ثم قال: ذِكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث وجملة قولهم: الإقرار

بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء من عند الله، وبما رواه الثقات عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئًا إلى أن قال: (وأن

الله على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وأن له

يدين بلا كيف كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (ص: 75) وأقروا أن لله علمًا

كما قال {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَاّ بِعِلْمِهِ} (فصلت: 47) وأثبتوا السمع

والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، وقالوا: إنه لا يكون في

الأرض خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال

{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَن يَشَاءَ اللَّه} (الإِنسان: 30) إلى أن قال: ويقولون: إن

القرآن كلام الله غير مخلوق، ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم مثل (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر فأغفر له) كما جاء في الحديث.

ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ

مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) وذكر أشياء كثيرة، إلى أن قال: فهذه جملة ما يأمرون

به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قوله نقول وإليه نذهب.

قال الأشعري أيضًا في مسألة الاستواء: قال أهل السنة وأصحاب الحديث:

ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى

العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ولا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول: استوى بلا

كيف، وأن له يدَين بلا كيف كما قال تعالى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (ص: 75)

وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، قال: وقالت المعتزلة استوى

على عرشه بمعنى استولى، وقال الأشعري أيضًا في كتاب الإبانة في أصول الديانة

في باب الاستواء: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل: نقول له إن الله

مستوٍ على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وقال:

{ِإلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر: 10)، وقال:{بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: 158) وقال حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً

لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} (غافر: 36- 37) كذب فرعون موسى في قوله: إن الله فوق السموات، وقال الله

تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (الملك:

16) ، فالسموات فوقها العرش، وكل ما علا فهو سماء، وليس إذا قال: {أَأَمِنتُم

مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك: 16) يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو

أعلى السموات، ألا ترى أنه ذكر السموات فقال: {وجعل القمر فيهن

نورًا} (نوح: 16) ولم يرد أنه يملأ السموات جميعًا، ورأينا المسلمين جميعًا

يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله مستوٍ على العرش الذي هو فوق

السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، وقد قال

قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: (إن معنى استوى استولى وملك وقهر،

وأن الله في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق،

وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش الأرض

السابعة؛ لأن الله قادر على كل شىء، والأرض فالله قادر عليها وعلى

الحشوش، والأخلية فلو كان مستويًا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال:

هو مستوٍ على الأشياء كلها وعلى الحشوش والأخلية فبطل أن يكون معنى الاستواء

على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، وقد نَقل هذا عن

الأشعري غير واحد من أئمة أصحابه كابن فورك والحافظ ابن عساكر في كتابه الذي

جمعه في تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري، وذكر

اعتقاده الذي ذكره في الإبانة، وقوله فيه: فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة،

والقدرية، والجهمية، والحلولية، والرافضة، والمرجئة؛ فعرفونا قولكم الذي به

تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؛ قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها

ندين: التمسك بكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن

الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد

بن حنبل ـ نضَّر الله وجهه ـ قائلون، ولِما خالف فيه مُجانبون لأنه الإمام

الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج

وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكّين ورحمة الله عليه

من إمام مقدم، وكبير مُفهم وعلى جميع أئمة المسلمين.

وجملة قولنا: إنَّا نُقر بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند الله

وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما تقدم وغيره في

جمل كبيرة أوردت في غير هذا الموضع. وقال أبو بكر الآجرّي في كتاب الشريعة:

الذي يذهب إليه أهل العلم أن الله تعالى على عرشه فوق سمواته وعلمه محيط بكل

شيء، قد أحاط بجميع ما خلق في السموات العلى وجميع ما في سبع أرضين يرفع

إليه أفعال العباد، فإن قال قائل: أي شيء معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى

ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (المجادلة: 7) الآية.

قيل له: علمه وهو على عرشه وعلمه محيط بهم كذا فسره أهل العلم والآية

يدل أولها وآخرها أنه العلم وهو على عرشه هذا قول المسلمين.

والقول الذي قاله الشيخ محمد بن أبي زيد وأنه فوق عرشه المجيد بذاته،

وهو في كل مكان بعلمه قد تأوله بعض المبطلين بأن رفع المجيد، ومراده أن الله

هو المجيد بذاته، وهذا مع أنه جهل واضح فإنه بمنزلة أن يقال الرحمن بذاته

والرحيم بذاته والعزيز بذاته.

وقد صرح ابن أبي زيد في المختصر بأن الله في سمائه دون أرضه، هذا

لفظه والذي قاله ابن أبي زيد مازالت تقوله أئمة أهل السنة في جميع الطوائف.

وقد ذكر أبو عمرو الطلمنكي الإمام في كتابه الذي سماه الوصول إلى معرفة

الأصول: (إن أهل السنة والجماعة متفقون على أن الله استوى بذاته على عرشه

وكذلك ذكره عثمان بن أبي شيبة حافظ الكوفة في طبقة البخاري، ونحوه ذكر ذلك

عن أهل السنة والجماعة، وكذلك ذكره يحيى بن عمار السجستاني الإمام في

رسالته المشهورة في السنة التي كتبها إلى ملك بلاده، وكذلك ذكره أبو نصر السجزي

الحافظ في كتاب الإبانة له، قال: وأئمتنا كالثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن

سلمة وحماد بن زيد وابن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد وإسحاق متفقون

على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان. وكذلك ذكر شيخ الإسلام

الأنصاري وأبو العباس الطرقي والشيخ عبد القادر ومن لا يحصي عدده إلا الله من

أئمة الإسلام وشيوخه.

وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء وغير ذلك من

المصنفات المشهورة في الاعتقاد الذي جمعه: طريقنا طريق السلف المتبعين الكتاب

والسنة وإجماع الأمة، قال وما اعتقدوه أن الله لم يزل كاملاً بجميع صفاته القديمة لا

يزول ولا يحول، لم يزل عالمًا بعلم، بصيرًا ببصر، سميعًا بسمع، متكلمًا بكلام

أحدث الأشياء من غير شيء وأن القرآن كلام الله، وسائر كتبه المنزلة كلامه

غير مخلوق وأن القرآن من جميع الجهات مقروءًا ومتلوًا ومحفوظًا ومسموعًا

وملفوظًا كلام الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة، وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق،

وأن الواقفة من اللفظية من الجهمية، وأن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد

خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية، وأن الجهمي عندهم كافر وذكر أشياء

إلى أن قال: والأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في

العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأن الله

بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم وهو مستو على

عرشه في سمائه من دون أرضه، وذكر سائر اعتقادات السلف وإجماعهم على ذلك

وقال يحيى بن عثمان في رسالته: لا نقول كما قالت الجمهية أنه مداخل الأمكنة

وممازج كل شيء، ولا نعلم أين هو، بل نقول: هو بذاته على عرشه

وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء وهو معنى قوله:

{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد: 4) وقال الشيخ العارف معمر بن أحمد شيخ

الصوفية في هذا العصر: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وأجمع ما كان

عليه أهل الحديث وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين فذكر

أشياء من الوصية إلى أن قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا

تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول، وإنه مستو على عرشه بائن من خلقه

والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة، ولا ملاصقة، وإنه عز وجل بصير

سميع عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب، يتجلى لعباده يوم

القيامة ضاحكًا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء بلا كيف ولا تأويل، ومن

أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن

عبد الرحمن الصابوني النيسابوري في كتاب (الرسالة في السنة)

ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سمواته على عرشه كما نطق

به كتابه وعلماء الأمة، وأعيان سلف الأمة لم يختلفوا أن الله تعالى على عرشه فوق

سمواته. قال: وأما إمامنا أبوعبد الله الشافعي احتج في كتابه المبسوط في مسألة

إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة، وأن الرقبة الكافرة لا يصح التكفير بها بخبر

معاوية بن الحكم وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة؛ وسأل النبي -

صلى الله عليه وسلم عن إعتاقه إياها، فامتحنها ليعرف أنها مؤمنة أم لا، فقال

لها (أين ربك؟ فأشارت إلى السماء، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة) فحكم بإيمانها لما

أقرت أن ربها في السماء وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي باب القول في الاستواء:

قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ثم استوى

على العرش، {وهو القاهر فوق عباده} (الأنعام: 61) ، {يخافون ربهم

من فوقهم} (النحل: 50)، {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر: 10) ، ? {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} (الملك: 16) وأراد من فوق السماء

كما قال: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: 71) وقال: {فَسِيحُوا فِي

الأَرْض} (التوبة: 2) أي على الأرض، وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى

السموات، فمعنى الآية، ءأمنتم من على العرش كما صرح به في سائر الآيات

قال: (وفيما ذكرنا من الآيات دلالة على إبطال قول من زعم من الجهمية أن الله

بذاته في كل مكان، وقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُم} (الحديد: 4) إنما أراد بعلمه

لا بذاته.

وقال أبو عمر بن عبد البر في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال:

وهذا حديث لم يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل أن الله في السماء على

العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة،قال:

وهذا أشهر عند الخاصة والعامة وأعرف من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛

لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم، وقال أبو عمر أيضًا:

أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم قالوا في تأويل قوله: {مَا يَكُونُ

مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) هو على العرش، وعلمه في كل

مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يُحتج بقوله.

وقال شيخ الإسلام المسؤول - أيده الله -: فهذا ما تلقاه الخلف عن السلف؛ إذ لم

ينقل عنهم غير ذلك؛ إذ هو الحق الظاهر الذي دلت عليه الآيات الفرقانية

والأحاديث النبوية فنسأل الله العظيم أن يختم لنا بخير ولسائر المسلمين، وأن لا

يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا بمنه وكرمه، إنه أرحم الراحمين.

والحمد لله وحده

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

تابع ما نشر في العدد الماضي ص 39.

ص: 106

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى لابن تيمية

بسم الله الرحمن الرحيم

(1)

وقال رحمه الله ورضي عنه في رجل تزوج بنتًا بكرًا بالغًا ودخل بها

فوجدها بكرًا ثم إنها ولدت ولدًا بعد مُضي ستة أشهر بعد دخوله بها؛ فهل يلحق

به الولد أم لا، وأن الزوج حلف بالطلاق منها أن الولد ولده من صلبه فهل يقع

الطلاق أم لا والولد ابنًا سويًّا كامل الخلقة، وعمَّر سنين، أفتونا مأجورين.

أجاب رضي الله عنه: الحمد لله؛ إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر من حين

دخل بها ولو بلحظة لَحِقه الولد باتفاق الأئمة؛ ومثل هذه القصة وقعت في زمن

عمر بن الخطاب رضي الله عنه واستدل الصحابة على إمكان كون الولد يولد

لستة أشهر بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15) مع

قوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} (البقرة: 233) فإذا كان مدة

الرضاع من الثلاثين حولين يكون الحمل ستة أشهر؛ فجمع في الآية أقل الحمل

وتمام الرضاع، ولو لم يستلحقه فكيف إذا استلحقته وأقرّ به، بل لو استلحق

مجهول النسب، وقال: إنه ابني لحقه باتفاق المسلمين؛ إذا كان ذلك ممكنًا ولم

يذع به أنه ابنه كان بارًّا في يمينه ولا حنث عليه، والله أعلم.

***

بسم الله الرحمن الرحيم

(2)

مسألة في الفقر والتصوف

صورتها: ما تقول الفقهاء رضي الله عنهم في رجل يقول: إن الفقر لم

يتعبد به، ولم نؤمر به، ولا جسم له، ولا معنى وأنه سبيل غير موصل إلى

رضى الله - تعالى- وإلى رضى رسوله، وإنما تعبدنا بمتابعة أمر الله واجتناب

نهيه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وأن أصل كل شيء

العلم والتعبد والعمل به، والتقوى والورع عن المحارم، والفقر المسمى على لسان

الطائفة والأكابر هو الزهد في الدنيا، والزهد في الدنيا يفيده العلم الشرعي؛ فيكون

الزهد في الدنيا العمل بالعلم وهذا هو الفقر، فإذًا الفقر فرع من فروع العلم، والأمر

على هذا، وما ثم طريق أوصل من العلم، والعمل بالعلم على ما صح وثبت عن

النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: إن الفقر المسمى المعروف عند أكثر أهل

الزي المشروع في هذه الأعصار من الزي والألفاظ والاصطلاح المعتادة غير

مرضي لله ولا لرسوله، فهل الأمر كما قال، أو غير ذلك أفتونا مأجورين.

نسخة جواب الشيخ تقي الدين بن تيمية رضي الله عنه الحمد لله. أصل

هذه المسألة أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه

مثل لفظ الإيمان والبر والتقوى والصدق والعدل والإحسان، والصبر والشكر

والتوكل والخوف والرجاء والحب لله والطاعة لله وللرسول وبر الوالدين والوفاء

بالعهد، ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه الله ورسوله من القلب والبدن؛ فهذه

الأمور التي يحبها الله ورسوله هي الطريق الموصل إلى الله مع ترك ما نهى الله

عنه ورسوله كالكفر والنفاق والكذب والإثم والعدوان والظلم والجزع والهلع والشرك

والبخل والجبن وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم، ونحو ذلك؛ فعلى

كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله وما نهى الله عنه ورسوله

فيتركه.

هذا هو طريق الله وسبيله ، ودينه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله

عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا الصراط المستقيم يشتمل

على علم وعمل، علم شرعي وعمل شرعي؛ فمن علم ولم يعمل بعلمه كان

فاجرًا ومن عمل غير العلم كان ضالاًّ، وقد أمرنا سبحانه أن نقول: {اهْدِنَا

الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا

الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) .

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليهود المغضوب عليهم ، والنصارى

ضالون) وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به ، والنصارى عبدوا الله بغير علم

ولهذا كان السلف يقولون: (احذر فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما

فتنة لكل مفتون) ، وكانوا يقولون: (من فسد من العلماء ففيه شبه باليهود، ومن

فسد من العباد ففيه شبه من النصارى) فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به

كان مضلاًّ، وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع فيتبع أمورًا تخالف

الكتاب والسنة يظنها علومًا وهي جهالات، وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل

البدع فيعمل أعمالاً تخالف الأعمال المشروعة يظنها عبادات وهي ضلالات فهذا

وهذا كثير في المنحرف المنتسب إلى فقه أو فقر، يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم

دون العمل، والعمل دون العلم؛ ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة،

وطريق الله لا تتم إلا بعلم وعمل يكون كلاهما موافق الشريعة.

فالسالك طريق الفقر والتصوف والزهد والعبادة إن لم يسلك بعلم يوافق

الشريعة، وإلا كان ضالاً عن الطريق، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه، والسالك

من الفقه والعلم والنظر والكلام إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجراً،

ضالا عن الطريق، فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم.

وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله فهو من عمل الجاهلية، ومن

أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، ولا ريب أن لفظ الفقر في الكتاب والسنة

وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا يريدون به نفس طريق الله، وفعل ما

أمر به، وترك ما نهى عنه والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك، بل الفقر عندهم ضد

الغنى، والفقراء هم الذين ذكر الله في قوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين} (التوبة: 60) وفي قوله: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه} (البقرة:

273) وفي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (الحشر: 8) والغني هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة، أو الذي يجب عليه الزكاة،

أو ما يشبه هذا، لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعًا أو كرهًا؛ إذ من العصمة أن

لا تقدر، وصار المتأخرون كثيرًا ما يقرنون بالفقر معنى الزهد، والزهد قد يكون

مع الغنى، وقد يكون مع الفقر، ففي الأنبياء والسابقين الأولين ممن هو زاهد مع

غناه كثير.

والزهد المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به

العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع، بل ترك الفضول التي تشغل

عن طاعة الله ورسوله هو المشروع، وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون

عن ذلك بلفظ الصوفي نسبة إلى الصفة أو الصفاء أو الصف الأول؛ أو صوفة بن

مر بن أد بن طابخة، أو صوفة القفا؛ فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، لكن

من الناس من قد لمحو الفرق في بعض الأمور دون بعض بحيث يفرق بين

المؤمن والكافر، ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين

بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعًا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان

بحسب ما سوَّى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى

الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه.

ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر وكان من القدرية،

كالمعتزلة ونحوهم الذين هم مجوس هذه الأمة ، فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك

يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضًا؛

فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه،

فهذا التقسيم من القول والاعتقاد وكذلك هم في الأحوال والأفعال فالصواب منها

حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على ما يصيبه

من المقدور ، فهو عند الأمر والدين والشريعة يستعين بالله على ذلك على ذلك كما

قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وإذا أذنب استغفر وتاب

لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى المخلوق حجة على رب

الكائنات؛ بل يؤمن بالقدر، ولا يحتج به كما في الحديث الصحيح الذي فيه: سيد

الاستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا

على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ

وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) فيقر بنعمة الله عليه في

الحسنات ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى، ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب

منها، كما قال بعضهم: (أطعتك بفضلك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك

فأسألك بوجوب حجتك عليّ وانقطاع حجتي إلا ما غفرت لي) .

وفي الحديث الصحيح الإلهي (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم

أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)

وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع، وآخرون قد يشهدون الأمر فقط

فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما

يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر، وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون

عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله

ورسوله واتباع شريعته وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء

يستعينون الله ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه والمؤمن

يعبده ويستعينه.

(للكلام بقية)

_________

ص: 113

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌دعاية الإلحاد في مصر

ليس الإلحاد بجديد في مصر، وإنما الجديد هو الدعوة إليه وتأليف الجمعيات

لبثه وهدم الإسلام، وتأليف الكتب في الطعن على أعلام حكمائه المتقدمين الذين

يُعلي الإفرنج قدرهم كالغزالي وابن خلدون، والتنويه بمن اتُّهموا بالكفر والإلحاد

كالمعري والإشادة بأدب من اشتهر بالفسق والخلاعة كأبي نواس وقد كنا ذكرنا منذ

بضع عشرة سنة خبر تأليف أول جمعية إلحادية من أعضائها معمم متخرج في

الأزهر ثم إنهم خلعوا العِذَار وجهروا بدعايتهم في دروس مدرسة الجامعة المصرية

ومحاضراتها وفي جريدة السياسة ناشرة هذه الدعاية ومؤيدة جمعيتها وأفرادها حتى

أنها بعد مناصرتها الشيخ علي عبد الرازق المجاهر باللادينية اخترعت من عهد

قريب معنى جديدًا زعمت أنه هو الذي يحل محل الدين في التكوين المعنوي للأمم

والشعوب وضم الملايين منهم إلى جامعة واحدة - وهو ما يعبرون عنه بالثقافة

القومية.

وإذا كان لمصر مكانة ممتازة في العالم الإسلامي الذي يضم بين رجويه

(طرفيه) أكثر من ثلثمائة مليون مسلم، وإذ كان سبب هذه المكانة الراسخة من

زهاء ألف عام الجامع الأزهر الذي يتلقى العلوم الدينية والفنون العربية فيه ألوف

كثيرة من الأقطار الإسلامية العديدة، ثم ما عزز ذلك في هذا العصر عصر المطابع

من أصدار مصر للألوف من المطبوعات العربية من دينية إسلامية وأدبية وفنية

إلى مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها، عربيها وعجميها.

وإذ كان هؤلاء الملاحدة من المصريين يدعون إلى الوطنية بالمعنى

الاجتماعي العصري وهو تمايز الأقوام والشعوب وتكونها بأوطان محدودة تضمها

دون ما هو أوسع من ذلك من الجوامع والمقومات كالدين واللغة، حتى إنهم ليعدون

المسلم فيها وهي إسلامية ويعدون العربي فيها وهي عربية بل لها المكانة التي

أشرنا إليها في العالمين الإسلامي والعربي - يعدونهما من الأجانب الذين لا تجمعهم

بالمصري وشيجة، لا يمتنون إليه بوسيلة، فالشريف الحجازي أو السوري والوثني

الصيني أو المنشوري عندهم سواء، ولكن يمتاز عليهما لابس البرنيطة الإفرنجي.

وإذ فطنوا في هذه الأيام لما في وطنيتهم ولا دينيتهم من الخسارة الأدبية

والسياسية على مصر أنشأت جريدتهم (السياسة) تعدهم وتمنيهم بأن ثقافتها

الإلحادية الجديدة طفقت تتبوأ مباءة تلك الزعامة الدينية من أنفس الشعوب الشرقية

عامة والسورية خاصة إذ شعرت هذه الشعوب بأن الدين صار الأدنى والأضعف

من جوامع الأقوام، وروابط الأمم وأن مدرسة الجامعة المصرية (الإلحادية)

وهي المظهر الأعلى للثقافة الجديدة قد خلفت الأزهر المتوفى غير مأسوف عليه

وورثت مكانته المعنوية - كما أن جرائد مصر اللادينية ومطبوعاتها الحديثة قد

خلفت مطبوعات المطبعة الأميرية وسائر المطابع العربية التي تصدر الكتب الدينية

(ولم تعرض الجريدة لمسألة الكتب الحديثة والكتب القديمة) .

لقد صدقت جريدة السياسة - وقلما كانت صادقة - فيما صورته من التنازع

بين الجامعة الأزهرية الدينية والجامعة المصرية الإلحادية، فهذا أمر يعرفه

البصيرون وإن غفل عنه الأكثرون، وأول من صرح به في مجلسنا من غير

المسلمين شاب إسرائيلي ذكي سمعنا نتكلم في مسألة كتاب الشيخ علي عبد الرازق

عقب ظهوره وكونه ينصر فيه دعاية الإلحاد الجديدة. فقال ليست المسألة مسألة

كتاب ألفه شيخ مسلم في محاربة الإسلام فلو كان هذا كل ما تشكون منه لهان خطبه،

ولكنما المسألة كل المسألة هي التنازع بين الجامعة المصرية وجامعة الأزهر فإذا

غلبت الثانية بقيت هذه البلاد إسلامية، وإذا انتصرت الأولى لحقت

مصر بالبلاد التركية وانقضى عصر الإسلام فيها.

قلت: إن الإلحاد ليس بجديد في مصر وإنما الجديد هو الدعوة إليه.. . وأقول

أيضاً إن مدرسة الجامعة المصرية ليست هي المدرسة التي بذرت بذور الكفر

والإباحة في هذا القطر بل بُذرت هذه البذور في المدارس العصرية منذ وجدت في

مصر، وكذا الدولة العثمانية. وإنما الجامعة المصرية هي دوحتها، التي ظهرت

فيها ثمرتها، إذ برز دكاترتها عمي البصائر والأبصار -إحداهما أو كلتيهما-

يبارزون الدين والفضيلة الحرب جهرًا بدون تقية ولا احتراس.

من قرأ اللائحتين اللتين كتبهما الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في إصلاح

التربية والتعليم في المدارس العثمانية والمصرية يجده قد أثبت فيهما أن طلابها

يخرجون منها وليس لهم دين يهتدون به، ولا ملة يعتصمون بعروتها وقد بين هذا

في غيرهما من مقالاته ورسائله الإصلاحية، وحكم حكمًا فاصلاً بأن هذا التعليم

الناقص الذي لا يقترن بتربية دينية صحيحة خطر على الأمة وعلى الدولة،

ومضيعة لما كانت تعتز به الدولة من منصب الخلافة ، وكذلك كان.

هذا والأستاذ الإمام وأستاذه حكيم الإسلام هما أول من وضع في مصر أساس

النهضة الوطنية بالحزب الوطني الذي أسساه في عهد إسماعيل باشا ورفعا قواعده

بالعمل، ولكن وطنيتهما الحكيمة الصادقة غير وطنية دكاترة الجامعة المصرية

ومحرري جريدة السياسة، تلك وطنية تتفق هي وهداية الدين، وهذه وطنية لا

يبقى معها وطن، ولا دين، ولا فضيلة.

لما كان الأستاذ الإمام منفيًّا في بيروت رأى في بعض الجرائد المصرية طعنًا

في بطرس باشا غالي زعيم القبط الأكبر، وفي القبط أنفسهم، كان سببه استقالة

شفيق بك منصور النابغة المسلم المشهور خَدَمة القضاء المصري ذاهبة إلى

وكيل وزارة الحقانية هو الذي ألجأه إلى الاستقالة بتعصبه وتحامله عليه

فرد الأستاذ على هذه الجرائد ردًّا حكيمًا محكمًا دافع فيه عن بطرس باشا وأنكر

أشد الإنكار إدخال اختلاف الدين في هذه المسائل، وإدخال الشقاق بين أبناء

الوطن فيما لا علاقة للدين به. وقد ظفرنا بهذه المقالة في أثناء اشتغالنا بالطبعة

الثانية لجزء منشآت الأستاذ التي تمت في هذا الشهر فليراجعها من شاء أن يرى كيف

تكون الوطنية الصحيحة، وكيف يهدي إليها زعماؤها الصادقون.

أما بعد، فإن ما توقعناه في فاتحة الجزء الأول من هذا المجلد (السابع

والعشرين) للمنار من خطر الدعاية الإلحادية على نهضة الإصلاح الإسلامي،

ودولتها الجديدة مبني على الخوف من تمكن اللادينيين في مصر من جعل الأمة

المصرية والدولة المصرية عدوًّا للدولة الحجازية النجدية بدسائس الأجانب وأعوان

الأجانب من غير المسلمين، بل بغفلة رجال الدين وجهلهم بحال العصر وضعفهم

أمام رجال الدنيا - وبقابلية العوامّ لتأثير الملاحدة بإتيانهم من ناحية البدع

والخرافات التي تصدت جريدة المقطم لتأييدها والدفاع عنها، ووصفها بالتقديس (!!)

ولماذا لم ينصر أصحاب المقطم تقاليد نصرانيتهم المقدسة عند آبائهم وأجدادهم،

بل خذلوها باسم الإصلاح؟

أثارت جريدة السياسة سحابة خلاف بين حكومتي الحجاز ومصر في مسألة

المحمل وركب المحمل وحرسه وقالت ما معناه: إن ملك الحجاز ابن سعود يمنع

تقاليد المحمل الموروثة، فلا يسمح لعسكر مسلح مع موسيقى عسكرية تعزف له

بدخول مكة وسائر أماكن النسك

إلخ، فكثر الخوض في ذلك، وتحدث الناس

بتوقع منع الحكومة المصرية للحج أو للمحمل ولمَّا يرسل مع ركبه عادة من

الأموال والأرزاق التي هي من حقوق أهل الحرمين في مصر، وتطوعت جريدة

المقطم بمقالات تتوسل بها إلى تقوية عزيمة الحكومة في مصر، وتطوعت جريدة

المقطم بمقالات تتوسل بها إلى تقوية عزيمة الحكومة على منع الحج اقتداء بحكومة

إيران التي كان قنصلها في سورية هو الذي وسوس في أذن الحكومة عقب عودته من

مكة في هذا الشهر بأن ملك الحجاز يريد كذا ويأبى كذا، وهو الذي لقن جريدة المقطم

ما أذاعته وكبرته، وظنت أنه بتكبيرها وإرجافها سيحمل الحكومة على اقتراف

جريمة الموسم الماضي كما بسطنا الكلام فيه في مقال نشر في جريدة كوكب

الشرق الوطنية.

فتنة دبَّر مكيدتها شيعي متفرنج يغلب على الظن أنه من اللادينيين، إن لم

يكن من البهائيين، وأذاعتها جريدة دعاية الإلحاد وأرجفت بها جريدة المقطم بما

يوهم قارئها أن الشعوب الإسلامية وحكوماتها قد أجمعت على المنع والامتناع من

أداء فريضة الحج، فلا ينقص إجماعها إلا ما يتوقع يومًابعد يوم من اتفاق مصر معها

فتنة هذا شأنها، وتلك صفة مثيريها كان المعقول أن تقيم قيامة علماء الأزهر وأذكياء

طلابه للدفاع عن ركن الإسلام ومجاهده قطاع طريقه، ولكنها - والشكوى إلى الله-

لم تحرك منهم ساكنًا، ولم تنطق ساكتًا، فإذا كانوا يصدقون على أنفسهم ما قلناه

من رأي الناس فيهم يوم دعوا إلى مؤتمر الخلافة من أنهم لا يتحركون إلا إذا

حركوا ولا ينطقون إلا إذا أنطقوا، فما بال خريجي مدرسة القضاء الشرعي، وهم

أفطن لهذه الدسائس وأجدر بنضال رماتها، وما بال قدماء أساتذة دار العلوم الذين

غلبتهم دعاية الجامعة المصرية على طلبتها فألقوا بعمائمهم وجببهم، احتقارًا لها

وبراءة من جامعة الأزهر التي هي منبت أسلتهم، والأساس لبناء مدرستهم؟

إنني كلمت بعض كبار علماء الأزهر الأذكياء في هذه المسألة كعادتي في

أمثالها، فجادلني في بعض جزئياتها جدالهم المعهود في جزئيات الكتب التي

يتدارسونها - واقفًا موقف المؤيد للحكومة المصرية فيما قيل من خلافها مع ملك

الحجاز، لم يستطع أن يدافع عن مسألة موسيقى حرس المحمل لما في كتب فقه

المذاهب المشهورة من تحريم جميع المعازف إلا ما استثني من دف العرس وطبل

الحرب ونفيره - والاستثناء معيار العموم - ولم يتناول هذه المعازف الجديدة التي

أخترعت بعد عصر الاجتهاد عندهم، وفيها أنواع من المزامير وهي محرمة بنص

المذهب أو المذاهب فهو لا يجادل فيها، ولو تكلم معي فيها بالدليل لألفاني معتقدًا أن

الموسيقى العسكرية كلها في معنى طبل الحرب الذي استثني لأجله من المعازف

المحرمة وهو أنها تثير الشجاعة والإقدام، دون طرب الشهوة الذي ربما يبعث على

ارتكاب الآثام.

اقتصر الأستاذ على الاحتجاج للحكومة فيما تصر عليه من دخول حرس

المحمل مكة وغيرها من أماكن النسك بأسلحتها، ولم يجد له علة تصح شرعًا إلا

حماية الحجاج المصريين من الاعتداء على دمائهم وأموالهم لأن ما تدعيه حكومة

الحجاز من تأمين البلاد لم يصح عند الحكومة المصرية، فلابد لها أن تأخذ

بالاحتياط ولو في هذه السنة.

قلت: لكن الحكومة المصرية لا تدعي هذه الدعوى وحرسها لا يمشي مع

الحجاج بين جدة ومكة، بل تألفت في هذا العام شركة مصرية لنقل الحجاج

بالسيارات (الأوتومبيلات) فهل يمكن أن يسير الجيش مع هذه السيارات لحراستها؟

بمثل هذا الجدل في الجزئيات يصرف الأزهريون عن النظر في الموضوع

الكلي والإحاطة بأطرافه للتمكن من صحة الحكم فيه، وهذه الخطة يتلاقى في

مدرسة القضاء ضررها بتكليف طلابها درس بعض المسائل (من الأصول

كالاجتهاد والتقليد، أو الفروع كالطلاق والوقف) والنظر في أدلتها ووجوه الترجيح

بينها، ولو عرضت مسألة الحج التي نحن بصدد الكلام الاستطرادي فيها على من

اعتاد هذه الخطة لكان أول ما توجه إليه نفسه وجوب السعي لإحباط كل عمل يقصد

به منع أداء فريضة الدين وإقامة ركن الإسلام.

غرضنا من هذا الاستطراد ضرب المثل لضعف الجامعة الأزهرية فيما يجب

عليها من صد هجمات ملاحدة الجامعة المصرية وكتاب جريدة السياسة على

عقائد الإسلام وآدابه وتشريعه، وشكل حكومته، فإنهم أضر من دعاة النصرانية

الذين يرد الأكثرون كلامهم بتهمة العداوة الدينية - ويأخذون كلام هؤلاء بالقبول

لانتفاء التهمة - فهم ضعفاء العزيمة ضعفاء الحجة، إنما مبلغ أكثرهم من العلم أن

ينقلوا من بعض كتب الفقه المتداولة نصوصًا ينشرونها، ويوجبون على الناس

اتباعها، عقلوها أم لم يعقلوها، بناءً على أنها هي المعتمدة في المذهب أو المذاهب

أو الإجماع: هذا حلال وهذا حرام، هذا كفر وهذا إيمان، فمن خالف فسق أو ارتد

عن الإسلام، وهم يرون الكثير من الناس يأبونها، ومنهم من يرد عليها ويهزأ

بها، ثم لا ينقص لأحد من هؤلاء في قومه قدر، ولا يعامل معاملة المرتدين في حياة

ولا موت وآخر ما رأيناه في ذلك فتوى المفتي الأكبر وشيخ الجامع

الأزهر في حكم لبس البرنيطة.

لهذا ترى هؤلاء الملاحدة موقنين بأنهم المنصورون، وأن رجال الجامعة

الأزهرية والمعاهد الدينية هم المهزومون المخذولون، وأنهم سيفعلون في هذا القطر

ما فعله الكماليون في بلاد الترك، فاتحاد الأسباب يؤذن باتحاد المسببات والنتائج لا

تتخلف عن المنتج من المقدمات.

هنا وجه الخطر على مصر من تعاليم الإلحاد التي يقصدها الأجانب الذين

غرسوا فسيلها، ومهدوا الأرض لنموها، وجنوا بواكير ثمراتها، بل أصبحوا

التصرف الأعلى فيها، وإنما يفيضون على تلاميذهم وربائبهم أجور خدمتهم منها،

ومن ورائهم جمعيات سرية، ودسائس خفية، ومرغبات إباحية، ومطامع بلشفية،

فماذا بقي للإسلام تجاه ذلك كله؟

غير أنه لا تزال طائفة من شبان الأزهر العلماء موضع الرجاء لما لهم من

الدراية بعلوم العصر والقدرة على التحرير، والولوع بالإصلاح ما يستطيعون به أن

يعيدوا مجده ويحفظوه مكانته.

يقال بقي أن سواد الشعب الأعظم في هذا القطر على الإسلام - وهو أعظم

قوة - ونقول إن الشعب التركي كذلك، ويقال إن الدستور المصري مصرح بأن

دين الدولة الإسلام، ونقول إن دستور الجمهورية التركية التي تهدم الإسلام فيه مثل

هذا النص، فلابد للانتفاع من قوة أكثر الشعب، ومن قوة الدستور من نظام يديره

زعماء يرجعون بالإسلام إلى أصله الذي كان عليه في الصدر الأول قبل حدوث

الفتن وابتداع البدع، وبيان ما هو دين ثابت بالنص القطعي رواية ودلالة أو

بإجماع السلف، وما دون ذلك من الأحكام الظنية التي هي محل الاجتهاد - ومن

الرجوع في تعليمه وتعلمه إلى الاستقلال، والاجتهاد في الاستدلال، وتأييده والدفاع

عنه بما تقتضيه حالة هذا العصر وما عليه أهله من علم وعرفان، وبيان ما هو

الحق من موافقته لمصالح البشر في كل زمان ومكان، ولا يتم هذا إلا بثورة دينية

على هذا الأزهر وسائر المعاهد الدينية لا تبقي ولا تذر من نظمه وعاداته ومناهجه

وكتبه شيئًا إلا بدلت به ما هو خير منه إلا كتب الحديث فهذه الكتب يزاد فيها ولا

ينقص منها.

كلمت في هذا كبراء الشيوخ في هذا العام مرارًا وأنذرتهم ما حل بإخوانهم

الترك إنذارًا، فلم يتماروا بالنذر، ولكن تعلل بعضهم بالقدر، وإنما القدر حجة عليهم

لا لهم، والحق أنهم لا يقدرون على العمل ولا يمكن لغيرهم أن يعمل معهم، وقد

شاهدنا بأعيننا ما كان من مجاهدة الأستاذ الإمام فيهم، وأنَّى لمصر مثل الأستاذ

الإمام أو من يقرب منه في علمه وحكمته، وعقله وبصيرته، وهمته وعزيمته بل

سبق لي مثل هذا الحكم عليهم بالعجز منذ تسع وعشرين سنة لا عليهم خاصة، بل

على علماء هذا العصر الدينيين كافة، أي على جمهورهم وجماعاتهم، لا على كل

فرد منهم كيف وقد كان فيهم الأستاذ الإمام بمصر وأفراد على مذهبه ومشربه في

كل قطر؟

ذلك بأنني كتبت في السنة الأولى من المنار الذي صدر العدد الأول منه في

22 شوال سنة 1315هـ مقالات في بيان ضعف المسلمين وأسبابه، وفي

الإصلاح الذي يجدد مجده ويعيد هدايته، أنحيت فيها باللائمة على الزعماء

المسئولين من الخلفاء والسلاطين والعلماء ومشايخ طرق الصوفية، ومن أشد تلك

المقالات لهجة وأنهضها حجة ما كان عنوانها {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا

فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ} (الأحزاب: 67) فكتب إليَّ أحد المجاورين في رواق الشوام

كتاباً غفلاً من الإمضاء يستنكر فيه وضع شيء من تبعة ضعف المسلمين وسوء

حالهم على العلماء، ويعتذر عنهم بما وسعه الاعتذار، فأجبته بما ظهر لي بعد ذلك

أنه لم يقنعه، إذ زارني جماعة من مجاوري هذا الزمان في العيد وجرى ذكر

المسألة فناضل أحدهم عن العلماء وأطال في إنتحال الأعذار، وانتهى الحوار بقيام

الحجة عليه وإقراره بها وبأنه صاحب ذلك الكتاب الإنكاري وذكر ما لا أنكر من

حسن نيته وإخلاصه فيه.

بعد هذا قلت له: إن للعلماء لديَّ عذرًا لو أوردته علي لما استطعت له ردًّا،

ولا حاولت له نقضًا، قال أبعد هذا كله تقول: إن لهم عذراً صحيحاً؟ بالله ما هذا

العذر؟ قلت هو الجهل! قال الجهل؟ قلت: الجهل وإنما عنيت الجهل بتاريخ

الإسلام، كيف انتشرت دعوته، وقبلت هدايته، وسادت حكومته، ودونت علومه،

وزهت حضارته، ثم كيف طرأت عليه البدع، وكيف كاد له العجم، وكيف رجع

القهقري، فتفرق أهله شيعًا، وصارت دولته دولاً، ثم كيف كان جهاد الإفرنج له

بالسيف والنار، ثم بالسياسة ثم بالعلم، وهو أشد جهادهم خطرًا، فإنه هو الذي

جعل المسلمين يخربون بيوتهم بأيديهم - لو عرف علماء الإسلام هذا التاريخ وهو

يتوقف على معرفة تاريخ خصومهم، لعرفوا كيف يكون المخرج من هذه المآزق.

(والثاني) التقليد الذي أجمع السلف على تسميته جهلاً، دع تحريم الله إياه

في كتابه ونذره لأهله، وقف عند عجز علماء التقليد في هذا العصر عن إقامة

الحجة على كون الإسلام هو دين الله الحق، وعن الدفاع عنه، ورد الشبهات

الحديثة التي يوردها عليه الطاعنون، وعجزهم عن جعل شريعته كافية لما

أستحدث البشر من فنون الحرب ومناهج السياسة والنظم المالية والشؤون المعاشية،

هذا العجز الذي كان سبب ترك حكومة هذه البلاد الإسلامية لتشريعه واتباع التشريع

الإفرنجي المدني والجزائي (العقوبات) وسبب ذبذبة الترك في ذلك إلى أن نبذت

حكومتهم شريعته برمتها، وصارت أكبر أعدائها وأشدهم وطأة عليها، أرفع صوتي

بأنه لا ينقذ الإسلام في مصر من مثل هذه العاقبة إلا قلب نظام التربية والتعليم في

الأزهر وملحقاته بعد أن خصص لها من أموال أوقاف المسلمين المبالغ الكافية

لإدارة جامعة من أعظم الجامعات تحيي علوم الدين وعلوم الدنيا وفنونها مع التربية

الدينية، وتمكنها من تأسيس مدارس تغني البلاد عن مدارس دعاة النصرانية الذين

يفسدون على أولاد المسلمين دينهم وقوميتهم، وإلا وجب نزع هذه الأموال منهم،

والمطالب بذلك من بيده بذل هذا المال.

إنني لم أكتب هذا إلا وأنا معتقد وجوب بيانه بعد أن نصحت بالقول فلم يفد

ولم يسمع، وأنني أعتقد أنني أشد غَيرة على هؤلاء الناس من أنفسهم، وأضن

بكرامتهم وشرفهم من أبنائهم، وإنني لأتميز غيظًا كلما قرأت طعنًا فيهم من هؤلاء

الملاحدة الإباحيين عبيد الشهوات، وأشهد أن رؤساءهم الحاضرين لم يكونوا من

خصوم الأستاذ الإمام، بل فضيلة المفتي والأستاذ المدير من تلاميذه والأستاذ الأكبر

كان مُوادًا له.

ولو كانوا قائمين بما يجب من خدمة الدين لكان عدد الملاحدة والإباحيين قليلاً

ولكان ضرر هذا القليل في الأمة أقلّ، فإني أعلم أن منهم الحسن النية، والمخلص

في طلب العزة والرفعة للأمة، والذين لو وجدوا من جماعة الدين إصلاحًا لرضوا

أن يكونوا أعوانًا لهم وأنصارًا، وسأبين هذا في مقال آخر من هذا الحديث أثبت

فيه أن سوء حال رجال الدين فتنة للكافرين، وحجة للملحدين {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا

فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الممتحنة: 5) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 119

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإلحاد في الجامعة المصرية

الدكتور طه حسين المتخرج من الجامعة المصرية والمدرس بها ألقى

محاضرات فيها وجمعها في كتاب سماه (الشعر الجاهلي) وقد طعن فيه على الإسلام

والقرآن، فأهاج الرأي العام، وتناول كتابه الأدباء والكتاب بالرد والتفنيد، وقد كلف

فضيلة شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية لجنة من علماء الأزهر بالنظر في

الكتاب ووضع تقرير عنه فقامت بذلك ورفعت لفضيلته التقرير الآتي.

وهذا نصه كما جاء في مقطم يوم الأحد 26 شوال سنة 1344هـ.

كتاب الشعر الجاهلي

رأي لجنة العلماء فيه

حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر

السلام عليكم ورحمة الله:

وبعد فقد اجتمعت اللجنة المؤلفة بأمر فضيلتكم من الموَقِّعين عليه لفحص

كتاب طه حسين المسمى (في الشعر الجاهلي) بمناسبة ما قيل عنه من تكذيب

القرآن الكريم واطلعت على الكتاب، وهذا ما ترفعه إلى فضيلتكم عنه بعد فحصه

واستقراء ما فيه.

يقع الكتاب في 183 صفحة وموضوعه إنكار الشعر الجاهلي وأنه منتحَل بعد

الإسلام لأسباب زعمها. وقال: إنه بنى بحثه على التجرد من كل شيء حتى من

دينه وقوميته عملاً بمذهب ديكارت الفرنسي، والكتاب كله مملوء بروح الإلحاد

والزندقة، وفيه مغامز عديدة ضد الدين مبثوثة فيه، لا يجوز بحال أن تُلقى إلى

تلامذة لم يكن عندهم من المعلومات الدينية ما يتقون به هذا التضليل المفسد لعقائدهم،

والموجب للخُلْف والشقاق في الأمة، وإثارة فتنة عنيفة دينية ضد دين الدولة

ودين الأمة.

وترى اللجنة أنه إذا لم تكافح هذه الروح الإلحادية في التعليم، ويُقتلع هذا

الشر من أصله، وتطهر دور التعليم من (اللادينية) التي يعمل بعض الأفراد على

نشرها بتدبير وإحكام تحت ستار حرية الرأي اختل النظام وفشت الفوضى

واضطرب حبل الأمن؛ لأن الدين هو أساس الطمأنينة والنظام.

الكتاب وضع في ظاهره لإنكاره الشعر الجاهلي، ولكن المتأمل قليلاً يجده

دعامة من دعائم الكفر، ومعولاً لهدم الأديان، وكأنه ما وضع إلا ليأتي عليها من

أصولها وبخاصة الدين الإسلامي، فإنه تذرع بهذا البحث إلى إنكار أصل كبير من

أصول اللغة العربية من الشعر والنثر قبل الإسلام مما يرجع إليه في فهم القرآن

والحديث. هذا ما يرمي إليه الكتاب في جملته، ولنذكر نبذًا منه بعضها كفر صريح

وبعضها يرمي إلى الإلحاد والزندقة فنقول:

قال في صفحة 26 ما نصه (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل،

وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا

يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة

إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة) .

أنكر المؤلف بهذا هجرة [1] سيدنا إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام وقال:

إن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي

وهو تكذيب صريح لقول الله تعالى في سورة إبراهيم حكاية عنه عليه الصلاة

والسلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ *

رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ

رَّحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا

لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ

يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 35-37) وقال في الصفحة نفسها (ونحن مضطرون إلى

أن نرى في هذه القصة - يريد قصة الهجرة - نوعًا من الحيلة لإثبات الصلة بين

اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى) .

وهو في هذا النص يصرح بأن القرآن اختلق هذه الصلة بين إسماعيل

والعرب ليحتال على جلب اليهود وتأليفهم، ولينسب العرب إلى أصل ماجد زورًا

وبهتانًا لأسباب سياسية أو دينية، وهذا من منتهى الفجور والفحش، والطعن على

القرآن الكريم في إثباته أبوة إبراهيم للعرب في قوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي

الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (الحج: 78) الآية.

وقال في صفحة 27 (وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه

الأسطورة - الهجرة المذكورة - في القرن السابع للمسيح. إلى أن قال في صفحة

28: إذاً فليس ما يمنع قريشًا من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من

تأسيس إسماعيل وإبراهيم كما قبلت روما قبل ذلك، ولأسباب مشابهة أسطورة

أخرى صنعتها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس بن بريام صاحب

طرواده، أمر هذه القصة إذًا واضح فهي حديثة العهد قبل الإسلام، واستغلها

الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني، وسياسي أيضًا. وإذًا فيستطيع

التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية

الفصحى) .

وهو تكذيب صريح لقول الله تعالى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ

وَإِسْمَاعِيلُ} (البقرة: 127) الآية. ولقوله {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لَاّ

تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ

بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 26-27)

وقوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ

أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: 125) إلى غير ذلك

من الآيات التي في هذا الموضوع، وهو فوق تكذيبه للقرآن يقول: إن فيه تدليسًا

واحتيالاً لأسباب سياسية ودينية من أجلها اختلق هذه الأخبار - بهذا وأمثاله يقرر

المؤلف أن القرآن لا يوثق بأخباره ولا بما فيه من التاريخ.

وكم يترك هذا الكفر الفاحش في عقول الطلبة من أثر سيئ، وهدم لعقائدهم

ودينهم! وماذا بقي في القرآن من ثقة وحرمة في نفوسهم بعد هذا التكذيب؟

وقال في صفحة 33 (وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من

الوقت ما يمكننا من استقصائه أو تفصيل القول فيه، وهو أن القرآن الكريم الذي

تُلي بلغة واحدة ولهجة واحدة، هي لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من

القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته، وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تباينًا كثيرًا

إلى أن قال: إنما نشير إلى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل ويسيغه النقل،

وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير

حناجرها وألسنتها، وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي (صلى الله عليه

وسلم) وعشيرته من قريش فقرأته كما كانت تتكلم) إلى آخر ما قال.

وهذا تصريح منه بأن القراءات لم تكن منقولة كلها عن النبي صلى الله عليه

وسلم، بل هي من اختلاف لهجات القبائل، فالسبع المتواترة ليست عنده واردة عن

النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم في أصول الدين أن السبع متواترة، وأن

طريقها الوحي فمنكرها كافر.

وعدا ما سردناه توجد صحائف عديدة فيها مغامز مؤلمة، منها ما قاله في صفحة

81 (وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين

إبراهيم) وفي الصفحة التي قبلها (أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا للإسلام أولية

في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته

هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله على الأنبياء من قبل) وهو في هذا يكذب

قوله تعالى {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} (النحل: 123) وقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ

وَالَّذِينَ آمَنُوا} (آل عمران: 68) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا

الموضوع، ومنها غير ذلك كثير مما هو مبثوث في الكتاب.

ولا ريب في أن هذا هو عين ما كان يطعن به المشركون على القرآن في مبدأ

أمره قال تعالى في سورة الفرقان {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ

عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى

عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 4-5) .

فاللجنة ترفع إلى فضيلتكم ما وصلت إليه على سرعة من الوقت مما سطره

المؤلف من الكفر الصريح، وتترك ما ينطوي في ثناياه من الإلحاد والزندقة مما لا

يخفى على الناظر.

نرفعه مطالبين فضيلتكم والحكومة بوضع حد لهذه الفوضى الإلحادية

خصوصًا التي تنبث في التعليم لهدم الدين بمعول الزندقة كل يوم، فما نفرغ من

حادثة إلا ونستقبل حوادث لا تدع المؤمن مطمئنًا على دينه.

نطالب فضيلتكم والحكومة بذلك حرصًا على أبناء الدولة أن يتفشى هذا الداء

فيهم وهم رجال المستقبل، وسيكون بيدهم الحل والعقد في مهام الأمور.

ونحن لا نفهم كيف تصرف أموال المسلمين وأوقافهم على تعليم نتيجته هذا

الإلحاد الذي يبثه هذا الداعي ويتقاضى عليه مرتبًا ضخمًا من هذه الأموال.

وهل بهذه الطريقة وعلى هذا النحو تخدم وزارة المعارف أبناء الأمة ورجال

الغد وتبني صرح التعليم والتربية؟

...

... نسأل الله أن يوفقكم لما فيه المصلحة والسلام

...

...

...

26 شوال سنة 1344هـ

...

...

...

... الإمضاءات

محمد الديناري - عبد المعطي الشرشمي - محمد عبد السلام القباني - عبد

ربه مفتاح - عبد الحكم عطا - محمد هلالي الإبياري - عبد الرحمن المحلاوي -

محمد علي سلامة

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

عبارة المخذول نص في إنكار إبراهيم وإسماعيل أنفسهما فضلاً عن هجرتهما، فلماذا يذكر التقرير إنكاره لهجرتهما فقط ويسكت عن إنكاره لوجودهما، هذا وإنكار إبراهيم وإسماعيل مصادمة صريحة للكتب السماوية والشرائع الإلهية وللتواتر والتاريخ.

ص: 128

الكاتب: عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود

‌بلاغ عام

قد نشر منذ عام

وأشارت إليه جريدة أم القرى ولم تنشره

وهو وثيقة رسمية وحجة قطعية

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى كافة من يراه من إخواننا

المسلمين من أهل مكة وأهل نجد كبيرهم وصغيرهم سلمهم الله تعالى وهداهم،

ووفقنا وإياهم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياهم من صالحي عبيده وأوليائه، آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) فلا يخفاكم ما منَّ الله به علينا

وعليكم من نعمة الإسلام. قال تعالى {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي

وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وقال تعالى آمرًا عباده بما فيه صلاحهم

في دينهم ودنياهم {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا

بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) وقال صلى الله

عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه

ولتأطرنه على الحق أطرًا أو ليوشكن أن يعمكم الله بعقابه) والآيات والأحاديث في

هذا الباب كثيرة لا تحصى. فإذا كان الناس هم المحتاجين إلى ربهم وهو صاحب

المنة والفضل بما أنعم به علينا من نعمة الإسلام وجعلنا من أهله فالواجب علينا

الاجتهاد فيما يرضي الله والقيام بأمره والاتباع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد

أوجب علينا فرائض الإسلام الخمس وهي شهادة أن لا إله إلا الله وحقيقة ذلك النفي

والإثبات فـ (لا إله) نافية جميع ما يعبد من دون الله سواء كان المعبود نبيًّا

مرسلاً أو ملكًا مقربًا ودالة على التبرؤ من الشرك وأهله بالأفعال والأقوال و (إلا

الله) تثبت العبادة لله ومعنى ذلك أن تكون عبدًا مطيعًا لله تطيعه فيما أمرك به،

وتجتنب ما نهاك عنه. وشهادة أن محمدًا رسول الله حقيقتها ومعناها أن تقتدي به

وتتبع سنته بفعل ما أمرك به، واجتناب ما نهاك عنه، وأن يكون الله ورسوله

أحب إليك من نفسك وأهلك ومالك.

(الركن الثاني) إقامة الصلاة لأنها أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين، فمن

حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. والثالث والرابع

والخامس إيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام.

فأرجو أن يوفقنا الله وإخواننا المسلمين لإقامة أركان الإسلام جميعها مع

الإخلاص بالعمل والنية الصالحة. ومن المعلوم أنه لا دين ولا إسلام إلا بالعمل

بأركان الإسلام وأدائها على الوجه المشروع. وإن من جماع الأمر النصح لله

ولرسوله ولدينه ولأئمة المسلمين وعامتهم بكل مكان وكل زمان وعلى الأخص في

هذا الحرم الشريف. والذي أوصيكم به ونفسي تقوى الله والمسارعة إلى ذلك

والاجتهاد فيما يحبه ويرضاه، وأن تفكروا فيما خلقتم له وفي مآلكم بعد انقضاء

آجالكم، فإنه لا شيء بعد ذلك إلا جنة أو نار. والعاقل منا ومنكم مَن فكَّر وسعى فيما

يرضي ربه وينجيه من عذابه.

إن أول وصيتي لكم - إخواننا أهل مكة - أن على علمائكم الالتفات إلى أمر

الله ومعرفة حقيقة التوحيد والاجتهاد بما يزيل البدع والضلالات، وتبيين الحق لعباد

الله الفقراء إليه، فإن تعليم الناس وتبيين الحق من الباطل من أهم الأشياء التي يجب

على العلماء القيام بها فإذا فعلوا ما يجب عليهم فقد برئوا من عهدتهم. وإن من أهم

ما يجب عليهم بيانه للناس حقيقة التوحيد والعمل به وترك ما ينافيه من الشرك

والضلال والبدع. ثم حض الناس على إقامة شرائع الإسلام مثل الصلاة والمحافظة

عليها، ومعرفة أركانها وواجباتها ومفسداتها وكذلك غيرها من أركان الإسلام وأن

ينهوا الناس ويزجروهم عن الأعمال الخبيثة من قول وفعل واعتقاد وعن جميع

المنكرات التي تحرمها الشريعة وإني أطلب إلى العلماء أن لا يكتموا شيئًا مما في

نفوسهم فيما يتعلق بأمر العقيدة التي تفاوضنا وإياهم فيها وأقروها فما كان موافقًا

لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيجب علينا جميعًا العمل به؛ لأن

دين الله واحد ونحن جميعًا عبيد لله، وأكرم الخلق على الله من اتقاه قال تعالى

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) وما كان مخالفًا للكتاب

والسنة فالساكت عنه على خطر.

إنه لا عذر بعد اليوم لأحد بالسكوت، وأكرر عليكم مرة ثانية إنه من رأى

منكم منكرًا يخالف الكتاب والسنة من قول أو عمل فليراجع فيه العلماء الموجودين

في مكة وهم الشيخ عبد الرحمن بن داود والشيخ محمد الشاوي ومن لم يستطع

مراجعتهما فليبين لي الأمر ولكم عليّ أمان الله وعهده أن أنفذ ما يقتضيه الحق وما

أثبتته الشريعة من نفي وإثبات على نفسي وأسرتي وعلى العلماء والعوام.

وأما أنتم - يا أهل نجد علماءكم وعامتكم والمسؤول في هذا هم الذين ذكروا

أعلاه الشيخ عبد الرحمن والشيخ محمد.

فالواجب عليكم أن تتناصحوا فيما بينكم وتناصحوا إخوانكم جيران البيت

الحرام وتشفقوا عليهم كشفقتكم على أنفسكم وأولادكم، وأن تسألوا الله لمهتديهم الثبات

ولجاهلهم الهداية. وأن يكون نصحكم لهم كنصحكم لأنفسكم وأحبابكم بالرفق واللين

والشفقة وأن تستروا عليهم كما تسترون على أنفسكم وأحبابكم، وأن لا تجسسوا عليهم

وأن لا تظنوا بهم ظن سوء فمن خدعكم بالله فانخدعوا له، فإن كان صادقاً فالحمد

لله، وإن كان غير ذلك فليس لنا إلا الظاهر وحسابه على الله.

فعليكم أيها العلماء القيام بالوظيفة التي ألزمنا الله وإياكم بها، وأنتم أيها العامة

عليكم أن ترتدعوا عما نهاكم الله عنه، ثم عمَّا نهيناكم عنه.

أيها العلماء: إن الأمر قد جعلناه في ذمتكم فعليكم أن تقوموا بالواجب على

الوجه المشروع، وأن تواسوا إخوانكم أهل بيت الله الحرام وجيرانه بأنفسكم من

النصيحة بالقول والفعل وأن تأخذوا على يد السفيه من كافة أهل نجد وتمنعوهم من

الاعتداء بالقول والفعل إذ ليس لأحد منهم رخصة في ذلك، وإنما على الموظفين أن

يقوموا بوظائفهم حسبما يطلب منهم كما سنبينه.

إن الذي آمركم به أيها العلماء هو أن تجتمعوا مع إخوانكم من أهل البلد

الحرام وترتبوا أناسًا ترتضونهم في أمر دينهم ودنياهم توزعونهم في الأحياء

والأسواق حتى إذا رأوا من أحد كلامًا أو عملاً يخالف المشروع من شرك أو بدعة

أو فسوق أقبلوا عليه ونصحوه بلين ورأفة، فإن قبل منهم المخطئ واستغفر وتاب،

فالحمد لله وهو المطلوب وإن تردد في ذلك وتعنت يأخذونه باللين والهون إليكم

حيث تقيمون عليه بعد ذلك ما يجب سواء بنصيحة أو بأدب وهذا هو الأمر الأول

الذي يجب على الموظفين القيام به.

ثانيًا: عليهم أن يحضوا الناس على صلاة الجماعة وأن لا يتأخر أحد عن

أدائها في المساجد، فمن تأخر لأول مرة نصحوه فإن تكرر منه ذلك رفعوا الأمر إليكم

حيث تنفذون فيه الأمر المشروع.

ثالثًا: أن يراقبوا كافة أهل نجد ويمنعوهم من الاعتداء بالألفاظ كقول جاهل:

يا مشرك أو يا كافر أو يا فاسق، وكذلك يمنعونهم من الاعتداء باليد وغيرها فمن

اعتدى يؤدبونه فإن عاند حملوه إليكم لتنفذوا فيه من العقوبة ما يستحقه عمله أما

عامة أهل مكة:

(أولاً) ترك ما يخالف الشرع من كلام شرك ودعوة غير الله واستغاثة بغير

الله وتوسلات مبتدعة وزيارات القبور أو غيرها بقصد التبرك بها أو طلب شيء

منها؛ لأنه لا يجوز الطلب من غير الله أما الزيارة المشروعة فلا بأس بها ولكن

المحال التي كانت عليها القباب من قبل فدفعًا لشبهة وردًا لحجة جاهل لا نرى

زيارتها، ولو أننا نبرأ إلى الله من تحريم زيارة القبور على الوجه المشروع ولكن

مراعاة قاعدة من قواعد الشرع المشهورة وهي (أن درء المفاسد مقدم على جلب

المصالح) .

(ثانيًا) عليكم بالمحافظة على الصلاة والمبادرة لأدائها مع الجماعة وترك

الأعمال إلى انقضاء الصلاة.

(ثالثًا) عليكم ترك التكلم بالكلام الخبيث الذي ينهى عنه الإسلام.

(رابعًا) عليكم بالامتناع عن جميع الشبهات التي تحرمها الشريعة الإسلامية

من قول وعمل مثل المسكرات أو جنسها والابتعاد عن مواقف الفساد والبعد عن

البغي والمحرمات وترك الربا في جميع مظاهره. وعلى الإجمال أن تجتنبوا جميع ما

حرمته الشريعة الإسلامية فمن اجتنب ذلك فهو أخونا ونحن إخوانه، ومن ترك شيئًا

مِن المأمور به أو فعل شيئًا من المنهي عنه فلا يأمنن العتب ولا يلومن إلا نفسه

ونبرأ إلى الله أن نفعل به فعلاً من تلقاء أنفسنا بل نرد أمره إلى الشريعة المطهرة وننفذ

ما أمرت به فيه.

أما أنتم يا عامة أهل نجد فليشتغل كل بعمله ولا يتعرض لما لا يعنيه وأنهاكم

ثم أنهاكم عن الكلام الفاحش كأن يلعن أحدكم أحدًا أو يتكلم بقول: يا مشرك يا كافر

يا فاسق يا خبيث أو يرفع يده على أحد بضرب أو غيره، فالفاعل لذلك هو مني في

حرج أولاً، ثانياً (إذا) ثبت عندي أنه تكلم بهذا الكلام أو ضرب بيده ولو كان

منكرًا لمنكر فإني مجبر على تأديبه وإصابته بما يضره فإن ادعى المنكر أنه أنكر

عملاً بحديث (من رأى منكم منكراً فليغيره) فهذا صحيح ونقره على ذلك ولكن

يشترط أن يكون الإنكار على وجه المشروع إذ يشترط فيه أولاً أن يكون المنكر متحققًا

من أن الشيء الذي ينكره منكر بالنص، ثانيًا أن يكون عليمًا بما يأمر به عليمًا بما

ينهى عنه، حليمًا فيما ينهي عنه رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهي عنه، فإذا كملت

هذه الخصال الأربع فلينه برفق، ونصيحة، وستر فإن أطاعه المأمور

فالحمد لله وإن أبى أو عاند فلا يتكلم معه بكلام فحش ولا يتجاوز عليه برفع يده أو

غيرها بل يخبر بذلك الموظفين بالأسواق وهم ينظرون في شأن المخالف يرجعونه

إلى العلماء. فمن تجاوز فقد عصى الأمر وجنى على نفسه واستحق التأديب.

وعلى ذلك فقد برئت الذمة بما كلفنا به العلماء وأمرنا به الرعية، فمن رأى ذلك

صوابًا موافقًا للكتاب والسنة فليجتهد في ذلك ونسأل الله لنا وله الهداية والثبات على

ذلك، ومن أنكر شيئًا في هذا أو رأى فيه شيئًا يخالف الكتاب والسنة وما

كان عليه السلف الصالح فليراجعنا فيه، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وقد أمرت الأمير خالدًا أن ينفذ ما يقرره العلماء وأن يكون خادمًا للشريعة

ويقيم الأمر على المخالف سواء كان من أهل مكة أو أهل نجد. وبهذا برئت ذمتي

وتعلق الأمر في رقاب العلماء أي علماء مكة وعلماء نجد وأكون معذورًا أمام من

جنى على نفسه وخالف الأمر من أهل مكة المكرمة أو من أهل نجد، والرجاء بالله

أن يجعلنا وإخواننا المسلمين من القائمين على النهج القويم والسائرين على الصراط

المستقيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وصلى الله وسلم على

سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

...

...

...

10 شوال سنة 1343هـ

...

...

عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود

_________

ص: 133

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مذكرة

مقدمة إلى مؤتمر الخلافة العام

في مصر القاهرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ [[*]

أيها الإخوة الكرام، الذين اجتمعوا لخدمة الإسلام، بالنظر في مسألة الخلافة

التي هي أهم المسائل الدينية والدنيوية، إن أخاكم هذا قد درس هذه المسألة من جميع

جوانبها الشرعية والتاريخية والسياسية، وألّف فيها كتابًا حافلاً يشتمل على جُلّ ما

يلزم لمن يريد درس المسألة والإحاطة بوجوهها، ثم كتب بعد ذلك مقالات أخرى

فيها عقب إلغاء الحكومة الجمهورية التركية للخلافة العثمانية.

ثم انتظم في عقد مجلس إدارة مؤتمركم هذا الذي قرر دعوتكم إلى هذا

الاجتماع ووضع النظام له، وكان عضوًا في لجانه الفرعية، وهو يعرض عليكم

رأيه فيما يراه أهم مسائل البرنامج الذي وضعه مجلس الإدارة معبرًا عن هذا الأهم

بما يجب على المسلمين عمله والسعي له إذا رأى المؤتمر أن نصب إمام عدل

مستجمع للشروط الشرعية على الوجه الشرعي الذي هو مبايعة أهل الحل والعقد

من المسلمين الموصوفين بالصفات المقررة في موضعها من كتب الشرع لا يتيسر

الآن.

أيها الإخوة الكرام:

إنني قبل بيان رأيي فيما أذكر أقول كلمة وجيزة في رأي سمعته من كثير من

الباحثين والمفكرين وهو: أنه إذا تعذر نصب الخليفة الشرعي الذي هو الإمام الحق

الذي تجب طاعته بمجرد مبايعته الشرعية على جميع المسلمين ملوكهم وأمرائهم

ودهمائهم، ويعد الخارج عن أمره في غير معصية الله تعالى عاصيًا يجب على

المسلمين قتاله إذا كان ذا شوكة - فالواجب في هذه الحالة نصب خليفة مستجمع

للممكن من الصفات والشروط المطلوبة شرعًا كخلفاء دولة آل عثمان التي كان أكثر

المسلمين يعترفون بها، عملاً بقاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور، وقياسًا على ما

أجازه بعض الفقهاء من توليه القاضي المقلد (الذي يعبرون عنه بالجاهل) عند فقد

العالم المجتهد، ويحتجون لذلك بما ورد في الصحيح أن (من مات وليس في عنقه

بيعه مات ميتة جاهلية) ووجوب اعتزال المسلم لجميع فرق المسلمين إذا لم يكن لهم

إمام وجماعة ولو بعضِّه بأصل شجرة حتى يموت على ذلك.

وإنني أشير إلى أهم ما كنت أقوله لهؤلاء (وتجدون له تفصيلاً في كتابي

الخلافة أو الإمامة العظمى) وهو:

1 -

إن لبعض الشعوب الإسلامية مبايعًا جماعته يدعون أن بيعته شرعية لا

ينقصها شيء من الشروط الشرعية، ولبعض آخر إمامًا يدعون أنه هو الذي يقيم

الحق والعدل والسنة دون غيره، وإن لم يكن مستجمعًا لجميع ما ذكر العلماء من

الشروط، ولكن سائر الشعوب الإسلامية لا تقر لهؤلاء ولا لأولئك بإمامتهم، فما

الفائدة من مبايعة إمام آخر لا يمكن ادعاء استجماعه للشروط، ولا أن بيعته هي

الصحيحة دون غيرها، وهل تكون البيعة إلا مزيدًا في التفرق والشقاق؟

2 -

كما توجد شعوب تدعي وجود الخلافة فيها ويوجد أفراد يدعون الخلافة

ببيعة توجب على جميع المسلمين اتباعهم، وإن كان المعتدون قد فصلوهم بالقوة من

شعوبهم، وهم محمد وحيد أفندي التركي السلطان الأخير من آل عثمان [1] وعبد

المجيد أفندي التركي الذي سُمي خليفة بدون خلافة ولا سلطنة ثم طُرد من قصره

ومن بلاد شعبه، والشريف حسين بن علي الذي كان أميرًا لمكة ثم صار ملكًا

للحجاز، ثم بايعه بالخلافة فريق كبير من أهل فلسطين وسورية بالاختيار، ثم

أهل الحجاز بالاضطرار، فماذا استفاد المسلمون من هذه البيعات؟ وهل من

الحكمة أن يعود فريق آخر إلى مثلها؟

(3)

إن خلافة سلاطين بني عثمان لم تكن خلافة شرعية صحيحة بحيث

يعد الواحد منهم إمام المسلمين الحق كما اعترفوا بذلك، وإنما كانت خلافة تغلُّب

يطاع أمر خلفائها شرعًا فيما لا يخالف الشرع لحفظ النظام وإقامة الأحكام واتقاء

الفتنة وسفك الدماء، وقد نقل الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن المتغلبين على

الحكم بالقوة حكمهم حكم البغاة الخارجين على الإمام، فإذا وجد الإمام الحق وجب

عليه قتالهم وإكراههم على طاعته إذا قدر، وإنما كان أكثر المسلمين في غير بلادهم

يعترف بخلافتهم لاعتزاز المسلمين بدولتهم التي صارت الدولة الإسلامية الوحيدة

التي تعترف جميع دول الأرض بها وتحسب حسابًا لجيشها. فكان اعترافًا سياسيًّا

وجدانيًا، أشد المسلمين تعصبًا له وعطفًا عليه، هم المستذلون باستيلاء الأجانب

عليهم. وكانوا يتناقلون أنهم ورثوا الخلافة إرثًا شرعيًّا بنزول آخر الخلفاء

العباسيين لهم عنها، ومن أدلة عامتهم عليها وجود الآثار النبوية عندهم وحفظهم

للحرمين الشريفين. فمجموعة مزاياهم لا توجد في حكومة إسلامية ولا شعب

إسلامي. والمهم منها هو القوة العسكرية المنظمة مع الاستقلال المعترف به من

جميع دول الأرض. على أن هذا كله لم يُخرج خلافتهم من حكم التغلب إلى حكم

الإمامة الحق، ولم ينالوا بها ما كانوا يرجون في الحرب العامة عندما أعلنوا الجهاد

الشرعي.

فتبين بهذه الأمور أن نصب خليفة غير مستجمع للشروط الشرعية ببيعة

صحيحة شرعية لا يكون إقامة للشرع، ولا وسيلة لجمع كلمة المسلمين على إمام

واحد، ولا لاعتراف أكثر شعوبهم به، وانتفاعهم بما عسى أن يوضع من نظام

لخلافته. وبعد هذا التمهيد أعود إلى أصل الموضوع فأقول:

من المعلوم بالقطع أن ذهاب الأصل يتبعه الفرع، وأن لا بقاء للثمرة إلا ببقاء

الشجرة، فإضاعة المسلمين لنظام الإمامة العظمى، وتفريطهم في منصب خلافة

النبوة، أضاع عليهم ما أوجبه الشرع بهذا النظام وجعله ثمرة له، من حراسة الدين،

وعزة الملة والدعوة، ووحدة الأمة، وحفظ مصالحها الدينية والدنيوية. وكل ما

يشكوه عقلاؤهم ودهماؤهم منه في أمورهم العامة من مصالح ضائعة، ومفاسد ذائعة،

وفرائض متروكة، ومحرّمات مستباحة، فهو من فروع ذلك الأصل، ولا سبيل

إلى إقامة تلك المصالح، ودرء هاتيك المفاسد، إلا بإعادة منصب الخلافة النبوية

على وجهه الشرعي الصحيح الذي أجمع عليه سلف الأمة، فإذا تعذر ذلك الآن فما

الذي يجب على زعماء المسلمين الذين يعنون بمصلحتهم العامة من اتخاذ الوسائل

له والتمهيدات لإقامته؟ والذي يطالب هذا المؤتمر بتقريره والسعي لتنفيذه، الذي

أراه أنه يحب السعي إلى إيجاد الوسائل الثلاث الآتية:

***

(1)

أهل الحَلّ والعقد:

قد ناط الشرع الإسلامي أمر الحكم والسلطان بالأمة، وجعل إجماعها حجة،

وضمن لها أن لا تجتمع على ضلالة، وإنما يمثل إرادة الأمة ويعرب عن إجماعها

الكلي أو الأغلبي زعماؤها الذين هم محل ثقتها، وأهل الحل والعقد في شؤونها،

الذين تُتّبع جماعتهم في جملة المصالح العامة، وتُتبع الأفراد أو الهيئات الخاصة

منهم من كل نوع منها، كعلماء الدين في الأحكام الدينية، وقواد الجيوش في الأمور

العسكرية، والأطباء في الاحتياجات الصحية، وأولي الرأي والتجارب والمعرفة

في المصالح السياسية والإدارية، والفنيين البارعين في الأعمال الفنية

إلخ.

ويعتبر في كل فريق من هؤلاء وغيرهم الغيرة على الأمة، والصدق والإخلاص

في خدمتها بحيث يكون موثوقًا عند الجمهور منها.

وقد صرح أعلام الملة من علماء الأصول والفروع بأن مدار انعقاد الخلافة

على بيعه أهل الحل والعقد في الأمة، فهم الذين ينصبون الإمام، وهم الذين لهم الحق

في خلعه عند وجود المقتضي وانتفاء المانع الراجح، فأول ما يجب على أهل العلم

بمصلحة الأمة ذوي الغيرة والرأي من أعضاء مؤتمر الخلافة وغيرهم هو البحث

عن أهل الحق والعقد في كل شعب من شعوب المسلمين حيث وجدوا، والسعي

لإيجادهم حيث فقدوا، ووضع نظام للتعارف والتعاون بينهم، وإعلام الجاهلين منهم

بما أوجبه الله عليهم، فإن أكثر زعماء القبائل البدوية وكثير من البلاد القريبة من

البداوة قد استحوذ عليهم الجهل المطبق، فهم لا يعرفون مصلحة قبائلهم وبلادهم في

دينهم ودنياهم فضلاً عن مصالح الملة العامة، بل أقول إن أكثر زعماء البلاد

الحضرية لا يعرفون أحكام الخلافة الإسلامية ومزاياها التي تفضل بها سائر أنظمة

الحكم في شعوب الحضارة.

(2)

النظام الذي يوضع لمعرفة من يوجد من أهل الحل والعقد وأين

يوجدون ومن هم؟ ولإيجاد جماعة منهم بالوسائل العصرية المعروفة في تأليف

الأحزاب والجمعيات والنقابات.

فإنه لا يمكن إيجاد خلافة عامة تعترف بها جميع الشعوب الإسلامية أو أكثرها

إلا بوجود جماعة أهل الحل والعقد في جميعها أو أكثرها، وتعارف هذه الجماعات

أو أكثرها وتواطئهم (أولاً) على نظام للخلافة يناسب حال هذا الزمان (وثانيًا)

على المكان الذي يُختار لنصب الخليفة فيه (وثالثًا وأخيرًا) على الشخص الذي

يُختار للخلافة ثم تبايعه تلك الجماعات.

إذا ابتدأ المسلمون بالسعي لهذا عقب انفضاض المؤتمر، فمن الجائز أن يتم

النجاح في آحاد من السنين، وليس من الكثير أن يحتاج إلى عشرات السنين، ولا

يجوز لهم اليأس إذا لم يتم لهم في العشرات، فإن ما هدم في عدة قرون لا يسهل

إعادة بنائه في أقل منها إلا بتوفيق من الله تعالى.

***

3 -

نظام الخلافة المناسب لهذا العصر:

يجب أن يراعى في هذا النظام:

(أولاً) ألا يستطيع الخليفة أن يستبد بالأمر إذا زينت له نفسه ذلك.

(ثانيًا) أن يكون مستجمعًا للشروط الشرعية حتى لا يكون لأحد زعماء

المسلمين عذر في رفض بيعته، أو استحلال عصيانه، وذلك بإنشاء مدرسة يتخرج

فيها الخلفاء والمجتهدون المستجمعون لصفات أهل الحل والعقد شرعًا ولشروط

القضاء الشرعي.

(ثالثًا) أن تبنى الأحكام ونظم الدولة في مملكة الخلافة على التشريع

الإسلامي بنصوص الكتاب والسنة القطعية الجامعة بين العدل والرحمة والمساواة

الصحيحة، وبالاجتهاد في غير القطعي الذي مداره على درء المفاسد، ومراعاة

المصالح، واليسر ورفع الحرج، وإباحة الضرورات للمحظورات، مع تقديرها

بقدرها، وغير ذلك من القواعد العامة الصالحة لكل زمان ومكان.

(رابعًا) أن يكتفي من الشعوب الإسلامية غير الحرة المستقلة في أمرها،

ولا القادرة على اتباع سلطان الخلافة في أحكامها، بأن تكون مرتبطة بمقام الخلافة

في شؤونها الدينية كدعاية الإسلام الدينية المحضة، والدفاع عنه، وصيانته من

الإلحاد والتعطيل، ومن البدع والخرافات، وفي منهاج التعليم الديني، وخطب

الجمعة والأعياد، وغير ذلك من التعاون على البر والتقوى وأعمال الخير البريئة

من السياسة وشبهاتها.

(خامسًا) اتقاء كل ما يُعد عدوانًا على حكومات هذه الشعوب أو حجة

صحيحة لها تحملها على اضطهاد رعيتها، وقطع الصلة الروحية المعنوية بينها

وبين إمام دينها الأعظم.

وإنني مستعد لتأليف رسالة أو كتاب في تفصيل هذه المسائل إذا قررها

المؤتمر لأجل عرضها على المؤتمر الثاني الذي ينعقد بعده، وأختم كلامي باقتراح

عقد مؤتمر آخر لذلك يعين مكانه بأصوات الشعوب والأقطار التي يتألف المؤتمر

من رجالها، بحيث يكون لأهل كل قطر صوت واحد في ذلك، وأحمد الله على

توفيق الأمة لعقد هذا المؤتمر، وأسأله تعالى أن يوفقها في مستقبلها إلى خير مَنّه،

وصلى الله وسلم على محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله الطاهرين،

وخلفائه الراشدين، وصحابته المرشدين وسائر الخلفاء وأئمة العلم العاملين،

والسلام على جماعة المؤتمرين.

...

...

...

...

من أخيهم

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

...

...

...

... منشئ المنار الإسلامي

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

بعد تقديم هذه المذكرة للطبع نشرت الجرائد المصرية خبر وفاته رحمه الله تعالى.

(*)(الطلاق: 6) .

ص: 138

الكاتب: مهاتما غاندي

‌الصحة

تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي

ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي

بحث في الأغذية والأشربة

ينبغي لنا قبل الخوض في هذه المسألة أن نعرف الأغذية التي تضر بصحتنا

فيجب علينا اجتنابها، نحن نطلق كلمة (الغذاء) على كل ما يدخل الجسم من

طريق الفم، حتى الخمر والحشيش والأفيون والتبغ والشاي والقهوة والكاكاو

والبهارات واللعوقات. إني موقن بأن جميع هذه الأشياء مضرة بالصحة ويجب

تركها بتاتًا وقد علمت ذلك بتجربتي الشخصية وبتجارب الآخرين.

إن الخمر والحشيش والأفيون قد قبحتها جميع الأديان بلسان واحد، ولكن مع

ذلك نرى عدد المجتنبين لها قليلاً بالنسبة إلى المتهافتين عليها، إن الخمر قد أهلكت

بيوتًا وأسرًا بأهلها، والسكير ينال جزاءه في صحته، وهو يعرف بنفسه أنه ينسى

في سكره الفرق حتى بين أمه وزوجته وابنته! إن حياته تصبح ثقلاً محضًا عليه،

والسكارى كثيرًا ما يوجدون ملقين في المراحيض ومجاري المياه الوسخة، وإن

الناس الصحاح الحواس أيضًا يصبحون آلات صماء عاجزة عند ما يتعودون

الشرب، بل إن قواهم العقلية تضعف فلا تؤدي وظيفتها حتى في حالة الصحو.

يقول بعض الناس: إن الخمر غير مضرة إذا استعملت كالدواء، ولكن

حتى الأطباء الأوربيين قد أخذوا الآن يتحولون عن هذا الرأي في أكثر الأحوال،

يقول بعض حماة الخمر بأنه إذا كان يجوز استعمالها كالدواء بلا مضرة، فكذلك

يجوز استعمالها كالسكر أيضًا، ولكنهم ينسون أن كثيرًا من السموم كذلك تستعمل

كالدواء، فهل نتصور أن نستعملها كالغذاء؟ قد تنفع الخمر بعض النفع في بعض

الأمراض، ولكن مع ذلك لا ينبغي لإنسان مفكر عاقل أن يرضى باستعمالها حتى

كالدواء في حال من الأحوال، وإن كان لا بد له من ذلك فالأجدر به أن يفدي بجسمه

الفاني على أن يرضى باستعمال شيء قد جلب الخراب والهلاك على الملايين من

البشر، إن من حسن الحظ أنه لا يزال يوجد في الهند إلى هذا الزمن ألوف مؤلفة من

الرجال والنساء لم يتناولوا ولا قطرة واحدة من الخمر قط، إن هؤلاء الناس

يفضلون الموت على أن يأكلوا أو يشربوا ما يحترزون منه، مهما أمرتهم الأطباء

بذلك.

أما الأفيون فليس أقل ضررًا من الخمر ويجب اجتنابه كما يجب اجتناب

الخمر، ألا نعتبر بأمة عظيمة قوية كأمة الصين قد أصبحت عاجزة عن حفظ

استقلالها بسبب افتتانها بفتنة الأفيون المميتة؟ أولا نرى الأغنياء وأصحاب الأملاك

في بلادنا نفسها قد ضيعوا أملاكهم مفتونين بهذه الفتنة العمياء؟

إن فتنة الدخان كذلك قد نسجت ثوبها السميك على عقول البشر نسجًا محكمًا،

حتى إنه يحتاج لخرقة إلى سعي جيل أو أكثر. فالشباب والشيوخ قد وقعوا في هذه

الفتنة العمياء على سواء، حتى إن أفاضل الناس لا يترددون في استعمال التبغ،

والتدخين يكاد أن يصير طبعًا ثانيًا لنا، ويزداد كل يوم انتشارًا ورواجًا. قليل من

الناس يعلمون الدسائس المتنوعة التي يستعملها صناع السجاير لإيقاعنا في شراك

الدخان أكثر فأكثر، فهم يرشون التبغ بحامض الأفيون وغيره من الحوامض

المعطرة لكي نعاني أشد المصاعب في تحرير نفوسنا من قبضته إذا أردنا ذلك،

وهم كذلك ينفقون الألوف من الجنيهات في الإعلانات، وقد أسس كثير من

الشركات الأوربية للسجائر المطابع، وأعدت لها الصور المتحركة واليانصيب،

وأخذت في تفريق الجوائز، كل ذلك للترغيب فيه. والحاصل أنها تصب المال صبًا

كالماء لنشر دعوتها ونيل بغيتها، بل النساء أيضًا قد أخذن الآن في التدخين، وقد

نظمت القصائد في مدح التبغ، ومجدته الشعراء، ورفعت شأنه، ووصفته

(بالصديق الحميم للفقراء!) .

إن مضار التدخين كثيرة جدًّا لا يتيسر عدها للبيان، والمدخن يصبح عبدًا

خاضعًا للتبغ إلى درجة يفقد فيها كل شعور للحياء والخجل، فهو لا يزال ينفخ

الدخان العفن حتى في بيوت الأجانب! لقد أثبتت التجارب العامة بأن المدخنين

كثيرًا ما يقدمون على ارتكاب الجنايات على اختلاف أنواعها للحصول على الدخان.

فالصبيان يسرقون الدراهم من أكياس والديهم، والمسجونون في السجون يدبرون

الحيل لاستراق السجائر، ويبدون مهارة في إخفائها. إن المدخن يستطيع البقاء

بدون أكل حينًا من الزمن، ولكنه يرى نفسه عاجزًا عن الصبر بدون دخانه! لقد

وجدت الجنود في ميادين الحروب تفقد كل مقدرة على الحرب في أحرج الأوقات

إذا حرمت من السجائر التي قد اعتادتها! .

إن المرحوم الكونت (ليون تولوستوي) الروسي قصّ علينا الحكاية الآتية:

رجل أراد لسبب ما قتل زوجته فاستل مديته وهمَّ بالجناية، ولكن أحس حالاً

بالندامة والأسف فأعرض عنها وجلس للتدخين، فلم يلبث أن غشي مشاعره تأثير

التبغ فقام من فوره مرة أخرى ومضى في جريمته! فاستدل الحكيم بهذه الحكاية

على أن الدخان أشد تأثيرًا على المخ من الخمر، وأكبر خطرًا منها.

ثم إن المَبالغ التي تنفق على السجائر والسيجار كبيرة جدًّا وقد أعرف بنفسي

أناسًا ينفقون على السيجار 75 روبية في كل شهر!

إن التدخين يوجب انحطاطًا كبيرًا في قوة الهضم، فالمدخن لا يشعر بالميل

إلى الغذاء، ولأجل أن يجعله مرغوبًا فيه نوعًا ما يستعمل فيه البهارات ويستعمل معه

المربيات واللعوقات بكثرة، ثم إن نفسه يتعفن ويظهر في بعض الحالات على

وجهة البثور والنفطات، وتسود الأسنان واللثة، بل يقع كثير منهم بسبب هذه العادة

الخبيثة في أمراض خطرة. إن دخان التبغ يعفن الهواء ويفسده فتتضرر بسببه

الصحة العامة ضررًا كبيرًا، وإني لا أستطيع أن أفهم كيف يتجرأ أولئك الذين

يقبحون الخمر على حماية الدخان، وإني لا أتردد في القول بأن الذي لا يجتنب

التبغ في جميع أشكاله لا يمكن أن يكون صحيحًا كامل الصحة.

إن استعمال المسكرات مثل الخمر وغيرها لا يؤدي إلى انحطاط القوى

الجسمية والعقلية وخسارة المال فحسب، بل كذلك يضعف الأخلاق ويقضي على

كل قوة ضابطة للنفس.

نحن نقدم الشاي أو القهوة حتى لأولئك الذين يزورونا بغتة، وإن الدعوات

للشاي أصبحت الآن يومية. قد زاد رواج الشاي في الهند من عهد اللورد كرزون

ازديادًا عظيمًا، وكذلك زاد بترغيبه نتاجه بسرعة حتى أصبح استعماله الآن عامًّا

في كل بيت تقريبًا. لقد عمت هذه الأشياء إلى درجة كبيرة، حتى أصبح المرضى

كذلك يشربون الشاي والكاكاو ويعدونهما من الغذاء المقوي.

إني أؤكد بكل قوة أن الشاي والكاكاو والقهوة كل هذه المنبهات مضرة مفسدة

للصحة على سواء؛ لأنها تحتوي على نوع من السم، مع علمي بأنه لا يوافقني في

ذلك إلا القليل من الناس، أما الشاي والقهوة فإن لم يُخلط معهما اللبن والسكر فليس

فيهما أية مادة مغذية. ولقد ثبت بالتجارب المتوالية الكثيرة أنه لا يوجد في شئ من

هذه الأشياء ما من شأنه إصلاح الدم ألبتة، وقد كنا إلى قبل سنوات نشرب الشاي

والقهوة في مواضع خاصة ولكن قد أصبحت الآن هذه العادة عامة لازمة.

إن من حسن الحظ أن الكاكاو، وإن كان يستعمل في بيوت الأغنياء بكل حرية

إلا أن غلاءه قد حال دون انتشاره يبن العامة كانتشار الشاي والقهوة.

إن الشاي والكاكاو القهوة كلها رديئة لكونها تحتوي على مواد مضعفة لقوى

الهضم، وإن أردت أن تختبر ذلك بنفسك فيمكنك أن تعلمه من هذا الأمر الواقع،

وهو أن الذين تعودوها مرة [1] يصعب عليهم أن يعيشوا بعد ذلك بدونها. لقد

جربت ذلك بنفسي في أيامي الماضية، أيام كنت أستعمل الشاي، فكنت إن لم

أشربه في ساعته المعينة أحس بالكسل والارتخاء في الأعضاء.

قد اجتمعت مرة 400 امرأة وصبي في حفلة، وكان قد قرر القائمون بها أن

لا يقدموا الشاي للمدعوين، فماذا كانت حالة هذه النسوة اللائي كن متعودات على

الشاي في الساعة الرابعة مساءً؟ إنهن بادرن حالاً إلى إعلام أصحاب الحفلة بأننا

إن لم نتناول شاينا المعتاد نمرض ونعجز عن الحركة! فاضطروا هم إلى نسخ

عزمهم، وأمروا بتحضير الشاي، وكان التأخير القليل الذي حصل أثناء التحضير

قد أحدث صخبًا كبيرًا وفتورًا عامًّا في النسوة، ولم يعدن إلى رشدهن إلا بعد

أن شربن الشاي! .

ليست هذه الحكاية وضعية فكاهية، بل واقعة قد وقعت وأنا أشهد بصحتها،

وكذلك رأيت حادثة أخرى مثلها وهي: أن إحدى النساء فقدت جميع قواها

الهاضمة بسبب الشاي وأصبحت فريسة لصداع شديد مزمن، ولكنها منذ الساعة

التي تابت فيها عن استعمال الشاي، أخذت صحتها تتحسن شيئًا فشيئًا. إن طبيبًا

من أطباء بلدية Battersea في إنجلترا قد صرح بعد تحقيق دقيق

بأن فساد القوى العقلية لألوف من نساء تلك الجهة إنما هو نتيجة لانتشار الشاي فيها

انتشارًا عظيمًا. وقد شاهدت أناسًا كثيرين قد فقدوا صحتهم بسبب الشاي.

وقد قال شاعر هندي في وصف القهوة (إنها تزيل البلغم والنفاخ، ولكنها مع

ذلك تضعف الرجولية، وترقق المني، وترقق الدم، ففيها (نفعان وثلاث مضرات) .

ليظهر أن الشاعر قد صدق، فإن للقهوة بعض التأثير في البلغم والنفاخ،

ولكنها في الوقت نفسه تضعف الجسم بالقضاء على المادة المنوية الضرورية،

وترقق الدم فتجعله كالمصل. ونحن نقترح على الذين يدافعون عن القهوة

بنفعها في البلغم استعمال سائل الزنجبيل الذي هو أنفع لهم منها لهذا الغرض،

ومن جهة أخرى لا ينبغي أن ننسى أن إثم القهوة أكبر من نفعها، فإذا كان شيء

يفسد المادة المنوية ويسمم الدم أفلا يجب اجتنابه البتة؟

أما الكاكاو فهو كذلك مضر كالقهوة بل كالشاي، لأنه يحتوي على سم

يضعف إحساس الجلد.

إن الذين يسلمون بقوة الملاحظات الأخلاقية في هذه الأشياء يجب أن يتذكروا

دائمًا أن الشاي والقهوة والكاكاو كلها إنما ينتجها في الأكثر تعب العمال تحت شروط

(التعهد) الذي ليس هو إلا اسم حسن للعبودية، إننا لو نري بأعيننا تلك المعاملة

القاسية التي يعامل بها العمال في بساتين الكاكاو لا نعود إلى استعماله أبدًا، وكذلك

لو كنا نحقق الطرق التي تعالج بها جميع أطعمتنا بالتدقيق لكنا نترك 90 في المائة

منها لا ريب.

إنه يمكن تحضير بدل غير مضر بل صحي للقهوة (والشاي والكاكاو) أيضًا

بكل سهولة، ولا يستطيع حتى الذين ألفوا شرب القهوة كثيرًا أن يجدوا فيه ما

يفرقون به بين طعم القهوة وبينه، يوضع قمح جيد منتقى في مرجل فوق النار

فيقلى حتى يحمر احمرارًا ويضرب إلى السواد، فينزل عند ذلك ويسحق كالبن ثم

إذا أردت أن تشربه فخذ من المسحوق ملعقة وضعها في الفنجان وصب من فوقه

ماءً فاترًا وإن وضعته على النار مدة دقيقة أحسن، وتزيد فيه اللبن والسكر إن

شئت، فإذا شربته تجد شرابًا لذيذًا أرخص وأصح من القهوة.

وأما الذين لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم في إعداد هذا المسحوق فلهم أن

يطلبوه [2] من: Ahmedab Ashram Satiagraha

***

الغذاء

يمكن تقسيم النوع البشري من جهة الغذاء ثلاثة أقسام كبيرة:

(فالقسم الأول) وهو أعظمها الذين يقتاتون بالنباتات وحدها، لرغبتهم فيها

وتفضيلها أو لعجزهم عن الحصول على غيرها. ويدخل في هذا القسم معظم الهند

وكثير من أهل أوربة والصين واليابان، ويجتنب اللحم عدد قليل من هذا القسم

لأسباب دينية، والباقي يرحب به إن وجده، ويدخل في هذا القسم المضطر الطليان

والأيرلنديون وأكثر الاسكوش، وفلاحو الروس المساكين، وجميع أهالي الصين

واليابان تقريبًا، فقوام غذاء الطليان المكرونا، وأهل إيرلندا البطاطس، وأهل

أسكاتليند دقيق الذرة، وأهل الصين واليابان الرز.

(والقسم الثاني) الذين يعيشون بالأغذية المخلوطة، ويدخل فيه أكثر أهالي

إنكلترا والطبقة الغنية من الصين واليابان ومسلمو الهند، وكذلك الأغنياء من

الهندوس الذين لا يرون بأسًا دينيًّا بأكل اللحم. وهذا القسم كذلك كبير وإن كان أقل

من القسم الأول.

(القسم الثالث) سكان المناطق الباردة غير المتمدينين الذين يعيشون على

اللحم وحده. وعددهم ليس بكثير، بل هم أيضًا يضيفون إلى غذائهم النباتات كلما

ازدادوا اتصالاً بالأمم الأوربية المتمدينة، فعلم من ذلك أن الإنسان يعيش على ثلاثة

أقسام من الغذاء. ومن الواجب علينا أن نبحث في الغذاء الأصلح لنا.

إن التحقيق الدقيق في الجسم الإنساني ينتهي بنا إلى الجزم بأن الفطرة

البشرية تقتضي أن يعيش الإنسان على غذاء الثمار وحده. لأن هنالك علاقة قريبة

جدًّا بين أعضاء الجسم الإنساني وأعضاء الحيوانات التي تعيش على الثمار [3] .

فالقرد مثلاً وهو أشبه بالإنسان في شكله وتركيب بنيته، ولا سيما أسنانه

ومعدته يقتات بالثمار وحدها. على حين نرى الحيوانات التي تأكل اللحم كالأسد

والنمر مثلاً تختلف هيئة أعضائها عن الإنسان كل الاختلاف. كذلك يوجد بعض

الاشتراك بين أعضاء الإنسان وبين الحيوانات التي تأكل النباتات كالبقرة ولكن

أمعاءها أكبر من أمعائه، ومخالفته لها في التركيب.

فمن هذا استنتج كثير من العلماء أن الإنسان لم يخلق ليعيش على اللحم ولا

على النباتات، بل على الجذور والثمار.

وقد وجد العلماء بالتجارب أن الثمار تحتوي على جميع تلك المواد التي يحتاج

إليها الإنسان في غذائه، فالموز والبرتقال والتمر والعنب والتفاح واللوز والجوز

والفول السوداني، والجوز الهندي كل هذه الفواكه تحتوي على مقدار كبير من

المواد الغذائية. وقد قال كثير من العلماء بأن الإنسان لا يحتاج بطبعه إلى معالجة

الطعام بالطبخ. وحجتهم في ذلك أنه مثل سائر الحيوانات يستطيع أن يعيش بكل

سهولة على الغذاء الذي تنضجه حرارة الشمس. ثم هم يقولون: إن أكثر المواد

الغذائية تهلك أثناء الطبخ، وأن الأشياء التي لا تؤكل نيئة لا يمكن أن تكون قد

خلقت لغذائنا.

فإن كان هذا الرأي حقًّا فإنا عبثًا نضيع كثيرًا من وقتنا الثمين في طبخ طعامنا

إن كنا نستطيع أن نقتصر على الغذاء المطبوخ فنقتصد وقتًا كثيرًا وقوة كثيرة،

ومالاً كثيرًا، وننفقها جميعًا في الأمور النافعة.

لا ريب أن أكثر الناس يضحكون من ذلك ويسخرون من كل من يظن أن

الإنسان سوف يتعود الطعام غير المطبوخ؛ لأنهم لا يتصورونه يقبل هذا أبدًا. ولكننا

لا نبحث الآن فيما يقبله الإنسان وما لا يقبلونه، نبحث فيما يجب أن يفعلوه. فإننا إذا

علمنا أحسن أنواع الطعام استطعنا بعد ذلك أن نقرب عملنا للمثل الأعلى شيئًا فشيئًا.

نقول: إن الثمار والفواكه أحسن الأغذية ولا نؤمل أن جميع الناس يأخذون

قولنا قضية مسلمة ويقبلون على أكلها وحدها. بل إنما نقصد بذلك أنهم (إن) تعودوا

هذا الغذاء فإنه يكون أحسن لهم وأنفع.

يوجد في إنكلترا كثير من الناس قد اقتصروا على الثمار وحدها ودونوا نتائج

تجاربهم. إن هؤلاء الناس ما اتخذوا هذا الغذاء لأسباب دينية بل من الوجهة الصحية

فقط.

وقد ألف دكتور ألماني كتابًا ضخمًا في الموضوع، أثبت فيه قيمة غذاء الثمار

بكثير من الدلائل والشهادات. وكذلك قد عالج كثيرًا من الأمراض، بوصف هذا

الغذاء مصحوبًا بالمعيشة في الهواء الطلق، وقد توسع في كلامه حتى قال: إن أهالي

كل قطر يمكنهم أن يجدوا جميع المواد المغذية لهم في ثمار قطرهم نفسه.

أستسمح القراء في أن أثبت هنا تجربتي الشخصية في المسألة: إني أعيش

منذ ستة أشهر على الثمار وحدها تاركًا حتى الحليب واللبن الحامض. إن طعامي

الآن يحتوي على الموز والفول السوداني والتمر وزيت الزيتون مصحوبًا ببعض

الفواكه الحامضة كالليمون. وليس في وسعي أن أقول تجربتي قد نجحت تمامًا.

لأن مدة ستة أشهر أقل بكثير من أن تصلح للحكم النهائي في مثل هذه المسألة

المهمة، مسألة تغير الغذاء الإنساني. وكل ما يمكنني أن أقول هو أني قدرت أن

أبقى صحيحًا بينما أصيب الآخرون بأمراض، وأن قواي الجسمية العقلية لأقوى

الآن من ذي قبل، فأستطيع الاشتغال بالشغل العقلي أكثر من قبل مع ثبات وعزم

أكثر. وقد جربت غذاء الثمار في كثير من المرضى مع نجاح كبير مطرد متشابه.

وسأذكر بعض هذه التجارب في فصل الأمراض.

وهنا أقتصر في الكلام على القول بأن تجربتي الشخصية وكذلك مطالعتي في

الموضوع قد زادتني رسوخًا في اعتقادي بأن غذاء الثمار أحسن غذاء للإنسان.

وإني كما اعترفت آنفًا لا أتصور لحظة بأن الناس بمجرد قراءتهم هذا الكتيب

يكبون على هذا الغذاء بل لا أستبعد أن كل ما أكتبه لا يؤثر أدنى تأثير حتى على

واحد من القراء. ولكني أعتقد بأنه مفروض عليَّ أن أقدم إلى الناس كل ما أعتقده

حقًّا حسب علمي ومعرفتي.

وعلى كل حال فمن أراد أن يجرب هذا الغذاء يجب عليه أن يتدرج فيه بكل

انتباه وتحذر لينال أحسن النتائج. يجب عليه أن يطالع قبل البدء في العمل جميع

فصول هذا الكتاب بإمعان ويذعن لقواعد الأصول الأساسية التي بينت فيه.

ورجائي من القراء أن لا يستعجلوا في حكمهم النهائي حتى يفرغوا من سماع كل ما

أريد أن أقوله لهم.

إن الغذاء النباتي أحسن غذاء بعد غذاء الثمار، نحن نطلق كلمة النبات على

جميع أنواع الخضراوات والحبوب وكذلك على اللبن. إن النباتات ليست مغذية

كالثمار؛ لأنها تفقد جزءًا من قوتها أثناء الطبخ ولا بد من طبخها؛ لأنه يتعذر أكلها

نية. لنرى الآن أحسن النباتات وأجودها وأصلحها للغذاء.

إن القمح أحسن أنواع الحبوب. فالإنسان يقدر أن يعيش عليه وحده دون

غيره؛ لأنه يحتوي على القدر المناسب من جميع المواد المغذية. وكذلك يمكن

تحضير كثير من المأكولات منه وكلها يمكن هضمها بسهولة. إن الأغذية المحضرة

التي تباع عند الكيماويين للأطفال يصنع معظمها من القمح. ومثله الدخن والذرة

ويمكن صنع الكعك والخبز منهما أيضًا ولكنهما أقل درجة من القمح في قيمتهما

الغذائية. لنرى الآن أحسن شكل لاستعمال القمح. إن الدقيق الأبيض المطحون في

الطاحونات الذي يباع في أسواقنا غير نافع لخلوه من كل مادة مغذية. وقد قال

دكتور إنكليزي إن كلبًا كان يطعم من هذا الدقيق وحده فمات بعد زمن بينما الكلاب

الأخرى التي كانت تأكل من دقيق أحسن منه قد عاشت صحيحة صحة تامة. إن

إقبال الناس عامة بهذه الرغبة الشديدة على خبز هذا الدقيق ليس إلا لأنهم يأكلون

للاستمتاع ولا يبالون بالصحة مطلقًا. إن هذا النوع من الخبز لا يكون فيه أي طعام

ولا تبقى فيه أي مادة من المواد الغذائية. ثم فوق هذا لا تكون خبزته لينة بل كثيرًا

ما تتطلب التنظيف في الرحى ذات الأسنان في البيت. فيستعمل بدون التصفية

المزيدة. ويكون خبزه حلوًا جدًّا ولينًا للغاية. وهو يبقى أكثر مما يبقى دقيق

الطاحونة؛ لأنه يحتوي على المواد الغذائية أكثر منه ويمكن استعماله في كمية أقل

منه.

إن الأرغفة التي تباع في الأسواق لا فائدة منها أصلاً فهي قد تكون بيضاء

جميلة. لكنها دائماً مغشوش ما فيها. وأقبح ما فيها أنها تصنع من العجين المخمر

الذي قال عنه كثير من الناس بعد التجربة أنه مضر بالصحة. ثم إنها فوق هذا

تصنع في الأفران المطلية بالشحم، وهذا هو مما لا يوافق عواطف الهندوس

والمسلمين على السواء. إن شحن البطن بهذه الأرغفة من السوق عوضًا من خبز

الخبز الجيد في البيت لدليل كبير على الكسل.

ولاستعمال القمح طريقة سهلة غير هذه الطريقة، وهي أن يجرش القمح ثم

يطبخ ويخلط عليه اللبن والسكر. إن هذا يهيئ طعامًا لذيذًا صحيحًا.

إن الرز غذاء غير نافع بالمرة. ومما يرتاب فيه هو هل يمكن للإنسان أن

يعيش بالرز وحده بدون أن يزيد معه الأشياء المغذية كالعدس واللبن، خلافًا للقمح

الذي يمكن الاقتصار عليه وحده حين يغليه في الماء.

نحن نأكل البقول لطعمها فقط، وبما أنها تحتوي على المواد الملينة المسهلة

فهي تساعد في تنظيف الدم إلى حد ما. ولكنها مع ذلك ليست إلا الحشيش في شكل

آخر وعسرة جدًّا في الهضم. أما الذين يكثرون استعمالها فتضعف أبدانهم ويشكون

في أكثر الأحيان سوء الهضم. ويبحثون دائمًا عن العقاقير والمسحوقات الهاضمة.

فعلى هذا إن كان لا بد من استعمالها فيجب الاعتدال فيه.

إن أنواع العدس كلها عسرة الهضم وكل ما فيها من الجودة هو أن الذين

يأكلونها لا يجوعون وقتًا طويلاً ولكنهم في الأكثر يصابون بسوء الهضم. نعم ربما

يستطيع هضمها الذين يشتغلون بالأشغال المتعبة، بل ربما يستفيدون منها بعض

الفائدة، ولكن نحن الذين نعيش عيشة الجلوس والكسل يجب أن نحترس كثيرًا في

أكله.

إن الكاتب الإنكليزي الشهير الدكتور هيج hig يقول لنا على أساس التجارب

المتوالية بأن أنواع العدس كلها مضرة بالصحة؛ لأنها تولد في الجسم الأيسيد aced

الذي يسبب أمراضًا مختلفة ويجلب الشيخوخة قبل أوانها. ولا حاجة إلى سوق

دلائله هنا، فإني متأكد بصحة تجربتي الشخصية، وعلى كل حال فالذين لا

يستطيعون، أو لا يريدون الاجتناب التام عن العدس يجب عليهم أن يأكلوه

باحتراس كبير.

إن البهارات والتوابل شائعة في الهند شيوعًا عظيمًا، خلافًا لسائر العالم،

حتى إن السود من أفريقيا ينفرون من توابلنا، ويرفضون أن يأكلوا طعامنا المخلوط

بالبهارات والبيض لأنهم إذا أكلوا التوابل تفسد معدهم، وتظهر البثور على وجوههم،

كما أني وجدت ذلك بتجربتي الشخصية. والحقيقة أن التوابل ليست لذيذة في

ذاتها في حال من الأحوال، ولكنا قد ألفناها من زمن طويل فيروق لنا طعمها

ورائحتها. وهي مهما تكن لذيذة فإن من الخطأ الفاحش كما قد قررنا آنفًا، أن

نرغب بكل شيء لمجرد طعمه ولذته.

لماذا انتشرت هذه البهارات والتوابل بيننا هذا الانتشار الكبير؟ لا شك أن

السبب الوحيد هو الاستعانة بها على هضم الطعام لنستطيع الإكثار من الأكل، إن

في الفلفل والكزبرة والكمون وغيرها من التوابل قوة كاذبة للإعانة على الهضم

وإيجاد نوع من الجوع الكاذب. ولكن من الخطأ أن يظن المرء من هذا بأن الطعام

كله قد انهضم وتحلل في الجسم. إن الذين يكثرون أكل التوابل يصابون أحيانًا بفقر

الدم وكذلك بالإسهال. إني أعرف رجلاً قد مات في عنفوان شبابه لإكثاره من أكل

الفلفل الأحمر كثرة زائدة. ولذلك يتحتم اجتناب جميع أنواع التوابل بلا استثناء.

كل ما قيل في البهارات يقال في الملح! قد يغضب كثير من الناس لهذا القول.

ولكنه حقيقة قد ثبتت بالتجربة. إن هناك في إنكلترا مذهبًا يجزم بأن الملح أضر

بالصحة من أكثر البهارات. ثم إننا في الحقيقة لا نحتاج إلى الملح الخارجي؛ لأنه

يوجد منه قدر كاف في تركيب النباتات التي نأكلها. إن أمّنا الطبيعة قد أودعت فيها

من الملح القدر الكافي الضروري لبقاء صحتنا. أما الملح الزائد الذي نستعمله فوق

ذلك فلا فائدة فيه أصلاً. بل يخرج كله من الجسم في صورة العرق أو بأشكال

أخرى. وليس جزء من أجزائه يعمل عملاً نافعًا في الجسم على ما يظهره، حتى إنه

قال أحد الكتاب بأن الملح يسمم الدم، وإن الذي لا يأكل الملح مطلقًا يظل دمه

نظيفًا إلى حد أنه لا يؤثر عليه سم الثعبان إذا لدغه. لا نعرف هل هذا حقيقة أم لا؟

ولكننا تيقنا بالتجربة بأن المصابين بالبواسير وضيق النفس إذا تركوا الملح بتاتًا

يستفيدون فائدة ظاهرة. ثم إني ما رأيت ولا واحدًا من الناس تضرر بسبب تركه

الملح، وقد تركته بنفسي من سنين فلم أتضرر بذلك، بل قد استفدت من بعض

الجهات فأنا لا أشرب الآن الماء بكثرة مثل ما كنت أفعل أولاً، وأراني أنشط

وأقوى من ذي قبل. إن سبب هجراني الملح كان عجيبًا جدًّا، وكان ذلك لمرض

شخص [4] قد أمره الطبيب بترك الملح فتركه مكرهًا فخف مرضه، ولكنه لم يزل

تمامًا لأنه عاد إلى الملح مع أنه لو هجره بتاتًا لشفي على ما أعتقد.

إن الذين يتركون الملح، يتركون معه النباتات والعدس أيضًا، نعم هذا أمر

صعب جدًّا كما قد علمت بالتجارب الكثيرة، وإني متأكد بأن الخضراوات والعدس

لا يمكن هضمها تمامًا بدون الملح، وليس معناه أن الملح يصلح قوة الهضم في نفس

الأمر، بل إنما يبدأ بفعل ذلك كما يبدأ الفلفل، وهو مع ذلك يجر إلى النتائج السيئة

في الآخر، لا شك أن الذي يترك الملح بتاتاً يشعر بفتور واسترخاء بضعة أيام،

ولكنه إن ظل ثابتًا في إرادته يستفيد فائدة كبيرة جدًا.

وها أنا ذا أتجرأ الآن على عدّ اللبن أيضا من الأشياء التي يجب تركها! أقول

ذلك عن تجربتي الشخصية التي لا احتياج إلى سردها هنا بتفاصيلها. إن الفكرة

العامة بين الهندوس عن قيمة اللبن فكرة دينية [5] باطلة، ولكنها قد رسخت

أصولها في النفوس حتى إنه ربما كان عبثًا أن نتفكر في قلعها، ولكني كما قد

صرحت أكثر من مرة بأني لا أنتظر من قرائي أنهم يقبلون جميع أفكاري بل لا

أعتقد أن جميع الذين يوافقونني فيها عقليًّا يعملون بها عمليًّا. ولكن مع ذلك أرى أنه

واجب عليّ أن أقول ما أعتقده حقًّا تاركًا لقرائي الحكم. قال كثير من الأطباء أن

اللبن يسبب نوعًا من الحمى، وقد ألفت كتب كثيرة في تأييد هذا الرأي. إن جراثيم

الأمراض التي تعيش في الهواء تمتزج بسرعة وسهولة في اللبن فتدخله وتسممه.

وكذلك تصعب جدًّا المحافظة على اللبن طاهرًا نظيفًا.

وقد وضعت في أفريقيا الجنوبية قوانين متقنة في شأن الملابن مبينة طرق غلي

اللبن والمحافظة عليه، وكيفية تنظيف الأواني وغير ذلك. فما دام اللبن يتطلب هذا

التعب الكبير والاحتياط الشديد، فلا ريب أنه يجب التفكر مليًّا في مسألة استعماله

كمادة من المواد الغذائية.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

إن المرة الواحدة لتؤثر هذا التأثير إلا في بعض الأشخاص، فكان يكفي أن يقول: تعودوها فنصدق على مثله من باب قول بعض الفقهاء: العادة تثبت بالمرة، وأنا أقول: إن المرة الواحدة التي جربت بها دخان التبغ في الصغر هي التي صدتني عن الثانية ' وأما الشاي والقهوة فإن شربهما مرارًا كثيرة في كل سنة لم يجعله عادة يصعب عليّ أن أعيش بدونهما فقد تمر أشهر كثيرة لا أشربهما فيها وسبب ذلك أني أشربهما تداويًا أو تغذيًّا في الأكثر لا لأجل تأثيرهما في العصب من غير توقيت إلا ما يكون من شرب الشاي مع طعام الصباح في غير أيام الصيف، وقلما أشربه في

الصيف.

(2)

المنار: يوجد بعض الأزهار الخالية من مثل المواد السامة التي توجد في الشاي والقهوة ولا تخلو من تفريح كالزيزفون وهي هاضمة وبعضها أنفع من القهوة للصدر وهي كثيرة ومنها البابونخ المشهور.

(3)

المنار: يريد بالثمار ما يشمل الحبوب والفاكهة وكذا البقول أي الأغذية النباتية والثمر في أصل اللغة الحمل الذي يخرجه الشجر وجمعه ثمار.

(4)

قد سألنا مهاتما غاندي عن هذا الشخص فأخبرنا أنه زوجته وحكى لنا حكاية مرضها، وقد سردناها في مقدمتنا على هذا الكتاب (المترجم) .

(5)

الهندوس يقدسون البقر ويقدسون لبنها (المترجم) .

ص: 144

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رجال الدين في أمريكا

يعارضون عقد معاهدة مع أمة غير مسيحية

لتعتبر جريدة السياسة، وجمعية الملاحدة بمصر

صرح السناتور بوراه رئيس لجنة العلائق الأجنبية في مجلس الأمة الأمريكي

بعدم موافقته على طلب المائة والعشرة من أساقفة الكنيسة الإبسكوبالية الذين

اقترحوا على المجلس رفض معاهدة لوزان قائلين: إن الرأي الأمريكي العام

معارض لاستئناف علائق ولائية مع أمة غير مسيحية، وقد كتب السناتور بوراه

إلى الأسقف (مانين) كبير أساقفة الكنيسة المشار إليها كتابًا تولت جريدة (البيان)

الأمريكية الغراء تعريبه فيما يلي:

(أعترف مع الشكر بوصول الاحتجاج المذيل بتوقيعك وتواقيع 109 أساقفة

آخرين ضد الموافقة على معاهدة لوزان التي حسبما أعتقد سوف تطرح للبحث

والنظر قريبًا وأنا أشعر بوجوب بذل الجهد لجعل إجازتها أمرًا مقررًا ومعلوم أن

هنالك أسبابًا عديدة مهمة توجب إجازة تلك المعاهدة حسبما يبدو لي. ولكني لو كنت

طالبًا آراء الآخرين في شأنها لكان من الواجب عليّ إبداء مزيد الاحترام لآراء

الأمريكيين المقيمين في تركيا ولهم فيها مصالح مختلفة قبل غيرهم. فهم بجملتهم

حسبما علمت يشيرون بوجوب إجازة تلك المعاهدة.

إن مصالحنا الدينية والتهذيبية والتجارية كلها متحدة ومجمعة على إجازة

معاهدة مع تركيا علمًا منهم بأنها ضرورية لحمايتهم، وما أورده من هذا القبيل هو

من البراهين التي لا ترد ولا تدفع. ولست أرى من الحكمة أو العدل على جانب

الحكومة أن تهمل هؤلاء الناس وما لهم من المصالح المختلفة بدون معاهدة تحميهم،

أو بدون علائق ودية ومعاملات ولائية تتولد كما لا يخفي عن مثل تلك المعاهدة

وتتأيد بها.

ومما هو جدير بالذكر بهذه المناسبة أن كل الدول العظمى في العالم قد

عقدت معاهدات مع تركيا، والمعاهدة الأمريكية التي هي الآن رهن النظر سوف

تعمل على حماية مصالحنا الدينية والتهذيبية والتجارية أسوة ببقية الدول الأخرى،

فلا يكون مجال للقول بأن مصالح الولايات المتحدة غير محمية، أو غير حاصلة

على العناية التي نالتها مصالح الأمم الأخرى. ويكون من الحماقة أن نقف وحدنا

ونأبى عقد معاهدة لأننا لم نحصل على شروط أفضل من التي حصلت عليها بقية

الأمم فإذا فعلنا ذلك نعرض مصالحنا في كل تركيا للأخطار.

وإذا قيل إن من الواجب الحصول على معاهدة أفضل من هذه أقول: إن

هذه المعاهدة هي أفضل ما نستطيع الحصول عليه في هذا الحين. فإذا نفذناها الآن

تكون حسبما أعتقد وسيلة للحصول على أحسن منها في المستقبل. وأما قطع

العلائق بالكلية فلا يكون منه نفع. ذلك فضلاً عن أن كل ما احتوته هذه المعاهدة

موافق لنا مؤيد لمصالحنا. وفي رأيي أننا في قبولنا هذه المعاهدة لا نوافق على

الماضي. ولا نجازف بالمستقبل.

وفي احتجاجكم تقولون بعدم استئناف علاقتنا الولائية مع دول غير مسيحية

وغير تائبة؟ فإنا يا حضرة الأسقف مانين أستحسن أن تعمد حكومتنا إلى إيجاد هذه

العلائق الولائية مع كل الدول وكل الشعوب، لأنه برفضنا العلائق الولائية مع

جميع الشعوب التي ترفض المسيحية. لا تكون حكومتنا تجري على خطة غير

معقولة فقط. بل حسبما أعتقد أنها تكون تهمل الغرض العظيم من مفاد المسيحية في

الشؤون الدولية، ألا وهو إيجاد علائق ولائية ليس فقط مع الدول المسيحية الأخرى

بل بالأحرى مع غير المسيحية منها ذلك لكي ندنيها إلينا بحيث تتماسّ مع التعاليم

المسيحية.

ثم هل يمكننا القيام بخدمة فعلية لأتباعنا في تركيا؟ أو هل نتوقع التمكن من

التأثير على تكييف السياسة على أنموذج إنساني أو سياق ديني في ذلك الإقليم

الخصوصي من العالم إذا نحن قطعنا العلائق مع ذلك الشعب وابتعدنا عن كل ما

يسهّل لنا سبل التأثير النافع على شؤونه؟ وأنت تلفت نظري أيضًا إلى المذابح

التركية. فكلنا نعرف هذه الأمور جيدًا ونأسف لوقوعها، ونرغب في إزالتها أو

تلطيفها في المستقبل على قدر الإمكان، ولكن كيف يتسنى ذلك لنا. بل كيف نتمكن

من إيجاد تأثير إنساني فعال لبلوغ ذلك القصد؟

أنا لا أعرف سوى طريقتين وهما: إما قوة السلاح - وهو أمر أرفضه بتاتًا

أو التوصل إلى ذلك عن طريق الصداقة والموالاة والنفوذ الأدبي. ثم هل أفهم من

كتابكم مع المائة والتسعة أساقفة أنكم ترغبون في إنشاء وطن قومي للأرمن في تركيا

وحماية ذلك الوطن بقوة السلاح؟ وهل تريدون من الحكومة الأمريكية استخدام

الجيش والأسطول لإيجاد ما ترومونه من الصلاح والعدالة؟ أريد أن أعتقد بأنكم لستم

راغبين في شيء من ذلك. فالطريقة الوحيدة إذن هي يجاد علائق ودية بالمعاهدة

تخولنا حق البحث واستخدام وسائل الإقناع والزعامة الأدبية في ذلك السبيل.

أما قطع المعاهدات والعلائق السياسية الولائية فإنه يعرض أتباعنا هناك

للخطر الكبير ويضر بمصالحهم، فلا نعود قادرين على مساعدتهم بغير القليل الذي

نتمكن من القيام به حينًا بعد آخر وعند سنوح الفرصة. ولست أعتقد بأن التركي قد

تغير عما كان عليه بالكلية أو انقلب بطنًا لظهر بين ليلة وضحاها، ذلك لأن الشعوب

لا تتغير كذلك، ولكننا نخطئ كثيرًا إذا أنكرنا التقدم والرقي وغير ذلك

من التطورات التي طرأت على تركيا والبادية في سائر أنحائها اليوم.

إن الشعوب والدول تنزع عنها خصالها وتقاليدها ببطء كما يدل على ذلك

المظهر المخيف البادي في أعمال الدول المسيحية التي من يوم تعلمت تلك الأمثولة

القاسية في الحرب العامة لا تزال مصممة على استخدام القوة بل لا تزال تخصص

الملايين بعد الملايين لكي تبتدع وسائل قتالة وأدوات مدمرة تبغي بها إهلاك

الشعوب المسيحية الأخرى وتدمير عمرانها، وغير خاف أن الحرب العامة لم تكن

بوجه من الوجوه أفضل ما يمكن إيجاده من الأمثولات النافعة لغير المسيحيين من

شعوب العالم (بل بالحري كانت أمثولة رديئة) .

وأعيد ما قد سبقت فقلته وهو أني أظن أن من باب الحكمة والدراية على

جانبنا أن نسعى في إيجاد علائق ولائية وتجارية مع كل الحكومات والشعوب.

وبعملنا هذا لست أقول إننا نكون موافقين على شكل تلك الحكومات أو على

نظرياتهم من حيث طريقة تمدينهم أو ما يفهمونه من حيث واجباتهم الاجتماعية

وعلائقهم أو استحسان تاريخهم الماضي. بل أظن أننا في الجري على هذه الخطة

نكون نسعى في إيجاد الأساس الحقيقي الوحيد للسلام، ووضع الدعائم التي على

مثلها يجب أن يشيد بناء السلم المشمخر الذرى.

وأزيد على ذلك ما أعرفه من أنه لا توجد طريقة أخرى - ما عدا طريقة القوة

القاهرة - بها نتمكن من الاحتفاظ بمهابتنا ومقامنا الدولي والاحتفاظ بقوتنا بين الأمم

حسبما ينبغي، فخلنا إذن نستخدم الطرق الفعالة الوحيدة العاملة للسلام المؤيدة

للأشياء التي بها نتمكن في المستقبل من تغيير ما نريد تغييره.

_________

ص: 157

الكاتب: عبد الرحمن قراعة

‌علماء مصر يؤيدون مذهب السلف الصالح

فتوى صاحبَي الفضيلة

الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية

في زيارة القبور والموسيقى وشرب الدخان

أرسل صاحب الجلالة عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز وسلطان نجد

وملحقاتها برقية إلى الحكومة المصرية يبسط فيها القول في حكم الشرع في المسائل

الثلاث المتقدمة وغيرها بسبب ما أذاعه دعاة السوء والتفرقة بين شعوب المسلمين

من أن حكومة جلالته في الحجاز ستمنع كذا وكذا، فسألت الحكومة المصرية حكومة

جلالته عما يريد أن يتخذه من الإجراءات مما يتعلق بالحجاج والمحمل على الأخص

فورد عليها جواب جلالته بالبرق وهذا ملخصه كما نشرته جرائد القاهرة قالت:

أما البرقية فطويلة وقد استهل الملك ابن السعود برقيته بشكر الحكومة

المصرية وجلالة ملك مصر وامتداحهما على ما بذلوه من المساعدة للحجاز وأهله ثم

قال: إنهم (أي حكومة مصر وملكها) ذخر الإسلام ولذلك فإنه يرجو أن يكونوا عونًا

له في إقامة ما أمر به كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وتكلم عن حالة الأمن واستتبابه في البلاد الحجازية وعدم وجود ما يخشى منه

على سلامة الحجاج وذكر أنه يقابل المحمل وركب المحمل على الرحب والسعة

ويرحب بهم الترحيب اللائق بمقامهم وبمصر وبأهل مصر وبملك مصر ويسمح

بدخول البعثات الطبية كلها.

وذكر أنهم لا يتعرضون لعقائد الناس ولا يتدخلون في معتقداتهم ولكنهم

يمنعون ما لا يقره الدين. وقال: إنهم لا يمنعون أحدًا من زيارة القبور ولكنهم لا

يسمحون بالغلو في ذلك مثل التمسح وتقبيل العتبة والحوائط، فإن الطواف لا يكون

إلا ببيت الله الحرام فقط (أي الكعبة) وقد نهى الأئمة والسلف الصالح عن الطواف

بالقبور.

وتكلم عن الموسيقى والدخان، وذكر أنه يلفت نظر الحكومة المصرية إلى ما

سيذكره في شأنهما ويرجو الموافقة عليه حفاظًا لأواصر الصداقة والود.

وقال عن الموسيقى: إنها ولو كانت مسلية للجند ومنظمة لسيرهم فإنها تلهي

عن ذكر الله في البلاد التي أوجدها الله لذكره. وقال: إنه يقبل مجيئها لغاية جدة فقط

لأن فريقًا كبيرًا من أهل نجد وغيرهم يعدها من الملاهي التي لا يصح استعمالها لا

سيما في أوقات العبادة.

وقال عن الدخان: إنه شجرة خبيثة: يجب أن تطهر منها البلاد المقدسة التي لا

يحرق فيها إلا العود والند والمسك. وذكر أنه منع شرب الدخان جهرًا.

ولما وصل الكتاب إلى وزارة الداخلية المصرية أحالته على صاحبي الفضيلة

شيخ الجامع الأزهر والمفتي؛ لأن ذلك من شأنهما فكان جوابهما ما نصه:

علم ما جاء بخطاب سعادتكم رقم 10 مايو سنة 1926 نمرة 91 إدارة

المرافق له صورة من التلغراف المرسل من حضرة صاحب الجلالة ملك الحجاز

وسلطان نجد لحضرة صاحب الدولة وزير الداخلية بمصر المطلوب به الإفادة عما

تقضي به الشريعة الغراء فيما اشتملت عليه صورة التلغراف من الموضوعات

والإفادة أيضًا عما يتبع في إقامة الحج أو لا في هذا العام مع ما ذكره حضرة صاحب

الجلالة الملك ابن السعود.

وبالنظر فيه وجدنا أن ما يصلح موضعًا للاستفتاء هو ما جاء بالوجهين

السادس والسابع مما يتعلق بزيارة القبور، والموسيقى، والدخان على الوجه

المذكور بتلك الصورة.

فأما ما يتعلق بزيارة القبور فنقول: إنها مندوب إليها شرعًا بقوله صلى الله

عليه وسلم (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) وكان صلى الله عليه وسلم

يزور قبور المسلمين ببقيع الغرقد ويقول (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن

شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لي ولكم العافية) وكان يزور شهداء أحد على رأس

كل حول ويقول (السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) ونقل محشي إمداد

الفتاح عن القهستاني ما نصه: قال في الإحياء: والمستحب في زيارة القبور أن

يقف مستدبر القبلة مستقبلاً وجه الميت وأن يسلم (ولا يمسح القبر ولا يقبله ولا

يمسه) وبين الفقهاء جملة ما يكره عند زيارة القبور ثم أجملوا ذلك بقولهم (وكذا

كل ما لم يعهد من غير فعل السنة) وهي قاعدة كلية ينبغي تطبيقها على أي فعل لم

يعهد في السنة، وقد مثلوا له بالمس والتقبيل، ومعلوم أنه لم يعهد من فعل السنة

الطواف بغير الكعبة.

وأما ما يتعلق بشرب الدخان فنقول: إنه لم يكن موجودًا في عهد النبي صلى

الله عليه وسلم ولا في عهد خلفائه الراشدين ولا الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا

في زمن الأئمة المجتهدين، وإنما حدث في القرون الأخيرة واختلف العلماء فيه

اختلافًا كثيرًا، فمنهم من قال بحرمته عملاً بحديث أحمد المروي عن أم سلمة

رضي الله عنها (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) ، وقال

(إنه إن لم يكن مسكرًا كان مفترًا) وجنحوا مع هذا إلى نهي ولي الأمر عنه،

والقواعد الفقهية تقتضي أن ولي الأمر لو نهى عن مباح لمصلحة دينية حرم -

ومنهم من ذهب إلى أنه مكروه نظرًا لما فيه من الضرر الظاهر للأبدان وإضاعة

الأموال. ومنهم من لا يرى أنه مفتر، فقال بإباحته أخذًا بالقاعدة العامة، وهي أن

الأصل في الأشياء الإباحة أو التوقف. ورد على من قال بالحرمة أو الكراهة بأنهما

حكمان شرعيان لا يثبتان إلا بدليل ولم يوجد. والذي يظهر أن أعدل الأقوال هو

القول بالكراهه فينبغي تركه وعدم الإصرار على تعاطيه، فإن الإصرار على

الصغائر يقلبها كبائر.

وأما الموسيقى فحكمها من جهة الإيقاع والاستماع حكم اللهو واللعب والعبث

وهو الكراهة التحريمية، فإن فقهاءنا نصوا على كراهة كل لهو كالرقص والسخرية

والتصفيق، وضرب الأوتار من الطنبور والبربط والرباب والقانون والمزمار

والصنج والبوق فإنها كلها مكروهة تحريمًا، ولم يستثن من ذلك إلا ضرب الدف

في الأعراس والأعياد الدينية، وإلا ملاعبة الرجل زوجه وتأديبه لفرسه ومناضلته

بقوسه.

هذا ونرى أن تأخذ حكومتنا السنية حرسها الله تعالى بتسهيل أمر الحج على

المسلمين والسلام عليكم ورحمة الله.

مفتي الديار المصرية

...

...

شيخ الجامع الأزهر

إمضاء

...

...

...

... ختم

عبد الرحمن قراعة

...

...

... محمد أبو الفضل

_________

ص: 162

الكاتب: المغربي

‌علاقة الأحياء بالأموات [*]

نحن معشر المسلمين اليوم نزور أمواتنا زيارة غير شرعية، ونطلب منهم

ما لا يجوز طلبه إلا من الله، نعم إن هذا لا يفعله خاصتنا وعلماؤنا وأهل الفضل

فينا، ولكن يفعله عامة المسلمين الذين هم إخواننا من رجال ونساء، وهؤلاء العامة

هم ثلث الأمة الإسلامية على أقل تقدير، فهل يجوز لولاة أمورها وخاصة علماءها أن

يروا مائة مليون مسلم ومسلمة على غير الحق والهدى في هذه الزيارة ثم يهملوهم

من الوعظ والإرشاد؟

ألسنا نراهم يطلبون من الأموات أن ينفعوهم ويضروا غيرهم؟ ألا يطلبون

منهم العافية والرزق وأن يُشفى مريضهم ويقهر عدوهم ويرد ضائعهم مما لا يصح

طلبه إلا من الله تعالى؟ تقول: وهل يفعل المسلمون ذلك؟ أقول: نعم، زر السيد

البدوي في طنطا وأبا العباس المرسي في الإسكندرية، والجيلاني في بغداد،

وعبد السلام بن مشيش في مراكش تعلم صحة قولي.

مع أن السلف الصالح رضوان الله عليهم كانوا يزورون الأموات ويدعون لهم

ولا يكلفونهم قط ما ليس من وظائفهم. وهذا نبينا وقرة أعيننا وبرد أكبادنا محمد

صلى الله عليه وسلم لم يطلب من جده إسماعيل ولا من جده الأكبر إبراهيم الخليل

مطلبًا ما. وإنما كان يطلب من الخالق الحي سبحانه وتعالى مباشرة من دون واسطة.

أفبعدما أدَّبنا ربنا بقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) مقال لقائل؟

ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)

وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم

فيقول (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ

) ثم يدعو الله وينصرف، وهكذا كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

إن مطالب الإنسان قسمان: قسم من أمور الدنيا جعل الله البشر أنفسهم سببًا

في الحصول عليه فيطلب من البشر: كأن تحتاج إلى قرض فتطلبه من صديقك

الغني أو وظيفة فتطلبها من الوالي، وناظر الداخلية، أو زوجة فتطلبها من وليها

الشرعي في نظير مهر، فإذا لم تطلب هذه المطالب من أربابها، ولم تتوسل إليها

بأسبابها، وإنما تركت الأسباب جانبًا وطلبتها من الله فضلاً عن الأموات لم يقبل الله

ذلك منك؛ لأنك خالفت أمره ودابرت سننه التي بنى حركة الكائنات عليها.

وقسم من المطالب الدنيوية لم يجعل الله له أسبابًا تدخل تحت مقدور البشر، فهذه

المطالب إنما تطلب من الله مباشرة خالق الكل ومفيض الخير على الكل.

وهذه المطالب كتيسير أسباب الرزق والعافية والتوفيق للخير، وكممارسة

الفضائل، والصرف عن الشر ومقارفة الرذائل، وجعل عمرنا طويلاً، وحياتنا

طيبة، وتخفيف سكرات الموت، ودخول الجنة، وتبوأ أعلى درجاتها، وأن

يرزقني أولادًا ويجعلهم سعداء في الدارين، وأن يكف عنا شر الأشرار

إلخ

فكل هذا مما لا يصلح طلبه إلا من الخالق الحي، فما المعنى لطلبه إذن من

المخلوق الميت المحتاج إلى رحمة من الله وإلى (دعوة) منك.

أصبح الناشئون اليوم بعد أن درسوا العلوم العصرية الفلسفية يشكون والعياذ

بالله تعالى في الخالق الذي:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

فكيف يمكننا أن نقنعهم بعبادة ما لا يُعد ولا يحصى من الأولياء الأموات؟ لو

كان الأولياء محصورين في عدد مثلاً لهان الأمر وقلنا للمسلمين الزموا هؤلاء،

ولكن في كل قطر بل في كل بلد بل في كل قرية عدد كبير من هؤلاء الآلهة

الصغار؟ وعلى كل مسلم أن يعتقد فيهم كما يعتقد في خالقه تقريبًا.

والمسلمون اليوم محاطون بالأوربيين الأحرار في أفكارهم وآرائهم، بل إن

كثيرين من الأحرار غير الأوربيين يعيشون بيننا وبعضهم من إخواننا وأبنائنا

وأفلاذ أكبادنا فتكليفهم عبادة أولياء مخلوقين لا يدخلون تحت حصر وقولنا لهم: إن

هذا دين يرضاه الله، لنا تكليف لا يقبلونه وربما أدى الأمر أخيرًا إلى شكهم في الله

نفسه تعالى الله وتقدست صفاته وأسماؤه.

فلا جرم أنَّا إذا اجتهدنا في إثبات الألوهية على أسلوب مقنع نكون خدمنا ديننا

الإسلامي خدمة عظيمة، ولندع الآن تكليفهم عبادة الأولياء فقد كثروا وتراكموا،

والأثقال إذا تراكمت على ظهر الدابة بحيث لم تعد تقدر على حملها تساقطت بنفسها.

وأرى أن مزاعمنا في هؤلاء الأولياء الكثيرين زادت على طاقتنا فلم تعد تطيق

حملها ظهورنا.

لما كنت نزيل القطر المصري ذهبت من القاهرة إلى مدينة طنطا لزيارة

(السيد البدوي) رضي الله عنه، وقد رأيت من جماهير الزائرين ما أنكرته

واستبشعته، فرجعت إلى القاهرة، وكتبت في المؤيد مقالاً بهذا الموضوع منكرًا

محذرًا. وبعد أيام ذهبت إلى دار المرحوم (أحمد بك الحسيني) وكان عنده جماعة

من علماء الأزهر، فجرى ذكر زيارتي للبدوي وما كتبته في المُؤيد بشأنها فأيدني

قوم وخذلني آخرون، وكان أشدهم حملة عليّ وتقبيحًا لقولي أستاذ يقال له (الشيخ

مدوخ) وهو شيخ مبارك طيب القلب سليم النية، أحسن الله جزاءه، فقلت له:

ياحضرة (الشيخ مدوخ) إنما أريد فيما كتبته في المؤيد تصحيح عقائد إخواننا العامة

فلا يشركوا مع الله أحدًا ولا يصبح ديننا بسببهم مضغة في أفواه الإفرنج، فيقولوا عنا

إننا وثنيون ونعبد آلهة كثيرة فلا يعود يسهل علينا بعد ذلك نشر ديننا في العالم، بل

إن طعنهم فينا على هذه الصورة يغري بنا دولهم فيستولوا علينا ويمحونا من العالم

بداعي أننا فاسدون مفسدون. أنت وإخوانك العلماء تعرفون كيف تزورون الزيارة

الشرعية، ولكن لا تكونون ناجين من التبعة فتهملوا تعليم إخوانكم العامة المساكين

وأرشادهم، ألستم أنتم ورثة الأنبياء قد ورثتم محمدًا صلى الله عليه وسلم في

تعليم أمته الدين؟ وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لبث في مكة قبل الهجرة

نحو عشر سنوات يعلم الناس فقط أن لا يدعوا مع الله أحداً. فليقض كل واحد

منكم سنة واحدة على الأقل في تعليم المسلمين الزيارة الشرعية فلا يدعوا مع

الله أحدًا.

علموهم أن زيارة الأموات والأولياء لأجل الاتعاظ والاعتبار فيرجعوا عن

الشرور، ولأجل تذكر مناقب الولي العظيم فيقتدوا بها، هذا هو المقصود من زيارة

الميت في الشرع، فكيف ساغ لزائري قبر السيد البدوي أن يطلبوا منه ما لا يطلب

إلا من الله، ولعمري إن صنيعهم هذا لا يرضي الله ولا السيد البدوي نفسه.

فاغتاظ مولانا (الشيخ مدوخ) وقال بحدة: إني أخاف عليك يا هذا أن يبطش

بك السيد البدوي. فعجبت لقوله، وعجبت للحاضرين قائلاً: أصحيح أن السيد

يبطش بشخص لم يعمل إلا ما كان هو نفسه في حياته يعمله من وعظ العامة

وإرشادهم وحملهم على التمسك بآداب الدين وفضائل الإسلام؟ فتأثر الحاضرون من

قولي. ثم انفض المجلس وذهبت إلى بيتي، وأويت إلى فراشي ونفسي تهجس بما

كان من الحديث بيني وبين (الشيخ مدوخ) وقوله لي: إن السيد سوف يبطش بي.

ثم نمت فرأيت فيما يرى النائم كأني في دار السيد أحمد بك الحسيني وعنده خلق

كثيرون، وفي صدر المجلس شيخ جليل كأنما القمر يتلألأ في وجهه. قيل لي: إنه

السيد أحمد البدوي. فخطر ببالي للحال (الشيخ مدوخ) وأنه لا بد أن يكون حكي له

خبري معه، وكان الأمر كما قدرت، فإن السيد ما وقع نظره علي حتى تبسم وهز

رأسه كالمعاتب اللائم. فأسرعت إليه وانكببت على يديه أشمهما وأقبلهما. وجعلت

أحلف بالله وبجده صلى الله عليه وسلم [1] أني لم أتفوه بكلمة تمس مقامه الكريم

(وأن الشيخ مدوخ) بلغه خلاف الحقيقة، وأن حضرات علماء الأزهر الذين كانوا

حاضرين في المجلس مثل الشيخ بخيت والشيخ البيجرمي والشيخ سليمان العبد

يشهدون بصحه قولي، ثم قلت له بإخلاص واحترام: لا أظنك أيها السيد ترضي أن

ينزلك عامة المسلمين منزلة الرب إلهك، إنني يا سيدي أحبك ولكن أحب الحق

أكثر منك. وأحترمك ولكن أحترم ديني أشد من احترامي لك. أزور قبرك وأذكر

مناقبك وأتعظ بموتك، وأقرأ الفاتحة وأبعث بثوابها هدية إلى روحك الطاهرة [2]

ولكن لا أطلب منك نفعًا في مقابل هذه الهدية التي أرسلتها إليك؛ لأن إعطاء الهدية

بمقابل مخالف للآداب الإسلامية، والسجايا العربية.

أنك يا سيدي لو سمعت من زائريك استغاثاتهم، وابتهالاتهم، وتكاليفهم لك

بتفريج كرباتهم وقضاء حاجاتهم، مقتّهم وعذرتني، إنهم يا سيدي يعتقدون في

أحجار قبرك وفي الأستار الملقاة على ضريحك تأثير الحب والبغض، والشفاء

والمرض، والغنى والفقر، والنفع والضر.

فتغير وجه السيد وجعل يلحظ (الشيخ مدوخ) شزرًا، فانبسطت أنا حينئذ

بعد الانقباض وتفتحت في الكلام فقلت: إن عبد الله بن سبأ اعتقد في جدك أمير

المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب أن فيه شائبة ألوهية فنفاه إلى مصر ثم إلى

المدائن، فما كنت أنت صانعًا في هؤلاء الذين يعتقدون فيك ما يعتقدون في الرب

معبودك؟ فقطّب السيد وزوى حاجبيه وقال: لو أطلقت يدي فيهم لنفذت عليهم

حكم الشرع، ثم التفت السيد رضي الله عنه إلى السادة العلماء وقال لهم عجبًا:

كيف تسربت هذه الضلالات إلى العامة وأنتم فيهم؟ ثم كيف تغافلتم عنهم حتى

خرجوا في الاعتقاد فينا وفي زيارتنا عن حدود السنة وآداب الشريعة؟ وكيف

تلاهيتم عنهم فجعلوا ينسبون إليّ من الأعمال ما لا يصح ويعملون في مولدي من

الآثام ما لا يجوز؟ لماذا لم تفهموهم أن طريقتنا نحن معاشر الأولياء هي الكتاب

والسنة، وأن الذي يرضينا منهم إنما هو العمل بأحكام الشريعة كما كنا نعمل في

حياتنا.

ثم التفت السيد البدوي إلى شاب حسن الطلعة قاعد في طرف المجلس وقال له

قم يا بني فاقرأ على الحاضرين ما ألقيته عليك وعلى رفاقك المريدين في هذا

الصباح، فقلت لمن بجانبي ومن هذا الشاب؟ قال هو عبد العال أكبر تلامذة السيد

البدوي، فأخرج الشاب من جيبه كراسة فقلب فيها ثم قرأ بصوت جهوري ما يلي:

(يا عبد العال أشفق على اليتيم، واكس العريان، وأطعم الجيعان، وأكرم

الغريب والضيفان عسى أن تكون عند الله من المقبولين) .

(يا عبد العال: أحسنكم خلقًا أكثركم إيمانًا بالله تعالى، وإن الخلق السيئ يفسد

العمل الصالح كما يفسد الخل العسل) .

(يا عبد العال: هذه طريقتا مبنية على الكتاب والسنة، والصدق والصفا،

وحسن الوفا، وحمل الأذى، حفظ العهود) .

(يا عبد العال: لا تشمت بمصيبة أحد من خلق الله، ولا تنطق بغيبة ولا

نميمة ولا تؤذ من يؤذيك، واعف عمن ظلمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وأعط

من حرمك) .

(يا عبد العال: أتدري من هو الفقير الصادق؟ هو الذي لا يسأل أحدًا،

ويعمل بالكتاب والسنة) .

(يا عبد العال: إن شروط طريقتنا أن لا يكذب المتبع لها، ولا يأتي بفاحشة

وأن يكون غاضّ البصر عن محارم الله، طاهر الذيل عفيف النفس، خائفًا من الله

عاملاً بكتاب الله، ملازمًا للذكر، دائم الفكر) .

(يا عبد العال: من لم يكن عنده علم لم تكن له قيمة في الدنيا، ولا في

الآخرة)

ثم سكت عبد العال وجلس، فالتفت السيد إلى الحاضرين، وقال هذه هي

طريقتنا يا قوم وهذه هي آدابنا وهذا ما نريد من أحبابنا ومريدينا أن يقولوه ويفعلوه،

فمن أين جاءوا في حقنا بهذه الغرائب والعجائب؟ وكيف أنزلونا منزلة الرب خالقنا؟

تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.

عندها نهض (الشيخ مدوخ) وقال بتأثر وانفعال: يا أيها السيد إن المسلمين

الذين يزورونكم إنما يستشفعون بكم إلى ربكم ويتبركون تبركًا بلثم أحجار ضريحكم

ويدعون الله تعالى ثم ينصرفون وليس في فعلهم ما يخالف الشرع ولا آداب السنة

ولا هو مما يسمى عبادة.

فالتفت السيد إلي كأنه يستفهم مني عما قاله (الشيخ مدوخ) فقلت له يا سيدي

يمكنني أن أرد على الشيخ مدوخ بأن العامة الذين يزورون قبور الأنبياء والأولياء

نسمعهم بآذاننا يدعونهم بأسمائهم قائلين افعلوا كذا واصنعوا كذا.

وقد روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من حديث البراء بن عازب رضي

الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الدعاء عبادة) وفي رواية (الدعاء

مخ العبادة) والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة يمكن أن نحتج بها على الشيخ مدوخ

ولكن هو أيضاً يمكنه أن يرد علينا مؤولا تلك الأحاديث، ومفرغًا لها في القالب

الذي يريده، فتحتدم بيننا نار الجدال على غير طائل وربما أدى الأمر أخيرًا إلى

المراء والمماحكة والمهاترة، وهذا لا يليق بمجلسك الكريم. فإن استحسنت ذهبنا

جميعًا إلى طنطا فنزور المقام الأحمدي ترى بعيني رأسك ما يفعله المسلمون حول

قبرك. فقال لقد أحسنت بالرأي أحسن الله إليك بالجنة، وصلنا إلى طنطا ودخلنا

المقام الأحمدي ومعنا (الشيخ مدوخ) فإذا رجل فلاح هرم متمسك بأستار القبر وهو

يبكي ويستغيث ويقول: يا سيدي ويناجي أحجار القبر بكلام غير مفهوم. فأشار إلي

السيد أن أسأله عن قصته فسألته فدفعني في صدري وقال اذهب عني يا شيخ.

فعدت إليه وتلطفت له في السؤال ففهمت منه أن جاره حرق بيدره وذبح بقرته فهو

يطلب من السيد إما الانتقام من الظالم أو التعويض عليه ببيدر آخر وبقرة أخرى.

فاربد وجه السيد عند سماع كلام الفلاح وسكت على مضض. ورأينا رجلاً آخر من

الزائرين يحك ظهره بقفص قبر السيد فقال: إنه وقع على ظهره وهو يسقي زرعه

بالشادوف فجاء يستشفي بقفص السيد.

وهناك امرأة تولول وتذرف الدموع الغزار وتهتف بالسيد. وتطلب منه أن

يهلك ضرتها ويجعل زوجها يطلقها ويحبها هي ويرزقها غلامًا ذكرًا من أهل الحياة

ورأينا رجلاً كهلاً ببنطلون أسود وجاكيت سوداء وطربوش يدعو بالقرب من السيد

ويلحّ إلحاحًا منكرًا. فإذا هو من موظفي الحكومة وقد أحالوه على المعاش فهو يطلب

أن ينظر السيد في حالة ومستقبل عياله. عندها ضاق صدر السيد البدوي، ولم يعد

يطيق الصبر على ما سمع من هذا اللغط والهذيان والتفت إلى (الشيخ مدوخ) قائلاً:

ما هذه المطالب؟ وما هذه التكاليف؟ وما هذه الزيارة التي تقول إنها شرعية؟

وهل نحن الأولياء المستغرقين في جلال ربنا فارغو القلب لقضاء كل هذه اللبانات

والحاجات؟ أليس الله الحي الذي بيده مفاتيح الخير والشر والنفع والضر بأقرب إلى

هؤلاء الشاكين من حبل الوريد؟ فسكت (الشيخ مدوخ) وعليه علائم الحيرة

والارتباك والخجل.

وبينما نحن نسمع كلام الشاكين ودعاء الملحين إذا برجل معمم آخذ بتلابيب

رجل آخر يظهر من قيافته أنه غريب وهما يتنازعان ويتدافعان فسأل السيد: ما

خبرهما؟ فقيل له: إن الأول المعمم مزور يعلم الناس الزيارة ويأخذ منهم أجرة،

وهذا الغريب يقول له: إنه يعرف آداب الزيارة فهو يريد أن يزور بنفسه من دون

معلم وأنه لا يستحل أن يؤدي دراهم تلقى في (صندوق الزيارة) الموضوع في

جانب المقام فقامت قيامة السيد رضي الله عنه وغضب غضبًا شديدًا وقال: يا

سبحان الله. كل هذا يجري على مراقدنا. وفوق رؤوسنا؟ إلى هذا الحد بلغ

الأمر بالمسلمين أن يتخذوا قبورنا حوانيت للتجارة وأجسامنا بضاعة للاستغلال؟

فوق اتخاذهم لها أوثانًا؟ نحن كنا في الحياة الدنيا نعادي المال ولا نجعل أجسامنا تتمتع

به أكلاً ولبسًا وادخارًا أفيجوز أن تُجعل أجسامنا عدوة المال شباكاً للمال،

ووسيلة من وسائل جمع الحطام؟

ثم تراءت لنا من بعيد صحيفة ملقاة في داخل القفص المعدني الذي فيه قبر

السيد فاقتربنا منه وتناولنا الصحيفة وإذا فيها قصيدة [3] غراء بإمضاء مفتي مصر

الشيخ (بكري الصدفي) يشكو إلى السيد البدوي من شيخ الأزهر الشيخ عبد

الرحمن الشربيني ويستعديه عليه ويطلب منه أن يعجل في عزله من وظيفة مشيخة

الأزهر وهي مذيلة بإمضاء رافعها حضرة مفتي مصر المومأ إليه، وهذه هي القصيدة

مع مقدمتها:

(التجاء واستنجاد برجل الفتوة طويل النجاد، وإمام الأولياء، وسراج

الأصفياء، الغوث الأوحد سيدي وولي نعمتي البدوي أحمد دامت إمداداته، وعمت

في الدارين بركاته:

آمين آمين لا أرضي بواحدة

... حتى أضم إليها ألف آمينا

***

أيرضيك يا غوث الورى وإمامهم

غبينة أهل الحق والحق ظاهر

تعدى لئيم القوم وأشتد بغيه

وجاء بكل الحقد وهو يجاهر

أتى بالمعاصي معلنًا، وهو يدعي

مكانة دين قيم، وهو فاجر

وساعده حزب على شكله سعوا

بكل فساد أوضحته الكبائر

فضلوا جميعًا عن طريق رشادنا

وأزهرنا منهم غدا وهو صاغر

فجئنا حماكم نرفع الأمر سيدي

ونطلب دين الله، والله ناصر

وأنتم إمام الأولياء ولا مرا

وأنت غياث الملتجى وهو حائر

إذا كان يا مولاي أزهر ديننا

تدور عليه في الضلال الدوائر

فأين يكون الدين يا سيد الورى

وأين يكون العدل والعدل عاطر؟

فها قد بسطنا بعض شأن نريده

وثم أمور قد حوتها الضمائر

فمنها دخول في البقا وهداية

لأقوم طرق الله وهي المفاخر

وصحة جسم للذين أحبهم

كذلك لي في العز والعمر وافر

ونصر على الأعداء وجاه مؤبد

وفوز مبين دائما يتقاطر

وتيسير ما أرجوه في كل مطلب

وسكنى جنان الخلد حيث الأكابر

ورؤية خير الخلق جهرًا بسرعة

فها قد مضى عمري وقل الناصر

فقل يا طويل الباع: ها قد أجبتكم

بكل الذي ترجون والله جابر

وصل على المختار ربي مسلمًا

كذا آله ما قام بالذكر ذاكر

...

كتبه عبد الإحسان الواقف بالباب الراجي سرعة الجواب

...

...

... بكري محمد عاشور الصدفي

فجعل السيد البدوي يقرأها وجميع بدنه يرتجف من التأثر والانفعال والتفت

إلى (الشيخ مدوخ) فلم يره لأنه كان قد تسلل لواذًا حين رأى الورقة ملقاة في داخل

القفص، وكأنه كان يعلم أن سماحة المفتي هو الذي أرسل من ألقاها ثمة، عندها ضاق

صدر السيد من هذه المناظر المحزنة، والأعمال الممقوتة فتنفس الصعداء وقال:

وأين ولاة أمور المسلمين وعلماء الإسلام العقلاء وذوو الغيرة على الدين؟ لماذا لا

يصلحون هذه الشؤون، ويجتهدون في تقويم اعوجاج العامة ويربون أولادهم تربية

إسلامية قبل أن يتلقحوا من آبائهم بلقاح هذه المنكرات والآثام؟ فما هذه الغفلة؟ وما

هذا الإهمال؟ فقلت يا سيدي: إن كثيرين من المسلمين لا سيما محبيك ومحبي

إخوانك، أهل الله المقربين ينتظرون منكم أنتم إصلاح أحوال الأمة الإسلامية

وجمع ما انتشر من أمرها.

قال: منا نحن؟ قلت نعم!

قال: منا نحن؟ قلت نعم!

قال: وكيف ذلك؟ قلت: إنهم يعتقدون أن الأبدال والأنجاب والأقطاب وسائر

أهل الله لهم مجالس باطنية، واجتماعات برزخية ينظرون فيها في أمور المسلمين

وما يطرأ عليهم من الحوادث فيذللون صعابها ويحلون مشكلاتها ثم أن أهل الظاهر

بعد ذلك - وهم الحكام والأمراء والسلاطين - ينفذون ما أبرمتم وقررتم في عالم

الغيب.

فبهت السيد لما سمع مني هذا الكلام وكاد يغشى عليه من شدة الغيظ والحنق،

ثم قال: ويحكم ومن أخبركم أننا ندبر أموركم ونعمل في مصالحكم ونحن في

مراقدنا؟ وأية سنة أو قرآن أو شريعة أتت بذلك؟ أما قال جدي المصطفى

صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية،

وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له بخير) هذا هو عملنا الذي يصلح أن ينسب

إلينا بعد الموت بشهادة النبي الصادق صلى الله عليه وسلم فكيف تنتظرون منا أن

نعمل في تدبير ممالككم، ونشتغل في قيادة جيوشكم؟

ثم نظر إلىَّ نظر المرتاب في قولي فقلت كلا أيها السيد لا تظنني مغاليًا. فإن

أهل مراكش كانوا يعتمدون في دفع الفرنسيس على روحانية سيدي

(عبد السلام بن مشيش) وأهل بخارى كانوا يثقون كل الوثوق بوليهم المعروف

بـ (منلا غوث الله) ومنه كانوا يستمدون المعونة في دفع غائلة الروس.

قال: ثم بعد ذلك صار ماذا؟ قلت: إن الروس تغلبوا على بخارى ودمجوها

في مستعمراتهم، أما مراكش فلا نعلم ماذا يكون من حالتها إلا بعد انقضاض

مؤتمر الجزيرة المنعقد في هذه الأيام من أجل النظر في مشكلتها وتحديد مناطق

نفوذ الدول الأفرنجية فيها. عندها سمعت السيد يتلو قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ

وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 118) ثم تنهد تنهدًا عميقًا وقال:

يا سبحان الله، إن أعظم حادثة طرأت على المسلمين في صدر الإسلام هي

حادثة الردة، وما سمعنا أن أبا بكر وعمر وسائر الصحابة رضوان الله عليهم

أجمعين انتظروا حل مشكلتها من حضرة نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم

وهو في قبره الشريف، ولم يطلبوا المدد والمعونة من شهداء بدر، ولا شهداء أحد

وهم أفضل الخلق أجمعين، بعد الأنبياء والعشرة المبشرين، وإنما رجع سيدنا أبو

بكر والصحابة في حل مشكلة الردة إلى الله الحي الباقي وإلى العمل بالقرآن

والشريعة فاتحدوا وأجمعوا أمرهم، ثم أقاموا حكم الله في المرتدين فانطفأت فتنتهم،

وانحلت مشكلتهم، وكذلك السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لم ترجع

في وقعة الجمل وحل مشكلة الخلافة إلى زوجها صلى الله عليه وسلم ولا إلى

أبيها أبي بكر بعد موتهمها وهما أفضل الخلق أجمعين. وإنما رجعت إلى اجتهادها

وعزيمتها وشدة عصبية الجيش الذي معها، وكذلك سيدنا علي بن أبي طالب لم

يرجع فيما عرض له من الأمر إلا إلى القرآن والشريعة ومنعة المسلمين وحميتهم.

هذا ما كان يفعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان يطرأ عليهم

من الخطب الجسيم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ثم لم أنشب أن استيقظت من نومي وعدت إلى أشغال يومي.

...

...

...

... دمشق الشام

...

...

...

...

...

... المغربي

_________

(*) تلا هذه المحاضرة منشئها الأستاذ المغربي في قاعة المحاضرات في كلية الصلاحية الإسلامية بالقدس على هيئة إدارتها وطائفة من أساتذتها والجم الغفير من طلبتها وذلك في سنة 1334هـ.

(1)

الحلف بغير الله منهي عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله) رواه النسائي عن ابن عمر.

(2)

هذا ليس من السنة فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله أو يأمر به، بل هو من البدع المحدثة التي كان يجدر بالكاتب إنكارها كغيرها اهـ مصححه.

(3)

هي القصيدة التي أشار إليها الأستاذ صاحب المنار في تعليقه على فعال (الطريقة التيجانية) في الجزء العاشر سنة 1344هـ منه فقد قال: أخبرني الثقة أن أحد كبار علماء الأزهر نظم قصيدة يشكو فيها للسيد البدوي سعاية بعض أعداءه لإغضاب أمير البلاد عليه ويطلب منه إنقاذه من شر هذه السعاية وإرضاء قلب الأمير عليه.

ص: 165

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقدمة مجموعة مقالات

الوهابيون والحجاز

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين،

والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، الذي أكمل الله تعالى

ببعثه الدين، وما أرسله إلا رحمة للعالمين، لينذر من كان حيًّا ويحق القول على

الكافرين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه الهداة المهديين، ومن

تبعهم في هُدى الله وهدي رسوله إلى يوم الدين.

أما بعد، فقد علم من سنة الله تعالى في خلقه، مصداقًا لما بينه الله تعالى في

كتابه أن هداية الرسل للأمم تكون على أكملها فيمن اتبعهم في عصرهم والأعصر

التالية له، وكلما تراخى الزمان ظهر الفسق والعصيان، ونجمت قرون البدع،

وفشا التحريف والتأويل، وكثر ما يكرهه الله سبحانه من القال والقيل.

وقد قصّ الله علينا في كتابه من أخبار الأمم مع رسلهم عامة وأخبار أقربهم

منا في الزمن وهم اليهود والنصارى خاصة ما فيه العبرة والذكرى لنتقي التهوك [1]

فيما تهوكوا فيه قبل أن يقع، ولنكون على بصيرة من ديننا فيه إذا وقع، وقد

علم سبحانه وأعلم رسوله أنه واقع لا محالة؛ لأن سنن الله تعالى مطردة لا تبديل لها

ولا تحويل، وهو صلوات الله وسلامة عليه قد أعلمنا بذلك لنكون على بصيرة من

أمرنا فيه، ولا يلتبس علينا الحق بالباطل كما التبس عليهم، فقال: (لتتبعن سنن من

قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول

الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) رواه الشيخان وغيرهما بألفاظ متقاربة.

وقع ذلك كله حتى عم البلاد الإسلامية، والأكثرون من المسلمين يجهلون ذلك

فهم لا يشعرون أنهم غيروا وبدلوا، وحرفوا وأولوا، وأحدثوا وابتدعوا، وفسقوا

عن أمر ربهم، وأن ما نزل بهم من الذل وضياع الملك، واستيلاء الأجانب على

أكثر بلادهم، عقوبة من الله تعالى على ابتداعهم وفسقهم، كسنته فيمن قبلهم، قال

الله تعالى في أوائل سورة الإسراء {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ

فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا

أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ

وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ

أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ

مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ

لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الإسراء: 4-8) .

وإن كثيراً منهم ليعلمون هذا بالإجمال حتى إن خطباء مساجدهم ليقولون من

أعلى منابرهم: لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه.

وأمثال هذا القول - ثم لا يحمل هذا العلم ولا هذا التصريح به على عمل،

ولا على ترك زلل، بل هم يعادون كل من دعا إلى السنة، ويصرون على ما ألفوا

من البدع الدينية؛ لأنها دخلت عليهم من باب الدين، وفتنوا بمن عمل بها ممن

يلبسون لباس الصالحين، حتى إنهم إذا اعترفوا بأنها بدع قالوا: إنها بدعة حسنة،

خلافًا لقول رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم: (كل محدثة بدعة، وكل

بدعة ضلالة) .

وخلافًا لقول الله عز وجل: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وجهلاً

بكون البدعة التي تنقسم إلى حسنة وسيئة لا تكون في التشريع الديني

والزيادة في العبادات أو التصرف فيها بجعل ما ليس بشعار شعارًا، وإنما تكون

فيما وراء ذلك من الأمور الموكولة إلى اجتهاد الناس من الأعمال والمصالح الدينية

والدنيوية كابتداع آلات للقتال تزيد في قوة الأمة على حفظ دينها ودنياها، الذي يدخل

في عموم قوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال:60) وكتعبيد

الطرق وتسهيل سبل المواصلات للمنافع الدينية والدنيوية المشروعة ولا سيما

طريق الحج بإنشاء السكك الحديدية وأمثالها، وكتأليف الكتب المفيدة في ضبط

لغة الدين (العربية) وغيرها من العلوم الشرعية أو الفنون العلمية النافعة.

ومما خص الله تعالى به هذه الأمة المحمدية أن الكتاب المنزل لهدايتهم من

عند الله تعالى قد نقل بالتواتر القطعي حفظًا في الصدور وكتابة في المصاحف، فلم

يضع ولن يضيع منه كلمة ولا حرف واحد، ولم يتغير ولن يتغير منه لفظ واحد،

وأن السنة المحمدية وسيرة سلف الأمة الصالح قد رويتا بالأسانيد ودونا في الكتب

بعناية يسهل معها التمييز بين الصحيح وغيره متنًا وسندًا، ولولا هذا وذاك لضاع

ديننا كما ضاعت أديان من قبلنا، حتى أقرب الناس منا تاريخًا، فقد طرأ على

كتبهم التحريف بالزيادة والنقصان والتغيير، وفقدت أصولها التي كتبت في عهد من

أوحيت إليهم وليس لشيء منها أسانيد متصلة بهم.

ومما خص الله به هذه الأمة أيضًا أنها لا تجتمع على ضلالة وأنه لا يزال

طائفة منها ظاهرين على الحق، وأن الله تعالى يبعث منها مجددين لأمر الدين، كما

ورد في الأخبار المرفوعة من صحيحة وحسنة ثبتت صحة معانيها بالفعل. وقد

كان انتفاع جماهير المسلمين بهؤلاء المجددين المصلحين يختلف باختلاف أحوالهم

وأحوال أهل عصورهم في العلم والعمل والقوة والضعف في رسوخ التقاليد

والبدع.

وكان من أجِلّتهم في القرون الوسطى قدرًا، وأنبههم ذكرًا، شيخ الإسلام أحمد

تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى فقد آتاه الله من المواهب ما يندر أن يجتمع

لأحد من البشر: سرعة الحفظ وعدم النسيان وقوة الاستحضار، وقوة الاستنباط

وقوة الاستدلال، حفظ القرآن وما روي من تفسيره من الأحاديث المرفوعة وأقوال

الصحابة والتابعين، حفظ كتب السنة وأقوال رجال الجرح والتعديل في أسانيدها،

حفظ ما يروى عن الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار من الآثار في العقائد

والآداب الدينية والأحكام الشرعية، نظر في كتب المذاهب المدونة وأدلتها، فكان

يستحضر ذلك كله عند التأليف أو الإفتاء، قرأ كتب الملل والنحل، ومقالات فرق

الإسلام وكتب المنطق والفلسفة والكلام والتصوف، ثم تصدى بذلك كله للرد على

النصارى وأهل البدع، وألف في ذلك المصنفات الدالة على سعة اطلاعه وقوة

حجته، ووجه جل عنايته لنصر السنة وترجيح مذهب السلف على كل ما خالفه من

أقوال المتكلمين والمتصوفة حتى المنسوبين إلى السنة منهم فلم يدع بدعة ولا قوة

تخالف الكتاب والسنة، ولا سيرة سلف الصالح إلا وبين بطلانها وضلال أهلها،

مميزًا بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والهداية والضلالة، والطاعة

والمعصية، ولم يقتصر في ذلك على تصنيف الرسائل والكتب الممتعة، والفتاوى

المفصلة، بل كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويناظر المخالفين،

ويستتيب المبتدعة والفاسقين، لا يحابي حيًّا ولا ميتًا لكبر شهرته، ولا لكثرة

أتباعه، ولا لضخامة ألقابه، وكان مع هذا كله من أعبد العباد، وأفراد الزهاد،

وقد حل من المشكلات، وكشف من المشبهات وفند من التأويلات، ما عجز عن

مثله فحول العلماء، وضل به كثير من المتكلمين والصوفية والفقهاء.

وقد تلقى عنه وتخرج به كثير من العلماء المحققين في علوم الشرع كلها

أشهرهم وأقربهم منه العلامة ابن القيم صاحب التصانيف التي نالت من القبول فوق

ما ناله كتاب عند الجمهور لأسباب أهمها لين عبارته، وخفة وطأته على المخالفين

ولا سيما بعض أكابر المتكلمين والصوفية.

هذا وقد شهد لشيخ الإسلام أكابر العلماء المنصفين ولا سيما حفاظ الحديث بما

لم يشهدوا به لغيره من أهل عصره حتى اعترفوا له بالاجتهاد المطلق، وتصدى

لعداوته وإيذائه وصده عن نصر السنة وإحياء مذهب السلف الصالح بعض كبار

العلماء الرسميين، المقربين من الملوك والسلاطين، المفتونين بتأويلات المتكلمين

والجامدين على أقوال أمثالهم من مفقهة المقلدين، حتى كان أقوى ما آخذوه به

تفسير الآيات والأحاديث الصحيحة الواردة في صفات الله تعالى وعلوه على خلقه

بما فسرها به علماء السلف حتى أئمة المذاهب المتبعة، وطلبوا من السلطان

استتابته من قراءة هذه الآيات والأحاديث على الناس! ! فأوذي وحبس في هذه

السبيل بما هو معروف في كتب التاريخ، وظل أخلاف أولئك المقلدين الجامدين

يصدون الناس عن كتبه إلى أن أحياها الله تعالى في بلاد نجد بظهور المجدد الداعي

إلى الله تعالى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده وأحفاده وأنصارهم من آل سعود

أمراء نجد في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، ثم في نهضة

الإصلاح الجديدة بمصر والهند وغيرهما من البلاد الإسلامية في عهدنا هذا من

القرن الرابع عشر، فإن كتبه صارت تطبع وتلاقي من الرواج والانتشار عند أولي

الاستقلال في الفهم، والاهتداء بالعلم ما لا يلاقي غيرها في موضوعها إلا كتب

تلميذه ووارث هديه ابن القيم رحمهما الله تعالى.

وكان الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله مجددًا للإسلام في بلاد نجد بإرجاع

أهله عن الشرك والبدع التي فشت فيهم إلى التوحيد والسنة على طريقة شيخ

الإسلام ابن تيمية، وإنما كان نجاحه سريعًا بتأييد آل سعود له ومنعهم إياه ممن

يريده بسوء، وما كان آل سعود أقوى شيوخ عشائر نجد وأمرائها، ولكن الله

نصرهم بنصر دينه، فكان من أمرهم ما كان من فوز وفلاح، ثم من بلاء وامتحان

ثم ما كان من رد الله الكرة لهم في هذه الأيام، ذلك بأن أمراء مكة المفسدين في

الأرض، الملحدين في الحرم، قد تصدوا لمقاومة دعوة الإصلاح والتجديد الوهابية

من بدء ظهورها، فأذاعوا في العالم الإسلامي كله أنها دعوة كفر وابتداع وعداوة

للمسلمين والإسلام، كان مقامهم بمكة المكرمة مسهلاً لهم ذلك وصدقهم أكثر الناس

الذين هم أتباع كل ناعق، وسعوا لحمل الدولة العثمانية على قتال آل سعود وهي

استعانت على ذلك بالدولة المصرية العلوية الجديدة، ولسنا بصدد بيان الماضي هنا

وإنما نحن بصدد بيان عاقبة أمرهم وأمر أمراء مكة المعروفين بالشرفاء.

أما الدولة العثمانية فقد استمرت على معاداة آل سعود زهاء قرن كامل

لاعتقادها أنهم يريدون تأسيس دولة عربية قوية تزيل ما لهم من السلطان في جزيرة

العرب ويتبع ذلك هدم الخلافة التركية، ثم ظهر لها أن مصلحتها تقضي بالاتفاق مع

آل السعود والاعتراف لهم بسيادتهم على نجد وملحقاتها حتى ما كان بيد الدولة منها

ففعلت ذلك، وعلم بذلك أنها لم تكن تعاديهم لسبب ديني كما كان يظن الجاهلون.

وأما أمراء مكة المعروفون بالشرفاء فظلوا على ضلالهم في الطعن على دين

الوهابية وافتراء الأكاذيب عليهم، وكان أشدهم إسرافًا في الطعن وفي عداوة آل

سعود الأمير حسين بن علي، ولما خلص أمر الحكم في الحجاز له وحده بتقلص

ظل الدولة العثمانية عنه واعتراف الإنكليز وأحلافهم بالملك له عليه ظن أن الفرصة

قد سمحت له ومكنته من الاستيلاء على نجد وجعلها تابعة لملكه الوهمي، فما زال

يكيد ويدس الدسائس لآل سعود حتى آل تحرشه بهم وإلحاده في الحرم إلى زحف

السلطان عبد العزيز آل سعود على الحجاز وإنقاذه من هذا الطاغوت الذي لقب

نفسه بالمنقذ ومن أولاده المفسدين.

كان هذا الزحف مغريًا لدعاة الملك حسين في مصر بتجديد الطعن في الوهابية

ومنبهًا لأذهان الناس، ومرغبًا لها في البحث عنهم، ومعرفة كنه حالهم وحال

حسين معهم، فرأينا أن من الواجب علينا أن نبين لهم ما عندنا من العلم بذلك في

جريدة يومية واسعة الانتشار، فأنشأنا بضع مقالات نشرناها في جريدة الأهرام

اليومية وفي مجلة المنار، كان لها من حسن الوقع والتأثير، ووقوف الجماهير على

حقيقة أمر الوهابية فوق ما كان ينتظر، فعلموا أن هؤلاء النجديين المنبوذين بلقب

الوهابية سُنِّيُّون مستمسكون بمذهب السلف في العقائد، وبمذهب الإمام أحمد بن

حنبل في الفروع، وأنهم أشد شعوب المسلمين في هذا العصر اتباعًا، وأبعدهم عن

الابتداع وارتكاب المعاصي، ولهذا كان نصر الله تعالى لسلطانهم على الشرفاء

عظيمًا، ولولا معرفة حالهم لكان استيلاؤهم على الحرمين الشريفين خطبًا أليمًا.

ولقد كان هذا النصر المبين مصداقًا لقول الله تعالى {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) ولقوله {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47)

كما كان سرور المسلمين المستنيرين به دليلاً على أن الاستعداد للإصلاح الإسلامي

الحق بالتوحيد الخالص وترك البدع والخرافات والتقاليد الوراثية الباطلة قد صار

الآن أقوى مما كان في عهد النهضة الأولى للوهابية.

على أنه لا يزال للوهابية خصوم من أهل البدع والخرافات، ومن المنهمكين

في المعاصي والشهوات في مدن الحجاز، لأن حكومتهم منعت النوعين كليهما.

ولم يكن لهؤلاء حجج فيما مضى إلا الافتراء عليهم، وكان كثير من الناس

يصدقونهم فيهم لأنهم لم يعرفوا حقيقة حالهم، لأنهم يعيشون بمعزل، وقل أن يسافر

أحد إلى بلادهم، أما وقد أصبحوا في الحجاز فسيراهم الألوف من جميع الشعوب

الإسلامية في كل عام، ويستغنون عن التعريف بهم، وعن الشهادة لهم.

وقد رأيت أن أطبع طائفة من مقالات (الوهابيون والحجاز) في رسالة

مستقلة لأنها تعد فصلاً من فصول هذا الانقلاب التاريخي في الحجاز بل في الإسلام

ليطلع عليها بعض من لم يقرأها في الأهرام ولا في المنار، ففعلت وعلى الله

توكلت، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ

قَدْراً} (الطلاق: 3) .

...

...

...

... محمد رشيد رضا

...

...

...

...

منشئ المنار

_________

(1)

التحير والتهور والوقوع في الشيء بغير مبالاة، اهـ قاموس.

ص: 176

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌مسألة صفات الله تعالى

وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

جواب سؤال رفع إلى شيخ الإسلام

تقي الدين أحمد بن تيمية [1]

رحمه الله تعالى

(والقسم الرابع) شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه فلا هو مع

الشريعة الأمرية ولا مع القدر الكوني، وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون

قبل القدر من توكل واستعانة ونحو ذلك، وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك

فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني

أربعة أقسام.

(أحدها) أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم الله عليهم - أهل السعادة

في الدنيا والآخرة -.

(والثاني) الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم

من الصلاة ونحوها ويتركون المحرمات، لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض

ونحوه أو في ماله أو في عرضه أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه وظهر هلعه.

(والثالث) قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى مثل الفجار الذين يصبرون

على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على آلامهم في

مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون

على ذلك في طلب ما يجعل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب

الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر

عليها كثير من الناس، وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم

يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والألم. وهؤلاء هم

الذين يريدون علوًّّا في الأرض وفسادًا من طلاب الرياسة والعلو على الخلق،

ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرًا أو مباشرة

وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات، ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من

المأمور وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من

المصائب كالمرض والفقر وغير ذلك ولا يكون فيه تقوى إذا قدر.

وأما القسم الرابع فهو شر الأقسام: لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا

بل هم كما قال الله تعالى {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا

مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً} (المعارج: 19-21) فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم

إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك

وحبوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل

وتعظيم المسئول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبًا وأقلهم رحمة

وإحسانًا وعفوًا، كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقايق الإيمان أبعد

مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم وإن كان

متظاهرًا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار

بالحقائق، فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم

وأعمالكم فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيهًا لهم من هذا

الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما

يظهرونه منه؛ بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو

أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار، في

الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته (خير الكلام

كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل

بدعة ضلالة) وإذ كان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله

عليه وسلم - فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب وهو

به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق،

والكامل هو من كان لله أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر

الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه، وصبر على ما قدره وقضاه

كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك، وقد

ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعًا في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينتصر

به العبد على عدوه من الكفار والمحاربين والمعاهدين والمنافقين وعلى من ظلمه من

المسلمين، ولصاحبه تكون العاقبة، قال الله تعالى {بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم

مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران:

125) . وقال الله تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا

الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ

عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران: 186) . وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا

بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا

تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا

يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ

مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ

وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا

يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 118-120) وقال إخوة يوسف له {أَئِنَّكَ لأَنْتَ

يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا

يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عموما

ًوخصوصاً فقال تعالى {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ

الحَاكِمِينَ} (يونس: 109) وفي اتباع ما أوحي إليه التقوى كلها تصديقاً لخبر الله

وطاعة لأمره، وقال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ

الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ

المُحْسِنِينَ} (هود: 114-115) وقال تعالى {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ

وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (غافر: 55) . وقال تعالى

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ

اللَّيْلِ} (طه: 130) . وقال تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ

عَلَى الخَاشِعِينَ} (البقرة: 45) . وقال تعالى {اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ

اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) . فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر

وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا

بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد: 17) وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها. فإن

القسمة أيضاً رباعية؛ إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة، ومنهم

من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن،

ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع، والمحمود هو الذي يصبر

ويرحم كما قال الفقهاء في صفة المتولي: ينبغي أن يكون قويًا من غير عنف، لينًا

من غير ضعف، فبصبره يقوى وبلينه يرحم، وبالصبر يُنصر العبد، فإن النصر مع

الصبر وبالرحمة يرحمه الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما

يرحم الله من عباده الرحماء) وقال: (من لم يرحم لا يُرحم)، وقال: (لا تنزع

الرحمة إلا من شقي، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم

من في السماء) والله أعلم. انتهى.

***

بسم الله الرحمن الرحيم

فصل

في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي شرطها على أهل الذمة لمَّا

قدم الشام وشارطهم بمحضر من المهاجرين والأنصار، وعليها العمل عند أئمة

المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من

بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة

بدعة وكل بدعة ضلالة) وقوله صلى الله عليه وسلم (اقتدوا باللذين من بعدي أبي

بكر وعمر) لأن هذا صار إجماعًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

الذين لا يجتمعون على ضلالة على ما نقلوه وفهموه، من كتاب الله وسنة رسوله،

وهذه الشروط مروية من وجوه مختصرة ومبسوطة.

منها ما رواه سفيان الثوري عن مسروق بن عبد الرحمن بن عتبة قال: كتب

عمر حين صالح نصارى الشام كتابًا وشرط عليهم فيه أن لا يحدثوا في مدنهم ولا ما

حولها ديرًا ولا صومعة ولا كنيسة ولا قلاية لراهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا

يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعموهم، ولا يؤوا جاسوسًا

ولا يكتموا غش المسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركًا ولا يمنعوا

ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم من

مجالسهم إن أرادوا الجلوس ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم من قلنسوة

ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتكنوا بكناهم ولا يركبوا سرجًا ولا يتقلدوا

سيفًا ولا يتخذوا شيئًا من سلاح ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ولا يبيعوا الخمور،

وأن يجزوا مقادم رؤوسهم وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على

أوساطهم، ولا يظهروا صليبًا ولا شيئًا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين ولا

يجاوروا المسلمين بموتاهم ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربًا خفيًا ولا يرفعوا

أصواتهم بقراءتهم في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين،

ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ولا يظهروا النيران معهم ولا يشتروا من الرقيق ما

جرت عليه سهام المسلمين، فإن خالفوا شيئًا مما اشترط عليهم فلا ذمة لهم، وقد

حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.

وأما يرويه بعض العامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من آذى

ذميًّا فقد آذاني) فهذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروه أحد من

أهل العلم، وكيف ذلك؟ وأذاهم قد يكون بحق وقد يكون بغير حق بل قد قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} (الأحزاب: 58)

فكيف يحرم أذى الكفار مطلقاً وأي ذنب أعظم من الكفر؟ ولكن في سنن أبي داود

عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يأذن لكم

أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب أبشارهم، ولا أكل ثمارهم

إذا أعطوكم الذي عليهم) وكان عمر بن الخطاب يقول: أذلوهم ولا تظلموهم.

وعن صفوان بن سليم عن عدة أبناء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه

وسلم عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا من ظلم معاهدًا أو

انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم

القيامة) وفي سنن أبي داود عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس

قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ليس على مسلم جزية، ولا تصلح قبلتان بأرض) وهذه من الشروط قد ذكرها أئمة العلماء من أهل المذاهب المتنوعة

وغيرها في كتبهم واعتمدوها فقد ذكروا أن على الإمام أن يلزم أهل الذمة

بالتمييز عن المسلمين في لباسهم وشعورهم وكتبهم وركوبهم، بأن يلبسوا ثوبًا

يخالف ثياب المسلمين كالعسلي والأزرق والأصفر، والأدكن ويشدوا الخرق في

قلانسهم وعمائمهم والزنانير فوق ثيابهم، وقد أطلق طائفة من العلماء أنهم

يؤخذون باللبس وشد الزنانير جميعًا، ومنهم من قال: هذا يجب إذا شرط عليهم، وقد

تقدم اشتراط عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك عليهم جميعًا حيث قال: ولا

يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوه ولا غيرها من عمامة ولا نعلين

إلى أن قال: ويلزمهم بذلك حيثما كانوا ويشدوا الزنانير على أوساطهم.

وهذه الشروط يجددها عليهم من يوفقه الله تعالى من ولاة أمور المسلمين كما

جدد عمر بن عبد العزيز في خلافته وبالغ في اتباع سنة عمر بن الخطاب حيث

كان من العلم والعدل والقيام بالكتاب والسنة بمنزلة ميزه الله بها عن غيره من الأئمة

وجددها هارون الرشيد وجعفر المتوكل وغيرهما وأمروا بهدم الكنائس التي ينبغي

هدمها كالكنائس التي بالديار المصرية كلها ففي وجوب هدمها قولان ولا نزاع في

جواز هدم ما كان بأرض العنوة إذا فتحت ولو أقرت بأيديهم لكونهم أهل الوطن كما

أقرهم المسلمون على كنائس بالشام ومصر ثم ظهرت شعائر المسلمين فيما بعد في

تلك البقعة بحيث بنيت فيها المساجد فلا يجتمع شعائر الكفر مع شعائر الإسلام

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع قبلتان بأرض) ولهذا شرط عليهم

عمر والمسلمون أن لا يظهروا شعائر دينهم.

وأيضًا فلا نزاع بين المسلمين أن أرض المسلمين لا يجوز أن تحبس على

الديارات والصوامع، ولا يصح الوقف عليها بل لو وقفها ذمي وتحاكم إلينا لم يحكم

بصحة الوقف فكيف نحبس أموال المسلمين على معابد الكفار التي يشرك فيها

بالرحمن ويسب الله ورسوله فيها أقبح سب؟ وكان من سبب إحداث هذه الكنائس

وهذه الأحباس عليها شيئان أحدهما أن بني عبيد الله القداح الذين كان ظاهرهم

الرفض وباطنهم النفاق يستوزرون تارة يهوديًّا وتارة نصرانيّا واجتلب ذلك

النصراني خلقاً كثيرًا وبنى كنائس كثيرة.

والثاني استيلاء الكتَّاب من النصارى على أموال المسلمين فيدلسون فيها على

المسلمين ما يشاءون والله أعلم. قاله أحمد بن تيمية.

بسم الله الرحمن الرحيم

مسألة فيمن يفعل من المسلمين مثل طعام النصارى في النيروز ويفعل سائر

المواسم مثل الغطاس، والميلاد، وخميس العدس، وسبت النور، ومن يبيعهم شيئًا

يستعينون به على أعيادهم، أيجوز للمسلمين أن يفعلوا شيئًا من ذلك أم لا؟

الجواب:

الحمد لله، لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا

من طعام، ولا من لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة

أو عبادة أو غير ذلك، ولا يحلّ فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على

ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار

زينة. وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم

عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصه،

وأما إذا أصابه المسلمون قصدًا فقد كره ذلك طوائف من السلف والخلف، وأما

تخصيصه بما تقدم ذكره فلا نزاع فيه بين العلماء بل قد ذهب طائفة من العلماء إلى

كفر من يفعل هذه الأمور لما فيها من تعظيم شعائر الكفر. وقال طائفة منهم من

ذبح نطيحة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيرًا وقال عبد الله بن عمرو بن العاص من

تأسى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو

كذلك، حُشر معهم يوم القيامة.

وفي سنن أبي داود عن ثابت بن الضحاك قال: (نذر رجل على عهد رسول

الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه

وسلم فقال إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقال: إني نذرت أن أنحر إيلاً ببوانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان

فيها من وثن يعبد من دون الله من أوثان الجاهلية؟ قال: لا، قال: فهل كان فيها

عيد من أعيادهم؟ قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوفِ بنذرك، فإنه

لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) . فلم يأذن النبي صلى الله عليه

وسلم أن يوفي بنذره مع أن الأصل في الوفاء أن يكون واجبًا حتى أخبره أنه لم يكن

بها عيد من أعياد الكفار وقال: (لا وفاء لنذر في معصية الله) فإذا كان الذبح

بمكان كان فيه عيدهم معصية فكيف بمشاركتهم في نفس العيد؟ بل قد شرط عليهم

أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز والصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا يظهروا

أعيادهم في دار المسلمين وإنما يعملونه سرًّا في مساكنهم، فكيف إذا أظهرها

المسلمون؟ حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تتعلموا رطانة الأعاجم

ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط ينزل عليهم، إذا كان

الداخل لفرجة أو غيرها نُهي عن ذلك؛ لأن السخط ينزل عليهم فكيف بمن يفعل ما

يسخط الله به عليهم مما هي من شعائر دينهم؟ وقد قال غير واحد من السلف في

قوله تعالى {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (الفرقان: 72) قالوا: أعياد الكفار فإذا

كان هذا في شهودها من غير فعل فكيف بالأفعال التي هي من خصائصها؟

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن أنه قال: (من

تشبه بقوم فهو منهم) وفي لفظ (ليس منا من تشبه بغيرنا) وهو حديث جيد فإذا

كان هذا في التشبه بهم وإن كان في العادات، فكيف التشبه بهم فيما هو أبلغ من ذلك.

وقد كره جمهور الأئمة إما كراهة تحريم أو كراهة تنزيه أكل ما ذبحوه لأعيادهم

وقرابينهم إدخالاً له فيما أهل به لغير الله وما ذبح على النصب، كذلك نهوا عن

معاونتهم على أعيادهم بإهداء أو مبايعة وقالوا: إنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا

للنصارى شيئًا من مصلحة عيدهم لا لحمًا، ولا دمًا ولا ثوبًا، ولا يعارون دابة ولا

يعاونون على شيء من دينهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم،

وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك؛ لأن الله تعالى يقول {وَتَعَاوَنُوا عَلَى

البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) ثم إن المسلم لا يحل

له أن يعينهم على شرب الخمور بعصرها أو نحو ذلك فكيف على ما هو من شعائر

الكفر، وإذا كان لا يحل له أن يعينهم هو، فكيف إذا كان هو الفاعل لذلك.

والله أعلم.

...

...

...

...

... قاله

...

...

...

...

أحمد بن تيمية

تمت

_________

(1)

تابع لما نشر في العدد الماضي ص 106.

ص: 182

الكاتب: مهاتما غاندي

‌الصحة

تأليف زعيم الهندوس الأكبر: مهاتما غاندي

ترجمة الأستاذ الشيخ: عبد الرزاق المليح آبادي

ثم فوق هذا يتوقف نقاء اللبن وعدمه على علف البقرة وحالتها الصحية. وقد

حقق الأطباء بأن الذين يشربون لبن البقرة المسلولة يقعون بأنفسهم فريسة لهذا الداء

الوبيل: ومن الصعب جدًا العثور على بقرة صحيحة. وعلى هذا فاللبن النظيف تام

النظافة ربما لا نعثر عليه إلا بعد عناء شديد، لأنه كثيرًا ما يفسد في نفس منبعه.

كل واحد يعلم أن الطفل الذي يرضع لبن أمه المريضة قد يصاب بمرضها. وكثيرًا

ما نرى الأطباء يعطون الدواء للأمهات إذا أصيب أطفالهن بمرض. وذلك لأن

تأثيره يصل إلى الطفل من طريق ثدي أمه، وهكذا تمامًا تتوقف صحة الرجل الذي

يشرب لبن البقرة على صحتها. فإذا كان شرب اللبن محاطًا بمثل هذا الخطر الكبير

أفليس من الحكمة تركه بتاتًا؟ سيما إن كنا نجد أشياء كثيرة تقوم مقامة، فهذا زيت

الزيتون مثلاً يؤدي هذه الوظيفة إلى حد، واللوز الحلو بدل قوي جدًا للبن إذا وضع

في الماء الساخن وأزيل قشره، ثم سحق جيدًا ومرس ومزج مزجًا، فهو يهيئ

شرابًا محتويًا على جميع مزايا اللبن وسالمًا في الوقت نفسه من جميع مضاره.

لنتدبر في المسألة من جهة سنن الطبيعة: إن العجل لا يرضع لبن أمه حتى

تظهر أسنانه، فإذا ظهرت حجر اللبن واكتفى بالعلف، هذا يدل دلالة واضحة بأن

الطبيعة تطلب من الإنسان أيضًا أن يكون كذلك. فهي ما أرادت منا أن نشرب

اللبن حتى بعد أن نجتاز سن الطفولية. يجب علينا أن نتعود المعيشة على الثمار

مثل التفاح واللوز، أو على خبز القمح إذا ظهرت أسنانًا. وينبغي أن لا تبرح من

فكر القارئ الفوائد الاقتصادية التي نجنيها بتركنا اللبن. وكذلك لا احتياج إلى أي

أكل من المأكولات التي تصنع من اللبن. فعرق الليمون الحامض بدل جيد للبن

الحامض. أما السمن فألوف مؤلفة من اليهود حتى الآن يستعملون مكانه الزيت.

أما اللحم فقد أثبت الفحص الدقيق في الهيكل الإنساني أنه ليس بغذاء طبيعي

للإنسان. والدكتور هيج والدكتور كنجز فورد قد أظهرا بكل وضاحة مضارّه في

جسمنا. فأثبتا أن الآسيد الذي يولده العدس في الجسم يولده اللحم أيضًا. وكذلك

يسبب الأمراض في الأسنان والروماتيزم في الجسم ويحرك الأميال الرديئة -

كالغضب - التي قد قررنا أنها ليست إلا صورًا للأمراض. وقد أخذ بعض آكلي

اللحوم يهجرونها ويعودون إلى الغذاء النباتي البحت ويحثون عليه، الأمر الذي له

معنى كيبر يستحق التأمل فيه.

أما الذين يقتصرون على اللحم وحده فحالتهم من الرداءة بحيث لا تحوجنا إلى

البحث فيهم حتى إنا لو نراها مرة بأعيننا لن نأكل اللحم أبدًا. إن الذين يقتصرون

على اللحم لا يمكن أن يقال عنهم: إنهم أصحاء البنية. ولذلك تراهم بمجرد تقدمهم

وتعلمهم القليل يقللون من أكله ويرغبون في النباتات.

فنتج من كل ذلك أن عدد الذين يعيشون على الثمار وحدها قليل جدًّا، ومن

السهل جدًا المعيشة على الغذاء المركب من الثمار والقمح وزيت الزيتون، الغذاء

الذي يساعد مساعدة كبيرة في تقوية الصحة.

إن الموز له المقام الأول في الفواكة ولكن التمر والعنب والبرقوق والبرتقال

وأمثالها من الثمار كلها مغذية تمامًا ويمكن تناولها مع الخبز. إن الخبز لا يفسد

طعمه إذا بُل بزيت الزيتون، ثم إن هذا الغذاء لا يحتاج فيه إلى الملح

والفلفل واللبن والسكر، وتحضيره سهل جدًّا ورخيص. إن أكل السكر وحده حماقة

والإكثار من الحلويات يضعف الأسنان ويضر بالصحة. إن المأكولات الجيدة التي

يمكن صنعها من البر والثمار جامعة بين الصحة واللذة.

أما المسألة الأخرى، وهي البحث في كمية الغذاء وأوقاته يوميًا فلأنها مهمة جداًّ

نخصص لها بابًا مستقلاًّ.

***

الباب السادس

ما هو المقدار الذي يتناول من الغذاء؟

وكم مرة يجب أن نأكل؟

بين الأطباء اختلاف كبير في مقدار الغذاء الذي يجب أن يتناوله الإنسان فقال

دكتور يجب أن يأكل أكثر ما يستطيع أكله. ثم ذكر مقادير الأطعمة المختلفة التي

يمكن أن تؤكل. وقال دكتور آخر: إن غذاء العمال يجب أن يختلف في مقداره

ونوعه عن غذاء المشتغلين بالأعمال العقلية ويعارضهما دكتور ثالث بقوله: إن

الأمير والفلاح وكل الناس يجب أن يأكلوا مقدارًا واحدًا من الطعام، إن ما لا يصح

النزاع فيه هو أن الضعيف لا يمكنه أن يتناول المقدار الذي يتناوله القوي. وكذلك

غذاء النساء يكون أقل من الرجال ومثلهن الصبيان والشيوخ يأكلون أقل من الشباب

وقد توسع كاتب حتى قال لو مضغ الطعام جيدًا بحيث تمتزج كل ذرة منه باللعاب

فعند ذلك لا تحتاج إلى أكثر من أوقيتين أو أربع أوقيات من الغذاء. قال الدكتور

هذا القول بعد أن جرب تجارب لا تحصى، وقد بيعت نسخ كتابه ألوفًا مؤلفة. فظهر

من كل ذلك أن البت في تعيين مقدار الغذاء ليس من الحكمة في شيء.

إن أكثر الأطباء يسلمون بأن تسعين في المائة من الناس يأكلون أكثر من

حاجتهم. لا ريب أن هذه حقيقة واقعة يمكن مشاهدتها كل يوم وإن لم يعلن عنها

الأطباء.

إن الصحة لا تتقهقر من (قلة الأكل) بل من الضروري جدًّا للمحافظة عليها

تقليل مقدار الأكل الذي نأكله.

وإن من المهم جدًّا، كما قلنا آنفًا، مضغ الطعام جيدًا لتستفيد المواد الغذائية

الكثيرة من طعام قليل. إن المجربين من الناس قد بينوا بأن براز الذي يأكل طعامًا

نافعًا غير كثير ويكون قليل المقدار متماسكًا بعضه ببعض ولينًا ذا لون قاتم وخاليًا من

كل رائحة خبيثة، فالذي ليس برازه هكذا ليعلم أنه يكثر من طعام غير نافع ولا

يمضغ كما ينبغي. وكذلك الذي يشكو الأرق أو ينام نومًا متقطعًا مقلقًا بالأحلام أو

يجد صباحًا على لسانه اللعاب متجمدًا، فهو كذلك يرتكب جناية الإكثار من الأكل.

وإن كان يقوم في الليل مرات عديدة للتبول فمعناه أنه أكثر في الليل من أكل الأشياء

السائلة الرقيقة. فبهذه وغيرها من التجارب يستطيع الإنسان أن يعرف بالضبط

المقدار الذي يحتاج إليه من الغذاء. يصاب كثير من الناس بعفونة في نفسهم،

فهذه العفونة دليل على أن طعامهم لم ينهضم تمامًا. ثم إن كثرة الأكل تسبب أكثر

الأحيان ظهور البثور على الوجه وفي داخل الأنف وتولد الريح في بطون كثير من

الناس. إن أصل هذه المصائب كلها، بكلام صريح، هو أننا قد جعلنا بطوننا

مزبلة، فنحن نحمل هذه المزبلة معنا في كل مكان.

كلما نتفكر في الأمر بجد لا نتمالك من استقباح عملنا هذا استقباحًا شديدًا ولا

سبيل إلى التخلص من جناية كثرة الأكل إلا بأن نعاهد أنفسنا عهدًا أكيدًا بأن لا

نشترك في العزائم والولائم على اختلاف أنواعها. نعم يجب الاعتناء بالضيوف

ولكن ذلك لا يخرج بنا من حدود قوانين الصحة. هل خطر في بالنا مرة أن ندعو

أصحابنا لينظفوا أسنانهم معنا أو ليشربوا كوبة من الماء عندنا؟ أليس الأكل شديد

العلاقة بالصحة مثل هذه الأشياء؟ فلماذا نحن نحدث لأجله كل هذه الضجة الكبيرة؟

لقد أصبحنا نهمين بالعادة حتى أن لساننا لا يزال يتوق إلى ألوان كثيرة جدًّا من

الطعوم في كل حين. فلذلك نرى من واجباتنا المقدسة أن نملأ بطون ضيوفنا

بأطعمة لذيذة ونمني أنفسنا بأنهم أيضاً سيفعلون ذلك معنا في نوبتهم! إننا لو طلبنا

من صديق لنا أن يشم فمَنا بعد ساعة من الأكل، ثم هو يخبرنا بشعوره الحقيقي بلا

محاباة، فلا شك أننا نستر وجهنا من شدة الحياء والخجل! ولكن قد تجرد بعض

الناس من الحياء بتاتًا فلا يستحون من أن يشربوا بعد الأكل مباشرة مسهلاً

ليستطيعوا الإكثار من الأكل أو أنهم يستفرغون كل ما أكلوه ليعودوا حالاً إلى المائدة

ثانية! .

وبما أننا جميعًا حتى أفاضلنا يرتكبون جناية كثرة الأكل على سواء لذلك قد

قرر أجدادنا العقلاء الصوم علينا أحيانًا كثيرة كفريضة دينية. لا شك أن الصوم

مرة في كل أسبوعين نافع جدًّا للصحة. إن كثيرًا من المتمسكين بالدين من

الهندوس يقتصرون على أكلة واحدة في اليوم طول فصل المطر. هذا حسن جدًّا

ومبني على أحسن الأصول الصحية. وذلك لأن القوى الهاضمة تضعف عندما

يكون الهواء رطبًا والسماء مغيمة ولذلك يجب تقليل مقدار الغذاء.

والآن نبحث في عدد المرات التي ينبغي أن نأكل فيها. إن الملايين من

الهنود قد تعودوا على الأكل مرتين كل يوم. والذين يشتغلون بالأعمال الشاقة

يأكلون ثلاث مرات، أما عادة الأكل أربع مرات فقد دخلت بلادنا بعد قدوم الأدوية

الإفرنجية إليها. لقد تأسست أخيرًا في إنجلترا وأمريكا جمعيات مختلفة تنصح

الناس بأن يقتصروا على الأكل مرتين وتمنعهم من الفطور صباحًا مبكرًا. وذلك لأن

نومنا في الليل يؤدي بنفسه وظيفة الفطور. فيجب بمجرد الانتباه صباحًا أن يستعد

الإنسان للشغل عوضًا من الأكل، ثم يتغذى بعد ثلاث ساعات فقط، إن الذين

يتمسكون بهذا الرأي لا يأكلون في اليوم إلا مرتين ولا يشربون خلالها حتى الشاي.

إن دكتورًا محنكًا اسمه ديوي Dewai ألف كتابًا جليلاً في الصوم وأثبت فيه فوائد

ترك الفطور، وأنا كذلك أستطيع أن أؤكد بناءً على تجربتي الشخصية ثماني

سنوات بأنه لا حاجة إلى الأكل أكثر من مرتين للذي جاوز الشباب واستكمل جسمه

كل نموه.

***

الباب السابع

الرياضة

إن الرياضة ضرورية جدًّا للإنسان كضرورة الهواء والماء والغذاء، فالذي لا

يواظب عليها لا يمكن أن يكون صحيحًا. نحن لا نقصد (بالرياضة) مجرد التمشي

أو الألعاب كالصولجان وكرة القدم، بل تدخل في الكلمة جميع الأشغال الجسمية

والعقلية. الرياضة ضرورية كضرورة الغذاء للجسم. فالمخ يضعف لعدم الرياضة

مثل ما يضعف الجسم سواء بسواء، وضعف العقل نوع من المرض بلا ريب.

فالمصارع الماهر في المصارعة لا يعتبر (صحيحًا) بالحقيقة إلا إذا كان

عقله كذلك قويًّا كجسمه. وكما قد بين أن المخ القوي في الجسم الصحيح، هذه

القاعدة وحدها تؤسس صحة حقيقية.

ما هي إذن الرياضات التي يحافظ بها على قوة الجسم والعقل معًا؟ إن

الطبيعة قد قدرت ذلك بطريقة تمكننا من أن نتريض الرياضة الجسمية والرياضة

العقلية في وقت واحد. إن الأكثرية الكبيرة من البشر تعيش بالعمل في المزارع.

فالفلاح مضطر أن يقوم بالرياضة البدنية المتعبة على كل حال؛ لأنه لا بد له من أن

يشتغل من 8 إلى 10 ساعات بل أكثر من ذلك أيضًا ليحصل على قُوته ولباسه.

ثم العمل الجسمي الشاق المتعب يستحيل القيام به إلا إذا كان المخ في حالة حسنة.

والفلاح يكون مخه كذلك، فهو لا بد له من معرفة التفاصيل الكثيرة للزراعة،

وكذلك لا بد من أن يكون له علم وافر بالأرض وأنواعها والفصول وتقلباتها، بل

ربما بحركات الشمس والقمر والنجوم وسيرها، حتى إنه قد يغلب أعلم الناس في هذه

الأمور. ثم هو يعرف حالة الوسط المحيط به كما ينبغي فيستطيع أن يعرف

الجهات بمجرد النظر إلى الكواكب في الليل، ويتنبأ بأمور كثيرة جدًّا بمطار

الطيور ومسير البهائم، فيعرف مثلاً أن المطر على وشك السقوط إذا رأى نوعًا

خاصًّا من الطيور قد اجتمع وأخذ يضج ويصيح. والحاصل أنه يعرف من الأرض

والسماء القدر الضروري لعمله، وكذلك يعلم شيئًا من علم الدين ليتمكن من القيام

بعباداته وتربية أولاده. وهذا العلم هو يحصله بطريقة طبيعية لأنه يعيش تحت

السماء الواسعة والفضاء الفسيح فيعرف بسهولة عظمة الله تعالى.

أجل، الناس كلهم لا يمكن أن يصيروا فلاحين، ولا كتب هذا الفضل

لدعوتهم إليه، بل إنما نذكر لهم معيشة الفلاح؛ لأننا نعتقد أن حياته هي الحياة

الطبيعية للإنسان. فكلما نزداد بعدًا عن هذه الحياة الطبيعية نُصاب في صحتنا

بالمصائب، وقد علمنا من حياة الفلاح أنه يجب علينا العمل على الأقل ثماني

ساعات كل يوم، ويدخل فيه العمل العقلي كذلك.

أما التجار وغيرهم من الذين يعيشون عيشه القعود فلا شك أنهم يعملون العمل

العقلي إلى حد ما، ولكن شغلهم ضيق النطاق وأقل بكثير من أن يسمى (رياضة) .

ولأجل هؤلاء الناس قد اخترع عقلاء الغرب الألعاب كالصولجان وكرة القدم

وغيرها من الألعاب الخفيفة التي تلعب في الحفلات واجتماعات الأعياد.

أما الشغل العقلي فقالوا بقراءة الكتب التي لا تحتاج إلى إجهاد الفكر. لا ريب

أن هذه الألعاب تريض الجسم، ولكن هل هي نافعة للمخ أيضًا؟ كم من المهرة

المبرزين في كرة القدم والصولجان يملكون قوى عقلية عالية؟ كم ترى آثار

الاستعداد العقلي لأولئك الأمراء من الهنود الذين امتازوا كاللاعبين؟ ثم من جهة

أخرى كم نرى من العلماء الكبار من يهتمون بهذه الألعاب؟ يمكننا أن نتأكد بتجربتنا

بأنه قلما يوجد بين اللاعبين من يملك القوى العقلية. الإنكليز مُغرمون ومشهورون

بالألعاب، ولكن شاعرهم kipling يذم الحالة الذهنية للاعبين ذمًّا شديدًا.

أما نحن الهنود فقد سلكنا طريقًا مناقضًا لهذا الطريق تمامًا، فرجالنا يشتغلون

بالأشغال الشاقة العقلية ولكن قلما يتريضون، بل لا يتريضون مطلقًا. فيضعفون

بسبب هذه الأشغال فيقعون فريسة لأمراض مختلفة، ويدعون الدنيا إلى الأبد عندما

تأمل منهم أن تنتفع بعملهم. لا ينبغي أن يكون عملنا جسميًّا محضًا ولا عقليًا محضًا

ولا لمجرد تمضية الوقت والتسلية. إن المثل الأعلى في الرياضة هو تلك الرياضة

التي تقوي الجسم والعقل على سواء، وهي وحدها تهب الإنسان صحة حقيقية،

ومثل الإنسان الصحي هو (الفلاح) .

ولكن الذي ليس بفلاح ماذا ينبغي له أن يفعل؟ الرياضة بالألعاب كالصولجان

غير كافية ولذلك ينبغي إيجاد رياضة أخرى. إن أحسن الرياضات لرجل اعتيادي

هو أن تكون له حديقة صغيرة قرب بيته فيشتغل فيها بضع ساعات كل يوم.

قد يقول بعض الناس (ولكن ماذا نفعل نحن الذين لا نملك حتى البيت الذي

نسكنه؟) إن هذا السؤال حماقة. لأن صاحب البيت مهما كان أجنبيًا عنا لا يمنعنا

من أن نصلح أرضه بالحفر والزراعة فنصلحها ونفرح إذا تصورنا أننا قد ساعدناه

في تنظيف أرضه وإصلاحها. أما الذين لا يجدون الوقت لمثل هذه الرياضة أو لا

يحبونها فيمكنهم أن يواظبوا على المشي الذي هو أحسن الرياضات بعد تلك

الرياضة. وقد صدق من قال إنها (ملكة الرياضات) إن السبب الحقيقي في كون

صحة الرهبان الهنود حسنة جدًا هو أنهم يمشون في طول البلاد وعرضها على

أقدامهم، إن الكاتب الأمريكي الكبير تورو قال أشياء كثيرة مهمة في رياضة المشي

فقال: (إن كتابة أولئك الذين يعيشون دائماً في البيوت ولا يخرجون منها أبدًا في

الهواء الطلق، تكون ضعيفة كأجسامهم) .

وقد ذكر تجربته الشخصية قائلاً: (إن أحسن مؤلفاتي كلها هي التي ألفتها في

الزمن الذي كنت أمشي فيه كثيرًا) ، ولقد كان مشاءً كثيرًا حتى إنه مشي أربع أو

خمس ساعات كل يوم كان شيئاً اعتيادياً عنده! لنكن مغرمين بالرياضة حتى لا

نستطيع البقاء بدونها في حال من الأحوال. يصعب علينا أن نفهم شدة ضعف شغلنا

الدماغي وخفته إذا لم تصحبه الرياضة البدنية المتعبة. إن المشي يحرك جميع

أجزاء الجسم ويقوي دورة الدم، وذلك لأن الهواء النقي يدخل بقوة في الرئة عندما

تمشي بسرعة، ثم هنالك مسرات عظيمة جدًا تقدمها إلينا الطبيعة ومناظرها إذا

خرجنا إلى الميادين والحقول، تلك المسرة التي تأتينا من التدبر في جمال الطبيعة.

أما المشي في الأزقة والشوارع أو في طريق واحد كل يوم فلا فائدة منه أصلاً

يجب أن نخرج إلى الميادين والغابات وهنالك نجد لذة الطبيعة. إن المشي ميلاً أو

ميلين ليس بمشي لأن مشي عشرة أو اثني عشر ميلاً ضروري للرياضة. والذين

لا يستطيعون ذلك كل يوم فليفعلوه أيام الآحاد أيام العطلة. ذهب رجل كان يشكو

سوء الهضم إلى طبيب فنصحه الطبيب بمشي قليل كل يوم، ولكنه اعتذر قائلاً

هيهات أن أمشي فإني ضعيف جدًا. فأخذه الطبيب في عربته وخرج به للنزهة.

فلما أبعد عن العمران قليلاً أسقط سوطه فاضطر المريض أن ينزل تأدبًا ليأتي به.

ولكن الطبيب ساق عربته بدون أن ينتظر. فأخذ المسكين يصيح ويجري وراء

العربة! ولما اطمأن الطبيب بأن المريض قد مشى مشيًا كافيًا حمله في العربة قائلاً

(إن هذه حيلة دبرتها لتضطر إلى المشي) وبما أن المريض أخذ يشعر بالجوع من

ذلك الوقت عرف نصيحة الطبيب ونسي حكاية السوط. ثم رجع إلى بيته وأكل

الطعام برغبة وشهية. فليجرب الذين يشكون سوء الهضم وما شاكله من الأمراض

المشي بأنفسهم، فإنهم يعرفون قيمة الرياضة حالاً.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 193

الكاتب: محمد حامد الفقي

‌أفحكم الجاهلية يبغون

] وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [[*]

اللهم لطفًا ورحمة بنا وبدينك الذي عاد غريبًا كما بدأ.

ماذا دهى الإسلام والمسلمين من عظائم النكبات وصواعق المهلكات حتى

انقلب الحق باطلاً، والباطل حقًّا، وأصبح المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا وغدا

الهدى ضلالاً، والضلال هدى؟

وأي نكبة أعظم، وصاعقة أفتك من أن تجتمع بالكاظمية من بلاد العراق

جماعة من علماء الشيعة ثم يقررون وينشرون على العالم أن إزالة المنكر مصيبة

على الإسلام، ونكبة على المسلمين، وأن تقويض دعائم الباطل، وهدم أبنية

الضلال وتطهير البلاد الحجازية المقدسة من آثار الجاهلية الأولى عدوان ولطمة

للإسلام كان يخشاها.

ما هذا؟ أتبدلت الأرض غير الأرض، والناس غير الناس، والعقول غير

العقول، صار الأمر بالناس واتباعهم للهوى، وفتنتهم بالبدع وتماديهم في العدوان

على الدين وتشويهه والإصاخة إلى صوت الباطل إلى هذا الحد الذي لا يتصور

بعده غاية، والذي أفسد على المسلمين حياتهم الدنيوية والدينية؟ حسبي الله ونعم

الوكيل.

ماذا يقول أولئك المعولون الصارخون؟ أيقولون إن أمكنة أسست على غير

هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه رضي الله عنهم أمكنة خير

وبركة؟ وفوق ذلك يسمونها مقدسة؟ وأدهى من ذلك يسمون من لا يقول بها ولا

يسمع قول الشيطان فيها ضالاًّ مارقًا؟

يا لله من هول ذلك! أفيقوا يا قوم من هذه الغفلة التي هي أعظم ما يبغي

الشيطان منا، وزنوا قولكم قبل أن تقولوه واعرفوا موضعه من الدين قبل أن

تذيعوه، فإنكم والله لو وزنتم قولكم وعرفتم موضعه لوجدتموه منكرًا من القول وزورًا

وأي زور ومنكر أعظم من قول يصادم بل يناقض بل يهدم قول رسول الله صلى

الله عليه وسلم الذي أجمع المسلمون خلفًا عن سلف على صحته، من قوله صلى

الله عليه وسلم (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت

عائشة رضي الله عنها يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرزت قبره) أخرجه

البخاري ومسلم.

وقال العلماء في شرحهم لهذا الحديث: في هذا نهي شديد صريح عن بناء

القباب على القبور واتخاذ المساجد عليها وعندها. حتى عد ابن حجر الهيتمي بناء

هذه القباب من الكبائر العظيمة التي يجب على علماء المسلمين وأمرائهم هدمها

وإزالتها - قال: حتى قبة إمامنا الشافعي رضي الله عنه لذلك الحديث اهـ.

ومن قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها

المساجد والسرج) رواه أحمد وأصحاب السنن، أي الذين يوقدون عليها الشموع

ونحوها. ومن قوله صلى الله عليه وسلم (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور

أنبيائهم مساجد) رواه البخاري. وإلا فليخبرنا أولئك الباكون الصارخون عن حيلة

نخرج بها من هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة ونستمع لقولهم ونعمل به دونها.

ثم ماذا يقولون في إجماع كل فقهاء المذاهب المعتبرة على حرمة البناء على

القبور وتجصيصها. قال الإمام الشوكاني في رسالته (شرح الصدور بتحريم رفع

القبور) :

اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة

رضي الله عنهم إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي

ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها ولم يخالف

أحد في ذلك من المسلمين أجمعين.

ثم ساق أحاديث دالة على هذا ثم قال: وإذا تقرر لك هذا علمت أن رفع القبور

ووضع القباب والمساجد مثلها: قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعليها،

تارة كما تقدم، وتارة دعا عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه

المعصية، وتارة نهى عن ذلك، وتارة بعث من يهدمه، وتارة جعله من فعل

اليهود والنصارى، وتارة قال:(لا تتخذوا قبري وثنًا) وتارة قال: (لا تتخذوا

قبري عيدًا) أي موسمًا يجتمعون فيه كما صار يفعله كثير من عباد القبور يجعلون

لمن يعتقدونه من الأموات أوقاتًا معلومه (الموالد) يجتمعون عند قبورهم ويعكفون

عليها كما يعرف ذلك كل أحد من الناس. اهـ كلام الشوكاني.

ثم هذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه روى عنه مسلم في صحيحه أنه

قال لأبي الهياج الأسدي (أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه

وسلم ألا تجد قبرًا مشرفًا إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته) وفي هذا أعظم دلالة

على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع عن الأرض عن القدر المشروع واجبة

متحتمة فهل فعل علي رضي الله عنه يعد نكبة على الإسلام والمسلمين؟ ويستحق

قيامة أولئك الذين يدّعون أنهم شيعة علي كرم الله وجهه والتفاني في

حبه بهذا الصريخ والعويل؟

ثم ما الذي تفهمونه من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام عن

زيارة القبور ولم يبح لهم زيارتها إلا بعد ما تمكن الإيمان في قلوبهم وتبينوا حقيقة

التوحيد وأنها لا تتفق وتعظيم هذه القبور والعكوف عندها؟ ولفظ ذلك (كنت نهيتكم

عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الدار الآخرة) وفي قوله: تذكركم الدار

الآخرة أتم دلالة على أن زيارة القبور لا تجوز إلا إذا كانت للتذكر فقط، أما إذا كانت

للتبرك والطواف والتقبيل فهي على أصلها من التحريم: الأول: أليس في هذا

النهي ثم الإباحة بهذا القيد ما يدل أوضح دلالة عند عدم الهوى والعصبية على أن

فتنة الشرك ما دخلت على العرب وغيرهم إلا من باب تعظيم قبور صالحيهم؟ كما

جاء ذلك في صريح القرآن وفي أقوال الصحابة والتابعين في تفسيره مما يطول به

المقال، وهو أوضح من أن نحتاج إلى تسطيره هنا.

ثم تعالوا حدثونا إن كنتم تريدون النصفة والدين الحق، هل فعل ذلك أبو بكر

أو عمر أو علي أو عثمان أو أحد غير أولئك من الصحابة رضوان الله عليهم؟

اللهم لا. هل بنى الحسن أو الحسين رضي الله عنهما لأبيهما قبة من هذه القباب؟

اللهم لا. هل بنى أحد من أولاد الحسن أو الحسين كعلي زين العابدين أو جعفر

الصادق أو محمد الباقر رضي الله عنهم شيئاً من هذه القباب؟ اللهم لا. ثم هؤلاء

الأئمة الأربعة ومن إليهم من فحول علماء السلف رضي الله عنهم هل يقدر واحد

منكم أن يأتي لنا ونكون له من أعظم الشاكرين - بكلمة واحدة عنهم تشير إلى ذلك

وإباحته فضلاً عن التصريح؟ إنكم لا تجدون في التاريخ ولا الدين. إلا أن أول

من أظهر ذلك وابتدعه دولة بني بويه في أول القرن الرابع. وليس أحد يعتقد أن

فعل ملوك هذه الدولة حجة في الدين.

فلا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة

تقتدون، ولا يسلم من اقتدى بهم من طعنكم وتشنيعكم فماذا بعد ذلك؟ نقول لكم إلا أن

هذه مُشاقة لله ولرسوله واتباع لغير سبيل المؤمنين والله تعالى يقول {وَمَن يُشَاقِقِ

الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ

جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) .

يا قوم هذا دين الله الذي نعلمه ويعلمه المسلمون من كتاب الله وسنة رسوله

ومذاهب العلماء، نعلنه وندعو الناس جميعًا إلى التمسك به. وإن كان عندكم غير هذا

فهاتوه مؤيَّدًا بالحجة من قول الله وقول رسوله يشكر الله لكم عملكم وتكونوا قد

أسديتم إلى الناس معروفًا ببيان دين قد خفي عليهم. وأما إن كنتم تبغون غير هذا

من غير أن تأتوا بدليل أو حجة صادقة ولا تؤيدونه إلا بالهوى والعادة وقول الآباء

والأجداد وغير ذلك مما هو الحجة الوحيدة للمبتدعين، فهذا أمر آخر لا نرضاه لكم

ولا لأحد من هذه الأمة التي نسأل الله لها الهداية والتوفيق في القول والعمل.

ثم اعلموا يا قوم أن المؤمنين الذين ملأ الله قلوبهم بنور الإيمان وحب الله

ورسوله وتعظيمهما وتوقيرهما لا يقدمون قول أحد ولا فعله على قول رسول الله

صلى الله عليه وسلم ولا فعله، ولا يتخذون من قول أحد ولا فعله حجة على دين الله

بل لله الحجة البالغة وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور

محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.

ما هلك السالفون من الأمم إلا بتقديم أقوال الناس على قول الله ورسوله،

وكانوا {َإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا

عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (المائدة: 104) .

فاحذروا ذلك كل الحذر واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه

أولياء قليلاً ما تذكرون. وفقنا الله لما فيه صلاح ديننا ودنيانا.

...

...

...

... محمد حامد الفقي

...

...

... من علماء الأزهر وإمام مسجد شركس

_________

(*)(المائدة: 50) .

ص: 201

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي

‌رأي في الجديد ومدعي التجديد

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

(كما نشر في عكاظ بتصرف قليل)

لسنا نتحرج أن ننبّه هنا إلى أصل هذا الجديد الذي يزعمونه ويتشدقون به.

فكل فاسق وكل ملحد وكل مقلد أحد هذين وكل متهوس بإحدى هذه العلل الثلاث، هو

مجدد إذا جرى في انتحال الأدب العربي وتعاطيه مجرى التكذيب والرد والنقيصة

والزراية عليه وعلى أهله والخبط ما بين أصوله وفروعه على أن لا يستخرج من

بحثه إلا ما يخالف إجماعًا، أو يعيب فضيلة، أو يغض من دين، أو ينقض أصلاً

عربيًّا جزلاً بسخافة إفرنجية ركيكة، أو يحقر معنى من هذه المعاني التي ينظمها

الجامدون أنصار القديم من القرآن فنازلاً. وبالجملة فالتجديد أن تكون لصًّا من

لصوص الكتب الأوروبية ثم لا تكون ذا دين أو لا يكون فيك من الدين إلا اسمك

الذي ضرب عليك فلا حيلة لك فيه، ولا تستطيع أن تستدرك منه إلا في أولادك

المساكين، ثم لا حاجة للجديد بإلحادك أو زيغك إلا إذا طبعت بأحدهما أو كليهما

مسائل التاريخ الإسلامي والأدب العربي، وأفسدت الخالص بالممزوج، وحقرت

الناس والمعاني وكنت حرًّا طليقًا من قيود السماء والأرض إذا صدرت أو وردت

فتقول على قدر عقلك، ثم تفعل على قدر زيغك، ثم تزيغ على قدر ما أنت قادر.

أما إن بحثت وقايست وتعقلت وكنت أذكى الناس وأبلغ الناس ثم كنت لا

تستخرج من التاريخ والأدب إلا ما يزينهما ويكشف عن أسرارهما وحقائقهما

الصحيحة ولم تكن لص كتب أوربية ومذاهب أوربية، فالويل لك. فما أنت إلا

قديم وما أنت إلا نفس حجرية ولو قدسك المسلمون تقديس الكعبة وحجرها، وإن

العصر لفي غنى عنك وعن كتبك وآرائك؛ لأن خمسة أو ستة أو خمسين أو ستين هم

العصر وهم الأمة وهم من التاريخ المترامي إلى المستقبل كالقطار فيه ما فيه من

عربات تحمل من العروض على أجناسها وأنواعها، ومن الناس على درجاتهم

وطبقاتهم، ولكن الخمسة أو الستة وحدهم عربة الآلات والبخار وفحم نيوكاستل.

بلى أيها المجددون، غير أنه ليس على الأرض معصوم من الخطأ وغير أننا

نعرف أن غلطة العالم تدل على علمه كما يدل صوابه، وإن شبهة الجاهل تدل على

جهله كما يدل خطأه إذ كان الأول متحرزًا يتوقى جهده وكان الثاني متحمقًا يسترسل

جهده، فعلى قدر قوة الشبهة وضعفها، ويحسب نوع الغلطة وشكلها، يعرف نوع

الفكر وتتبين حالة العقل. وبهذين تعرف صفة النفس، وبالنفس لا بغيرها يقوم

التاريخ الإنساني.

ولو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان معه خمسمائة ألف من أمثال (أدعياء

التجديد) أفيردون عليه ما ردَّ عربي واحد قلبه روح سيفه؟ أرأيتم الآن أيها

الفضلاء جدًّا

أن الأمم في غنى عنكم وأن حاجتنا كل الحاجة إنما هي إلى

إيمانها وقديمها، وأنكم لا تنزلون منها ومن تاريخها وأسباب تاريخها إلا منزلة

الثرثرة في المعنى الصريح من المعنى الصريح. وأن مثلكم كمثل حادثة تاريخية

عظيمة أخذت ما أخذت من الناس وتركت ما تركت فيهم حتى إذا مضت لسبيلها

وصارت حديثًا في الأحاديث جاء رجل متسكع متلكع فاحتسى ألف كأس من الخمر

وأحرق ألف دخينة من التبغ، وأضرم النار وروح النار على دماغه ليخرج من

دماغه رواية تمثيلية في تلك الحادثة يزخرفها بالكذب ويزينها بالفلسفة ويزيدها

بالتحليل والمنطق، ويجملها بالخيال والشعر، ثم لا تكون مع هذا كله في جنب

الأصل إلا ملهاة وهزؤًا وسخرية، ليس فيها إلا حسام لا يقطع، وبطل لا يمنع،

ونار لا تحرق، وبحر لا يغرق؟ أتظنون أن التجديد لا يقوم إلا بالهدم، وهل يبلغ

ما أنتم فيه من الحماقة وضعف البصر بعواقب الأمور وأسرار الأشياء أن: إن

البناء الجديد لا يقوم إلا بعد هدم القديم وإزاحة أنقاضه، وإقرار الجديد في موضعه

أهو بناء من الطوب والحجارة والأخشاب، ترفعون هذا وتضعون هذا أم هو بناء

بالكلام على أرض من الورق، فكل من جاء ليبني بنى، وكل من جاء ليهدم هدم؟ ألا

تعلمون أن القديم لا يهدم البتة لأنه هو الذي يبدع الجديد وينشئه، فإن هدم في

أمة من الأمم زال الجديد بزواله، ولم يبق من الأمة إلا بقايا لا تستمسك على حادثة،

ولا تقر على صدمة، وإن سنة الكون في الجديد أنه ترميم في بعض نواحي القديم،

وتهذيب في بعضها، وزخرف في بعضها الآخر، وإلا لوجب أن يتجدد التركيب

الإنساني، والتركيب العقلي، وهو ما لم يقع ولن يقع منه شيء.

فالشأن في الجديد أن تتصل المادة الجديدة بالقديم فإذا هو هو، ولكن ببعض

الزيادة، أو بعض الزينة، أو بعض القوة، وكل ذلك لإحداث بعض المنفعة.

فالرجل المجدد لا يوجد نفسه أيها الفضلاء جدًّا، وما هو من الهوان على

الكون ونواميسه وعلله بحيث يقول: سأكون فيكون. ولو أن كل أسود في مطعم

أو حانة كأسود بني عبس لفسدت الأرض، ولم يبق للشجاعة تاريخ يحفظ، ولو أن

كل لون أحمر يقول: أنا الورد لما بقى للورد معنى إلا أن يكون خجلاً في وجه الدنيا.

المجدد أيها الفضلاء جدًّا لا تخرجه للأمة إلا أقوى عناصر القديم متى

اجتمعت فيه صحيحة متظاهرة يمد بعضها بعضًا. فإن من انتهى إلى غاية من

الغايات كان هو الحري أن يستشرف لما بعدها، وأن يأتي بما لا يستطيع من دونه،

ولكن الشرط أن يكون قد بلغ هذه الغاية وما يبلغها إلا إذا كان تهيأ بوسائلها، ولن

تأتي لي هذه الوسائل على أتمها وأكملها إلا إذا شاءت الحكمة الإلهية أن تنقح شيئاً

في أساليب الحياة ونظام القديم.

فالذي يحصل من كل ما تقدم أن لا جديد إلا حيث تبدع الحكمة شيئًا، ثم

تتصل نواميس الحياة النفسية بهذا الشيء، فإذا هي تفعل به ما اقتضته الحكمة مما

نسميه هدمًا أو بناءً. فأنت إذا كنت مجدداً في اللغة مثلاً، وكانت فيك العناصر

الكافية لاجتماع قوة من قوى الناموس العام، فلابد أن تبدع شيئًا غير موجود لا

يستطيعه غيرك كما تستطيعه أنت، فإذا أبدعت وأحدثت رأيت القديم نفسه هو

الدليل على أنك جددت، فكنت بشهادته مجددًا وهي شهادة كما ترى لا تنالها بأنك

محرر صحيفة، أو مترجم مجلة، أو ملخص من بعض آراء الفلاسفة، بل من

حياة عصرك وطبيعته، وقوانين وجوده؛ إذ تكون زيادة في العنصر وآية في الطبيعة،

وكلمة جديدة في قوانين الأمة. اهـ.

_________

ص: 205

الكاتب: محمد رشيد رضا

مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [*]

محضر الجلسة الأولى

يوم الخميس أول ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ

13 مايو سنة 1926م

اجتمع المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر في دار المعاهد الدينية التابعة

للجامع الأزهر الشريف في الحلمية بمدينة القاهرة، الساعة الحادية عشرة صباحًا

يوم الخميس أول ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ (13 مايو سنة 1926م)

برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر، الشيخ محمد أبي الفضل شيخ

الجامع الأزهر الشريف ورئيس المؤتمر، وحضور حضرات أصحاب الفضيلة

والسيادة والسعادة والعزة:

الشيخ محمد مصطفى المراغي رئيس المحكمة الشرعية العليا من مصر.

الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية من مصر.

الشيخ حسين والي السكرتير العام لمجلس الأزهر والمعاهد الدينية. من مصر

الشيخ أحمد هارون وكيل الجامع الأزهر والمدير العام للمعاهد الدينية

...

...

...

...

...

... من مصر.

الشيخ محمد فراج المنياوي السكرتير الخاص لشيخ الجامع الأزهر ورئيس

مجلسه الأعلى) من مصر

السيد الإدريسي السنوسي أمير برقة وطرابلس من طرابلس الغرب.

أحمد شتيوي السويحلي بك حاكم مصراطة سابقًا من طرابلس الغرب.

التهامي قليصة بك رئيس مالية مصراطة سابقًا من طرابلس الغرب.

الشيخ عمر الميساوي مفتي الخمس سابقاً من طرابلس الغرب.

محمد الصالحي التونسي العضو في مجلس الأمة الكبير في تونس.

السيد محمد الصديق من أكابر العلماء والأشراف من مراكش.

أحمد بهار الدين أفندي مندوب جمعية الخلافة بجنوب إفريقيا.

أبو بكر جمال الدين أفندي مندوب الجمعية الإسلامية بجنوب إفريقيا.

الدكتور الحاج عبد الله أحمد مندوب جزر الهند الشرقية.

الدكتور الحاج عبد الكريم أمر الله مندوب جزر الهند الشرقية.

السيد حسن العطاس مندوب سلطنة جوهور.

عناية الله خان المشرقي رئيس دار العلوم بالهند.

السيد الميرغني الإدريسي من أمراء تهامة اليمن.

الشيخ عبد الرحمن بن علي من قضاة اليمن سابقاً وأعيانها.

الشريف يحيى عدنان باشا من أكابر أشراف الحجاز.

الشيخ خليل الخالدي رئيس محكمة الاستئناف الشرعية من فلسطين.

أسعد الشقيري مجلس التدقيقات الشرعية بالآستانة سابقًا.

إسماعيل الخطيب المحامي الشرعي بفلسطين.

عارف باشا الدجاني من كبار أعيان فلسطين.

الشيخ حسن أبو السعود من فضلاء فلسطين.

محمد مراد أفندي مفتي حيفا من فلسطين.

جمال الحسيني بك سكرتير اللجنة التنفيذية للمؤتمر السادس الفلسطيني.

الشيخ عيسى منون مندوب المجلس الإسلامي الأعلى بفلسطين.

عطا الله الخطيب أفندي مدير أوقاف بغداد من العراق.

الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي الأستاذ في كلية آل البيت ببغداد.

يعقوب شنكوفيتش أفندي المفتى الأكبر لجمهورية بولونيا من أعضاء المؤتمر

بأوربا.

وتولى أعمال السكرتارية محمد قدري أفندي نائب السكرتير العام، حضرة

صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي وساعده في ذلك: علي أحمد عزت أفندي،

أحمد عبد القادر أفندي، محمد شكري رجب أفندي، محمد عبد الرزاق أفندي،

أحمد وهبي الحريري أفندي، محمد المهدي أفندي، وكلهم من موظفي المعاهد

الدينية.

وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر رئيس المؤتمر افتتاح المؤتمر

بسم الله الرحمن الرحيم

ثم تلا القارئ الشهير الشيخ سليمان محرز سورة الفتح.

وبعد ذلك ناول حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس خطبة الافتتاح

لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي سكرتيره الخاص فتلاها نيابة عنه

ونصها:

(بسم الله الرحمن الرحيم أفتتح المؤتمر)

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، نحمده أن جمع

بيننا وبينكم في سبيل الله على بعد الأقطار وطول الأسفار، ونشكره أن جعلنا

مستمسكين بحبله الذي لا ينفصم، رغبًا في الوحدة والائتلاف، ورهبًا من الفرقة

والاختلاف، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين وعلى

آله وصحبه الذين اتبعوا النور الذي أنزل معه، وجمعوا الكلمة، ووحدوا الوجهة.

أيها السادة:

نشكركم شكرًا يكافئ ما أقدمتم عليه من عمل للإسلام وما تحملتم من مشاق

كثيرة في إجابة الدعوة، لقد فارقتم في سبيل الله دياركم آمِّين مصر مجيبين داعي

الله.

نشكركم شكرًا يكافئ عظمة الإيمان الذي في قلوبكم وقد أقمتم الحجج العملية

على محبتكم لله ورسوله والمؤمنين، وسيكتب التاريخ لكم ولشعوبكم عمل عظماء

الرجال.

لقد قام بكم هذا المؤتمر العظيم، وهو أول مؤتمر إسلامي عام، فليقم بكم إن

شاء الله تعالى بناء الوحدة، ولتوثق بكم عروة الألفة عن فكر رشيد، ورأي سديد.

أيها السادة:

كان لزوال الخلافة ما تعلمون من الوقع الشديد في أنفس الشعوب الإسلامية،

ولقد تجاوبت أصواتهم من الأرجاء البعيدة والنواحي المختلفة يتلمسون سبيلاً إلى

الرشاد، ويتطلبون عقد مؤتمر إسلامي عام ينظر في الأمر من ناحية الدين، فنظر

العلماء في ذلك نظرة خالصة لله تعالى، واجتمعوا اجتماعاً تاريخيًّا، وقرروا عقد

المؤتمر على ما علمتم قيامًا بواجبهم الديني.

وقد أشير في أسباب هذا القرار إلى أن مركز الخلافة في نظر الدين الإسلامي

ونظر جميع المسلمين له من الأهمية ما لا يعدله شيء آخر. لما يترتب عليه من

إعلاء شأن الدين وأهله، ومن توحيد كلمة المسلمين وربطهم برباط قوي متين.

فوجب على المسلمين أن يفكروا في نظام الخلافة على قواعد توافق أحكام الدين

الإسلامي، ولا تجافي النظم الإسلامية التي رضيها المسلمون نظمًا لحكمهم.

غير أن الضجة التي ترتبت على زوال الخلافة جعلت العالم الإسلامي في

اضطراب لا يتمكن المسلمون معه من البت في هذه النظم وتكوين رأي ناضج فيها

إلا بعد الهدوء، وبعد الإمعان والروية، وبعد معرفة وجهات النظر في مختلف

الجهات. فاعملوا للإسلام ما يحفظه، وما يخلد لكم الذكر الجميل، مستعينين بالله

مخلصين له الدين. {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا

وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:

13) ونرى من الواجب علينا أن نشكر للأمم الأخرى احترامهم لشؤوننا الخاصة.

ونسأل الله جل شأنه أن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وصلى الله على سيدنا

محمد وعلى آله وأصحابه وسلم) .

ثم أستأذن صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري وأرتقي منبر الخطابة

وألقي كلمة في تأثير الدعوة إلى المؤتمر، وقال: إنها دعوة مباركة، وقد لقيت آذاناً

سامعة، وقلوبًا واعية، ونفى غير ذلك مما كان يقوله بعض الظانين.

ثم قال: إن المادة (الحادية عشرة) من النظام الداخلي للمؤتمر وضعت

الخطب التي تلقى في المؤتمر تحت نظر لجنة، وكثير منا قد يخطب ارتجالاً،

فأقترح تعديل المادة واستثناء الخطب.

فاستأذن صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي في الكلام وقال:

إن الغرض من هذه المادة أن الخطب التي تكون مكتوبة تعرض على اللجنة

للنظر فيها وتوزيعها على الجلسات كما يناسب موضوعاتها حتى تكون مهمة

المؤتمر سهلة.

وأما الخطب الارتجالية والمناقشات اللفظية التي تدور عادة بين المتفاهمين

فحضرات الأعضاء أحرار فيها بعد إذن الرئيس كما في النظام الداخلي للمؤتمر،

فاكتفى الأستاذ الشقيري واقتنع بهذا.

ثم ألقى صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي كلمة حيا فيها الحاضرين

بما يناسب المقام وشكر لهم إجابتهم الدعوة. ودعا الله سبحانه وتعالى أن يوفق

المؤتمرين لما فيه خير المسلمين.

ثم قال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي:

أهذا النظام الذي وضع ليجري عليه المؤتمر في أعماله غير قابل للتعديل أم

قابل له؟ فربما يكون فيه ما هو محتاج للتعديل.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس:

لقد وضع هذا النظام بعد استقصاء وبحث كثيرين.

واستأذن صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي في الكلام وقال:

إن هذا النظام وضعه المجلس الإداري للمؤتمر وهو مؤلف من جمع كثير فيه

الخبيرون بنظم المجالس النيابية الحديثة، وإذا رأيتم أن فيه ما قد يحتاج إلى تعديل

فلا مانع من تقديم اقتراح بالطريقة النظامية.

فاقتنع حضرة الأستاذ الثعالبي أفندي بذلك.

ثم استأذن صاحب الفضيلة الأستاذ الشقيري وقال:

إن كثيرًا كتبوا يقولون: قد يتوهم بعض الناس أن العواصم التي فيها تأثير

أجنبي لا يمكن الكلام فيها بالحرية التامة، ولكن المسلمين أحرار فيما يقولون:

فالبلاد الإسلامية التي فيها حاكم مسلم فيها الجمعة والجماعة والأحكام الدينية

فالمحافظة على الدين موجودة بحمد الله في كل قطر إسلامي.

وقد كتبت بعض الجرائد أن هذا المؤتمر ربما أخلّ بالمناسبات بين أمراء

المسلمين، وهذا مردود.

فطلب صاحب الفضيلة الأستاذ عطاء الله الخطيب أفندي من حضرة صاحب

الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس تطبيق المادة الحادية عشرة من النظام الداخلي

للمؤتمر القاضية بأن هذه الجلسة إنما هي لخطبة الافتتاح والتعارف، وتأليف لجنة

للنظر في الخطب والاقتراحات والأبحاث.

فتقبل ذلك الأستاذ الشقيري، وقال: لم أتكلم إلا بإذن.

ثم استأذن فضيلة الأستاذ الشيخ فراج المنياوي وارتقى منبر الخطابة وألقى

كلمة بيَّن فيها أنه ليس لعلماء مصر غاية إلا أداء واجبهم الديني، وأن للمؤتمر

الحرية التامة فيما يبحث وفيما يقرر. وشكر لحضرات أعضاء المؤتمر تفضلهم

بإجابة الدعوة. وذكر لهم أن أمر المسلمين بين أيديهم دون سواهم، حاثًّا على

الوحدة الإسلامية.

ثم طلب حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس الشروع في تأليف

لجنة من حضرات أعضاء المؤتمر للنظر في الخطب والاقتراحات والأبحاث قبل

عرضها على المؤتمر.

فاقترح حضرة جمال الحسيني بك الاستراحة ربع ساعة. فوافق على ذلك ثم

عاد المؤتمر إلى الاجتماع، وأخذت الآراء على أعضاء اللجنة وهل يكون انتخابهم

سريًّا، فكانت أغلبية الآراء أن عدد أعضائها بعدد الشعوب الإسلامية الممثلة في

المؤتمر وبالانتخاب السري وأنه إذا جاء مندوبون من شعوب أخرى غير الموجودين

الآن، فلمندوبي كل شعب الحق في انتخاب عضو لهذه اللجنة.

وعلى ذلك تم انتخاب أعضاء هذه اللجنة.

وأعلنت نتيجة الانتخاب فكانت كما يأتي:

حضرات أصحاب الفضيلة والسعادة:

الشيخ حسين والي من مصر

الشيخ محمد الصالحي التونسي من تونس

السيد محمد الصديق من مراكش

الشيخ أحمد بهار الدين أفندي من جنوب أفريقيا

يعقوب شنكوفتش أفندي من بولونيا

عناية الله خان المشرقي من الهند

السيد حسن العطاس من سلطنة جوهور

الشيخ خليل الخالدي من فلسطين

عبد العزيز الثعالبي أفندي من العراق

الشريف يحيى عدنان باشا من الحجاز

الشيخ عبد الرحمن بن علي من اليمن

الشيخ الميرغني الإدريسي من تهامة

الشيخ عمر الميساوي من طرابلس الغرب

ثم أعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس انتهاء الجلسة؛ إذ كانت

الساعة الواحدة بعد الظهر على أن يجتمع المؤتمر الساعة الرابعة بعد ظهر يوم

السبت المقبل 3 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ (15 مايو سنة 1926م) .

نائب السكرتير العام

...

...

رئيس المؤتمر

إمضاء/ محمد قدري

...

...

ختم/ محمد أبو الفضل

***

محضر الجلسة الثانية

يوم السبت 3 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ

15 مايو سنة 1926م

(اجتمع المؤتمر في الساعة الرابعة والنصف مساءً برئاسة الأستاذ الأكبر

شيخ الجامع الأزهر، وحضور من حضروا الجلسة الأولى وزاد عليهم:

السيد محمدعلي الببلاوي نقيب السادة الأشراف بالديار المصرية.

السيد عبد الحميد البكري شيخ مشايخ الطرق الصوفية بالديار المصرية.

الشيخ محمد عبد اللطيف الطعام شيخ معهد الإسكندرية بمصر.

الشيخ عبد الغني محمود شيخ معهد طنطا بمصر.

الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ معهد أسيوط بمصر.

الشيخ إبراهيم الجبالي شيخ معهد الزقازيق بمصر.

الشيخ عبد المجيد اللبان المفتش بالمعاهد الدينية بمصر.

ولم يحضره السيد الميرغني الإدريسي لعذر، والشيخ إسماعيل الخطيب

المحامي الشرعي.

وتولى أعمال السكرتارية من كانوا في الجلسة الأولى.

وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس افتتاح الجلسة، وأذن

بتلاوة محضر الجلسة الماضية. فتلاه علي أحمد عزت أفندي من السكرتيرين

المساعدين.

ولم يحصل من حضرات الأعضاء اعتراض على صيغته فاعتبر موافقاً عليه

ثم تليت برقية من أحد أعضاء لجنة الخلافة بجنوب أفريقيا فيها رجاء النجاح

للمؤتمر. ثم حصلت مناقشة حول تلاوة برقية وردت من مكتب الاستعلامات

السوري فيها إنكار لتصرف الفرنسيين في دمشق، اشترك فيها حضرات أصحاب

الفضيلة والسيادة والعزة الأساتذة: جمال الدين الحسيني، والشيخ حسين والي،

والشيخ محمد فراج المنياوي، والشيخ أسعد الشقيري، والشيخ محمد الصالحي

التونسي، ومحمد مراد أفندي، والسيد محمد الببلاوي، وحسن أبو السعود أفندي،

وعبد العزيز الثعالبي أفندي.

ثم وافق المؤتمر بالأغلبية على تلاوتها فتليت.

ثم اقترح حضرة الأستاذ جمال الحسيني بك من مندوبي فلسطين أن يصدر

المؤتمر احتجاجًا على ذلك وأن يحيل هذا الاقتراح إلى لجنة الاقتراحات. فحصلت

مناقشة في ذلك اشترك فيها حضرات أصحاب الفضيلة والعزة الأساتذة: عبد العزيز

الثعالبي أفندي، والشيخ محمد فراج المنياوي، ومحمد مراد أفندي، والشيخ

إبراهيم الجبالي، والشيخ حسين والي وجمال الحسيني بك، والشيخ عبد الرحمن

قراعة.

ثم وافق المؤتمر على إحالة الاقتراح إلى هذه اللجنة.

ثم استأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ حسن أبي السعود أفندي وقال:

إن هناك مادتين من مواد النظام الداخلي للمؤتمر. إحداهما المادة الثانية التي

تذكر أن يكون للرئيس وكيل يعينه المجلس الإداري للمؤتمر ويقوم بأعمال الرئيس

حال غيابه. ورأيي أن يفصل في مسألة الوكيل الآن قبل الخوض في أعمال

المؤتمر. والأخرى المادة الثانية والعشرون التي تقول (عند أخذ الآراء في المسائل

المبينة في البرنامج وفي الاقتراحات العلمية تعتبر أغلبية آراء الحاضرين. وإذا

تساوت يرجح الجانب الذي فيه الرئيس) وطلب الأستاذ أخذ الرأي في المسألة

الأولى، هل يبقى انتخاب وكيل الرئيس للمجلس الإداري للمؤتمر أو يجعل هذا

الحق للمؤتمرين جميعًا.

فاستأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي

الديار المصرية وقال: إن صاحب الحق في انتخاب الوكيل هو المجلس الإداري

للمؤتمر.

ثم استأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي وقال: إذا كان

لابد من الكلام في هذا فليقدم اقتراح به، وليحوّل إلى لجنة الاقتراحات.

فاكتفى حضرة الأستاذ حسن أبي السعود أفندي بهذا ثم قرأ المادة الثانية

والعشرين السابقة الذكر واقترح أن تكون الآراء بعدد الشعوب الممثلة في المؤتمر

فيكون لكل شعب صوت واحد.

ثم استأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ عطاء الله الخطيب أفندي واقترح

تلاوة مواد النظام الداخلي للمؤتمر مادة مادة وأخذ الرأي فيها.

فحصلت مناقشة في الاقتراحين اشترك فيها حضرة صاحبي الفضيلة

الأستاذين الشيخ حسين والي، وعطاء الله الخطيب أفندي، وحضرة صاحب

السعادة عارف الدجاني باشا.

ثم وافق المؤتمر على أن يحول الاقتراحان إلى لجنة الاقتراحات.

ثم قال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس: لنظر الآن في أعمال

المؤتمر المبينة في برنامجه وتعيين عدد جلساته وتوزيع الأعمال في الجلسات وفقًا

للمادة الثانية عشرة من النظام الداخلي للمؤتمر.

فحصلت مناقشة حول ذلك أشترك فيها حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة

عبد العزيز الثعالبي أفندي، والشيخ حسين والي، والشيخ الأحمدي الظواهري

وعطاء الله الخطيب أفندي، والشيخ أسعد الشقيري.

ثم اقترح حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي تأليف لجنتين

واحدة علمية لبحث المسائل الثلاث الأولى من برنامج المؤتمر والثانية لبحث

المسائل الثلاث الأخرى منه.

فواق المؤتمر على هاتين اللجنتين.

ثم اقترح حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري أن تكون

اللجنة الأولى مؤلفة من عشرة أعضاء.

واقترح حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري أن

يضم إلى أعضائها شيخ الحنابلة بالديار المصرية.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: لا مانع من ضم

فضيلته إلى اللجنة وأن لم يكن من أعضاء المؤتمر.

واقترح أن تكون اللجنة مؤلفة من تسعة أعضاء: ثلاثة من كل مذهب والعاشر

شيخ السادة الحنابلة.

وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: أرى أن يكون شيخ السادة

الحنابلة مستشارًا.

فوافق المؤتمر على ذلك.

ثم رفعت الجلسة للاستراحة وصلاة المغرب إذ كانت الساعة السادسة والثلث

مساءً. وهنا استأذن صاحب السمو الأمير السيد إدريس السنوسي حضرة صاحب

الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس في الانصراف فأذن لسموه.

ثم عادت الجلسة إلى الانعقاد الساعة السابعة مساءً. فأمر حضرة صاحب

الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس بأخذ الآراء فيما ذكر.

فأخذت الآراء بطريق الانتخاب السري لتأليف اللجنة التي تبحث المسائل

الثلاث الأولى من برنامج المؤتمر وهي:

1 -

بيان حقيقة الخلافة وشروط الخليفة في الإسلام

2 -

الخلافة واجبة في الإسلام

3 -

بم تنعقد الخلافة؟

ثم أعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس النتيجة فكان الذين

نالوا أغلبية الأصوات حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة:

حنفية:

الشيخ عبد الرحمن قراعة من مصر

الشيخ خليل الخالدي من فلسطين

الشيخ أحمد هارون من مصر

...

***

...

مالكية:

الشيخ عبد العزيز محمود من مصر

السيد محمد الببلاوي من مصر

...

الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي من العراق

***

شافعية:

الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مصر

الشيخ حسين والي من مصر

الشيخ حسن أبي السعود من فلسطين

ووافق المؤتمر على أن يضم إلى هذه اللجنة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ

محمد سبيع الذهبي شيخ السادة الحنابلة بالديار المصرية بصفة مستشار.

ثم قال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: إن صحتي

وأعمالي لا تساعدني على العمل مع اللجنة.

فلم يقبل المؤتمر من فضيلته ذلك، ورجاه العدول عن اعتذاره فقبل أن يكون

معها في بعض الأحيان.

ثم أخذت الآراء بطريق الانتخاب السري أيضًا لتأليف اللجنة التي تبحث

المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج المؤتمر وهي:

1ـ هل يمكن الآن إيجاد الخلافة المستجمعة للشروط الشرعية؟

2ـ إذا لم يكن من الميسور إيجاد هذه الخلافة فما الذي يجب أن

يعمل؟

3ـ إذا قرر المؤتمر وجوب نصب خليفة فما الذي يتخذ لتنفيذ ذلك على أن

يراعى في انتخاب هذه اللجنة أن يكون لكل شعب عضو واحد فيها لم يسبق

انتخابه في لجنة بحث الخطب والاقتراحات إذا لم يوجد غيره من شعبه في

المؤتمر.

وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس النتيجة، فكانت أن

اللجنة تؤلف من حضرات أصحاب الفضيلة والسيادة والسعادة الأساتذة:

1-

الشيخ محمد مصطفى المراغي من مصر

2-

الشيخ عطا الله الخطيب أفندي من العراق

3-

أبو بكر جمال الدين أفندي من جنوب أفريقيا

4-

الشيخ محمد الصالحي التونسي من تونس

5-

السيد محد الصديق من مراكش

6-

يعقوب شنكوفتش أفندي من بولونيا

7-

عناية الله خان المشرقي من الهند

8-

الشريف يحيى عدنان باشا من الحجاز

9-

السيد الميرغني الإدريسي من اليمن

10-

محمد مراد أفندي من فلسطين

11-

الدكتور الحاج عبد الله أحمد من جزر الهند الشرقية

12-

سمو السيد الأدريسي السنوسي أمير برقة وطرابلس

ثم اعتذر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي من

العمل في اللجنة بعذر قَبِله المؤتمر، فكان من يلي فضيلته في أغلبية الأصوات

حضرة صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري فانتخب بدله.

ويقصر على هذه اللجنة ويكتفي بحضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن

بن علي في لجنة الخطب والاقتراحات.

ثم اقترح حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي أن يكون اجتماع

اللجان الثلاث من الغد في الساعة التاسعة صباحًا؛ لتبحث كل لجنة فيما حول إليها ثم

ترفع رأيها إلى رياسة المؤتمر لتعرض ما تراه على المؤتمر في جلسة تعقد الساعة

الرابعة والنصف بعد ظهر يوم الثلاثاء المقبل

فوافق المؤتمر على ذلك.

ثم استأذن حضرة صاحب السمو والفضيلة الأستاذ الشيخ حسن أبي السعود في

تلاوة برقية من نائب رئيس اللجنة التنفيذي بفلسطين تشير إلى اتحاد فلسطين وعقد

مؤتمر لذلك في وقت قريب. فأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس

في تلاوتها فتلاها.

ثم أعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس انتهاء الجلسة إذ كانت

الساعة الثامنة والنصف على أن يجتمع المؤتمر الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر

يوم الثلاثاء المقبل.

نائب السكرتير العام

...

...

رئيس المؤتمر

إمضاء/ محمد قدري

...

...

ختم/ محمد أبو الفضل

***

محضر الجلسة الثالثة

يوم الثلاثاء 6 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ

(18 مايو سنة 1926م)

(اجتمع المؤتمر في الساعة الخامسة برئاسة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع

الأزهر ورئيس المؤتمر وحضور من حضروا الجلسة الثانية، وزاد عليهم الشيخ

محمد بخيت مفتي الديار المصرية سابقًا وأحمد تيمور باشا عضو مجلس الشيوخ

ووحيد الأيوبي بك من الأعيان والشيخ محمد حبيب العبيدي مفتي الموصل والشيخ

عبد الله سراج قاضي قضاة الحجاز سابقًا) .

ولم يحضر حضرة السيد الميرغني الإدريسي لعذر.

وتولى أعمال السكرتارية من كانوا في الجلسة الثانية.

وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس افتتاح الجلسة، ثم أذن

بتلاوة محضر الجلسة الماضية المنعقدة يوم السبت 3 ذي القعدة الحرام سنة

1344هـ (14 مايو سنة 1926م) فتلاه علي أحمد عزت أفندي من السكرتيرين

المساعدين ولم يعترض عليه فاعتبر موافقًا عليه.

ثم قال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: أذكر أن حضرة السكرتير

قال: يكون اليوم الأول بعد انتهاء عمل اللجان وهو يوم الثلاثاء 6 ذي القعدة (أي

هذا اليوم) لنظر تقرير لجنة الاقتراحات واليوم الثاني لنظر تقرير اللجنة العلمية

واليوم الثالث لنظر تقرير اللجنة الثالثة، ولكننا رأينا أن عمل لجنة الاقتراحات لم

يذكر في جدول أعمال اليوم.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: إني لما اقترحت

على المؤتمر تأليف لجنتين: الأولى للمسائل العلمية والثانية للمسائل الثلاث الأخيرة

من برنامج المؤتمر قلت (ولعل حضرات الأعضاء يذكرون) إن عمل هاتين

اللجنتين مع عمل لجنة الاقتراحات يقدم إلى الرياسة يوم الثلاثاء والرياسة بعد ذلك

تقدم للمؤتمر تقرير لجنة الاقتراحات أو تؤخره وتقدم عليه غيره.

فمسألة التقديم أو التأخير يرجع تقديرها إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ

الأكبر رئيس المؤتمر.

وقد رأت رياسة المؤتمر في جلسة اليوم تقديم المسألة العلمية لأنها أمر

جوهري مقصود بالذات من عمل المؤتمر ولجنة الاقتراحات لم تحدث شيئًا جديدًا

يخالف النظام الداخلي للمؤتمر، وللمؤتمر الحرية في إبداء رأيه فيما يعرض عليه

وأرجو أن يكون بيننا حسن التفاهم حتى يمكن النظر في الغرض.

فقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: أنا متفق مع الأستاذ ولكني

أقول: كيف يمكننا أن ننظر في أعمال اللجنتين اللجنة العلمية واللجنة الثالثة وتؤخذ

الآراء فيهما إذا كان تقرير لجنة الاقتراحات لم يعرض بعد وهو مشتمل على

الاقتراح المقدم في شأن أخذ الآراء؟

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: اسمح لي أن أقول:

إن لجنة الاقتراحات لم تحدث شيئًا جديدًا يخالف النظام الذي وضع للمؤتمر كما

أشرت إلى ذلك من قبل، وإن النظام الداخلي للمؤتمر لموضوعٌ بإحكام ودقة.

والأمر بيننا سهل جدًّا، وإن الذي تنظرون فيه الآن هو عمل علمي محض

وليس له دخل في أمور سياسية، ولقد نزل المؤتمر على هذا النظام وقد أرسلناه إلى

حضرات أعضاء المؤتمر قبل البدء في العمل، وقد جرينا عليه إلى الآن فرجائي

من إخواني أن يقبلوه ولو مؤقتًا حتى يأتي وقت يدعو إلى تعديل فيه.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي:

المسائل المعروضة على المؤتمر مسائل علمية والعلم مشاع بين الجميع، وليس من

حق أمة دون أخرى، فليس جزء من العلم لفلسطين وجزء منه للعراق وجزء منه

لجنوب أفريقيا، بل هو عام بين الجميع، فإذا وصلنا إلى مسألة من المسائل يكون

التصويت فيها من حق كل أمة فلا بأس من أن نراعي ذلك، أما المعروض الآن

فليس فيه ما يتعلق بحقوق الأمم، وعلى هذا فلا معنى لأن تثار مسألة التصويت.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إبراهيم الجبالي: إن توزيع عمل

اللجان على الأيام لم يجر فيه كلام والذي يتكلم فيه (جمال بك) من المكملات ولا

ننظر فيها حتى ننظر في المقصد الأصلي، فالمعقول أن نبدأ بالمقصود الأصلي،

وأما مسألة التصويت: هل تكون بحسب أصوات الحاضرين أو حسب الجهات

الإسلامية فأقول: إننا لا نزال أمام مسائل علمية لا فرق فيها بين أن تكون في

جانبي أو جانبك ولا دخل لتمثيل الأمم فيها.

وقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: إن هناك عملاً للجنة

الاقتراحات ونريد أن نسمع قرارها، وأنا أقول بوجوب بيان كيفية أخذ الأصوات.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إبراهيم الجبالي: ننظر إلى

أصوات الحاضرين، فقد أكون أنا وأنت ممثلين لبلد واحد ولكل منا رأي.

وقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: هذا الكلام قلناه في جلسة

سابقة وحول إلى اللجنة ونريد أن نسمع كلام اللجنة فيه.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ عطاء الله الخطيب أفندي: أرى أن

النزاع قد طال، وكثر القيل والقال، وقد طلبت قبل هذا واقترحت أن ينظر

المؤتمر في النظام الداخلي مادة مادة، ومن جملة الأسباب عدم ذكر مادة واضحة في

النظام تحسم مسألة التصويت.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي: موجود

في النظام مادة في هذا الموضوع وهي المادة (22) من النظام الداخلي للمؤتمر ثم

قرأ المادة وهي (عند أخذ الآراء في المسائل المبينة في البرامج، وفي الاقتراحات

العلمية تعتبر أغلبية آراء الحاضرين، وإذا تساوت يرجح الجانب الذي فيه الرئيس) .

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عطاء الله الخطيب أفندي: الآن

يفهم أن التصويت يجري بشكلين ففي المسائل العلمية يكون بشكل وفي غيرها يكون

بشكل آخر، وهذا يقتضي وضع مادة جديدة فيها أن المسائل العلمية يجري فيها

التصويت بحسب الأشخاص كما تقولون، وغير العلمية يكون التصويت فيها

بحسب الأمم، وأنا ما رأيت أن عملاً يجري فيه التصويت على شكلين.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: نحن جرينا في هذا

المؤتمر على أغلبية آراء الحاضرين ولم نخالف ذلك إلى الآن.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إبراهيم الجبالي: رأى المؤتمر

في تشكيل اللجان أن تمثل جميع الشعوب ورأى في اجتماعه من أول الأمر أن

تؤخذ الأصوات باعتبار عدد الحاضرين.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي: الأمر

واضح فإذا قلنا: إننا نريد أن نعين خليفة من فلسطين أو العراق فليكن بعدد أصوات

الأمم، وإذا قلنا: إنه يشترط في الخليفة أن يكون عادلاً حرًّا إلى آخر شرائطه فلم أر

معنى لأخذ الأصوات بحسب الأمم.

فقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: الكلام الآن يشعر بأن النظام

سيجري بأشكال.

فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: لا أرى داعيًا لهذا التشاد

نحن الآن معروض علينا مسألة علمية فلنبت فيها ثم بعد ذلك إذا عرضت علينا

مسائل أخرى فعندئذ نعطي فيها رأينا، فلماذا نستعجل الشيء قبل أوانه؟

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: يجب أن

أعلم هل وافقت هيئة المؤتمر الموقر على هذا النظام الداخلي حتى يتخذه بعضنا

حجة على الآخر، أنا لم أتشرف بالحضور إلا في هذه الجلسة، فإن كانت هيئة

المؤتمر وافقت على هذا النظام فتعتبر مواده حجة وإلا فلا.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسن أبي السعود: أنا طلبت

تعديل هذه المواد، وكذلك عطاء الله الخطيب أفندي وقلنا: إنها لا تعتبر ما لم يوافق

عليها المؤتمر.

وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: المسألة المعروضة مسألة

فرعية علمية وبعد الفراغ منها ننظر.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي: لقد أردتم

في الجلسة الماضية بعض الإصلاح في النظام الداخلي. فقال فضيلة الأستاذ الشيخ

حسين والي: إن كان هناك ملاحظات على النظام فلتعرض على لجنة الاقتراحات

وانتهى الأمر بأن أحيلت المسألة إلى اللجنة، فعلينا أن نترك لها الأمر حتى يعرض

قرارها على المؤتمر بعد المسائل الجوهرية. وهذه هي الجلسة الثالثة ولم نعمل في

النقط الجوهرية إلى هذه اللحظة شيئًا، وأنتم أغير على المصلحة.

وقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: متى يعرض يا سيدي قرار

اللجنة؟ فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي: المسائل

الهامة التي يهم حضراتكم النظر فيها هي المسائل المبينة في برنامج المؤتمر وهي

المعروضة الآن.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: أيكون

عملنا فوضى. لقد سمي بالنظام الداخلي لأجل أن يجري الكلام في هذا المؤتمر

على مقتضاه؛ فلأجل ذلك يجب أولاً أن يوافق عليه المؤتمر.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي: قيل في

الجلسة الماضية: إن هذا النظام قد وضعه المجلس الإداري للمؤتمر، وجرينا عليه

إلى الآن.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: ما

حضرت في الجلسة الماضية ولا التي قبلها، وأنا أسأل هل وافق المؤتمر على هذا

النظام أم لا؟

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إسماعيل الخطيب: من المعلوم

أن الوزارات في غيبة المجالس النيابية تضع قوانين مخصوصة لأوقات مخصوصة

فإذا اجتمع المجلس النيابي تعرض عليه هذه القوانين، فإما أن يوافق عليها أو لا

يوافق، والمجلس الإداري للمؤتمر وضع هذا النظام، فيعمل به إلى حين أخذ رأي

المؤتمر فيه، وهو إلى الآن معمول به حتى يوافق عليه المؤتمر.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: إذا كان

المؤتمر لم يوافق عليه إلى الآن فلا أعترف به، إذاً هو قانون مؤقت، فمتى ينتهي

أمره؟

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إسماعيل الخطيب: ينتهي أمره

بموافقة أعضاء المؤتمر عليه.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: إن

الاقتراحات حولت إلى لجنة وسيرفع إليكم تقريرها ولا بد أن تنظروا فيه ونحن الآن

نقدم الأهم على المهم، فأمامنا أمر جوهري وهو ما اجتمع المؤتمر لأجله، فإذا فرعنا

منه نطلب بإلحاح من سكرتارية المؤتمر أن تقدم لنا تقرير لجنة الاقتراحات.

وهنا أعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس انتهاء

المناقشة وأمر بتلاوة تقرير اللجنة العلمية.

فتلا حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري مقرر

اللجنة العلمية المؤلفة لبحث المسائل الثلاث الأولى من برنامج المؤتمر تقرير هذه

اللجنة وهذا نصه:

تقرير

(اللجنة التي ألفها المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر في جلسته المنعقدة

يوم السبت 3 ذي القعدة الحرام سنة1344هـ (15 مايو سنة 1926م) لبحث

المسائل الثلاث الأولى من برنامج المؤتمر من حضرات أصحاب الفضيلة والسيادة

الأساتذة:

حنفية:

الشيخ عبد الرحمن قراعة

الشيخ خليل الخالدي

الشيخ أحمد هارون

مالكية:

الشيخ عبد الغني محمود

السيد محمد علي الببلاوي

عبد العزيز الثعالبي أفندي

شافعية:

الشيخ محمد الأحمدي الظواهري

الشيخ حسين والي

الشيخ حسن أبي السعود

وحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد سبيع الذهبي الحنبلي عضوًا

استشاريًّا.

انعقدت اللجنة في يوم الأحد والاثنين والثلاثاء 4، 5، 6 ذي القعدة الحرام

سنة 1344هـ (16، 17، 18 مايو سنة 1926م) وبحثت المسائل الثلاث

مسألة مسألة وهي:

1 -

بيان حقيقة الخلافة وشروط الخليفة في الإسلام.

2 -

الخلافة واجبة في الإسلام.

3 -

بم تنعقد الخلافة.

وبعد المباحثة ومراجعة الكتب المعول عليها قررت ما يأتي بيانه.

وقد رأت عدم الإطالة بذكر الأدلة والمآخذ رعاية للزمن، ولأن غالب ذلك

معروف مبسوط في الكتب المشهورة:

***

المسألة الأولى

بيان حقيقة الخلافة وشروط الخليفة في الإسلام

1 -

حقيقة الخلافة: هي رياسة عامة للدين والدنيا وحفظ حوزة الملة نيابة

عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم. فلابد في تحقيقها من الجمع بين

الرياستين: الرياسة الدينية والرياسة الدنيوية، وفصل إحداهما عن الأخرى أو تقييد

الخلافة بإحداهما دون الأخرى مخرج للخلافة عن معناها الحقيقي ونقض لأصل عقد

الخلافة بين الأمة والخليفة، ولا يتصور وجودها بدون إحداهما.

ولا يصح القول أيضًا بأن مبايعة الأمة للخليفة من باب الوكالة وللموكل أن

يقيد الوكيل، لأن هذا قياس مع الفارق. فليس من حقيقة الوكالة شرعًا أن تكون

عامة، بل يصح أن تكون عامة ويصح أن تكون خاصة بخلاف الخلافة، فإن

حقيقتها أن تكون عامة لا غير. وكما أن حقيقة الخلافة تمنع من قصر الخلافة

على إحدى الرياستين كذلك تمنع من إمكان القول بجواز تعدد الخلفاء؛ لأن عموم

الرياسة المأخوذ في مفهومها لا يتفق مع التعدد؛ ولأن من أوائل مقاصد الدين توحيد

الأمة الإسلامية ورعاية مصالحها المشتركة واعتبار المسلمين في سائر أقطار

الأرض كالجسم الواحد الذي لا يكون له إلا قلب واحد ينبعث منه دم الحياة إلى سائر الأعضاء.

ب - شروط الخليفة في الإسلام: اتفقت المذاهب الأربعة على اشتراط

الإسلام، والبلوغ والعقل، والحرية والذكورة، والقدرة على إقامة الحدود وتنفيذ

الأحكام، وحماية بيضة المسلمين، وسلامة السمع والبصر والنطق، وأن يكون

ذا رأي وبصارة بتدبير المصالح العامة للمسلمين.

وأما الاجتهاد فالجمهور على اشتراطه، ويرى بعضهم صحة الاستغناء عنه

باستفتاء العلماء. وكذا القرشية فقد نقل ابن خلدون أن الجمهور على اشتراطها

أيضًا. وأن كثيرًا من المحققين ومنهم أبو بكر الباقلاني على خلاف ذلك كما أن

الجمهور على اشتراط العدالة أيضًا.

وقد اتفق العلماء على أن محل رعاية ما وقع الاختلاف فيه من هذه الشروط

إنما هو حالة الاقتدار والاختيار لا حالة العجز والاضطرار.

***

المسألة الثانية

الخلافة واجبة في الإسلام

الإمامة (الخلافة) واجبة في الإسلام، وقد استدل لهذا في شرح العقائد بقوله

صلى الله عليه وسلم (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ، ولأحمد

والطبراني (ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) أخرجاه من حديث

معاوية. ولمسلم في صحيحة عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول: (من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس

في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) ولأن الأمة قد جعلت أهم المهمات بعد وفاة النبي

صلى الله عليه وسلم نصب الإمام على ما في الصحيحين من حديث سقيفة بني

ساعدة، وكذا بعد موت كل إمام، ولأن كثيرًا من الواجبات الشرعية يتوقف عليه

كتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود، وسد الثغور، وتجهيز الجيوش،

وقسمة الغنائم، وقهر المتغلبة والمتلصصة، وقطاع الطرق، وقطع المنازعات

الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، ونحو ذلك من الأمور

التي لا يتولاها آحاد الأمة.

***

المسألة الثالثة

بم تنعقد الخلافة؟

اتفق العلماء على أن لانعقاد الخلافة ثلاث طرائق:

الطريقة الأولى: النص من الإمام السابق.

الطريقة الثانية: بيعة أهل الحل والعقد من المسلمين، وأهل الحل والعقد هم

الذين يطاعون في الناس من العلماء والأمراء والوجوه وأهل الرأي والتدبير. ولابد

عند جمهور العلماء من أن يكونوا عدولاً. ولابد عند الحنفية في طريقتي النص

والمبايعة من نفاذ حكم من نص عليه أو بويع، فإن لم ينفذ حكمه في الناس لعجزه لم

يصر إمامًا.

الطريقة الثالثة: (التغلب والقهر من شخص مسلم وإن لم تتحقق فيه الشروط

الأخرى) .

وبعد الفراغ من تلاوة هذا التقرير.

اقترح حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عطا الله الخطيب أفندي إمهال

المؤتمر يومًا ليتمكن حضرات الأعضاء من نظر التقرير في سعة وإبداء آرائهم فيه.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد هارون. هذه مسائل علمية

نقلية محضة وهي معروفة عند العلماء، ولا تقبل شيئاً من المناقشة ولا أرى وجهاً

لإعطاء مهلة لدرسها.

وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: لا يشك شاك في أن مسألة

الخلافة من أهم المسائل، والبت فيها من الصعوبة بمكان عظيم. فأقترح تأجيل

المؤتمر سنة حتى نقتل هذه المسألة بحثًا. وأن البحث الفقهي في هذه المسألة غير

كاف. فللظروف أحكام وللأمكنة أحكام. وتأثر النظم الإسلامية ببعض السياسات

الأجنبية له حكم آخر.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: نحن

لم نرد فيما اجتمعنا لنظره من المسائل العلمية أن نكون مجتهدين لنحدث آراء جديدة

ومذاهب جديدة في الإسلام. أن بحثنا ينحصر فيما نقول المذاهب المعتبرة في

الإسلام. أما التطبيق فلكم أن تقولوا: إن هذا ليس من اختصاصنا.

وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: لا أريد مذهبًا جديدًا أو

القول بالاجتهاد، إنما أقول ذلك مستفتيًا. فإن كنتم تنقلون مسائل غير قابلة للتطبيق

في هذا العصر فماذا يكون الحكم؟

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: إن فتح

باب تطبيق الأحكام الشرعية في عصر دون عصر خطر على الإسلام. نحن

نعرف أن تطبيق أحكام الدين العامة شيء واحد، أما مراعاة أحكام الأزمنة في

إحداث شروط جديدة فلا نقول بها.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري: كنت في الجلسة

الماضية قد أشرت إلى أمر هام وهو أن هذه المسألة يجب أن ندعها إلى المجتهدين

الذين لهم الترجيح ويقدرون على الاستنباط، ولكن المؤتمر أخذ هذه المسألة على

عهدته ثقة بنفسه. والاعتماد على النفس في عصرنا هذا مزية مقبولة ممدوحة.

وقد جاءتنا اليوم اللجنة العلمية بهذا التقرير لنبدي رأينا فيه، وإننا في جميع بلادنا لنا

عقيدة ثابتة هي أن سادتنا وأئمتنا الأطهار علماء الديار المصرية فيهم من هو

المجتهد في المذهب وفيهم المستنبط. وإذا كانت اللجنة استندت إلى كلام ابن خلدون

في مسألة النسب، فهل الديار المصرية ليس فيها من هو أعلى درجة في الترجيح

والاستنباط؟

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: هل

ضاقت بنا كتب الدين حتى نرجع إلى كتب التاريخ ونأخذ عن ابن خلدون؟

فطلب حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري ألا يقاطعه أحد

وقال: كانت ديارنا كلها تنتقدنا في مسألة التصوير الشمسي، فلما ظهرت رسالة

فضيلة مفتي مصر السابق وهو الجالس هنا، وذكر فيها أن الصورة الشمسية ليست

صورة مخترعة بل هي صورة حفظت بوساطة الآلات امتنع اعتراض الناس

علينا.

فعلمنا أن الأستاذ مؤلف الرسالة هو من أهل الاجتهاد في المذهب ومن أهل

الاستنباط. إن مؤتمركم هذا أيها السادة المصريون إذا قرر شيئًا فإنه سيصل إلى

العلماء والفلاسفة والملوك والنظار والعوام في أقطار المسلمين، فالمسلمون اليوم

يريدون منكم إيضاحًا وتفصيلاً. إن شروط الخليفة استنبطتها الطبقات التي قبلكم

استنباطًا، وإن في شروط الخليفة أحاديث منها ما صححه العلماء، ومنها ما جعلوه

موضوعًا وذلك في كتب متفرقة منثورة، وأنتم تقولون إن هذا في المدونات العلمية

ونحن نسلم لكم ولكن لا يمكن أن نحكم على جميع طبقات المسلمين أنهم يعلمونه كما

تعلمونه، فيجب أن نكتب هذه المواد مادة مادة بشكل خاص فربما عرض على

ملوك المسلمين وأمرائهم وأهل الحل والعقد وربما باحثكم فيه علماء تونس أو علماء

سوريا أو علماء العراق أو علماء فارس. فنحن لا نطالبكم بإحداث شرائط جديدة،

وإنما نطالبكم ببيان هذه المسائل التي اجتهدت فيها الطبقات القديمة قبلكم، فهل هي

مسائل عقائد أو هي مسائل ظنية استنبطها من كانوا قبلكم وجعلوها شروطًا؟ وهل

إذا أنكر الشروط أو بعضها رجل يخرج بذلك عن الدين؟ نريد منكم خبراء مقتدرين

يضعون نظامًا محكمًا ذا مواد مفصلة حتى إذا نشر في البلاد الإسلامية كان لنا أن

نرفع رؤوسنا بكم ولا يفهم من كلامي هذا أني أحتقر اللجنة أو المؤتمر، وكلكم من

أكابر القوم، إن أكابر السياسيين الذين يجتمعون في المؤتمرات ينتخبون الخبراء

الماليين والعسكريين ولا يطعن ذلك في كفاءتهم. ثم هنا مسألة أدعوكم إلى التفكير

فيها وهي أن تجمعوا هذه المسائل مع المسائل السياسية الأخرى بدقة تامة فإن

وراءكم أمراء وزعماء وملوكًا، فاحذروا من أن يكون عملكم محل انتقاد فإن هذا لا

ينتهي في نصف ساعة أو بجواب مقرر.

فاستأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي وقال: يا فضيلة

الرئيس، إن اللجنة العلمية التي نظرت في هذه المسائل الثلاث ليست مؤلفة من

علماء مصر وحدهم وإنما هي لجنة انتخبها المؤتمر نفسه من بين حضرات أعضائه

وفيها علماء من الجهات الممثلة في المؤتمر فلماذا يخاطب فضيلة الأستاذ الشيخ

الشقيري علماء مصر فقط؟ على أن عمل اللجنة واضح في الشريعة.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ الشقيري: إنما أخاطب

المتخصصين. وهنا استأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي

في الكلام أيضاً وأراد أن يتكلم.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: إنما الكلام

الآن لمقرر اللجنة.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: إنما أتكلم كعضو في

المؤتمر واللجنة. ولكل عضو حق الكلام بالإذن وفضيلة المقرر له الكلام من قبل

ومن بعد، وقد استأذنت فضيلة الرئيس فأذن، والمسألة سهلة فليتكلم فضيلة المقرر.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: إن

الأستاذ الشيخ الشقيري يثني على علماء مصر فجزاه الله ألف خير عنهم، وإن

علماء مصر ما زالوا ولن يزالوا شافعية وحنفية ومالكية وحنابلة على هذه المذاهب

وما ينبغي لنا غير هذا فمهمتنا أن نبين هذه الشروط فإذا كان فيها لبس أو خفاء

فليذكر موضعه لإيضاحه. إن وظيفتنا علمية وما على اللجنة إلا أن تعدّ للمؤتمر.

فإن اكتفى بما أعدته فيها وإن رأى غموضاً أو إبهاماً فللمؤتمر أن يستوضح ما يريده.

وما وظيفة المقرر إلا رفع اللبس وإلا فما كان هنالك من حاجة لتوزيع التقرير

على المؤتمر كفتوى شرعية لا تحتمل المناقشة. يقول فضيلة الأستاذ الشقيري

يجب أن نجتهد وأن نطبق فأي مسألة يريد أن نجتهد فيها ونطبقها؟ ليست مهمتنا

أن نقول هذا الشرط متحقق عند فلان دون فلان. وإنما هذه مهمة اللجنة الأخرى

التي تقول: هذا ممكن أو غير ممكن. أما نحن فوظيفتنا أن نبين ما هي الشروط

الشرعية على حسب المذاهب. فإن كان لدى الأستاذ اعتراض على أي شرط من

هذه الشروط فليتفضل بذكره.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري: اليوم إذا سألك

سائل وقال إن من ضمن هذه الشروط النسب فما الأسباب التي جعلت من قبلنا

يعرضون عنه.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: قلنا

إن الجمهور على أن يكون الخليفة قرشيًا. وقلنا: إن بعضهم قال إن هذا ليس بشرط

ومنهم أبو بكر الباقلاني الذي نقل عنه ابن خلدون. ونحن بسطنا المسألة، وقلنا: إنها

لا تحتاج إلى ابتداع منا، وأنا لا أقول خذوا بمذهب الشافعية أو بمذهب غيرهم وإلا

أثرت خلافًا بين المذاهب الأخرى، وكل له وجهة نظر صحيحة فإذا رأيتم أن نأخذ

بقول لأن المصلحة فيه فلا مانع، ونحن نتجافى كل التجافي عن الخلافات المذهبية

التي فرقت المسلمين.

فقال حضرة صاحب الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: هذه مسألة عملية ولا

يحمل عليها المسلمون.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) منقول عن (محاضر) مؤتمر الخلافة التي نشرتها سكرتارية المؤتمر.

ص: 208

الكاتب: محمود أبو العيون

‌محاربة البغاء

تقرير

رفعه فضيلة الأستاذ أبي العيون إلى أصحاب الدولة رئيس الوزراء ورئيس

مجلس الشيوخ، ورئيس مجلس النواب، خاص بإلغاء البغاء الرسمي.

حضرة صاحب الدولة الرئيس

السلام عليكم ورحمة الله

وبعد. فإني أبرقت إلى دولتكم اقتراحًا بتاريخ يوم الاثنين 3 ذي الحجة سنة

1344هـ الموافق 14 يونيو سنة 1926م. بشأن إلغاء البغاء الرسمي، سألتكم فيه

بحرمة الدين والوطن أن تعملوا على إلغائه أسوة بالممالك المتمدينة، كأمريكا

وإنجلترا، وألمانيا.

واليوم يا دولة الرئيس نرفع إليكم تقريرًا كمذكرة إيضاحية للبرقية السالفة

الذكر مثبتين في ذلك التقرير بعض البيانات التي جعلتنا ننتهز الفرصة الحالية

لرجائكم في العمل على إلغاء البغاء الرسمي، وإليكم نصها:

أ - إن دستور الدولة المصرية اعتبر الإسلام دين الدولة الرسمي، ولم يكُ

وضع ذلك في الدستور عبثًا، بل له شأنه وقيمته واعتباره في حياة الدولة وتقاليدها

ومظاهرها العامة التي لها بالدين صلة وارتباط، وإن مشروعية الدعارة وتنظيمها

لا يتفق ودين الدولة الرسمي. ذلك لأن الإسلام يحرم الزنا، وتشريعه وتنظيمه ويأمر

بجلد الزاني والزانية ورجمهما. ولقد كان ذلك من الإسلام رأفة ورحمة بالمجتمع

الإنساني. وحرصًا منه على حفظ النفس والعقل والمال وهي أهم أغراض التشريع

الإسلامي والزنا يهدم هذه الأغراض من أساسها.

ب - إن قسم اللوائح والرخص بحث رسمية البغاء من جميع نواحيها،

وأثبت بعد استقرار المباحث الخاصة والعامة في الدولة المصرية وغيرها أنه من

المتعذر تنفيذ قوانين وأنظمة البغاء، بل إن نظامه أصبح مؤذيًا أدبيًّا وصحيًّا،

وساق على ذلك أدلة تكفي لإقناع من يطلع عليها، وأخيرًا نصح وزارة الداخلية

بإلغاء الدعارة الرسمية وإنقاذ البلاد من خطرها الداهم.

ج - إن مصلحة الصحة وافقت بمكاتبة رسمية قسم اللوائح والرخص على

إلغائه وأشارت إلى النظام الذي يتبع عقب الإلغاء.

د- إن كثيرًا من الممالك المتمدينة كإنكلترا وألمانيا والنرويج تجاهلته، أو

حرمته وراقبت آثاره. ولا سيما أمريكا فإنها حرمته بتاتاً وعقدت كل ولاياتها

مؤتمرًا للأمراض التناسلية ووضعت قرارًا حاسمًا في ذلك. ويتلخص في جملة

واحدة وهي: (إن المؤتمر يعتقد بعد دراسة واسعة إن العلاقات التناسلية الغير

الشرعية قلت كميتها بعد إيجاد نظام منع البغاء الرسمي) .

هـ - إن الدول التي تجاهلت البغاء أو حرمته لم يكن الباعث لها على ذلك

احترام الدين أو الآداب أو الرأي العام فقط. بل ظهر أن الاعتراف به رسميًّا

(1)

مفسد للأخلاق (2) مسبب للأمراض (3) مسهل لجريمة الاسترقاق (4)

مروج لتجارة الرقيق الأبيض (5) معطل للزيجة.

و إن التقارير الطبية أجمعت على أن تشريع البغاء وتنظيمه من أشد

الأخطار وأفدحها في ذيوع البغاء، وانتشار الأمراض، وفوضى العلاقات التناسلية.

(1)

كتب الدكتور تسكالاس مندوب الجمعية الدولية لإلغاء الاعتراف رسميًّا

بالبغاء للمسيو جراهام مدير الصحة العمومية المصرية يحثه فيها على السعي لإلغاء

لائحة العاهرات حين أريد تعديلها سنة 1905 قائلاً (إنها خطأ فاحش من الوجهة

الصحية، وظلم من الوجهة الاجتماعية، وفظاعة من الوجهة الأدبية وجريمة من

الوجهة القضائية) .

(2)

وقال الدكتور شان فلوري سان استلستين الذي كان متوليًا عملية

الكشف بمدينة لاهاي (إن الكشف على العاهرات لا يمكن أن يؤدي إلا إلى نفع

قليل بعزل بعض المريضات عن الاختلاط بالرجال؛ إذ كم من مريضة تفلت من يد

الطبيب لكمون دائها، أو لأنها تخفي علامات مرضها) . وقال (ومن هذا يتضح

مقدار المضار التي تسببها الحكومات باعترافها بالبغاء رسميًّا، إذ إن اعتراف

الحكومات بالبغاء رسميًّا يكون كعقد منها تجاه الجماهير تتعهد لهم به أنها كفيلة بمنع

الأمراض بمراقبة العاهرات والكشف عليهن طبيًّا، وتكون كذلك حرضت عددًا من

الرجال على الزنا، ولولا هذا الوهم الذي توهموه، ولولا ما دخل في نفوسهم من

الاطمئنان على صحتهم ما كانوا أقدموا على الزنا، وبهذا تكون الحكومة قد جعلت

من الناس زناة، ومن الأصحاء ضعفاء تسممت أجسامهم بالأمراض) .

(3)

وكتب الدكتور فخري تقريرًا مسهبًا بحث فيه مسألة البغاء والأمراض

التناسلية بحثًا دقيقًا. ثم رفعه إلى جميع الهيئات والمقامات والصحف. ونظرة

واحدة في التقرير تبعث القارئ على الأسف الشديد والحزن العميق لِما وصلت

إليه حالة البلاد من جراء البغاء السري والجهري وما كان لهما من أثر سيئ في

حالتنا الخلقية والصحية والاقتصادية.

ز - إن مَواطن البغاء جعلت مأوى لتهريب المواد المحظورة بقانون سنة

1925م وأصبحت تلك المواطن فوق كونها مواخير للدعارة فهي (غرز) للحشيش

والأفيون والكوكايين والهروين وغيرها من المواد السامة والعقاقير الضارة.

وبعد، فإننا أوردنا في هذا التقرير برؤوس مسائل لم نرد أن نتوسع فيها خشية

الإملال والسآمة. وبعد ذلك لا نرى مبررًا لبقاء العهر في البلاد. وإننا نرجو ونلح

في الرجاء على دولتكم أن يقدر مجلسكم الموقر فظاعة رسمية الدعارة وأن يعمل

على إلغائها بكل سرعة ممكنة رحمة بأبناء هذه الأمة المسكينة وإنقاذها من القلق.

والله سبحانه وتعالى يتولانا جميعًا، ويوفقنا للعمل الصالح وصالح العمل.

وتفضلوا يا صاحب الدولة بقبول إجلالي لشخصكم الكريم.

...

...

...

...

المخلص

...

...

...

... محمود أبو العيون

...

...

... مفتش الجامع الأزهر والمعاهد الدينية

_________

ص: 233

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جواب الأستاذ الإمام

عن كتاب لبعض علماء الشام

كتب إليّ بعض علماء الشام [1] جوابًا عن كتاب هنأه فيه بمنصب الإفتاء، وهو

ألطف كتبه وفيه من الشكوى من سوء حال قومه ولا سيما الجامدين الرسميين

ومن التحدث بالنعمة ما ليس في غيره.

أنصفني قومك إذ سروا بتناولي منصب الإفتاء، ولعل ذلك لشعورهم بأنني

أغير الناس على دين الله، وأحراهم بالدفاع عن حِماه، وأدراهم بوجوه الفرص

عند سنوحها، وأحذقهم في انتهازها لإبلاغ الحق أمله، أو يبلغ الكتاب أجله،

على أنهم مني بحيث لا يفسد نفوسهم الحسد، ولا يتقاذف بأهوائهم اللدد، وكل ذي

دين يشتهي أن يرى لدينه مثل ما أحث إليه عزيمتي، وأخلص في العمل لتحقيقه

نيتي، خصوصًا إن كفي فيه القتال، ولم يكلف بشد رحال، ولا بذل أموال.

أما قومي فأبعدهم عني، أشدهم قرباً مني، وما أبعد الإنصاف منهم، يظنون

بي الظنون، بل يتربصون بي ريب المنون، تسرعًا منهم في الأحكام، وذهابًا مع

الأوهام، وولعًا بكثرة الكلام، وتلذذًا بلوك الملام، أقول فلا يسمعون، وأدعو فلا

يستجيبون، وأعمل فلا يهتدون، وأريهم مصالحهم فلا يبصرون، وأضع أيديهم

عليها فلا يحسون، بل يفرون إلى حيث يهلكون، شأنهم الصياح والعويل،

والصخب والتهويل، حتى إذا جاء حين العمل، صدق فيهم قول القائل في مثلهم:

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

وأقول: ولا من الخير.

وإنما مثلي فيهم مثل أخ جهله إخوته، أو أب عقّته ذريته، أو ابن لم يَحْنُ

عليه أبواه وعمومته مع حاجة الجميع إليه، وقيام عمدهم عليه، يهدمون منافعهم

بإيذائه ولو شاءوا لاستبقوها باستبقائه، وهو يسعى ويدأب، ليطعم من يلهو ويلعب،

على أني أحمد الله على الصبر وسعة الصدر إذا ضاق الأمر، وقوة العزم

وثبات الحلم، وإن كنت في خوف من حلول الأجل قبل بلوغ الأمل، خصوصًا

عندما أرى أن العمل في أرض ميتة لو ذابت عليها السماء مطرًا لما أنبتت زرعًا،

ولا أطلعت شجرًا، أفزع لذكرى ذلك وأجزع، ويكاد قلبي يتقطع، ثم أرجع إلى

الله فأعلم أنه مع الصابرين، وأنه لا يضيع أجر العاملين، فيثلج صدري، وأمضي

في جهادي الدائم، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.

ممن أشتكي؟ لو أن ما ألقى كان من لغط العامة ولقلقة الجاهلين لهان الأمر

وتيسر المخرج. ولكن البلاء كل البلاء أن أشد الناس عداوة لأنفسهم هم أولئك

المعلمون الذين يبعدون عن الدين، مدعين أنهم دعاته، ويمزقون أحشاءه زاعمين

أنهم حماته، وما منهم إلا أحد شخصين: شخص ركب هواه فأعماه، فهو يرى

الحق باطلاً، والصواب خطأ، وآخر غرَّته دنياه، وأضله جشعه، فران على قلبه

ما يكسب، وامتنع عليه معرفة الصدق من كثرة ما يكذب، ولم يعد للحق إلى قلبه

سبيل.

ليتني كنت أشكو إلى الله جهل العالمين وحمق المعلمين، في مثل الجاهلية

التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لمحو أحكامها، وإزالة أيامها، تلك جاهلية

كان الضلال فيها بعيدًا، ولكن كان فهم القوم حديدًا، لذلك عندما لاح لهم ضوء

الهدى أبصروه، وعندما قرع أسماعهم صوت الداعي أجابوه، كان القرآن يصدع

أفئدتهم، فيليِّن من شدتهم، ويفل من شرتهم، ويفجر من صخر القسوة ينابيع

الحنان والرحمة، وما كان أهل العناد فيهم إلا قليلاً، عرفوا الحق فأنكروه، وطائفة

كانوا يفرون منه خوف أن يعرفوه، ولو سمعوا، لفهموا، ثم لم يجدوا بدًا من أن

ينصروه، وإن الجحود مع ألفهم، كاليقين في العلم، كلاهما قليل في بني آدم.

أما اليوم فإنما أشكو من قلة الفهم وضعف العقل واختلال نظام الإدراك وفساد

الشعور عند الخاصة، فلا تجذبهم فصاحة، ولا تبلغ منهم بلاغة، وغاية ما

يطلبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، وأن يوصفوا بالعلم وإن لم يعقلوا، وأن تُقضى

حاجاتهم إذا سألوا، وأن ترفع مكاناتهم وإن تنزّلوا، وأن استعداد السامع للفهم

يستدر المقال، ويسدد الفكر للنضال في الجدال، أما عيشك فيمن لا يفهم، فإنه

ينضب منك ينبوع الكلام، ويطمس عين الفكر، ويزهق روح العقل.

جعلني الشيخ عبد الرزاق البيطار ثالث الرجلين [2] وما أنا في شيء من

أمرهما، إلا نزر من الهمة، وكثير من معرفة قدرهما.

الحمد لله لا أحصي ثناء عليه، وأشكره وأشكر نعمة مرجعها إليه، وأذكر من

نعمه أكبر نعمة أمدني بها، وأكرمني بأسبابها إحسانه إليَّ، بعطف قلب الأستاذ

علي وتقريبي من فؤاده وإحلالي مكانًا من وداده، كرمت نفس الأستاذ فكرم فيه

مثالي، وكملت سجاياه فتخيل منها كمالي. نسب إليّ الشيخ الجليل شؤونًا كلها من

سرائره، وألبسني من الأوصاف ثوبًا نسجته يد مظاهره. جعل لي السيد من حسن

ظنه معينًا، وأفادني بثقته ركنًا ركينًا، وسندًا أمينًا، فأسأل الله تحقيق ظنونه، وأن

يمدني دائماً بدقائق فنونه، وأن ينصرني بولائه، وأن يسلكني في عقد أوليائه،

والسلام.

_________

(1)

هو أرجح أنه الشيخ جمال الدين القاسمي، رحمهما الله تعالى.

(2)

يريد شيخي الإسلام ابن القيم وابن تيمية.

ص: 236

الكاتب: أبو الوفاء ثناء الله

‌أمر القادياني قد فصّل

بسم الله الرحمن الرحيم

سيدي المدير لمجلة المنار، سلمه الله الغفار، السلام عليكم، رأيت العدد

الأول من المجلد السابع والعشرين من مجلة المنار، وأنا بمكة المكرمة في شهر ذي

القعدة، فنظرت فيها تحت عنوان: الجامعة القاديانية. ما ذكر غلام أحمد القادياني

المدعي للمسيحية الموعودة، والمهدوية المعهودة، نشأ في البنجاب قريبًا من وطني

أمرتسر فأنا جاره (وصاحب البيت أدرى بما فيه) صرفت حصة من عمري في

تحقيق أمر القادياني، باحثته وجادلته حتى صار أمرنا إلى أن دعا الله أنه من كان

منا كاذبًا عندك فأمته قبل الصادق وأشاع إعلاناً هنديًّا (هذا تعريبه) .

الفيصلة الأخيرة بيني وبين المولوي ثناء الله

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} (يونس: 53) بحضرة

المولوي ثناء الله) .

(السلام على من اتبع الهدى، إن سلسلة تكذيبي جارية في جريدتكم (أهل

الحديث) (الحديث) مذ مدة طويلة أنتم تشهرون فيها أني كاذب دجال مفسد مفتر،

ودعواي للمسيحية الموعودة كذب وافتراء على الله، أني أوذيت منكم إيذاءً،

وصبرت عليه صبرًا جميلاً، لكن لما كنت مأمور بتبليغ الحق من الله

وأنتم تصدون الناس عني فأنا أدعو الله قائل: يا مالكي البصير القدير العليم الخبير تعلم، ما في نفسي إن كان دعواي للمسيحية الموعودة افتراء مني وأنا في نظرك

مفسد كذّاب، والافتراء في الليل والنهار شغلي فيا مالكي أنا أدعوك بالتضرع والإلحاح

أن تميتني قبل المولوي ثناء الله، واجعله وجماعته مسرورين بموتي،

يا مرسلي أنا أدعوك آخذًا بحظيرة القدس لك أن تفصل بيني وبين المولوي ثناء

الله، أنه من كان مفسدًا في نظرك كاذبًا عندك فتوفّه قبل الصادق منا {رَبَّنَا افْتَحْ

بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} (الأعراف: 89) الراقم عبد الله

الصمد مرزا غلام أحمد المسيح الموعود، عافاه الله وأيد عزه، ربيع الأول سنة

1325هـ.

أيها الناظرون: إن المدعي قد مات منذ سنين ودُفن في قاديان وأنا بحمد الله

حي إلى الآن، فهل بقي شيء يريب أحدًا في أمر القادياني؟ لا والله قد فصل

فحصحص الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

...

...

ها أنا ذا الخادم لدين الله

... أبو الوفاء ثناء الله المدعو بفاتح قاديان الهندي الأمرتسري

_________

ص: 238

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله

(5)

ذكرنا في المقالة الثانية من هذا البحث جملة مطالب الأزهريين وما قبلته

الحكومة منها، وذكرنا في الثالثة والرابعة تفسير الأزهريين لمطالبهم تلك ووعدنا

بالتعليق عليها. ثم أمسكنا عن إتمام هذا البحث بضعة أشهر لما طرأ على مسألة

الأزهر من التقلب والخلاف بين الحكومة ومشيخته، وما طرأ في العالم الإسلامي

من الأطوار العامة من نبذ الحكومة التركية للشرع الإسلامي وتأثيره في قوة سير

الإلحاد واللادينية في مصر من جهة، ومن الرجاء في قوة الدين من جهة أخرى

بانتصار النجديين في الحجاز على حكومته السابقة الجائرة المفسدة، ونعود الآن إلى

إتمام البحث في حال الأزهر وحاضره، ثم نبني عليه في مجلد المنار السابع

والعشرين الكلام في مستقبله إن شاء الله تعالى فنقول:

إن جُل مطالب الأزهريين من الحكومة منافع ماديَّة وإدارية يتوقف عليها جعل

هذا المعهد العلمي الإسلامي كالعضو الرئيسي العامل في بنية الأمة والدولة، ولكن لن

يكون بها كذلك إلا بالإصلاح العلمي والتهذيبي الذي يشعر الأمة والحكومة معًا

بالحاجة إليه وتوقف ارتقاء البلاد على عمل المتخرجين فيه، وليس في مطالب

أهله ولا في شرحها ولا فيما كتبوا في الصحف من المقالات انتصارًا لها أدنى بيان

لأركان هذا الإصلاح، ولكن في بعضها إشارة إلى بعض المسائل الإصلاحية

بالإجمال كطلب إرسال بعثات من الأزهريين إلى المدارس الأوربية الجامعة وهو

المطلب السابع مما تقدم في المقالة الرابعة، وكذلك انتقاء الكتب وتعديل البرامج بما

يناسب حاجة العصر الحاضر والتقدم العلمي الحالي، وهو المطلب الثاني عشر

منها، وهو الأخير كما تقدم. قد يكون تنفيذ هذين المطلبين ركنًا من أركان

الإصلاح العلمي، وقد يكون من أكبر المفاسد القاضية على هذا المعهد، فقد تعلم

بعض متخرجي الأزهر وحملة شهادة العالمية ومن دونهم في مدارس أوربية فعادوا

إلى مصر يفسدون ولا يصلحون، وهم من دعاة الحكومة اللادينية والإلحاد في

البلاد، وإنما تكون العلوم العصرية إصلاحًا عظيمًا بما سنبينه بعد في الكلام

على مستقبل الأزهر.

_________

ص: 240

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

‌الإرشاد

ماضي المسلمين وحاضرهم، الإرشاد وما له من التأثير والمكانة في الحياة

الإسلامية - الصفات التي يجب أن تتوفر في المرشد - أدلة وجوب الإرشاد من

الكتاب والسنة - مَنْ يَصلح للإرشاد - أشهر طرق الإرشاد الخطابة - الدرس -

التمثيل - الأسوة الصالحة - الكتابة - كيف يتكون المرشدون؟

كلما فكرت في أمر المسلمين، وما كان لهم من عز وما أصبحوا فيه من ذل

وما عرف لهم من الملك الواسع، وعنهم من العدل الشامل، وما صاروا إليه من

كلمة متفرقة وممالك ملتهمة وبلاد مستعمرة - كلما جد بي التفكير في ذلك حضرتني

كلمة (الإرشاد) وملكت علي نفسي واستولت على فكري، وكيف لا تكون كذلك

وبها قامت هذه الملة، وانتشرت هذه الشرعة، وتكون بها الملك الإسلامي في

مشارق الأرض ومغاربها وشماليها وجنوبيها، فمحمد عبد الله ورسوله (صلى الله

عليه وسلم) لم تكن له الجيوش المؤلفة، ولا الأساطيل القوية، ولا الغواصات

الماخرة، ولا الطيارات السابحة، ولكن بين جنبيه نفس طاهرة وروح مكملة

حركت لسانه بالدعوة إلى الحق وإرشاد الخلق والأخذ بهم عن اللمم، إلى السبيل

الأمم ففعلت نفسه بنفوسهم وروحه بأرواحهم ما لا تفعله القوى الطاهرة، فإنها إن

حركت الأجساد إلى حيث يريد المستعبدون الظالمون، فإنها لا تحرك القلوب نحو

الغاصبين المستبدين، بل ربما أيقظت نائمهم وأجدت خاملهم، وبعثت ساكنهم إلى

حيث يناوئ الغاصب ويقهر الغالب ويرد الكائد، ثم يختط لنفسه من طرق السعادة

وسبل العزة ما يمكن له في الأرض، ويستعيد به الملك الغابر والمجد السالف

وسيطرة الأولين وعزة المؤمنين.

قام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا حول له ولا قوة إلا الدعوة إلى الخير

ينطق بها قلبه قبل أن ينطق لسانه ويظهر أثرها في عمله وخلقه قبل

أن تنظم في كلمة فكان الناس يسمعون مع صوته وحي قلبه، ويرون في خلقه وفعله

أسوة حسنة وقدوة صالحة فكل عضو من أعضائه داعية وكل حاسة من حواس

سامعيه مشغولة بدعوته منصرفة عن غيره، فكيف لا يسيرها حيث يحب ويسخرها

حيث يود ولا يحب إلا الخير ولا يود للناس إلا ما انطوت عليه نفسه وجبلت عليه

روحه من معالي الأمور ومكارم الأخلاق وكبار الآمال. وكذلك صَحْب رسول الله

صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان كانوا داعين بعملهم وقيلهم إلى هذا

الدين فاستطاعوا أن ينشروه في قلوب الملايين من البشر قبل أن ينشروا سلطانه في

معظم المعمور من الأرض إذ ذاك.

وكما كان بهذه الكلمة قيام الأمم، وبناء الدول كان بتركها وإهمالها دكَّ هذا

البناء الشامخ الذي بناه على أساس الحق والعدل آباؤنا السابقون وسلفنا الصالحون،

وبعثرة هذا المُلك العريض الذي توطن (سرة) الكرة الأرضية، وخير ما فيها من

بلاد، فهي كلمة من فهمها حق فهمها وقام بحقوقها وحفظ عليها حرمتها كانت له

أكبر عون على آمال يريد تحقيقها وأماني يود حصولها. ومن ضيعها وحقر شأنها

ونكث عهدها لم تؤاته على آماله، بل سلبت منه ما كان جمعه وهدمت ما كان أقامه.

وإذ كانت هذه مكانة الإرشاد كان من الواجب علينا أن نعالج موضوعه ونُلم

بأبحاثه حتى نحرك آلاف العلماء ليقوموا بواجب النصح ويؤدوا العمل الذي كتب

الله عليهم أن يؤدوه، وأخذ عليهم الميثاق أن يبينوه ولا يكتموه. وحتى يعرف الذين

قصدوا للإرشاد - ولم يحسنوا - الطريق السوي الذي يصلون منه إلى النفوس

فيحركونها نحو ما يحبون، أو يكونوها كما يبغون - وقد رأيت أن أقسم الموضوع

إلى أربعة أقسام:

الأول - في وجوب الإرشاد.

الثاني: في بيان من يصلح للإرشاد.

الثالث: في طرق الإرشاد.

الرابع: كيف يتكون المرشدون.

***

1-

في وجوب الإرشاد:

قال الله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ

وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وقال تعالى {إِنَّ

الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ

يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ * إِلَاّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ

وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) .

وقال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ

فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران:

187) وقال {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ

مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا

كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) . وقال {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن

قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة: 63) .

وقال تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ

سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71) . وقال {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً

مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) . وقال

تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ

رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) . وقال:

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ

المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ

عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132) وقال تعالى:

{فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ

لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) .

وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول

الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم

يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) .

وروى الشيخان عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(الدين النصيحة) قاله ثلاثًا، قال: قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله

ولأئمة المسلمين وعامتهم.

وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله

عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون

وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون

ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم

بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة

خردل) .

إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي ذكرنا كثيرًا منها وإن كان المتروك

أكثر لنبين لحضرات العلماء الذين يعيشون لأنفسهم دون أمتهم ودينهم أن واجب

الإرشاد ليس دون الصلوات والزكوات والفرائض المحتمة في الدين المعروفة بين

جمهور المسلمين. فهل رأيت من الحث في القرآن على الصيام الذي هو ركن من

أركان الإسلام مثل ما رأيت من الحث على الإرشاد ووجوب التذكير والعظة

والإنذار بسوء العاقبة لمن قعد عن القيام بهذا الواجب الذي من أجله بعث الله الرسل

مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؟ والذي من أجله أنزل

كتبه بين خلقه يستضيئون بنورها إذا أظلمت عليهم المقاصد والْتَوَت طرق الحق

وضل الناس المحجة. وهل مدح الله العلماء بما مدحهم به في القرآن إلا لأنهم ورثة

الأنبياء، يبلغون الشرائع للناس ويرشدونهم إلى طرق الفلاح والنجاح، يرشدونهم

إلى أسباب السعادة والعزة في هذه الدار {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ

المُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) وفي الدار الآخرة {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ

الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 64) .

***

1ـ من يصلح للإرشاد:

ما خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان، وما خرج من القلب وصل إلى

القلوب فحرك دم الإصلاح فيها فحرك الأعضاء إلى الخير والعمل الصالح حركها

إلى حيث السعادة للنفس والعشيرة والخلق، فالنفس الطيبة لا تصدر إلا طيباً، النفس

المكملة تستطيع أن تكمل غيرها والنفس الناقصة أولى بها أن تتدارك عيوبها ثم

تتطلع بعد ذلك لإصلاح غيرها، ولا يمكن أن يعطي الشيء فاقده بل ينفق كل امرئ

من وجده. إذا أردنا أن نعرف المثل الأعلى للمرشدين فعلينا بالأنبياء والمرسلين،

فمن صفاتهم نتعرف صفات المرشدين، ومن طرقهم نتبين طرق المصلحين

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ

كَثِيراً} (الأحزاب: 21) .

المرشد شخص كملت نفسه وتهذب خلقه، ورشد عقله عامل بما علم واقف

عند ما رسمه له الشارع لا يلتوي عنه يمنة أو يسرة ملئ قلبه بخشية الله، فلا يفعل

ما يفعل ولا يترك ما يذر خشية من الناس أو من قانون وضعي تنطبق عليه

نصوصه بل يفعل الخير ويترك الشر؛ لأنه يرى سلطان الله محيطًا به من كل جانب

ويرى عين الله تبصره كل حين. تبصره وهو على ملأ من الناس قد غمره نور

الشمس، وتبصره وهو في زوايا بيته في الظلام الدامس والليل الحالك يحب ما

يقربه إلى ربه ويبغض كل ما يبعده عن سبيله يرى أن كتاب الله إمامه فلا يحكم

بغير ما يحكم، ولا يقول غير ما يقول يجعله سلوته في غذواته وروحاته، وفي

أوقات فراغه يعكف عليه يتعلم منه الحكمة ويتبصر منه طرق الهداية وموارد

الرشاد. يتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم في أعماله وأخلاقه وعقائده

وآدابه.

المرشد شخص بصير بأحوال الناس خبير بأمورهم ليس خبًّا ولا مغفلاً

يضحك عليه ويسخر منه، عليم بالطريق الذي يسوسهم منه ويأخذ بهم إلى حيث

عزهم ومجدهم وعلوهم وسعدهم المرشد شخص جعل الصبر عدته، وتحمل الأذى

في سبيل الحق خلته، فما يصيبه من الآلام وما ينتابه من النائبات يتقبله بقلب ثابت

وجأش رابط بل يستعذب المر في سبيل الدعوة ويستسهل الصعب في سبيل إعلاء

كلمة الله، كلما طعن بطعنة أو قذف بسبه تأسى بالأنبياء قبله وقال: هذا سيد الرسل

رمي بالسحر والجنون والافتراء على الله ومس الشيطان وأُوذي في سبيل الله أشد

الإيذاء فما كان يقول إلا (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ثم يقول لنفسه إن

مرتبة الإرشاد من المراتب العالية التي لا تنال إلا بالجد والصبر على المشاق،

ويتمثل قول الله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا

يُوقِنُونَ} (السجدة: 24) .

المرشد لا يعرف اليأس إليه سبيلاً، وكيف يتسرب اليأس إلى نفسه وما عليه

إلا البلاغ المبين، فإن عمل الناس بما دعا فتلك البُغية، وإن أعرضوا عنه فإنما

عليه البلاغ وعلى الله الحساب، إذا خاطبه ضعيف الإيمان وقال له مثبطًا من عزمه:

وماذا تبلغ كلمتك من نفوس الناس، وماذا عسى أن يكون أثرها فيهم؟ حكى له

قول الله في قوم من بني إسرائيل قالوا مثل مقالته {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ

قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأعراف: 164) .

المرشد شخص يعرف القرآن جد المعرفة، ويعرف أعمال الرسول (صلى

الله عليه وسلم) وهديه في صلاته وزكاته وصيامه وحجه ومعاشرته لأهله وقومه

وجهاده في سبيل نشر الدين.

المرشد سياسي حكيم يأتي الناس من جهة ما يعرفون ليصل بهم إلى ما

ينكرون من حيث لا يشعرون فيسقيهم الدواء في كوب الشراب العذب مضيفًا إليه

من المواد ما يغطي مرارته، يدعوهم إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة،

ويجادلهم بالتي هي أحسن، فلا يشتد في موضع اللين، ولا يلين في موضع الشدة

ولا يمنع الشر بالقوة إذا كانت الكلمة البالغة كافية.

يعظهم بالقول الرقيق، والأسلوب العذب الذي لا يعلو على إفهامهم، ويجري

في مجارى حديثهم.

المرشد النابه يستطيع أن يعظ كل صنف من الناس وإن كانوا حكامًا ظالمين

وعتاة جبارين وإن كانوا ممن ينفرون منه إذا رأوه، ويهرولون عنه إذا لاقوه، فهو

بحيلته ودهائه يستطيع أن يرد شاردهم، ويكبح جامحهم إلى حيث يسمعون عظته

البليغة، وقولته الساحرة الفاعلة في النفوس، ما لا تفعله السيوف.

ولو أردنا أن نسوق لذلك الأمثال لكان من ذلك مؤلف ضخم وحسبنا في ذلك

سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ففيها زاد المرشدين وعدة الداعين.

***

3 -

طرق الإرشاد:

طرق الإرشاد كثيرة ولكن نجتزئ بمشهورها عن استقصائها فنقول: أشهر

طرق الخطابة والدرس والتمثيل والأسوة الصالحة والكتابة.

أما الخطابة فهي أشد هذه الطرق أثرًا في النفوس إذا كانت صادرة من قلوب

مخلصة طاهرة طيبة، وكان لصاحبها من طلاقة اللسان ما يحسن التعبير به عما

يكنه الفؤاد، وكان الخطيب مراعيًا مقتضيات الأحوال فيخطب في الحوادث النازلة

الوقائع الجديدة، ولا يسلك ما يسلكه خطباؤنا في هذا العصر، ينهون عن جرائم

كانت في سالف الأيام ولم يكن لها وجود بين الناس بل لا يعرفون اسمها إلا من

طريق الخطباء، ويأمرون الناس بما هم به قائمون بدل أن يأمروهم بما هم فيه

مقصرون، وينهوهم عما هم له مجترحون، نرى خطباءنا يخطبون بما يعلو على

الأذهان، ولا يفهمه إلا العلماء، ويكثرون من المجازات والاستعارات والمحسنات،

وإن كان في ذلك إضاعة المعنى والتعمية في المغزى، وكان جديرًا بهم أن

يخاطبوا الناس بما يعقلون، ويتخيروا من الألفاظ ما يعرفون، فليس الغرض من

الخطابة امتحان الخطيب ومعرفة بلاغته، وإنما الغرض إيصال المعاني إلى القلوب

فكل طريق يصل بالخطيب إلى هذه الغاية عليه أن يسلكه، ولو كانت عبارته أقرب

إلى العامية منها إلى العربية الفصحى، وليت هذه الخطب من صنع الخطباء،

ولكن أكثرها من صنع القدماء، على أني لا أحبذ في الخطيب أن يخطب من حفظه

أو من ورق في يده، ولكن أحب له أن يرتجل، وأن يأخذ من حال الحاضرين ما

يجعله موضوع خطابته، فإن رأى منكرًا أو بدعة ولو في أثناء الخطابة تحول

بكلامه نحوها كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا أقصد بالخطابة خطابة الجمع فحسب بل ما يشمل ذلك ويشمل إلقاء

المحاضرات في الجامعات والمنتديات بل الخطابة على الجماهير في الميادين العامة

والمتنزهات الجامعة، فإن قصر الخطابة على ما يكون يوم الجمع في المساجد

ضئيل الأثر، قليل النفع فإن من يحضرون المساجد قليل بالنسبة لمن يغيبون؟ ثم

أكثر الحاضرين نفوسهم عارفة للدين ولكن أولئك الذين لا يعرفون بيوت الله أولى

بالعظة والتذكرة وربما كان فيهم نفوس متقبلة، وأرواح مستعدة.

وحبذا لو عينت وزارة الأوقاف مرشدين في الميادين والمتنزهات والمنتديات

والمجتمعات وأمرت وزارة الداخلية الجنود بأن يحافظوا على النظام ويسهلوا

للواعظين القيام بهذه المهمة، ولقد فكرت وزارة الأوقاف في إصلاح الخطابة فطلبت

إلى المربين والمرشدين والواعظين والكاتبين أن يوافوها بخطب تناسب العصر

وتقتلع من النفوس جراثيم الأمراض الخلقية، فتقدم إليها أولئك بما جادت به القرائح

ولا ندرى ما صنعت بهذه الخطب التي وعدت المتفوقين فيها بمكافأة، على أن هذه

الطريقة في الإصلاح قليلة الفائدة فإن الخطيب إذا كانت نفسه مصدر خطابته وكانت

زكيه طيبة اجتمع كلامه وحاله وقلبه في التأثير على السامعين فكان لثلاثهتا من

التأثير ما ليس لكلمات يلوكها بلسانه، لا صلة بينها وبين قلبه، بل ربما كان جاهلاً

معناها، غير واقف على مغزاها، فلا جرم كان ما صاغه أفيد في العظة مما صاغه

غيره لعالم غير عالمه.

وأما الوعظ من طريق الدرس فله في نفوس الطلبة آثار حسنة، خصوصًا إن

كانوا صغارًا لم تتلوث نفوسهم بعد، بل كانت على الفطرة التي فطروا عليها، فإن

المدرس الماهر يستطيع أن يصوغ هذه النفوس في القالب الذي يحب، وإذا عرفنا

طول عشرة التلميذ لمعلمه أدركنا أن كلمات المعلم ربما سكنت القلوب ساعة تخرج

لسابق المعرفة وطول التجربة، وإذا كان المدرسون أكثر الفئات الصالحة للوعظ

علمنا أن واجبهم في الدعوة عظيم، ولا سيما أنهم يصاحبون الطالب بضع سنين،

فلو أن مدرسي المدارس الأولية والابتدائية والثانوية والعالية والمعاهد الدينية عنوا

ببث الأخلاق الفاضلة والعقائد الحقة في نفوس المتعلمين لغيروا هذه النفوس في

الزمن اليسير إلى ما هو خير وأصلح، وكل مدرس يستطيع أن يقوم ببث ذلك،

ولو لم يكن العلم الذي يدرسه من علوم الدين أو الأخلاق فإن للطلبة أوقاتًا يسأمون

فيها العلم المحتم، وتتعطش نفوسهم للمسائل الخارجية، فلو أن نفس المعلم عنيت

بالإرشاد ما صدها عن غرضها صاد، وليس في هذا تقصير في القيام بالواجب،

فإن تكوين الأخلاق والآداب أولى من حشو الأدمغة بالمسائل العلمية، وماذا تنتفع

من علم شخص فسدت أخلاقه وآدابه وعاث في الأرض فسادًا، فليتق الله حضرات

المعلمين، وليعلموا أن الله أودعهم ودائع وأوجب عليهم رعايتها والقيام بحقها فهم

رعاتها وكل راع مسئول عن رعيته.

ولا يفوتني في هذا المقام أن أذكر حضرات المدرسين الذين عينتهم وزارة

الأوقاف للوعظ والتذكير بأن يتخيروا المواضيع التي تناسب العامة وتليق بالجمهور

كشرح آية أو حديث بعبارة سهلة يكثر فيها ضرب الأمثال بالمعهود لهم ولا يعمدوا

إلى المسائل الفقهية العويصة فيشرحوها للعامة فإن ذلك لا مضلة ولا هداية.

ولقد سمعت مرة مدرسًا يفسر للعامة (آلم) ويذكر ما فيها من وجوه الإعراب

ومختلف الأقوال، والحمد لله أن لم يكن أمامه إلا شخصان، وأظن أنهما لم يجلسا إليه

لسماع عظته وإنما جلسا خشية أن لا يجد المدرس من يسمع لقوله. ورأيت من يعلم

الناس الصلاة فيقول فرائضها كذا وواجباتها ثمان وسبعون وسننها ثلاثون فهلا ترى-

أرشدك الله - أن هذا منفر لا داعية، ومعسر على الناس لا ميسر والله يقول:

{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا

يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسّروا ولا

تعسروا) وكان خيرًا لهذا المدرس أن يشرح الصلاة ببيان صفتها بقوله وعمله فإن

تلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتلك الخطة المناسبة لإفهام الجمهور.

ولقد وزعت وزارة الأوقاف على مدرسيها وخطبائها كتاب (مفتاح الخطابة

والوعظ) والذي هو آيات بينات وأحاديث صحيحة فلأن يدرسوا للناس هذا الكتاب

أولى من درسهم كتب الفقه والكلام، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي

هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

وأما التمثيل فلا بأس به لو خلا من الغرام والعشق والغيد الحسان، ولكن

يظهر أن ذلك من لوازمه في عصرنا وأنه لا تنفق سوقه إلا بهذه المحسنات، لهذا

كان من رأينا أن إثمه أكثر من نفعه وشره فوق خيره سيما إذا علمنا أن أكثر

الطبقات التي تقوم به من الطبقات المنحطة الذين تلوثت نفوسهم بالفسق والفجور،

وعقولهم بالمخدرات والخمور، فإقفال هذه الدور خير من فتحها وحبذا لو فعلت

الحكومة ذلك، وحملها في النهي عن المنكر أكبر الأحمال، فإن عليها منه بقدر ما

لها من السلطان، وسلطانها أكبر سلطان، وإن الله ليزع بالسلطان أكثر مما يزع

بالقرآن.

وأما الأسوة الصالحة فهي الداعي الصامت الذي يؤثر بصمته كما يؤثر المتكلم

بكلمه، بل ربما كان الصمت أشد بلاغة من المنطق، يدعوك بعض الناس إلى الخير

بكلامه وربما كان عمله على خلاف ما دعا إليه، فمثل هذا لا يرجى من وراء وعظه

خير، وإنما الخير في كلام تعززه أعمال، وفي مثل هذا يقول الله تعالى

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44) ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً

عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2-3) .

يقول علماء الأخلاق: إن البيئة والوسط الذي يعيش فيه الإنسان له تأثير كبير

في تكوين أخلاقه، فإن كان صالحاً كان كل ما حواه صالحاً، وإن كان فاسداً انتشر

الفساد منه إلى كل ما جاوره، وما يقولونه حق، وذلك لأن أعمال المجتمع الطيب

تسري في نفوس الأفراد من غير أن يشعروا، وكذلك الفرد الصالح يؤثر فيمن حوله

بالصلاح، ولذلك آمن كثير من الناس بالرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد أن

عرفوا حاله وخلقه، فكان منهما أكبر شاهد على صدقه، ويقول الله في حقه {لَقَدْ

كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) ويقول في إبراهيم {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ

وَالَّذِينَ مَعَهُ} (الممتحنة: 4) فإذا كان بعض الناس يعييه الكلام والموعظة

باللسان فليحسن خلقه وعمله، فإن ذلك إرشاد ودعوة وقيام بواجب الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر.

أما الكتابة فإنها، وإن كانت أندى صوتاً وأبعد مدى لأنها تسمع القريبين

والبعيدين والأجيال الحاضرة والقابلة أثرها دون أثر الخطابة فإن الحال فيها يساعد

اللسان وربما فهم السامعون من الحال فوق ما يفهمون من المقال.

والكتابة التي تعتبر من طرق الإرشاد هي الكتابة الخطابية التي يقصد فيها

تحريك أوتار القلوب والتأثير في الأعصاب الحساسة ومثالها الأعلى القرآن فإن

طريقته خطابية ولكن مبناها الحق والواقع دون التصور والخيال. أما الكتابة

العلمية فصلتها بالأخلاق ضعيفة وإن كانت علاقتها بالعقول وثيقة وتكوين الأخلاق

يجب أن تنمى فيه نحو المشاعر والعواطف، دون الأفكار والعقول.

وقد أصبحت إذاعة الكتابة ميسرة فالمطابع انتشرت في كل مكان والجرائد

والمجلات ذاعت في أقطار المعمورة، فما على الكاتب إلا أن يكتب على نحو ما

رسمنا فإذا بكتابته قد عبرت الفيافي والبحار ودوى صوتها في الأفاق وتلقفها ملايين

البشر متلمسين خير ما فيها، والواعظ الحر يستطيع أن يبلغ الناس من طرق كثيرة

ربما عرف منها ما جهلناه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

(لها بقية)

...

...

...

محمد عبد العزيز الخولي

...

... مدرس بقسم التخصص بمدرسة القضاء الشرع

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 251

الكاتب: مهاتما غاندي

‌الصحة

تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي

ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي

الباب الثامن

اللباس

للباس أيضًا علاقة بالصحة إلى حد خاص. إن الأوربيات لها أفكار غريبة

في الحسن وهي التي تسوقهن إلى جعل ملابسهن في شكل يضغط على الصدر

والأرجل، وذلك يحدث أمراضًا مختلفة. إن أقدام الصينيات يضغط عليها إلى أن

تكون أصغر من أقدام أطفالنا الصغار، وهذا ما جعل صحتهن غير جيدة. فهذان

المثالان يثبتان تأثير هيئة اللباس في الصحة، ولكن اختيار اللباس ليس دائمًا في

أيدينا لأننا مكرهون على تقليد أسلافنا، قد نسي الناس الغرض الأساسي من اللباس

فجعلوه كعنوان لدين صاحبه ووطنه وجنسه وصنعته. إذن يصعب البحث في مسألة

اللباس من الوجهة الصحية فقط مع أن هذا البحث كما لا يخفي ينفعنا قطعًا. نطلق

كلمة (اللباس) على الأحذية والحلي وما شاكلها أيضًا.

ما الغرض الأساسي من اللباس؟ إن الإنسان في حالته الأولى ما كان يلبس

لباسًا ما، كان يمشى عاريًا ويترك كل جسده مكشوفًا تقريبًا فكان جلده متينًا قويًّا

يقدر على تحمل حمارة [1] الصيف وصبارة الشتاء ووابل الأمطار، وكما قد

أسلفنا أننا لا نتنفس الهواء من المناخر فقط بل من مسام الجلد التي لا تعد ولا

تحصى أيضًا. فإذا غطينا الجلد بالأقمشة منعناه من أداء وظيفته الطبيعية، ولكن

شاعت عادة اللبس لما أخذ أهالي البلاد الباردة يكسلون يومًا فيومًا فأخذوا يحسون

بالضرورة لتغطية أجسادهم؛ لأنهم ما عادوا بعد ذلك يتحملون البرد (ثم أصبحت هذه

العادة للزينة لا بمجرد الضرورة) ثم أصبح اللباس عنوانًا على الوطن والجنس

وغيرهما.

إن الطبيعة نفسها قد أعدت كسوة جليلة لنا في جلدنا. وما يتخيل من أن

الجسم العاري يظهر غير جميل فوهم باطل. إن كنا نغطي حتى الأعضاء العامة

من جسدنا فمعناه أننا نشعر بالخجل أن يراها الناس في حالتها الطبيعية. أي أننا

نجد الخطأ في ترتيب الطبيعة فنصلحه. إننا كلما ازددنا غنى وثروة بالغنا في زيادة

الأغطية والملابس طلبًا للزينة حتى خرجنا في ذلك عن الحد وصرنا نطري جمالنا

وحسن منظرنا! مع أنها لو لم تعمنا حماقة التمسك بالعوائد الذميمة لرأينا بلا شك

أن الجسم العاري أجمل على الإطلاق من الجسم المكسو بالألبسة، وذلك لأنه يجد

صحته التامة في عراه. واللباس ينقص جماله الطبيعي. ثم إن الإنسان لم يكتف

باللباس بل أخذ يستعمل الحُليّ كذلك. إن هذا جنون محض. يصعب جدًا أن نفهم

كيف يزيد الحلي ذرة من الجمال الطبيعي للجسم. ولكن النساء قد تجاوزن جميع

حدود الإدراك والحياء والأدب في هذا الشأن. فلا يستحين من أن يتحلين بالخلاخل

الثقيلة التي تقيد أرجلهن وتمنعها من الحركة بسهولة. وأن يثقبن أنوفهن وآذانهن

بطريقة بشعة ليلبسن الخزم فيها والأقراط ويشوهن سواعدهن وأصابعهن بالأسورة

والخواتم من أنواع مختلفة. إن هذه الزينات لا خير فيها إلا أنها تزيد تراكم الدنس

على الجسم، ولا سيما في الأنف والأذن فلا تسأل عن وساختهما. نحن مخطئون

جدًّا في زعمنا أن هذه الأوساخ تجلب الجمال فنضيع المال في سبيلها بل لا نتردد

في جعل نفوسنا عرضة لتعديات اللصوص.

ليس هناك حد للآلام التي تقاسيها في تسلية نفوسنا بالأفكار الجنونية من

الغرور والكبر الذي زرعناه في قلوبنا! إن النساء قد بلغ جنونهن وضلالهن إلى حد

أنهن لا يرضين بإخراج القرط من الأذن حتى وإن مرضت الأذن وكذلك لا ترضى

بخلع الأساور وإن انتفخت اليد وأصيبت بألم شديد. بل إنهن لا يرضين بنقل خاتم

واحد من الإصبع المتقيحة لأنهن يزعمن بأن الحسن يصاب بنقص وسوء إن فعلن

ذلك! [2] الإصلاح التام في اللباس ليس بسهل. ولكن يمكن بكل سهولة أن نترك

استعمال الحلي والملابس الزائدة عن الحاجة بتاتًا. يصح أن نبقي بضعة أشياء

للمحافظة على التقاليد ونخلع الباقي خلعًا. إن أولئك الذين لم يبتلوا بالوهم الباطل

وهو جعل اللباس زينة، يمكنهم أن يدخلوا التغييرات الكثيرة في ملابسهم وينالوا

بذلك صحة جيدة.

لقد راجت في الأيام الأخيرة فكرة توهم الناس أن اللباس الإفرنجي ضروري

للمحافظة على الحشمة والهيبة. ليس هذا مكان البحث في تفاصيل هذا الأمر بل

تكفي الإشارة إلى أن اللباس الإفرنجي قد يكون صالحًا جدًّا للبلاد الباردة الأوربية

ولكنه غير موافق للهند. إن اللباس الهندي وحده يمكن أن يكون صالحًا للهنود سواء

الهندوس والمسلمين. إن لباسنا لكونه واسعًا ومفتوحًا، لا يحول دون وصول الهواء

إلى أبداننا ثم إنه لبياضه لا يجذب أشعة الشمس خلافًا للباس الأسود الذي يكون أدفأ

وأحر منه لأن أشعة الشمس تجتمع فيه، وتنتقل منه إلى الجسم.

قد راجت العمامة فينا كثيرًا، ولكن مع ذلك ينبغي أن نجتهد في أن تبقى

الرأس مكشوفًا أكثر ما يمكن من الزمن. وأما تربية الشعر وتمشيطه وتسريحه

وتفريقه من وسطه وغير ذلك مما يفعله الناس فهمجية بعينها [3] إن التراب والغبار

وكذلك الصئبان تكثر في الشعر وإن ظهرت البثور في الرأس فلا يمكن معالجته كما

ينبغي إذا كان الشعر كثيرًا، فتربية الذين يستعملون العمائم للشعر ليست إلا حماقة

صريحة.

إن الأرجل سماسرة الأمراض، فأقدام الذين يلبسون الأحذية الإفرنجية تتوسخ

وتعرق عرقاً متعفنًا، وقد تكون العفونة شديدة على أصحاب حاسة الشم الصحيحة

حتى إنهم ليصعب عليهم أن يقفوا بجنب رجل من هؤلاء عند خلع نعله أو جواربه!

إن الأسماء العامة للحذاء في لساننا مثل (محافظ القدم) و (عدو الشوك) تدل

على أن النعل ينبغي في استعماله عند المشي على أرض ذات أشواك أو على أرض

باردة أو حارة جدًّا. وإن التغطية يجب أن تكون لبواطن الأقدام دون ظهورها،

وهذا الغرض يتحقق تماماً بالقبقاب [4] إن بعض الذين تعودوا لبس الأحذية الإفرنجية

يشكون أحيانًا الصداع أو الوجع في الرجل أو الضعف في الجسم، ليجربوا المشي

حفاة فإنهم يدركون حالاً فائدة ترك الأقدام حرة وبعيدة عن العرق بتعرضها للهواء.

***

الباب التاسع

الزواج [*]

إني أرجو القراء ولا سيما الذين قرءوا هذا الكتاب بتأمل أن يخصوا هذا

الفصل بتأمل أكثر، ويتفكروا في الأصول التي احتوى عليها بتروٍ وإمعان.

بقيت عدة أبواب من الكتاب ستأتي، وهي وإنْ كانت كذلك نافعة إلا أنه ليس

منها باب يبلغ أهمية هذا الباب، وإني كما أسلفت لم أدع شيئاً من محتويات هذا

الكتاب لم أجربه بنفسي ولم أره حقًّا وحقيقة ولا سيما هذا الباب.

إن للصحة مفاتيح كثيرة وكل منها ضروري جدًّا في مكانه. ولكن هنالك

مفتاحًا هو أعظم المفاتيح وسيدها على الإطلاق وهو (التجرد) . لا ريب أن الهواء

النقي والماء النقي والطعام الجيد - كل ذلك - يساعد في الصحة، ولكن كيف يمكن

أن نكون أصحاء إن كنا نضيع كل الصحة التي حصلناها؟ كيف نحفظ أنفسنا من

الإفلاس إنْ كنا نضيع جميع المال الذي ادخرناه؟ إن مما لا ريب فيه هو أن

الرجال والنساء لا يمكن أن يكونوا أصحاء أقوياء إلا إذا راعوا (التجرد) الحقيقي.

ماذا نقصد (بالتجرد) ؟ نقصد به أنه يجب أن يجتنب الرجال والنساء التمتع

أي لا يتلامسوا لفكرة حيوانية، بل لا يتخيلوا ذلك حتى في أحلامهم. يجب أن

تكون نظراتهم بينهم خالية من جميع الأميال الشهوانية الحيوانية، يجب أن نحافظ

على القوة التي وهبنا الله إياها بضبط قوى النفس جيدًا وأن نحولها إلى الجد والعمل

والقوة، لا إلى الجسم فقط، بل إلى المخ والروح كذلك.

ولكن ما الحالة التي نشاهدها واقعة حولنا؟ نرى الرجال والنساء، الشيوخ

والشباب بدون استثناء، قد وقعوا في شبكة الشهوة فعموا بها وصموا وفقدوا كل

تمييز بين الخير والشر! لقد رأيت بنفسي حتى الصبيان والبنات يتعاملون بينهم

كالرجال المجانين بجنون الشهوة المهلكة.

ولست أزكي نفسي فقد فعلت ذلك مسوقًا بهذا المؤثر نفسه الذي لا يمكن أن

يؤدي إلى غير هذه النتيجة السيئة. نحن نضيّع في دقيقة واحدة طلبًا للذة وقتية

جميع ما خزَّنَّاه من القوة الحيوية. فإذا أفقنا من الجنون والحمق وجدنا أنفسنا في

شقاء وتعاسة! وأحسسنا بكل أسف وخزي في الصباح التالي بالتعب والضعف

ووجدنا المخ يرفض أداء وظيفته! فعند ذلك نجري وراء معالجة الشر الذي جلبناه

على أنفسنا بأيدينا بتعاطي جميع أنواع (الأدوية المقوية للأعصاب) ونسلم أنفسنا

إلى رحمة الأطباء ليرتُقوا ما فُتق من صحتنا، ويعيدوا لنا القدرة على التمتع ثانية!

هكذا تمضي الأيام والشهور والسنون حتى تقبل علينا الشيخوخة بآلامها وأوصابها،

فنجد أنفسنا قد ضيعنا رأس مالنا كله، ضيعنا الرجولية والعقل على سواء وأصبحنا

صفر الكف بائسين تعسين! .

على أن قانون الطبيعة يقضي عكس ذلك تمامًا. فكلما ازداد عمرنا ينبغي أن

نزداد في قوتنا الذهنية. نزداد قدرة على نقل ثمار علمنا وتجاربنا المجتمعة إلى بني

جلدتنا من البشر. هكذا تكون بالحقيقة حالة الذين يتمسكون بالتجرد الحقيقي، فهم

لا يبالون الموت ولا ينسون الله تعالى حتى في موتهم ولا يدخلون في شكاوى باطلة،

هم يموتون والتبسم فوق شفاههم! ويقابلون يوم الجزاء بكل جرأة! هم الرجال

والنساء حقًّا! وفيهم وحدهم يصح أن يقال: إنهم قد حافظوا على صحتهم.

يصعب علينا أن نفهم أن ترك التجرد هو الأساس الحقيقي لجميع المعايب

كالكبر والغضب، والخوف والحسد إن كان مُخنا ليس في قبضتنا وإن كنا ننتهك

قوانين الصحة مرة أو مرتين كل يوم، فنحن أكثر حمقًا حتى من الأطفال الصغار،

فأي إثم عسانا لا نرتكبه قصدًا منا أو بغير قصد؟ وكيف يمكن لنا أن نقف وقفة

لنتأمل في نتائج أعمالنا مهما كانت دنيئة آثمة؟

لك أن تسأل: من الذي وجد متجردًا تجردًا حقيقيًّا؟ إن كان يجب أن يصير

جميع الناس متجردين فهلا تهلك الإنسانية وتفنى الدنيا كلها؟ نحن لا نتعرض

للوجهة الدينية في المسألة، بل نقتصر في البحث على وجهتها الدنيوية فقط. إن

هذه الأسئلة في رأيي ليست إلا دلائل على ضعفنا وخورنا لأننا لا نملك القوة

الإرادية لمراعاة التجرد، ولذلك نتعلل بأعذار باطلة للتملص من وظيفتنا، إن نوع

المتجردين الحقيقيين لا ينعدم بحال من الأحوال، بل هم موجودون في كل زمان

وإن كنا لا نعرف أشخاصهم، يشتغل ألوف من العمال أشغالاً شاقة ويحفرون أعمال

الأرض باحثين عن معدن الماس، وفي الآخر ربما يجدون قبضة كف منه تحت

الصخور المتراكمة بعضها فوق بعض. فإذا كان البحث عن حجر من الأحجار

الكريمة يتطلب هذا التعب الكبير فكم تكون المشقة عظيمة في اكتشاف ماس

(التجرد) الذي هو أثمن بكثير من كل ماس؟ وإن كان يلزم من مراقبة التجرد هلاك

الدنيا، فلماذا نحزن نحن؟ هل نحن الذين خلقنا الخلق فنهتم بمستقبل الدنيا هذا

الاهتمام الكبير؟ إن الذي خلقها لهو الذي يدبر دوامها وبقاءها، وليس مما يعنينا أن

نبحث عن الناس الآخرين، هل هم متمسكون بالتجرد أم لا؟ أفنحن إذا اتخذنا مهنة

التجارة أو المحاماة أو الطب نفكر يوماً في مستقبل الدنيا إن أصبح جميع الناس

مثلنا تجارًا أو محامين أو أطباء؟ إن المتجرد الحقيقي يجد بنفسه جوابًا لهذه الأسئلة

إذا طال عهده بالتجرد.

ولكن كيف يفعل الذين أحاطت بهم الأمور الدنيوية من كل جهة؟ وماذا يفعل

الذين لهم أولاد؟ قد بيّنا أحسن حل لجميع هذه المشاكل آنفًا. يجب أن نضع نصب

أعيننا هذا المثل الأعلى (التجرد) ونجتهد في التقرب منه أكثر ما نستطيع. لما

نمرن الأطفال على الخط نقدم إليهم أحسن نماذج الخط ليجتهدوا في تقليدها بأكثر مما

يستطيعون. هكذا تمامًا يجب أن نجتهد لهذا المثل الأعلى حتى نفوز في آخر الأمر

بفهمه والوصول إليه، إذاً ماذا نفعل إن كنا متزوجين؟ إن قانون الطبيعة يقضي

بأن لا يخرج الزوجان من حدود التجرد إلا إذا شعرا شعورًا قويًّا بالحاجة إلى الولد.

إن الذين يراعون هذا القانون فيخرجون من التجرد مرة كل أربع أو خمس

سنوات لا يعدون من عباد الشهوة، ولا هم يضيعون كل ما خزنوه من القوة الحيوية

ولكن واأسفاه! ما أقل الرجال والنساء الذين يخضعون للشهوة الزوجية طلبًا للنسل

فقط؟

إن الأكثرية الساحقة من البشر لا تباشر الشهوة الحيوانية إلا لإرضاء أميالهم

الشهوانية، أما الأولاد فيولدون كنتيجة غير مقصودة لهم، نحن إذا جُننا بالشهوة فلا

نتفكر مطلقًا في نتائج عملنا. والرجال يلامون أكثر من النساء في هذا الأمر؛ لأنهم

هم الذين يعمون بالشهوة إلى درجة لا يبالون بحالة أزواجهم فيكرهونهن على امتثال

أمرهم، وإن كن ضعيفات البنية أو غير قادرات على الحمل.

إن الغربيين قد تعدوا حتى على حقوق الأدب أيضًا. فهم يتمتعون بشهواتهم

ويخترعون طرقًا للتخلص من مسئولية الأبوة والأمومة. قد ألف كثير من الكتب في

هذا الموضوع ونفقت سوق التجارة القانونية لإيجاد الطرق المانعة للحمل، وأما

نحن معشر الهنود فإن كنا بعيدين إلى الآن من هذا الإثم غير أننا لا نتردد في أن

نحمل نسائنا حمل الأمومة الثقيل ولا نبالي بأن يولد أولادنا نحاف البنية فاقدي

الرجولية ضعاف العقل. بل كلما يولد لنا ولد نكاد أن نطير فرحًا ونشكر الخالق

على ذلك. وهكذا نسعى في أن نغش أنفسنا ونخفي حمق أعمالنا عن أعيننا، ألا

يجب علينا عوضًا من أن نعد ذلك دليلاً على رضاء الله ولطفه بنا دليلاً على غضبه

وسخطه علينا بجعله إيانا نلد أولادًا فجارًا، عجزة، سفلة، نحاف البنية، ضعاف

العقل، هل من الكياسة أن نفرح بولادة الأولاد للبنات والصبيان [5] أليس

ذلك لعنة من الله عوضًا من أن يكون رحمة؟

نحن كلنا نعلم بأن ظهور الثمر قبل أوانه يضعف الشجرة ولذلك نسعى بجميع

الوسائل في تأخير موعده، ولكنا ننشد أناشيد الحمد (لإله الزواج) ونحمد الخالق

سبحانه إذا ولد الولد من صبي وبنت صغيرين؟ هل يوجد شيء أبشع من هذا

الأمر؟ هل نظن أن الدنيا تبتهج بازدحام هذا الجم الغفير من هؤلاء الأطفال

الضعاف البنية والقوى، الذين يكثرون كثرة زائدة في الهند وغيرها من البلدان؟ لا

ريب أننا في هذا الأمر لأحط حتى من البهائم فالثور والبقرة لا يقتربان إلا لتوليد

العجل فقط. يجب على الزوجين أن يبقيا متباعدين من وقت الحمل إلى أن يترك

الطفل ثدي أمه ويريا ذلك واجبًا عليهما. ولكننا لا نراعى هذا الواجب المقدس بل

نبقى متمتعين مسرورين ناسين حتى محبة ولدنا وزوجنا. إن هذا الداء العضال

يضعف عقولنا ويقودنا إلى القبر قبل أوانه بعد أن يجعل وجودنا في الدنيا تعاسة

وشقاء. يجب على المتزوجين أن يعلموا الوظيفة الصحية للزواج فلا يخرقوا

التجرد إلا بقصد أن يلدوا ولدًا لدوام النوع.

ولكن مراعاة هذا القانون صعبة جدًّا في حالتنا الحاضرة. فغذاؤنا وطرق

معيشتنا وحديثنا العام ومحيطنا، كل هذه الأمور تنبه وتساعد على إثارة الشهوة فينا،

فالشهوة تجري في عروقنا وأعضائنا الرئيسية كالسم فتنخرها. قد يشك بعض

الناس في إمكان تحرير نفوسنا من هذا الحمل الثقيل. إن هذا الكتاب لم يؤلف

لأمثال هؤلاء المرتابين ضعيفي الإرادة، بل إنما ألف لأولئك الذين يريدون أن

يتأملوا في الأمر بجد، ويملكون جراءة الإقدام على إصلاح أنفسهم. قد يتأذى الذين

هم مطمئنون بحالتهم الحاضرة المهينة من قراءة هذا الكتاب، ولكني أرجو أن يؤدي

بعض الخدمة لأولئك الذين يتذمرون من حالتهم التعسة. فينتج من كل هذا أن الذين

لم يتزوجوا بعد، يجب أن يجتهدوا في البقاء غير متزوجين وإن كانوا لا

يستطيعون البقاء فليؤخروا الزواج ما استطاعوا.

ليعاهد الشباب أنفسهم بأن لا يتزوجوا إلا في سن 25 أو 30 من العمر. ليس

من موضوعنا الآن أن نبين جميع الفوائد المتنوعة الكثيرة التي تنال من التجرد فوق

الفوائد الصحية، بيد أن الذين يريدون أن ينتفعوا بها ينالونها حتمًا من هذا الطريق.

إن رجائي من الآباء والأمهات الذين يقرأون هذه الصفحات أن لا يعلقوا في

أعناق أولادهم حجرًا ثقيلاً بتزويجهم في عهد صباهم. بل عليهم أن يراعوا مصلحة

أبنائهم أيضًا لا مصلحتهم فقط. ليرموا جانبًا جميع أفكار الحمق التي جلبها لهم حب

الفخار الكاذب، فيتركوا التشبث بجميع هذه الأعمال الباطلة المضرة. وإن كانوا

مخلصين حقًا لأطفالهم فليسعوا جهدهم في تحسين صحتهم البدنية والعقلية والأخلاقية.

وأي عداء منهم أكبر وأفظع من أن يكرهوهم على الولوج في الحياة الزوجية مع

جميع مسئولياتها المريعة، والهموم الكثيرة في سن هم لا يزالون فيه صبيانًا بكل

معنى الكلمة؟

ثم إن القانون الصحي الصحيح يطالب كل رجل يفقد زوجته وكل امرأة تفقد

زوجها أن يبقيا عزابًا طوال العمر. إن هناك اختلافًا بين الأطباء في: هل يحتاج

الشباب من الرجال والنساء أن يفسحوا المجال لخروج مادتهم المنوية، فبعضهم

يوجب ذلك وبعضهم يمنع منه. ولكن هذا لا يجوز لنا الاستمتاع بشهوتنا. إني

أستطيع أن أؤكد بدون أدنى تردد بحسب تجربتي الشخصية وتجارب الآخرين بأن

الاستمتاع بالشهوة غير ضروري للمحافظة على الصحة فحسب بل إنه مُضر بنا

جدًا، إن القوة البدنية والعقلية التي خزنت في مدة طويلة تذهب كلها بمجرد خروج

المادة المنوية ويحتاج لاسترجاع هذه القوة الضائعة إلى مدة طويلة ثم ليس هناك أي

ضمان يضمن لنا رجوعها كاملة، إن المرآة المكسّرة مهما رممتها وجعلتها تؤدي

وظيفتها فهي لا تزال مرآة مكسرة.

وكما قد بيَّنا قبل أن حياتنا لا بقاء لها بدون الهواء النقي والماء النقي والطعام

النقي الجيد والأفكار النظيفة، كذلك العلاقة بين أسلوب معيشتنا وصحتنا قوية جدًّا.

فلا نكون أصحاء تمامًا إلا إذا جعلنا معيشتنا طاهرة بريئة، فالرجل المجد الذي

يتوب من ذنوبه الماضية ويعيش عيشة رضية يقتطف فيها ثمار سيرته الحسنة. إن

الذين يقومون (بالتجرد) ولو لزمن محدد يرون بأعينهم كيف يترقى جسمهم وعقلهم

في النشاط والقوة بسرعة. ثم هم لا يرضون بعد ذلك أن يتنازلوا عن هذه الخزينة

الثمينة مهما دفع فيها من الثمن الغالي. لقد كنت أرتكب بنفسي هذه الجناية حتى بعد

علمي التام بقيمة التجرد. ولا شك أني قد دفعت لإفراطي وتفريطي ثمنًا غاليًا، أنا

أخجل وآسف جدًّا كلما قارنت بين حالتي أثناء ارتكابي تلك الجناية وحالتي بعدها.

غير أني بحمد الله قد تعلمت بعد جنايات الماضي المحافظة على هذه الخزينة

الكبيرة.

وأنا ممتلئ رجاء وثقة بالتوفيق الإلهي بأني لا أزال أحافظ عليها في المستقبل

أيضًا، ولن أتنازل عنها في حال من الأحوال حتى يأتيني اليقين! وذلك بأني قد

جربت بنفسي فوائد التجرد التي تفوق الحصر. لقد زُوجت في أيام الصبا،

وأصبحت والدًا لأولاد بينما أنا لم أتجاوز المرحلة الأولى من الشباب. ولما تنبهت

لحقيقة حالي وجدت نفسي قد سقطت في هوة عميقة من الانحطاط. وإني لأعدني

قد جوزيت جزاءً كبيرًا على كتابة هذه الصفحات أن وجد ولو واحد من القراء

يعتبر بخطيئاتي وتجاربي ويستفيد منها. يقول كثير من الناس وأنا أعتقد بأني

ممتلئ الآن قوة وهمة ونشاطًا، وأن دماغي ليس بضعيف في حال من الأحوال، نعم

لا أنكر أن جسمي وكذلك دماغي لا يزال مصابًا ببعض الأمراض ولكني مع ذلك إن

قورنت بأصحابي فأنا أُعِد نفسي صحيحًا تمامًا وقويًا، وما دمت قد وصلت إلى هذه

الدرجة حتى بعد التمتع بالشهوة عشرين سنة كاملة، فكيف تكون صحتي ولو لم

أخرق قوانين الصحة وأبقيت نفسي طاهرة نظيفة في تلك السنين الماضية الطويلة

السوداء؟ أنا أعتقد كل الاعتقاد بأني لو عشت عيشة (التجرد) من أول

عمري لكنت أقوى وأنشط بألف مرة مما أنا الآن ولأمكنني أن أنفق كل قوتي

ونشاطي في خدمة وطني ونفسي أكثر من الآن فإذا كان الرجل الاعتيادي مثلي

يتأكد ذلك فما أعظم وأعجب تلك القوة - الجسمانية والعقلية والأخلاقية - التي يجود

بها علينا (التجرد) الحقيقي.

ما دام قانون التجرد دقيقًا إلى هذه الدرجة، فماذا ينبغي أن نقول في أولئك الذين

يرتكبون إثم التمتع بالشهوة على طرق غير مشروعة؟ إن الشر الذي يتبع العهارة

والبغاء لعظيم جدًّا ومسألة حيوية في الدين والأخلاق. ولا يمكن إلغاؤها حقًّا من

البحث في رسالة صغيرة مثل هذه. ولذلك نقتصر هنا على الإشارة إلى أن تلك

الألوف المؤلفة الذين يرتكبون هذه الآثام يصابون بالزهري وغيره من الأمراض

التي لا يليق ذكرها. إن القانون الإلهي الصارم يعاقب بكل عدل وسرور هؤلاء

الإباحيين التعساء بحياة مملوءة بأنواع من العذاب والأتعاب التي ليس لها حد.

فأمدهم القصير من الحياة يضيع في عبودية لشهوة مخزية وبحث خاسر عن دواء

ينجيهم من عذابهم الأليم! لو بطلت الدعارة لبطل على الأقل نصف شغل الأطباء.

إن الأمراض التناسلية تكاد أن تُقوض أركان الإنسانية وتوقع النوع الإنساني في

شدة وارتباك عظيم، حتى اضطر أحسن الأطباء إلى الاعتراف بأنه ما دام الفسق

والتهتك موجودًا فلا يرجى أي أمل للنوع الإنساني في السعادة والهناء. إن أدوية

هذه الأمراض سامة جدًّا حتى إنها وإن نفعت بادي الرأي نفعًا وقتيًّا فإنها تسبب

أمراضًا أخرى كثيرة أشد إيذاءً وعذابًا وتتسلسل بالوراثة في الأحفاد والأعقاب.

نحن نشير الآن بالاختصار إلى الطريقة التي ينبغي اتباعها للمتزوجين

لمراعاة التجرد. لا تكفي مراعاة قوانين الصحة المتعلقة بالهواء النقي والماء

والغذاء، بل يجب كذلك على الرجل أن يجتنب النوم مع زوجته في فراش واحد.

إن قليلاً من التدبر يدلنا على أن فكرة التخلي بين الرجل والمرأة إنما هي فكرة

للتمتع الشهواني. فيجب عليهما أن يناما متباعدين في الليل، وينهمكا في الأعمال

الحسنة طول النهار، ويزاولا قراءة الكتب التي تملأ دماغيهما بأفكار عالية،

ويتفكرا في حياة الناس الكبار، ويعيشا متيقنين بأن التمتع الشهواني أساس لجميع

الأمراض. وإن تولدت فيهما رغبة التمتع فليغتسلا بالماء البارد الذي يبرد حرارة

الشهوة ويزيلها، فتنتقل الشهوة إلى نشاط قوي حقيقي. أجل، إن هذا صعب عمله

ولكننا ما خلقنا في هذه الدنيا إلا لنصارع المصارع والمشكلات والشهوات ونغلبها.

والذي لا يريد أن يفعل ذلك فإنه لن يفوز بالبركات العالية في الصحة الحقيقية.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

حماراة بفتح الحاء وتشديد الراء شدة الحر، وصبارة بفتح الصاد وتشديد الراء شدة البرد.

(2)

المنار: إن غلوّ نساء الهند في كثرة الحلي قبيح جدًا، وضار وبعيد عن أذواق الشعوب الراقية كلها وأما أصل اللباس والزينة فهو فطري في غريزة البشر ومما يمتازون به سائر الحيوانات وقد غلا الكاتب غلوًّا فاحشًا في إنكارهما وذمهما أراد مجاراة الطبيعة فوقف عند الحيواني المحض ونسي الإنساني.

(3)

بل هو مدنية وحضارة عالية بشرط مراعاة النظافة وكثرة الغسل.

(4)

لكن القبقاب لا يصلح في كل مكان وعند مزاولة كل عمل والنعال الحجازية خير منه في البلاد الحارة.

(*) المنار: ليعلم قارئ هذا الفصل أن المؤلف قد بالغ في التضييق في الحياة الزوجية ولكن مبالغته لا تبلغ معشار مبالغة جميع الأمم وإسرافها الشديد في هذه الشهوة لذاتها، وأعدل الأقوال فيها قول فقهائنا: إن الإنسان إذا وجد الداعية إليها من نفسه بغير تفكر ولا تكلف فإن مواتاتها تكون نافعة غير ضارة.

(5)

يريد بالبنات والصبيان الذين لم تكمل قوتهم كالذين يتزوجون عقب البلوغ أي في الخامسة عشرة أو ما يقرب منها.

ص: 261

الكاتب: أمين الرافعي

‌ساعة مع جلالة الملك عبد العزيز بن السعود

بقلم الأستاذ أمين بك الرافعي

(ونشرت بالسياسة)

قال الأستاذ بعد وصف القصر وتقديم القهوة والشاي:

أخذ جلالته يتحدث إلينا في مختلف الشؤون وهو جهوري الصوت يهش في

وجوه المتحدثين معه وينتقل بسرعة من موضوع إلى آخر، يستدل في أقواله

بالآيات الكريمة والأعمال النبوية والأبيات الشعرية وإذا ذكر اسم النبي صلى الله

عليه وسلم قرنه بالصلاة والتسليم ولو تكرر ذلك عدة مرات.

بدأ جلالة الملك حديثه بإظهار ارتياحه لاتجاه أفكار المسلمين إلى إيجاد رابطة

تربطهم، وأنه قد سر كل السرور من اجتماع الوفود في مكة المكرمة، ومن

التعرف بهم، ثم انتقل إلى الكلام في شئون الدين فقال: إن أساس سعادة المسلمين

قائمة على التمسك بدينهم؛ لأن هذا الدين ضمن لهم سعادة الدارين والقرآن الكريم فيه

كل ما يريده من يقصد الوصول إلى السعادة، فهو قد حثنا على التعليم وحثنا على

الجهاد وحثنا على تدبير شؤوننا الدنيوية المختلفة ونحن نحمد الله على ما تفضل به

علينا من نعمة التمسك بالدين فنحن كلنا نحرص على الدين كل الحرص ونضحي

في سبيل ذلك كل ما نملك ونفديه بأرواحنا وأنفسنا ودمائنا.

إن خصومنا يشنعون علينا ويشيعون عنا أمورًا غير حقيقية ويسموننا بأسماء

لا حقيقة لها. إنهم يسموننا بالوهابيين ويزعمون أن لنا مذهبًا هو الوهابية في حين

أن هذا غير صحيح؛ إذ إننا مسلمون لا نعرف في أصول الدين غير الكتاب والسنة

ونقلد سيدي أحمد بن حنبل في الفروع وكل ما يقال غير ذلك لا يقصد به سوى

التشهير بنا.

ثم استمر جلالته يتكلم عن فضائل الإسلام وضرورة تمسك المسلمين بهذه

الفضائل والعمل على توحيد كلمتهم.

وبعد أن أتم الكلام في هذا الموضوع قلنا لجلالته: إن المسلمين كانوا يبحثون

منذ زمن بعيد عن وسيلة لتوثيق رابطتهم فلمّا ظهرت فكرة المؤتمر الإسلامي ارتاح

لها زعماء المسلمين وهرعوا لتنفيذها، ولما كان جلالته هو صاحب تلك الفكرة

والداعي إلى تحقيقها فهو جدير بشكر العالم الإسلامي. والذي نرجوه الآن هو أن

يكون المؤتمر هو الطريق العملي الموصل لما ينشده كل مسلم في جميع أنحاء العالم

في رفعة شأن المسلمين وإصلاح أمورهم وتوطيد كلمتهم وتسهيل طرق الحج

وتنظيم شؤونه والنهوض بالحجاز والأراضي المقدسة.

فأجابنا جلالته بأن هذه هي أمنيته. ثم أردف ذلك بقوله: إننا ما حضرنا إلى

هذه البلاد تحت تأثير مطامع ذاتية أو تعلقًا بالملك والملكية وإنما جئنا لننقذ حرم الله

المقدس من الأذى الذي لحقه ولحق أهله. إن في الحجاز ثلاثة أقسام من الناس،

فقسم ينتسب إليه دون أن يكون من أهله، وقسم من أبنائه ولكنهم يفسدون أمره وهم

الأمراء والبادية، وقسم آخر يريدون الخير له ولكنهم لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً.

ولقد جئنا لنعمل لخير الحجاز والحجازيين، ونحن قد جعلنا نفسنا فداء للإسلام

والمسلمين ننزل عن كل شيء مما نملكه ولكننا لا نسلم في شيئين مطلقًا (الأول)

كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فنحن نعض عليهما بالنواجذ. (الثاني)

شرف عربيتنا فنحن نتمسك به ونذود عنه لأنه أساس نجدنا وسر حياتنا.

ثم انتقل الحديث إلى حالة المسلمين اليوم فقلنا لجلالته أن النكبات التي انتابت

العالم الإسلامي في الأزمنة الغابرة والتي لا تزال تنتابه في العصور الحاضرة يجب

أن تكون درسًا نتعلم منه كيف نزيل كل خلاف فيما بيننا.

فأجابنا جلالته قائلاً: إن هذا حق فإن عدونا الحقيقي فينا وليس أجنبيًّا عنا

ونحن لا نخاف من الأوروبيين وإنما نخاف من أنفسنا فإذا خلصت نيتنا نحو أنفسنا

وطهرنا قلوبنا من أدران العداء أصبحنا أقوياء وأمنا على أنفسنا ولكن إذا دامت

الشحناء فيما بيننا فإن هؤلاء الذين يتسببون في الشحناء يجعلون سبيلاً لتدخل أصبع

الأجنبي، فالأجنبي لا يقوى على التدخل بنفسه وإنما هو يستعين بمن يساعدونه منا.

ثم تحدثنا مع جلالته في الأمن العام فقال جلالته: إن من فضل الله ما نشاهده

من توطيد الأمن في كل الجهات وها أنا قد غادرت نجدًا وليس فيها الآن أحد من

أبنائي فهم قد حضروا لأداء فريضة الحج وكذلك سيدي الوالد ولم أترك هناك سوى

شخص من أتباعي خولته أن يفصل فيما عساه يعرض عليه من الشؤون إذا احتاج

الأمر لذلك فالحالة تدعو للاطمئنان التام.

وفي خلال الحديث الذي دار بيننا ويبن جلالته عرض عليه كاتبه الخاص

ثلاث أوراق قرأ ورقتين منهما وأعطى تعليمات شفوية بشأنهما. أما الورقة الثالثة

فإنه ختمها بخاتم يحمله في خنصر يده اليسرى بعد أن غمسه في ختّامة صغيرة.

ولما مضى على حديث جلالته أكثر من ساعة من الزمن استأذن في

الانصراف شاكرين لجلالته ما لقيناه من حسن ترحيبه وما سمعنا من جميل حديثه.

...

...

...

أمين الرافعي

...

... مكة المكرمة في 2 ذي الحجة (13 يونيه)

_________

ص: 272

الكاتب: أمين الرافعي

‌الوهابية والعقيدة الدينية للنجديين

حديث مع رئيس القضاة في مكة

مذهب أهل نجد - التوحيد العلمي والعملي - التوسل والوسيلة - زيارة

القبور بناء القبور والبناء عليها - شارع المسعى والحرم - المرأة والحجاب -

حاشية.

يتطلع الكثيرون إلى معرفة العقيدة الدينية للنجديين وحقيقة مذهبهم؛ لأن

الآراء تضاربت في هذا الموضوع تضاربًا كثيرًا، فرأيت أن أستقي الحقيقة من

موردها الأصلي، فلم أجد سوى التحدث إلى رجل كبير من رجالهم، وعالم فاضل

من علمائهم هو فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الله بن بليهد شيخ الإسلام ورئيس القضاة

في مكة.

عرفت فضيلته في المؤتمر الإسلامي فوجدت فيه عالمًا مُتقد الذكاء، واسع

الاطلاع، صافي الذهن، يعرف كيف يحل المعضلات، ويوفق بين الآراء

المختلفة ويقر الصلح محل الخصام. وقد بعثت لكم في رسالة سابقة موقفه من

مشكلة زيارة القبور، ومن أجل هذا اعتقدت أنه ضالتي المنشودة، فطلبت إليه أن

يجيبني إلى ما سألقيه عليه من الأسئلة في موضوع العقيدة الدينية للنجديين. فأظهر

ارتياحًا كبيرًا لهذا الأمر وحدد لي ميعادًا في الساعة الثانية عشرة (على الحساب

العربي) صباحًا من يوم الجمعة أول ذي الحجة فقصدت إلى داره، وهناك قابلني

بما هو معهود فيه من كرم الأخلاق والبشاشة والظرف، وما لبثنا أن بدأنا الحديث كما

يلي:

***

العقيدة الإسلامية للنجديين

سألته: إن الأقوال والآراء متضاربة فيما يتعلق بمذهب الوهابية والوهابيين

ففريق يقول: إن هذا المذهب ليس سوى مذهب سيدي أحمد بن حنبل، وفريق لا

يقول ذلك ويزعم أنه مذهب خامس، وفريق يدعي أنه خليط من مذهب ابن حنبل

ومن أحكام دينية أخرى، فما هي الحقيقة في كل ذلك؟

الجواب: أهل نجد هم جميعهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل فهم سلفية

العقيدة (نسبة إلى السلف) حنابلة المذهب. أما تسميتهم بالوهابيين وتسميه مذهبهم

بالوهابية فليست من عملهم وإنما هي من عمل خصومهم الذين أرادوا تنفير الناس

منهم بإيهامهم الناس أن هذا مذهب جديد يخالف المذاهب الأربعة.

أما محمد بن عبد الوهاب الذي كان اسمه من أسباب تسمية النجديين بالوهابيين

فهو عالم من علماء نجد اتصل بدولة آل سعود فصار له قبول عندهم.

وقواعد التوحيد لدينا مبسوطة في كتب المذهب، ففيما يتعلق بالتوحيد العلمي

نقبل آيات الصفات وأحاديث الصفات على صورتها الحقيقية بغير أن نتعرض لها

بتأويل.

فاستواء الله على العرش {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) مثلاً

لا نؤوله بأنه الاستيلاء أو القهر كما يرى البعض وإنما نسلم به كما هو عاملين

بمذهب الأئمة الذي لخصه الإمام مالك في قوله: (الاستواء معقول والكيف مجهول،

والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) .

فالكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات فهو ممنوع.

وكما أنه سبحانه وتعالى لا تشبه ذاته بذوات المخلوقين فكذلك صفاته لا تشبه

بصفات المخلوقين.

أما فيما يتعلق بالتوحيد العملي فمذهبنا أن العبادة حق لله تعالى دون سواه فلا

يجوز صرف شيء منها لغيره كائنًا من كان، لا لملِك ولا لنبي ولا لولي ولا

لغيرهم. فمن سوى بين الله تعالى وبين أحد من المخلوقين في أي نوع من أنواع

العبادات كان عمله شركًا.

***

سألناه: وماذا ترون في التوسل بالأولياء والأنبياء؟

فأجاب: إن التوسل مبتدع وليس شركًا، وأهل نجد يمنعون ذلك ويعتبرونه

منكرًا.

وأما الوسيلة بالعبادات وهل تصل إلى الميت أو لا تصل ففيه كلام؛ لأن

العبادات ثلاثة أنواع: بدنية ومالية ومركبة منهما. فالعبادة البدنية كالصلاة والتلاوة

والذكر والدعاء فيها خلاف بالنسبة للصلاة؛ إذ يقول البعض إن صلاة الغير لا تصل

إلى الميت.

ونقول نحن: إنها تصل عملاً بعبارة بعض فقهاء الحنابلة: (كل قربة فعلها

العبد وأهدى ثوابها للميت توصل إليه) أما التلاوة والذكر والدعاء فإنها تصل، وأما

العبادة المالية كالصدقة فإنها تصل، والعبادة المركبة منهما كالحج فإنها تصل.

***

زيارة القبور

سألناه عن زيارة القبور فأجاب:

هذه الزيارة ثلاثة أقسام:

أولاً: زيارة شرعية وهي التي يقصد منها تذكر الآخرة والإحسان إلى الميت

والدعاء له وإحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة ومثل هذه الزيارة سنة.

ثانيًا: الزيارة البدعية، والقصد منها عبادة الله عند القبور بالصلاة ونحوها

بحيث يعتقد أن للعبادة عندها مزية على العبادة في المساجد التي هي أحب البقاع

إلى الله.

ثالثًا: الزيارة الشركية، والقصد منها دعاء الموتى لقضاء الحاجات وتفريج

الكربات.

***

بناء القبور

والبناء على القبور

سألناه عن القبور وبنائها وما يبنى عليها؟

فأجاب: بناء القبور نفسها لا يجوز رفعها أكثر من شبر، واختلف العلماء أن

يكون مسطحًا أو مسنمًا، ولا يجوز تجصيصها ولا الكتابة عليها، وإنما يجوز وضع

حجر عليها لتمييزها، أما البناء على القبور فإنه ممنوع منعًا باتًا لأن النبي صلى

الله عليه وسلم نهى عنه. وإذا أقيم فوق القبر مسجد فلا تجوز الصلاة فيه.

ومن أجل ذلك كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس داخلاً في الحرم

النبوي. وإنما هو موجود في بيت عائشة. ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه

وسلم عند اعتكافه لم يكن يدخل بيت عائشة، بل كان يعتكف في المسجد نفسه.

سألناه: وهل ترضون عن الحالة الحاضرة في شارع المسعى من حيث كونه

قذرًا ومملوءًا بدكاكين الباعة وبالكلاب الضالة؟ ؟

فأجابنا: إن شارع المسعى كان عرضه واسعًا في الأصل، فما زال الناس

يغتصبون أراضيه شيئًا فشيئًا حتى ضاق وصار عرضه إلى هذا المقدار الموجود

الآن، فيجب إزالة هذا الاغتصاب وإزالة دكاكين الباعة منه ومنع دخول الكلاب

فيه حتى يصبح خاصًّا بالسعي وسنعرض هذا الأمر على المؤتمر الإسلامي.

سألناه وهل ترضون عن حالة الحرم المقدس من حيث نوم الحجاج فيه

بملابسهم القذرة ومأكولاتهم المتعفنة الفاسدة.

فأجاب: إن الواجب منع اتخاذ الحرم محلاًّ لتناول الطعام، أما النوم فإننا لا

نمنعه إلا إذا ترتب عليه مفسدة.

وكان الأستاذ الشيخ حافظ وهبه قد جاء في هذه اللحظة وحضر الحديث في

هذه المسألة فقال لفضيلة قاضي القضاة (ولكن نوم الحجاج في موسم الحج بالحرم

قد ترتب عليه ضرر) .

فأجاب فضيلة القاضي: (إذن يمكن منع النوم في أثناء موسم الحج دفعًا للضرر

المترتب عليه) .

***

المرأة والحجاب

وهنا كان الحديث قد انتهى فاستطرد فضيلة محدثنا من ذلك إلى إطلاعنا على

أسئلة وردت عليه من بيروت ليجيب عنها، وكان منها سؤال خاص بالمرأة وحجابها

فطلبنا إليه أن ننقل السؤال والجواب عليه؛ لأنه يتعلق بمسألة هي مثار الجدل في

مصر، وهذا ملخص السؤال.

ما رأيكم في رفع الحجاب وكشف المرأة وجهها وكفيها في الطرقات

والمجتمعات العامة؟ وهذا نص ما أجاب به:

إن ذلك ممنوع خشية الفتنة لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ

وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59) .

ولحديث عائشة، قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله

عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها. وإذا

كان هذا في حالة الإحرام ففي غيرها أولى.

وإلى هنا انتهى الحديث، فشكرنا فضيلة القاضي وطلبنا إليه أن يسمح لنا بنشر

أقواله فأذن لنا بعد اطلاعه عليها.

***

حاشية

قد يصادف الإنسان في مكة بعض النجديين المتعصبين فيرى منهم عجبًا، فمن

ذلك أنني تقابلت مع أحدهم قبل مقابلة الأستاذ الشيخ عبد الله بن بليهد فأردت أن

أتحدث معه في موضوع العقيدة الدينية للنجديين، ووجهت إليه سؤالاً في هذا الصدد

فأجاب بنفور:

(لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا. فقلت إن السؤال يستوجب بيانًا،

فأجابني بهذا الجواب الغريب: إني رجل جاهل لا أعرف شيئًا) .

ثم أراد أن يهاجمني بعد ذلك فقال لي (هل أنت أجنبي عن مكة؟ أجبت نعم،

فقال: لماذا تحلق ذقنك ولا ترسلها؟ أجبته هذه مسألة تعنيني وليس هذا موضوع

الحديث) .

ثم استأنفت سؤاله وقلت له: (وماذا ترون في التوسل بالنبي عليه الصلاة

والسلام) .

فأجابني قائلاً: (لا يُدعى إلا الله ولا يسأل إلا الله) فأردت أن أدون هذا الرد

في ورقة لدي وبعد أن دونته قال لي: ماذا صنعت؟ أجبته (كتبت رأيك) فقال:

أطلعني على هذه الورقة، فأطلعته عليها، فقال: أعطني قلمك فناولته إياه فوضعه

في فمه ثم أخذ يمحو به تلك العبارة المكتوبة، ثم رد الورقة والقلم فقلت له: لا داعي

للكتابة ولنقتصر على الكلام، ووجهت إليه سؤالاً عن زيارة القبور فأجاب بكل أدب

أليس لك عقل؟ ألم أقل لك إني رجل جاهل لا أعرف شيئًا!

فقلت له: لقد حصل لنا الشرف، ثم أردت أن لا تنتهي هذه الفكاهة دون أن

أعرف صاحبها فسألت محدثي عن اسمه الكريم فأجاب: (إني أخ من الإخوة

المسلمين) فقلت له: هذه صفة يشترك فيها كل المسلمين وإني أريد معرفة اسمك،

فأجاب: (لا أقول شيئًا أكثر مما قلت) وأخذ يغط في نومه.. . وانتهى الحديث

بسلام واكتفى صاحبنا بالخشونة والسب بينما بعض أمثاله يضربون، فقد سمعت

من غير واحد من المصريين أنهم نالوا نصيباً قليلاً من الضرب؛ لأن نجديًا متعصبًا

سمعهم يقولون (أنا في جاه رسول الله) .

ولله في خلقه شئون

...

...

...

...

... أمين الرافعي

_________

ص: 275

الكاتب: محمد رشيد رضا

مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [*]

باقي محضر الجلسة الثالثة

(تابع لما نشر في الجزء الماضي)

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: نحن

في بيان الشروط ولسنا في استفتاء، والشروط هي ما ذكرها الفقهاء في كتبهم، نحن

ذكرنا رواية ابن خلدون وهو فقيه من الفقهاء ولم نأخذ برأيه.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: الموضوع

المعروض الآن جزء من البرنامج وهناك تقرير آخر لباقي المسائل والبحث إنما

يكون بعد تلاوة التقرير الآخر فليتل التقرير الآخر.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: تعلمون أن مسألة

الخلافة بحسب أصلها مسألة فقهية من فروع الفقه، ولكن لما اختلفت فيها قوم

خارجون عن السنة والجماعة وكثر فيها القال والقيل، أخذ المتكلمون على عهدتهم

الكلام فيها بحثًا طويلاً وألفوا فيها كتبًا خاصة كإمام الحرمين وغيره، فالمسألة ليست

مسألة مذهبية يختلف فيها الحنفي والشافعي وإنما هي مسألة كلامية.

فعندما يتكلم الباقلاني يتكلم باعتبار أنه من علماء الكلام بحسب ما يرى،

وإنما الفقهاء تكلموا فيها قليلاً اعتمادًا على ما تكلم به المتكلمون، فهل يقول أحد

منكم بعد ذلك أن الخليفة يكون غير مسلم أو يكون رقيقًا ليس بحرّ، أو يكون صبيًّا،

أو يكون أعمى، أو يكون عاجزًا عن إدارة الأحكام وحفظ بيضة الإسلام بجيشه

ومع هذا ألا يكون جبانًا.

إن الله تعالى قال في كتابه العزيز لنبيه صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ

بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 62) والنبي ما حارب إلا بعد أن صار له عدد

عديد من الجيش وقبل ذلك ما كان يفرض عليه الجهاد، وما شرع له الجهاد إلا

بالتدريج.

وشرع في أول الأمر أن يقاتل من قاتله وبعد ذلك شرع أن يقاتل من قاتله

ويبدأ بالقتال، وذلك كله بالتبع للقوة فليس في استطاعة الخليفة أن يجاهد إلا بأمته

فهذه الشروط إذًا لا ينازع فيها أحد فهي مما أجمع عليه. بقيت الشروط التي اختلفوا

فيها، ومنها الاجتهاد فوجب في الإمام وكذلك القاضي أن يكون مجتهدًا وعلى ذلك كان

السلف الصالح وقد استمر القضاء في مصر يتولاه المجتهدون إلى أن تضعضع الأمر

فعهد في ذلك إلى غير المجتهدين، وجوّزوا أن يعمل برأي المفتي في القضاء وألا

يكون الإمام مجتهدًا وأن يكتفي برأي العلماء.

فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: من الذي ألغى الاجتهاد؟ فقال

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: حصل خلاف: هل يتجزأ

الاجتهاد أو لا يتجزأ؟ والذي يتجزأ يختص ببعض المسائل والفروع، وقد كان بعض

الصحابة يرجع إلى بعض فيما لم يبلغ فيه مرتبة الاجتهاد المطلق.

وأما مجتهد المذهب فهو القادر على استخراج المسائل الفرعية من قواعدها

التي وضعها العلماء، وكذلك مجتهد الفتوى. هذا هو الأصل وقد تعذر الآن، ومعنى

ذلك أنه لا يمكن مجتهد اليوم أن يستنبط غير ما استُنبط أو يَخرج عما قالوه ودونوه

في كتبهم.

فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: ما قول الأستاذ في: (يحدث

للناس أقضية بقدر ما أحدثوا [1] ) .

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: لقد حدث حادث

السكورتاه والحوالات المالية وتكلم في ذلك المتأخرون بالقياس على ما قاله

المتقدمون ولا يخرج عن المذاهب التي كانت في الزمن الماضي.

ومن شروط الإمام أن يكون عدلاً فإذا وجدنا عدلاً شجاعًا لا يعدل عنه وإذا لم

نجد من يجمع بين الشرطين فالشجاعة هي المطلوبة للدفاع عن الأمة. ومن

الشروط أيضًا القرشية وقد اختلفوا فيها وتكلموا في قول النبي صلى الله عليه وسلم:

(الأئمة من قريش) فقالوا هل حصر الأئمة في قريش لأنهم كانوا أصحاب عصبية

في ذلك الوقت فالمناط العصبية؟ [2] وإذا كان الباقلاني قد تكلم في ذلك فبصفته

متكلمًا لا فقيهًا.

وهنا رفعت الجلسة لصلاة المغرب؛ إذ كانت الساعة السابعة مساءً.

ثم أعيد انعقاد الجلسة الساعة السابعة والنصف.

فأخذ حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت يكمل كلامه وقال:

إن هذا التقرير بالاختصار اشتمل على مسائل ثلاث. وإن حقيقة الخلافة على

الوجه المذكور في التقرير لا خلاف فيها وهي مسألة مفروغ منها. وهل يستطيع

أحد أن يقول إن الخلافة ليست هي الرياسة العامة كما في التقرير؟ طبعًا لا ينازع

في ذلك أحد. فلا معنى لأن يكون ذلك موضع بحث ويجب أن يقبله الجميع.

ولا يمكن أن نقول: إن الخلافة روحية فقط كما قال الملحدون فإنهم يؤمنون

ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. فالشروط المجمع عليها هي أن يكون الخليفة

مسلمًا حرًّا ذكرًا شجاعًا بصيرًا، وليس لأحد أن يناقش في ذلك الإجماع.

وإن من الشروط المختلف فيها الاجتهاد والنسب والعدالة، وأن الذين خالفوا

في القرشية اعتمدوا على أن حديث (الأئمة من قريش) قابل للتأويل. وقد قال

بعض العلماء: إن العدالة لا تتحقق في الواقع ونفس الأمر. والضرورات تبيح

المحظورات.

وتعلمون أن شرعنا جاء بمراعاة مصالح العباد. ومن هنا أمكن القياس في

المسائل لأن النصوص قواعد معللة وهذا يمكن من مراعاة المصلحة. ولكم أن

تنظروا ذلك في جلسة أخرى يكون موضوع البحث فيها المسائل التي وقع فيها

الخلاف؛ وأعود فأقول: إذا بحثنا في القرشية فما الذي يتبع في إثبات النسب

أبالطريقة التي كان يتبعها السلف أم بغير ذلك؟ وإذا كان هناك قرشي فهل توجد فيه

الشجاعة والعلم أي الفهم.

على أن الإسلام والشجاعة والعلم إنما ينظر إليها عند التنفيذ والتطبيق وليس

كلامنا الآن في ذلك وإنما هو في بيان الشروط، وأما البيعة فمبينة في كتاب الأحكام

السلطانية وكذلك أهل الحل والعقد.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد هارون: لا نفصل في

التقرير الأول الآن ونريد أن يتلى التقرير الثاني ثم يؤخذ الرأي.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: هذا تقرير وذاك

تقرير آخر وقد حصلت مناقشات كثيرة، فإذا استحسنتم فليرجأ النظر إلى الغد.

فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: أطلب أن يضم التقرير الأول

إلى التقرير الثاني وبعد تلاوتهما يُؤخذ الرأي.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الصالحي التونسي: إن

المؤتمر الشريف الذي حضرنا إليه أعطى لنا برنامجًا وألف لما في البرنامج لجنتين:

لجنة علمية تنظر في المسائل الثلاث الأولى من البرنامج ولجنة تنظر في المسائل

الثلاث الأخيرة منه. وفي اللجنة العلمية المنتخبة علماء أجلاء ثلاثة من كل مذهب

من المذاهب الثلاثة ومستشار حنبلي وقد وثق المؤتمر بهم في هذا وقدموا تقريرًا

شافيًا كافيًا استندوا فيه إلى ما دون في المذاهب الأربعة وشرحوا المسائل أتم شرح

ولخصوا المسائل المختلف فيها فلم يبق محل للمناقشة، ويلزم الاقتراع الآن على هذا

التقرير فإن كانت هناك ملاحظات فلتبين.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمد مراد أفندي. إننا آثرنا بحث

الاجتهاد وأمضينا فيه وقتًا طويلاً نحن في حاجة إلى أن نمضيه فيما بين أيدينا وما

زال هذا البحث مثارًا لنزاع العلماء. وأمامنا الآن تقريران نريد قراءتهما، وبعد ذلك

نبحث فيهما مادة مادة أو يعطى حضرات الأعضاء مهلة لدرسهما ثم تعقد جلسة في

الغد.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي: ألف

المؤتمر لجنتين لعملين، وخص كل لجنة منهما بعمل، فيحسن أن نأخذ الرأي في

التقرير الأول.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: ليس من

الحكمة الخوض في موضوع قبل أن يكون أمام الخائض فيه نبراس، والسرعة

والإتقان لا يجتمعان، أما أعضاء اللجنة العلمية فقد درسوا ما كتبوه، وأما الذين لم

يكونوا في هذه اللجنة فإنهم يحتاجون إلى النظر والتدقيق. وكذلك درس أعضاء

اللجنة الثالثة ما كتبوه في تقريرهم، فهم مستغنون عن النظر ثانيًا، ولا كذلك الذين لم

يكونوا معهم في اللجنة وقراءة التقريرين في هذه السويعة بعد هذه المتاعب في

المناقشات مما يسمى سرعة لا يحتمل معها الإتقان ولا سيما هذا الموضوع الخطير.

وهنا طلب كثيرون من حضرات الأعضاء أن يتكلموا، فأقفل حضرة صاحب

الفضيلة الرئيس باب المناقشة وأعلن انتهاء الجلسة إذ كانت الساعة الثامنة مساءً

على أن يجتمع المؤتمر الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر الغد.

نائب السكرتير العام

...

...

رئيس المؤتمر

إمضاء (محمد قدري)

...

ختم (محمد أبو الفضل)

***

محضر الجلسة الرابعة

يوم الأربعاء 7 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ

19 مايو سنة 1926م

اجتمع المؤتمر في الساعة الخامسة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ

الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر ورئيس المؤتمر. وحضور من

حضروا الجلسة الثالثة وزاد عليهم الشيخ إسماعيل الخطيب المحامي الشرعي

بفلسطين. والشيخ عيسى منون مندوب بالمجلس الإسلامي الأعلى بفلسطين.

والشيخ عبد القادر الخطيب مفتش الأوقاف بسوريا ولبنان.

ولم يحضر السيد الميرغني الإدريسي لعذر، والسيد عبد الحميد البكري.

وتولى أعمال السكرتارية من كانوا في الجلسة الثالثة.

وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس افتتاح الجلسة وأذن

بتلاوة محضر الجلسة الماضية المنعقدة يوم الثلاثاء 6 ذي القعدة الحرام سنة 1344

هـ (18 مايو سنة 1926م) فتلاه علي أحمد عزت أفندي من السكرتيرين

المساعدين.

ولما وصل فيه إلى عبارة (ولا يمكن أن نقول: إن الخلافة روحية فقط كما قال

الملحدون) الواردة في كلام حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت

اعترض على كلمة (الملحدين) حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي وقال:

هل قال فضيلة الأستاذ الشيخ بخيت هذه الكلمة.

فقال الأستاذ: نعم قلتها.

فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: ليس بيننا ملاحدة وطلب

حذف هذه الكلمة من المحضر.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: إن الملاحدة

موجودون قديمًا وحديثًا.

فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: هذه الكلمة ليس فيها أي طعن

شخصي، بل فيها رد على الذين يحاربون ديننا.

فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: الذين يحاربون الدين

الإسلامي موجودون في كل مكان.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: إن الذين قالوا: إن

الخلافة روحية فقط ملحدون.

فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: هل تخصيص أحكام الخلافة

أو شروطها يعتبر إلحادًا.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: نعم؛ لأن شَطْر

الخلافة شطرين وإلغاء أحد الشطرين إلحاد.

فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: هذه فتوى من مولانا الأستاذ

الشيخ محمد بخيت المفتي يجب أن نُجلها ونحترمها كل الاحترام.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: أرجو من حضرة

صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ بخيت أن يتسامح في هذه الكلمة فإنه صاحب الحق

في ذلك وفي كلامه الباقي ما يشير إلى المخالف وقد يكون ذلك كافيًا.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس العام. لا داعي لتضييع

الوقت في هذا فليؤخذ الرأي.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إسماعيل الخطيب: لا رأي بعد

الفتوى.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري:

ليست المسألة فيما أرى الآن مسألة بحث وسيخرج بنا هذا عن الموضوع، والمفهوم

أن لكل واحد ملء الحرية في كل ما يقول، ولا يعتبر هذا القول إلا لصاحبه فقط.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد القادر الخطيب: يسأل أولاً

فضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: هل هو مصمم على بقاء هذه الكلمة.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: أنا مصمم على

بقائها.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: أريد

أن أقول: إن المسألة في المحضر حكاية محضة لما دار ومهمة السكرتارية أن تدون

كل ما يقال صوابًا كان أو خطأ فلا معنى لأخذ الرأي على إبقائها أو حذفها.

وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: نحن موافقون ونؤيد الفتوى. ثم

تابع السكرتير المساعد تلاوة بقية المحضر حتى فرغ منه.

فقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: سبق لنا أن طلبنا دعوة

أرباب الصحف لحضور جلسات المؤتمر فرأيي الاكتفاء بما يرسل إليهم من

السكرتارية، ولكنني أرى مكاتب المقطم موجودًا خارج هذا المؤتمر فأرى أن يؤذن

لغيره من مكاتبي الصحف بالحضور.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسن أبو السعود: إن المؤتمر حر في

مسألة الصحافة فلماذا يؤذن لإحدى الصحف دون الأخرى؟

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: إننا لم نأذن لأحد

من مكاتبي الصحف أن يحضر.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: جرى

بالأمس كلام من فضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي مفتي الموصل بشأن

النظام الداخلي هل للمؤتمر أن يعدله أو ينظر فيه؟ ودار كلام مني حول ذلك، ولم

يثبت ذلك في المحضر.

فقال حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد علي الببلاوي: السكرتارية مؤتمنة

على كل ما يدور من الكلام.

وقال محمد قدري أفندي نائب السكرتير العام: حضرة صاحب الفضيلة الشيخ

حسين والي، إن ذلك وارد في المحضر وقد تلي على حضراتكم بالنص الآتي:

(ثم قال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: قدمت اقتراحات في

الجلسة الماضية في موضوع كيفية أخذ الآراء وعلنية الجلسات، ونريد أن نعلم

رأي اللجنة فيها وما يقرره المؤتمر بشأنها قبل النظر في الأعمال الأخرى، فلِمَ لَمْ

يكتب ذلك في جدول الأعمال. فحصلت مناقشة طويلة حول ذلك اشترك فيها

حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة الشيخ حسين والي، والشيخ محمد مصطفى

المراغي، والشيخ إبراهيم الجبالي، وعطاء الله الخطيب أفندي. وعبد العزيز

الثعالبي أفندي. والشيخ محمد العبيدي. والشيخ محمد فراج المنياوي. والشيخ

إسماعيل الخطيب. والشيخ عبد الرحمن قراعة. انتهت بتقديم النظر في تقرير

اللجنة العلمية كما في جدول الأعمال) .

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: قد أجمل ذلك في

المحضر إجمالاً وكنا نريد التفصيل.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: أذكر أن هذه

المسألة تكلم فيها قبل هذا جمال الحسيني بك، وحصلت فيها المناقشة، وذكر ذلك

على وجه التفصيل وسبق أن قلنا له: إن لجنة الاقتراحات نظرت في ذلك ولم تحدث

شيئًا جديدًا معدلاً لنظام المؤتمر وسيعرض تقريرها عليه.

أما وقد أعيد فيها الكلام فقد أثبت ذلك عند الإعادة بصفة إجمالية.

فقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: لماذا ذكر في المحضر بحث

علمي برمته وحصل الإطناب فيه والتزم الاختصار في غيره؟ إن في المحضر

نقصًا.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: ليس في هذا

المحضر إشارة إلى مسألة النظام الداخلي فكيف تجمع الآراء في مسألة الملاحدة

وغيرها.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: قلنا: إنه سبق الكلام في هذا

تفصيليًا وقلنا: إن الاقتراحات قدمت إلى لجنتها، وقلنا: إن اللجنة لم تعدل في النظام

الداخلي، ولم تقرر مسألة حضور مكاتبي الصحف. ولما اعترض جمال الحسيني

بك بأن تقرير لجنة الاقتراحات لم يعرض على المؤتمر حصلت مناقشة اشترك فيها

جمع من حضرات الأعضاء كما أشير إلى ذلك في المحضر إجمالاً. فإذا كان هذا

لم يكف على أنه معقول، فما على السكرتارية إلا أن تثبت ما أردتم إثباته.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: قلت بالأمس إن

كان النظام الداخلي قد وافق عليه المؤتمر فأنا قابل له ولم يذكر ذلك في المحضر.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: قلنا غير مرة يكفي الإجمال

في هذا كما ذكر في صدر المحضر لسبق التفصيل. وإن رأيتم التفصيل فلا مانع

من أن يستدرك في المحضر بدل الإجمال.

وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: ما المانع من أن يذكر في

المحضر كل شيء يقال بالتفصيل؟

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة: اكتبوا أن في

المحضر نقصًا فيما دار من المناقشة بيني وبين حضرة صاحب الفضيلة الشيخ

محمد حبيب العبيدي.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان: أرى أن يقال: يتدارك

ما حصل ولا يقال: إن في المحضر نقصًا، وإن المحاضر في المجالس النيابية قد

يحصل فيها استدراك.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: السكرتارية مكلفة أن تكتب

محضرًا لا مضبطة بمقتضى النظام الداخلي للمؤتمر. والمضبطة يكتب فيها كل ما

يقال. والمحضر يكتب فيه مجمل ما في المضبطة. فإذا كانت الكتابة على صورة

ملخصة فهي المحضر بعينه وهو المطلوب وفق النظام الداخلي للمؤتمر. وإذا كان

هناك تفصيل في بعض المواضع دون بعض فذلك زيادة على المطلوب والمحل

الأصلي لذلك إنما هو المضبطة. هذا هو العرف الجاري في مثل ذلك على أن

الموضوع الذي أثير الكلام فيه الآن ذكر تفصيليًا فيما سبق. ، فليس في المحضر

نقص، ولا سهو، ولا غلط. وأكرر قولي إن هذه المسائل التي تكلم فيها جمال

الحسيني بك وغيره من حضرات الأعضاء حصل الكلام فيها قبل هذا وأخذت حقها

من المناقشة، وانتهى الأمر بأن أحيلت إلى لجنة الاقتراحات. وقد نظرتها اللجنة

وأصدرت فيها قراراتها بما لا يخالف النظام الداخلي للمؤتمر وسيعرض ذلك عليه.

وسبق أن قلنا: إننا كتبنا في جدول الأعمال ما هو المقصود وقدمنا الأهم على المهم.

فقدمنا النظر في التقرير العلمي ثم النظر في تقرير اللجنة الثالثة. وقد زدت على

ذلك أن قلت: إن لجنة الاقتراحات لم تحدث شيئًا جديدًا في مواد النظام الداخلي. فلو

أنصف حضرات إخواني الأعضاء لوجدوا أن الإشارة الإجمالية كافية بعد ذلك

التفصيل السابق.

على أن المضبطة التي يكتب فيها كل ما يقال بالحرف الواحد موجودة في

السكرتارية. ولو أردتم أن ينقل ما فيها إلى المحضر فلا عمل إلا ضم بعض

الكلمات إلى بعض وإثبات ذلك في المحضر. إنكم إذا أردتم تفصيلاً أكثر مما في

المحضر فنحن لا نأبى ذلك وإنْ كان زائدًا على ما في النظام الداخلي للمؤتمر.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد فراج المنياوي: عقد المؤتمر

ثلاث جلسات وهذه هي الرابعة ولم نعمل شيئًا ونحن ما اجتمعنا لأجل أن نتحدث

في الأمور الثانوية، ولكن لنقدم للمسلمين عملاً نافعًا. فأرجو أن يسود بيننا حسن

التفاهم. إما أن يقف بعضنا لبعض بحسن نية أو بغير ذلك، فهذا مما يجب أن نترفع

عنه. يجب أن نتعاون يا إخواني على البر والتقوى. وأن نقدم للمسلمين عملاً

جديدًا، ويجب الآن أن يوافق على تقرير اللجنة العلمية (ضجة ومقاطعة) اسمحوا

لي أن أتكلم: إن الذي أريده من حضراتكم أن توافقوا على تقرير اللجنة العلمية لأن

الأحكام الفقهية وإن كانت ظنية فإن المجتهد فيها لم يخرج عن كونه نظر في الدليل

الشرعي وانتهى به اجتهاده إلى حكم من الأحكام. ذلك الحكم وإن كان ظنيًّا فهو

حكم الله بالنسبة للمجتهد.

فليس من حقنا أن نقول: نقبل هذا الحكم أو نرده. وإنما يتعين علينا أن نقبله.

إن هذه الهيأة فيها من عنده قوة الترجيح ولكن ليس فينا من عنده قوة الاجتهاد فيقول

هذا مقبول وهذا مردود. فأقترح الموافقة على تقرير اللجنة العلمية ثم ينظر في

التقرير الآخر ولحضراتكم الرأي الأكبر.

ثم قرر المؤتمر أن يكتب التفصيل مكان الإجمال في محضر الجلسة الماضية.

وبعد ذلك قال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: هناك مسائل أولية أردت أن أبحث فيها من الجلسة الأولى. نحن نقول: يجب أن ندعو ممثلاً لنقابة

الصحافة ولم توافقوا. فلماذا نرى مندوباً عن جريدة المقطم يحضر خارج المؤتمر؟

نريد أن نبحث فكيف جاز لشخص لا علاقة له في المؤتمر أن يحضر بدون إذن مع

احترامي لشخصه واحترامي لجريدته.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: لم يحصل منا إذن لمكاتب

صحيفة مطلقًا.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: الآن

وقد علمنا أن أخبار المؤتمر تنشر محرفة وبشيء ربما أثار ثائرة في وجه المؤتمر

وحرف وجهة النظر أرى خيرًا من هذا أن يدعى أهل الصحافة جميعًا لحضور

المؤتمر من الجلسة الآتية:

وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: نحن نؤيد هذا الرأي ونطلب

مندوبًا واحدًا عن نقابة الصحافة.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: لأن تنشر قرارات

المؤتمر بوساطة مندوبي الصحف خير من أن تنشر الجرائد أخبارنا محرفة.

وقال حضرة صاحب السماحة السيد محمد الببلاوي: أنا أوافق الأستاذ وأظن

أن مسألة انتخاب نائب عن الصحافة انتهت، وسيحضر من الغد وأطلب أخذ الرأي

على ذلك.

...

...

...

فأخذت الآراء فكانت النتيجة موافقة المؤتمر بالأغلبية على انتداب مندوب عن

نقابة الصحافة.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الصالحي التونسي: أطلب أن

تكون مناقشاتنا بشكل نظامي بحيث لا نخرج من موضوع إلى موضوع فجأة. إن

موضوعنا التكلم في التقرير العلمي، فهل لأحد الأعضاء ملاحظة عليه؟ إننا بين أحد

أمرين إما الموافقة على التقرير العلمي وإما تأخير الموافقة إلى أن يعرض تقرير

اللجنة المؤلفة لبحث النصف الثاني من البرنامج، فليس من المناسب ترك هذا

الموضوع والدخول في موضوع اقتراح قدم في أول جلسة للمؤتمر وأحيل إلى لجنة

الاقتراحات وقررت فيه قرارها وسيعرض تقريرها وللمعارض وقتئذ أن يعارض.

احتجاج المؤتمر على الفظائع في سورية:

وقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: نريد أن نعرف الفرق بين

البحث السياسي وغير السياسي نحن لا نريد أن نبحث شيئًا سياسيًّا هنا، لقد وردت

علينا برقية عن حوادث دمشق الشام، وهي رابعة البلاد المقدسة، جاء فيها أن

مساجدها تهدم على رؤوس المصلين والمدرسين فيها. وهذا مؤتمر إسلامي عام

أتعدون ذلك من المسائل السياسية أو الدينية؟

وقال حضرة صاحب العزة وحيد بك الأيوبي: أنا موافق على أن يحتج

المؤتمر على ما هو واقع في دمشق وإذا لم نحتج على هذا العمل يكون ذلك عارًا

علينا. إن هؤلاء أرسلوا إلى المؤتمر يستنجدونه ويستصرخونه فيجب أن نلبي

استصراخهم ونحتج بشدة على ما هو واقع، ليس على إخواننا المسلمين فقط بل على

المسلمين وغيرهم.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد فراج المنياوي: إن المؤتمر ألف

لجنة لنظر الاقتراحات.

فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: اللجنة ما هي إلا جزء من

المؤتمرين ولا وجود للجنة عند وجود المؤتمر. لقد كتبت الصحف عن هذا

الاعتداء. وأرى واجباً على مؤتمر الخلافة أن يكون هذا الاحتجاج من أول أعماله.

ومن العار سكوتنا وأن هذا لا دخل له في السياسة على الإطلاق بل هذا يتألم من

فظائع وقعت ويجب أن نظهر التألم لكل الناس.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي: هذا حسن ولكن لنا

مقصد أصلي لم نمض فيه خطوة. أبعد هذا نصرف كثيرًا من الوقت في مثل ذلك.

فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك أخجل كثيرًا إذا لم نحتج على

هذا.

وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: هذا الاحتجاج كان واجبًا

عمله من أول الأمر، ولقد تأخر الاحتجاج عن وقته فنحن باحتجاجنا الآن نكون قد

تداركنا ما أهملناه.

وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: هذا من أول واجبات مؤتمر

الخلافة ونحن نعمل لبناء الخلافة.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد هارون: لقد جاءنا تلغراف بهذا

المعنى. وهل تحققنا هذا الأمر؟ يجب أن نتحقق أولاً.

وقال حضرة صاحب العزة وحيد بك الأيوبي: ليس لنا أن نكذب الخبر وكل

هذه الفظائع قد نشرتها الصحف واطلع عليها الجمهور.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان: أرى أن إبداء الأسف

حق من حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، لا فرق بين فرد وفرد وبين جماعة

وجماعة. ونحن قوم مسلمون نحمل بين جوانحنا إيمانًا صادقًا وعطفًا على إخواننا

في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا الأمر الذي حصل وجاءتكم به البرقية أمر

وحشي لا يليق بإنسان أن ينزله بحيوان أعجم فضلاً عن إنسان مثله. ولهذا أقترح

أن تقرروا أسفكم وأن تعلنوه على صفحات الجرائد مقرونًا باحتجاجكم الشديد على

الذين ارتكبوا هذه الفظائع. وأن تقرروا ذلك باسم الدين خارجًا عن كل صيغة

سياسية.

وقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: المسألة دينية محضة، فقال

حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الصالحي التونسي: أقول: إن ما وصلنا إليه

أخيراً وطلب بشأنه الموافقة هو اقتراح خارج عن الموضوع الذي نحن بصدد النظر

فيه. وأطلب أن يكون كل عمل في وقته، فنحن بصدد الكلام في التقرير العلمي وما

راعني إلا خروجنا عن هذه الوجهة.

وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: هذا قد وقع ولا محل

للاستغراب.

فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: الاحتجاج تأخر، وكان يجب

عمله على إثر قراءة التلغراف فيجب أن نتدارك ما أهملناه.

صفة أخذ الآراء في المؤتمر:

ثم أمر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس بأخذ الآراء فكانت

النتيجة موافقة المؤتمر بالأغلبية على الاحتجاج على ذلك.

ثم قال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة: فلتؤخذ الآراء

على التقرير الأول.

وقال صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: لم أعرف للآن كيفية أخذ

الآراء.

وقال حضرة صاحب الفضيلة عطاء الله الخطيب أفندي: لم يستقر الرأي

على كيفية التصويت وهي لا تزال على حالها من الإبهام.

وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: نترك هذا البحث الآن.

وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: يؤخذ الرأي على التصويت

هل يكون باعتبار عدد الأصوات أو بحسب البلدان.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: كيف ذلك؟ وأمامنا التقرير

العلمي والعلم شائع لا يختص به شعب دون شعب، والنظام الداخلي للمؤتمر يقول:

العبرة بآراء الحاضرين. ولم تغير لجنة الاقتراحات منه شيئًا كما قلنا ذلك مرارًا.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة: أمامنا النظر

لمصلحة الإسلام ما دامت وجهتنا واحدة؛ فإذا قلنا: ننظر لمصلحة مصر أو لمصلحة

العراق مثلاً فهنالك يكون الكلام في مسألة البلدان، أما وقد قلنا: النظر لمصلحة

الإسلام، فلا معنى لأن ننظر لمصلحة البلدان.

وقال حضرة عبد العزيز الثعالبي أفندي: علينا واجب هو أن نتفق مع

المسلمين على أساس معين ولا يكون عملنا مبنيًّا على مصلحة الأفراد وأنا ملتزم

قبول الفتاوى الشرعية. فإذا صوت لكم فأنا ألزم به من أرسلني إليكم.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: إذا جاء

وقت ننظر فيه للتطبيق فيكون الرأي بمراعاة الأقطار لا أقول الأقطار

الحاضرة فقط بل جميع الأقطار. أما إذا لم نصل إلى التطبيق وكنا نتكلم علميًّا،

فالعلم حق مشاع للجميع وهذا ما نسير فيه للنهاية؛ فإما أن يوافق المؤتمر أو تؤخذ

الأصوات.

فأمر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس بأخذ الآراء.

فكانت النتيجة موافقة المؤتمر بالإجماع - ما عدا حضرة صاحب الفضيلة

الشيخ محمد حبيب العبيدي - على أن تؤخذ الآراء بعدد الحاضرين في المسائل

العلمية وعند التطبيق تؤخذ الآراء بعدد الشعوب.

ثم أمر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس بأخذ الآراء في تقرير

اللجنة العلمية المؤلفة لبحث المسائل الثلاث الأولى عن برنامج المؤتمر الذي تلي

في الجلسة الماضية فكانت النتيجة موافقة المؤتمر عليه.

ثم استأذن حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عطاء الله الخطيب مقرر اللجنة

المؤلفة لبحث المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج المؤتمر، وتلا تقرير هذه اللجنة.

وبمناسبة ما جاء فيه من غياب حضرة الدكتور الحاج عبد الله أحمد أحد

أعضاء اللجنة قال فضيلة المقرر: إنه أثناء المذاكرة حضر ووقع القرار.

وهذا نص تقرير اللجنة:

(سيأتي)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) منقول عن (محاضر) مؤتمر الخلافة التي نشرتها سكرتارية المؤتمر.

(1)

المنار: هذه الكلمة مروية عن الإمام عمر بن عبد العزيز.

(2)

المنار: هذا الرأي افتخره ابن خلدون بعد إجماع خير القرون على اشتراط القرشية فلا يقيد بخلافه ولا بخلاف الباقلاني قبله.

ص: 280

الكاتب: محمد بهجت البيطار

كتاب الموجز في الاجتماع

بحث علمي ديني للأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار

عضو المجمع العلمي بدمشق والمؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة

ما أشد حاجة الأمم التي تتخبط في ديجور الجهل، أو ترسف في قيود الذل،

إلى علم الاجتماع الذي يهديها إلى سنن الله تعالى في الوجود، ودرس أسرار تقدم

الممالك والشعوب، واتقاء أسباب الفشل والحبوط.

استنبط العرب (رحمهم الله تعالى) أيام حضارتهم من الكتاب الكريم علومًا

وفنونًا كثيرة، وجعلوها ذات أصول راسخة، وقواعد محكمة، فلو رزق علم

الاجتماع عندهم من العناية والتدقيق حظ هاتيك العلوم، وجرى ملوكهم وأولو الأمر

فيهم في تسيير دفة الملك والسياسة على مقتضى تلك الأسس الثابتة، والسنن

الكونية التي لا تقبل التبديل ولا التحويل، لما علقت بأصول مدنيتهم تلك الشوائب

والأوضار، وأفضت بملكهم وعظمتهم إلى الزوال.

تلوت كتاب (الموجز) في علم الاجتماع لمؤلفه العالم الضليع، والكاتب

البليغ، عارف بك النكدي، أستاذ علم الاجتماع في معهد الحقوق وأحد أعضاء

المجمع العلمي العربي في دمشق - فألفيته من أجود كتبنا العربية الحديثة، وكم يود

الغيور على ملته أن يكون هذا العلم في جملة العلوم المتداولة يبن طلاب العلوم الدينية فإن مباحثه ليست بأدق من مباحث أصول الفقه التي يتلقونها ولا بأقل فائدة وعائدة

منها، وإذا كان علم الأصول يتعلق باستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية

على قاعدة جلب المصالح للأمة ودرء المفاسد عنها، فإن علم الاجتماع

يبحث عن سنن الله تعالى في حياة الأمم وموتها، والمحافظة على مقومات الأمة

ومشخصاتها التي تكون لها بها شخصية خاصة ووجود مستقل بين الأمم، وأَنَّى

يتيسر لأمة مغلوبة على أمرها، مستعبدة لغيرها، أن تحافظ على دينها وتحتفظ

بمصالحها، وتدرأ المفاسد عنها؟

***

ابن خلدون وعلم الاجتماع

ذكر المؤلف الكريم أن للعلامة الشهير ابن خلدون سابقة فضل في استنباط هذا

العلم، وأورد عنه أنه قد شرح أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع

الإنساني من العوارض الذاتية، وذكر أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول،

وأسباب التعرف والحول، وما يعرض في العمران من دولة وملة، وعزة وذلة،

وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة. وتعرض

للعصبية وسلطانها، والإقليم ونفوذه، والوراثة وتأثيرها، وتبدل الأخلاق والعادات،

وما لذلك من العلل والأسباب، (ثم قال) وإذا كان ابن خلدون لم يجعل علم

الاجتماع الذي يسميه (العمران البشري) وأحيانًا (الاجتماع الإنساني) علمًا ذا

قواعد ثابتة، فلا يقدح ذلك فيه ما دام الناس لا يزالون إلى يومنا هذا وهم في شك من

هذا العلم، وأصحابه في تردد من أمرهم، وحسب الرجل أنه أدرك العوامل

الاجتماعية من اقتصادية وطبيعية ونفسية، قبل أن يدركها غيره من الغربيين

بمئات السنين، فإذا لم يكن ابن خلدون مؤسس هذا العلم فهو لا ريب مهيئ

أسبابه اهـ.

أقول: لا شك أن الإمام ابن خلدون قد استقى ما أورده في مقدمته من ذلك

المعين الذي لا ينضب وهو الكتاب الكريم الذي أشار (قبل ثلاثة عشر قرنًا ونصف

قرن تقريبًا) في كثير من آيه إلى السنن الإلهية الثابتة في الأفراد والأمم، ومنه ما

يسمى عندهم سنة الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح، وإليه الإشارة بمثل قوله عز

اسمه {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251) .

وقوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا

اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) وقوله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا

يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17) .

ولولا أن الكلام في علم الاجتماع من حيث هو علم لا من حيث هو دين

لأفضنا في ذكر الآيات التي يمكن أن يكون ما أورده الفاضل الكندي عن ابن خلدون

عناوين لها، وفصوله الممتعة مفسرة لها، مفصلة لمجملها.

***

الغرض من كتابة هذه الكلمة:

غرضي من هذه الكلمة التي أكتبها عن كتاب (الموجز) النفيس استنهاض

الهمم إلى الاستفادة من هذا العلم، وإيقاظ شعور من هم في غفلة عنه من رجال

الدين إلى سبر غوره، والتقاط درره، فإنه على الأكثر حجة لهم، ينفي عن دينهم

كثيرًا من المطاعن والشبه، ويكفيهم مؤونة الرد والدفاع من عند أنفسهم، وإني

مورد بعض الجمل الجميلة من هذا (الموجز) الجليل، ليكون قولي مؤيدًا بالدليل.

بطلان مذهب داروين:

قال في بطلان مذهب داروين - القائل بتولد نوع من نوع آخر أخس منه عن

طريق التحول (أي كتولد الإنسان من القرد!!) - معربًا عن كاترفاج نبذة مما جاء

في كتابه (الجنس الإنساني) ص 71: (ومن أراد أن يستشهد بما هو كائن، وأن

لا يبني حكمًا على شيء غير ما هو معلوم، استحال عليه أن يقول بتولد نوع من

نوع آخر عن طريق التحول، ومن قال بهذا فقد قال بشيء مجهول وجاء بالممكن

يحله محل الثابت بالتجربة. وبعد أن أفاض كاترفاج في هذا البحث وضرب له

الأمثال قال: وجملة القول أن (داروين) ومريديه من أجل أن يقروا التحول من

العنصر إلى النوع خلافًا لكل معارفنا المثبتة، ينبذون ما أثبتته التجربة والملاحظة،

ليحلوا محلها حادثًا ممكنًا ومجهولاً. قال مؤلف الموجز: لقد أتينا بهذه الكلمة بيانًا

لمذهب داروين الذي كثر أشياعه والمعجبون به، وهو مذهب لا يصح الركون إليه،

لأنه - كما قال كاترفاج - لا يستند على أساس ثابت، وإنما هو قائم على

الاحتمال والإمكان. ومهما يكن من الأمر فإن أصل الإنسان مسألة دقيقة غامضة،

إذا لم يؤخذ فيها بما ذهب إليه داروين، فليس هناك رأي آخر يعتمد كل الاعتماد

عليه، لتقادم العهد، وفقدان الأدلة الصحيحة) .

وأقول {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر: 57) وأقدم ،

والبحث عن مادتهما الأصلية لتعرفها أشد وأبعد، وإلى هذا كله الإشارة بقوله عز

شأنه {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ

المُضِلِّينَ عَضُداً} (الكهف: 51) .

***

وحدة أصل الإنسان، أو الإنسان الأول:

قال في ص 71: وإذا نحن وازنا بين هذين الرأيين (كون الناس يرجعون

إلى أصل واحد أو أصول مختلفة) وما جاء في حق كل منهما من البراهين التي

أدلى بها إلى يومنا هذا، كُنا أميل إلى القائلين بوحدة أصل الإنسان، لأن الفرق ما

بين أشد الأجناس الإنسانية بعدًا بعضها عن بعض، ليس بالشيء الذي يذكر في

جنب الفوارق بين أصناف النوع الواحد من الحيوان والنبات.

أقول: ما ذكره هو الظاهر المتبادر من قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا

رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) .

***

وظيفة المرأة في الحياة:

شغلت المرأة عالَمي الكتابة والخطابة في كثير من الأقطار وقتًا طويلاً، ولولا

حب الخروج بها عن أصل فطرتها ودائرة عملها، لما أشكل على الكثيرين أمرها

ولما أكثروا من الكتابة والخطابة في شأنها، فإن وظائفها الطبيعية الأربع التي تنتقل

فيها ولا تخرج عنها - وهي الحمل، والولادة، والرضاع، وتربية الأطفال

- دع تدبير المنزل - هذه الوظائف الطبيعية لا تدع لها مجالاً لمشاركة الرجل في

عمله الخارجي، وأنها تهدم من كيان الأسرة، وتفسد من شؤون المستقبل، بمقدار

ما تهمل من وظيفتها المنزلية، وإليك شذرات من (الموجز) في الموضوع:

(لقد قلنا: إن للنساء على الرجال سلطانًا لا يغالب، فإذا هن أجلسن على

مقاعد النيابة والأحكام، وشاركن في السياسة، ففوضت إليهن السلطة، فقد زاد

سلطانهن المعنوي سلطانًا سياسيًّا، فأصبح لهن الأمر كله، ووقعت السلطة العملية

في يد أضعف الجنسين عملاً، وتراكمت المصالح العامة في عهدة أعجزهما قدرة

على حفظها، فأين الفائدة بعد ذلك، بل أين المساواة؟

(وقال) : وقد شاءت هذه الطبيعة أن لا يجتمع الرجل والمرأة مجتمعًا لا

مبالاة معه، وكيف يريان سبيلاً إلى المباحثة في شؤون الدولة الخطيرة، وللعيون

مع كل نظرة بارقة من الأمل تذهب بالقضية بين سمع الأرض وبصرها [1] .

(وقال) : إن المبالغة في المساواة بين الرجل والمرأة كان من شأنه أن أفسد

كثيرًا من نظام الأسرة، فقد أدى ذلك إلى تعدد الطلاق في أمريكا تعددًا هائلاً، حتى

جاء في بعض الإحصاءات أن الطلاق بين المتزوجين واحد في الثمانية، وسبب

ذلك الغلو في المساواة، وكون المرأة أصبحت في غنى عن زوجها، لا تبالي أي

حياة تحيا، وهل مصير هذا إلى غير تفسخ الروابط الاجتماعية، ثم الفوضى

المطلقة، والرجوع بالإنسانية أجيالاً بعيدة إلى الوراء؟

وقد أفاض حضرته في هذا الموضوع، وأتى بالكثير الطيب، وذكر أن علم

منافع الأعضاء يثبت بين الجنسين الفوارق الطبيعية التي تستلزم الفوارق النفسية

والفكرية أيضاً (قال) وما دامت الطبيعة أسقطت عن المرأة مشاق الأعمال

وصعابها، فلم لا تستفيد المرأة من ذلك؟ وعلام تريد أن تحشر نفسها في مأزق

حرج، فتدخل في خطة صعبة يتمنى الرجل لو كان له مخرج منها؟

أقول: وإلى هذه الفوارق بين الرجل والمرأة، التي خصصت كلاًّ منهما بعمل،

يشير قوله جل اسمه] وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ

نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ [ (النساء: 32) .

ومما أثبته الفاضل (العارف) مستندًا فيه إلى علم الاجتماع ورجال الاشتراع

يظهر جلياً أن الرجل بما وهبه الحكيم العليم من المواهب الطبيعية هو المكلف

بالتوفر على عمله الخارجي، والقيام على عيله (عائلته من زوج وولد) بالنفقة

وحسن التربية والمعاملة، وهو المستفاد من قوله عز وجل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى

النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) .

وقد اقتصر الأستاذ النكدي في بحثه هذا على ضرر اشتغال النساء في القضايا

العامة كالمجالس النيابية لأنه - كما أفادنا حضرته مشافهة - يتكلم من الوجهة

الاجتماعية والسياسية ويقاس عليها اشتغالهن في القضايا الشخصية كالمحاماة

والهندسة والدخول في المعامل، فإن في هذا من فساد نظام الأسرة ما في ذاك.

ولم يذكر أضرار التفنن في التبرج والتفرنج وقتل الوقت في المسارح

والمراقص، لأن هذا محله بحث (تفسخ الهيئة الاجتماعية) من الجزء الثاني الذي

وعده بنشره، وسنراه قريبًا إن شاء الله تعالى.

***

حكمة تعدد الزوجات:

(قال) أما الحقيقة في تعدد الزوجات فهو يرجع في الأقاليم الحارة إلى

مؤثرات طبيعية غير فوارق اللذات، وإلى عوامل القتال والحروب، وما تجره من

فقدان الرجال في القبائل، التي لا تطفأ نار الشر بينها، وللرغبة في تكثير النسل،

والتقوي بأحلاف من العمومة والخؤولة، ولرُخَص دينية بنيت على هذه الأسباب

الاجتماعية كلها أو بعضها. اهـ.

أقول: لا يخفي أن الحروب في الأمم والشعوب، أشد منها في القبائل إهلاكًا

وتدميرًا، وأكثر أخذًا وتقتيلاً، فهذه الحرب العامة قد أزهقت قواها البرية والبحرية

والجوية ملايين البشر، وتركت ملايين النساء والأطفال بلا رجال؛ إذاً فحكمة تعدد

الزوجات في أمم الحضارة أظهر منها في أمم البداوة، وقد أدركت ألمانيا أثناء

الحرب العظمى هذا النقص الفادح فاضطرت إلى التصريح بضرورة التعدد.

أرأيت كيف جاء علم الاجتماع وأحداث الزمان مؤيدًا للقرآن، أعلمت كيف

انطبقت أصوله على تعاليم الإسلام؟

***

ما خالف الشرع من علم الاجتماع:

رب معترض يقول: إنك ذكرت من القضايا الاجتماعية ما هو حجة لذويك

وتركت ما هو حجة عليهم، وعلم الاجتماع لا يعرف المحاباة، وقد قال في (الموجز)

ص 109:

(1)

(فكل حق للرجال في حرمة أو مال يجب أن يكون للمرأة مثله، ولا

عليها ولا عليه أن يزيد حقها في هذه الأمور على حقه) وظاهر هذا معارض لنص

(للذكر مثل حظ الأنثيين) وفي بحث أدوار العقوبة وأنواعها (الدور الأول انتقام،

والثاني قصاص، والثالث تأديب وإصلاح) .

(2)

رأوا أن القود على إطلاقه، وجرح الجارح، وقطع السارق كان

لها أيام وانقضت. فتحولت العقوبة إلى واسطة يراد بها التأديب والإصلاح. وهذا

ينافي قوله تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (المائدة:

45) الآية.

وفي بحث أطوار العقوبة الثلاثة:

(3)

خروج العقاب عندئذ - أي عندئذ ترقّت الأوضاع الاجتماعية،

وتألفت السلطة المنظمة. إلخ - عن أن يكون حقًّا شخصيًّا أو إلهيًّا إلى حق عام.

وفي بحث النوع الثاني من أشكال الحكم (الشكل الثيوقراطي) وهو الحكم

الذي يستمد نفوذه وقوته من الله، والقائمون بهذا الحكم باسم الله يحكمون، وباسمه

يتكلمون.

(4)

حتى إنهم لينزلون أنفسهم من الله في منزلة الوزراء. (قال) ومن

الحكومات الثيوقراطية: حكومة القضاة في اليهود، والخلافة في الإسلام، والممالك

والإمبراطوريات الغربية التي كان يعتقد أصحابها أنهم يستمدون قوتهم من الله. ثم عد

الحكم الديمقراطي خير الأحكام وأصحها وعلل ذلك بقوله: لأنه يستمد قوته وسلطانه

من الأمة، وهي وحدها صاحبة الحق في الحكم. اهـ.

(5)

وقال (ص 186) : وكما أنه لا سبيل إلى وضع شرع دفعة واحدة.

فكذلك لا سبيل إلى أن يختم عليه بعد وضعه فيقال: هذا هو الشرع الذي يصلح

لكل جيل في كل زمن.

(6)

وفي (ص 72) : وعلى رجال العلم ألا يتقيدوا في ما يذهبون إليه

بشيء من عوامل الدين والسياسة، بل بما توحيه إليهم معارفهم وبما توصلهم إليه

مساعيهم.

***

تمهيد للجواب

أقول: لسنا نحاول في كلامنا هذا هدم القواعد الثابتة القطعية من علم الاجتماع

بالنصوص الدينية فإن في ذلك ما يحمل الاجتماعيين على التمسك بقواعدهم

والبراءة مما خالفها وفيما أورده (الموجز) عن حجة الإسلام الغزالي عبرة وعظة،

ولا نلغي إيضاحكم النصوص بهذه القرارات الاجتماعية التي تخالفها في الظاهر

(لا في الواقع على ما سيأتي) لأن هذا يشعر بأن النصوص لا تمشى مع العلم، ولا

تبقى مع الزمن، وينتج عن ذلك نفور المتدينين من اقتباس العلوم والفنون، وإيثار

الجهل عليها، لا بل تدعوهم حميتهم لمحاربتها باسم الدين دفاعًا عنه، وتأييدًا له!!

والحق أن القواعد السماوية الصحيحة، كالقضايا العقلية والطبيعية الصريحة، لم

تبن إلا على أمتن الأسس، وأرسخ القواعد، ولم تجئ إلا لتقرير الحقائق وتثبيتها،

وكيف يمكن أن يكون بينها تناقض، والذي أنزل الوحي، وخلق العقل، وأوجد

الطبيعة هو واحد جلت حكمته؟ إذاً فما على رجال الدين والدنيا الغيورين إلا أن

يعنوا بالتوفيق بينهما، عليهم ألا يطرحوا أحدهما في سبيل الآخر، فإن هذا أبقى

لدينهم ودنياهم، وأحفظ لمصالح البشر من الضياع والحرمان، وأدعى أن يستفيد

ألوف المتدينين من كتب العلوم والفنون النافعة.

وها أنا ذا أسعى في الجمع والتوفيق بين ما اختلف ظاهره من نصوص الكتاب

ومسائل الاجتماع؛ خدمة للأمرين معًا، وترغيبًا للمسلمين في الإقبال على هذا العلم

النافع (أي الاجتماع) الذي يوقظ شعورهم ويستفز هممهم، للمحافظة على الإرث

الموجود، واسترداد المفقود بالطرق القانونية والسنن الكونية، التي سطت بها

الأمم القوية على الأمم المستضعفة، وجردتها مما يبعث فيها روح الحياة الحرة.

إن مَن يعتمد النظرة الأولى في حكمه يحسب أن ما أوردناه عن الموجز

كنموذج لمخالفة الاجتماع لظاهر الشرع، مخالفًا له في الواقع ونفس الأمر، ولكن

الذي يمعن النظر يرى لذلك أسبابًا إذا روعيت بإنصاف، حل الوفاق محل الخلاف.

(الأول) أن الحق المعطى للمرأة في الإسلام مبني على الطريقة الاجتماعية

المُثلى، والسنة الطبيعية العادلة كما سيأتي.

(الثاني) عدم المنافاة بين حكمين وإثبات أن لهما جهة واحدة، وإن ظن

بادي الرأي اختلافهما كما سترى.

(الثالث) بيان المراد يدفع الإيراد، ويثبت الحكم على الوجه الصحيح.

***

أجوبة الأسئلة المتقدمة

الأول بحث المرأة:

إن الإسلام قد راعى طبيعة المرأة ووظيفتها في الحياة، ولم يدعها إلى عمل

الرجل الذي جعل كافلاً لها. وقد أوردنا عن الموجز في ذلك ما فيه مقنع. أما قوله

فكل حق للرجال في حرمة أو مال، ينبغي أن يكون للمرأة مثله، ولا عليها ولا

عليه أن يزيد حقها في هذه الأمور على حقه، فيجاب عنه من وجهين:

(1)

أن هذا مبني على الغلو في المساواة بين الرجل والمرأة في عامة

الشؤون والحقوق [2] وقد نقلنا عن (الموجز) نفسه رد هذا القول، لما ينبني عليه

من فساد نظام الأسر، وأن مصالح الحياة الخارجية يجب أن تكون بيد الرجل وحده،

إذاً فتسويتها به في المال - مع أنه هو المكلف أن يكون قوامًا عليها وعلى ولده

بمقتضى عمله الطبيعي - يعد ظلمًا بينًا، ينشأ عنه خلل اجتماعي، وهو وقوع

الثروة في يد أقل النوعين حاجة إليها.

(2)

أن الإسلام وإن جعل للذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين، فإن المرأة

في هذه القسمة هي الراجحة الرابحة، لأن الرجل هو المكلف بالإنفاق طبعًا وشرعًا

كما قدمنا، فلو أخذ ميراثه ألفين مثلاً، وأخذت هي ألفًا، عاد لها من نصيبه ألف

بطريق النفقة العادلة، واحتفظت هي بنصيبها لنفسها، فكان لها بالنتيجة ألفان وكان

له ألف واحد، فأصبح للمرأة مثل حظ الذكرين، فأي حيف بعد هذا وقع على المرأة،

وأي ربح أصابه الرجل في هذا الاقتسام، وهل هُضمت المرأة حقها في شرعة

الإسلام؟

نعم، هناك أمور استثنائية تضطرها إلى العمل الخارجي أو الاكتساب كأن

تكون أيّمًا ولها صغار لا مال لهم ولا كافل ممن تلزمهم نفقتهم من آل الرجل، فالإسلام

قد أباح لها ما للرجل من موارد الكسب، وجعل نصيبها منها مساويًا لنصيبه -

وجملة القول أن المرأة في الإسلام لا تشكو ظلمًا ولا هضمًا، وهي جارية فيه

على مقتضى النواميس الكونية كما قدمنا.

***

الثاني والثالث الحقوق والعقوبات:

إن تقسيم العقوبة إلى أدوار انتقام وقصاص وإصلاح، والحق إلى شخصي،

وإلهي، وعام، هو تقسيم تاريخي، وأمور اعتبارية، لا حقائق ثابتة متغايرة، فإنه

لا منافاة بين كون العقوبة حقًّا شخصيًّا وإلهيًّا وعامًّا، وإنما يختلف التعبير باختلاف

الاعتبار، فالحق شخصي من جهة قرابة صاحب الحق وذويه، وإلهي من حيث إن

الله تعالى هو الذي قسَّم الحقوق على قاعدة العدل والإحسان، وشرع القصاص رحمة

بالعباد وذريعة لحسم مادة الفساد، وحق عام من حيث وحدة الأمة وتضامنها وأن ما

شرع في مصلحتها، فهي المكلفة بتنفيذ الحكم بواسطة حكومتها.

والانتقام قد يُراد به التأديب، والقصاص تكون غايته الحياة الطيبة والإصلاح،

فلو أن أمة (كالأمة العثمانية مثلاً) كان لها حريتها واستقلالها وسعة ملكها،

وعظمة سلطانها ثم خالفت في سيرها سنن الاجتماع، وأدارت رحى ملكها على

غير قطب الشورى والاشتراع، وراحت تسوس الرعية بما يملي عليها الهوى

والظلم، ثم طال عليها الأمد، فهبت فيها أعاصير الفتن، وذاق بعضها بأس بعض

فسطت عليها أمم قوية فسلبتها حريتها واستقلالها، وجعلت ممالكها بينها نهبًا مقسمًا،

قلنا: لو أن أمة أصيبت بمثل ذلك فاتعظت بما أصابها، وهبت تجاهد في سبيل حقها

المغصوب، وإعزاز شأن وطنها المحبوب، إذاً لصح أن يقال: إن ما أصابها كان

انتقامًا من ذنوبها، وقصاصًا أو جزاءً على عملها، وتعذيبها كان موقظًا لشعور

أفرادها، وسببًا لصلاحها ورشادها، وداعيًا إلى تضامنها واتحادها، والانتقام من

الأمم التي تطغى بإذاقتها العذاب بآية كونية أو بأيدي أمة أو أمم عاتية قوية هو

سنة من سنن الله تعالى في الوجود، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، والشواهد على ذلك

من تاريخ الأمم القديمة والحديثة كثيرة.

وما يقال في الأمم يقال في الأفراد، فإن القتل والقطع والجلد يراد منها صلاح

الفرد والمحافظة على المجموع، وكم من نقمة أورثت نعمة، وإن تعجب فعجب أن

يُرى في حد القاتل والزاني والسارق سُبَّة وعار على المجتمع، وأن لا يرى

الخطب أوجع، والخزي على المجتمع أشد، بما تصنعه هذه الأمم المادية - دعية

قوانين العدل والإصلاح!! - من قتل الشعوب الآمنة في عقر دارها وسلبها كل ما

تملك، وإفسادها نظام الأسر والبيوت، بل المجتمع كله.

والعجب كل العجب ممن يكبر أمر المسبب، ويغفل عن السبب، أو ينكر

القصاص العادل ولا يعظم الذنب.

الفظاعة ليست في قصاص البريء الذي يتعلق به الحق الشخصي والحق

الإلهي والحق العام، ولكنه في الجريمة التي أفضت إلى القصاص الذي أخذ المجرم

بذنبه، وكان فيه حياة الباقي، وإذعان القرابتين للحكم، وإزالة الوغر والضغن

وكف الأذى والعدوان.

وهل كانت دولة (الخلافة العثمانية) مصيبة في إبطالها أحكام الشريعة،

والاستعاضة عنها بتلك القوانين التأديبية، التي لم تكن إلا باعثًا على زيادة الإجرام

وارتكاب الآثام والفساد العام، الذي عمَّ المحكومين ومنفذي الأحكام؟ ألم تكن تلك

الكلمة الخاطئة: (اضرب واجرح لا تخف، هي حبسة وزوج أكتاف) هي المثل

السائر على ألسنة مجرمي العوام؟ المشجع على ارتكاب الجرائم في تلك الأيام؟

وهب أن في سجون الغرب من ضروب التربية والإصلاح ما يجعل الشقي سعيدًا،

فهل كانت سجون الشرق يوم اختيرت لها قوانين الغرب مستوفية وسائل التهذيب؟

وكيف عنينا بالغايات قبل التماس الوسائل؟ ثم ألا تختلف الأحكام باختلاف الأقوام؟

وهل اتحدت عقلية الشرق والغرب ونفسيتهما فتكون ذرائع الإصلاح فيهما واحدة؟

فقول (الموجز) : رأوا أن القود على إطلاقه وجرح الجارح وقطع السارق

كان لها أيام وانفضت. أقول (فيه) إنها ما انقضت ولن تنقضي، ولا تزال الأمة

التي تعمل بها كنجد واليمن أسعد حظًّا وأهنأ عيشًا وأقل جرائم من غيرها، وسعادتهم

في بلادهم تنبني على أصلين (الأول) التربية الدينية التي هي أقرب

مهذب للنفس وزاجر عن الشر (والثاني) اعتقاد أن كلاً مأخوذ بذنبه، وأن كل من

يقوم على ما تحدثه به نفسه من قتل أو جرح ينفذ فيه مثله في الحال.

ونحن نسأل الله تعالى أن يحمي الجزيرة العربية من آفات المدنية الحديثة،

ونفثات سمومها القاتلة، وأعظمها فتكًا في الأفراد والأمم، وتقويضًا لدعائم الاجتماع

والعمران، وهو ما أباحته قوانينها المهذبة (!) العادلة (!!) من الميسر والربا

والزنا والخمور، وإن شئت قلت: سلب الأموال، وإهلاك المساكين والعمال،

وتضييع الأنساب، وإفساد العقول.

وإليك ما قاله الأستاذ النكدي في محاضرته (القضاء في الإسلام) التي طبعها

من بعد رسالة مستقلة قال (ص 99 ج1 محاضرات المجمع) :

(جاء هذا القضاء بكثير من الأصول والأحكام التي يزعم أكثرنا أنها كانت

مجهولة لولا القوانين الحديثة) وكتبت تحت عنوان (الادّعاء العام) ما نصه:

(فوض القانون إلى المدّعى العام أن يتتبع الجرائم فيقيم الدعوى على فاعلها

وأن يدافع عن الحق العام، ويخاصم كل من يعبث به (إلى أن قال: وهذه الخطة

لم يغفل الشرع أمرها. وقد سماها الأصوليون (حقوق الله) وعرفوها بأنها ما تعلق

نفعه بالعامة، ويجب على ولي الأمر إقامتها مثل جزاء السارق، وقاطع الطريق

واللص وغيرهم من أهل الفسق والفجور) ثم نقل عن كتاب السياسة الإلهية لشيخ

الإسلام ابن تيمية ما يؤيد ذلك.

وقال ص 103 منه: (إدغام العقاب) :

لما ارتقت الهيئة الاجتماعية ورقت [3] قوانينها فكان [4] من وراء ذلك أن

جعلت العقاب إصلاحًا وتأديبًا، لا انتقامًا وتعذيبًا، وجاءت المادة (299) من

أصول المحاكمة الجزائية تقول في شقها الثاني: إذا ارتكب المتهم عدة جنايات

وجنحات معًا فتحكم [5] بالجزاء المعين للأشد عقوبة، ومثل ذلك ما قاله أبو يوسف

في كتاب الخراج به) .

وإن لم يكن القاذف ضرب للأول حتى قذف آخر فإنه يضرب لهما جميعًا

حدًّا.

(له بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

نقلنا هذا البحث عما كتبه (موريس بلوك) في معجم (السياسة والاجتماع) وهو قد اعتمد أيضًا في قسم مما كتبه على بول بواتوا) .

(2)

المنار: بل فيه خروج من المساواة إلى تفضيل المرأة كما صرح به في قوله: ولا عليها ولا عليه إلخ.

(3)

المنار: الصواب رقيت لأن رقي من باب علم، وورد رقا الطائر يرقو.

(4)

الصواب كان.

(5)

الصواب يحكم - بالبناء للمفعول.

ص: 295

الكاتب: محمد العدوي

‌الألفة والاتحاد أساس مجد الإسلام

] وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [[*]

أصيب المسلمون بالخلاف زمنًا طويلاً، فذاقوا الأمرّين من جراء تفرقهم،

وحرموا ما كان لهم من حول وما حصلوا عليه من عز ومنعة مُنوا بالتفرق أحقابًا

من الدهر فضاع مجدهم، واضمحلت قواهم وتمكن الأجنبي من الفتك بهم

والاستيلاء على بلادهم، فاسترق أموالهم، وضرب الرق عليهم، شأن القوي إذا

استولى على ضعيف والمغلوب إذا ظفر به الغالب. ولو أن ذلك الأجنبي وقف عند

ذلك الحد لهان الخطب وسهل المصاب، ولكنه صار حربًا عوانًا على دينهم،

وعقبة كؤدًا في سبيل رقيهم في معارفهم، فعطل شعائرهم، وحال بينهم وبين إقامة

حدودهم.

نعم، أباح لهم ما لا ينفعهم إذا هم أقاموه، ولا يضره إذا حافظوا عليه، ليرى

بسطاء العقول أنه لا يتعرض لأحد في أمور دينه، بل يترك الأمم حرة في تقاليدها

الدينية وعاداتها الشرعية، أباح لهم من المواسم ما أحدثه الفاطميون باسم الدين

في أيام سلطانهم ليقيموا من الحفلات في ليال من السنة ما شاء الله أن يقيموا،

ويحيوا من الموالد للمشهورين بالصلاح ما طوعت لهم أنفسهم، ليقنع صغار العقول

من إقامة الدين بهذه المظاهر وهي ليست من الدين في نقير ولا قطمير، بل هي

المعاول التي تقوض بها أركانه، ويهدم بها بنيانه، فتذهب بالفضيلة بعد ذهابها

بالثروة، وتقضي على التوحيد الخالص بعد قضائها على العفة والكرامة.

ترى في هذه الحفلات أحاديث ينسبها القصاصون لرسول الله صلى الله عليه

وسلم وهي عليه مكذوبة، وتشريع لا يتفق ومكانة هذا الدين، ولا يتناسب مع

عظمة هذه الملة المحمدية، مما بَغَّضَ الراغبين في الدين من الدخول فيه، وبغَّضَ

المنتسبين إليه من المقام عليه.

تجد في الموالد قرابين لغير الله تذبح، واستغاثات لغير الله من الصالحين

ترفع، وفوق ذلك تجد بكاء عند القبور وعويلاً وشكايات لا تكون إلا لله وحده،

وتضرعات لا تنبغي إلا لمن بيده ملكوت كل شيء، وبعد هذا وذاك تجد ملحمة

يشترك فيها الشبان والنساء في أماكن اللهو وبيوت الدعارة والفسوق مما يجرئ

الشبان على محاربة الله تعالى ويحول بينهم وبين الفضيلة، ويذهب بالبقية الباقية

من طهارة الخلق وشرف النفس.

ولو أنك حاولت أن تقيم حدًّا من حدود الله لتطهير البلاد من رجس الفسق

وعبث الفساد، لرُميت بالوحشية والهمجية، وأنك غير صالح؛ لأن تعيش في هذا

العصر الذي تمدنت فيه الأمم، ورقيت فيه الشعوب، وأقمتَ عليك حربًا عوانًا،

وأول من يشعل عليك نار هذه الحرب من تسمم من شبان المسلمين بمدنية الغرب

الكاذبة وتشبع بروحهم الخبيثة.

ذلك ما يتمشدق به الأجنبي والمعني به المستعمر من إطلاق سراح المسلمين

في أمور دينهم، وشعائر ملتهم. وذلك ما جره على المسلمين تفرقهم وغفلتهم

وأوقعهم فيه نزاعهم وتدابرهم، وقد فطن المسلمون لآثار ذلك التفرق وأحسوا عاقبة

النزاع وشؤم الانحلال ففطنوا لذلك بعد أن تفاقم الأمر، وتوالت المصائب فأخذوا

يتعرفون حكمة الله في شريعته وما تنطوي عليه تعاليمه، عرفوا أن الله تعالى ما

شرع لهم الجُمع والجماعات إلا لتكون مدعاة للوحدة وذريعة لاجتماع الكلمة،

ليأخذ قويهم بيد ضعيفهم، ويتصل أميرهم بمأمورهم. ولم يرد أن يقف تعارف

المسلمين عند ذلك الحد، بل أراد أن يتعرف شماليهم بجنوبيهم وغربيهم بشرقيهم

وعربيهم بعجميهم فشرع لهم الحج الأكبر ليجتمع فيه المسلمون على اختلاف لغاتهم

وتباين نزعاتهم ومشاربهم فيفكروا في الطرق التي تعيد إليهم مجدهم وتحيي لهم

شريعتهم وتعود عليهم بالخير في دينهم ودنياهم.

ولقد كان أول مظهر من مظاهر هذا الإحساس ذلك المؤتمر الإسلامي الذي

دعا إلى عقده بمكة المكرمة المصلح الكبير ملك الحجاز عبد العزيز آل سعود

لينظر فيما يتطلبه الحجاز من إصلاح وما يحتاج إليه من مساعدة.

وقد وفق الله شعوب المسلمين لإجابة دعوته فأرسلوا من الوفود من يمثلهم،

ونظر المؤتمر في أمور (مهمة) وله قرارات ذات شأن خطير، ونرجو أن يكون

فاتحة خير للحجاج خاصة ولشعوب المسلمين عامة، كما نرجو أن يوفق المفكرون

منهم لإزالة ذلك الخلاف الطفيف الذي رأيناه في عامنا هذا حتى يتحدوا في عقائدهم

ونزعاتهم، وبذلك تتفق كلمتهم وتتألف قلوبهم ويكونون أعوانًا على الخير، أنصارًا

للإصلاح.

...

...

...

...

محمد العدوي

_________

(*)(الأنفال: 46) .

ص: 307

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجماعة الإسلامية في برلين

ونداؤها العام وبلاغاتها

كنا سمعنا أن بعض المسلمين المقيمين في برلين قد أسسوا جمعية بهذا الاسم

رئيسها والداعي إليها الأستاذ محمد عبد الجبار الهندي، وسمعنا أن غرض هذه

الجمعية الدفاع عن الإسلام ونشر تعاليمه وآدابه في العالم الأوروبي، وقد كتب إلينا

بعض المسلمين المقيمين في برلين كتابًا يطعن فيه بهذه الجمعية طعنًا شديدًا ويحذرنا

من وفد لها أرسلته إلى الحجاز وغيره من البلاد الإسلامية لبثّ دعوتها ثم قيل لنا: إن

هذا الكاتب كان من أعضاء الجمعية وخرج أو أُخرج منها لخلاف شجر بينه وبين

بعض مؤسسيها.

ثم لم نلبث أن تلقينا في البريد صحائف منها مبدوءة بنداء عام منها موجه إلى

جميع المسلمين شرحت فيه مبدأها وغايتها ووجه الحاجة إليها. يليه (حفلة مأتم)

في إنكار العدوان على المسلمين في الشام وريف مراكش، وقد عقدت الجماعة لذلك

احتفالاً حضره زهاء أربعمائة نسمة وألقيت فيه الخطب وختم بالدعوة إلى الجهاد في

سبيل الله للنجاة من حكم الشيطان! ! - يليه خطاب عنوانه (صيحة الجهاد - الله

أكبر) وموضوعه يعلم من عنوانه. يليه بلاغان نذكرهما بنصهما، ثم تعلق على

الموضوع كله بما نراه من النصيحة لهذه الجماعة وللأمة الإسلامية كافة.

***

البلاغ الأول

حزب الله

عقد الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

إن المؤمنين من جماعة المسلمين التي تزيد على ثلاثمائة مليون مسلم

يتعاقدون على ما يأتي ويقسمون أن لا يسكنوا قبل أن تتحقق نقاط هذا العقد، فهم

يطلبون واثقين من حقهم الثابت:

أولاً: استقلال جماعة المسلمين التام بتحرير جميع البلاد التي كلها أو

أكثريتها مسلمون من النفوذ الأجنبي.

ثانيًا: تشكيل حكومات إسلامية في عموم البلاد الإسلامية.

ثالثًا: جمع كافة تلك الحكومات الإسلامية ضمن وحدة إسلامية بإمامة الخليفة

المنتخب شرعًا.

ويجب الوصول إلى الغاية المعينة في عقد الإسلام المتقدم، ولكيلا تسقط

الخلافة في الهوة التي سقطت فيها من قبل عصورًا عديدة فسببت سقوط المسلمين

وتشتيت جماعتهم:

أولاً: أن تتحد كافة جمعيات الاستقلال لإسلامية ضمن حزب الله (العامة

الإسلامية الخضراء) الذي يوحد مساعي تلك الجمعيات المنفردة إلى حركة عامة

مشتركة.

ثانيًا: ريثما تتمكن جماعة المسلمين المحررة المتحدة من انتخاب خليفة

لرسول الله انتخابًا شرعيًّا يتولى إمارة حزب الله باسم ممهد الخلافة رجل ينتخب في

مؤتمر إسلامي عام ويدعو المسلمين إلى إقامة الخلافة الحقة.

...

...

...

...

... حزب الله

(طبع هذا النداء بالألمانية ووزع في حفلة المأتم الكبرى التي أقامتها الجماعة

الإسلامية في برلين في 14 - 9 - 1296- 1925 لشهداء بلاد الشام والمغرب

الأقصى) .

***

البلاغ الثاني

حزب الله

بلاغ اليوم

المولد

بمناسبة المولد النبوي والحفلة التي أقامتها الجماعة الإسلامية في برلين

في 12 ربيع الأول سنة 1344 - 1296

إن حزب الله يناديكم أيها المسلمون بذكرى يوم 12 ربيع الأول سنة 1344هـ

(أشهر القبلة سنة 1296 من فتح مكة) ذلك اليوم المقدس الذي عمت الرحمة

فيه العالم بمولد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعوكم أن تبذلوا جهدكم

لتعميم هذه الرحمة مرة ثانية في العالم أجمع؛ لأن الله تعالى يقول:] وَجَاهِدُوا فِي

اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [1 {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ

هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ

عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ

النَّصِيرُ} (الحج: 78) .

ويجب على كل مسلم لتنفيذ أمر الله هذا أن ينضم إلى جماعة المسلمين المحلية،

ويدفع زكاته إلى بيت المال فيها بانتظام لتتمكن من القيام بأمور المسلمين كما يجب.

ويجب على جماعات المسلمين المحلية أن تتحد إلى أقضية وولايات وأقطار

ويجب على جماعات الأقطار أخيرًا الانضمام إلى جماعة المسلمين المركزية

العالمية ليتم بناء الخلافة الحقة وتعم رحمة الله العالم وتعيش الأمة وترقى بسلام.

إن من لا يتبع هذا البلاغ لا يخلص لله ولرسوله

أيها الإخوان اعقلوا وأدوا ما عليكم كما أمر الله

اللهم إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم

***

نصيحة المنار

إنه ليحزننا أن يخيب في هذه الجماعة أملنا الذي أملناه عندما سمعنا خبر

تأسيسها بما ثبت لنا من هذا النداء والبلاغات من غرورها وتغريرها بالمسلمين

لأجل جمع المال الكثير لتنفيذ هذه الدعوى الخادعة دعوى إعلان الجهاد المقدس

على الدول المستعمرة لبلاد المسلمين في الشرق والغرب، وتحرير هذه البلاد،

وإقامة خلافة النبوة على وجهها الشرعي وحكم الإسلام كما أنزله الله تعالى.

أهذا العمل العظيم، تقوم به جمعية في برلين، تؤلف من شذاذ المسلمين؟ ما

هذا الغرور والتغرير؟

أمثل هذا العمل العظيم - ولا مثل له في عظمته - يكون جهريًّا ويعلن في

أوربا ثم في بلاد المشرق قبل أن تعد له عدته من تسليح الشعوب الإسلامية التي

يدعوها محمد عبد الجبار الهندي لقتال بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا وهولندا

في وقت واحد (؟ ؟)

قد سبق لي الاجتماع بالأخوين الهنديين محمد عبد الجبار مؤسس هذه الجمعية

في برلين وأخيه عبد الستار في بيروت سنة 1326هـ الموافق لسنة 1908م

وجرى بيني وبين الأول مذاكرات في الإسلام والمسلمين كانت باعثًا لإعجابي

باستقلال فكره وكبر همته وبعد آماله، ولاستغراب شذوذه في بعض المسائل

الدينية وفهم بعض آيات القرآن، وللتفكر في عاقبة هذا الشذوذ، وما يلازمه من

طموح وغرور، وهو ما نرى عاقبته في هذه الجمعية.

عبد الجبار الهندي الخطيب الجدل الطماح الجريء، يؤلف جمعية في برلين

من وسط أوربا لإقامة دين الإسلام، كما أنزله الله أو كما يفهمه هو بتحرير جميع

بلاد المسلمين المستعمرة! ! وبتأليف حكومات إسلامية مستقلة في جميع البلاد

الإسلامية ثم جمع هذه الحكومات وتوحيدها بإعادة منصب الخلافة العظمى سيرتها

الأولى، ويطالب مسلمي الأرض بأن يرسلوا إليه زكاة أموالهم المفروضة عليهم

لتمكن جمعيته بها من القيام بما انتدبت له من العمل العظيم.

ولكن إرسال المسلمين زكاة أموالهم إلى بلاد بعيدة غير إسلامية وإعطاءها

لجمعية سياسية فيها مخالف لنص القرآن، وما أجمع عليه المسلمون من أحكام

الزكاة، فكيف تتوسل جمعية الأستاذ عبد الجبار الهندي إلى إقامة الإسلام بهدم

أركان الإسلام؟

قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ

وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (التوبة: 60) الآية، فمصارف الصدقات الشرعية هي

الثمانية المنصوصة في الآية الكريمة، والأصل فيما كان منها للفقراء والمساكين أن

تؤخذ من أغنياء كل بلد فتصرف إلى فقرائه كما نص في حديث معاذ في

الصحيحين وغيره، وقد خرج بعض الأئمة بعدم جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر،

وقيده بعضهم بمسافة القصر.

وما كان في سبيل الله وسائر المصارف العامة، فالأمر فيه إلى الإمام الأعظم

خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم فبأي حق شرعي تطالب جمعية برلين

المسلمين بأن يرسلوا إليها زكاة أموالهم؟

وكيف فات الأستاذ وأركان جمعيته أن طلب الأموال الكثيرة لعمل مجهول

متعذر على مدعيه مظِنة للظِّنة، ومجلبة للتهمة؟ ولو كان من التبرع الذي يجوز

لصاحبه أن يضعه حيث شاء ما لم يكن في معصية فكيف يطلب الملايين بوجه

مخالف للشرع؟

إنه ليحزننا أن نرى هؤلاء الذين يدعون الدعاوى الكبيرة في سبيل الإصلاح

الإسلامي لا يتقيدون بشرع ولا عقل كأنهم يعتمدون في نجاح أعمالهم على العوام

الذين تستهوي أفئدتهم الدعاوى العريضة والمبالغات بل الإغراق والغلو الذي يسخر

منه العقلاء، كدعوى غلام أحمد القادياني الهندي أنه هو المسيح الذي ينتظره

السواد الأعظم من اليهود والنصارى والمسلمين وأنه يوحى إليه، وادعاء خلفائه أن

الوحي متسلسل فيهم، والنبوة موروثة عندهم، كادعاء بهاء الله البابي الفارسي

للألوهية، وادعاء عبد الجبار الهندي الآن أنه سيقيم الخلافة الإسلامية وأنه سيقاتل

الدول الاستعمارية الكبرى، ويخرجهم من أرض سوريا والعراق ومصر وتونس

والجزائر ومراكش وجاوه والهند والصين، ولا يتصور ذو عقل ورشد دخول

هذه الدعوى في قدرة هذه الجمعية البرلينية، أو أية جمعية سياسية، وإنما الذي

يتبادر إلى الذهن أن غرض الجمعية جمع المال وابتغاء الثروة الواسعة.

فإن كنا مخطئين في رأينا هذا وكان لزعماء هذه الجمعية برنامج معقول،

وخطة ممكنة الحصول، فليبينوها لنا، وإننا قبل ذلك ننصح لهم بالكف عن مطالبة

المسلمين بإرسال زكاة أموالهم إليهم وننصح للمسلمين بأن لا يرسلوا إليهم شيئًا من

الزكاة المفروضة ونعلمهم بأن الفريضة لا تسقط بإرسالها إلى هذه الجمعية.

_________

(1)

في البلاغ اصطفاكم وهو غلط.

ص: 309

الكاتب: محمد رشيد رضا

استدراك

على شروط عمر رضي الله عنه على أهل الذمة

نشرت إدارة المنار في الجزء الثالث الذي قبل هذا الجزء ما كتبه شيخ

الإسلام ابن تيمية في مسألة شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه

على أهل الذمة في الشام، وكنت في إبان طبع هذا الجزء في مكة، ولم تكن هذه

الشروط مما أريد نشره في المنار من آثار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وإنما

أتحرى نشر رسائله وفتاواه التي يحتاج إليها المسلمون في هذا العصر للاهتداء بها،

والعمل بما يحققه من أحكام الشرع في النوازل والأحوال الواقعة التي جاء فيها بما

لم يأت به غيره من الشرح والدلائل، وليست مسألة معاملة أهل الذمة في أثناء

الفتح والسياسة الحربية منها في شيء لأننا لسنا فاتحين، وإنما يفتح خصومنا بلادنا،

ويعاملوننا بالظلم والقسوة اللذين لم يكن عمر رضي الله عنه ليرضى بمثلهما،

وناهيك بما هو واقع في سوريا الآن من التخريب والتدمير، وتقتيل غير المقاتلين

من النساء والأطفال والشيوخ.

وقد استغربت من هذه الآثار عن شيخ الإسلام قوله: وأما ما يرويه بعض

العامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من آذى ذميًّا فقد آذاني) فهذا كذب

على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروه أحد من أهل العلم.

استغربت هذا لأن الحديث مروي بلفظ قريب من هذا اللفظ وهو ما أخرجه

الخطيب البغدادي من حديث ابن مسعود مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:

(من آذى ذميًّا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة) وقد أورده

السيوطي في الجامع الصغير وأشار إلى حسنه، ولولا ميل شيخ الإسلام إلى التشديد

على المخالفين في أصل الدين أو في المذاهب المخالفة لما كان عليه السلف الصالح

لما اقتصر على إنكار الحديث باللفظ الذي ذكر، وسكت عن اللفظ الآخر المروي

بمعناه، على أنه يجوز أن يكون قد نسيه عندما كتب هذه المسألة وهو أقرب من

عدم اطلاعه عليه.

وأما إنكاره إطلاق تحريم الإيذاء، بأن منه ما يكون بحق كالقصاص فهو يرد

على مثله في حديث (من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله) رواه

الطبراني في الأوسط من حديث أنس. والجواب عنهما وعن أمثالهما تقييد الإيذاء

بما علم من ضرورات الشرع وهو كونه بغير حق.

هذا وإن بعض العلماء لا يعدون عمل عمر في مثل هذا رضي الله عنه حجة

شرعية كما هو الأصل في عمل الصحابي، ولا يوجبون اتباعه، وبعض ما روي

عنه من تلك الأعمال مروي بأسانيد ضعيفة. قال الشوكاني في بحث ما ضربه من

العشور على أهل الكتاب وغيرهم:

وفعل عمر وإن لم يكن حجة لكنه قد عمل الناس به قاطبة فهو إجماع

سكوتي، ويمكن أن يقال: لا يسلم الإجماع على ذلك والأصل تحريم أموال أهل الذمة

حتى يقوم دليل والحديث محتمل. والمراد حديث العشور على أهل الكتاب.

ومما ضعفوه من تلك الروايات ما أخرجه البيهقي من طريق حزام بن معاوية

قال كتب إلينا عمر: أدبوا الخيل ولا يرفع بين ظهرانيكم الصليب، ولا تجاوركم

الخنازير، ومثله ما رواه البيهقي عن ابن عباس: كل مصرٍ مَصَّرَه المسلمون لا

تُبنى فيه بيعة، ولا كنيسة، ولا يضرب فيه ناقوس، ولا يباع فيه لحم خنزير.

وفي إسناده حنش وهو ضعيف.

وجملة القول: إن سياسة عمر العسكرية والمالية والإدارية كانت سياسة فتح

عسكري وعدل ديني، واجتهاد مبني على أساس المصلحة العامة، وهي تختلف

باختلاف الأزمنة والأحوال، وليست من أمور العبادات التي يوقف فيها عند

نصوص الشارع بقدر الاستطاعة، ولا يجب على ولاة الأمور التقيد بها في كل

زمان، بل يتبع في كل عصر وفي كل حال ما فيه المصلحة مع مراعاة النصوص

القطعية العامة من وجوب الوفاء بعهود المعاهدين، ما وفوا بعهودهم معنا، وتحريم

الظلم، والخيانة والغدر، ونحو ذلك من فضائل السياسة الإسلامية التي تجردت

منها السياسة الأوروبية المبنية على الغدر، والإفك، والخيانة، واستحلال جميع

الرذائل في سبيل المنافع السياسية والاستعمارية.

_________

ص: 314

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استدراك آخر

على إهداء العبادات أو ثوابها إلى الموتى

تقدم في حديث أمين بك الرافعي مع الشيخ عبد الله بن بليهد رئيس القضاة

بمكة المكرمة قول هذا: أن النجديين يعتقدون أن جميع العبادات التي تُهدى إلى

الموتى تصل إليهم يعني ثوابها. وهذه المسألة خلافيَّة بين علماء الحنابلة وغيرهم

من فقهاء المذاهب وأهل الحديث المستقلين، ووصول الثواب أو العمل أو انتفاع

الإنسان بعمل غيره خلاف نص قوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وخلاف القياس المعقول، وقد يخصص بما ورد في السنة من استثناء

دعاء الولد لوالديه أو حجه وصومه عنه، بل يصح أن يقال: إن هذا الأخير ليس

استثناء لما ورد من أن الولد من كسب أبيه أي وأمه، وقد فصلنا هذه المسألة

تفصيلاً واسعًا في تفسير قوله تعالى {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ

وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) من آخر سورة الأنعام، وقد نعود إلى نقل أقوال

الفقهاء فيها عند الحاجة.

_________

ص: 316

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الحديثة

(سبل السلام)

من الكتب القيمة التي أخرجتها المطابع في هذا العام كتاب (سبل السلام،

شرح بلوغ المرام، من جمع أدلة الأحكام) فقد قام بطبعه جماعة من العلماء الذين

يهمهم نشر السنة وأعنُوا بتصحيحه جد العناية، وأحسن ما نصف به الكتاب ذلك

التعريف الذي وضعه له في صدر الجزء الأول مصححه صديقنا الشيخ محمد عبد

العزيز الخولي المدرس بقسم التخصص في مدرسة القضاء الشرعي فنثبت هنا

مجمل ما قال في ذلك التعريف وهو:

(بلوغ المرام)

كتاب جمع فيه الحافظ ابن حجر كل الأحاديث التي استنبط الفقهاء منها

الأحكام الفقهية مبينًّا عقب كل منها من خرجه من أئمة الحديث كالبخاري ومسلم

موضحًا درجة الحديث مرتبًا له على أبواب الفقه، وضم إلى ذلك في آخر الكتاب

قسمًا مهمًا في الآداب والأخلاق والذكر والدعاء:

فجاء محمد بن إسمعيل الأمير اليمني الصنعاني وشرح ذلك الكتاب وذكر ما

يدل عليه الحديث من الأحكام الفقهية، ومن قال بها من كبار المجتهدين صحابة

وتابعين وأئمة المذاهب (رضوان الله عليهم أجمعين) ومن خالفها مبينًا نوع

المخالفة ودليلها ثم يقضي بينهم بالحق الذي يؤيده الكتاب والسنة غير متحيز إلى

مذهب من المذاهب عملاً بقوله تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا

شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:

65) وقوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ

الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} (الأحزاب:

36) فمقتضى الإيمان أن نحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خلاف

بين المسلمين وخاصة الفقهاء المشرعين الذين يرسون لنا أحكام العبادات

والمعاملات، ولا يكفي مجرد التحكيم بل لابد معه من الإذعان النفسي وتنفيذ الحكم

كما أمر العليم الحكيم الذي صرح في الآية الثانية بأن من قدم حكم غيره على حكمه

وحكم رسوله فقد عصى الله ورسوله وضل ضلالاً مبينًا، وكان واجبًا على علماء

المسلمين وأولي المكانة فيهم في العالم الإسلامي كله وخصوصًا مصر التي هي

قطب رحى البلاد الإسلامية والتي فيها الأزهر كعبة الرواد للعلوم الإسلامية - كان

الواجب عليهم أن يعرضوا آراء الفقهاء على كتاب الله وسنة رسوله، فما كان قريباً

منهما أو يوافق صريحهما أخذ، وما كان بخلاف ذلك ترك، وليس في ذلك غمط

للمذاهب - جزى الله أهلها خير الجزاء- ولكن في ذلك إحقاق الحق وترك التقدم

بين يدي الله ورسوله امتثالاً لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ

وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات: 1) إنهم إن فعلوا ذلك

وحدوا بين المسلمين في العبادات فكان مظهرهم فيها واحداً، ووحدوا بينهم في

المعاملات فاستطاع المشرعون أن يضعوا القوانين المدنية والجنائية من هذه

الشريعة الحكيمة الصادرة عن علم الله المحيط بأمراض النفوس والمحاكمات وما

تُداوى به.

الدين الآن ليس له وجود إلا بين المشتغلين به فلا هو في النفوس ولا هو في

المحاكم، اللهم إلا بقايا يلتهمها الزمان شيئًا فشيئًا - فجدير بالعلماء أن يفكروا طويل

التفكير في السبيل الذي يصلون منه إلى إحلال الدين في القلوب والعمل به في

محاكم المسلمين. وإن هذا الكتاب - سبل السلام - الذي محص صحيح الآراء من

سقيمها ووزنها بميزان الكتاب والسنة خطوة في هذا السبيل نتقدم به إلى كل مسلم غيور على دينه محب أن تكون له الكلمة.

والكتاب لم يخل من عثرات لكنها قليلة ولكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة،

والعصمة لله وحدة، ومع ذلك لم تفتنا هذه العثرات بل نبهنا عليها وبينا صريح

الحق فيها فجاء الكتاب بحمد الله فيما نعتقد من خيرة كتب الأحكام التي ينبغي

العكوف على تعلمها وتعرف ما فيها.

الكتب المؤلفة في أحاديث الأحكام وشرحها كثيرة وكتابنا هذا وسط فيها خيار

منها، فإنه يقصد المحز ويطبق المفصل فيأتي بالسمين دون الغث، ويعرض عن

ذكر الخلافات التي لا ترتكز على دليل، ويقتصد في بيان الطعون التي في الأسانيد

فجاء من أجل هذا كتابًا وسطًا في أربع مجلدات.

ولقد عانينا في تصحيحه مشقات كبيرة، فإن النسخة التي طبعنا منها فيها خطأ

كثير اضطرنا إلى الرجوع إلى الأصول التي منها استمد الكتاب وأصله. وكنا

نراجع الأصل أيضًا على كتاب (فتح العلام) الذي طبع في المطبعة الأميرية

والذي هو نسخة ثانية من سبل السلام سميت باسم جديد - ولم تخل من التحريف

والخطأ كأصلها سبل السلام - وأن من حسنات مدرسة القضاء الشرعي أن قررت

دراسة هذا الكتاب في أحاديث الأحكام لطلبة التخصيص فيها فكانت تلك حسنة في

الدين إلى حسناتها في خدمة القضاء.

وفي الختام ندعو المفكرين من المسلمين إلى أن يقوموا بواجبهم نحو الدين {قَدْ

جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ

وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة:

15-

16) .

والكتاب أربعة أجزاء صفحات الأول 290 والثاني 304 والثالث 368

والرابع 312 عدا فهارسه الواسعة التي حوت كل مسألة في الكتاب وترجمة مؤلف

المتن ومؤلف الشرح - والكتاب مطبوع على ورق أبيض ناعم ولكنه أصناف ثلاثة

عادي وجيد وممتاز وثمن الصنف الأول 50 قرشاً والثاني 60 والثالث 100 عدا

أجرة البريد - ويباع في مكتبة المنار ويطلب من مصححه الشيخ محمد عبد العزيز

الخولي المدرس بمدرسة القضاء الشرعي.

***

(تجريد التوحيد المفيد)

رسالة مفيدة من تصنيفات الشيخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي المتوفى

سنة 854هـ بَيَّن فيها حقيقة التوحيد ولبابه والتفريق بينه وبين قشرة - وهو

نوعان: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وشرك الأمم بنوعيه، ومسألة

القبور والنهي عن اتخاذها مساجد، وزيارتها الشركية والشرعية وعدم جواز

الخضوع والتأله لغير الله، والاستعانة، وقد طبعها الشيخ محمد منير الدمشقي في

مطبعة الشرق على ورق جيد سنة 1343هـ، وذيلها بكلام للمحقق ابن القيم في

حلق الشعر وكونه يكون عبادة ويكون شركًا ويكون عادة، وصفحاتها كلها 48

صفحة.

فنحن نحث المسلمين على قراءتها ونشرها، فإن الألوف الكثيرة منهم لا

يعرفون حقيقة التوحيد ولا يفرقون بينه وبين الشرك بل يطعنون في الموحدين

ويسمونهم وهابية! !

***

(مجموعة النشاشيبي)

أهدي إلينا الكتاب من هذه المجموعة النفيسة عقب طبعه سنة 1341هـ،

فرأيناه ثم ضل عنا حتى اهتدينا إليه بعد البحث عنه، ولم نر ما بعده.

النشاشيبي صاحب المجموعة، هو أديب فلسطيني بل أديب العصر (إسعاف

النشاشيبي) وهذا الكتاب مما اختاره من الكلام العربي البليغ ليستظهر النشء في

المدارس (وغيرها) فيكون خير مادة له في إحكام ملكة الفصاحة والبلاغة العربية،

وفيه 21 آية من كلام الله عز وجل في كتابه القرآن المعجز للبشر هي من قواعد

الاجتماع، وسنن الله في سيرة نوع الإنسان، و 30 حديثًا نبويًّا في الأخلاق

والآداب، و 96 مثلاً من أمثال العرب، و 124 حكمة من حكمهم و 122

مقطوعة من مختار الشعر.

وقد أحسنت إدارة المعارف الفلسطينية بنشرها هذه المجموعة في مدارسها

لتستظهر منها الصفوف العالية والثانوية ما يليق بكل منها. وقد طبع الكتاب الأول

الذي وصفناه في المطبعة السلفية طبعًا جيدًا مضبوطًا أكثر الكلام فيه بالشكل فنحث

جميع طلاب الآداب العربية الكلامية والنفسية على استظهار جميع هذا الكتاب أو

أكثره، ونقيم بمثله الحجة على ملاحدة المتفرنجين بمصر الذين يهدمون بدعاية

التجديد آداب أمتهم ولغتها، كما يهدمون تشريعها ودينها ليكونوا كإباحيي الفرنج

وإنْ فقدوا بذلك كل ما يفخر به الإفرنج من آداب لغاتهم وتشريعهم ودينهم! !

***

(الأدب العصري في العراق)

كتاب تاريخي أدبي انتقادي، يحتوي تراجم أدباء العراق ورسومهم ونخبة من

آثارهم بين منثور ومنظوم.

مؤلف الكتاب (رفائيل بطي) وناشره (نعمان الأعظمي) صاحب المكتبة

العربية ببغداد، وكلاهما من أدبائها، وقد طبع الجزء الأول منه في المطبعة

السلفية بمصر سنة 1341 هـ ثم لم نر ما بعده، وفي قسم المنظوم، وهذا الكلام

على شعر سبعة من أشهر شعرائهم المعاصرين مع تراجم ستة منهم وهم جميل

صدقي الزهاوي، وخيري الهنداوي، ورضا الشبيبي، وعبد المحسن الكاظمي،

وكاظم الدجيلي، ومعروف الرصافي، وأجلت ترجمة سابعهم (حبيب العبيدي)

إلى قسم المنثور، وقد بلغت صفحات هذا الجزء 222 فنحث طلاب الأدب العصري

على اقتنائه.

_________

ص: 316

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

حكم صلاة مكشوف الرأس

س1 - من صاحب الإمضاء في بيروت (تأخر سهوًا)

حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة مفتي الأنام السيد

محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.

هل تجوز صلاة الرجل المسلم وهو حاسر الرأس، أي مكشوفة بلا حرمة ولا

كراهة ولو لغير ضرورة ولا عذر مطلقًا أم لا؟ تفضلوا بالجواب.

...

...

...

...

السائل

...

...

...

... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي

ج - نعم تجوز صلاة حاسر الرأس إذا كان رجلاً؛ لأنه لا يشترط في صحة

الصلاة من اللباس إلا ما يستر العورة، والرأس عورة من المرأة دون الرجل. ولكن

يستحب أن يكون المصلي في أكمل اللباس اللائق به، ومنه غطاء الرأس بعمامة، أو

قلنسوة، أو كمة (طاقية أو عرقية) ونحو ذلك مما اعتاد لبسه كالطربوش،

فكشف الرأس لغير عذر مكروه، ولا سيما في صلاة الفريضة، ولا سيما مع

الجماعة، فإذا نوى به التشبه بغير المسلمين كان حرامًا؛ لأنه تشبه في متعلقات أمر

ديني. وأما التشبه بهم في الأمور الدينية المحضة الخاصة بهم كأن يفعل فعلاً يعدّه

به من يراه منهم، فقد صرّح الفقهاء بأنه ارتداد عن الإسلام.

***

ملك سليمان ودعاؤه بطلبه وتسخير الريح له

س2: من صاحب الإمضاء في بورتسعيد؟

بسم الله الرحمن الرحيم

بورتسعيد في 30 رجب سنة 1344هـ و 13 فبراير 1926

حضرة صاحب الفضل والفضيلة الأستاذ المحقق الشيخ محمد رشيد رضا

حفظه الله آمين.

سلامي عليكم وتحية مباركة زكية وبعد، سيدي: لقد بدا لي توجيه سؤالي

الآتي إلى جنابكم بعد أن عجز الكثيرون عن الإجابة عنه، وإني أرجو وأؤمل أن

يكون الجواب تفصيليًّا.

إن سليمان نبي الله عليه السلام قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَاّ

يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (ص: 35) .. . إلخ. ما جاء بالآيات

الكريمات فما هو المراد بالملك في الآية؟ وما هو المراد بقوله: لأحد؟ هل المراد

بأحد أحد الأنبياء أم الكلام عام؟ وإذا كانت الدعوة قد أجيبت فما هو الملك الذي كان

له؟ وهل المراد به فتح البلاد من مطلع الشمس إلى مغربها؟ وإذا كان كذلك فما

هي الأدلة التاريخية التي تؤيده؟ وما الذي حمله على أن يطلب هذا الطلب مع أن

المتبادر إلى الذهن أن الأنبياء يحبون الزهد في الدنيا؟ وإن كان الجمع بين الملك

والنبوة جائزًا. وهل سخّرت له الرياح معجزة أو كان يسبح في الهواء كما يسبح

الناس اليوم؟ وإنما لكل زمن استعداده فيكون هو أول من امتطى ظهر الرياح، وما

هي القوى التي أعطيت له حتى استطاع تسخير الشياطين والجن بلا رؤيتها؟ وما

هو المراد بقوله تعالى {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34) ؟ وما هو

الفرق بين سليمان بن داود نبي الله وبين ذي القرنين المذكور في القرآن الكريم؟

أرجو الإفادة عن ذلك فقد تعبنا شديداً فلم نجد من يدلنا على الحقيقة سواكم، وأنا

منتظر الرد بفارغ الصبر، ولكم مني يا مولاي مزيد الشكر، ومن الله تعالى جزيل

الأجر، وتفضلوا يا سيدي بقبول وافر التحيات والتسليمات.

...

...

...

...

... خادمكم

...

...

...

... محمود محمد النهري

ج - لا نستطيع الآن أن نجيب جوابًا تفصيليًّا عن هذه الأسئلة؛ لأن هذا

يقتضي تأليف رسالة أو كتاب نحن إلى غيره أحوج. وأقول بالإجمال: إن الذي ورد

في تفسير فتون سليمان عليه السلام في الكتب الصحيحة أنه حلف ليطوفن ليلة على

أربعين امرأة من نسائه، وفي رواية سبعين امرأة تأتي كل واحدة بغلام يقاتل في سبيل

الله ولم يقل إن شاء الله، وقد ذكره (ملك) بأن يقول فلم يقل، فحملت امرأة

واحدة من أولئك النساء ووضعت غلامًا مشوهًا هو نصف غلام فألقى على كرسيه

ليعتبر بعجزه، فاعتبر وتاب وأناب إلى ربه، وطلب منه أن يغفر له، ويهب له ملكًا

لا ينبغي لأحد من بعده. وكلمة أحد هنا نكرة في سياق النفي تفيد العموم. وطلب

عظمة الملك ليس منكرًا؛ لأن سليمان عليه السلام لا يريد به إلا ما يقوم به

الحق وحكم الشرع الإلهي والإصلاح بين الناس، فاستجاب الله تعالى

له بما بينه بقوله {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} (ص: 36) إلى آخر الآيات. ولم

يرد في الأحاديث الصحيحة بيان لتسخير الريح وجريانها بأمره حيث أصاب، وإنما

ورد في التاريخ أنه كان له أسطول في البحر الأبيض المتوسط وأسطول في بحر الهند

يستعملهما في تجارته الواسعة وجلب الذهب والفضة وغيرهما مما استعمله في بناء

هيكل العبادة لله تعالى، فيحتمل أن يكون معنى تسخيرها له أنها كانت تكون عاصفة

في غير الوقت الذي يسير فيه أسطوله، ثم تكون رخاء في الوقت الذي

يسير فيه، وذلك من آيات له الخاصة به عليه السلام.

ويحتمل أن الله سخرها له في أمور خاصة به لم يطلع عليها الناس مما هو

من آيات الأنبياء عليهم السلام غير المقرونة بالتحدي؛ ولذلك لم تذكر في قصة من

سفر الملوك ولا في غيره من تواريخهم في الروايات الإسرائيلية المنقولة عن مثل

كعب الأحبار ووهب بن منبه غرائب وعجائب فيما أوتيه سليمان ألصقت بالقرآن

وصدقها الكثيرون، وتناقلوها من غير عزوها كلها إليهما وإلى أمثالهما. وأما تسخير

الشياطين، فقد ورد في حديث أبي هريرة المرفوع عند الشيخين وغيرهما أن النبي

صلى الله عليه وسلم تراءى له شيطان يريد الوسوسة له فأمكنه الله تعالى منه، وأنه

لولا دعوة سليمان لأمسكه وربطه بسارية المسجد - أي في حال تشكله الجسدي -

ليلعب به صبيان المدينة فهذا الحديث يردّ تأويل من تأوَّل تسخير الشياطين له

بشياطين الأنس وهم عتاتهم الذين كان يستخدمهم في قطع الحجارة الكبيرة ونحت

التماثيل وغير ذلك للمباني العظيمة التي بناها، وأعظمها الهيكل المشهور، على أن

في القرآن تصريحًا بذكر الجن في موضوع الشياطين. والإسرائيليات في هذا

كثيرة أيضًا. ولم يفتح سليمان الشرق والغرب، بل كان ملكه ممتدًا من حدود نهر

الفرات إلى تخوم مصر.

وأما ذو القرنين فهو رجل ضربه الله تعالى مثلاً لما هو مُبَيَن في قصته من

سورة الكهف فسخر له أسباب السياحة في مشرق شمس الأرض ومغربها من

العمران الذي كان في عصره. ومن الأعمال العظيمة الفنية كالسد، فتسخير تلك

الأسباب المجهولة عندنا لذي القرنين يشبه تسخير الريح والشياطين لسليمان،

وتسخير الجبال والطير لوالده ترجع صوته حين كان يسبح الله تعالى بتلاوة الزبور

بصوته الشجي الندي، وإلانة الحديد له ينسج منه الدروع، ولكن أعمال ذي

القرنين كلها كانت بالأسباب المعروفة وإن أُوتى منها ما لم يؤت غيره، وما أُوتي

داود وسليمان كان كله أو بعضه من الآيات الإلهية التي لا تنال بالكسب.

ومن الناس من يظن أن كل تسخير من هذا القبيل يجب أن يكون من الخوارق

التي يغير الله تعالى بها سننه في الخلق وليس كذلك. فهو سبحانه وتعالى يَمنُّ على

عباده بتسخير منافع الكون الطبيعية والصناعية لهم كقوله في سورة إبراهيم عليه

السلام {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ

الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (إبراهيم: 32-33) ولهذا أمثال.

هذا وإننا ننصح لأخينا السائل ولكل من يطلع على جوابنا هذا بأن يقفوا في

مثل هذه الآيات المنزلة فيما أعطاه الله من المواهب لسليمان عليه السلام عند نصها

ولا يتقيدوا بشيء مما في كتب التفسير عن الصحابة والتابعين فمن دونهم في

تفسيرها وإن صح سندها، ما لم تكن مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن

جل الروايات في بني إسرائيل وأنبيائهم وفي خلق السموات والأرض مأخوذة عن

رواة الإسرائيليات وكان من أمثلهم عندهم كعب الأحبار ووهب بن منبه، ونحن نوقن

بكذب أكثر ما روي عنهما من ذلك وإذا قلنا فيه كله لا نكون مغالين. وقد قال الإمام

أحمد ولا يغرن أحدًا قول المخرجين للتفسير المأثور: عن ابن عباس - رضي الله

عنه - وعن مجاهد وقتادة وفلان وفلان. وعدم ذكر مثل كعب ووهب وغيرهما

في السند، فإن هؤلاء كثيرًا ما كانوا يقولون ما يسمعونه منهما من غير ذكر السماع

منهما إذا لم يكونوا يذكرونه على سبيل الرواية، بل على أنه معنى للآية.

روى عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أربع آيات

من كتاب الله لم أدر ما هي حتى سألت عنهن كعب الأحبار، وذكر منها قوم تبع

وجواب كعب المخترع له ولا محل لذكره هنا - قال: وسألته عن قوله {وَأَلْقَيْنَا

عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34) قال: الشيطان أخذ خاتم سليمان الذي فيه

ملكه فقذف به في البحر فوقع في بطن سمكة، فانطلق سليمان إذ تصدق عليه بتلك

السمكة فاشتواها فأكلها، فإذا فيها خاتمة فرجع إليه ملكه. وهذا الجواب من أكاذيب

كعب التي كان يغش بها الصحابة والتابعين لاغترارهم بعبادته وكلامه المنمق الذي

يرويه عن التوراة وغيرها من كتب بني إسرائيل، ويفسر بها آيات القرآن في

أخبارهم وفي أصل الخليقة. فهو كأمثاله التي لا تحصى لا أصل له في شيء من

تلك الكتب، وهو مخالف لنص حديث الصحيحين الذي أشرنا إليه في تفسير {وَلَقَدْ

فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} (ص: 34) ولكن ابن عباس أخذه بالتسليم إذ لم يكن قد بلغه

الحديث المرفوع فيما يظهر، وأنا لا آمن أن يكون بعض أحاديث أبي هريرة

المرفوعة الغريبة المتون التي لم يصرح فيها بالسماع مما رواه عن كعب الأحبار

فقد صرحوا أنه روى عنه.

وقد قال الزركشي في التفسير المرفوع: إنه الطراز المعلم (ولكن يجب الحذر

من الضعيف) والموضوع فإنه كثير.

ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاثة كتب لا أصل لها: المغازي والملاحم والتفسير.

قال المحققون من أصحابه: مراده أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحيحة متصلة..

الخ، أقوال وقد غلط من جعل أقوال الصحابة في هذا الباب من قبيل المرفوع بعلة

أنه لا يُعرف بالرأي، وفاتهم أنه من رواية الإسرائيليات، فلا يعد كأحكام الدين

والحلال والحرام.

ثم أقول إن الروايات المتعددة عن سليمان أن ملكه كان بسر في خاتمه وأن

الشيطان أخذ خاتمه فصار يتصرف في الإنس والجن والطير كما كان

يتصرف سليمان، حتى كان يأتي نساءه (!) إلخ، خرافة فيها مفاسد كثيرة، وأنها

وأمثالها معارضة بل منقوضة ومردودة ومضروب بها وجوه مختلقيها وأقفيتهم بقوله

تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} (ص: 36) إلخ، فالله تعالى يخبرنا أنه استجاب

دعاء فسخر له الريح والشياطين، ولو كان ملكه الذي لا ينبغي لأحد من بعده منوطًا

بسر في خاتمه يمكن أن تسخر للشياطين إذا هم حملوا ذلك الخاتم لم يكن خصوصية

لسليمان نفسه جزاء إنابته واستجابة لدعائه كما صرح به القرآن، وهل هذا إلا مما

كانت تتلوه الشياطين على ملك سليمان وتعزوه إليه من مخلتقات السحر، ولو أنه من

الخرافات والكفر، {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} (البقرة: 102)

وروجوا كفرهم وفتنوا به بعض المؤمنين بِعَزْوِه إلى سليمان وخاتمه السري، ذي

الطلاسم السحري، ولا يزال شياطين الإنس وسحرتهم على هذا إلى اليوم! !

هذا ما نراه في الجواب الإجمالي، وإذا أحيانا الله تعالى ومنَّ علينا بالوصول

إلى تفسير قصة سليمان عليه السلام من سورة النمل، فإننا نحرر هذا المقام بالتفصيل

وليس لدينا من الوقت الآن ما يسمح لنا بالمراجعة ولا بالتفكر فيه، حتى إننا ذكرنا

الحديثين المرفوعين بمعناهما ولم نراجع نص لفظهما.

***

شركة التأمين وصندوق التوفير في البريد

س3 - من صاحب الإمضاء في أسوان

أسوان في 5 - 8 - 1926

أستاذي الأكبر الشيخ محمد رشيد رضا

... دام

بعد ما يلزم لسموّ مقامكم من جليل التحية الدينية نلتمس أن تتكرموا بتحقيق

مطلبنا الآتي:

قد علمنا أن حضرة الأستاذ الحكيم، والفاضل الأكبر الإمام الشيخ محمد

عبده تغمده الله برحمته وواسع رضوانه، أفتى بحل وجواز العقد الذي يحصل مع

بنك السيكورتا من جانب المسلمين، وأنه لو هلك مال المسلم في دار الإسلام بأي

سبب من أسباب الهلاك، يحل له ليأخذ من البنك ما تعهد به من المال في مقابل ما

يدفعه المسلم في كل سنة مما يتم الاتفاق عليه. كما يحل له أيضًا وضع أمواله

بصندوق توفير البوستة وتشغيله. وقد اشتهر أن فضيلة الأستاذ الإمام رحمه الله قد

أفتى بجواز ذلك كله، وبما أن فضيلتكم موضع أسرار وحكم حضرة الأستاذ الإمام،

فلنا وطيد الأمل أن تتفضلوا بإجابة طلبنا هذا بأسرع ما يمكن، خصوصًا وأن الأستاذ

الشيخ محمد بخيت قد أجاب من أفتاه من المقيمين بولاية الأناضول بحرمة ذلك

وأفاض في هذا الحكم. وبما أن الأستاذ الإمام لا يقول حكمًا متعلقًا بأصول الشريعة

أو بمبادئ النظر الصحيح إلا إذا كان مبنيًا على قواطع الأدلة ومتانة البرهان

الصحيح الذي تطمئن إليه النفس، ويرضى به العقل فلا جرم أنه يجب على كل من

له ذرة من العقل الصحيح ألا يتمسك إلا بقوله، وتفضلوا ختامًا بقبول فائق

احترامي.

...

...

...

كاتبه

...

... تلميذكم/ عبد الله حسن محمد الحاج حسن

...

من طلبة العلم بأسوان: وعضو المجلس الحسبي بالمركز

ج - أما عقد الضمان الذي أشرتم إليه إشارة غير صريحة فليس فيه ذكر لبنك

السيكورتاه، وإننا نعيد نص السؤال الذي رفع إلى الأستاذ الإمام ونص جوابه عنه

نقلاً عن ص 928 و 929 من مجلد المنار السادس - وقد كانت شركة التأمين على

الحياة طبعتهما لتحتج بالفتوى على كون عملها مشروعًا فلينظر، وهذا نصهما:

حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية:

ما قولكم، دام فضلكم في شخص يريد أن يتعاقد مع جماعة [1] على أن يدفع لهم

مالاً من ماله الخاص على أقساط معينة؛ ليعملوا فيه بالتجارة واشترط معهم أنه إذا قام

بما ذكر وانتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا في ذلك

المال وكان حيًا فيأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصم من الأرباح، وإذا مات في

أثناء تلك المدة فيكون لورثته أو لمن له حق الولاية في ماله أن يأخذوا المبلغ تعلق

مورثهم مع الأرباح فهل مثل هذا التعاقد الذي يكون مفيدًا لأربابه بما ينتجه لهم من

الربح جائز شرعًا؟ نرجوكم التكرم بالإفادة، أفندم:

الجواب:

الحمد لله وحده.

لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصفة

المذكورة كان ذلك جائزًا شرعًا، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط والعمل في

المال وحصول الربح أن يأخذ لو كان حيًّا ما يكون له من المال مع ما خصه من

الربح وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته أو من له ولاية التصرف في ماله

بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال مع ما أنتجه من الربح والله أعلم.. اهـ.

وقد كان بعض المتفقهة في تونس استشكَلَ الفتوى من حيث محاولة تلك

الشركة احتجاجها بها، فرد عليه أحد علماء جامع الزيتونة الأعلام بمقال نفيس نشرناه

في المجلد السابع (ص 384 - 388 منه) ومهما يكن الحكم في أصل العقد الذي

يتعاقده المسلم مع الأجانب فلورثته أن يأخذوا ما تعطيهم إياه الشركة من المال الذي

أخذته من مورثهم ومن ربحه أيضًا؛ لأن أخذ أموال الأجانب التابعين لغير دار

الإسلام وغير الملتزمين لأحكامه جائز إذا كان برضاهم لا بخيانة ولا بسرقة، وأما

شركة التأمين على البضائع التجارية فقد أفتينا بجواز عملها نحن وغيرنا كما يرى

في المنار (ص 588 م 8) .

وأما صندوق التوفير في إدارة البريد المصري فقد أقر نظامه لجنة من علماء

المذاهب في الأزهر وكتبوا بذلك كتابة؛ عرضتها الحكومة في ذلك الوقت على

مفتي الديار المصرية الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى فأفتى به وجرى العمل به، وقد

بينَّا ذلك بالتفصيل في ص 28 من مجلد المنار السابع.

_________

(1)

نشرت شركة الجريشام في مصر هذه الفتوى في كراس طبعته في بيان موضوعها وأعمالها وزادت في السؤال هنا، أي: عند ذكر لفظ جماعة (شركة الجريشام مثلاً) ووضعت الزيادة هكذا بين قوسين للإشارة أنها لم تكن في الصورة التي قدمت للمفتي وأجاب عنها.

ص: 339

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان وغير ذلك

لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

قال شيخنا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه:

الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،

من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده

لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(أما بعد) فهذه قاعدة في الأحكام التي تختلف بالسفر والإقامة مثل قصر

الصلاة والفطر في شهر رمضان ونحو ذلك، وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي

وأحمد وغيرهم جعلوها نوعين؛ نوعًا يختص بالسفر الطويل وهو القصْر والفطر،

ونوعًا يقع في الطويل والقصير كالتيمم والصلاة على الراحلة، وأكل الميتة هو من

هذا القسم، وأما المسح على الخفين، والجمع بين الصلاتين فمن الأول، وفي ذلك

نزاع.

والكلام في مقامين (أحدهما) الفرق بين السفر الطويل والقصير فقال:

***

المقام الأول

(الفرق بين السفر الطويل والقصير)

هذا الفرق لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسول الله (صلى الله عليه

وسلم) بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها به مطلقًا كقوله تعالى في آية الطهارة:

{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ} (النساء: 43) .

وقوله تعالى في آية الصيام {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ

أُخَرَ} (البقرة: 184) . وقوله تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ

جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101)

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر

الصلاة) [1]

وقول عائشة: فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة

الحضر. وقول عمر: صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر

ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم. وقوله صلى الله

عليه وسلم: (يمسح المقيم يومًا وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن) وقول صفوان بن

عسال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفرًا أو مسافرين أن لا ننزع

خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط أو بول أو نوم [2] . وقول

النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان

يعمل وهو صحيح مقيم) [3] وقوله صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب

يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليتعجل الرجوع

إلى أهله) [4]

فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر

طويل وسفر قصير، فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقًا لا

أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي ذكر من

تعليق الشارع الحكم بمسمى الاسم المطلق وتفريق بعض الناس بين نوع ونوع من

غير دلالة شرعية له نظائر:

(منها) أن الشارع علق الطهارة بمسمى الماء في قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً

فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (النساء: 43) . ولم يفرق بين ماء وماء، ولم يجعل الماء

نوعين طاهرًا وطهورًا.

(ومنها) أن الشارع علق المسح بمسمى الخف ولم يفرق بين خف وخف

فيدخل في ذلك المفتوق والمخروق وغيرهما من غير تحديد، ولم يشترط أيضًا أن

يثبت بنفسه (ومن ذلك) أنه أثبت الرجعة في مسمى الطلاق بعد الدخول، ولم يقسم

طلاق المدخول بها إلى طلاق بائن ورجعي.

(ومن ذلك) أنه أثبت الطلقة الثالثة بعد طلقتين و (افتداء) .

والافتداء: الفرقةُ بعوض، وجعلها موجبة للبينونة بغير طلاق يحسب من

الثلاث.

وهذا الحكم معلق بهذا المسمى لم يفرق بين لفظ ولفظ (ومن ذلك) أنه علق

الكفارة بمسمى أيمان المسلمين في قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (المائدة: 89) وقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: 2) ولم يفرق

بين يمين ويمين من أيمان المسلمين، فجعل أيمان المسلمين المنعقدة تنقسم إلى

مكفرة وغير مكفرة مخالف لذلك (ومن ذلك) أنه علق التحريم بمسمى الخمر وبَيَّن

أن الخمر هي المسكر في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر، وكل مسكر

حرام) ولم يفرق بين مسكر ومسكر.

(ومن ذلك) أنه علق الحكم بمسمى الإقامة كما علقه بمسمى السفر، ولم يفرق

بين مقيم ومقيم، فجعل المقيم نوعين نوعًا تجب عليه الجمعة بغيره ولا تنعقد به،

ونوعًا تنعقد به لا أصل له.

بل الواجب أن هذه الأحكام لمّا علقها الشارع بمسمى السفر فهي تتعلق بكل

سفر سواء كان ذلك السفر طويلاً أو قصيرًا، لكن ثَمَّ أمور ليست من خصائص

السفر بل تشرع في السفر والحضر فإن المضطر إلى أكل الميتة لم يخص الله حكمه

بسفر؛ لكن الضرورة أكثر ما تقع به في السفر فهذا لا فرق فيه بين الحضر والسفر

الطويل والقصير فلا يجعل هذا مغلقًا بالسفر.

وأما الجمع بين الصلاتين فهل يجوز في السفر القصير؟ فيه وجهان في

مذهب أحمد أحدهما لا يجوز كمذهب الشافعي قياسًا على القصر، والثاني يجوز كقول

مالك؛ لأن ذلك شرع في الحضر للمرض والمطر فصار كأكل الميتة إنما علته

الحاجة لا السفر وهذا هو الصواب، فإن الجمع بين الصلاتين ليس معلقًا بالسفر

وإنما يجوز للحاجة بخلاف القصر.

وأما الصلاة على الراحلة فقد ثبت في الصحيح بل استفاض عن النبي صلى

الله عليه وسلم أنه كان يصلي على راحلته في السفر أيَّ وجه توجهت به، ويوتر

عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.

وهل يسوغ ذلك في الحضر؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره فإذا جوز في

الحضر ففي القصر أولى، وأما إذا منع في الحضر فالفرق بينه وبين القصر

والفطر يحتاج إلى دليل.

***

المقام الثاني

(حد السفر الذي علق الشارع به الفطر والقصر)

وهذا مما اضطرب الناس فيه، قيل: ثلاثة أيام وقيل: يومين قاصدين؟

وقيل: أقل من ذلك؛ حتى قيل: ميل والذين حددوا ذلك بالمسافة منهم من قال:

ثمانية وأربعون ميلاً، وقيل: ستة وأربعون، وقيل خمسة وأربعون، وقيل

أربعون، وهذه أقوال عن مالك، وقد قال أبو محمد المقدسي: لا أعلم لما ذهب إليه

الأئمة وجهًا.

وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتًا بنص ولا إجماع ولا قياس

وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير، ويجعلون ذلك حدًّا للسفر الطويل

ومنهم من لا يسمي سفرًا إلا ما بلغ هذا الحد، وما دون ذلك لا يسميه سفرًا فالذين

قالوا: ثلاثة أيام احتجوا بقوله (يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن) وقد ثبت عنه

في الصحيحين أنه قال (لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم) وقد

ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (مسيرة يومين) وثبت في الصحيح (مسيرة يوم)

وفي السنن (بريدًا) فدل على أن ذلك كله سفر، وإذنه له في المسح ثلاثة أيام إنما

هو تجويز لمن سافر ذلك وهو لا يقتضي أن ذلك أقل السفر، كما أذن للمقيم أن

يمسح يومًا وليلة وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة، والذين قالوا: يومين اعتمدوا

على قول ابن عمر وابن عباس، والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة حتى ابن

عمر وابن عباس وما روي (يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من

مكة إلى عسفان) إنما هو من قول ابن عباس ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعًا

إلى النبي صلى الله عليه وسلم باطل بلا شك عند أئمة أهل الحديث، وكيف يخاطب

النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة بالتحديد، وإنما أقام بعد الهجرة زمنًا يسيرًا وهو

بالمدينة لا يحد لأهلها حدًّا، كما حده لأهل مكة وما بال التحديد يكون لأهل مكة

دون غيرهم من المسلمين؟

وأيضًا فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض

وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس، ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليدًا

وليس هو مما يقطع به، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر الأرض بمساحة أصلاً

فكيف يقدر الشارع لأمته حدًا لم يجر به له ذكر في كلامه وهو مبعوث إلى جميع

الناس فلا بد أن يكون مقدار السفر معلومًا علمًا عامًّا، وذرع الأرض مما لا يمكن

بل هو إما متعذر وإما متعسر؛ لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح طريق فإنما

يمسحونه على خط مستوٍ أو خطوط منحنية انحناء مضبوطًا، ومعلوم أن المسافرين

قد يعرفون غير تلك الطريق وقد يسلكون غيرها، وقد يكون في المسافة صعود وقد

يطول سفر بعضهم لبطء حركته ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته والسبب

الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض.

والموجود في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في تقدير الأرض

بالأزمنة كقوله في الحوض (طوله شهر وعرضه شهر) وقوله: (بين السماء

والأرض خمسمائة سنة) [5] وفي حديث آخر: (إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون

سنة) فقيل الأول بالسير المعتاد سير الإبل والأقدام والثاني سير البريد فإنه في

العادة يقطع بقدر المعتاد سبع مرات، وكذلك الصحابة يقولون يوم تام ويومان ولهذا

قال من حده بثمانية وأربعين ميلاً مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام لكن

هذا لا دليل عليه.

وإذا كان كذلك فنقول: كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه

إلى العرف، فما كان سفرًا في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم

وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة؛ فإن هذه المسافة بريد وهذا سفر ثبت فيه جواز

القصر والجمع بالسنة، والبريد هو نصف يوم سير الإبل والأقدام وهو ربع مسافة

يومين وليلتين وهو الذي قد يسمى مسافة [6] ، وهو الذي يمكن الذاهب إليها أن

يرجع من يومه، وأما ما دون هذه المسافة إن مسافة القصر محدودة بالمساحة فقد قيل

يقصر في ميل. وروي عن ابن عمر أنه قال: لو سافرت ميلاً لقصرت قال

ابن حزم: لم نجد أحدًا يقصر في أقل من ميل ووجد ابن عمر وغيره يقصرون في

هذا القدر، ولم يحد الشارع في السفر حدًا فقلنا بذلك اتباعًا للسنة مطلقة، ولم نجد

أحدًا يقصر بما دون الميل ولكن هو على أصله وليس هذا إجماعًا، فإذا كان ظاهر

النص يتناول ما دون ذلك لم يضره أن لا يعرف أحداً ذهب إليه كعادته في

أمثاله، وأيضًا فليس في قول ابن عمر أنه لا يقصر في أقل من ذلك، وأيضًا فقد ثبت

عن ابن عمر أنه كان لا يقصر في يوم أو يومين فإما أن تتعارض أقواله أو

تحمل على اختلاف الأحوال، والكلام في مقامين.

(للبحث بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة بسند صحيح.

(2)

رواه الشافعي وأحمد والنسائي والترمذي وابن خزيمة وصححاه وغيرهم وحكى الترمذي عن البخاري أنه حديث حسن وأورده المجد ابن تيمية جد المؤلف في المنتقى بلفظ أمرنا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على ظهر ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة، رواه أحمد وابن خزيمة وقال الخطابي: صحيح الإسناد وحديث عائشة وعمر الموقوفان لهما حكم المرفوع وهما في الصحيح.

(3)

رواه أحمد والبخاري.

(4)

رواه أحمد والشيخان وابن ماجه.

(5)

هذا الحديث لا يصح قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء رواه الترمذي من رواية الحسن عن أبي هريرة، وقال غريب (قال) ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة ورواه أبو الشيخ في العظمة من رواية أبي نصر عن أبي ذر ورجاله ثقات إلا أنه لا يعرف لأبي نصر سماع من أبي ذر انتهى، وأقول: الحسن هو البصري الزاهد الفقيه التابعي المشهور قالوا كان يرسل كثيراً ويدلس فيروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول: حدثنا وخطبنا يعني قومه، وهذا الحديث من مراسليه التي قالوا: إنها كالريح وأبو نصر راوي الحديث الثاني، قال البزار: مخرجه أحسبه حميد بن هلال ولم يسمع من أبي ذر كما، قال البزار: مخرج الحديث عنه وينبغي أن يعتد بمراسليه من يحتج بالمراسيل كالحسن؛ لأن ابن سيرين قال: كان أربعة يصدقون كل من حدثهم ولا يبالون ممن يسمعون الحسن وأبو العالية وحميد بن هلال وداود بن أبي هند ذكر هذا الدارقطني في سننه وسقط من بعض نسخها اسم الأخير كما في تهذيب التهذيب.

(6)

بهامش الأصل: لعله مسافة الغدو ورواحه.

ص: 347

الكاتب: محمد بهجت البيطار

كتاب الموجز في الاجتماع

بحث علمي ديني للأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار

عضو المجمع العلمي بدمشق والمؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة

(2)

(تابع لما نشر في ج4 ص 295)

الرابع

مبحث الخلافة الإسلامية

الحكم في الإسلام أهو ثيوقراطي أو ديمقراطي؟

عد حضرة المؤلف الخلافة في الإسلام من النوع الثيوقراطي، قال: وهو

الحكم الذي يستمد نفوذه وقوّته من الله، والقائمون بهذا الحكم باسم الله يحكمون

وباسمه يتكلمون، حتى إنهم لينزلون أنفسهم من الله في منزله الوزراء. أهـ

أقول: يبدو للإنسان إزاء هذه الكلمة آراء ووجوه:

(1)

أن الحكم في الخلافة الإسلامية لله وحده على قاعدة العدل والمساواة

بين الناس في الحقوق، لا فرق في ذلك بين الصعاليك والملوك، قال تعالى: {إِنَّا

أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ

عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) وقال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ

قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) أي: لا يحملنكم بغض

قوم لكم أو بغضكم لهم على ألا تقيموا سنة العدل فيهم، ثم أمرهم بالعدل الكامل

الشامل للمسلمين وغيرهم على اختلاف طبقاتهم بقوله (اعدلوا) وحذف المعمول

يؤذن بالعموم.

ومن هذا النوع قصة المخزومية التي أوردها المؤلف في كتابه عن

الصحيحين وأنها لما سرقت أهم قريشًا أمرها، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم

معاتبًا أسامة الذي استشفع لها (أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت

محمد سرقت لقطعت يدها) فهذه الخلافة هي المثل الأعلى في حكومات الأرض،

وهي التي جرى عليها الخلفاء الراشدون من بعد، وسأنقل عن الأستاذ المؤلف

تفضيلها على كل حكومة أخرى.

(2)

لا نعرف أحدًا من خلفاء المسلمين الراسخين يدعي لنفسه هذه الرتبة،

(ينزل نفسه منزلة الوزير من الله) ، أو يزعم أنه مؤيد بالعصمة، كما هو شأن

رجال هذا النوع من الحكم، ولا نعرف في الإسلام أقل حق يمتاز به أكبر خليفة

عن أصغر واحد من الرعية، وليس الإمام إلا حافظًا ومنفذًا للأحكام العادلة المأخوذة

أو المستنبطة من النصوص الشرعية العامة تحت مراقبة أولي الأمر، وهم أهل

الحل والعقد والشورى في الإسلام، ويبقى له هذا الأمر، وتجب طاعته فيه،

وإعانته عليه مدة استقامته كما أمر، فإذا أعوج وجب تقويمه بالكلام أو بحد الحسام

يؤيد ذلك قول عمر رضى الله عنه: إن رأيتم فيَّ اعوجاجا فقومومني بألسنتكم، قالوا:

بل نقومك بسيوفنا، فإذا لم يرجع إلى الحق وجب خلعه، ما لم تترتب على ذلك

مفسدة أكبر من مفسدة بقائه.

(3)

الظاهر أن المؤلف يعرض بالحكومة الإسلامية في دور التقهقر

والخذلان أيام تغلغل نفوذ الأعاجم - الذين لم يرسخوا في الإسلام رسوخ أهل

العرب فيه في البلدان الإسلامية باستعمال الملوك إياهم، وفشت أخلاقهم في

المسلمين، فتعطلت أحكام الخلافة، وعادت اسمًا بلا مسمى، ولفظًا بلا معنى،

وطفق المتملقون والمستجدون من الشعراء، يكيلون المدح لمن سموهم خلفاء

المسلمين جُزافًا، وانتهى الأمر باجتياح التتار بلاد المسلمين، والقضاء على

الخلافة الإسلامية العربية.

(4)

فتن كثير من الناس بما صنع الترك الكماليون من القضاء على الدولة

التي كانت تنتحل اسم الخلافة واستبدال حكومة جمهورية لا دينية بها، وظنوا كما

ظن زعماء الترك أن هذه الفعلة الشنعاء هي التي أورثتهم استقلالهم، وأن الإسلام

هو الذي كان عثرة في سبيلهم، وموغرًا لصدور الأوروبيين عليهم، فلما وضعوا

القبعة على رؤوسهم وعملوا بقوانين أهلها زال تعصب الغربيين عنهم، وصاروا

يعاملونهم معاملة أنفسهم؛ لأنهم صاروا أمة متمدنة في نظرهم! !

والجواب من وجوه:

(الأول) : أن رئيس الجمهورية قد صرح بأنهم لم ينالوا استقلالهم إلا بالقوة

الحربية التي استخدموها في الدفاع عن حوزتهم، واسترداد ملكهم.

(الثاني) أن المعروف أنهم انتصروا باسم الدين لا الإلحاد، وهم أثناء

الحرب قد أزالوا المنكرات من بلادهم بأيديهم كالمواخير العامة والحانات وغيرهما.

(الثالث) أن الإفرنج لا يبغضون من الإسلام حروفه، وإنما يبغضون منه

ما يوجبه على أهله من الأخذ بأسباب النصر، والتماس وسائل القوة والعزة والثروة

والسيادة في الأرض {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ،

{وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: 55) . فهذه الوسائل

والمقاصد يحاربها الغرب الطامع المستعبد حيثما وجدت، وتحت أي عنوان استترت

أو ظهرت، سواء أكان إسلامًا أم إلحادًا، صلاحًا أم فسادًا، وهم الآن إذا جاملوا

الكماليين فلقوتهم وبأسهم، لا لكفرهم أو فسقهم.

(الرابع) أن عمل الجمهورية على كونه فعلة شنيعة في الإسلام - مناقض

للقواعد الاجتماعية، مخالف للسنن الكونية، بل هو ضربة قاضية على الحكومة

الديمقراطية، ذلك بأنه ليس مستمدًّا من روح الأمة، بل هو مخالف لعقيدتها وتربية

دهمائها، وقد أوقد عملها في شعبها الآمن المتدين نار الثورة، وأثار عليها حفائظ

الانتقام، وفتح بابًا الدسائس الأجنبية في بلادها، فهي تضعف باقتتالها من حيث

تطلب القوة، وتنقسم على نفسها من حيث تريد الوحدة.

(الخامس) أنها لو أرادت أن تتمتع وتعيش - كشعب أوروبي - بالقوة

والثروة والوحدة والنظام لما رأت في الإسلام ما يعارض ذلك، بل الإسلام قد سبقها

وسبق أوربا بمئات السنين إليه، وجرى ملوكه العدول أيام حضارتهم عليه، ولكنها

أرادت أن تعيش كأشد شعب أوربي إيغالاً في المفاسد، وتفننًا في الرذائل،

كاستباحة الإبضاع والأموال وغيرهما. وهذه من آفات المدنية المادية، ومقطعات

روابط الهيأة الاجتماعية، وهي ما تنزهت عنه مدنية الإسلام، وامتازت به

حضارته الأخلاقية - التي أساسها العدل والفضيلة - على سائر المدنيات التي تبيح

الظلم والرذائل.

(السادس) أن الله تعالى قيض للإسلام حماة ودعاة في الشرق والغرب،

وتجددت دعوته بقوة في جزيرة العرب، وبدأ ينقشع عن محياه ما تكثف عليه من

غيوم البدع والأوهم، وما علق به من شبه الماديين وأعداء الإسلام، فمن مرقوا

منه بفتنة تفرنج أو شبهة إلحاد، عوضنا المولى عنهم بمن هم خير منهم.

***

الحكومة الإسلامية ديموقراطية

وبعد هذا كله أقول: إن الخلافة في الإسلام هي روح الديموقراطية الحرة؛

لأنها تستمد قوانينها من كتاب الله الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من

خلفه تنزيل من حكيم حميد، ومن سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم التي تبين

للناس ما نزل إليهم من ربهم.

ومن مميزات هذه الحكومة الإسلامية على سائر الحكومات النيابية المدنية أن

قوانينها مبنية على النصفة والعدل، (لا ضرر ولا ضرار) بخلاف هذه القوانين

التي تبيح كثيرًا من الضرر بالنفس والعقل والعِرْض والمال.

ومن مميزاتها الرجوع عند تنازع أولي الحل والعقد إلى كتاب الله تعالى وسنة

النبي صلى الله عليه وسلم، وهما الأصلان اللذان تسلم الأمة لحكمها تسليمًا،

والقول في كل قضية لمن كان أصح دليلاً، وأهدى سبيلاً، وأدنى في حكمة إلى

المصلحة العامة، بخلاف المجالس القانونية التي كثيرًا ما تحكم الأكثرية فيها بما

تملي عليها المصلحة الخاصة أو الهوى، وتخالف الحق الصريح مخالفة ظاهرة،

فلا هي معتقدة بصحة حكمها، ولا الأقلية المنصفة مقتنعة بفساد رأيها، ولكنها

تكون مغلوبة للأكثرية.

قال الأستاذ الإمام في كتاب الإسلام والنصرانية: (ولا يجوز لصحيح النظر

أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (كراتيك) أي سلطان إلهي، فإن

ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة بالتشريع، وله

في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة،

بل بمقتضى الإيمان، إلى أن قال:

يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني، أفلا يكون للقاضي أو

المفتي أو شيخ الإسلام؟ وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد

وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع

الإسلامي) .

وقال عالم الإسلام السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر في كتابه

(الخلافة أو الإمامة العظمى) ص 91: (إن صحفنا العربية تصرح في هذا العهد آنًا

بعد آخر بأن أحدث أصول التشريع هو أنه حق للأمة، ويظن هؤلاء الذين يكتبون

هذا، وأكثر من يقرءون كلامهم أن هذا الأصل من وضع الإفرنج، وأن الإسلام لا

تشريع فيه للبشر؛ لأن شريعته مستمدة من القرآن، والأحكام المدنية والسياسية فيه

قليلة محدودة، ومن السنة - والزيادة فيها على ما في القرآن قليلة، ومناسبة

لحال المسلمين في أول الإسلام دون سائر الأزمنة ولا سيما زماننا هذا، وأن

الإجماع والاجتهاد - على استنادهما إلى الكتاب والسنة قد انقطعا، وأقفلت أبوابهما

باعتراف جماهير علماء السنة في جميع الأقطار الإسلامية، وأن هذا هو السبب في

تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدينية واضطرار الحكومتين المدنيتين

الوحيدتين التركية والمصرية إلى استبدال بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة

الإسلامية تقليدًا ثم تشريعًا! !)

ثم بين منشأ هذا الغلط العظيم، وساق أدلة الاشتراع في الإسلام بنحو ثلث

صحائف (ثم قال) :

(فنبين بهذا أن للاشتراع المدني والجنائي والسياسي والعسكري دلائل

كثيرة، منها قواعد الضرورات ونفي الحرج، ومنع الضرر والضرار، فلو لم

ينص في القرآن على أن أمور المؤمنين العامة شورى بينهم، ولو لم يوجب طاعة

أولي الأمر بالتبع لطاعة الله وطاعة الرسول، ولو لم يفرض على الأمة رد هذه

الأمور إليهم ويفوض إليهم أمر استنباط أحكامها، ولو لم يقر النبي - صلى الله

عليه وسلم - معاذًا على الاجتهاد والرأي فيما يعرض عليه من القضايا والأحكام

التي لا نص عليها في كتاب الله ولم تمض فيها سنة من رسوله - لو لم يرد هذا كله

وما في معناه - لكفت الضرورة أصلاً شرعيًّا للاستنباط الذي يسمى في عرف هذا

العصر بالتشريع. وراء هذا وذاك عمل الأمة في صدر الإسلام، وخير القرون،

وكذا ما بعدها من القرون الوسطى التي خرجت فيها الخلافة الكافلة للأمور العامة

عن منهج العلم الاستقلالي فزالا معًا لتلازمهما) اهـ.

ومن أراد تحقيق كون حكومة الخلافة في الإسلام أعدل حكومات الأرض

وأفضلها فعليه بمراجعة كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى الذي أثرنا عنه هذه الكلمة،

وكتاب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) ، لمؤلفه العلامة الجليل السيد محمد

الخضر التونسي، فإنهما من خير ما أخرج للناس في هذا العصر.

***

الخامس

مبحث الدين والعلم

قال صاحب (الموجز) ص 72: وعلى رجال العلم ألا يتقيدوا فيما يذهبون

إليه بشيء من عوامل الدين والسياسة، بل بما توحيه إليهم معارفهم، وبما توصلهم

إليه مساعيهم. أهـ

أقول: لا يخفى أن دين الحق لا يصادم العلم الصحيح، ولا يمنع أهله من

الاستفادة من نتائج قرائحهم، وثمرات معارفهم، بل يدعو إلى الاستزادة من العلم

والتحقيق فيه، ولكنه والعقل الصحيح يأبيان أن تتخذ المذاهب العلمية المتضاربة،

والآراء الكثيرة المتباينة أصولاً صحيحة ثابتة يرجع إليها، ويعتمد عليها،

ويجعل كل ذي مذهب، أو رأي مذهبه، أو رأيه قاعدة يحاول رد ما هو أقوى حجة

منها إليها، ومعلوم أن عوامل السياسة التي تعتمد الكذب لا تستوي مثلاً مع تعاليم

الدين التي توجب الصدق في كل شيء إيجابًا لا هوادة فيه.

وأذكر أني قرأت عن اللورد هدلي الإنكليزي تصريحه بأن سبب إسلامه هو

أنه ظهر له أن الآيات الكونية في القرآن الكريم لا تنبني إلا على أساس صحيح.

قال: وإذا اختلف القرآن مع العلم في شيء فيجب علينا أن نعترف للقرآن

بالصحة وأن معلوماتنا قاصرة بعد، وننتظر الزمن الذي تجيء فيه القضية العلمية

موافقة للتعاليم الإسلامية، وضرب لذلك مثلاً فقال: قضى الناس أجيالاً وهم

يحكمون بدوران الشمس حول الأرض التي زعموا أنها ثابتة، ثم عكسوا القضية

وحكموا بدوران الأرض حول الشمس، وأن هذه هي الثابتة، ثم صح عند العلماء

المتأخرين أن للشمس أيضًا حركة محورية.

قال: والقرآن الكريم الذي كانوا يخطئونه بأحكامهم الباطلة قد صرح بحركة

الأرض، وحركة الشمس المحورية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا. قال تعالى:

{وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) . وقال سبحانه: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ

العَلِيمِ} (يس: 38) . اهـ

على أن علماءنا قد صرحوا بأن النص الديني إذا خالف قاعدة قطعية وتعذر

الجمع بينهما أول النص بما ينطبق على العلم، ويتفق مع العقل [1] .

***

السادس

معنى كون الشرع صالحًا لكل جيل في كل زمن

قال صاحب (الموجز) : وكما أنه لا سبيل إلى وضع شرع دفعة واحدة،

فكذلك لا سبيل إلى أن يختم عليه بعد وضعه فيقال: (هذا هو الشرع الذي يصلح

لكل جيل في كل زمن) .

أقول: المراد يدفع الإيراد، وهنا يحسن بي جدًّا أن أوثر كلمة عن كتاب

(الخلافة) لحجة الإسلام في هذا العصر، منشئ المنار الأغر، وأخرى عن رسالة

(القضاء في الإسلام) لصديقنا الأستاذ الكريم مؤلف (الموجز) وكلتاهما في بيان

المراد من كون الإسلام صالحًا لكل جيل في كل زمن، وهو قول الأمة بالإجماع،

قال في كتاب الخلافة باختصار: (الإسلام هداية روحية، وسياسة اجتماعية مدنية،

فأما الهداية الدينية المحضة فقد جاء بها تامة أصلاً وفرعًا، وفرضًا ونفلاً، وأما

السياسة الاجتماعية المدنية، فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها، وشرع للأمة

الرأي والاجتهاد فيها؛ لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وترتقي بارتقاء

العمران، وفنون العرفان، ومن قواعده فيها أن سلطة الأمة لها، وأمرها شورى

بينها، وأن حكومتها ضرب من الجمهورية، وخليفة الرسول فيها لا يمتاز في

أحكامها على أضعف أفراد الرعية، وإنما هو منفذ لحكم الشرع ورأي الأمة، وأنها

حافظة للدين ومصالح الدنيا، وجامعة بين الفضائل الأدبية والمنافع المادية، وممهدة

لتعميم الأخوة الإنسانية بتوحيد مقومات الأمم الصورية والمعنوية، ولما طرأ

الضعف على المسلمين قصروا في إقامة القواعد وضعف الأصول، ولو أقاموها

لوضعوا في كل عصر ما يليق به من النظم والفروع.

وقال الأستاذ عارف بك في آخر رسالة القضاء والإسلام ما يأتي:

(إن أهل العصر الحاضر يزعمون هذا الشرع غريبًا عن قضايا العقوبات

جملة - دع الأصول الحديثة - بعيدًا عن روح العدل في هذا الباب، على حين رأيتم

ما بينهما من الصلة والعلاقة. ولو أنه أتيح لهذه الشريعة خلف سار على سنة ذلك

السلف، لانفردت عن الأشباه، وتنزهت عن النظائر، وهو إن كان شرعًا إسلاميًّا

فقد كفل العدل والنصفة لكل من نزل على حكمة مسلمًا كان أو غير مسلم.

لهذا وأمثاله لقبت هذه الشريعة بالسمحة، وهذه هي المفاخر الصحيحة التي

يعرفها التاريخ الحق، لا تلك البدع العريقة بالوهم، فإذا استفاق الخلف، واقتفى

سنة السلف، ونبذ القشور، وعاد إلى اللباب، فقد عاد إلى هذا الوطن عصره

الأول، الأغر المحجل.

وأقول: إن أئمة الإصلاح الإسلامي في هذا العصر عاملون على تحقيق هذا

المطلب الخطير، ومريدوهم في كل قطر جارون على طريقتهم فيه، وقد بدت

ثمرة الإصلاح، وظهرت بوارق النجاح، وأقرب طريق وأفضله فيما نرى

للوصول إلى هذه الغاية النبيلة - أي عود العصر الذهبي - عصر السلف الصالح

هو إحياء طريقتهم المثلى التي نالوا بها ما نالوا، وهي أن يكون مؤلفو العلوم

والفنون ومدرسوها منا متشبعين بالروح الإسلامية، متضلعين بالعلوم الشرعية؛

لكيلا يقع في درسهم وبحثهم ما يوقع الانشقاق بين العلم والدين، وتسوء به حالة

المتعلمين وأن يكون لرجال الدين مشاركة في العلوم الكونية لئلا يحسبوا النافع منها

ضارًّا والمؤيد للدين مخالفًا له، فيحاربون العلم باسم الدين، فيسيئون إلى أمتهم

ودينهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

كتبت هذه الكلمة ومكتبتي - مخطوطها ومطبوعها - بعيدة عن عيني، وزند

الأسى والأسف ينقدح في صدري بما أصاب الشام من الكوارث العظمى، لا سيما

كارثة الميدان، التي تشيب لهولها الولدان، ولكن لم يسعني إلا امتثال أمر الأستاذ

العارف، الذي تفضل علي بإهداء مؤلفه الجليل، وأمرني بكتابة كلمة فيه، فجعلت

كلمتي خدمة للعلم والدين، وتوحيدًا لأفكار الناشئين المتعلمين {إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ

الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .

وأرجو العفو عن التقصير فإن الفكر سابح في وادي حالة البلاد، والقلب

معذب بما أصاب العباد، ونسأله سبحانه كشف البلاء، وتحقيق الرجاء بمنّه وكرمه.

وقد فرغت من كتابتها يوم الجمعة 25 شوال سنة 1344هـ.

...

...

...

...

دمشق

...

...

...

...

محمد بهجت البيطار

_________

(1)

المنار: قد بين شيخ الإسلام ابن تيمية بطلان هذه القاعدة ' وأثبت أن القطعي هو الذي يرجح على غير القطعي سواء كان دينيًّا أو عقليًّا وأن القطعيان لا يتعارضان.

ص: 354

الكاتب: مهاتما غاندي

‌الصحة

تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي

ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي

القسم الثاني

الباب الأول

العلاج بالهواء

قد فرغنا الآن من البحث في أساسات الصحة وأصولها وكذلك عن طرق

صيانتها والمحافظة عليها. ولو أن جميع الناس - رجالاً ونساء - يخضعون

لقوانين الصحة ويتمسكون بالتجرد التام، لا تبقى أي حاجة للأبواب الآتية؛ لأنهم

يكونون في مأمن من جميع الأمراض والأوصاب سواء في أجسامهم أو عقولهم.

ولكن أين نجد هؤلاء الناس؟ وأين الذين لا يصابون بالأمراض؟ وعلى كل فإنَّا

كلما نعتني بالتمسك في الأصول التي دونت في هذا الكتاب، فالأغلب أننا نسلم من

الأمراض، ولكن إن أصابنا مرض فيجب أن نعالجه باهتمام، والأبواب الآتية تبين

كيفية العلاج بدون الاستعانة بالطبيب.

إن الهواء النقي كما هو لا بد منه لصيانة الصحة، كذلك لا غنى عنه في

معالجة الأمراض، فالمصاب بالنقرس مثلاً إذا عولج بالبخار الساخن يعرق بكثرة

وتلين أعصابه، وتستريح مفاصله، وهذا القسم من علاج البخار يسمى (الاستحمام

التركي) .

ومن كان يشكو حمى شديدة، فليجرد من ملابسة، ويلقى في الهواء الطلق،

تنزل الحرارة حالاً ويشعر براحة بينِّة، وعندما يحس بالبرد فليلفّ في ثوب فيعرق

حالاً وتزول الحمى سريعًا.

ولكن ما نفعله عادة هو على عكس ذلك تمامًا، حتى إنا نمنع المريض من

البقاء في الهواء الطلق ولو أراد بنفسه، ونغلق عليه جميع أبواب حجرته

ونوافذها ونغطي جميع جسده مع رأسه وأذنيه باللحف والأغطية. فتكون النتيجة أن

المريض يجزع فيزداد ضعفًا عن مقاومة مرضه. ينبغي أن نفهم أنه إن كان سبب

الحمى شدة الحر، فالعلاج بالهواء الذي ذكر آنفًا غير مضر أصلاً، ويشعر

بتأثيره حالاً نعم يجب الاحتراس لئلا تأخذ المريض القشعريرة في الهواء الطلق،

فإن كان لا يستطيع البقاء عاريًا فيجوز تغطيته جيدًا بالدثار.

إن تغيير الهواء علاج مفيد للحمى المزمنة وغيرها من الأمراض، فالعادة

العامة التي جرت بتغيير الهواء ليست إلا عملاً بأصول العلاج الهوائي، وكثيرًا ما

نغير محل إقامتنا متوهمين أن البيت الذي تعاوده الأمراض محل الأرواح

الشريرة هذا وهم محض. إن (الأرواح الشريرة) الحقيقية في مثل هذه الأحوال

إنما هي الهواء الفاسد في داخل البيت، إن تغير البيت يتبعه تغيير للهواء، وهذا هو

الذي يدفع المرض. إن العلاقة بين الصحة والهواء قوية جدًّا حتى إن التغيير

القليل له يؤثر حالاً تأثيرًا رديئًا أو حسنًا، يستطيع الأغنياء أن ينتقلوا إلى أماكن بعيدة

وأما الفقراء فكذلك يستطيعون الانتقال من قرية إلى قرية، أو على الأقل من بيت إلى

بيت، بل إن تغيير حجرة بحجرة في البيت نفسه كثيرًا ما ينفع المريض نفعًا

محسوسًا، ولكن تجب مراعاة الأحوال ليكون للتغيير نفع حقيقي، فالمرض الذي

سببه الهواء الرطب مثلاً لا يمكن علاجه بالانتقال إلى محل رطب، وبما أن الناس

لا يهتمون بمثل هذه الاحتياطات البسيطة الاهتمام الكافي لذلك لا يجدي تغيير

الهواء نفعًا في أكثر الأحيان.

إن هذا الباب قد احتوى على بعض الأمثلة البسيطة لاستعمال الهواء علاجًا

للأمراض، وقد مر في القسم الأول من الكتاب باب يبين قيمة الهواء النقي للصحة،

ولذا أرجو من قرائي أن يقرءوا البابين معًا.

***

الباب الثاني

العلاج بالماء

إن الهواء غير منظوم، فنحن لا ندرك تأثيره العجيب، لكن عمل الماء

وتأثيره الصحي يمكن إدراكه وفهمه بسهولة.

يعرف جميع الناس شيئًا من استعمال البخار وسيلة صحية، فكثيرًا ما

نستعمله في الحميات ونعالج به وحده الصداع الشديد، وكذلك المصاب بالوجع

الروماتيزمي في المفاصل يشعر بالراحة السريعة عند استعمال البخار وإتباعه

استحمام بارد، والدمامل والقروح لا تبرأ بمجرد وضع المرهم أو الدهان عليها،

ولكنه تشفى تمامًا باستعمال البخار.

ثم إن الاستحمام الحار أو الاستحمام بالماء الحار يتبعه مباشرة الاستحمام

البارد مفيد جدًّا في التعب الشديد، وكذلك النوم في الهواء المطلق بعد الاستحمام

البخاري يصحبه استحمام بارد نافع جدًّا في الأرق.

إن الماء الساخن يصح استعماله دائمًا كبدل للبخار، وإذا أصيب الإنسان

بوجع شديد في بطنه، يشفيه حالاً تدفئة البطن بقنينة مملوءة بماء مغلي توضع فوق

قماش غليظ على البطن، وإذا ما أريد التقيؤ فيمكن ذلك بشرب كمية وافرة من الماء

الساخن، إن الذين يشكون الإمساك يستفيدون كثيرًا بشربهم كوبة من الماء الساخن،

إما وقت النوم في الليل أو بعد تنظيف الأسنان صباحًا مباشرة.

إن سير جوردن سبرنج spring gordon sir قد عزى صحته

الجيدة إلى تعوده شرب كوبة من الماء الساخن يوميًّا قبيل النوم في الليل وبعد اليقظة

صباحًا، إن كثيرًا من الناس لا تلين معدتهم إلا إذا شربوا الشاي صباحًا، فيعتقدون

-حمقًا- أن الشاي هو الذي أحدث هذا التأثير، مع أن الشاي وحده مضر في الحقيقة.

وإنما الذي أثر هذا التأثير هو الماء الساخن في الشاي، فهو الذي يلين المعدة

ويزيل الإمساك.

قد اخترعت أرجوحة تستعمل عادة للاستحمام البخاري، ولكنها ليست

ضرورية جدًّا بل يصح أن يوقد (وابور) من الاسبرتو أو الغاز أو كانون من

الوقود أو الفحم تحت كرسي اعتيادي من الخيزران، ويوضع فوق الموقد قِدْر

مملوء بالماء مغطى بغطاء وينشر فوق الكرسي رداء أو دثار بحيث تنزل أطرافه

إلى الإمام لتقي المريض من حر النار، ثم يقعد المريض على الكرسي ويلف في

رداء أو دثار، وعند ذلك يرفع غطاء القدر بحيث يكون المريض معرضًا للبخار

الذي يتصاعد منه، أما ما تعودناه من تغطية رأس المريض فهو احتياطي غير

ضروري؛ إذ حرارة البخار تتصاعد من طريق الجسم إلى الرأس وتسبب عرقًا

كثيرًا في الوجه، وإن كان المريض ضعيفًا جدًّا بحيث لا يستطيع القعود، فحينئذ

يصح أن يضجع على سرير ذي فتحات وفرجات ولكن يحترس أن لا يذهب شيء

من البخار سدى، وكذلك - كما لا يخفى - يجب الاحتياط لئلا تصل النار ملابس

المريض أو دثاره، وكذلك تجب المراعاة التامة لحالة صحة المريض؛ لأن

استعمال البخار بدون مبالاة يخشى منه الخطر أيضًا، إن المريض لا بد من أن

يشعر بضعف بعد هذا الاستحمام البخاري، ولكن ضعفه لا يلبث أن يزول.

إن الإكثار من استعمال البخار يضعف البنية على كل حال؛ ولذلك لا ينبغي

أن يستعمل إلا لضرورة شديدة، والبخار كما يستعمل للجسد كله كذلك يصح

استعماله لجزء خاص منه، فمثلاً إذا استعمل في الصداع فلا احتياج إلى عرض

سائر الجسم له، بل يوضع الرأس وحده فوق قدر صغير الفم مملوء بماء فاتر ويلف

عليه قماش، ثم يستنشق البخار بالأنف ليتصاعد إلى الرأس، وإذا كانت المناخر

مسدودة فهي تنفتح بهذا العمل، وهكذا أن تورم عضو من الجسم فهو وحده يعرض

للبخار.

قليل من الناس يعرفون القيمة الصحية للماء البارد، مع أنه في الحقيقة أنفع

في هذا الباب من الماء الساخن. ويمكن أن يستعمله حتى أضعف الناس بنية،

فالتلفُّف بثوب مبلول بالماء البارد نافع جدًّا في الحمى والجدري والأمراض الجلدية

ويمكن لجميع الناس استعماله بدون أدنى خطر، إن الدوار والهتر (جنون الحمى)

يمكن دفعه حالاً بلف ثوب مبلول في ثلج مذاب على الرأس. والذين يشكون

الإمساك ينفعهم جدًّا لف ثوب مبلول بثلج مذاب على البطن لحين من الزمن،

وكذلك يمكن منع كثرة الاحتلام في أكثر الأحيان بهذه الطريقة نفسها.

إن نزف الدم من أي عضو كان يمكن منعه باستعمال ثوب مبلول بماء بارد

مثلج ' وكذلك الرعاف يمنع بصب الماء البارد فوق الرأس، إن أمراض الأنف

الزكام والصداع يمكن معالجتها باستنشاق الماء البارد من الأنف، ويمكن استنشاقه

بمنخر وإخراجه بمنخر آخر أو يستنشق بمنخرين معًا ويخرج من الفم. ولا ضرر

من وصول الماء إلى المعدة إن كانت المناخر نظيفة. إن هذه أحسن طريقة لجعل

المناخر نظيفة دائمًا. وأما الذين لا يستطيعون استنشاق الماء بالمناخر فيجوز لهم

أن يستعملوا المحقن، ولكنهم يتعلمون بسعي قليل كيفية الاستنشاق بسهولة، بل يجب

على جميع الناس أن يتعلموها؛ لأنها سهلة نافعة جدًّا للصداع والرائحة الخبيثة في

الأنف، وكذلك لإزالة الأوساخ في مجرى الأنف.

يخاف كثير من الناس من استعمال المحقنة، بل يزعم بعضهم أن الجسم

يضعف به، ولكن هذه المخاوف ليست إلا وهمية، ليس هناك طريقة للإسهال

القوي أكثر تأثيرًا من هذه الطريقة، وقد ثبت نفعها العظيم في كثير من الأمراض

حينما لم تجد غيرها من المعالجات. ولا عجب فهي تنظف الأحشاء تمامًا وتمنع

تراكم المواد السامة فيها.

إن الذين يتأذون من الأوجاع الروماتيزمية أو سوء الهضم أو الأوجاع من

سوء حالة الأحشاء الصحية ينبغي لهم أن يحقنوا برطلين من الماء فيرون تأثيره

السريع القوي.

قال أحد الكتاب في هذا الموضوع: إنه كان يشكو مرة سوء هضم مزمن

واستعمل جميع الأدوية سدى وعبثًا فنحل جسمه بذلك. ولكن حقنة الماء ردت إليه

شهية الطعام وشفته من دائه في بضعة أيام، حتى إن بعض الأمراض مثل اليرقان

يمكن معالجتها باستعمال حقنة الماء. إن الذي يستعمل الحقنة أحيانًا كثيرة يجب أن

يستعمل الماء البارد، لأن الماء الحار ربما يضعف البنية بتكراره.

إن الدكتور الألماني لويس كوهن kuhne louis قد حكم أخيرًا بعد

التجارب المتوالية بأن العلاج المائي نافع جدًّا في جميع الأمراض، وقد نالت

كتبه في الموضوع قبولاً عامًّا، حتى إنها ترجمت إلى جميع لغات العالم تقريبًا

ومن جملتها بعض اللغات الهندية.

قال هذا الدكتور: إن البطن هو بيت الأدواء كلها، فإذا كثرت الحرارة في

البطن كثرة زائدة، تجلت على الجسم في صورة الحمى والروماتيزم والقروح

والبثور وغيرها من الأمراض.

إن منافع العلاج المائي قد عرفها قبل كيوهن بكثير أناس عديدون، ولكنه هو

أول من قال بأنه أصل مشترك لجميع الأمراض، لسنا بمجبورين على أن نسلم

بآرائه كلها على علاتها، ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن أصوله وطرقه قد

ثبت نجاحها في كثير من الأمراض، وإني أذكر لذلك مثالاً واحدًا من أمثلة كثيرة قد

اختبرتها بنفسي، وذلك في مصاب بروماتيزم شديد جدًّا، فقد حصل له الشفاء التام

بطريقة كيوهن بعد أن خابت جميع المعالجات الأخرى.

قال الدكتور كوهن: إن حرارة البطن تزول باستعمال الماء البارد، وعلى

ذلك أكد غسل البطن وما حوله من الأعضاء بماء بارد جدًّا، ولتسهيل الغسل قد

اخترع نوعًا خاصًّا من المغاسل من الصفيح، ولكنها ليست بلازمة، إذ قصاع

الصفيح الهلالية الشكل في مقادير مختلفة لأناس مختلفي القامات التي تباع في

أسواقنا تقوم مقامها تمامًا، يجب أن يملأ (ثلاثة أرباع) من القصعة بالماء البارد

ويجلس فيها المريض بهيئة تبقى معها رجلاه وجسمه الأعلى خارج الماء، ويبقى

وسطه من الفخذ إلى ما فوق البطن في داخله، والأحسن أن تسند الرجلان على

كرسي قصير، ويجلس المريض في الماء عاريًا بالمرة، وإن كان يحس بالبرد

فيغطي رجليه وجسده الأعلى برادء، وإن لبس القميص فليبق القميص خارج الماء

بالمرة، ويجب أن يكون هذا الغسل في مكان طلق حيث يكثر الهواء النقي والنور،

ثم يفرك بطنه بنفسه أو غيره بخرقة خشنة من خمس إلى ثلاثين دقيقة أو أكثر.

فيرى نفع هذه العملية حالاً في أكثر الأحوال. ففي الروماتيزم مثلاً يأخذ الريح في

الخروج حالاً في صورة الجشاء وغيره، أما في الحمى فتنزل الحرارة درجة أو

درجتين، وتنظف الأحشاء بهذه العملية تمامًا ويزول التعب، وإن كان يشكو الأرق

يحل محله النوم، وإن كان النعاس والارتخاء فيأخذ مكانه اليقظة والنشاط.

لا تعجب من اختلاف النتائج؛ لأنه ليس في الحقيقة أمرًا عجيبًا كما يظهر،

وذلك لأن قله النوم وكثرته علتهما واحدة ، وكذلك الدوسنطاريا والإمساك اللذَين هما

نتيجة لسوء الهضم يعالجان بنفس هذه الطريقة. والبواسير المزمنة يمكن معالجتها

أيضًا بهذا الاستحمام مع ترتيب حسن في الغذاء، والذين يشكون كثرة البصاق

الدائم يجب أن يسرعوا حالاً إلى هذا العلاج. وكذلك المصابون بالضعف يتقوون

بهذه الطريقة، وقد عولج بها حتى الروماتيزم المزمن فشفى تمامًا وهو كذلك علاج

مؤثر في النزف الدموي والصداع وتسمم الدم، وقد قال عنه كيوهن: إنه علاج ثمين

حتى للسرطان والحامل التي تستحم هذا الاستحمام بنظام تجد الوضع سهلاً.

والحاصل أنه يمكن لجميع الناس بدون استثناء العمر والجنس الاستفادة منه.

وهنالك نوع آخر من الاستحمام يسمى: (ويت - شيت - باك) (pack ـ

shet - wet) وهو علاج نافع دائمًا للأمراض المختلفة وطريقته كما يلي:

يوضع سرير أو كرسي يمكن نوم المريض فيه براحة تامة في هواء طلق

وينشر فوقه نحو أربع بطانيات كبيرة يتدلى طرفًا من جانبيه أو أكثر أو أقل حسب

حالة الجو، وتنشر فوقها ملاءتان بيضاوان مغموستان في الماء البارد، وتوضع

المخدة تحت الباطانيات في طرق السرير، وعند ذلك يجرد المريض من ثيابه (إلا

إزار صغير في وسطه إن كان يريده) وينام على الملاءتين مع بسط يديه حذاء جنبيه

وعند ذلك تلف الملاءتان ومن فوقها البطانيات على جسمه مع الاعتناء برفع

الأطراف النازلة جهة الرجل حتى تغطيها جيدًا، وإن كان المريض

متعرضًا للشمس يوضع ثوب مبلول فوق رأسه ووجهه مع ترك الأنف مكشوفًا

دائمًا، فيشعر المريض في أول الأمر ببعض القشعريرة، ولكنها لا تلبث أن تزول

ويحل محلها الشعور بحرارة لذيذة فيبقى في هذه الحالة من خمس دقائق إلى ساعة

أو أكثر، وبعد مدة يتصبب العرق من جسمه، ويغرق هو في النوم في أكثر الأحوال

وعقب خروجه من هذه اللفائف يجب أن يغتسل بالماء البارد. وهذا علاج

ناجح للجدري، والحمى والأمراض الجلدية مثل الجرب، والقوباء، والنفاطات،

والدمامل، حتى إن أقبح أنواع الحصبة والجدري يشفى به تمامًا. ويمكن لسائر الناس

أن يتعلموا بسهولة استحمام (ويت - شيت - باك) بأنفسهم، ويصفوه لغيرهم وهكذا

يرون بأنفسهم تأثيره العجيب، وبما أن الدنس كله ينتقل من الجسم إلى الملاءة

السفلى الملاصقة للبشرة يمتنع أن تستعمل ثانيًا بدون غسلها جيدًا في

ماء فاتر.

لا احتياج إلى التذكير بأن الفائدة التامة من هذه الاستحمامات لا يمكن أن

تحصل إلا بعد مراعاة الأصول التي ذكرت في أبواب الغذاء والرياضة، وغيرها

مراعاة تامة. فإن كان المصاب بروماتيزم مثلاً يستحم استحمام كيوهن، أو استحمام

ويت - شيت - باك ولكن يأكل غذاء رديئًا، ويعيش في هواء فاسد ويعرض عنه

رياضته فلا ينال أي فائدة من الاستحمام؟ إن المراعاة التامة لجميع قوانين الصحة

هي التي تجعل العلاج المائي نافعًا ناجحًا بلا ريب وإلا فلا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 363

الكاتب: محمد رشيد رضا

مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [1]

(3)

باقي محضر الجلسة الرابعة

تقرير

اللجنة التي ألفها المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر بجلسته المنعقدة في 3

ذي القعدة سنة 1344 - 15 مايو سنة 1926 للنظر في المسائل الثلاث الأخيرة

من برنامج المؤتمر.

انعقدت اللجنة المشكّلة بقرار المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر الصادر

في 3 ذي القعدة سنة 1344هـ (15 مايو سنة 1926) بدار المعاهد الدينية

التابعة للجامع الأزهر الشريف بالحلمية الجديدة في يوم الأحد 4 ذي القعدة سنة

1344هـ (6 مايو سنة 1926) لبحث المواد الرابعة والخامسة والسادسة من

برنامج المؤتمر، وباشرت عملها في جلستين إحداها قبل الظهر والثانية بعد الظهر

من اليوم المذكور، وكان محمد شكري رجب أفندي كاتبًا لها، وقد كانت منعقدة من

جميع حضرات أعضائها ما عدا السيد محمد الصديق مندوب مراكش والسيد

الميرغني الإدريسي لغيابهما، وبعد البحث والمداولة قررت ما يأتي:

أولاً: أن يكون حضرة صاحب الفضيلة والسماحة السيد عبد الحميد البكري

شيخ مشايخ الطرق الصوفية رئيسًا للجنة.

ثانيًا: أن يكون حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عطاء الله الخطيب

أفندي مندوب العراق مقررًا للجنة.

ثم تذاكرت في المسائل الأخيرة من برنامج المؤتمر مسألة مسألة، وقررت ما

يأتي:

أولاً: المسألة الرابعة (هل يمكن الآن إيجاد الخلافة المستجمعة للشروط

الشرعية؟)

قررت اللجنة فيها ما يأتي:

إن الخلافة الشرعية المستجمعة لشروطها المبينة في تقرير اللجنة العلمية

(الذي أقره المؤتمر في الجلسة الرابعة) والتي من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في

جميع بلاد المسلمين، وتنفيذ أحكام الشريعة الغراء فيها لا يمكن تحققها بالنسبة للحالة

التي عليها المسلمون الآن.

ثانياً: المسألة الخامسة (إذا لم يكن من الميسور إيجاد هذه الخلافة فما الذي

يجب أن يعمل) .

قررت اللجنة الآتي:

إن مركز الخلافة العظمى في نظر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها

وفي نظر أمم العالم جميعًا (له) من الأهمية الكبرى ما يجعله من المسائل التي لا

يمكن البت فيها الآن للأسباب المذكورة. لما يجب أن يراعى في حل مسألتها الحل

الذي يتفق مع مصلحة المسلمين في الحاضر والمستقبل.

من أجل هذا تقرر ما يأتي:

تبقى هيئة المجلس الإداري لمؤتمر الخلافة الإسلامية بمصر على أن ينشئ له

شعبًا في البلاد الإسلامية المختلفة يكون على اتصال بها لعقد مؤتمرات متوالية فيها

حسب الحاجة للنظر في تقرير أمر الخلافة الإسلامية النظر الذي يتفق مع مركزها

السامي [2] .

ثالثاً: المسألة السادسة (إذا قرر المؤتمر وجوب نصب خليفة فما الذي يتخذ

لتنفيذ ذلك) قررت اللجنة فيها ما يأتي:

حيث إن المادة المذكورة معلقة على قرار المؤتمر فلم تر اللجنة ضرورة

للبحث فيها للأسباب المذكورة في قرار اللجنة بالمادة السابقة.

ثم ختمت الجلسة حيث كانت الساعة الرابعة والنصف مساء على أن تجتمع

في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي.

إمضاءات الأعضاء

...

...

... رئيس اللجنة

محمد مراد

عطاء الله الخطيب

... عبد الحميد البكري

أبو بكر جميل الدين يعقوب شنكوفتش

...

إمضاء

...

...

...

محمد الصالحي عبد الله أحمد

...

...

محمد إدريس السنوسي عناية الله خان

***

لجنة بحث المسائل الثلاث الأخيرة

من برنامج المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر

انعقدت اللجنة المؤلفة لبحث المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج المؤتمر

الإسلامي العام للخلافة بمصر للمرة الثالثة الساعة الحادية عشرة من برنامج صباح

يوم الاثنين 5 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ (17 مايو سنة 1926) في دار

المؤتمر برياسة حضرة صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري، وبحضور

حضرات أصحاب الفضيلة والسعادة أعضائها ما عدا حضرات السيد محمد الصديق

والسيد الميرغني الإدريسي والحاج عبد الله أحمد لغيابهم.

وبحضور محمد شكري رجب أفندي الكاتب المكلف بتدوين قراراتها، فتلى

محضر الجلستين الماضيتين، فوافقت عليه اللجنة كما هو. ثم نظرت فيما يأتي:

أولاً: الاقتراح المرفوع إليها من سكرتارية المؤتمر بناءً على قرار لجنة

الاقتراحات والأبحاث والخطب. وهو مقدم من حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ

الشيخ خليل الخالدي (ومرافق لهذا) فقررت اللجنة أن موضوعه داخل في أبحاث

المؤتمرات التي ارتأت اللجنة انعقادها للبحث في تقرير أمر الخلافة.

ثانياً: في وضع تقرير يشمل بيان الأسباب والاعتبارات التي بنت عليها

رأيها في المسائل الثلاث الأخيرة المبينة في برنامج المؤتمر.

وبعد البحث والمداولة قررت اللجنة وضع هذا التقرير بالصورة الآتية:

(تتشرف اللجنة المشكلة للنظر في المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج

المؤتمر برفع تقريرها ببيان الاعتبارات التي بنت عليها رأيها في المسائل المحولة

إليها ليقرر المؤتمر ما يراه، ورأيه مقرون بالتوفيق إن شاء الله.

إن للخلافة شأنًا عظيمًا بين المسلمين، وكان ذلك الشأن بارزًا بكل ما يتصور

من مجد وعظمة أيام الخلفاء الراشدين، وأيام كانت كلمة المسلمين متحدة، وآمالهم

متجهة نحو جهة واحدة من إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه، ورفع شأن الإسلام

والمسلمين إلى أن ظهر الضعف فيهم، وتضاءل نفوذ الخلافة فأصبحت عبئًا ثقيلاً

على من يتحملها حتى إن الأتراك نبذوها بدلاً من أن يروها عمادًا عظيمًا يبنون

عليها مجدهم، ومسندًا هامًّا يسندون إليه ظهورهم، وعلى أثر ذلك اجتمعت هيئة

كبار علماء مصر، وأصدرت قرارها المعروف بشأن الخلافة، فأثارت بذلك مسألة

البحث فيها من جميع نواحيها.

ولقد اشتمل قرار العلماء على أن الإمام يحوط الدين وينفذ أحكامه ويدير

شؤون الخلق على مقتضى النظر الشرعي وعلى أنه صاحب التصرف التام في

شؤون الرعية وأن جميع الولايات تستمد منه، فعلم من ذلك أن أهم الشروط في

الخليفة أن يكون له من النفوذ ما يستطيع معه تنفيذ أحكامه وأوامره، وأن يدافع عن

بيضة الإسلام وحوزة المسلمين طبق أحكام الدين.

وهل من الممكن الآن قيام الخلافة الإسلامية على هذا النحو؟ إن الخلافة

الشرعية بمعناها الحقيقي إنما قامت على ما كان للمسلمين في الصدر الأول من

وحدة الكلمة واجتماع الممالك مما جعل الإسلام كتلة واحدة يأتمر بأمر واحد،

ويخضع لنظام واحد كما ذكرنا آنفًا.

أما وقد تناثر عقد هذا الاجتماع، وأصبحت ممالكه وأممه متفرقة بعضها عن

بعض في حكوماتها وإدارتها وسياستها وكثير من بنيها تملكته نزعة قومية تأبى على

أحدهم أن يكون تابعًا للآخر فضلاً عن أن يرضخ لحكم غيره ويدخله في شؤونه

العامة فمن الصعب تحققها الآن.

هذا إذا فرضنا أن الشعوب الإسلامية كلها كيان مستقل يحكم نفسه بنفسه على

أن الواقع غير ذلك، فإن أكثر هذه الشعوب تابع لحكومات غير أهلية، وهنا يزداد

أمر الخلافة الشرعية تعقيدًا لما يوجد بطبيعة هذه الحال من العلاقات

والروابط الدقيقة من الأمم المستقلة فيها وغير المستقلة.

فإذا فرض أن أقيم خليفة عام للمسلمين فلا يكون له النفوذ المطلوب شرعًا، ولا

تكون الخلافة التي يتصف بها خلافة شرعية بمعناها الحقيقي، بل تصبح وهمية

ليس لها من النفوذ قليل ولا كثير.

إزاء هذه المصاعب التي تحول دون إيجاد الخلافة الشرعية بالنسبة للأحوال

التي عليها الأمم الإسلامية، وإزاء الأهمية القصوى التي لمركز الخلافة وما يترتب

على إقامتها بين المسلمين من المزايا والمنافع الكبرى.

قد قررنا القرار الآتي على المادة الرابعة من المواد التي نيط بنا النظر فيها

على الوجه الآتي:

(إن الخلافة الشرعية المستجمعة لشروطها المبينة في تقرير اللجنة العلمية

(الذي أقره المؤتمر في هذه الجلسة) والتي من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في

جميع بلاد المسلمين، وتنفيذ أحكام الشريعة الغراء فيها لا يمكن تحققها بالنسبة للحالة

التي عليها المسلمون الآن) .

ولما كان إبقاء أمر المسلمين مهملاً على ما هو الآن بدون مدبر غير جائز

فإننا نرى أن الحل الوحيد لهذه المعضلة أن تتضافر الشعوب الإسلامية على تنظيم

عقد مؤتمرات بالتوالي في البلاد الإسلامية المختلفة لتبادل الآراء بين أعضائها من

وقت إلى آخر حتى يتيسر لهم مع الزمن تقرير أمر الخلافة على وجه يتفق مع

مصلحة المسلمين.

أما إذا لم تساعد الأحوال والظروف على استمرار عقد المؤتمرات، وتعذر

انعقادها للنظر في أمر الخلافة فتفاديا من أن يبقى مسندها شاغرًا زمنًا طويلاً وما

يتبع ذلك من بقاء المسلمين دون مركز يرجعون إليه في أمور دينهم العامة، ينبغي

إيجاد هيئة مكونة من زعماء المسلمين وأهل المكانة والرأي تنعقد في كل سنة للنظر

في شؤون المسلمين وتؤلف في كل أمة إسلامية لجنة تنفيذية ذات صبغة قومية

تكون ذات اتصال بالهيئة العامة، وهذه اللجان يقوم كل منها بتنفيذ قرارات الهيئة

العامة في بلادها.

1 -

ظهر جليًّا مما تقدم أن إقامة الخلافة في مثل هذه الأحوال والظروف التي

وصفناها أمر متعذر إن لم يكن في حكم المستحيل من الوجهة العملية، وهذا يستتبع

حتمًا استبعاد فكرة النظر في تنصيب إمام أو خليفة للمسلمين الآن؛ لأن إقامة خليفة

في الوقت الحاضر على ما هي عليه الأمم الإسلامية لا يحل مشكلة الخلافة بل من

شأنه أن يزيدها تعقيدًا على تعقيد فضلاً عن أنه لم يوجد إلى الآن هيئة من أهل الحل

والعقد في أمور المسلمين تملك حق البيعة شرعًا كما أنه لم يشترك في هذا المؤتمر

كثير من الأمم الإسلامية التي دعيت للاشتراك.

ولهذا قد قررنا أن يكون الجواب على المادة الخامسة الواردة في البرنامج على

الوجه الآتي:

(إن مركز الخلافة العظمى في نظر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها

وفي نظر أمم العالم جميعًا له من الأهمية الكبرى ما يجعله من المسائل التي لا يمكن

البت فيها الآن للأسباب المذكورة لما يجب أن يراعى في حل مسألتها الحل الذي

يتفق مع مصلحة المسلمين في الحاضر والمستقبل.

من أجل هذا تقرر ما يأتي: تبقى هيئة المجلس الإداري لمؤتمر الخلافة

الإسلامية بمصر على أنه ينشئ له شعبًا في البلاد الإسلامية المختلفة يكون على

اتصال بها لعقد مؤتمرات متوالية فيها حسب الحاجة للنظر في تقرير أمر الخلافة

الإسلامية النظر الذي يتفق مع مركزها السامي) .

ولا غضاضة في ذلك على الأمم الإسلامية إذا كانت لم توفق إلى الآن إلى حل

مسألة الخلافة الشرعية، ونصب الإمام كما أنه لا غضاضة على المؤتمر الحاضر إذا

لم يتيسر له تقرير أمر الخلافة والخليفة نهائيًّا. ويكفيه من ذلك أنه قام بأجل خدمة

المسلمين بأن شخَّص لهم الداء ووصف لهم الدواء فيكون بذلك قد قام بالواجب الديني

نحو الإسلام والمسلمين.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا

اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ

خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) .

رئيس اللجنة

...

...

امضاءات الأعضاء

عبد الحميد البكري

...

محمد مراد

عطاء الله الخطيب

(إمضاء)

...

... أبو بكر جمال الدين يعقوب شينكه ويج

...

...

محمد الصالحي

... عبد الله أحمد

...

...

محمد إدريس السنوسي عناية الله خان

***

الاقتراح الملحق بتقرير اللجنة

أرى أنه يجب على المؤتمر أن يبحث عن كيفية الصلة ودرجات الارتباط بين

المسلمين في جميع الممالك والحكومات، وأن يبينوا كيف تكون العلاقات بين

المسلمين بعضهم مع بعض، وأن يبحثوا عن كيفية العلاقات التي تكون بينهم وبين

المسلمين المحكومين من الأجانب مباشرة كالجزائر وملبار وباتاوي ومدراس مثلاً،

وأن يبحثوا أيضًا عن كيفية الصلة ودرجات الارتباط فيما بينهم وبين البلاد التي

تحت الحماية الأجنبية، وفيها أمير مسلم كتونس وفاس ومسقط وزنجبار وبعض

أمراء حضرموت.

ثم في البلاد التي فيها برلمان وملك وهي مستقلة إلا أنها مضغوط عليها

كمصر، ثم أيضاً في البلاد المستقلة التي لا ضغط ولا حماية فيها وليس فيها برلمان

كنجد والأفغان والريف، ثم في البلاد المستقلة استقلالاً تاماً ولها برلمان كتركيا

وفارس.

فيجب أن ينظر في اتحادهم على مدافعة حقوقهم ومصالحهم والذب عنها.

وفي إصلاح ذات البين فيما بينهم بحيث لا يثيرون عليهم ثائرة المستعمرين. وأن

ينظروا في تعاونهم على ما فيه نفع المجموع.

هذا ما أرجو قبوله من حضرات الحاضرين.

...

...

...

...

إمضاء

...

...

...

...

خليل الخالدي

عرض هذا الاقتراح على لجنه النظر في الخطب والاقتراحات والأبحاث

فقررت إحالته إلى اللجنة الثالثة.

...

...

...

...

سكرتير اللجنة

...

...

...

...

... إمضاء

4 ذي القعدة سنة 1344 (16 مايو سنة 1926) أحمد عبد القادر

(له بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

منقول عن (محاضر) مؤتمر الخلافة التي نشرتها سكرتارية المؤتمر.

(2)

لو أن السكرتير العام قدم للجنة اقتراح صاحب المنار على المؤتمر أن يقرر السعي لتكوين جماعة أهل حل وعقد في كل قطر إسلامي لرجونا أن تقرره اللجنة ولكن السكرتير كتم الاقتراح، وقد نشر في المنار وغيره.

ص: 370

الكاتب: عبد الرحمن الجمجموني

مبحث في الجرح والتعديل

بسم الله الرحمن الرحيم

إثبات توثيق

كعب الأحبار ووهب بن منبه

حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المحترم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد، فإنكم كثيرًا ما تدعون إلى انتقاد المنار. وإن هذه أكبر مزية له؛ لأن تحقيق

المباحث العلمية من أسمى ما يتشوق إليه طلاب الحقائق الذين لا يستريحون إلا

بالوقوف عليها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالانتقاد والمناقشة والأخذ والرد. فإن

الحقيقة بنت البحث، وإن المناقشة في أي مبحث كان تولد فيه من الفوائد العلمية ما

تجعله مقدمًا على غيره من المواضيع الغفل التي لم يطرقها بحث فلم تنضج بعد.

ولم يكن لها في نفس القارئ ذلك الأثر الثابت الذي يشعر به عند تلاوة مواضع

البحث والمناظرة، وشتان بين اطلاعه على ما يحتمل أنه رأي شخصي، وبين ما

يعلم عنه من سميته في الحال.

لذلك أكتب ما يأتي:

أتيتم في خلال تفسير قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: 107) من

سورة الأعراف بما يؤخذ منه أنكم تجرحون وتطعنون على كعب الأحبار

ووهب بن منبه بأنهما:

(1)

رويا أخبار غرائب بني إسرائيل المكذوبة.

(2)

وكانا يدسان في الدين الإسلامي بكذب الرواية.

(3)

وأنهما من جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين عمر وعثمان رضي الله

عنهما كما هو موضح بصحيفة 169 من الجزء الثالث الصادر في 29 شعبان سنة

1342هـ ولما كان هذا التجريح غير المعروف عنهما عند رجال الحديث من

المتقدمين والمتأخرين إلى عصرنا هذا. ويوجب سوء سمعتهما عند قراء المجلة.

ويترتب عليه الحط من اعتبار أشهر كتب الحديث (البخاري ومسلم وأبي

داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وموطأ الأمام مالك) لذكرهما فيها على سبيل

الرواية عنهما والاحتجاج بهما في عدة مواضع. وكنا في وقت كثر فيه الملحدون

والمارقون الذين يثيرون على الدين الإسلامي أقل شبهة، فخشية أن يقول مارق: إن

صاحب المنار قد أظهر في رجال كتب الحديث التي تدعون صحتها من هو كذاب،

دساس، ويحاول أن يقيم من وراء ذلك دليلاً على تقصير أصحابها في انتقاء

رجالهم، ولا يخفى ما في ذلك من الخطر، وإيفاء للرجلين حقهما بادرت إلى انتقاد

هذا الطعن والتجريح مثبتًا براءة الحبرين مما ذكر بالإشارة إلى محال نصوص

علماء الجرح والتعديل الصريحة في توثيقهما توثيقًا لا يصح معه جرحهما بشيء

مما ذكر.

فلم تنشروا الانتقاد إلا بعد أكثر من عام أي في صحيفة 73 من الجزء الأول

الصادر في 29 رمضان سنة 1343 متبعين له بشيء من الرد على. ثم لم تنشروا

بقية الرد إلا بعد عام آخر بصحيفة 716 من الجزء التاسع الصادر في 15 شعبان

سنة 1344 فلما كمل الرد ولم أجد فيه ما يشفي العلة. بل زاد الطين بلة. فإنكم

وإن سلمتم ببرائتهما من الطعن الثالث فقد بالغتم في نسبتهما إلى الأولين وهما محل

الخطر (فوقفت حائرًا) لأن الأمر أصبح في احتياج لمزيد من بحث ودرس، وأنا

مشتغل بالحرث والدرس. ولم يكن بد من بيان الواقع من توثيق الحبرين وإلا كنت

جانيًا عليهما بتركهما بعد تعريضهما لأسنة البحث والمناظرة. فرجعت إلى ردكم

منقبًا عما حال دون إدراك الحقيقة، فوجدت السبب ينحصر في ثلاثة مواضع مهمة.

فتجدد أملي في أنه مع بيانها يزول ما كنت أحذر. حيث إنها في نفس المنار تنشر

ومن علق بنفسه شيء مما سبق يزول. وننال معكم بذلك من الله تعالى الرضا

والقبول.

***

الموضع الأول

قلب نص قاطع في الموضوع من الإثبات إلى النفي - وذلك فيما نقلتم في

سياق جرحكم كعب الأحبار بصحيفة 77 من الجزء الأول المذكور ونصه (وقد

صرح الحافظ الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره) .

ولما كان هذا غير المعروف راجعت ترجمته في الطبقات، أي تذكرة الحفاظ

بصحيفة 45 من الجزء الأول فوجدت النص هكذا (وله شيء في صحيح البخاري

وغيره) .

هذا وقد قال الحافظ الذهبي في أول هذا الكتاب الجليل ما نصه (هذه تذكرة

بأسماء معدلي حملة العلم النبوي ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف

والتصحيح والتزييف) واسما الحبرين ثابتان فيها وقال في ترجمة كعب المذكورة

(إنه من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب أسلم في زمن أبي بكر فقدم من

اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم وأخذ هو من الكتاب

والسنة عن الصحابة وتوفي في خلافة عثمان، وروى عنه جماعة من التابعين

مرسلاً. وله شيء إلخ وترجمة وهب بن منبه في صحيفة 88 من الجزء نفسه

وقال فيها (إنه عالم أهل اليمن ولد سنة 34هـ وروى عن أبي هريرة وعن عبد

الله بن عمر وابن عباس وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وغيرهم وعنده من علم أهل

الكتاب شيء كثير فإنه صرف عنايته لذلك وبالغ. وحديثه في الصحيحين عن أخيه

همام) .

وقد نص صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبد العزيز الخولي المدرس بقسم

التخصص في القضاء الشرعي في رسالته مفتاح السنة المطبوعة والمنشورة بمجلة

المنار على أن تذكرة الحفاظ هذه من كتب الثقات. كما نص العلامة القاسمي في

كتابه الجرح والتعديل المطبوع والمنشور بالمنار أيضًا (على أن من الوجوه التي

تعرف بها ثقة الراوي ذكره في تاريخ الثقات) ، وحيث ثبت ذكر الحبرين في

هذه التذكرة وهي من تواريخ الثقات فيكون هذا حكمًا بتوثيقهما توثيقًا لا يقبل نقضًا

ومن ادَّعى غير ذلك فعليه البيان.

***

الموضع الثاني

حمل أقوال بعض سلف الأمة وعلمائها على غير مرادهم لعدم البحث - وذلك

ثابت في قولكم ضمن الرد بصحيفة 77 من الجزء الأول المذكور ما نصه (أما

كعب الأحبار، فإن البخاري لم يرو عنه في صحيحه شيئاً ولكن ذكره فيه بما يعد

جرحًا له لا تعديلاً. قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من تهذيب التهذيب: وروى

البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث

رهطًا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء

المحدثين عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب (تأمل) .

قال الحافظ بعد نقل هذه العبارة عن الأصل: (قلت) هذا جميع ما له في

البخاري وليست هذه رواية عنه فالعجب من المؤلف كيف يرقم له ورقم البخاري

وليست هذه رواية عنه فيوهم أنه أخرج له.. . إلخ، يعني أن ذكر صاحب

التهذيب رقم البخاري وهو حرف (خ) عند اسم كعب غلط، وقد صرح الحافظ

الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره. والمنتقد يبدي

ويعيد ذكر رواية البخاري عنه وتوثيقه له، وأقول: إن قول معاوية: إن كعبًا كان من

أصدق المحدثين عن أهل الكتاب، وإنهم مع ذلك اختبروا عليه الكذب طعن صريح

في عدالته وفي عدالة جمهور رواة الإسرائيليات؛ إذ ثبت كذب من يعد من أصدقهم

ومن كان متقنًا للكذب في ذلك يتعذر أو يتعسر العثور على كذبه في ذلك العصر إذ

لم تكن كتب أهل الكتاب منتشرة في زمانهم بين المسلمين كزماننا هذا، إلى أن قلتم:

وجمله القول أن جرح كعب لا يقتضي خسران شيء يذكر من العلم في صحيح

مسلم، ويوافق ما عند البخاري من إثبات معاوية لكذبه عنده وعند غيره؛ ولذلك امتنع

البخاري عن الرواية عنه على غرور الجمهور بعبادته. اهـ منار.

فهذه الجملة اشتملت عدا رأيكم على ثلاث عبارات للمتقدمين (الأولى) عبارة

سيدنا معاوية المروية في البخاري (الثانية) عبارة الحافظ ابن حجر المنصوصه

في كتابه تهذيب التهذيب (الثالثة) عبارة الحافظ الذهبي المثبتة في كتابه الطبقات

المذكورة. أما عبارة الذهبي فقد بينا ما فيها قريبًا وآفتها من كلمة (ليس) التي

حشيت فيها فقلبتها من الإثبات إلى النفي، وعبارة ابن حجر مترتبة معنى على

عبارة سيدنا معاوية. فوجب الكلام أولاً على عبارة معاوية رضي الله عنه من جهة

نصها ومعناها مع بيان غرض الإمام البخاري من ذكرها في صحيحه حتى يتبين

بجلاء إن كانت طعنًا على كعب أو توثيقًا له.

أما من جهة نصها في صحيح البخاري فهي في كتاب الاعتصام بالكتاب

والسنة، وقد أتى بها البخاري عقب ترجمته هكذا (بسم الله الرحمن الرحيم باب قول

النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء. وقال أبو اليمان: أخبرنا

شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطًا من

قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين

يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب. اهـ بخاري

وأثبت صاحب الفتح (إن) في رواية (وحدثنا أبو اليمان) وأنّ إنْ مخففة من

الثقيلة، وضبط شيخ الإسلام (وذكر) بالبناء للمفعول وفي النسخ المضبوطة بالقلم

علامة صحة حذف كلمة (أهل) عن أبي ذر الهروي فتكون روايته هكذا (الذين

يحدثون عن الكتاب) هذا ما يتعلق باللفظ.

وأما من جهة المعنى فأحسن ما يبين معناها هو نفس كلام سيدنا معاوية ذاته

عن كعب الأحبار شخصه.

وقد اطلعتم على عبارة أخرى لسيدنا معاوية صريحة في الثناء على كعب

وهي قوله: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالثمار، وإن كنا فيه

لمفرطين كما هو منصوص في تهذيب التهذيب قبل ما نقلتم منه مباشرة.

والعبارتان صدرتا منه رضي الله عنه بعد وفاة كعب لتصريحه بالتفريط في

الأخذ عنه في هذه، ولا ولى، قالها لما حج بالناس في خلافته كما نص عليه في

الفتح وكعب توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه كما سبق، أي فلم يطرأ ما يوجب

تغيير رأيه بين العبارتين.

فلا يصح مع ذلك قولكم إن العبارة - طعن صريح في عدالة كعب - إذ ثبت

كذبه - بل كان متقنًا للكذب - ومغررًا للجمهور بعبادته - كما سبق نقله عن المنار،

لأن هذا تناقض بين عبارتي خليفة من خلفاء الإسلام وصحابي من أكابر الصحابة

هداة الأنام مشهور بحصافة الرأي ومعروف بالبلاغة، فلا يتأتى منه أن يأسف على

التفريط في الأخذ عن كذاب، وليس من البلاغة وصف رجل في أول جملة

بأنه من أصدق المحدثين وفي آخرها بأنه من أكذب الكذابين وكيف يكون ذلك من

أحد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

على أن العبارة من حيث تركيبها العربي لا تصلح دليلاً مطلقًا على أقل ألفاظ

هذا التجريح فإن إسناد الكذب فيها إلى (الكتاب) باعتبار ما فيه من التبديل أقرب

من إسناده إلى (كعب) كما قرره شارح البخاري في توجيه احتمال رجوع الضمير

في (عليه) إلى (الكتاب) ولأنه أقرب مذكور.

وعلى كل حال فقد صارت هذه العبارة لا تصلح حجة على الطعن في كعب

لأن الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.

لذلك لم يقل أحد من علماء الحديث الذين شرحوا البخاري وغيرهم: إن هذه

العبارة قصد بها سيدنا معاوية تجريح كعب مطلقًا بل بعكس ذلك فهموا أنها صدرت

منه للدلالة على توثيق كعب بأنه كان من أصدق المحدثين عن الكتاب وأن الخليفة

ابتلى الكذب على الكتاب نفسه لما علمه فيه من التحريف والتبديل بناء على عود

الضمير على أقرب مذكور - وقد رأى ذلك العلامة السيوطي كما يؤخذ من كتابه

(إسعاف المبطأ) المطبوع حديثاً مع الموطأ بمطبعة عيسى الحلبي حيث ترجم لكعب

الأحبار بصفته أحد رجال الموطأ (المعروف بانتقاء الإمام مالك لرجاله من أوثق

رجال الحديث) مقتصرًا على صدر عبارة سيدنا معاوية في الاستدلال على توثيق

كعب لكونه يرى إعادة الضمير على الكتاب وأنه بناءً على ذلك لا ارتباط بين صدر

هذه العبارة وآخرها.

فالسيوطي جعل العبارة توثيقًا وهو متوفى سنة 911هـ (هذا) ومن رأى

عود الضمير على كعب حمل الكذب في العبارة على ما يوجد في بعض أخباره من

الخطأ الذي سرى إليه من أهل الكتاب قبل إسلامه، ولا علاقة له بأمر الدين كالإخبار

بوقوع حوادث في المستقبل فلم يقع بعضها كما أخبر كعب.

يوضح هذا كله عبارة الحافظ ابن حجر في الفتح ونصه (قوله عليه الكذب)

أي يقع بعض ما يخبرنا عنه بخلاف ما يخبرنا به، فلفظ يقع يدل على أن المخبر

به أمور من قبيل ما يسمونه ملاحم، ولا علاقة لذلك بأمر الدين الإسلامي، ثم نقل

الحافظ ابن حجر عقب رأيه الشخصي المذكور عبارة ابن التين على طولها وعبارة

ابن حبان في توثيق كعب بما يقرب من هذا المعنى، ثم شرح توجيه إعادة الضمير

على الكتاب ونقل التصريح عن القاضي عياض بأن العبارة ليس فيها تجريح لكعب

بالكذب على كلا الاحتمالين، ثم ترجم لكعب موثقًا له وأتى في ضمن أدلة توثيقه

بقول سيدنا معاوية بلفظ (ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالبحار

وإن كنا فيه لمفرطين) والثمار أو البحار كلاهما كناية عن سعة علمه ونفعه)

أهـ فتح بتصرف فانظره.

أما القسطلاني فابتدأ شرح الموضوع بتوجيه الاحتمالين في مرجع الضمير

مباشرة، ونقل عن الحافظ ابن الجوزي المعروف بتشدده في التعديل ما نصه توثيقًا:

(يعني أن الكذب فيما يخبر به عن أهل الكتاب لا منه، فالأخبار التي يحكيها عن

القوم يكون في بعضها كذب فأما كعب الأحبار فهو من خيار الأحبار) ، وكذا عبارة

العيني والكرماني والسندي، وهو آخر من كتب على البخاري فيما نعلم.

واستدل صاحب كتاب إظهار الحق بعبارة سيدنا معاوية هذه على أن الصحابة

كانوا يعتقدون أن كتابي أهل الكتاب (التوراة والإنجيل) الموجودين محرفان كما في

الجزء الأول منه في الكلام على إثبات تحريف وتبديل التوراة والإنجيل، فاتضح

من ذلك معنى عبارة سيدنا معاوية، وأنه ليس فيها تجريح لكعب بالكذب وأن غرضه

منها إرشاد القرشيين إلى الثقة بما صح سنده إلى كعب مما حدث به عن كتب أهل

الكتاب القديمة؛ لأنه من أصدق المحدثين عنها - وذلك مثل ما أخبر به كعب من أن

النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في التوراة بصفة واضحة حيث قال في السطر

الأول منها (محمد رسول الله عبدي المختار: مولده بمكة، ومُهَاجَرُهُ المدينة، ومُلْكُهُ

بالشام) كما نقله الحافظ ابن حجر على موضعين كلاهما في الفتح في شرح باب

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الأحزاب: 45) من سورة الفتح في

كتاب التفسير من صحيح البخاري، وأشار إليه في تهذيب التهذيب في آخر ترجمة

كعب، وهذا من ثمار علمه التي صرح الخليفة أنهم فرطوا في الأخذ منها.

أما من جهة بيان غرض البخاري من ذكر عبارة سيدنا معاوية في صحيحة

فيؤخذ من قول الإمام العيني في شرحها ما نصه (مطابقته للترجمة في ذكر كعب

الأحبار الذي كان يتحدث من الكتب القديمة ويسأل عنها أحبارهم) ومنه يعلم أن

غرض البخاري هو الاحتجاج بكعب الأحبار في دفع التعارض بين النهي في

الترجمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) وبين

الأمر في قول الله تعالى {فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس: 94)

بأن كعبًا كان ممن يسألون؛ لأنه قرأ الكتاب من قبل ثم أسلم وشهد له سيدنا معاوية

بأنه من أصدق المحدثين عن الكتاب، والنهي هو عن سؤال من لم يسلم كما نص

عليه في الفتح في آخر شرح هذه الترجمة، وهذا يدل على عظيم ثقة الإمام البخاري

بكعب الأحبار؛ لأن احتجاجه به في أمر الدين كما ذكر أبلغ في الدلالة على ثقته به

من الرواية عنه وعلى أنه لم يمنعه من الرواية عنه إلا عدم وفرة السند الصحيح له

إليه على شرطه المعروف ومثل كعب في ذلك كمثل الإمام أبي حنيفة، وكثير من

أوثق المحدثين الذين لم تذكر لهم رواية في البخاري للسبب المذكور والإمام الشافعي

لم يكن له رواية في البخاري وإنما له شيء يسير في التعليقات فقط فلا يقال: إن

البخاري امتنع عن الرواية عن هؤلاء الأئمة لعدم ثقته بهم وإلى هنا انتهى الكلام

على عبارة سيدنا معاوية من كل أوجهها المذكورة وعلم غرضه فيها وغرض

البخاري من ذكرها في صحيحه بما توضح.

ولم يبق في هذا الموضوع سوى الكلام على عبارة الحافظ ابن حجر المتوفى

سنه258هـ من جهة تعجبه ممن سبقه في عد كعب الأحبار من رجال البخاري بناءً

على عبارة سيدنا معاوية هذه مع أنها لم تكن رواية له عن كعب.

وقبل الكلام عن بيان غرض الحافظ ابن حجر من هذا التعجب أنقل شيئًا من

كلام علماء أصول الحديث يوضح لنا ما به يسمى الرجل من رجال صحيح

البخاري أو غيره. قال الحافظ ابن الصلاح في مقدمته المشهورة في النوع الثالث

والعشرين بصحيفة 41 ما نصه: (ثم من انزاحت عنه الريبة منهم بالبحث عن

حالة أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه، ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين

وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم فافهم ذلك فإنه مخلص حسن) ، وقال

العلامة ابن السبكي في الطبقات الكبرى في ترجمة الحافظ الذهبي المتقدم ما نصه:

نقلاً عن صاحب الترجمة (وقد كتبت في مصنفي الميزان عددًا كثيرًا من الثقات

الذين احتج البخاري أو مسلم أو غيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دون اسمه في

مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك وما زال يمر بي

الرجل الثقة وفيه مقال من لا يعبأ به. ثم استطرد إلى ذكر أسماء الذين لم يؤثر

عليهم ذلك الجرح لكون البخاري أو أحد أمثاله احتج ببعضهم إلى أن ذكر منهم

وهب بن منبه) ولم يذكر كعبًا؛ لأنه لم يجرح مطلقًا، وأما وهب فذكره؛ لأن ابن

الفلاس كان ضعفه قبل احتجاج البخاري به كما يأتي.

وقال شيخ الإسلام في شرح ألفية العراقي في مبحث (أصح كتب الحديث)

في إثبات أن البخاري ومسلم هما أصح الكتب ما نصه: (وما ذكر فيهما من

الضعفاء كمطر الوراق وبقية وابن إسحاق ونعمان بن راشد لم يذكر على سبيل

الاحتجاج بل على سبيل المتابعة والاستشهاد) .

فأنت ترى أن عباراتهم صريحة في أن كل من احتج به البخاري في صحيحه

يصير ثقة ولو كان مجروحًا من قبل وأنه لا يعبأ بكلام الجارح بعد ذلك الاحتجاج

وبناءً عليه صار كل من الراوي والمحتج به في البخاري حكمهما واحدًا في التوثيق

وباعتبار أن البخاري اعتمد في تكوين كتابه على الرواة والمحتج بهم يصح أن

يطلق على كل منهما أنه من رجال البخاري وأنه أخذ عنه بلا فرق بينهما في ذلك

أيضًا. (وقد احتج البخاري بكعب الأحبار احتجاجًا مهمًّا نافعًا كما سبق) .

فلا عجب حينئذ ممن عد كعبًا من رجال البخاري؛ لأنه متى علم السبب بطل

العجب واتضح أن صاحب التهذيب مصيب في عد كعب الأحبار من رجال البخاري

وأن ذكر حرف (خ) رقمًا على أخذ البخاري عن كعب صحيح لا (غلط) لأنه

اعتمد عليه في شيء من كتابه - على أنه لا غرض للحافظ ابن حجر من ذلك

التعجب إلا طلب النظر في الموضوع شأن أكابر المحققين إذا اختلفت وجهة نظرهم

مع من سبقهم يطلبون النظر في الأمر ليتبين الحق فيه وجل المنزه عن الخطأ

والنسيان وعلى ذلك أدلة منها أنه صرح بطلب النظر عقب عبارته هذه مباشرة

بقوله: وكذا رقم في الرواة عنه (كعب على معاوية ابن أبي سفيان رقم البخاري

معتمدًا على هذه القصة وفي ذلك نظر) .

يريد أن عبارة سيدنا معاوية قصها على الرهط من قريش ثناء على كعب لا

رواية عنه ولكن قول سيدنا معاوية (عنده علم كالثمار أو البحار) يدل على أخذه

عن كعب وإلا فمن أين علم ثمار علمه. ومنها أن ابن حجر أبقى حرف (خ) في

كتابه تهذيب التهذيب فلو كان جازمًا بغلط صاحب التهذيب في ذكر هذا الحرف

لحذفه هو من كتابه: ومنها أنه لم يجرح كعبًا بشيء ما في مؤلفاته بل ترجم له

ونقل توثيقه عن كثيرين تأييداً لتوثيقه له.

أما السابقون على الحافظ ابن حجر في عد كعب من رجال البخاري وتوثيقه

فهم الحافظ بن سرور المقدسي في كتابه الكمال وهو متوفى سنة 600هـ وتابعه

على ذلك الحافظ المزي في التهذيب، وهو متوفى سنة 742هـ وهو الذي يقصده

ابن حجر بقوله في عبارته: (فالعجب من المؤلف) ولكن الذهبي وافق المُزّي في

كتابه تهذيب التهذيب، وهو متوفى سنة 748هـ ومن المتأخرين عن ابن حجر، وهو

موافق للمتقدمين عليه الحافظ الخزرجي في كتابه (خلاصة تهذيب الكمال) وهو

متوفى سنة 923هـ ولم يوافق أحد ابن حجر من المتقدمين أو المتأخرين عنه في

التعجب من عد كعب من رجال البخاري.

البقية للآتي

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 377

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمعية تجديد الإلحاد والزندقة

والإباحة المطلقة

مهاجمة اللغة العربية وآدابها

لم تقنع جمعية تجديد الإلحاد والإباحة في مصر بصد الشعب المصري وسائر

الشعوب العربية بل الأمة الإسلامية عن الدين أو تشكيكها فيه تمهيدًا لإباحة

الأعراض وعبادة الشهوات، وتقليد الإفرنج فيما يسهل التقليد فيه من الفواحش

والمنكرات، بل نراهم يعنون بتحقير آداب اللغة العربية ليجردوا الأمة من هذا

الفصل المنطقي الذي يفصلها من غيرها من الأمم ويثبت لها استقلالها خاصًّا

بمقومات خاصة ومشخصات خاصة.

وأعظم مقومات الأمم الدين الذي هو مصدر الفضائل والآداب النفسية، واللغة

التي هي مظهر العلوم والمعارف والآداب، ويليهما التشريع الذي هو مجلي السيادة

والحكم، وقد بدأ هؤلاء الزنادقة بهدم الدين هدمًا مطلقًا لا هدم تجديد كما يدعون في

غيره، وهدم التشريع الإسلامي لاستبدال التشريع الأوروبي به، ثم شرعوا في

تحقير آداب اللغة بزعم تجديدها بآداب لغات ساداتهم الإفرنج.

ألف الدكتور طه حسين أستاذ تجديد الإلحاد والإباحة في الجامعة المصرية

غير الرسمية كتيبًا كذب فيه نقلة اللغة العربية ورواة آدابها فيما رووه من شعر

العرب في عصر الجاهلية، وزعم أنهم هم الذين وضعوا المعلقات السبع وافتروها

على امرئ القيس وطرفة وعنترة. . . إلخ كما افتروا غيرها من الدواوين وما

دون الدواوين، واستطرد إلى تكذيب كتاب الله وتكذيب خاتم رسله عليه صلواته

وسلامه في إسناد بناء بيته الحرام إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام

وفي غير ذلك، وجعل ذلك من الأساطير لا يثبته العلم، وهذا جهل منه بمعنى كلمة

العلم، فإنه لم يقل أحد من العلماء المتقدمين ولا المتأخرين أن وقائع التاريخ يتوقف

ثبوتها على عدم نفي العلم لما رواه الرواة منها.

فخبر بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لبيت الله تعالى تناقلته الأمة

العربية بالتواتر المؤيد بتقاليد دينية عملية، ثم أثبته الوحي الإلهي الثابت بالآيات

القطعية، ولا يوجد دليل علمي يعارضه، فما معنى قوله: إن العلم لا يثبته؟ - وقد

ألقى هذا الكتاب دروسًا في الجامعة المصرية الرسمية، وربما يصدق الكثيرون من

طلابها هذا الأعمى البصر والبصيرة فيما يكذب به علماء الأمة الإسلامية وكتاب

ربها وحديث نبيها المعصوم فيما يريد به تجريد أمتهم من الدين واللغة والنسب

والأدب والتاريخ ليجددهم بذلك فيجعلهم أمة أوربية! ! بل طعمة للدول الأوربية

كما جدد نفسه وبيته بتزوج امرأة غير مسلمة وبتسميته أولاده منها بأسماء الإفرنج

رغبة عن الأسماء العربية القديمة والجديدة واحتقارًا لها، وقد حدثنا الثقة عن أحد

أصدقائه أو أساتذته أنه قال: لا مانع يحول دون إقناعنا للمصريين بسيادة الإنكليز

وحكمهم إلا الدين، أي فلا بد من إزالة هذا المانع! .

وقد رأيت بعد عودتي من الحجاز مقالاً لأحد مقلدته أو أعضاء جمعيته في

صحيفتهم السياسة ناشرة دعايتهم وحاملة لوائهم عنوانها (العقلية العربية وشعر

رامي) أنشأها لتقريظ ديوان شعر (أحمد رامي) أحد أدباء النابتة المصرية، وكأنه

راعه من شعره ذوقه العربي الصحيح، وأداؤه المصري الفصيح، وقريحته النضاخة

بالمعاني، وخياله المصور لها في أجمل المباني، فعز عليه أن يكون شعره عربيًّا

صحيحًا، وأن يكون في دوحة الآداب العربية غصنًا قويمًا، فأراد دعوته إلى

جمعية التجديد؛ ليكفر بطرافة شعره أدب لغته التليد، ويترك السبح في بحارها،

والاقتباس من أنوارها، وينسلخ من سليقته العربية، ويتبرأ من فطرته الإسلامية،

ويتكلف تقليد الفرنجة في ترك القوافي والأوزان العربية، ويتنحل المعاني اللاتينية

والإغريقية، فيكون من جمعية المجددين، بهدم ما استطاع مما لأمته من لغة وأدب

ودين.

ومن الغريب أن عمدة دعاة الزندقة في هدم مقومات هذه الأمة ومشخصاتها

وصفها بالقديمة، وشبهتهم عليه أن كل قديم فهو قبيح يجب تركه، ومن المعلوم

بالبداهة أن حسن الأشياء وقبحها الحقيقيين في ذاتها، وفائدتها، لا في قدمها ولا في

جدتها، وما من قديم إلا وكان جديدًا ولا جديد إلا وسيكون قديماً، ومن لا قديم له لا

جديد له بل لا وجود له، وإنما الأمم بتاريخها، ومثل من يحاول هدم تاريخ الأمة

لأجل تجديدها كمثل من يحاول هدم بنية كل فرد منها ليجدد له بنيه أحسن منها.

نعم، إن كل حي يحتاج آنًا بعد آخر إلى جديد يكون مددًا لقديمه لا هادمًا له

ومصلحًا لما فسد منه، ومن عجيب أمر هؤلاء أننا نراهم يدعون إلى انتحال ما هو

أقدم مما يذمون من قديم أمتهم كالأدب الإغريقي والشعر الإغريقي الذي هو دون

الأدب والشعر العربي الجاهلي والإسلامي، والحق أن كلمة الجديد والتجديد كلمة

خادمة للنابتة، مستهوية لخيال الشببة؛ لأنهم لا يريدون إلا جعل هذه الأمة لقمة

سائغة لسادتهم المستعمرين، بتقطيع ما يربط بعضها ببعض من لغة وأدب وتشريع

ودين، وأنهم ليدعون دعاوى لا تثبتها بينة، ويؤلفون أقيستهم من قضايا لا تقوم

عليها حجة، بل هي كذب وبهتان، يكذبه الحس والعلم، كوصف مقرظ ديوان

رامي للشعر العربي و (العقلية العربية) وهذا نص تقريظه نقلاً عن (جريدة

السياسة في 22 المحرم سنة1345) قال:

العقلية العربية وشعر رامي

بينما كتاب مصر يحسون تمام الإحساس بخطورة العقلية الشرقية القديمة.

يلمسون في تضاعيف النهضة الحاضرة رغبة صادقة في الخلاص من المصطلحات

والعقائد [1] والنظم الرجعية الآسنة فيحاولون السعي بما أوتوا من مواهب لتحرير

الفكر وتجديده وتلقيحه بخصائص الثقافة الأوربية سواء في المقالات أو في

الأبحاث أم في الروايات القصصية أو التمثيلية - يظل شعراؤنا في المؤخرة جمودًا

ضاربين حول أنفسهم نطاقًا محرمًا كجماعة الفقهاء أو اللاهوتيين، يتعهدون في

أنفسهم ملكة النظم على أهازيج الحداء البدوية باستظهار ما يمكن استظهاره من شعر

العرب موقنين أن الحافظة المشحوذة المتوقدة المحملة بآثار السلف الصالح هي

وحدها مثار العبقرية الشعرية على اختلاف أشكالها وميولها [2] .

إنهم يعودون أنفسهم بمجهود آلي مدهش الانتشاء بتسلسل القوافي المتشابهة

وانصبابها في رنين لفظي واحد، ولا يخطر لهم ببال أبدًا بل لا يخالط وجدانهم لحظة

أن هذه الموسيقى المتشابهة أنصع ما تكون دليلاً على سذاجة فطرية وبغاء غريزي

وهمجية متأصلة كعلالات الأطفال أو ألحان البرابرة [3] .

ثم هم لا يفطنون إلى أن كل فن محدود الرسوم ثابت الأشكال متشابه الأجزاء

ينبئ عن جمود في الفكر وضعف في قوى الابتكار واستمتاع بضرب من الركود

المعنوي منه نشأ هذا الفن [4] لا لشيء سوى مجرد الترفيه والتسلية وقتل الوقت

ومداراة عوامل اليأس الضجر.

وإن من يمعن النظر مليًّا في الينابيع التي يستمد منها معظم شعرائنا وحي

قريضهم لا يكاد يتبين فيها أثر الحياة الحرة، بل هو على النقيض يلمس تكرارًا مملاًّ

مشينًا وتحديًا غريبًا مزريًا لما قاله العرب ورددوه في عصور قضت، بل ويلمس

فوق هذا تدلُّها سخيفًا وعبودية عمياء لما اتصفت به العقلية العربية في إلهاماتها

الشعرية من عيوب جعلت أدب العرب ضد الفن أي ضد الحياة، كالحذلقة اللفظية

الطنانة الجوفاء، والمبالغة المضحكة في الأوصاف، والجرأة على الاستعارة البعيدة

عن الواقع، والجنون بالخيال الذي عوض أن يقرب إليك الحقيقة يقصيها عنك

جهده. والولع الشديد بالكذب، وادعاء العاطفة دون الشعور بها. والفرار من رسم

أفاعيل الوجدان وتقلبات النفس وأطوارها، واعتقادهم المتوارث أن الشعر شيء

والحقيقة شيء آخر، وأن خصائص العقل كالروية وإحكام النظر وصدق الملاحظة

لا تتفق والفن الشعري الذي يجب أن يكون في عرفهم مجرد تخيل غشاش لصور

وعواطف لا وجود لها إلا في مخيلة شاعر دجال [5] .

كل هذه المميزات المشهورة - ويجب أن نفهم ذلك ونسلم به [6] ، هي التي

تستهبط منها غالبية شعرائنا وحيها، وهي التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن

تعد فنًّا سليمًا. إذ الفن الإغريقي الذي عنه أخذت أوربا وتأخذ حتى اليوم لم يتأثر

به العرب ولم يلقحوا به أدبهم. وهو الفن الصحيح لأنه يقوم على رسم الحقيقة

وإبداعها مخيلة وفق مزاج كل فنان وهواه. فيصبح الفن حياة جديدة تحبب المرء في

الحياة الواقعة؛ لأنها تجملها له وتضاعفها وتميط اللثام عن دفائن أسرارها.

ومواطن الجمال فيها. فيلحق الفن بالفلسفة والعلم في تأسيس الحضارات

الإنسانية وتحقيق المثل الأعلى.

أما الفن العربي - إذا صح أن للعرب فنًّا - فهو الهرب من الحياة، هو

تخيلها جوهرًا غريبًا عن حقيقتها.

وفي رأيي أن قد نشأ ذلك من أن العربي رجل حاد الشهوة بعيد مطلب الحس،

جوالة، رحالة، متفنن في استغلال قواه البدنية لذة، والعقلية مرحًا ونسيانًا، فهو

يود الحصول على اللذتين؛ لذة الاستمتاع بالحياة الواقعة في جو شهوي رحب لا

قيد فيه ولا نظام، ولذة الاستمتاع بالحياة الفنية المخيلة في عالم غير عالمه الأرضي

فيه لذائذ أخرى وشهوات أخرى وغرائب أخرى، فهو رجل لا يتطلب في الفن

رسم الواقع لدرسه والعمل لتجميله وإصلاحه بل هو يعيش الواقع هذا (؟)

ويستوعبه ويستمرئه ويمتص عصارته حتى إذا ما مجَّته نفسه هرع إلى عالم مخيل

كاذب كعالم آكل الأفيون فلا يزال به حتى يدرك قراراته فيعاوده سأمه فينزع إلى

ميله الأول وهكذا [7] .

وإن من يعرف أن العرب قد تأثروا بعلوم الإغريق على ضآلتها دون آدابهم

وفنونهم وهي التي كانت قد ازدهرت أيما ازدهار وبلغت من العمق والصدق

والروعة ما لم تبلغه فنون في أي عصر ذهبي يفهم تمامًا أن عقيدة العرب في أن

القرآن ليس كتاب دين منزل فحسب بل كتاب أدب منزل أيضًا، هو الذي حال بينهم

وبين استغلال أدب الإغريق وجعلهم يرون الكمال المطلق في الخلق الأدبي مجاراة

الأسلوب القرآني والنقل عنه والاقتباس منه إلى حد أنهم كانوا يقيسون مقدرة التأثر

منهم (؟) بقدرته على محاكاة البلاغة القرآنية في صوغ العبارة وصقلها، الأمر

الذي أحال الأدب نوعًا آخر من أنواع العبادة فخنق وظائف الابتداع وابتلى

المصنوعات الأدبية بمرض اللفظ والعناية بالمبنى دون المعنى والعرض دون

الجوهر [8] ؛ فكانت سخرية عجيبة لا مثل لها في تاريخ الإنسانية، هي أن الأدب

العربي منذ الإسلام لم يخرج للناس سوى كتاب عظيم واحد هو كتاب الإسلام نفسه

أي القرآن.

تلك هي العقلية العربية وهي المتسلطة على معظم شعرائنا حتى اليوم لا سيما

أفراد السلالة المنصرمة منهم، وتلك هي التي يحاول التجرد منها بعض شبابنا

كالشاعر أحمد رامي في ديوانه الثالث الذي نحن بصدده الآن.

(رامي شاعر نزَّاع إلى التجديد، توَّاق إلى استئصال جراثيم الثقافة العربية

من نفسه وكبح ما تولده من ولع بالصناعة اللفظية وانصياع لعواطف مفتعلة زائفة،

هو يروض إحساسه بالثقافة الفرنجية جهده كي تستضيء على نور عقله المستنير

أفاعيل وجدانه فيشرف على حالاته النفسانية إشراف الفنان الأوروبي الذي لا يقنع

من عواطفه بالشعور بها؛ بل هو يريد أن يفهم هذا الشعور ويحلله، يريد التمييز

بين عميقه وتافهه، بين جيده ورديئه، بين إنسانية العامة والخاصة، يريد أن ينفد

إلى باطن نفسه ما استطاع مستنبشًا أغوارها السحيقة النائية كيما يؤدي إحساسه

تأدية أمينة صحيحة لا كلفة فيه ولا غش.

رامي شاب يتدفق في شرايينه دم الصبا، وتغلي في فؤاده نزوات الفتوة وتسبق

العاطفة فيه العقل، وتتحكم في قلبه أعراض الشباب من طيش ورعونة ونزق وعدم

احتفال، وهو يدري ذلك جيدًا ولكنه لا يخشاه أو يحاول تشذيبه أو الفرار منه، إذ

هو يحس بسليقته الشعرية أن مستهبط وحيه هو هذا الشباب الأهوج الجموح، وأنه

لولا الشباب لما كان الشعر، وأن نقائصه المزعومة تلك هي في الحقيقة غذاء

الميول الأول والأخير.

لذلك هو يعب في شبابه حتى الشرق، تاركًا نفسه على سجيتها، مطلقًا

لشهواته العنان، مرسلاً أهواءه في يم الحياة حيث يعلم أن قلبه لا بد سيتحطم على

صخرة في النهاية ألمًا وحسرة. وهو عربيد كبير يستسلم كل الاستسلام لغرائزه

الدنيا ويذهب في الخضوع لها أقصى المذاهب كي يلمس عن كثب وجه الحياة كاملاً

من فرح وبؤس، وضحك وبكاء، وجحيم ونعيم، ولذة وألم.

يعيش رامي هذه العيشة غير العادية التي تذكرنا باللورد بيرون أو ألفريد

موسيه. يعيشها ويؤديها كما شاعت في نفسه واضطرمت بين جوانحه. لذلك هو شديد

الحاجة لعقل نير مدقق فاحص يحفظ به توازنه، ولذلك هو شديد الميل للاغتراف من

معين الثقافة الأوربية حتى يتمكن عقله من ملاحقة وجدانه في تدوين ما يجول به من

عواطف وشعور. وإليك مثال ذلك قطعة عنوانها (بين الشك واليقين) .

قد أحاطت بك العيون فما أسـ

ـطيع ألقى مكان عيني منك

وجرت حولك الأحاديث حتى

كدت أنسى الذي أحدث عنك

وأطافت بك القلوب وقلبي

ضاع في غمرها ولما يضعك

خبريني أي القلوب تناجيـ

... ـن فقد همت في غيابة شك

أي نفس سبرت غور هواها

وتحديت سرها بالهتك

فتنعمت كي تنيمي أساها

نومة الطفل بعد طول التشكي

وتبادلتما الهوى بعيون

تتلاقى بالغيب خوف التحكي

هي نفسي، قولي أقري شجاها

وأبيني عن سر نفسك تلك

أم نفوس حسبت فيها وفاء

وتوهمت حبها دون شرك

قدك وهما، لقد تغلغلت فيها

وتبينت ميلها للترك

فشجاني أني أحبك حبًّا

خالص الود في نعيم وضنك

وتيقنت أن ملكك قلبي

وتأكدت أن قلبك ملكي

هذه الوحدة الأساسية المترابطة بها أجزاء المقطوعة بحيث لا يمكن انتزاع أي

بيت منها دون أن يهوي البناء كله [9] أمر نادر للغاية عند شعرائنا، وهو الدليل

الحي على هجمة العاطفة المباغتة على الشاعر دفعة واحدة.

وإن ما يستهويني في رامي هو أنه شاعر له عروس شعر يستوضح على

نورها مفاتن الحياة، يحبها ويستوحيها فنه ويحب الحب فيها، ويحب نفسه عاشقًا لها

مضني بهذا العشق متشبثًا به في بلد متأخر نساؤه، مقصيات عن رجاله، لا يشعر

فيه الأديب الفنان شعورًا مباشرًا بما تحمل المرأة من سحر الأنوثة وكنوز الرحمة،

ورامي صادق في شعره صدقه في حبه، وهذا الصدق هو الذي يمتاز به عن

شعراء الشباب جميعًا، فمقاطيعه تتراءى فضاحة مخضبة بدم قلبه فيها كل هواه من

ولع وشك وغيرة وحسرة وعذاب كهذه مثلاً:

بين ذل الهوى وعزة نفسي

ضاع قلبي فما عرفت التأسي

وعزيز على الهوى أن أضيع الـ

ـقلب في الحب بين ظن وحدس

كلما قلت هين في هواها

ما ألاقي من وحشة بعد أنس

خفت أني أكون أعطيت قلبي

للذي باع حبه بيع بخس

وفؤادي أعز ما أقتنيه

في حياة أعيش منها بحسي

أو بعض هذه:

كان يغنيني إذا عز اللقاء

أننا ننشق من نفس الهواء

ويعزيني إذا طال المدى

بالتلاقي أن أظلتنا سماء

ثم وليت فلم ألق الذي

يبعث السلوى لنفسي والعزاء

يا هنيئًا لك ما تلقينه

من نعيم ومراح وصفاء

شارفي البحر وناغي موجه

وابعثي النشوة فيه بالغناء

وانضحي الجو بمنثور الشجى

واتركي الألحان تسري ما تشاء

ما لقلب فاقد توأمه

غير أن يبكي ويمضي في البكاء

ثم هو مغرم باقتناص شوارد عواطفه، وحبسها في مقطوعة صغيرة كما

يفعل شعراء الغرب بعد تحليلها حسب التدرج المنطقي في إحساسه بها كهذه [10]

هجرتك علني أسلو فأنسى

وأطوي صفحة العهد القديم

وعالجت التناسي فيك حتى

غدا من فرط ذكريه همومي

ذكرتك ناسيًا ونسيت أني

أريد البرء للقلب الكليم

وكنت أحاول النسيان جهدي

فصرت أحن للحب المقيم

ولرامي بعد إذ يكون قد أقلقه حبه، وعبث براحته وأمضه رغبة في افتقاد نفسه

والخلو بفكره واستجماع قواه للتحليق بها فوق العالم بعيداً عن الصغائر اليومية حيث

تخلص روحه من أدران الأرض، وتتطهر في سموات الله. وإليك بعض أبيات من

قصيدة رائعة أسماها (الوحدة) فهي أبدع ختام:

أنا إن عشت لا أعيش لنفسي

فمقامي استرواحة لظعين

إنما العيش روضة أنا فيها

زهرة لا تظل فوق الغصون

ضاع نشري فضاع في الجو لم ينـ

ـشقه إلا لوافح تذويني

بح صوتي في ضجة الناس لا أسـ

ـمع فيهم تناوحي وأنيني

فإذا ما خلوت أسمع في الوحـ

ـدة نفسي وأستجيش حنيني

وأراني وقد غنيت عن النا

س بنجوى خواطري وظنوني

خلت أني أعيش في عالم الأر

واح لا في سلالة من طين

والآن وقد أشرت إلى مكانة رامي عندنا من الشعر الصحيح أقول إن هذه كلمة

كان من واجبي أن أكتبها اعترافًا بمجهوده، غير أني لا أود أن يفهم البعض منها

أن في نيتي إقامة شعر (أحمد رامي) على صريح شاهق والإشادة به كعمل من

أعمال الإنسانية الخالدة، لا، ليس في هذا الشعر لا إبداع خارق ولا عبقرية ولكنه

أجود من أي شعر نسمعه من شباب مصر اليوم، ورامي أصدق من كثير من

شعرائنا المشهورين، وقد يأتي يوم وهو دون شك قريب تكتمل فيه قوى شاعرنا

الشاب فيتحرر تمام التحرر من أوزان الشعر العربي التقليدي وتفاعيله، وعندئذ

يخلق خلقه الخاص في إطار مبتكر طريق غير مقيد لا بالقافية العربية المتشابهة

العتيقة، ولا بالفكر العربي أيضًا.

...

...

...

... إبراهيم المصري

***

تعليق المنار

يصف الأدباء الدكتور طه حسين بالغرور ولكن غروره يعد تواضعًا تجاه

غرور مقلده إبراهيم المصري فهو يحكم على رامي وعلى سائر شعراء العصر قد

فضله عليهم ويحكم على أشعار الأمم والشعوب وعلومها حكم القاضي الجاهل الجائر

المغرور الذي يسوّل له غروره أن الأعناق كلها تخضع لحكمه، وأن الطبيعة تنفذه

ممتثلة لأوامره ونهيه، وأعجب أمره أن كل ما هجا به الأدب والشعر العربي

بالباطل يحق عليه في مقاله هذا فهو شعريات خيالية كاذبة فيما مدح وفيما ذم، وهو

مزجي البضاعة في اللغة العربية كما يعلم من أغلاطه ووضعه الكلم في غير

موضعه، وفاقد لذوق الشعر العربي الذي أعجب به كل من عرفه من جميع الأمم.

ما وصف به هذا المقرظ شعر العرب باطل لا يخفى بطلانه على أحد اطلع

على شعرهم قبل الإسلام وبعده، فإن كان له دليل يدل عليه، أو شواهد تشهد له،

ففي نظم بعض المولدين المتكفلين في القرون الوسطى إلى القرن الماضي، وسببه

ضعف اللغة العربية بضعف دولها أو زوالها وهو ما يسميه أهل النقد اليوم وقبل

اليوم نظمًا لا شعرًا.

كان بيني وبين مستر (متشل إنس) الإنكليزي الحر المستقل الفكر مسامرات

ومطارحات علمية وأدبية ودينية أيام كان بمصر يشغل منصب (وكيل وزارة

المالية) ذكرنا في بعض أسمارنا الشعر، فقال: إنه لا يظن أن الشعر العربي يسمو

إلى مكانه الشعر الإنكليزي، قلت: وأنا لا أظن أن الشعر الإنكليزي يرتقي إلى أوج

الشعر العربي في حكمه وسائر معانيه، ولكن ظني وظنك منتزعان من معرفة أحد

الشعرين فلا يصح أن يبني عليه حكم صحيح، وإنما الحكم الصحيح في هذا لمن أتقن

اللغتين، ومارس الشعرين.

ثم لقيت مستر (بلنت) المستشرق الإنكليزي الشهير وهو الذي نظم

المعلقات السبع بالإنكليزية، ومن أجدر منه بالحكم في هذه القضية؟ فذكرت له ما

دار بيني وبين مستر متشل إنس وطلبت حكمه فيه فقال:

قل لمتشل إنس: إن العرب كانت تنطق بالحكمة في شعرها عندما كان

الإنجليز دايرين عريانين في الغابات أهـ بحروفه.

وأقول الآن: إن الإنكليز هم أصحاب القدح المعلَّى بين الشعوب الأوربية في

الشعر وشاعرهم الأكبر (شكسبير) لا يفاخره مفاخر في شعب منها.

وأما شعر الإغريق الذي يفضله المجدد (إبراهيم المصري) على الشعر

العربي وينعى على العرب نبذهم له وترك الاقتباس من معانيه كما اقتبسوا من فنون

اليونان وفلسفتها. فقد كنا نجهله قبل أن يترجم لنا سليمان أفندي البستاني (الإلياذة)

نظمًا، وكنا لا نبيح لأنفسنا الحكم فيه فلما اطلعنا على (الإلياذة) وهي أعلى شعر

الإغريق ومفخرتهم التاريخية حكمنا بأن أجدادنا لم ينبذوا شعرهم وراء ظهورهم إلا

أنهم وجدوه دون الشعر العربي في حكمه وسائر معانيه، وأنه على ذلك مشوه

بالخرافات الوثنية التي طهر الله عقولهم ومخيلاتهم منها بالإسلام، وأن هذا كان

عن علم ومعرفة من خواص أدبائهم لا من باب من جهل شيئًا وعاداه.

هذا وإن شعر هوميروس أقدم شعر يذكر في التاريخ، وشكسبير أشعر شعراء

الإنكليز بل الإفرنج كافة قديم أيضًا فقد نظم شعره في القرن السادس عشر ومات

هو في 1616 م وذلك قبل ابتلاء أوربا بالثقافة المادية الشهوانية الجديدة التي

يدعو إليها الكاتب وأساتذته بحجة تفضيل الجديد على القديم.

يزعم المقرظ أن العرب لم يوجد عندهم كتاب إلا كتاب دينهم (القرآن)

ولا ندري أيقول هذا عن جهل بما عند العرب أم تبيح له دعاية الإلحاد وهدم

مقومات الأمة العربية الكذب كما هو شأن جميع دعاة السياسة ودعاة الزندقة.

إنما موضوع كلامه وكلامنا معه الشعر، فهل يدعى أن ديوان الحماسة

ودواوين المعري ولا سيما اللزوميات مصداق لما وصم به الشعر العربي (والعقلية

العربية) ؟ دع ما لا يحصى من كتب الأخلاق والأدب المتداولة كأدب الدنيا

والدين للماوردي والحكم لابن عطاء الله السكندري - وغير المتداولة وهي اكثر

وبعضها محفوظ في خزانات دور الكتب العامة والخاصة وأكثرها قضى عليه جهل

التتار المخربين في الشرق، وجهل الأسبان المتعصبين في الغرب.

أي عيب في الأوزان العربية حملته على جعلها رقا يجب أن يحرر الشاعر

نفسه منه؟ وأما القوافي فإن صح أنها قيد أو مدعاة ملل، فاللغة لا تقيده بشيء منها

وقد كسر المولدون من شعراء العربية في الأندلس وفي الشرق هذا القيد منذ قرون،

وزاد شعراء هذا العصر عليهم.

وأما علوم العرب وفنونهم وأستاذيتهم لأوربا فمبسوطة في كتب علمائها

المنصفين ومؤرخيها الاجتماعيين، كموسيو سيدليو والدكتور غوستاف لوبون

ومستر درابر وأمثالهم.

أعاذ الله الشاعر الفتى (أحمد رامي) بسلامة فطرته، وفضائل ملته،

ومقومات أمته، واستقلال فكره، من إغواء شياطين الزندقة والإلحاد، ودعاة

الإباحة المطلقة، أعداء أمتهم وملتهم، وخدمة المستعمرين المستعبدين لأقوامهم،

والمستبدين في مصالح أوطانهم، وعن تغريرهم لهم بلقب الشباب لحسبانهم أن

الشبان بغرارتهم وحبهم للتنقل والتجدد، وجرأتهم على الأحداث بطبيعة حداثتهم،

هم الذين يتبعون غوايتهم، ويؤلفون جند ضلالتهم، ويكونون في مصر ثقافة مادية

إباحية تذهب بصحة الأمة وثروتها وأعراضها ودينها فتكون طعمة للطاعمين

الطامعين.

وبهذه المناسبة نعيد ونكرر تحذير الأمة العربية في مصر وفي كل قطر من

دعاية جريدة السياسة الإلحادية ودعواها إمكان استغناء هذه الأمة عن

دينها وتشريعها وآدابها وتاريخها بما تسميه الثقافة الأوربية، فإن الأمة

العربية لا تحتاج إلى اقتباس شيء من أوربا إلا الفنون العملية التي ترتقي بها

الزراعة والصناعة والنظام المالي والعسكري. وكل ما عدا هذا من عادات وتقاليد

وتشريع وفلسفة مادية فهي مفسدة للأمة، لا لأن ما يصلح لأمة لا يصلح لأخرى بل

لأن فساد الآداب والعادات والأفكار المادية هي في أوربا موضوع شكوى

عقلائهم من جميع شعوبهم، ولأن هذه الشعوب أقوى من أمتنا احتمالاً لهذه المفاسد،

وإننا نرى من تأثير دعاية الإلحاد وفوضى الآداب هنا ما يشكو من سوء عاقبته جميع

العقلاء ولا سيما فُشُوّ إباحة الأعراض الذي هو مصيدة الشيطان للشبان؛ فهو هادم

لنظام البيوت (العائلات) وهدمها هدم للأمة فكيف يمكن معه تجديد شباب الأمة،

وملكها؟؟

_________

(1)

هذا هو الغرض الأول للجمعية، فالدين هو الخطر الأكبر عندها.

(2)

وبماذا يفضل هذا المقرظ هؤلاء الكتاب الإلحاديين الذين أشار إليهم وسماهم كتاب مصر على الشعراء الذين يعيبهم كما يعيب الفقهاء واللاهوتيين الذين يجعل علومهم ويجهل حاجة البشر وانتفاع أممهم بها كل أولئك أعلم منه وأفضل فلا حق له بجعل نفسه مرشداً لهم بمجرد تقليده لمجددي الإلحاد.

(3)

هذا وصف ذوقة الفاسد وذوقهم هو الصحيح.

(4)

إن جميع الفنون الرياضية والعقلية كالمنطق كذلك فهل عند المجددين ما هو أرقى منها؟ .

(5)

كل هذه الأقوال كاذبة وما هي سفاهة عدو للعرب.

(6)

إن هذا الإيجاب لأخذ الكذب والسفه قضايا مسلمة لا تحتاج إلى الدليل من أغرب الجهل والغرور.

(7)

وهذا كذب أيضاً ناشئ عن جهل وكراهة لما يريدون هدمه من بناء الأمة العربية الكريمة كما سيأتي وياليته يطلع على كتب سادته الإفرنج في تاريخ العرب وعلومهم وفنونهم.

(8)

وهذا كذب وجهل أيضاً.

(9)

هذا من سوء فهمه للشعر لجهله اللغة فلو انتزع البيت الثاني والثالث يبقى البناء قائمًا لا ينقض ويمكن انتزاع غيرهما أيضًا مع بقاء البناء قائمًا سليمًا.

(10)

ليس في هذه الأبيات معنى غريب عن الشعر العربي، ولكن المقرظ لا يعرفه أو يتعمد هجوه بالباطل.

ص: 387

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البابية البهائية في بلاد العرب

كان بلغنا أن الشيخ محمد الخراشي المصري سافر من مصر إلى العراق، ثم

كتب إلينا في أواخر العام الماضي (عام 1344هـ) أنه قصد الكويت فالبحرين

وأنه يجاهر بدعوة المسلمين إلى الديانة البهائية، فنحذر إخواننا مسلمي العرب

هنالك من هذا الداعية المضل فالواجب أن يفروا منه فرار السليم من الأجرب؛ لئلا

يفتن بعض الضعفاء عن دينهم أو يشككهم فيه، ولا يغرن أحدًا منه ادعاؤه للإسلام،

وما كان من انتسابه إلى الأزهر ومدرسة الدعوة والإرشاد، فهو قد تقلب وتذبذب،

وذهب مع أهوائه كل مذهب، حتى انتهى أمره إلى البهائية، وإن أدري أعقيدة

دينية أم مصلحة دنيوية؟ ثم لا يغرنهم مع ادعائه للإسلام ادعاؤه أن البهائية

إصلاح وتجديد له، وأن البهاء زعيم هذا الدين هو المهدي أو المسيح المبشر به،

فالحقيقة أن البهائية مشركون قد اتخذوا البهاء إلهًا يعبدونه، وهم يحرفون القرآن

والتوراة والإنجيل في مواضع يزعمون بتأويلاتهم الباطنية أنها تدل على هذه الديانة

وزعيمها البهاء. وليعلموا أن رجلاً مصريًّا اغتر بدعاية الخراشي وأمثاله فانتحل

البهائية وادعى أنها لا تنافي الإسلام، فحكمت إحدى المحاكم الشرعية -وقد رفع إليها

أمره- بارتداده وخروجه من الملة المحمدية وفرقت بينه وبين زوجه، ولعل هذا

الحكم هو سبب فرار الخراشي من مصر.

هذا وإن للبهاء كتابًا سماه الكتاب الأقدس زعم أنه عارض فيه القرآن الحكيم

المعجز للبشر إلى يوم الدين، ولكنه أودعه من الأنباء عن المستقبل ما أظهرت

الأيام كذبه وبطلانه، ولأجل هذا وغيره من مخازيهم أخفى زعماء البهائية نسخ هذا

الكتاب فلا يطلعون عليه أحدًا، وبلغنا أنهم مجتهدون في جمع كل ما طبع منه حتى

إذا ما تم لهم ذلك أحرقوا هذه النسخ كلها، وحذفوا منه كل ما ظهر بطلانه، وما

يحتمل ظهور بطلانه في المستقبل، ثم يزيدون فيه بعض المسائل الجديدة المقبولة

في عالم المدنية ويطبعونه وينشرونه، ويدعون أن البهاء هو الذي قال بها كما كان

يفعل ولده عباس أفندي الملقب بعبد البهاء، وكان وهو المنقح المشذب المنظم لهذا

الدين، المتصرف فيه بما تقتضيه شؤون العالم الحديثة.

كنا أول من صرح في مصر بأن البهائية دين جديد بني على أساس نحل

الباطنية، وكان داعيتهم الوحيد أبو الفضل الجوزقاني يأبى التصريح بذلك بل ينكره

أمام جمهور الناس، كما أن خليفة البهاء ولده و (عبده) عباس أفندي كان ينكر

ذلك ويصرح في القطر المصري بأنه مسلم سني، ولكنهم يصرحون بذلك لمن

يضلونه بعد أن يثقوا بأنه ثابت على دينهم، كما كان سلفهم من الباطنية الأولين

يفعلون.

بل قد صرح عباس نفسه بأن دينهم جديد فيما كتبه إلى جمعية لاهاي، ففي أول

ص 16 من ترجمة كتابه هذا بالعربية التي نشرها أحد دعاتهم بمصر وهو الشيخ

فرج الله زكي الكردي ما نصه:

(فالجميع يجدون في تعاليم بهاء الله منتهى آمالهم ورغائبهم، فمثلاً يجد أهل

الأديان في تعاليم بهاء الله تأسيس دين عمومي في غاية الموافقة للحالة

الحاضرة) .. . إلخ

فالبهائية شر من (الأحمدية) القاديانية؛ لأنهم اتخذوا زعيمهم (غلام أحمد

القادياني) نبيًّا ومسيحًا لا إلهًا ولم ينسخوا من الشرعية المحمدية إلا أحكامًا قليلة

كالجهاد وما يتعلق به دهانًا للإنكليز، كلهم أعداء للإسلام كافرون به مضلون لأهله.

_________

ص: 399

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عودتنا من الحجاز

قد منَّ الله تعالى علينا وله الفضل والمنة بأداء مناسك الحج والعمرة مرة ثانية في

الموسم الأخير (سنة 1344 هـ) وبحضور المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد بمكة

المكرمة في شهري ذي القعدة، وذي الحجة، وبلقاء زعيم الإسلام والعرب في هذا

العصر عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها ومذاكرته في شؤون

الإصلاح الإسلامي وترقية الأمة العربية بما تقتضيه حال العصر فألفيناه ولله الحمد

فوق ما كنا نظن فيه من الهدى والعقل، وجودة الرأي، وعلو الهمة، ونبشر الأمة

بأنه لم يقع بيننا وبينه خلاف في الرأي البتة، ورأينا معروف لدى قراء المنار وكثير

من غيرهم، وإننا سنكتب رحلة ثانية للحجاز نبين فيه ما نرى ما فيه الفائدة مما

استفدناه من هذه الرحلة.

وقد مَنَّ الله علينا بالعودة إلى مصر فوصلنا إلى القاهرة في ليلة 20 المحرم من

هذا العام الجديد جعله الله تعالى عام إصلاح وتجديد.

_________

ص: 400

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة عن الجمعة والتوسل والذكر

وابن تيمية وكتبه مع أجوبتها

(س 4 - 9) من معمل السكر في الحوامدية

من محمد أحمد عبد السلام إلى فضيلة مولانا الأكبر محيي السنة ومميت البدعة

معدن الأسرار الربانية وخزائن العلوم الاصطفائية، ووارث الحضرة النبوية، شيخ

الإسلام والمسلمين، وإمام أئمة وقته أجمعين [1] الفاضل السيد محمد رشيد رضا

صاحب مجلة المنار حرسه الله تعالى وفسح في مدته ونفع به المسلمين آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فالرجا إفادتي عن الآتي ذكره ولك الفضل والشكر والمنة.

***

شروط مكان الجمعة

وعدد جماعتها وتقليد الظاهرية فيه

(س 1، 2) هل صلاة الجمعة تصح داخل المعمل المشهور بفابريقة السكر

عند السادة الشافعية، مع العلم يا سيدي بأن الفابريقة المذكورة في وسط أبنية، فمن

الجانب الأيمن عزبة بناؤها ملصوق ببناء سور الفابريقة، ومن الجانب الأيسر

عزبتان بين الأولى والسور مسيرة دقيقتين وربع، وبين الثانية والسور مسيرة

خمس أو ست دقائق، وبين الجانب الغربي عزبة بينها وبين السور مسيرة دقيقة أو

دقيقة ونصف والعمال مضطرون لأداء الجمعة بالفابريقة من وجهين (الأول) أن

ترك الجمعة كبيرة (الثاني) أنهم لا يمكنهم الخروج لأدائها بالمسجد، وعليه فهل

تصح الجمعة على هذا التفصيل بالفابريقة أم لا؟ وهل يجوز أن يقلدوا قول داود وابن

حزم بأن الجمعة كسائر الصلوات تصح ولو برجل وامرأة لا فرق بين فلاة

وبلد أم لا؟

(ج) شروط مذهب الشافعي في مكان الجمعة أن تكون أبنية فيها جمع تصح

به الجمعة وهو أربعون رجلاً مقيمًا بشروطهم المشهورة في المذهب أو يبلغهم

صوت مؤذن عال في هدو من طرف بلد آخر يليهم، فإذا كانت المباني المتصلة

بمعمل السكر تحوي من أهل الجمعة الذين تنعقد بهم أربعين رجلاً وجبت عليهم

وصحت منهم.

والواجب في الأحكام الاجتهادية أن يعمل كل مكلف بما قام عنده الدليل عليه

منها، فإن عجز عن معرفة الدليل قلد من وثق بعلمه ودينه من أهل الاستدلال

الأحياء أو الأموات. وداود بن علي وعلي بن حزم من أئمة الظاهرية منهم، وما

روي عن الظاهرية من أن صلاة الجمعة كصلاة الجماعة تصح من اثنين فأكثر

رواه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري عنهم وعن النخعي عن أئمة التابعين

والحسن بن يحيى. ويقرب منهم قول أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة

باشتراط اثنين مع الإمام، وقول أبي حنيفة باشتراط ثلاثة مع الإمام، وقال بهذين

القولين آخرون من المجتهدين، ولكن الحنفية يشترطون إقامة الجمعة في مصر تقام

فيه الأحكام الشرعية. والتحقيق أنه لم يثبت في عدد الجمعة حديث، ولذلك قال

هؤلاء بأن جماعتها كسائر الجماعات.

***

حكم أكل عمال معمل السكر

منه وركوب مركبات الترام

(س 3) هل يجوز لعمال معمل السكر أن يأكلوا من سكره شيئًا أم لا؟ وهل

الركوب في مثل الترام والسكة الحديد جائز أم لا؟ مع العلم بأن أكل الآكل أو

ركوبه لا يضر المصلحة بشيء، وأصحابهم كفار، أفيدوا هل ذلك حرام أم

حلال؟ .

(ج) هذه المسألة يُعمل فيها بالعرف؛ فإذا كان المعهود المعروف عند

أصحاب المعمل أن العمال يأكلون منه ويرضون بذلك فلا هم ينهون العمال ولا

العمال يأكلون في حال غيبتهم دون مشهدهم لاعتقادهم أنهم يسمحون لهم بالأكل -

فأكلهم منه حلال وكذلك ركوب مركباته إذا كان معروفًا بلا نكير، ولم يكن من نظام

إدارة المعمل أخذ أجرة منهم على ذلك فلا يحرم ركوبها. فالعرف هو المحكم في

المسألتين والعمدة فيه اعتقاد العامل أنه غير سارق ولا متصرف في متاع غيره

بدون رضاه، هذا إذا كانت مركبات الترام أو السكة للشركة التي يقوم العمال

بشؤونها؛ وإلا فلا شك في عدم رضا أي شركة بركوب الغريب في مركباتها بدون

رضاها، ولا فرق في هذه الأحكام بين المؤمن والكافر، وإنما الفرق بين دار

الإسلام ودار الحرب فأهل دار الحرب الذين لا يلتزمون من أحكام شريعتنا لا يجب

علينا التزام أحكامها في أكل أموالهم برضاهم وإنما يحرم علينا أكلها

بالخيانة والسرقة.

وليعلم أن قول السائل إن أصحاب الشركة كفار أنهم غير مسلمين كما هو

الاصطلاح الشرعي وليس المراد به الإهانة.

***

التوسل بالأنبياء والصالحين

(س 4) هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الأنبياء أو

الصحابة أو الأولياء، ولو قيل بالجواز أو عدمه فهل من دليل؟ وما رأي

فضيلتكم في رواية البخاري (اللهم بحق ممشاي وبحق الصالحين عليك) وهذا يفيد

جواز التوسل، وما قولكم في حديث (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم)

هل صحيح أو حسن أو ضعيف أو مكذوب وأين أجده في كتب المحدثين؟ أفتونا

وابسطوا لنا القول؛ حيث إن بلدتنا بخصوص ذلك قامت على ساق ولم نرض ولم

يطمئن قلبنا إلا بفصل قضائك بيننا جعلكم اللهم ملجأ للحائرين.

المعروف عند عامة أهل عصرنا من معنى التوسل أن يعتمد المرء في قضاء

حاجاته من جلب نفع أو كشف ضر أو نجاة في الآخرة من عذاب الله أو فوز بنعيم

الجنة على أشخاص الأنبياء والصالحين وسؤالهم ذلك، أو سؤال الله تعالى

بأشخاصهم أن يعطيه إياه، دون العمل بما جاء به الرسل عن الله من علم اعتقادي

وعمل صالح وهو ما كان الصالحون صالحين باتباعهم فيه.

وهذا التوسل مخالف لأصول الإسلام وهداية القرآن، وجار على قواعد

الوثنية، وتعاليم النصرانية الكاثوليكية، فإن قاعدة الإسلام أن النجاة في الآخرة

وسعادتها ينالان باتباع الرسل فيما جاءوا به من الإيمان، وعبادة الله تعالى وحده بما

شرعه، لا بوجود أشخاصهم، ولا بدعائهم وسؤالهم، والتوسل هو التقرب ولا

يتقرب إلى الله تعالى إلا بما شرعه على لسان رسوله لأنه هو الذي تتزكى به النفس

وتصير أهلاً لرضوان الله تعالى.

قال الله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس:9-10)

وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} (الأعلى: 14) وقال بعد ذكر دخول الجنة: {وَذَلِكَ

جَزَاءُ مَن تَزَكَّى} (طه: 76) وقال: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم:

39) وأشخاص الأنبياء والصالحين ليست من سعيه ووجودهم لا يزكيه ولا يهدي

باتباعهم قال الله تعالى في صفة من كتب لهم رحمته: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ

الأُمِّيَّ} (الأعراف: 157) إلخ ثم قال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ

الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158) وقد ثبت

أن وجود بعض المرسلين لم يكن سببًا لهداية بعض أبنائهم وآبائهم وأزواجهم ولا

لنجاتهم من العذاب الذي عوقب به من كفر بهم كولد نوح ووالد إبراهيم وامرأة لوط

عليهم السلام.

والآيات المصرحة بأن دخول الجنة والنجاة من النار بالإيمان والأعمال كثيرة

جدًّا لا نحتاج إلى التذكير بها.

وأما مقاصد الدنيا فهي منوطة باتخاذ ما سخر الله للناس من أسبابها كأسباب

الرزق من زراعة وصناعة وتجارة وأسباب شفاء الأمراض من أدوية وأعمال

جراحة وأسباب النصر على الأعداء من نظام وإعداد ما يستطاع من قوة، وكل ما

يعجز الإنسان عن تحصيله من طريق الأسباب فلا يجوز له أن يدعو غير الله تعالى

فيه.

وأما الاعتماد في تحصيل ما وراء الأسباب من رغائب أو رفع مضار، وفي

النجاة من النار ودخول الجنة على وجود الصالحين وتوسطهم عند الله تعالى بمجرد

طلب ذلك منهم فهي قاعدة الديانات الوثنية كما تقدم. وقد قال تعالى في صفة يوم

القيامة {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 19) وأمر

خاتم رسله أن يقول لأمته: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلَا رَشَداً} (الجن: 21)

أي ضرًّا ولا نفعًا ولا رشدًا ولا غيره - اقرأ ما بعدها أيضًا وفي معناها آيات.

وجملة القول أن التوسل هو التقرب وإنما يتقرب إلى الله تعالى بما شرعه

على ألسنة رسله لا بأشخاصهم، وباتباع الصالحين في ذلك لا بذواتهم وأن غير

ذلك غير مشروع ومنه ما هو شرك بالله كدعاء غيره بما لا يدعى به غيره كما

فصلناه مرارًا ومنه ما هو ذريعة إلى الشرك، ومنه ما هو معصية.

وما ذكره السائل من عزو: (اللهم بحق ممشاي إليك وبحث الصالحين عليك)

إلى صحيح البخاري خطأ فهو ليس من رواية البخاري كما قال، وإنما روى أحمد

عن أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم علم الخارج إلى الصلاة أن يقول في

دعائه: (وأسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرًا، ولا

بطرًا، ولا رياء، ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك) وهو

من طريق عطية العوفي وقد ضعفه أحمد والجمهور؛ وقالوا: كان مُدلِّسًا وشر تدليسه

ما حكاه ابن حبان في الضعفاء من كونه يأتي محمد بن السائب الكلبي المفسر

الكذاب فيأخذ عنه الأحاديث ويرويها، فإذا قيل له: من حدثك بهذا؟ يقول: أبو سعيد،

فيوهم السامع أنه سمعه من أبي سعيد الخدري الصحابي رضي الله عنه إذ كان قد

لقيه وروى عنه، وإنما تأول هذا التدليس واستحله بتلقيبه الكلبي بأبي سعيد على أن

معنى الدعاء المذكور لو صح لا يدل على التوسل بالأشخاص، فإن حق السائلين

على الله تعالى أن يستجيب دعاءهم كما وعد بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ

لَكُمْ} (غافر: 60) فكأنه يقول: أسألك بوعدك الحق أن تستجيب دعائي، وحق

الصالحين عليه أن يثيبهم على صلاحهم كما وعد في آيات كثيرة ومنه توسله بممشاه

إلى الصلاة بالصفة التي ذكرها فهو توسل بعمل صالح من أعماله لا بشخص عامل

آخر.

***

حديث التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم

هذا الحديث موضوع لا أصل له ولا يمكن أن تجدوه في شيء من دواوين

السنة لا الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ويذكر بلفظ (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي

فإن جاهي عند الله عظيم) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة

وغيره: هذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل

الحديث ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث مع أن جاهه أعظم من جاه جميع

الأنبياء والمرسلين.. إلخ، إلى أن قال: ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه

المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه

إلخ وقد بينَّا هذا من

قبل في المنار مفصلاً.

***

ذكر النبي وأصحابه لله تعالى

وأذكار أهل الطريق

(س 5) ما كيفية الذكر الذي كان يذكره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

هل كانوا يتمايلون كما عليه أهل الطريق الآن أم لا؟ وهل سير أهل الطريق

موافق لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم؟

ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم

يرقصون عند الذكر ولا يتمايلون ولا يصيحون، والأذكار المأثورة عنه - صلى الله

عليه وسلم - مدونة في كتب السنة، ومن أجمع الكتب لها كتاب الأذكار للإمام

النووي رحمه الله، وقد فصلنا القول في هذا مرارًا وتجدون في باب التقريظ كلامًا

لبعض كبار علماء الأزهر فيه.

***

شيخ الإسلام ابن تيمية وكتبه

(س 6) ما قول فضيلتكم في شيخ الإسلام ابن تيمية: هل هو ممن يؤخذ

كلامه ويطلع على كتبه أو كما يقوله ويدعيه عليه اللئام؟ وما الموجود من

مؤلفاته؟ أهـ

وأنا أرفع طرفي إلى السماء وأبسط أكف الضراعة إلى الله تعالى في رد هذا

الجواب وإفادتي وأهل بلدي عما في ذلك الخطاب: نفعنا الله بكم والمسلمين.

...

...

...

...

كثير الآثام

...

...

...

... محمد أحمد عبد السلام

...

...

...

موظف بفابريقة السكر بالحوامدية

(ج) الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية من أفراد أعلام هذه الملة، وأعظم

أنصار السنة، وقد شهد له المنصفون من علماء عصره ومن بعدهم بالاجتهاد

المطلق ولقبوه شيخ الإسلام، وكتبه من أفضل كتب علماء الإسلام، وقد انتشرت

ولله الحمد في هذا الزمان، فطهّرت عقول خلق كثير من البدع والخرافات والشرك

الجلي والخفي، وقد سبق لنا التنويه به وبكتبه في باب الفتوى وغيره، وقد ألف

بعض كبار العلماء في مناقبه كتابًا سماه (الرد الوافر) فعليكم به وبكتاب التوسل

والوسيلة وغيره من كتبه، والكتاب المذكور قد فصل فيه كل ما يتعلق بمسألة

التوسل، وما ورد فيها مما يشتبه على بعض الناس كتوسل الصحابة بالعباس رضي

الله عنه في الاستسقاء وبيان كونه توسلاً بصلاته ودعائه لا بشخصه وإلا لتوسلوا

بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يقولوا ما قالوا - وصفحاته 155 بقطع المنار

وقد طبعناه ثلاث مرات، وله كتب كثيرة من المطبوع منها منهاج السنة وفي

حاشيته العقل والنقل ويدخلان في أربعة أجزاء، ومنها مجموعة الفتاوى في خمسة

مجلدات ومنها مجموعتان من كتبه ورسائله، ومجموعة جديدة من رسائله

وفتاويه ثم طبعها عندنا هذه الأيام، ومنها كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة

أصحاب الجحيم)

إلخ.

***

حكم فتاة تدعو إلى مخالفة القرآن

وتنكر بعض أحكامه

(س 10) من حضرة صاحب الإمضاء في طنطا (ورد في العام الماضي)

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد رشيد رضا صاحب

المنار.

أُحيي فضيلتكم وبعد: دفاعكم عن الدين الإسلامي شجعني على سؤالي هذا

وردكم على منتقديه يبشر بنشر جوابه إما على صفحات الجرائد أو في مجلة المنار

ما رأي فضيلتكم في آنسة مسلمة تحرض النساء المسلمات على خروجهن

عاريات الوجوه يسرن في الطرقات والأسواق أمام غير المحارم وتحثهن على

التبرج والزينة لغير أزواجهن وآبائهن

إلخ، وما ورد في آية النور التي أولها

] وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ

إلخ [ (النور: 31) وتقول الآنسة المشار إليها: إن الشرع

الإسلامي مُجحف بحقوق المرأة خصوصًا في مسألة الميراث وتبيح لنفسها شرعًا

جديدًا ملائمًا لرأيها تنادي فيه بتسوية المرأة بالرجل في الميراث؟ أفيدونا يا

صاحب الفضيلة على صفحات الجرائد أو في مجلة المنار وإني لا أضن على

فضيلتكم بنشر نفس سؤالي قبل الجواب.

وتفضلوا يا صاحب الفضيلة بقبول عظيم إجلال.

...

...

...

...

... المخلص

...

...

...

... سيد إبراهيم محجوب

...

...

...

سكرتير مدرسة المعلمين بطنطا

(ج) رأيي، بل حكم الله في الآنسة المسئول عنها والموصوفة بأنها

مسلمة أنها غير مسلمة، فإن المسلمة هي المؤمنة المذعنة قلبًا وقالبًا لكل ما جاء

به خاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليه من أمر الدين، وإذا جاز أن يعصي

المسلم ربه بعمل من الأعمال، لا يلبث أن يندم ويتوب منه فلا يجوز عقلاً أن

يصدر من مسلم إسناد الظلم والاجحاف إلى كتاب الله تعالى وتشريع ما يخالف نصًّا

قطعيًّا فيه وهو يعلم أنه فيه كمسألة الإرث المذكورة في السؤال، فإذا كانت هذه

الآنسة ولدت من أبوين مسلمين ونشأت بين المسلمين ثم طرأت عليها هذه الضلالات،

فالحكم فيها أنها قد ارتدت عن الإسلام قطعًا بإجماع المسلمين، وأنه لا يحل لمسلم

أن يتزوج بها ولا ترث أبويها ولا غيرهم من ذوي القربى المسلمين ولا يرثونها.

هذا حكم الإسلام القطعي، وسيقول الملاحدة من أمثالها: إن ما قالته من جور

أحكام القرآن في تفضيل الذكر على الأنثى في الإرث واستحسان إبطالها رأي من

الآراء لا ينافي الإسلام ولا يقتضي الكفر به كما قالوا في كتاب الشيخ علي عبد

الرازق وغيره، وهذا الإسلام الجغرافي الذي يذكرونه هو غير إسلام القرآن والسنة،

وقد وصفهم في هذه الأيام واحد منهم بأنهم يوَدّون وجود اختراع جديد ينسف به

بيت الله تعالى الذي فرض علينا استقباله والحج إليه وهدم مكة كلها من حوله؛ لأنه

وجد في الحجاز من أهان الوثن الذي يسمى بالمحمل المصري، ويدعي صاحب

هذا القول أنه مسلم وأن صاحب المنار لو ناظره في الإسلام لرجع خاسرًا صفقته

ولم يربح شيئًا، فهذه الآنسة تعد عند هؤلاء من خيار المسلمين.

ذلك بأن الدين عند هؤلاء الناس لقب وراثي سياسي وضرب من روابط

الجنسية، وإن دين كل قوم ما هم عليه، فبدعة المحمل وبدعة الموالد وعبادة القبور

وبدع الأكل والشرب والفسق في المقابر تعد عندهم من ديانة المصريين، ومن

يخالفهم فيها كأهل نجد يعد مخالفًا لهم في الدين، ويقترح بعضهم قتاله؛ لأنه مخالف

لدين المصريين.

والأمر العجيب أن الملاحدة الذين يقدحون في الإسلام بزعمهم أنه دين

خرافات كغيره من الأديان الشركية يتعصبون في هذه الأيام للخرافات التي فشت في

عوام المصريين باسم الوطنية، ويطعنون في الوهابية التي تنكر هذه الخرافات

وتزيل منكراتها التي ثبت أنها مخالفة لنصوص الإسلام القطعية.

_________

(1)

إننا نشهد الله بأننا لا نرى نفسنا أهلاً لهذه الألقاب وإنما نثبتها للأسباب التي بيناها من قبل، ومنها أمانة النقل، ونرجو أن لا يعود هو ولا غيره إلى ذكرها.

ص: 419

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان وغير ذلك

لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

(المقام الأول) أن من سافر مثل سفر أهل مكة إلى عرفات يقصر، وأما إذا

قيل ليست محدودة بالمسافة بل الاعتبار بما هو سفر؛ فمن سافر ما يسمى سفرًا

قصر وإلا فلا.

وقد يركب الرجل فرسخًا يخرج به لكشف أمر، وتكون المسافة أميالاً ويرجع

في ساعة أو ساعتين ولا يسمى مسافرًا، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة

مسافرًا بأن يسير على الإبل والأقدام سيرًا لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه،

والدليل على ذلك من وجوه:

(أحدها) إنه قد ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء أهل الحديث أن

النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة

وفي أيام منى، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، وكان يصلي خلفهم أهل مكة ولم يأمروهم

بإتمام الصلاة ولا نقل أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أن النبي - صلى الله عليه

وسلم - قال لأهل مكة لما صلى بالمسلمين ببطن عرنة الظهر ركعتين قصرًا وجمعًا

ثم العصر ركعتين: يا أهل مكة أتموا صلاتكم ولا أمرهم بتأخير صلاة العصر

ولا نقل أحد أن أحدًا من الحجيج لا أهل مكة ولا غيرهم صلى خلف النبي - صلى

الله عليه وسلم - خلاف ما صلى بجمهور المسلمين أو نُقل أن النبي صلى الله عليه

وسلم أو عمر قال بهذا اليوم (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) فقد غلط،

وإنما نُقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في جوف مكة لأهل مكة عام الفتح

وقد ثبت أن عمر بن الخطاب [1] لأهل مكة لما صلى في جوف مكة، ومن المعلوم

أنه لو كان أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعًا وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وبمنى أيام

منى لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة بل لو أخروا

صلاة العصر، ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوها قصرًا لنقل ذلك، فكيف إذا أتموا

الظهر أربعًا دون سائر المسلمين؟ وأيضًا فإنهم إذا أخذوا في إتمام العصر والنبي -

صلى الله عليه وسلم قد شرع في الظهر لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام وإما

أن يفوتهم معه بعض العصر بل أكثرها فكيف إذا كانوا يتمون الصلوات؟ وهذا

حجة على كل أحد وهو على من يقول إن أهل مكة جمعوا معه الظهر، وذلك أن

العلماء تنازعوا في أهل مكة، هل يقصرون ويجمعون بعرفة؟ على ثلاثة أقوال فقيل

لا يقصرون ولا يجمعون وهذا هو المشهور عند أصحاب الشافعي وطائفة من

أصحاب أحمد، كالقاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول لاعتقادهم أن ذلك معلق

بالسفر الطويل وهذا قصير.

(والثاني) أنهم يجمعون ولا يقصرون وهذا مذهب أبي حنيفة وطائفة من

أصحاب أحمد، ومن أصحاب الشافعي والمنقولات عن أحمد توافق هذا فإنه أجاب في

غير موضع بأنهم لا يقصرون ولم يقل لا يجمعون وهذا هو الذي رجحه أبو محمد

المقدسي في الجمع وأحسن في ذلك.

(والثالث) أنهم يجمعون ويقصرون وهذا مذهب مالك وإسحاق بن راهويه،

وهو قول طاوس وابن عيينة وغيرهما من السلف، وقول طائفة من أصحاب أحمد

والشافعي كأبي الخطاب في العبادات الخمس وهو الذي رجحه أبو محمد المقدسي

وغيره من أصحاب أحمد فإن أبا محمد وموافقيه رجحوا الجمع للمكي بعرفة.

وأما القصر فقال أبو محمد: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن

ينعقد الإجماع على خلافه، والمعلوم أن الإجماع لم ينعقد على خلافه، وهو اختيار

طائفة من علماء أصحاب أحمد كان بعضهم يقصر الصلاة في مسيرة بريد وهذا هو

الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لمن تبين السنة وتدبرها، فإن من تأمل

الأحاديث في حجة الوداع وسياقها علم علمًا يقينًا أن الذين كانوا مع النبي - صلى

الله عليه وسلم - من أهل مكة وغيرهم صلوا بصلاته قصرًا وجمعًا ولم يفعلوا

خلاف ذلك ولم ينقل أحد قط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا بعرفة

ولا مزدلفة ولا منى (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وإنما نقل أنه قال

ذلك في نفس مكة كما رواه أهل السنن عنه، وقوله ذلك في داخل مكة دون عرفة

ومزدلفة ومِنى دليل على الفرق، وقد روي من جهة أهل العراق عن عمر أنه كان

يقول بِمِنى: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وليس له إسناد.

وإذا ثبت ذلك فالجمع بين الصلاتين قد يقال: إنه لأجل النسك كما تقوله الحنفية

وطائفة من أصحاب أحمد وهو مقتضى نصه فإنه يمنع المكي من القصر بعرفة ولم

يمنعه من الجمع، وقال في جمع المسافر: إنه يجمع في الطويل كالقصر عنده،

وإذا قيل لأجل النسك ففيه قولان: أحدهما لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة كما تقوله

الحنفية، والثاني أنه يجمع لغير ذلك من الأسباب المقتضية للجمع وإن لم يكن سفرًا

وهو مذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وقد يقال؛ لأن ذلك سفر قصير وهو يجوز

الجمع في السفر القصير كما قال هذا، وهذا بعض الفقهاء من أصحاب مالك

والشافعي وأحمد، فإن الجمع لا يختص بالسفر والنبي صلى الله عليه وسلم لم

يجمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة، ولم يجمع بمنى ولا في ذهابه وإيابه ولكن جمع

قبل ذلك في غزوة تبوك. والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد السفر كما قصر

للسفر؛ بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النزول ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة وكان

جمع عرفة لأجل العبادة وجمع مزدلفة؛ لأجل السير الذي جد فيه وهو سيره إلى

مزدلفة، وكذلك كان يصنع في سفره، كان إذا جد به السير أخر الأولى إلى وقت

الثانية، ثم ينزل فيصليهما جميعًا كما فعل بمزدلفة وليس في شريعته ما هو خارج

عن القياس بل الجمع الذي جمعه هناك يشرع أن يفعل نظيره كما يقوله الأكثرون

ولكن أبو حنيفة يقول: هو خارج عن القياس وقد علم أن تخصيص العلة إذا لم تكن

لفوات شرط أو وجود مانع دل على فسادها، وليس فيما جاء من عند الله اختلاف ولا

تناقض؛ بل حكم الشيء حكم مثله والحكم إذا ثبت بعلة ثبت بنظيرها.

وأما القصر فلا ريب أنه من خصائص السفر ولا تعلق له بالنسك ولا مسوّغ

لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها، إلا أنهم بسفر وعرفة عن المسجد بريد كما ذكره

الذين مسحوا ذلك، وذكره الأزرقي في أخبار مكة، فهذا قصر في سفر قدره

بريد، وهم لما رجعوا إلى منى كانوا في الرجوع من السفر وإنما كان غاية قصدهم

بريدًا، وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك

من بلادهم والله لم يرخص في الصلاة ركعتين إلا لمسافر؛ فعلم أنهم كانوا

مسافرين والمقيم إذا اقتدى بمسافر فإنه يصلي أربعًا كما قال النبي - صلى الله عليه

وسلم - لأهل مكة في مكة (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وهذا مذهب الأئمة

الأربعة وغيرهم من العلماء، ولكن في مذهب مالك نزاع.

(الدليل الثاني) أنه قد نهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم أو زوج تارة

يقدر، وتارة يطلق، وأقل ما روي في التقدير بريد؛ فدل ذلك على أن البريد يكون

سفرًا، كما أن الثلاثة أيام تكون سفرًا واليومين تكون سفرًا، واليوم يكون سفرًا،

هذه الأحاديث ليس لها مفهوم؛ بل نهى عن هذا وهذا وهذا.

(الدليل الثالث) أن السفر لم يحده الشارع، وليس له حد في اللغة، فرجع

فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه؛ فما كان عندهم سفرًا فهو سفر، والمسافر يريد

أن يذهب إلى مقصده ويعود إلى وطنه، وأقل ذلك مرحلة يذهب في نصفها ويرجع

في نصفها، وهذا هو البريد وقد حدوا بهذه المسافة الشهادة على الشهادة، وكتاب

القاضي إلى القاضي، والعدو على الخصم، والحضانة وغير ذلك مما هو معروف

في موضعه.

وهو أحد القولين في مذهب أحمد فلو كانت المسافة محددة لكان حدها بالبريد

أجود؛ لكن الصواب أن السفر ليس محددًا بمسافة بل يختلف فيكون مسافرًا في

مسافة بريد وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافرًا.

(الدليل الرابع) أن المسافر رخص الله له أن يفطر في رمضان، وأقل

الفطر يوم، ومسافة البريد يذهب إليها ويرجع في يوم فيحتاج إلى الفطر في شهر

رمضان ويحتاج أن يقصر الصلاة بخلاف ما دون ذلك؛ فإنه قد لا يحتاج فيه إلى

قصر ولا فطر إذا سافر أول النهار ورجع قبل الزوال؛ وإذا كان غدوه يومًا

ورواحه يومًا فإنه يحتاج إلى القصر والفطر، وهذا قد يقتضي أنه قد يرخص له

أن يقصر ويفطر في بريد، وإن كان قد لا يرخص له في أكثر منه إذا لم يعد

مسافرًا.

(الدليل الخامس) أنه ليس تحديد من حد المسافة بثلاثة أيام بأولى ممن

حدها بيومين، ولا اليومان بأولى من يوم، فوجب أن لا يكون لها حد؛ بل كل ما

يسمى سفرًا يشرع، وقد ثبت بالسنة القصر في مسافة بريد فعلم أن في الأسفار ما

قد يكون بريدًا، وأدنى ما يسمى سفرًا في كلام الشارع البريد.

وأما ما دون البريد كالميل فقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله

عليه وسلم - أنه كان يأتي قباء كل سبت، وكان يأتيه راكبًا وماشيًا، ولا ريب أن

أهل قباء وغيرهم من أهل العوالي كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم

بالمدينة ولم يقصر الصلاة هو ولا هم.

وقد كانوا يأتون الجمعة من نحو ميل وفرسخ ولا يقصرون الصلاة والجمعة

على من سمع النداء والنداء قد يسمع من فرسخ وليس كل من وجبت عليه الجمعة

أبيح له القصر، والعوالي بعضها من المدينة، وإن كان اسم المدينة يتناول جميع

المساكن كما قال الله تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ

مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (التوبة: 101) وقال {مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ

الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ} (التوبة: 120) .

وأما ما نقل عن ابن عمر فينظر فيه هل هو ثابت (أم لا) فإن ثبت فالرواية

عنه مختلفة، وقد خالفه غيره من الصحابة، ولعله أراد إذا قطعت من المسافة ميلاً

فلا ريب أن قباء من المدينة أكثر من ميل، وما كان ابن عمر ولا غيره يقصرون

الصلاة إذا ذهبوا إلى قباء فقصر أهل مكة الصلاة بعرفة وعدم قصر أهل المدينة

الصلاة إلى قباء ونحوها مما حول المدينة دليل على الفرق والله أعلم.

والصلاة على الراحلة إذا كانت مختصة بالسفر فلا تفعل إلا فيما يسمى سفرًا

ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في خروجه إلى

مسجد قباء مع أنه كان يذهب إليه راكبًا وماشيًا، ولا كان المسلمون الداخلون من

العوالي يفعلون ذلك، وهذا لأن هذه المسافة قريبة كالمسافة في المصر، واسم

المدينة يتناول المساكن كلها؛ فلم يكن هناك إلا أهل المدينة والأعراب كما دل عليه

القرآن فمن لم يكن من الأعراب كان من أهل المدينة، وحينئذ فيكون مسيره إلى قباء

كأنه في المدينة فلو سوغ ذلك سوغت الصلاة في المصر على الراحلة وإلا فلا

فرق بينهما.

والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان يصلي بأصحابه جمعًا وقصرًا لم يكن

يأمر أحدًا منهم بنية الجمع والقصر، بل خرج من المدينة إلى مكة يصلي ركعتين

من غير جمع، ثم صلى بهم صلى الله عليه وسلم الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه

يريد أن يصلي العصر بعدها، ثم صلى بهم العصر ولم يكونوا نووا الجمع وهذا جمع

تقديم، وكذلك لما خرج من المدينة صلى بهم بذي الحليفة العصر ركعتين ولم

يأمرهم بنية قصر، وفي الصحيح أنه لما صلى إحدى صلاتي العشيّ وسلم من

اثنتين قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: (لم أنس ولم تقصر) قال:

بلى قد نسيت، قال:(أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم فأتم الصلاة) ولو كان

القصر لا يجوز إلا إذا نووه لبين ذلك ولكانوا يعلمون ذلك، والإمام أحمد لم ينقل عنه

-فيما أعلم- أنه اشترط النية في جمع ولا قصر ولكن ذكره طائفة من أصحابه

كالخرقي والقاضي، وأما أبو بكر عبد العزيز وغيره فقالوا: إنما يوافق مطلق

نصوصه.

وقالوا: لا يشترط للجمع ولا للقصر نية وهو قول الجمهور من العلماء كمالك

وأبي حنيفة وغيرهما، بل قد نص أحمد على أن المسافر له أن يصلي العشاء قبل

مغيب الشفق، وعلل ذلك بأنه يجوز له الجمع كما نقله عنه أبو طالب والمروزي

وذكر ذلك القاضي في الجامع الكبير فعلم أنه لا يشترط في الجمع نية.

ولا تشترط أيضًا المقارنة فإنه لما أباح أن تصلى العشاء قبل مغيب الشفق

وعلله بأنه يجوز له الجمع لم يجز أن يراد به الشفق الأبيض؛ لأن مذهبه المتواتر

عنه أن المسافر يصلي العشاء بعد مغيب الشفق الأحمر وهو أول وقتها عنده، وحينئذ

يخرج وقت المغرب عنده فلم يكن مصليًا لها في وقت المغرب بل في وقتها الخاص،

وأما في الحضر فاستحب تأخيرها إلى أن يغيب الأبيض، قال: لأن الحمرة قد

تسترها الحيطان فيظن أن الأحمر قد غاب ولم يغب فإذا غاب البياض تيقن مغيب

الحمرة فالشفق عنده في الموضعين الحمرة؛ لكن لما كان الشك في الحضر لاستتار

الشفق بالحيطان احتاط بدخول الأبيض فهذا مذهبه المتواتر عن نصوصه الكثيرة.

وقد حكى بعضهم رواية عنه أن الشفق في الحضر الأبيض وفي السفر الأحمر،

وهذه الرواية حقيقتها كما تقدم، وإلا فلم يقل أحمد ولا غيره من علماء المسلمين

إن الشفق في نفس الأمر يختلف بالحضر والسفر وأحمد قد علل الفرق؛ فلو حكى

عنه لفظ مجمل كان المفسر من كلامه يبينه.

وقد حكى بعضهم رواية عنه أن الشفق مطلق البياض، وما أظن هذا إلا غلطًا

عليه؛ وإذا كان مذهبه أن أول الشفق إذا غاب في السفر خرج وقت المغرب ودخل

وقت العشاء وهو يجوز للمسافر أن يصلي العشاء قبل مغيب الشفق، وعلل ذلك

بأنه لا يجوز له الجمع، علم أنه صلاها قبل مغيبها لا بعد مغيب الأحمر فإنه حينئذ

لا يجوز التعليل بجواز الجمع.

الثاني [2] أن ذلك من كلامه يدل على أن الجمع عنده هو الجمع في الوقت،

وإن لم يصل أحدهما بالأخرى كالجمع في وقت الثانية على المشهور من مذهبه

ومذهب غيره، وأنه إذا صلى المغرب في أول وقتها والعشاء في آخر وقت

المغرب حيث يجوز له الجمع جاز ذلك، وقد نص أيضًا على نظير هذا، فقال:

إذا صلى إحدى صلاتي الجمع في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس، وهذا نص

منه على أن الجمع هو جمع في الوقت لا تشرط فيه المواصلة، وقد تأول ذلك

بعض أصحابه على قرب الفصل، وهو خلاف النص ولأن النبي - صلى الله عليه

وسلم - لما صلى بهم بالمدينة ثمانيًا جميعًا، وسبعًا جميعًا لم ينقل أنه أمرهم ابتداء

بالنية ولا السلف بعده وهذا قول الجمهور كأبي حنيفة ومالك وغيرهما وهو في

القصر مبني على فرض المسافر، فصارت الأقوال للعلماء في اقتران الفعل ثلاثة:

(أحدهما) أنه لا يجب الاقتران لا في وقت الأولى ولا الثانية كما قد نص

عليه أحمد كما ذكرناه في السفر وجمع المطر.

(والثاني) أنه يجب الاقتران في وقت الأولى دون الثانية وهذا هو المشهور

عند أكثر الصحابة المتأخرين، وهو ظاهر مذهب الشافعي فإن كان الجمع في وقت

الأولى اشترط الجمع، وإن كان في وقت الآخرة، فإنه يصلي الأولى في وقت الثانية

وأما الثانية فيصليها في وقتها فتصح صلاته لها وإن أخرها ولا يأثم بالتأخير،

وعلى هذا تشترط الموالاة في وقت الأولى دون الثانية.

(والثالث) تشترط الموالاة في الموضعين كما يشترط الترتيب وهذا وجه

في مذهب الشافعي وأحمد، ومعنى ذلك أنه إذا صلى الأولى وأخر الثانية أثم كان

وقعت صحيحة؛ لأنه لم يكن له إذا أخر الأولى إلا أن يصلي الثانية معهما؛ فإذا لم

يفعل ذلك كان بمنزلة من أخرها إلى وقت الضرورة ويكون قد صلاها في وقتها مع الإثم.

(للبحث بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

لعل صواب العبارة هكذا، أن عمر بن الخطاب قال مثل ذلك لأهل مكة إلخ.

(2)

في هامش الأصل: كذا في الأصل ولم يسبق بالعطف عليه أهـ، والظاهر أن الأول الذي جعل هذا ثانيًا له هو ما ذكر من عد اشتراط المقارنة بين الصلاتين في الجمع فتأمل.

ص: 427

الكاتب: محمود أحمد الغمراوي

‌جمعية الإلحاد والزندقة

العلم والدين [*]

(رد على مقال للدكتور طه حسين نشر في العدد 19 من جريدة السياسة

الأسبوعية في 17 يوليو سنة 1926) .

نشر الدكتور هيكل في العدد الرابع عشر من السياسة الأسبوعية مقالاً بحث

فيه في العلم والدين وما بينهما من وفاق أو خلاف، وقد انتهى به بحثه إلى أنه لا

خصومة بين العلم والدين، ولن تكون بينهما خصومة، وأن الخلاف والخصومة

هما بين رجال العلم ورجال الدين، ومنشؤهما سعي كل من الطائفتين سعيًا أنانيًّا

صِرْفًا ليكون بيدها الحكم والسلطان.

وختم بحثه بما ملخصه أن النصر سيكون دائمًا حليف الفريق الذي يرضي

الإنسانية ويخفف أعباءها، وتجد في يده مفتاح راحتها ومرهم جراحها.

ونصح لرجال الدين بأن ينقطعوا عن العالم ويعتزلوا الدنيا ويبعدوا عن

شئونها ويعكفوا على العبادة والزهد والتقشف، وقد تناولت أقلام الكاتبين بالبحث

والتحليل والنقد عناصر هذا الموضوع الذي أثاره الدكتور هيكل، وكتب كاتب ديني

مقالاً قيمًا ألمَّ فيه كاتبه الفاضل بمعلومات نفيسة قال عنها بحق: إنها مقدمات لا بد

منها للحكم فيما بين الدين والعلم من وفاق أو خلاف.

وفي الحق أن من يجهل الأساس التي قام عليها الدين، والأساس التي قام

عليها العلم، ولا يعرف من مبادئ الدين تلك المقدمات الأولية التي ألمَّ بها ذلك

المقال لا يحق له أن يتصدى للبحث في هذا الموضوع الخطير، وبالأولى لا يسوغ

له أن ينصب نفسه منصبا الحكم الذي لا ينقض حكمه ولا يرد قضاؤه، وهو جاهل

بالقواعد الأساسية التي لا يقوم إلا عليها الحكم.

كنت أظن أن سيجد حضرات الكتَّاب في مقال ديني درسًا ينفعهم ويعصمهم

من الزلل حينما يريدون أن يبحثوا فيما بين الدين والعلم من صلة، وكان أكثر من

نرجو لهم النفع بهذا الدرس أولئك الذين لم تهيئ لهم تربيتهم المدرسية وسائل

الإلمام بقواعد العلم الديني، فأما الذين قضوا شطرًا ليس بالقليل من أعمارهم في

دراسة العلوم الدينية، وقطعوا في الأزهر مرحلة ليست بالقصيرة من مراحل

تربيتهم العقلية، فما كنا نظنهم بحاجة إلى مثل هذا الدرس، وما كنا نحسبهم من

الجهل بأمور الدين بحيث لا يعرفون بسائط القواعد المقررة.

دهشت وايم الحق حين قرأت في العدد التاسع عشر من السياسة الأسبوعية

مقال الدكتور طه حسين في العلم والدين وما ضمنه من تناقض وسخف.

وما كان دهشي لأن الدكتور طه أخطأ الصواب وكان من عادته أن يصيب،

ولا لأنه جانبه التوفيق في هذا البحث وكان قبلاً موفقًا، كلا فقد عرفنا الدكتور

هجامًا كثير العثرات شديد الجرأة على العلم وعلى الدين، بعيدًا عن التوفيق

والإصابة في كثير من أبحاثه لا سيما ماله صله بالدين، ولكن دهشي كان للفرق

العظيم بين عقليتين ممتازتين وذكائين مصدودين، عقلية تكونت بعيدة فيما نعلم عن

مناهل الدين فكانت موفقة في كثير من آرائها في الدين، وأخرى نشأت نشأتها

الأولى في معاهد الدين غير أنها فيما تكتب عن الدين تخبط خبط العشواء في الليلة

الظلماء.

عجبت لما بين عقلية الدكتور هيكل وذكائه، وبين عقلية الدكتور طه وذكائه

من الفوارق العظيمة.

فهذا يتورط في الخطأ تورط من لا يعرف إلى الصواب سبيلاً، وذاك يهتدي

بفطرته وذكائه إلى مواطن الإصابة حيث كان يخشى عليه من التورط في الزلل،

وهذا كله في بحث كان المفروض أن المخطئ أولى بالإصابة فيه من المصيب.

وأن من الحق أن أقول: إنني لم أجد مأخذًا على الدكتور هيكل في مقاله وبحثه إلا

في أمرين اثنين:

أحدهما: أنه أرسل الكلام في الدين إرسالاً فهم منه أنه يقصد من الدين

الجنس الذي يتحقق في أي دين من الأديان، وهذا ما لا يتفق والواقع فإن الوثنية

مثلاً ليست كما لا مقرر القواعد والأركان.

وثانيهما: أنه يريد رجال الدين على أن يكونوا ناسكين بعيدين عن الدنيا

معتزلين شئون العالم، ولعل هذا هو الهدف الذي يرمي إليه من بحثه، ولكن هذا

ليس من الإسلام في شيء، ففي القرآن الكريم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ

وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) وقد يكون هذا النصح غير

المخلص أثرًا من آثار الأنانية والتنازع على الحكم والسلطان كما هو رأي الدكتور.

هاتان النقطتان هما في رأيي موضوع المؤاخذة في مقال الدكتور هيكل، فأما

مقال الدكتور طه فإنك لن توفق إلى العثور فيه على رأي صائب مهما حسنت نيتك

في طلبه، ولن تجد فيه إلا عثرات تتلوها سقطات، ولن تقف منه إلا على

متناقضات تهيب بك إلى أن تدين بالمتناقضات.

لا يعنيني كثيرًا أن أَلْفِتَ القارئ إلى ما يَفْجؤه في مستهل كلام الدكتور من

الركة والتهافت؛ إذ يقول: (ليس لي ما يحول بيني وبين التفكير في هذا

الموضوع والتعليق على ما كتب فيه، وفي الحق أني فكرت في هذا الموضوع

وكتبت فيه) ، كذلك لا يهمني أن أقف به على ما يعقب هذه الجملة من التناقض

واشتباه الرأي واختلاط الفكر؛ إذ يقول: قد تكون المسألة (يعني مسألة العلم والدين)

جديدة في مصر، ولكنها قديمة في أوربا ثم يقول (هي ليست جديدة في مصر ولا

في العالم الإسلامي فقد عرض لها الغزالي وابن رشد، وعرض لها الأستاذ الإمام

الشيخ محمد عبده وتلاميذه غير مرة) .

أقول لا يهمني أن أنبه القارئ إلى شيء كثير من أمثال هذه الهنات المعيبة

ولكني أَلْفِتُ القارئ إلى ما يتخلل الجملتين من غرور وتغرير، فللدكتور طه في

الكتابة سنة قل أن يشاركه فيها غيره من الكاتبين؛ فهو حين يكتب في موضوع

يحاول جهده أن يغرر بالقارئ، يوهمه أنه قبل أن يعالج الكتابة في الموضوع

الذي تناوله قد قرأ فيه كتبًا قيمة وأنه قتله بحثًا وفهمًا، وأنه ألم بجميع أطرافه وخَبُرَ

جميع دُرُوبه ومسالكه؛ وإذًا فليس على القارئ بعد أن قام عنه الدكتور بكل وسائل

التنقيب والبحث والقراءة والفهم إلا أن يتجرد من دينه، وإلا أن يلغي عقله

وفهمه، وكل ما أودع الله فيه من قوة دراكة، ويسلم بعد ذلك قياده للدكتور يصرف

منه العنان، كما يصرف الصبي دواجن الطير والحيوان.

أليس الدكتور طه هو صاحب كتاب الشعر الجاهلي؟ أليس قد طلب إلى

قارئ ذلك الكتاب قبل أن يقرأ كتابه أن يتجرد عن دينه وعقله ووجدانه وعاداته

وقوميته ليسير مع الدكتور فيصرفه كيف يشاء؟ هذه هي روح الدكتور

طه في كتاب الشعر الجاهلي بارزة صريحة لا حجاب دونها، وهي هي بعينها في

مقال العلم والدين، واضحة جلية، وإن كان وضوحها هنا بمقدار يناسب قدر هذا

المقال الصغير.

فترى الدكتور قبل أن يدخل بك في متناقضاته يلقي عليك أمثال قوله: (وفي

الحق أني فكرت في هذا الموضوع وكتبت فيه قبل صديقي هيكل وعزمي، وفي

الحق أن السياسة اليومية قد نشرت لي في ربيع سنة 23 فصلاً غضب له مولانا

الشيخ بخيت، وفي الحق أني كتبت في العلم والدين وما بينهما من خلاف فصلاً

آخر كنت أريد أن أنشره) ثم يعود فيكرر على سمعك مثل قوله: (لست إذًا حديث

عهد بمسألة العلم والدين، وما يمكن أن يكون بينهما من خلاف، وقد قرأت في هذه

المسألة كتبًا قيمة قبل أن أكتب فيها) إلى غير ذلك من إلحاح ثقيل ممل، فماذا يقصد

الدكتور من هذا كله؟ أليست هذه الروح المقنعة بقناع مهتوك يشف عما وراءه،

هي بعينها تلك الروح البادية العارية في كتاب الشعر الجاهلي، وكلتاهما تريدان

قارئ كلام الدكتور على أن يلغي عقله وفهمه ليستطيع أن يشترك مع حضرته في

أن يكون ذا نفس واحدة تحمل بين جنبيها شخصيتين متباينتين متعاديتين متناقضتين،

وفي الحق أن الدكتور لن يجد معه شخصًا آخر يستطيع أن يهيئ نفسه لاحتمال

أمرين متباينين، ويدين باعتقادين متناقضين - كما يريد في مقاله - إلا شخصًا

ألغى عقله وسفه نفسه وتجرد من كل ما منحه الله من إحساس وإدراك، فهو من

أجل ذلك يطلب إلى قرائه في إلحاح مضجر أن يتجردوا من عقولهم ووجدانهم

وإدراكهم ليستطيعوا أن يشاركوه في آرائه وأفكاره، كأنه يأبى أن يكتب أو يتحدث

إلا إلى المجانين.

هذا شيء ألفت القارئ إليه، وشيء آخر أرجو أن يقف القارئ معي عليه،

وهو - قصة باستور - فقد ساق الدكتور هذه القصة ليقنع القارئ بأنه ليس فذًّا في

نفسيته العجيبة التي تستطيع أن تكون في وقت واحد مشرقة مغربة، مصدقة مكذبة،

مؤمنة مرتابة، وهل في ذلك من غرابة؟ ألم يكن باستور العالم الفرنسي المشهور

من أشد الناس إيمانًا بالمسيحية، ومن أحرصهم على تأدية واجباته الدينية، وهو من

العلم بالمكان الذي لا ينكر ولا يمارى؟

لا أجادل الدكتور في شأن باستور، ولا فيما نعته به من أنه جمع بين الصدق

في الدين والإخلاص للعلم فلست ممن يرون أن من خصائص العلم معاداة الدين،

ولا أرى من خصائص العالم الإلحاد في الدين والجرأة على العلم، وقد يصح أن

يكون باستور كغيره من العلماء الذين اختصهم الله بفهم ثاقب وعلم وافر في فن من

الفنون حتى صار رأيه حجة في فنه، ولكنه إذا اضطر إلى الأخذ بما ليس من

فنه سأل أهل الذكر وأخذ بآراء الأخصائيين من غير نزاع ولا جدال، كما

يأخذون هم أيضًا برأيه في فنه من غيره مماراة ولا خصومة.

وتفسير قصة باستور وغيره من علماء المسيحية في أخذهم بالعلم واطمئنانهم

إلى الدين على هذا الوجه الذي قدمت قريب من الصواب جدًّا.

فباستور وأضرابه يعملون بحكمة الإنجيل (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) .

فإما أن يكونوا مثل دكتورنا الفيلسوف الأديب المؤرخ الحقوقي المتشرع

الأصولي الفقيه المحدث الطبيعي الكيماوي الفلكي الجيولوجي الفيسيولوجي

الأمبريولوجي، ثم هم مع كل هذا يحملون بين جنوبهم نفسًا قلقة مضطربة تدين

بالمتناقضين وتطمئن إلى المتباينين المتنافرين - فهذا ما أنزّه هؤلاء العلماء عنه ولا

أسلم لدكتورنا بصحته.

ولعل باستور لم يؤثر عنه أنه وقف مرة في حياته من رجال دينه موقف

دكتورنا من علماء الدين، يقول لهم في جرأة وصلابة وجه: إنني أفهم للدين وأجدر

بمعرفة قضاياه، وإدراك مراميه منكم، فهل لدكتورنا أن يتشبه بباستور وغيره من

علماء المسيحية فلا يتعدى طوره ولا يقفو ما ليس له به علم؟

لا أظن أن الذي حال بين باستور ولم يحل بين دكتورنا وبين هذا الموقف

الجريء هو ما بين طبيعة المسيحية والإسلام من تفاوت في السهولة والسماح

والتوسيع على العقل الإنساني في أن يحلق في سماء الفكر والبحث حيث يشاء، لا

أظن هذا فما كان لباستور أن يعتقد في المسيحية أنها تغل العقل الإنساني وتحول

بينه وبين التفكير الحر؛ إذ لو كان هذا رأيه في المسيحية لما كان كما وصفه لنا

دكتورنا من أشد الناس إيمانًا بها، ولأعلن عليها حربًا عوانًا كما فعل غيره من

ملاحدة المسيحية، وإذاً فليس جمود المسيحية هو الذي جعل باستور يقف من دينه

هذا الموقف المهذب، وليست سماحة الإسلام هي التي جعلت دكتورنا يقف من دينه

هذا الموقف الجريء المغموز، ولكن السبب فيما أظن هو أن باستور قد أوتي حظًّا

من العلم والحياء يحول بينه وبين أن يقف هذا الموقف {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ

العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) ، على أنه مهما يكن في طبيعة دين من سهولة وسماح،

ومهما أرخى للعقل الإنساني من عنان لكي يجول في مسارح التفكير إلى حيث يشاء،

فإنه ليس من المعقول أن يأذن الدين بل ولا أن يأذن العلم نفسه للعقل في أن

يخرج في تفكيره وبحثه عن المناهج التي أقراها، والتي أقر العقل أيضًا أساسها

وقواعدها، فإن معنى هذا الإذن أن يهدم كلاًّ من الدين والعلم والعقل نفسه بنفسه

ونتيجة ذلك الفوضى والجهالة.

إني لأرجو القارئ بعد أن وقف مما سبق من القول على عقلية الدكتور وما

تتسع له من متناقضات ألا يدهش ولا يستولي عليه الضجر حين يرى الدكتور يعلن

قبل كل شيء أنه يعلم أن الإسلام لم يلغ العقل الإنساني ولم يحل بينه وبين التفكير

الحر، ثم يراه يعلن أثر ذلك أن العلم شيء، والدين شيء آخر، وأن منفعة العلم

والدين في أن يتحقق بينهما هذا الانفصال حتى لا يعدو أحدهما على الآخر، وحتى

لا ينشأ من هذا العدوان في الشرق الإسلامي مثل ما نشأ في الغرب المسيحي.

لا يضيقن صدرك بما يقول الدكتور، وسائلْه معي هل يعلم حقًّا إن الإسلام لم

يلغِ العقل الإنساني ولم يحل بينه وبين التفكير الحر؟ ، وهل هو يدين حقًّا بهذه

القضية؟ فإذا كان يدين حقًا بهذه القضية فهل هو مع هذا يعتقد أن الإسلام يعطي

العقل هذا الإطلاق، ويمنحه هذه الحرية الواسعة ثم يعده من أعدائه لا من حلفائه

وأعوانه؟ فإذا كان الإسلام لا يعد العقل عدوًّا له بل يعتبره حليفًا وصديقًا وفيًّا

فهل مع قيام هذا الحلف ووجود هذه الصداقة بين الإسلام والعقل يصح أن يعادي

الإسلام العلم وهو وليد العقل وربيبه [1] ؟ وإذا لم يكن بين الإسلام والعلم عداء

فكيف يعدو أحدهما على الآخر؟ وكيف يعتقد الدكتور أن منفعة العلم والدين في

أن يتحقق بينهما الانفصال، وكيف تصور أن يقع بين الإسلام والعلم في الشرق

الإسلامي من المصادمات والحروب العنيفة مثلما وقع بين المسيحية والعلم في

الغرب المسيحي؟

آمنت بالله ورسله وآمنت بأن الدكتور طه له عقلية ممتازة قادرة على الإيمان

بالمتناقضات، وأنه بعيد عن الإلمام بطبائع الإسلام ولا يحسن تطبيق وقائع التاريخ

(يتبع)

...

...

...

محمود أحمد الغمراوي

...

...

...

... المدرس بمعهد أسيوط

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) لصاحب الإمضاء من خيار علماء الأزهر.

(1)

المنار: يعني أن العلم وليد العقل وربيبه فما كان للإسلام أن يعاديه مع صداقته للعقل الذي ولده ورباه، بل لا معنى لصداقة الإسلام للعقل إلا موافقته لما يستنبطه من علم نافع وحكم صحيح في المسائل، ولا يصح أن يريد أن الإسلام وليد العقل كما قد يظن ضعيف الفهم والفاقد لطرق الاستدلال وقواعد العلم.

ص: 436

الكاتب: مهاتما غاندي

‌الصحة

تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي

ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي

الباب الثالث

العلاج بالتراب

نشرع الآن في بيان الخواص الصحية للتراب الذي نفعه أكبر من الماء في

بعض الأحوال. لا ينبغي لنا أن نتعجب من خواصه؛ لأن جسمنا نفسه مركب من

عناصر أرضية، وفعلاً نحن نستعمل التراب للتطهير، فنغسل به الأرض لتزيل

الروائح الخبيثة منها، ونغطي به الأشياء المتعفنة لنمنع فساد الهواء وننظف به أيدينا

وكذلك نستعمله لتنظيف أواني المراحيض.

إن رهبان الهندوس يلطخون به أجسامهم، ويعالج به بعض الناس القروح

والبثور وتدفن الأموات فيه لئلا يفسد الجو، كل هذا يثبت جليًّا أن في التراب كثيرًا

من الخواص الثمينة للتطهير والعلاج.

وكما أن الدكتور كيوهن بذل جهده الخاص في موضوع العلاج المائي، كذلك

الدكتور الألماني الآخر (just) قد تفرغ لدرس التراب وخواصه. وقد توسع حتى

قال بأن التراب يمكن استعماله بنجاح في معالجة جميع الأمراض حتى أشدها

وأعقدها.

وقد حكي عنه أنه لسع ثعبان رجلاً فيئس الناس من حياته، ولكني داويته بأن

واريته في التراب مدة من الزمن فزال السم من جسده وشفي تمامًا.

ليس لنا أن نطعن في صدق الدكتور؛ لأننا نعلم أن حرارة شديدة تتولد في

الجسم إذا دفن الإنسان في الأرض، وإنا وإن كنا لا نستطيع بيان تولد التأثير تمامًا

لا يمكن أن ننكر أن في التراب خاصية جذب السم؛ أجل قد لا تنجح هذه الطريقة

في كل حادثة للملسوع ولكن يجب حتمًا تجربتها في كل حادثة.

وأنا أستطيع أن أقول بتجربتي الشخصية: إن استعمال الطين في مثل

حوادث لدغ العقرب نافع جدًّا.

قد جربت بنفسي الأشكال الآتية للعلاج الترابي ونجحت فيها؛ فالإمساك

والدوسنتاريا ووجع المفاصل المتأصل قد عالجته باستعمال لبخة من الطين فوق

البطن يوميًّا مدة يومين أو ثلاثة أيام؛ وقد تحقق النفع العاجل في حوادث الصداع

باستعمال ضمادة طينية تشد على الرأس.

وكذلك قد عولجت العيون المتهيجة بنفس هذه الطريقة فشفيت، إن الإصابات

سواء كانت متورمة أو غير متورمة تعالج كذلك بها؛ وإني قد كنت في حياتي

الماضية السوداء لا أستريح بدون المواظبة على استعمال ملح الفاكهة (فروت سالت)

وما شاكله من المسهلات؛ ولكني منذ علمت في سنة 1904 قيمة العلاج الترابي

لم استعمل أي مسهل ولا مرة واحدة إلى الآن.

إن لبخة طينية فوق البطن والرأس تنفع كثيرًا في الحمى الشديدة.

وإن الأمراض الجلدية مثل الدمامل والقروح والقوباء والحرق بالنار أو الماء

الحار قد عولجت بالطين أيضًا؛ إلا أن القروح المتقيحة ذات الصديد لا تشفى به

بسهولة. وكذلك البواسير تعالج بنفس هذا العلاج. وإذا احمرت الأيدي والأقدام

وتورمت بسبب البرد فالطين علاج نافع جدًّا لها، وكذلك وجع المفاصل يزول به،

فبهذه وغيرها من التجارب في العلاج الترابي قد علمت أن التراب عنصر مفيد

للعلاج البيتي للأمراض.

نعم، إن جميع أنواع التراب ليست بنافعة على سواء؛ فالتراب الجاف الذي

حفر من مكان نظيف يكون أنفع بكثير من غيره، لا ينبغي أن يكون التراب لزجًا

جدًّا، بل أحسنه ما كان بين الرمل والأملس، ويجب أن يكون خاليًا من الروث

والقذر فيصفي جيِّدًا في غربال نفيس ويعجن بماء بارد عجنًا جيدًا قبل الاستعمال ثم

يربط في قماش نظيف غير مكوي ويستعمل كلبخة غليظة، ويجب رفعها قبل أن

يأخذ الطين في اليبس وهو لا يتجفف في الأحوال العادية من ساعتين إلى ثلاث

ساعات.

إن الطين الذي استعمل مرة لا يستعمل بعد ذلك أبداً، ولكن الثوب المستعمل

يصح استعماله ثانيًا بعد أن يغسل جيدًا ليتنظف من الدم، وغيره من المواد الوسخة

وإذا أريد استعمال اللبخة على البطن يوضع فوقه قماش دافئ، يجب على جميع

الناس أن يبقوا عندهم صفيحة من التراب المجهز للاستعمال لئلا يضطروا إلى

البحث عنه هنا وهناك عند الحاجة إليه، وربما تفوت الفرصة في حوادث مثل لدغ

العقرب التي يؤدي التأخير فيها إلى خطر شديد.

***

الباب الرابع

الحمَّى وعلاجها

لننظر الآن في بعض الأمراض الخاصة، ونبحث في طرق علاجها، وأولها

(الحمى) .

نحن نطلق كلمة (الحمى) على حالة للحرارة في الجسم، غير أن أطباء

الإفرنج قد نوعوا هذا الداء على أنواع كثيرة وخصصوا لكل منها علاجًا، ولكنا

نظرًا للخطة التي سلكناها في هذا الكتاب، والأصول التي دوناها فيه؛ نقول: إن

أنواع الحمى كلها يمكن معالجتها بعلاج واحد وبطريقة واحدة؛ لقد جربت هذا

العلاج الساذج في جميع أنواع الحمى من أخفها إلى أشدها مثل الطاعون الغدي،

وحصلت على نتائج حسنة عامة.

فقد انتشر هذا الطاعون سنة 1904م بين الهنود في أفريقيا الجنوبية، وقد

كان فظيعًا للغاية، حتى إن 23 إصابة حدثت قد مات بها 21 نفسًا خلال 24 ساعة

أما الاثنان اللذان بقيا فقد أرسلا إلى المستشفى ولكن لم يسلم منهما إلا واحد، وقد

كان هذا الناجي هو ذلك الذي استعملت له اللبخة الطينية، نعم ليس لنا أن نستنتج

من ذلك بأن هذه اللبخة هي التي شفته، ولكن مما لا شك فيه أنها لم تضره أي

ضرر، وكلاهما كانا مصابين بحمى شديدة كان سببها الالتهاب الرئوي وكانا قد

أغمي عليهما.

وكان الرجل الذي استعملت عليه اللبخة الطينية في أخطر الأحوال فكان

يبصق الدم، وعلمت بعد ذلك من الدكتور بأنه كان لا يغذى إلا بلبن قليل جدًّا.

وبما أن أكثر أنواع الحمى تكون نتيجة للارتباك في الأحشاء فأول ما ينبغي

عمله هو تجويع المريض، والقول بأن الضعيف يزداد ضعفًا بالتجويع وهم باطل،

إذا علمنا بما تقدم أن الجزء الذي ينفع من الغذاء إنما هو ذلك الذي يتحلل في الدم.

وأما الباقي فيبقى حملاً على المعدة، وبما أن القوى الهاضمة تضعف جدًا في

الحمى لذلك يتوسخ اللسان وتتصلب الشفاه وتجف، فإن أعطي المريض طعامًا في

هذه الحالة فلا ينهضم ويزيد الحمى، ولكن التجويع يعطي القوى الهاضمة وقتًا

لإتمام أعمالها، ولذلك فإن تجويع المريض ليوم أو يومين ضرري، وكذلك يجب

عليه في الوقت نفسه أن يستحم كل يوم على الأقل مرتين على طريقة كيوهن فإن

كان ضعيفًا أو مريضًا إلى درجة لا يستطيع فيها الاستحمام؛ فيجب أن تستعمل

على بطنه اللبخة الطينية وإن يشتكي يوجعه الرأس كثيرًا أو يحس بحرارة شديدة

فتستعمل اللبخة على رأسه أيضًا، ومهما أمكن ينبغي أن ينوم المريض في الهواء

الطلق ويغطى جيدًا، ويعطى وقت الطعام عصير الليمون بعد أن يصفى جيدًا

ويمزج بماء بارد أو مغلي حار ولا يخلط معه السكر ما أمكن.

إن هذا العصير يؤثر تأثيرًا نافعًا جدًّا ويقدم وحده للمريض إن كانت أسنانه

تتحمل حموضته، ويجوز بعد ذلك أن يقدم إليه نصف موزة أو موزة كاملة بعد أن

تمزج جيدًا بملعقة من زيت الزيتون وبملعقة من عصير الليمون، وإن كان

المريض يحس بالعطش فيعطى ماء مغليًّا مبردًا، ولا يسمح له بشرب ماء غير مغلي

يجب أن تكون ملابس المريض خفيفة وتغير كثيرًا.

وقد شُفِي بهذا العلاج السهل محمومون كثيرون، حتى الذين أصيبوا بالحمى

التيفودية وأمثالها من الأمراض الخطرة وهم يتمتعون إلى الآن بصحة تامة.

إن الكينا كذلك تُؤثر وتنفع بادي الرأي ولكنها في النتيجة تجلب أمراضًا

أخرى، حتى إن الحمى الملاريا التي تعتبر فيها الكينا نافعة جدًا قلما رأيتها تعطي

شفاءً دائمًا، ولكني بالعكس رأيت حوادث مختلفة في المصابين بالملاريا قد شفوا

شفاءً دائمًا بالعلاج الذي ذكر آنفًا.

يقتصر كثير من الناس على اللبن وحده أثناء الحمى ولكنه وجدته بتجربتي

مضرًّا في الدرجات الأولية من الحمى؛ لأنه عسر الهضم، فإن كان لا بد من اللبن

فالأحسن أن يكون مخلوطًا (بقهوة القمح [1] ) أو بقليل من دقيق الرز المغلي جيدًا

بالماء، ولكن لا يصح أبدًا أن يعطاه في الحمى الشديدة، بل ينفع في مثل هذه

الحالة عصير الليمون نفعًا كبيرًا، فإذا زالت الحمى وتنظف اللسان يصح أن يزداد

الموز في الغذاء على الطريقة المبينة آنفًا، وإن كان إمساك فحقنة من الماء الساخن

والبورق (لزاق الذهب BORAX) عوضًا عن المسهل يصحبها غذاء زيت

الزيتون لتنظف البطن جيدًا.

***

الباب الخامس

الإمساك والدوسنتاريا والمغص والبواسير

يبدو لأول وهلة ذكر هذه الأمراض الأربعة المختلفة في باب واحد عجيبًا،

ولكن الحقيقة أنها كلها مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا شديدًا ويمكن معالجتها تقريبًا

بطريقة واحدة.

لأنها إذا انضغطت المعدة بغذاء غير مهضوم سببت مرضًا من هذه الأمراض

حسب استعداد الرجل واختلاف بنيته، فيحدث عند بعضهم الإمساك فلا تتحرك

المعدة مطلقًا أو تتحرك بعض التحرك، أو يحدث وجع شديد عند قضاء الحاجة

حتى إنه ينتج نزيف الدم أو المادة المخاطية، أو البواسير، ويحدث لبعضهم

الإسهال الذي كثيرًا ما ينتهي بالدوسنتاريا، ويحدث لبعضهم المغص المعوي الشديد

مصحوبًا بالوجع في البطن والمادة المخاطية في البراز.

وفي جميع هذه الحوادث يقهي المريض أي يفقد شهوة الطعام ويصفر جسمه

وتضعف بنيته ويتوسخ لسانه ويتعفن نَفَسُه، وكذلك يتأذى كثير من الناس بالصداع

وغيره من الأمراض، إن الإمساك عام جدًّا، حتى إن المئات من الحبوب

والمسحوقات قد أوجدت لمعالجته.

إن الوظيفة الأصلية مثل هذه الأدوية المسجلة مثل ملح الفاكهة (فروت سالت)

و (Sirup Siegel،s Mother) لإزالة الإمساك، ولذا ترى ألوفًا من الناس

يجرون وراءها في رجاء باطل لينالوا فيه الشفاء، كل طبيب يخبرك بأن الإمساك

وما شاكله من الأمراض إنما هو نتيجة لسوء الهضم، فأحسن طريقة لعلاجها هي إزالة

سبب سوء الهضم، وقد صرح أصدقهم قولاً بأنهم قد اضطروا إلى اختراع هذه

الحبوب والمسحوقات؛ لأن المرضى لا يتركون عاداتهم القبيحة التي ألفوها، وفي

الوقت نفسه يريدون الشفاء.

إن أرباب الإعلانات عن هذه الأدوية يبالغون مبالغة عظيمة حتى إنهم يعدون

الذين يشترونها بأنهم لا يحتاجون إلى مراعاة أي أصل من أصول الغذاء والوقاية

بل يجوز لهم أن يأكلوا ويشربوا ما يحبون إذا استعملوا أدويتهم، وأظن أن قرائي لا

يحتاجون إلى التذكير بأن هذا كذب محض.

إن جميع أنواع المسهل حتى أكثرها اعتدالاً مضرة بالصحة؛ لأنها - وإن

أزالت الإمساك ونفعت نفعًا بالجملة - تحدث أنواعًا أخرى من الأمراض، فيجب

على المريض أن يغير طرق معيشته تمامًا حتى لا يضطر إلى المسهل مرة أخرى

فيقع في مرض جديد.

إن أول ما يجب عمله في حالة الإمساك وأمثاله من الأمراض هو تقليل الغذاء

لا سيما السمن والسكر والقشدة وما شاكلها، والاحتزاز التام من الخمر والدخان

والحشيش والشاي والقهوة والكاكاو والخبز المصنوع من دقيق المطاحن، وأن

يحتوي الغذاء في أكثر أجزائه على ثمار رطبة مع زيت الزيتون.

يجب أن يجوع المريض قبل البدء في العلاج 37 ساعة، وتستعمل أثناء هذا

وبعده اللبخة الطينية على البطن أثناء النوم، ويستحم المريض كما ذكرنا مرة أو

مرتين يوميًا على طريقة كيوهن. يجب أن يكره المريض على المشي على الأقل

ساعتين كل يوم، ولقد رأيت بنفسي أشد حوادث الإمساك والدوسنتاريا والبواسير

والمغص قد شفيت تمامًا بهذا العلاج السهل، لا شك أن البواسير لا تزول كلية

ولكنه يبطل أذاها حتمًا ثم أنه يجب على المصاب بالمغص أن يحتاط فلا يأكل شيئًا

غير عصير الليمون في ماء حار حتى يبطل نزيف الدم أو المخاطية، وإن كان

وجع المغص شديدًا جدًّا في المعدة فيمكن معالجته بتدفئة البطن بقارورة من ماء

ساخن أو بآخر ساخن جدًّا، ولا احتياج إلى التنبيه بأن المريض يجب أن يعيش في

هواء طلق.

إن الثمار مثل البرقوق والزبيب والبرتقال والعنب نافعة جدًّا خاصة في

الإمساك؛ ولكن ليس معنى ذلك أنها توكل حتى بدون الجوع. ولا يجوز تناولها

أصلاً في حال المغص الذي يصحبه طعم رديء في الفم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

راجع في القسم الأول من الكتاب الباب الخامس.

ص: 443

الكاتب: محمد رشيد رضا

مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [*]

باقي محضر الجلسة الرابعة

(تابع لما نشر في الجزء الماضي)

وبعد الفراغ من تلاوة تقرير اللجنة قام حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ

محمد الأحمدي الظواهري وألقى الخطبة الآتية:

أبدأ حديثي باسم الله الرحمن الرحيم، وأقول: إني أشكر اللجنة جزيل

الشكر على ما أراه من غيرتها الدينية وحرصها على اتخاذها كل الوسائل التي

توصل إلى إيجاد حالة تسر المسلمين، ولا يرضون عنها بديلاً وهي إعادة مجد

الإسلام كما كان، وأن نعمل لنحفظ ذلك التراث العظيم.

ذلك الدين الذي يجب أن نفديه بأرواحنا، وأموالنا، وأن نعمل كما عمل

آباؤنا، وأن نلاقي على الأقل بعض ما لاقوه، أشكرهم شكرًا جزيلاً؛ لأني أرى ذلك

ظاهرًا في كل سطر من كلامهم، وأوافقهم كل الموافقة على ما قالوه من أن الهيئة

التي تملك البيعة لا بد أن يكون ممثلاً فيها كل الأقطار تمثيلاً يمنع الفتن التي عانى

الإسلام منها كثيرًا.

كفى ما لاقى المسلمون من المصائب والأحزان من جراء الخلاف على

الخلافة في هذه السنين الطوال، من عهد عمر رضي الله عنه إلى الآن، ذلك

الخلاف الذي كان هو المهلكة العظمى، والعامل الذي حفر القبر الذي كاد معاذ الله

يُدفن فيه الإسلام لولا أن الله يحفظ دينه، أقول بملء الارتياح كما قلت سابقًا: إن

هذه المسألة العظمى التي تتوقف عليها حياة الإسلام لا بد أن تجري على الوجه الذي

يمنع الفتن بين المسلمين في جميع الأقطار، ولا يوجد بينهم الحرب الداخلية عملاً

بأوامر الله تعالى، وما تقتضيه نظم العقل ونظم السياسة ونظم الاجتماع، فبكل

قلبي أوافقكم على أنه لا بد من هذا التمثيل. واسمحوا لي أن أقول دون أن أمس أية

عاطفة: إنه لا بد أن يكون هذا التمثيل معبرًا عن الرأي العام في كل قطر حتى

يكون المسلمون راضين وحتى نأمن شر الانقسام.

نحن لا نريد أن نعيد المهازل التي جرت في بعض البلدان كما جرت في

سالف الأزمان، نريد أن نعمل للإسلام عملاً جديًّا يرأب الصدع، فإن لم نعمل فلا

نهدم هذا هو ما ندين الله عليه وما نفديه بأرواحنا وما نشكر اللجنة عليه، وذلك ما

نريده من غير جدل ولا مناقشة بملء الصراحة وبدون أخذ ورد فيه؛ إلا أني أستسمح اللجنة في شيء آخر: أريد أن أًلاحظ على المادة الأولى ملاحظتين:

الأولى: أن اللجنة تعرضت لأمر البيعة، وأن هذا المؤتمر لم يشترك فيه

كثير من الأمم الإسلامية. وقالت: لم يوجد إلى الآن هيئة من أهل الحل والعقد تملك

حق البيعة، وأنا أقول: إن برنامج المؤتمر ليس فيه أمر البيعة، ولكني أشكرها؛

لأنها ذهبت في البحث إلى الصميم، وأوافقها فيه كل الموافقة.

الثانية: إن البت في أن الخلافة المستجمعة لشروطها المقررة في كتب

الشريعة لا يمكن تحقيقها بالنسبة للحالة التي عليها المسلمون الآن، نحتاج لأخذ آراء

الكثير من أمراء البلاد والسياسيين فيها وأهل الحل والعقد.

وقد قلنا في التقرير العلمي: إن أهل الحل والعقد هم الذين يطاعون في الناس

من العلماء والأمراء والأعيان، ومهمة اللجنة في هذا كانت صعبة وشاقة جدًّا.

وليعذرني المؤتمر في أن أقول: إنه لا يجوز لنا أن نقول: إن العالم

الإسلامي أصبح شراذم وجماعات، وفي الصف الثاني وأن نفت في عضد المسلمين،

أرى من العسير عليّ وعلى إخواني - والأسف ملء قلبي والحزن يشملني - أن

نعلن أننا اجتمعنا لنقول: إن المسلمين قد فقدوا كل حول وكل قوة. ولنقول: إن

المسلمين أصبحوا متفرقين في الأرض طوائف يستحيل اجتماعها على كلمة واحدة،

يعز عليَّ جدًّا أن نقول هذا ونقرره، وأن يكون هذا نتيجة مؤتمرنا.

وإذا كنا لسنا أهلاً لأن نبتّ في مسألة الخلافة؛ فكيف نكون أهلاً لأن نبت في

أن المسلمين قد فقدوا كل حول وقوة.

إننا كدينيين واجبنا [1] أن نقوي روح الإسلام في الناس، يعز علي جدًّا أن

نقول ذلك؛ لأن هذا شيء لا يجوز للديني أن يقوله، فيثبط عزائم المسلمين في بقاع

الأرض؛ إن الله يبعث من العدم قوة ومن التفرق جمعًا.

(فقال حضرة صاحب العزة وحيد بك الأيوبي: الإسلام الذي فيه أئمة أمثال

فضيلتكم لا يضعف إن شاء الله) .

وعاد فضيلة الأستاذ الشيخ الأحمدي فقال: كيف نقول هذه الكلمة التي سيكون

لها أثر فعال في المسلمين، وهي قضاء عليهم ثم نحاول أن نحيهم من جديد بلجان

وفي كم قرن يمكن ذلك.

أنتم ترون أن تعاليم الإسلام تؤخذ من كل جانب [2] ، فإلى أن تعمل اللجان

يكون قد ضاع كل شيء، فأناشدكم الله أن تتدبروا فيما قالته اللجنة وليست المسألة

مسألة أخذ وردّ بين عضوين أو أكثر، المسألة أكبر من ذلك وأكبر من مؤتمرنا

وجيلنا، وهي الحد الفاصل بين الحرب المعنوية القائمة بين تعاليم شتى وبين تعاليم

الإسلام.

هذا الجاوي، وهذا الهندي، وهذا البولوني إنما يعيش في شعاع من الأمل فلا

يجوز لنا أن نقطع هذا الشعاع. (وهنا صفق الحاضرون تصفيقًا حادًّا) .

إني لقد أخذتني عبرة، وما كنت [3] ولا كانت حياتي؛ إذا كان من عملنا أن

أقوم كأن أرثي الإسلام، وأن أستنهض رجال الإسلام، وأنتم أكثر غيرة مني.

فرجائي أن يقرر المؤتمر أن الخلافة الشرعية ممكنة، وأن بيعة الخلافة يجب

أن تكون من هيئات ممثلة لشعوب المسلمين على وجه يمنع الفتن، ويظهر [4]

الوحدة كما هو الغرض الأسمى من الخلافة، وألا تكون على الوجوه التي تثير الفتن

بأن تجتمع جماعة هنا، وجماعة هناك لمبايعة زيد وعمرو.

إن الخلافة ممكنة ولكن وسائلها لم تعد للآن، ومن أهم وسائلها أن يدعى

الناس جميعًا (؟) ليمثلوا طبقاتهم ليمكنهم أن يبتوا في هذا الأمر وفي هذا الواجب

المقدس.

نحن ندعو المسلمين جميعًا إلى ألا يهملوا الأخذ بالواجب المقدس، وعلى

الشعوب أن تستحث أممهم [5] لعقد اجتماع جامع يمكنه أن يبت في مسألة الخلافة،

وإلا فلو طال الزمن لماتت الخلافة، وأصبحنا كإبل بلا راعٍ.

نرجو أن نلم شعثنا ونوحد وجهتنا، فعلى المسلمين جميعًا أن يعملوا لإيجاد

هذه الهيئة الجامعة.

لعلي بهذا أكون قد وفقت بين مطالب الإسلام وما قررته اللجنة.

قولوا: إن الأمر ممكن، وحضوا المسلمين على أن يعملوا ليل نهار لتحقيقه

وإلا كنا آثمين، ولتكن مأمورية (؟) هذا المؤتمر توجيه رسالة إلى العالم الإسلامي

بما قلته.

فاللازم أن يكون في صيغة القرار المذكور في المادة الأولى من التقرير إمكان

إيجاد الخلافة المستجمعة للشروط الشرعية بدل عدم إمكانها إذ ما المانع من أن يتاح

للأمم الإسلامية الاتفاق والاتحاد فيما بينها وتتعرف ما سببته هذه الفرقة فتتكاتف

جميعًا وتضع يدها في يد من تجعله خليفة لعموم (؟) المسلمين عملاً بأوامر الدين

الحنيف، لا شك أن هذا ممكن ولا استحالة فيه أصلاً متى عالج المسلمون ذلك،

وقاموا متساندين وأوجدوا كل الوسائل التي تؤدي إلى هذه الغاية الشريفة أهـ.

وعلى أثر فراغه من خطبته قال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عطاء الله

الخطيب مقرر اللجنة:

أشكر فضيلتكم شكرًا جزيلاً باسم اللجنة، وأشكركم على ما أبديتموه من

الحماسة، وأعرض على حضرات الحاضرين أن اللجنة في قرارها لم تكن مخالفة

للرأي الحسن الذي أبديتموه، والاختلاف بين رأيكم وما تريده اللجنة اختلاف لفظي

فقط وإلا فالمعنى واحد؛ إذ كيف يمكننا أن نقول: إنه ليس في المسلمين اليوم من

يستحق أن يكون بهذه الصفة، وقد كان هذا مثار بحث في اللجنة، غير أن أفكارنا

لم تتسع لمعرفة الموجودين، ويؤيد قولي هذا انعقاد المؤتمرات في بلاد العالم وهذا

ليس اعترافًا بعدم الوجود.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: الخلاف بينكما

لفظي فقط. ويجب السعي على جميع المسلمين فلا تفتروا ساعة من نهار عن القيام

بهذا الواجب. وإنكم لتعلمون أن الخلافة واجبة في الإسلام وإهمال الواجب إثم

فيجب على المسلمين أن يتخلصوا من هذا الإثم. وأن الخلافة فرض كفاية.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إسماعيل الخطيب: إذا كان الخلاف

لفظيًّا، فأرى وجوب حذف العبارة التي تجعل اليأس في قلوب المسلمين وتوهم أننا

نحفر حفرة في الإسلام.

وهذه العبارة هي من قوله: ظهر جليًّا مما تقدم إلى قوله كما أنه لم يشترك في

هذا المؤتمر كثير من الأمم الإسلامية التي دعيت للاشتراك (؟) .

فوافق المؤتمر على ما ذكر.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسن أبي السعود: أرى أن ينشر تقرير

اللجنة في الصحف محذوفًا منه الجملة المذكورة.

فوافق المؤتمر على ذلك.

ثم قال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عطاء الله الخطيب مقرر اللجنة: هل

لأحد من حضراتكم بعد ذلك سؤال يتعلق بتقرير اللجنة؟

فلم يسأله أحد شيئًا.

فقال قبل أن أرجع إلى مكاني: أشكر حضرات الأعضاء على حسن ظنهم

باللجنة.

وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي: أتقدم لحضرات

الأعضاء بالشكر الجزيل على هذه الغيرة الدينية، وأبدي سروري بهذه العاطفة التي

تجلت أخيرًا وكانت كامنة من قبل، وهي أننا مسلمون، اجتمعنا من مشارق

الأرض ومغاربها لإعزاز وطن عام لنا هو الإسلام، اجتمعنا لأجل إحياء هذا

الوطن العام؛ فوسيلتنا واحدة وغايتنا واحدة وكأن غمامة كانت بين نفس هذا وذاك

فزالت، وأشكر الله أن تجلت النفسية للجميع، وأصبحنا كلنا متفاهمين على غاية

واحدة وغرض واحد.

لقد أبان فضيلة الأستاذ الشيخ الأحمدي أجلى بيان، وأبدى من الغيرة الدينية ما

نعهده فيه من قبل، وكأنما كان يحدث بما في النفوس وبما انطوت عليه القلوب مما

دل على أن الغاية واحدة، وأن الكل ينشدون الحق، وناشدوه لا بد أن يتلاقوا، هذه

حالة أُبدي اغتباطي بها.

وعلى ذلك تحددت مهمتنا ووصلنا إلى نتيجة، وكأننا كنا نتألم لتفرق وحدتنا،

وأن كل شعب منعزل عن أخيه لا يشعر بما يشعر به. وأنَّ الواجب أن تتضام تلك

الشعوب وتتساند حتى لا يكون كل شعب بمعزل عن الآخر، بل يكون الجميع كتلة

واحدة في الظاهر، كما هم -ولله الحمد- في الباطن، ويكون ما يرجوه المؤتمر من

تشخيص الداء ووصف الدواء قد تحقق، والأمر من الخطورة (؟) بحيث لا يكفي

فيه مؤتمر واحد، فليكن هذا نواة لما بعده، ولتكن مهمتنا قد انتهت الآن.

نقول: الخلافة واجبة وهي ممكنة في كل وقت ولم نصل بعد لتحقيق طرق

إيجادها، ولا أوصلنا البحث عمن يتصف بها اتصافًا تامًّا ولم يجتمع فيما بيننا من

يأخذون على عهدتهم تحقيقها، ولكن هذا إذا قيل الآن فلا يقبل من المسلمين أن

يسكتوا عليه.

فيا أيها المسلمون في كل إقليم جدّوا في البحث عمن تتحقق فيه وأنقذوا دينكم

وأجمعوا أمركم، ويد الله مع الجماعة.

ثم رفعت الجلسة للاستراحة وصلاة المغرب إذ كانت الساعة السابعة مساءً،

ثم عادت إلى الانعقاد إذ كانت الساعة الثامنة مساءً.

فاستأذن حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، وقال:

بناءً على ما تقدم أعرض على هيئة المؤتمر صيغة قراريصدره المؤتمر معدلاً

لتقرير اللجنة، اشتركت في وضعها مع حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة الشيخ

أحمد هارون والسيد محمد الببلاوي والشيخ حسن أبي السعود والشيخ محمد عبد

اللطيف الفحام والشيخ خليل خالدي والشيخ إبراهيم الجبالي وهي:

(قرر المؤتمر، أن إيجاد الخلافة الإسلامية الشرعية ممكن فيجب على

المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تهيئة أسبابها ووسائلها، وإعداد ما يلزمها

من عدة) .

ويرى المؤتمر، أنه يجب أن يراعي في تحقيقها الوجه الذي لا يفرق جماعة

لا المسلمين ولا يثير الخلاف بينهم، ولذلك يقرر أنه لابد لذلك من تمثيل جميع

الشعوب الإسلامية تمثيلاً تامًّا في اجتماع يحضره مندوبو الأقطار الإسلامية في أي

قطر يختاره المسلمون للاجتماع ليتشاوروا فيما يجب عمله لإيجاد الخلافة المستجمعة

للشروط الشرعية. ويرى أن هذا المؤتمر لم تمثل فيه جميع الشعوب الإسلامية

تمثيلاً تامًّا، وهو يوجه نداءه إلى جميع المسلمين في سائر أقطار الأرض، ألا

يهملوا أمر الخلافة التي هي روح الإسلام ومظهره، وأن يعملوا جميعًا لتحقيقها

على الوجه المذكور أداءً لهذا الواجب وخروجًا من الإثم بتركه أهـ.

فقال حضرة الأستاذ الثعالبي أفندي: نحن جميعًا الممثلين للشعوب الإسلامية

هنا لا نرى قطرًا أولى وأحق بعقد ذلك الاجتماع من القطر المصري فقد رأينا هنا

من الحرية في الرأي وسعة الصدر ونزاهة المقصد، ما لا يمكن أن يكون في قطر

آخر خصوصًا موقع مصر الجغرافي ومنزلتها العلمية والدينية فإن ذلك يجعلها من

العالم الإسلامي بمنزلة القلب.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي: أقترح أن تحذف جملة

(في أي قطر يختاره المسلمون للاجتماع) وتبقى الصيغة كما هي.

فقال حضرة الأستاذ الثعالبي أفندي: نحن لا نتركها مبهمة مطلقًا، بل يجب

أن ينص على تعيين المكان الذي يعقد فيه الاجتماع وهو القطر المصري، ولا

تترك ذلك لاختيار آخر بعد أن رأينا هذه النزاهة وهذه الحرية في الرأي.

وعند ذلك قام جميع الوافدين من الشعوب الإسلامية وقالوا: نحن نوافق الأستاذ

الثعالبي أفندي على كل ما قال، ونؤيده في أن مكان الاجتماع يكون في القطر

المصري للأسباب التي ذكرها.

فقال فضيلة الأستاذ الشيخ الظواهري: أرجو أنه إذا كان لا بد من تعيين

مصر مكانًا للاجتماع المقبل فليكن ذلك بعد وصول حضرات مندوبي الشعوب إلى

أقطارهم واستفتائهم فيما يختارونه من ذلك وليتفضلوا بمكانتنا بعد وقوفهم على رغبة

شعوبهم في مكان الاجتماع.

فقال حضرة الأستاذ الثعالبي أفندي: ليس هناك من حاجة مطلقًا إلى استفتاء

الشعوب بعد أن حضرنا هنا نمثلهم فكلمتنا تعبر عن رأيهم.

فقال حضرة الأستاذ وحيد الأيوبي بك: إن حضرات الوافدين ضيوفكم وهم

يطلبون أن يكون اجتماعهم عندكم فلماذا لا توافقونهم.

فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي: أقترح بقاء صيغة

الاقتراح الذي تلاه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، وأن يثبت فيها

أن الاجتماع يكون في القطر الذي يختاره مندوبو الشعوب الإسلامية فيها أن

الاجتماع يكون في القطر الذي يختاره مندوبو الشعوب الإسلامية، ويذكر بجوار

ذلك أن حضرات الوافدين من الشعوب الإسلامية طلبوا أن يعين مكان الاجتماع وأن

يكون بمصر القاهرة.

فوافق المؤتمر على ذلك ما عدا حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت،

ثم اقترح حضرة جمال الحسيني بك صيغة الاحتجاج الذي وافق عليه المؤتمر

بمناسبة حوادث دمشق.

فوافق المؤتمر على أن يكون الاحتجاج بالصيغة الآتية:

(تلقى مؤتمر الخلافة الإسلامي العام المنعقد في عاصمة الديار المصرية

برقيات عن الفظائع المريعة التي ارتكبت في مدينة دمشق عاصمة الخلفاء الأمويين

من إحراق وتهديم لمساجد الله وغيرها بالقنابل وجميع آلات التدمير والإهلاك

وتقتيل الأبرياء من الشيوخ والنساء والأطفال والعجزة، فقرر الاحتجاج

على ذلك لدى عصبة الأمم وحكومة الجمهورية الفرنسية، والرأي العام، وأن

يطلب باسم الإنسانية عامة إنصاف سوريا المفتجعة التي تستصرخ العالم الإنساني

أجمع) .

ثم قال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان: إني أحترم فيكم

أصالة الرأي، وأقدر لكم قوة الإرادة وأشكر أمما أنابتكم لتمثيلها، إنكم مرآة أرتنا

صور شعوب نحترمها، ونعتبر أننا معها أعضاء جسم واحد إذا اشتكى بعضه

تداعى إليه سائره.

نقدر لكم ما تجشمتم من المشاق وما قمتم به من الأعمال الجليلة، ونسأل الله

أن يجزيكم خيرًا.

إن مؤتمرنا هذا ليس كسائر المؤتمرات؛ بل له منزلة فوقها.

ليس كمؤتمر جغرافي ولا كمؤتمر زراعي، بل هو أول مؤتمر ديني عقد في

أكبر عاصمة إسلامية شرقية؛ فله من الاعتبار ما ليس لغيره، وإنه لتستفيد منه

الأمم الإسلامية، وتعتبر أنه ألف من نخبة علماء الأمصار الذين لهم في إصلاح

شؤونها رأي سديد؛ اجتمعنا وقررنا ما قررنا فهل لي أن أقول لحضراتكم: إن

وظيفتنا وإن كانت هي النظر في أمر الخلافة، فهل لنا أن نفكر في شؤون المسلمين

عامة. هل لنا أن نقول لحضراتكم يلزمنا نحن العلماء والمفكرين أن ننظر فيما

يصلح حال المسلمين في سائر أقطار الأرض يقول الله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ

بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج: 27-28) فسن الله تعالى لنا بذلك ثمرة الاجتماعات.

وهذا الاجتماع يصح أن نتعرف منه شؤوننا، يصح أن يبث كل منا لإخوانه

ما عليه أمته حتى نعرف الداء ونصف الدواء، ويكون هذا المؤتمر هو النواة التي

تثمر الخير إن شاء الله تعالى. إن الإسلام دين العزة ودين القوة ودين السعادة تمسك

به آباؤنا فعزوا وسادوا وقوي بأسهم وأهملناه فأُهْمِلنا.

هل ترون حضراتكم أن تكون حالنا متأخرة وقد كان آباؤنا في الدرجة الأولى

من التقدم؟ !

ليس لنا من الشؤون الاقتصادية ما ينهض بنا، ليس لدينا من الأخلاق ما يوجب

تقدمنا.

تأخرنا وتقدمت الأمم، فأقترح على حضراتكم أن تدوم الصلة بيننا وألا يكون

هذا المؤتمر آخر مؤتمر عقد للنظر في أمر إسلامي، انتهينا من أمر إبداء رأينا في

شأن الخلافة فعلينا أن نعقد المؤتمر تلو المؤتمر للنظر في الشؤون الأخرى.

ثم أذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس في تلاوة اقتراح من

حضرة الأستاذ وحيد الأيوبي بك تضمن طلب حل المؤتمر حيث أن مهمته قد انتهت

فتلاه محمد قدري أفندي نائب السكرتير العام.

فوافق عليه المؤتمر.

ثم قال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: الآن يجب علينا أن نشكر

حضرات علماء مصر على العمل العظيم الذي قاموا به، ونشكر سكرتارية المؤتمر

على ما بذلته من مجهود وما قامت به من عمل، ونشكر الحكومة المصرية على

سعة صدرها للسماح لنا بهذا الاجتماع، ونشكر جلالة ملك مصر المعظم على هذه

الحرية التي تجلت لنا في أكبر مظاهرها.

ثم نادى بحياة جلالة الملك فردد الحاضرون نداءه.

ثم أعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس حل المؤتمر شاكرًا

لحضرات الأعضاء تفضلهم بالحضور إلى القاهرة وما أبدوه من الغيرة الدينية

والاهتمام بشؤون المسلمين وما أتوا به من عمل في المؤتمر وداعيًا الله سبحانه

وتعالى أن يوفق المسلمين لما فيه الخير.

وانقضت الجلسة الساعة التاسعة والثلث مساءً.

نائب السكرتير العام

...

...

رئيس المؤتمر

إمضاء (محمد قدري)

...

ختم (محمد أبو الفضل)

***

قرار

المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر

في 7 ذي القعدة الحرام سنة 1344هجرية - (19 مايو 1926 ميلادية)

قرر المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر في جلسته المنعقدة في يوم

الأربعاء 7 ذي القعدة الحرام سنة 1344هجرية (19 مايو سنة 1926ميلادية) أن إيجاد الخلافة الإسلامية الشرعية ممكن، فيجب على المسلمين في مشارق

الأرض ومغاربها تهيئة أسبابها ووسائلها وأعداد ما يلزمها من عدة. ويرى المؤتمر

أنه يجب أن يراعى في تحقيقها الوجه الذي لا يفرق جماعة المسلمين، ولا يثير

الخلاف بينهم. ولذلك يقرر أنه لا بد لذلك من تمثيل، جميع الشعوب

الإسلامية تمثيلاً تامًّا في اجتماع يكون بالقاهرة، ويحضره مندوبو الأقطار الإسلامية

ليتشاوروا فيما يجب عمله لإيجاد الخلافة المستجمعة للشروط الشرعية، ويرى أن

هذا المؤتمر لم تمثل فيه جميع الشعوب الإسلامية تمثيلاً تاماً. وهو يوجه نداءه

إلى جميع المسلمين في سائر أقطار الأرض ألا يهملوا أمر الخلافة

التي هي روح الإسلام ومظهره وأن يعملوا جميعًا لتحقيقها على الوجه المذكور أداء

لهذا الواجب وخروجًا من الإثم بتركه.

8 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ

... شيخ الجامع الأزهر

20 مايو سنة 1926 م

...

... ورئيس المؤتمر

...

...

...

... محمد أبو الفضل

_________

(*) منقول عن " محاضرة " مؤتمر الخلافة التي نشرتها سكرتارية المؤتمنر.

(1)

المنار: هذا تعبير صحفي مترجم معناه أن الواجب علينا بنسبتنا إلى الدين أو من حيث إننا دينيون كذا وكذا.

(2)

المتبادر من أخذ تعاليم الإسلام تلقيها كقوله تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ](الحشر: 7) وقوله: [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّة](البقرة: 63) وهو غير مراد بل تدل القرينة على أن مراده أنها تختان وتنتقص وتنفصم عراها، وينكث قتلها وما في معنى هذا.

(3)

كذا في الأصل وهو غير ظاهر ولعله: فلا كنت إلخ.

(4)

الأولى أن يقال: يقرر الوحدة أو يحققها.

(5)

لم نفهم مراده من الشعوب والأمم وكان الظاهر أن قول: نستحث أو تحث زعمائها، وأهل الحل والعقد فيها على عقد اجتماع إلخ.

ص: 449

الكاتب: عبد الرحمن الجمجموني

‌مبحث في الجرح والتعديل

(2)

إثبات توثيق كعب الأحبار ووهب بن منبه

هذا ما يتعلق بكعب الأحبار في هذا الموضع، وأما وهب بن منبه، فهو من

جهة عدِّه من رجال البخاري محل اتفاق؛ لأن البخاري روى عنه في صحيحه حديثًا

صحيحًا نافعًا لأنه يتضمن إثبات كتابة العلم أي (الحديث) في زمن النبي - صلى

الله عليه وسلم - وذلك في كتاب العلم من صحيح البخاري كما أن البخاري احتج

(بوهب) في أول كتاب الجنائز من صحيحه حيث قال: وقيل لوهب بن منبه:

(أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ ، قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلَاّ له أسنان، فإن

جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) ، وهذا يدل على أن وهبًا لم يكن

جبريًّا في عقيدته حيث قال في الفتح وروى عن معاذ بن جبل مرفوعًا نحوه بل

كان سنيًّا.

وخلاصة هذا الموضع، ثبوت أن كلاًّ من كعب ووهب من رجال البخاري

الأول احتجاجًا، والثاني احتجاجًا ورواية، وأن ذلك توثيق لكل منهما معتبر عند

رجال الحديث، وأما كونهما من رجال بقية الكتب الستة المبينة في أول كلامنا

فحسبنا دليلاً على ذلك كتاب تهذيب التهذيب نفسه وفي ذلك توثيق أيضاً، مؤكد لما

قبله، وصار تضعيف ابن الفلاس لوهب لا يعبأ به بعد احتجاج ورواية البخاري

عنه، قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري صحيفة 450 في الكلام على وهب بن

منبه ما نصه:

(وثقه الجمهور وشد الفلاس فقال: كان ضعيفاً) فأصبح هذا التضعيف لا

أثر له بعد أخذ البخاري عنه، والتقليل من شأن أو عدد ما أخذه البخاري أو مسلم

عن أحد الحبرين لا يصلح حجة على عدم توثيق كل منهما، فإن المدار في ذلك

على ما يدل على ثقة صاحبي الصحيحين بأحدهما، وحديث أو احتجاج واحد كافٍ

في الدلالة على ذلك بدليل أن علماء مصطلح الحديث لم يشترطوا تعدد الأخذ في

قولهم: (كل من أخذ عنه البخاري أو مسلم فهو ثقة، ولا يقبل قول من جرحه

بعد) .

***

الموضع الثالث

(الاحتجاج بما لا يحتج به لعدم صحة سنده أو لخروجه من موضوع البحث) .

وقبل الكلام في ذلك أنقل يسيرًا مما قرره علماء الحديث في التحذير من جرح

رجال الحديث بغير تثبت.

قال العلامة ابن الصلاح في المقدمة في النوع الحادي والستين ما نصه:

(على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى ويثبت ويتوقى التساهل كيلا يجرح

سليمًا أو يسلم بريئًا بسمعة سوء يبقى عليه الدهر عارُها) .

ونقل العلامة القاسمي في كتابه الجرح والتعديل صحيفة (4) من علماء

الحديث أنهم قالوا: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها

طائفتان من الناس المحدثون والحكام. أهـ فأمام هذا التحذير الشديد لا يصح

الاحتجاج في تجريح كعب، ووهب بما نسب إليهما من الأخبار المنتقدة في بعض

كتب التفسير أو التواريخ أو القصص لاحتمال أن ذلك موضوع ومنسوب إلى أحدهما

من باب حسن السبك وخصوصًا ما كان من ذلك من أخبار بني إسرائيل

فلشهرة الحبرين بمعرفتهما تلك الأخبار جعلهما الوضاعون هدفًا لأغراضهم، ومن ذلك الخبر الذي هو مثار هذا المبحث من أوله إلى آخره، وهو ما نقلتم عن ابن

كثير في التفسير عند قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: 107) من قصة

سيدنا موسى مع فرعون في سورة الأعراف من أن وهبًا قال: (إن العصا لما

صارت ثعبانًا حملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا قتل

بعضهم بعضًا، وقام فرعون منهزمًا) قال ابن كثير رواه ابن جرير والإمام أحمد

وابن أبي حاتم وفيه غرابة في سياقه والله أعلم. أهـ منار

أما غرابة السياق فمسلمة؛ لأن اجتماع هذا العدد الذي مات فقط فضلاً عمن

نجا على غير انتظار أمر لا يتصوره عاقل لأن دخول سيدنا موسى وأخيه على

فرعون أول أمره كان على غير انتظار، ولكن من جهة صحة سند هذه الرواية إلى

وهب فإن في سند ابن جرير من هو مجهول كما قدمنا في أصل الانتقاد والرواية

عن المجهول لا يعتد بها لاحتمال أن ذلك المجهول هو الواضع لها. والإمام أحمد

لم يروه في مسنده كما هو ظاهر عبارتكم؛ لأن ابن كثير صرح في عبارته أنه في

الزهد وهو لم يكن من كتب الحديث المعروفة فلا مانع أن يكون في سنده انقطاع

أيضًا.

وابن أبي حاتم تفسيره كتفسير ابن جرير، بل إنه يروي في الموضع الواحد

المتناقضات بدليل ما نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح في تعيين (مجمع

البحرين) في تفسير سورة الكهف، حتى قال ابن حجر: وهذا اختلاف شديد

فانظره، وعلى ذلك لم يوجد سند صحيح بأن هذا الخبر الغريب صدر من وهب،

وحينئذ فلا تصح مؤاخذته به، ويدل على أنه موضوع على وهب أنه لم يروه أحد

من أصحاب كتب الحديث المعتبرة مثل البخاري أو مسلم، أو غيرهما من الكتب

التي يصح للمطلع عليها أن يقطع أو يظن أن ذلك صدر منه، وما دام أنه لم يوجد

ذلك فلا محل لتوجيه اللوم إليه بناءً على أمر وضعه عليه أقرب جدًّا من صدوره

منه.

ومثل ذلك بل أقل منه ثبوتًا ما جعلتموه عمدتكم في الطعن على الحَبْرين،

أخيرًا حيث قلتم بصحيفة (718) من الجزء التاسع المذكور في بقية الرد علينا ما

نصه: هذا وإن عمدتنا في جرح رواية وهب ما جاء به من الإسرائيليات التي

نقطع ببطلانها، وهو آفتها كروايات كعب فيها، وقد شوَّها تفسير كتاب الله بما بثَّا

فيها (كذا) من الخرافات، وبما أدخلا فيها (كذا) من العقائد الباطلة ومن تأييد

عقائد أهل الكتاب، والشهادة لكتبهم التي بين أيديهم بالصحة.

ونكتفي في هذه، وهي شرها بما نقله الحافظ ابن كثير عنه في تفسير قوله

تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ

إلخ} (آل عمران: 78) قال

وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف،

ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم {وَيَقُولُونَ

هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: 78) فأما كتب الله فإنها

محفوظة ولا تحول. رواه ابن أبي حاتم. أهـ (منار)

فهذا رواه ابن أبي حاتم وحده فهو أقل ثبوتًا من سابقه فلا يصح أن تجرحوا

وهبًا بناءً على مثل هذه الرواية الساقطة بقولكم بعد ذلك: (إن وهبًا كان كذابًا غاشًّا

للمسلمين بصلاحه) اهـ.

هذا مما احتجيتم به وهو لم يصح الاحتجاج به لعدم صحة سنده.

وأما ما جعلتموه حجة وهو خارج عن الموضوع فهو ما ذكرتموه بصحيفة

(78)

من الجزء الأول المذكور في أول ردكم من الإطناب في ذكر توراة اليهود

وإنجيل النصارى الموجودين وجعلهما حجة على كذب الحبرين لكون كثير من

الأخبار نسبت إليهما عن بني إسرائيل لم توجد فيهما حيث قلتم: فإن توراة اليهود

بين الأيدي، ونحن نرى فيما رواه كعب ووهب عنهما ما لا وجود له فيها ألبتة على

كثرته إلخ. فهذا فضلاً عن خروجه عن الموضوع لما هو مقرَّر عند جميع علماء

المسلمين من أن كتابي اليهود والنصارى الموجودين لا يصح الاحتجاج بهما لما

ثبت بالقرآن والأحاديث الصحيحة من تحريفهما وتبديلهما. فقد نقضتموه بقولكم

أخيرًا بصحيفة 719 من الجزء التاسع المذكور في آخر ردكم علينا بما نصه:

أقول إن كثير قد علم من حال كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلم أئمة الجرح والتعديل

ممن فوقه كأحمد وابن معين والبخاري ومسلم الذين لم يروا هذه الكتب كما رآها

ولم يطلعوا على ما بينه المطلعون عليها قبله من تحريفها وأغلاطها ومخالفتها لما

نقطع به من أصول الإيمان بالله ورسوله إلخ، كابن حزم وابن تيمية أستاذه

إلخ. أهـ منار

وعلى أيّ حالة كانت فإن ذلك لا يوجب جرح الحبرين فإن رأي ابن حزم

وابن تيمية معروف لدى جمهور العلماء فيما يختص بتحريف كتابي أهل الكتاب

وغيره، وقد فصل القول في مسألة التحريف الحافظ ابن حجر في الفتح في كتاب

التوحيد عند شرح باب قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 21-22) ونقل كلام ابن حزم وابن تيمية وغيرهما، ولم ينقل عن أحد

الطعن على الحبرين مطلقًا.

وابن حزم متوفى سنة 456 وابن تيمية توفي سنة 728 وقد وثق الحبرين

بعد ذلك كثير من العلماء المطلعين على أقوالهما، وقد تقدم ذكرهم واستمر توثيقهما

إلى الأعصر القريبة فصاحب كتاب إظهار (الحق) ممن سبق توثيقه لكعب وهو

فرغ من تأليفه سنة 1280 هو صاحب الفضيلة الشيخ الخضري الموجود وثق وهبًا

في كتابة تاريخ التشريع الإسلامي بصحيفة 158 وابن حزم وابن تيمية لم يصدر

منهما طعن على أحد الرجلين فكل ما يتعلق بكلامهما خارج عن الموضوع.

(والكلمة الختامية) أن مبحث الجرح والتعديل مبحث نقلي محض لا مجال

للعقل فيه مطلقًا إلا من حيث الاطلاع على ما دوّنه علماؤه في سجلات أسفارهم

فالمجروح من جرحوه والموثَّق من وثقوه، وما علينا إلا الاطلاع على أحكامهم في

ذلك فننفذها كما صدرت، والله ولي التوفيق.

...

...

...

... عبد الرحمن الجمجموني

(المنار)

سنبدي رأينا في هذا النقد في الجزء التالي إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 459

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ذات بين مصر والحجاز

حادثة المحمل الشريف وأثرها في الصحافة:

قد ذاع في أرجاء العالم كله نبأ حادثة سميت (حادثة محمل الحج المصري)

في (منى) من أرض الحرم المكي المقدسة فقد طارت به الشركات البرقية،

وخاضت فيه جرائد الشرق والغرب، ولم أر جريدة من الجرائد المصرية ولا

السورية بينت الحادثة كما وقعت على كثرة من كان في موسم الحج من مراسلي هذه

الجرائد، وجريدة (أم القرى) المكية وهي التي تحرت الصدق في الرواية

اختصرت الخبر، وأوجزت فيه، ومن الغريب أن البلاغ الذي أذاعته الوكالة

الحجازية النجدية بمصر لم يخلُ من غلط ولم يبين الحقيقة ومن كل وجه، وسنبينها

في رحلتنا الحجازية.

وكانت وجهة الجرائد المصرية فيه سياسية لا دينية فقد عدته نزاعًا بين

حكومتي القطرين وشعبيهما فطفقت تطعن في النجديين وحكومتهم كدأب الجرائد

السياسية في هذا العصر، ولا يوجد الآن في مصر جريدة إسلامية تراعى أحكام

الشريعة الإسلامية في كتابتها كالجرائد الدينية المعروفة في جميع الشعوب وإن

كانت سياسية (كجريدة البشير الكاثوليكية في بيروت) والجرائد المصرية التي قد

تسمى إسلامية يراد بنسبتها إلى الإسلام أن أصحابها من الشعب الإسلامي، وإن

كان بعضها يطعن في الإسلام ويدعو إلى تركه، ومنها ما لا يقبل أصحابها نشر

شيء فيها يؤيد الإسلام ولا يمتنعون عن نشر ما يخالفه، وإن كانوا لا يدعون إلى

تركه كغيرهم ممن يسمون مسلمين.

وإن أمين بك الرافعي قد اشتهر بين محرري الجرائد المصرية ومديريها

بالتدين ومراعاة أحكام الإسلام، وما اشتهر إلا بحق فهو مسلم فعلاً لا سياسة وجنسية

فقط، وهو مع ذلك من أركان الوطنية وعلماء القوانين وقليل الإلمام بالفقه الإسلامي

وكان في أيام هذه الحادثة في الحجاز كثير الاتصال بأمير الحج ورجاله ومراسلاً

لجريدة (السياسة) اللادينية، وقد رأيت من مقالاته فيها ما أنصف به الوهابية

وتحرى الحق فيما كتبه عنهم كعادته الحميدة، ولكن ما كتبه في حادثة المحمل لم

يكن كذلك؛ لأنه تلقى أخبارها من أمير الحج ورجاله من جهة؛ ولأنه ظن مع هذا

أن ما صوروه له من تعدي الأعراب النجديين على المحمل ورميه بالحجارة وإصابة

هذه الحجارة بعض حرسه يبيح لأمير الحج شرعًا أن يرميهم في أرض الحرم

بقذائف المدافع والرشاشات فتقتل من تقتل بغير حساب. (وسنبين في الرحلة أن هذا خطأ محض لا يحتمل الصواب) .

فكان ما كتبه انتصارًا لأمير الحج وحجة للجرائد الوطنية في خطتهم التي

أشرنا إليها آنفًا، وبابًا مفتوحًا لخصوم الوهابية السياسيين كالإيرانيين وغيرهم

والدينيين كعباد القبور ومرتزقة الخرافات، على أن السياسيين المجاهرين

والدساسين قد ألبسوا سياستهم ثياب الدين اتباعًا لسنة آبائهم الأولين.

حملت الجرائد على الوهابيين حملة واحدة لا يصدها صد، ولا تقف دون حد

وأباحت صفحاتها لأصحاب الأهواء السياسية والخرافية الدينية المخالفين لهم في

عقائدهم وآرائهم وأفكارهم، وانتصر السعديون والدستوريون منهم لمنفذ سياسة

حزب خصومهم (الاتحاديين) في الحجاز وهو أمير الحج وهم غافلون، ولكن

الحكومة الائتلافية الحاضرة لم يخف عليها ما خفي على كل هؤلاء، فهي لم تكد

تحل محل الحكومة الاتحادية حتى بادرت إلى الاعتراف بما لم تعترف به من ملكية

جلالة عبد العزيز آل سعود على الحجاز وبإرسال وفد رسمي إلى المؤتمر الإسلامي

الذي دعا إليه وأقامه بمكة المكرمة، ثم إنها علمت من خطأ أمير الحج ما لم يعلمه

أصحاب الجرائد والجمهور، وإنما علمته من تقريره الرسمي الذي هو أكبر حجة

عليه كما يدل عليه ما نشره في جريدة الأهرام، علمت هذا وثبت عندها أن جلالة

ملك الحجاز وسلطان نجد برهن بمعاملته لأمير الحج وبغير ذلك على شدة حرصه

على موادة مصر والحكومة المصرية، وهي أجدر بأن تعلم ما لا يعلم الجمهور من

مصلحة البلاد في هذه الموادة.

***

إلمام الأمير سعود بمصر وحسن تأثيره:

بينما الجرائد الكثيرة تسرف في خطتها التي بيناها مع الإشارة إلى عذر

أكثرها فيها، حتى إن بعضها حث الحكومة المصرية على التصدي لإخراج

الوهابيين من الحجاز لتنفيذهم أمر الشريعة بهدم ما بني على القبور المعبودة من

المساجد والقباب، كأن إخراجها إياهم من الهنات الهينات، والراجح أن المقترح لا

يدين الله بهذه الخرافات، بل نخشى أن لا يدين الله تعالى بالعقائد اليقينيات، ولا

بالصلاة والزكاة، والجميع يجهلون ما عند الحكومة من المعلومات، الثابتة بالحجج

والبينات.

بينا ما ذكر كما ذكر؛ إذا بأسلاك البرق تنبئ أن الأمير سعودًا أكبر أنجال

ملك الحجاز وسلطان نجد سيؤم مِصر لمعالجة عينيه (لا لغرض آخر) ، وأن

الحكومة المصرية قد دعته إلى نزوله ضيفًا عليها، وتلا ذلك أخبار الجرائد تترى

بإعداد دار خاصة لضيافة سموه، قد وُكِّل تنظيمها وتأثيثها إلى سعادة محافظ مصر

(بالنيابة) وبأن دولة وزير الخارجية قد زار هذه الدار بنفسه وأشرف على ما

يعمل فيها.. .، وبأن الأوامر الرسمية قد صدرت إلى قنصلية مصر في جدة وإلى

محجر الطور وإلى السويس بأن يقوم رجال الحكومة في كل منها بما يجب من

خدمة سمو الأمير في مكانه.. . وبأخبار تنفيذ هذه الأوامر بالعناية التامة.

ثم وصل الأمير إلى القاهرة فاستقبل فيها استقبالاً فخمًا من قبل الحكومة

والأمة وفتح له الباب الملكي في محطة مصر، ثم أقبل على زيارته في دار

الضيافة مندوب جلالة الملك، والوزراء، وكبار العلماء، والشيوخ والنواب،

ومندوبو الصحف، وغيرهم، وزار هو دولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول في

بيت الأمة، ودولة رئيس الوزراء في ديوانه ومجلسي الشيوخ والنواب ومعاهد

العلم والدين كالمساجد الكبرى، ودور الآثار القديمة المصرية والعربية والكتب

المصرية، وحديقة الحيوانات، وبنك مصر، والمطبعة الأميرية.. . إلخ. وكان

يقابل في كل مكان رسمي وغير رسمي بالحفاوة والإجلال، وتحدث معه بعض

مندوبي الصحف فسمعوا منه أحسن الحديث وأحكم الأجوبة عما سألوه عنه، وفي

كل يوم تنشر الصحف أخبار تنقله وزائريه وتنزهه كما تنشر أخبار ملك

البلاد، وكتب بعضها مقالات خاصة في الثناء عليه ووجوب الحفاوة به ومنافع

المودة والاتفاق بين حكومة جلالة الملك والده، والحكومة المصرية ومن أحقها

بالتأمل مقالة لجريدة البلاغ الوفدية السعدية (ولا نتنزه عن الإشارة لشذوذ ثلاث

جرائد أسبوعية سفهت علينا وعلى الوهابية رجاء أن يلقمها الأمير حجارة جنيهات

يقطع ألسنتها البذيئة كدأبها ودأب أمثالها) .

كان كثير من الناس يظنون بما كانوا سمعوه من مطاعن أعداء الوهابية

الغابرين وخصومهم الحاضرين أن أهل نجد المنبوذين بلقبها أعراب شذاذ في دينهم

وأخلاقهم وعاداتهم وآرائهم فرأوا من الأمير سعود وبطانته وحاشيته مثلاً أعلى

وأكمل مما كانوا يظنون ومما يعهدون من غيرهم دينًا وأدبًا وفضيلة، أكبروا تقوى

الأمير واستمساكه بعروة الدين الوثقى، وأعجبوا بآدابه وشمائله، واستحسنوا آراءه

وأفكاره في كل ما حدثوه به.

رأوا أن الأمير كان يصلي كل صلاة في أول وقتها بالجماعة أنى أدركته من

مكان رسمي كمجلس النواب، أو ضاحية عامة كحديقة الحيوانات، أو دار خاصة

كدار محافظ مصر، كانوا سمعوا أن من عناية الحكومة بدار الضيافة أن جعلت فيما

جعلته فيها من خدم وحرس عسكري وموظفين مؤذنًا أوصته بأن يلتزم في أذانه

مذهب الوهابية، فتوهم بعضهم أن أذان الوهابية مخالف لأذان سائر المذاهب

الإسلامية، ثم سمع من زاروا تلك الدار أو مروا بها وسمعوا أذان مؤذنها أن

الحكومة لم تجامل الأمير باتباع مذهبه المخالف للمذاهب المعروفة فيها! بل سمعوا

الأذان الشرعي المتفق عليه في جميع مذاهب السنة المنصوص في كتب السنن

النبوية كلها وكتب فقه المذاهب الأربعة كلها بدون زيادة في كلماته المعدودة المنقولة

بالتواتر كما يزيد بعض مبتدعة المؤذنين في مصر في بعض الأوقات ولا

سيما أذان الفجر صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ونداء لبعض المعتقدين

المعبودين بدعائهم مع الله أو من دون الله، كقول بعضهم في آخر الأذان: (يا شيخ

العرب) دعاء ونداء للسيد البدوي المشهور بهذا اللقب، وبدون زيادة في نغم الأذان

وصفة أدائه، وتجاوب اثنين أو أكثر فيه كالأذان الذي يسمونه بالسلطاني، ويخالف

مذهب الشيعة الذين يقولون في الأذان (حي على خير العمل) وهي كلمة

منسوخة.

فهذه المسألة تجلي لمن يحب معرفة الحقائق كنه الفرق بين الوهابية ومخالفيهم.

الوهابية على مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل رحمة الله تعالى وهو رابع أئمة

الفقه الأربعة، وإنما يذكر رابعًا؛ لأنه متأخر عنهم ولادة ووفاة لا لأن ترتيبهم ترتيب

فضيلة، فكل منهم مجتهد مطلق، وكان هو أعلمهم بالسنة من حيث سعة الرواية

ونقد الرجال ومعرفة الآثار، ومن تلاميذه أكبر مدوني السنة كالشيخين البخاري

ومسلم وأبي داود وأجل من بعدهم تلاميذ تلاميذه رضي الله عنهم أجمعين،

إلا أن الوهابية أشد أهل السنة استمساكًا بها، ورفضًا للبدع المخالفة لها بالزيادة أو

الصفة كما ذكرنا في الأذان أو النقص بالأولى، وقد شنع عليهم بعض أعدائهم بما

جعل اتباعهم للسنة وإجماع مذاهبها ضلالاً، وخروجًا منها أو من الإسلام بتحريف

باطل إذ قالوا: إنهم يمنعون الصلاة على النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى

آله وأطلقوا القول في ذلك حتى إن بعض حجاج بلدنا في الموسم الأخير قالوا لي

بمكة: إننا كنا سمعنا أن الوهابية منعوا الشهادة بالرسالة من الأذان ويعاقبون من يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمعنا الأذان في الحرم كاملاً كما

نعلمه (! !) وذكر أمين بك الرافعي في رسالة من رسائله المكية إلى جريدة

السياسة حديثًا، جرى بينه وبين الملك عبد العزيز آل سعود فنص فيه أن من عادته

تكرار الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكره في المجلس

وإن كثر، وهو لم يعهد هذا من أحد غيره.

هذا مثل واضح من مطاعن أعداء الوهابية فيهم بالباطل والتحريف جعلوا

تمسكهم بالسنة مخالفة للسنة، ولو جازت الزيادة في الدين ولا سيما شعائر الإسلام

كالأذان لزاد الناس في الصلاة والحج وغيرها حتى لا يعرف الأصل من الزائد

وذلك مخالف لقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ولاقتضى

ذلك أن يكون الآخذون بالزيادة أكمل عبادة من النبي صلى الله عليه وسلم

وأصحابه والتابعين لهم وخير القرون الذين شهد صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم

خير الأمة.

صلى الأمير الجمعة في الجامع الأزهر ففرشت له الطريق من الباب

الخارجي إلى المحراب كما يفرش لملك البلاد واجتمع الجماهير من العلماء

والطلاب حفاوة به، وصلى بجانبه بجوار المنبر الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر ورئيس

المعاهد الدينية والمفتي الأكبر وغيرهما من كبار العلماء الرسميين، وزار بعد

الصلاة مجلس إدارة الأزهر وقدمت له فيه المرطبات، ونفح خدم الأزهر بطائفة

من الجنيهات، وودعه العلماء بمثل ما استقبلوه به من الإجلال.

وصلى جمعة أخرى في المسجد الحسيني، وزار بعد الصلاة حجرة الآثار

النبوية المشهورة فكان كلما عرض عليه شيء منهما قال: اللهم ارزقنا اتباع آثار

نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأذاعت الجرائد له أنه زار المشهد الحسيني

أي القبر المنسوب إلى الإمام الحسين السبط عليه سلام الله ورضوانه كذبًا وزورًا؛

لأن المحققين من مؤرخي أهل السنة والشيعة قد صرحوا بأن رأسه رضي الله عنه قد

أعيد من الشام إلى كربلاء بعد أن حمل إلى يزيد ودفن مع الجسد هنالك

وصرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية من أئمة المحدثين ومؤرخيهم، وقد أنكرت هذا

على الأمير كتابة، فمشافهة وقلت له: كيف تزور قبرًا مزورًا يعبد من دون الله أو مع

الله بالدعاء والطواف والنذور وغير ذلك؟ فكذب الخبر وقال: إنه لم

يدخل حجرة المشهد ولا رأى ذلك القبر، واستشهد على ذلك مصطفى بك منير

المدير الرسمي لدار الضيافة (مهمندار) فشهد وكذب لي ذلك قبله الشيخ فوزان وكيل

الحكومتين الحجازية والنجدية، وسألتهما عما نشر في الجرائد من حضوره

لحفلة الموسيقى العسكرية في حديقة الأزبكية وتصفيقه للعازفين فأنكرا ذلك أيضًا،

وقالا: إنه إنما دخل الحديقة لحضور حفلة شرب الشاي التي دعي إليها ولم

يحضر محل عزف الموسيقى، وإنما سمعها من بعد بغير قصد ولم يصفق لها،

وقد وعدا بتكذيب الخبرين في الجرائد ولم يفعلا، بل نقلت جريدة (الكوكب)

بعد ذلك في حديث لأحد محرريها مع الأمير ومهمنداره أنه زار المشهد (؟) ولم

يكذبه أحد والظاهر أن لحاشية الأمير أغراضًا في مثل هذا.

وجملة القول أن وجود الأمير في مصر كان حجة مشاهدة على أن من

يسمونهم الوهابيين هم خيار أهل السنة دينًا وأدبًا وفضيلة حجة أخرست الطاعنين

فيهم من أصحاب الأهواء السياسية والخرافية، كما أن عشرات الألوف من حجاج

الآفاق الذين أموا المسجدين المكي والمدني حجاجًا وزائرين قد شاهدوا من تأمين

البلاد، ومن حرية المذاهب الإسلامية التي تجلت أكمل التجلي في المؤتمر

الإسلامي ما هدم الدعاية الإيرانية التي بثت في العالم قبل الحج (والعاقبة للمتقين) .

_________

ص: 463

الكاتب: محمد رشيد رضا

بدع أهل الطرق المنسوبة إلى الصوفية

‌نموذج من كتاب

القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد، حمدًا لله، والصلاة والسلام على نبيه ومن والاه فقد رفع إلينا سنة

1312هـ، سؤال هذا نصه:

ما قول السادة العلماء في حكم الأذكار الملحونة وقصر لفظ الجلالة واستماع

الأذكار المحرفة، والذكر جهرًا، ومع الجماعة وما حكمه، والهزة والتمايل

والإنشاد في الذكر، واستعمال الخرقة والحزام، وعلم الراية، والذكر بمثل أنا أنت

وأنت أنا، وفي التكلم بين العامة بعبارات الصوفية الغامضة، وفي الطبل والزمر

والتصفيق بالأيدي ورفع الأصوات بالألفاظ الساذجة حال الذكر، وفيما يحصل من

الرطانة المعروفة عند أهل مصر بضرب اللوندي، وفيما يقع من أرباب الطرق

حال ذهابهم إلى بعض الأضرحة أو البيوت لإقامة حفلة الذكر فيه من رفع أصواتهم

في الطرق بالأذكار المحرفة والصلوات المبدلة، والفواتح المتعددة كلما وصلوا لجهة

فيها بعض إخوانهم أو جعلوها موعدًا للقائهم - وحمل واحد يسير أمامهم بفانوس

يسمى بالزي، وفيما يفعلونه في الموالد والليالي الرسمية أثناء ذهابهم إلى مركز

مشيخة الطرق من الاصطفاف ميمنة وميسرة، يحمل لهم الشموع الموقدة والمجامر

الأرجة غلمان مجملون بالملابس الفاخرة والمناطق المطرزة الناعمة، وفيما

يسمى بزفة الرفاعي والبيومي وزفة الفار، وفي التصدي لمشيخة الطرق وأخذ

العهود وإرشاد الخلق ممن ليس أهلاً للإرشاد؟ أفيدوا الجواب ولكم من الله حسن

الثواب. فأجبت مستعينًا بالله تعالى.

تمهيد:

أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى

الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل

ضلالة في النار، وأيما قول أو عمل صادم نصًا من كتاب الله أو هدي رسوله فهو

رد على صاحبه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم أمرين لن

تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقال:

(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)[1]

وأن غالب هذه الأمور التي اشتمل عليها السؤال المذكور من البدع السيئة

المحدثة في الدين التي يجب على كل قادر من المسلمين إزالتها لقوله عليه الصلاة

والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع

فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) [2] وقوله: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون

على أن يغيروا فلم يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب) [3] وقوله: (إذا عملت

الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها

فرضيها كان كمن شهدها) [4] .

وإلى الناس بالمسارعة إلى ذلك سواس الأمة وعلماؤها الذين لهم الزعامة في

الدين، وإليهم المرجع في أمور المسلمين، وعليهم الاحتفاظ بمعالم الشريعة

والإرشاد والذود عن حماها؛ لأنهم رعاة والناس مرعيون، وقادة والناس مقتدون.

فإذا تغاضوا عنها أو تواكلوا في إزالتها، أو بدا منهم ما يشعر باستحسانها

والرضا عنها كانت التبعة عليهم مضاعفة، واندرجوا في وعيد قوله عليه الصلاة

والسلام (إذا ظهرت البدع وسكت العالم فعليه لعنة الله)[5] وليس المراد بالعالم من

تزيا بالزي الخاص، بل كل من يعلم الحكم الشرعي في الحادثة، وقوله: (من مشى

إلى صاحب بدعة ليوقره، فقد أعان على هدم الإسلام) [6] وقوله: (من نظر إلى

صاحب بدعة بغضًا له في الله ملأ قلبه أمنًا وإيمانًا، ومن انتهر صاحب بدعة أمَّنه

الله يوم الفزع الأكبر، ومن استحقر صاحب بدعة رفعه الله في الجنة مائة درجة

ومن لقيه بالبشر أو بما يسره فقد استخف بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه

وسلم) [7] .

وكثيرًا ما كان يتمثل الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه بهذين البيتين:

من الدين كشف العيب عن كل كاذب

وعن كل بدعيٍّ أتى بالمصائب

ولولا رجال مسلمون لهدمت

صوامع دين الله من كل جانب

وأول من أحدث هذه البدع في الطرق الصوفية جماعة من مرتزقة الأعاجم في

أواخر القرن الرابع استمرءوا مرعى الخوانك [*] التي أحدثها بمصر أهل الخير

والنجدة ليأوي إليها الزهاد والعباد فتدثروا بشعار الصوفية لينسبوا إليهم، وتعطف

القلوب عليهم، وانتهجوا مناهج أهل الإباحة فأتوا من المنكرات ما يبرأ منه الدين

وأهل التصوف.

(له بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: الحديث الأول رواه الحاكم من حديث أبي هريرة بلفظ قريب من هذا، والحديث الثاني متفق عليه.

(2)

رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري.

(3)

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان عن جرير بسند حسن.

(4)

رواه أبو داود عن العرس بن عميرة وصححوه.

(5)

لا أعرفه بهذا اللفظ، وفي الجامع الصغير عن ابن عساكر من حديث معاذ (إذا ظهرت البدع ولعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فلينشره فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل على محمد) وأشار السيوطي إلى ضعف سنده.

(6)

عزاه في الاعتصام إلى ابن وضاح عن عائشة بلفظ (من أتى) إلخ.

(7)

هذا الحديث لا أذكر أنني رأيته في شيء من دواوين السنة.

(*) جمع خانكاه وهي كلمة فارسية معناها بيت وقد جعلت لتخلي الصوفية فيها للعبادة راجع الخطط المقريزية أهـ من حاشية المؤلف.

ص: 469

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أنباء العالم الإسلامي

(منطقة العقبة ومعان)

قد علم الخاص والعام أن المؤتمر الإسلامي العام قرر بإجماع الآراء مطالبة

ملك الحجاز بالسعي لإعادة منطقة العقبة ومعان إلى الحجاز، وحث العالم

الإسلامي على تأييده في هذا الطلب، ويظهر أن ملك الحجاز بدأ بما يجب عليه

شرعًا وسياسة من السعي لذلك، فإن لم ينقل هذا بخبر رسمي؛ فقد يدل عليه ما

جاءتنا به البرقيات من (لندن) من تصريح الجرائد الإنكليزية بذلك ودفاعها عنه

بأن جمعية الأمم قبلت أن تقيد إلحاق هذه المنطقة بشرق الأردن وجعلها تحت

الانتداب البريطاني (! !) ، وبأن عظمة شأن هذه المنطقة البرية والبحرية

والحربية والجغرافية والاقتصادية يوجب امتلاخها من الحجاز ومن سلطان

العرب والمسلمين، وجعلها تحت إدارة دولة متمدنة كالدولة البريطانية (!) .

ولم يبلغنا في هذه المرة أن جريدة بريطانية تقول في هذه المسألة كلمة حق

وإنصاف كما تفعل بعض الجرائد البريطانية في بعض المسائل وإن لم تسمع لها

حكومتها، ولكن وُجد إنكليزي واحد قال فيها كلمة حق هي وجوب إرجاع المنطقة

إلى أصلها وهو (مستر فلبي) المشهور، وهذا الرجل هو الذي انفرد بدرس شؤون

نجد، وبلاد العرب، وابن السعود، وإظهار الصداقة له ومطالبة حكومته

بمودته، وصداقته، وإظهار ما في ذلك من المنافع لها، كما أن (الكولونيل جاكوب)

قد اختص بدرس شؤون اليمن وإمامها ومطالبة حكومته بمودته وبيان ما في ذلك من

المنافع لها، ولم يفعل أحد من الرجلين شيئًا.

الحكومة الإنكليزية مجتهدة في جعل هذه المنطقة الحجازية بريطانية محضة،

- وهي لم تبتدع نظام جمعية الأمم إلا لتؤيدها في مثل هذا - فهي قد خصصت

أربعة وخمسين ألف جنيه، لبناء معقل عسكري في معان يسع بضعة عشر ألف

جندي، وستجعل هنالك محجرًا صحيًا للحجاج تحول إليه جميع حجاج سوريا

وفلسطين والعراق وإيران، وغير ذلك من الأقطار التي يرغب حجاجها في الحج

من طرق هذه البلاد، وقررت أيضًا مد خط حديدي من معان إلى العقبة لينقل

الحجاج إليها ويسافرون منها إلى جدة أو ينبع من موانئ الحجاز، ويستغنون عن

الإلمام بالثغور المصرية وقنال السويس.

وأما العالم الإسلامي فلما يبدأ بتنفيذ ما قرره المؤتمر في مكة المكرمة من تأييد

حكومة الحجاز في مطالبتها برد هذه المنطقة إلى الحجاز كما توجبه عليهم وصية

النبي صلوات الله عليه وسلامه في مرض موته وهي التي بنى عليها المؤتمر العام

قراره على أن استقلال الحجاز وتأمينه من اعتداء غير المسلمين عليه من أهم

الفروض الإسلامية ولو لم يكن هنالك وصية من النبي صلى الله عليه وسلم

بجعل الحجاز بل جزيرة العرب كلها إسلامية محضة.

ينبغي لأعضاء المؤتمر الذين يبثون الدعوة لهذا السعي في بلادهم تنفيذًا

لقراره أن يتدبروا في هذا الأمر حق التدبر، وأن يسلكوا له أقصد السبل، وأهمه

الاستعانة على الحكومة الإنجليزية بشعبها بعد البحث عن خير الوسائل، لإقناعه

بأن مودة العالم الإسلامي له تتوقف على ذلك لأن أمر الحجاز ليس كأمر سائر البلاد

الإسلامية كما هو معلوم بالبداهة، ولا يخفى على ذكي ولا بليد أن انتقاص هذه

المنطقة من الحجاز خطر على الحرمين قريب بل على الإسلام نفسه وسنعود إلى

التفصيل في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

***

(منصب المندوب السامي الفرنسي لسوريا ولبنان)

قد عزل موسيو جوفنيل المندوب السامي السياسي لسوريا ولبنان واستبدل

به فرنسي آخر اسمه موسيو يصح أن يقال فيه وفيمن قبله من المندوبين ما قاله

الرصافي في تولية حقي باشا لمنصب الصدارة بعد حلمي باشا وكامل باشا في عهد

الاتحاديين.

مضى كامل من قبل حلمي وإن جرى

كما جريا حقي فمثلهما حقي

نحن قدرنا لموسيو جوفنيل الفشل منذ عرفناه بمصر والغرور بالنفس يملأ

دماغه وجوانحه، وتغرير أولي الأهواء يحيط به من جميع جوانبه، ثم فصلنا

القول في خطل سياسته وضربنا له الأمثال، وكان أبعدها عن المصلحة الفرنسية

عندنا ما كان يظنه هو السياسة المثلى، ويتوهم أنه هو الحز في المفصل،

والضرب على الأكحل، وهو بدء عمله في لندن ثم في أنقرة (!) فهو قد اهتم بأن

يبدأ بالاتفاق مع من ربحوا بسوء عمله من فرنسا ولم تربح منهم فرنسا شيئًا.

إننا والله لنعجب من أمر هذه الأمة ذات التاريخ الفياض بنوابغ الرجال كيف

آل أمرها إلى عوز رجل واحد يستطيع أن يكون مستقلاًّ بعمل صالح في سوريا

دون عبث أولئك الأفراد من اللبنانيين المتعصبين، ومستعمري الفرنسيس

المنهومين، الذين سفكوا دماء الألوف من رجالها، وأخسروها ألوف الملايين من

فرنكاتها، وشوهوا محاسن تاريخها، وكسبوها تجاه ذلك عداوة الأمة العربية ومقت

الشعوب الإسلامية كلها. نعم أن كل ما خسرته فرنسا في سوريا من دماء بعدما

نزفته الحرب العظمى من دماء رجالها، ومن ألوف ملايين الفرنكات في الوقت

الذي خوت فيه خزانتها، وسقطت قيمة ماليتها، ومن تشوية تاريخها وسمعتها، كل

ذلك كان بعبث أولئك الأفراد بالمندوبين الساميَيْن، وغرور هؤلاء بما يتوهمون من

إخلاصهم لفرنسا وهم ليسوا بمخلصين، اللهم إلا لجيوبهم، وإرضاء تعصبهم.

إن أكبر عقل في فرنسا كلها في هذا العصر هو عقل الفيلسوف غوستاف

لوبون الذي نصح لأمته بأن تعتبر بتاريخ الإنكليز وبأعمالهم في الاستعمار، إن

الإنكليز هم الذين استفادوا أكبر الفوائد من سوء سيرة رجال فرنسا في سوريا ومن

الثورة السورية، فهم يوطدون أقدامهم في فلسطين وفي شرق الأردن وفيما ضموه

إليها من أرض الحجاز وفي صحراء سوريا العربية الممتدة إلى العراق بأقل النفقات

(على حساب الثورة السورية! !) .

لقد وجد في العقلاء المنصفين من نصارى سوريا ومن المسلمين، المسلمين

أنفسهم - بل من علمائهم أيضًا - من حاولوا النصح لفرنسا بمنتهى الإخلاص،

ومن كلموا من استطاعوا أن يكلموه من رجالها، وأرشدوهم إلى الجمع بين

مصلحتي سوريا وفرنسا فاقتنعوا ولكن لسان حال فرنسا تمثل لهم بقول البوصيري.

محضتني النصح لكن لست أسمعه

أذن المحب عن العذال في صمم

لو فوض منصب المفوض السامي في سوريا إلى رجل عليم خبير مستقل في

عقله وفكره وشعوره دون منهومي الاستعمار ومتعصبي الكثلكة الإمبراطورية

المسيحية، وعرف أهل البلاد حق المعرفة، وعرف من حولهم من أمتهم،

لاستطاع أن يرفع اسم فرنسا، وأن يكسبها بعمله في سوريا مالاً ونفوذًا وشرفًا،

ولكن هذا الرجل لم يوجد فهل يوجد قبل أن يقضي الله في سوريا ما يذهب بكل

أماني فرنسا وأحلامها، أو قبل أن تستيقظ الأمة الفرنسية فتعلن بسبب سوريا

حكومتها وحكامها؟ الله أعلم.

***

(الشيخ محمد الخراشي والدعاية البهائية)

قد ذكرنا في الجزء الماضي ما كتب إلينا من بلاد العرب وما كتب إلى غيرنا

من بث الشيخ محمد الخراشي لدعوة البهائية، ثم أخبرنا مخبر آخر أن الخراشي قد

تبرأ من دين البهائية، وأنكره جهرًا أمام الناس، فإن صح هذا عنه فعسى أن يكتب

مقاله في براءته ينشرها في الجرائد تكون صريحة في ذلك بحيث لا تحتمل

التأويلات الباطنية، وإلا فإن البهائية يدعون الإسلام مع المسلمين حتى إن أكبر

رجالهم وملفق ديانتهم عباس أفندي ابن معبودهم البهاء، الملقب (بعبد البهاء) كان

يدعي في مصر الإسلام والدعوة إليه حتى انخدع بكلامه مثل عثمان باشا مرتضى

العلامة القانوني المنطقي، وجادلني في الدفاع عنه بما ذكرته في وقته في المنار،

وانخدع به أيضًا صاحب المؤيد الشيخ علي يوسف وأثنى عليه في المؤيد بما رددته

عليه في مقالة نشرها في المؤيد.

ويسرنا جد السرور أن يتبرأ الشيخ محمد الخراشي من هذا الدين الملفق

الوثني؛ لأنه كان من أصدقائنا وما فرق بيننا وبينه إلا ما نقل إلينا هنا قبل سفره إلى

العراق وبلاد العرب وخليج فارس من دعوته إلى البهائية ودفاعه عنهم، والله

يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

***

(سماسرة العروش وطلابها)

فتن أبناء الشريف حسين بن علي بحب ألقاب الملك وعظمتها في ظل دول

الاستعمار، ففيصل ملك العراق قد أستأنف في هذا الصيف في فرنسة ما بدأ به في

صيف العام الماضي هنالك من السعي لجعل أحد أخويه (علي وزيد) ملكًا لسورية في

ظل الانتداب الفرنسي جزاء لما يدعيه من قدرته على إخماد الثورة، وإخضاع البلاد

للانتداب الذي كان فيصل أول من قبله وسعى لإقناع سورية به ليبقى ملكًا عليها في

ظله فأحبط الجنرال غورو عمله، وقد آن لمن كانوا مخدوعين بهذه الأسرة أن

يعلموا ما علمه سائر الناس من سوء حالها وكونه لا يصلح لشيء، على أننا لا نظن

أن فرنسة تنخدع لفيصل إن كان لا يزال في السوريين من ينخدع له. هذا وإن

جعْل الشريف علي أو الشريف زيد ملكًا لسورية فيه عداء لمك الحجاز وسلطان نجد لا

تؤمن عاقبته. وقاعدة الملك فيصل في سعيه الآن هي جعل سورية ملكية مرتبطة مع فرنسة بمعاهدة كالمعاهدة البريطانية العراقية، وإن صك انتداب فرنسة لأهون من

تلك المعاهدة، ولولا سوء تنفيذ رجال فرنسة له لكانت خيرًا من العراق

وأدنى إلى الاستقلال، فمن كان في شك من هذا من زعماء البلاد فليخبرنا ننشر له

ذيول تلك المعاهد التي ليس فيها للعراق إلا الألقاب الضخمة.

***

(أفن رأي دعاة الإلحاد والإباحة)

كلمة من كتاب، لأمير الكتاب

ما كتبتم لي بشأنه أنا منتظر الفرصة له. ولا بد أن أبدي رأيي في الشعر

الجاهلي، وما أشبه ذلك من المواضيع التي أثارها ذلك الأعمى.. . ولكني أجد مع

الأسف في مصر نزعة إلحاد وإباحة من قبيل ما في تركيا وعذرهم كعذر الأتراك

أن هذه الأمور لم تمنع ترقي أوربا، لا بل هي سبب رقيها؛ إذ سبب رقي أوربا هو

الحرية، والإلحاد في العقائد والإباحة في الاجتماع هما من باب الحرية. وهؤلاء

المجانين لا يدركون أن مبدأ رقي أوربا وقع حينما لم تكن هذه الحرية التي يذكرونها

لا بل تأثل ونما وصالت أوربة على العالم وهي بعد رجعية على رأيهم، ولما فشت

فيها مبادئ الإلحاد والإباحة لم تزعزع قوتها إذ كانت رسخت وتأسست والجسم

القوي يتحمل الصدمات.

وأما الإسلام فقد انحط بعوامل عديدة من الداخل ومن الخارج، وقد فقد

استقلاله ولم يبق له شيء يقاتل به إلا هذا الإيمان، فهو يقوم عند المسلم مقام المال

والصناعة والوسائل كلها، وهو الهاتف الوحيد بالمسلم أن يهب ويذب عن حوضه

ويأبى عبودية الأجنبي. وهذه الفئة آتية لتقول للمسلمين:

شريعتكم بالية، وعقائدكم سخيفة، ودعونا من كل ما أنتم فيه ولننشئ نشأة

جديدة وبهذا نحيا، وبهذا يهدمون القوة الوحيدة الباقية بيد الإسلام، وهي العقيدة

والرابطة الإسلامية، ومن الآن إلى أن تتكون الهيئة الاجتماعية العلمية الفلسفية

العصرية في الشرق ينبغي الصبر مائة سنة على الأقل فنكون أضعنا ما بيدنا على

أمل بآت بعد مائة سنة أي نكون تمزقنا كل ممزق وفقدنا وجودنا الشخصي ودخلنا في

تركيب الأمم الأخرى، فإن كان هذا مراد أولاد.. . [1] وأضرابهم أن نفقد كيوننا

السياسي، من حيث إننا أمة ونصير مندمجين في الأمم الأخرى الغالبة الآن، وأن

ذلك لا ضرر به، وأنه أية ضرورة ليقال أمة عربية، أو مصرية، أو عالم

إسلامي فكل البشر خلائق فهكذا يكونون سائرين على خطة منطقية.

وأما استقلال أمم شرقية وهي ضعيفة والأمد أمامها إلى إدراك أوربة [2] بعيد

وطرحها رأس المال المعنوي الوحيد الذي بيدها وهو الإسلام، فهذا حمق وما وراءه

حمق، وبرهاننا على قوة الإسلام هذه كون الاستعمار لا يحارب مبدأ في الدنيا

بالشدة التي يحاربه بها، وإذا أردت وزن قوة عدو فانظر إلى مقدارها عند عدوه

{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) . أسفًا على مصر فقد ظهرت

فيها علامات تؤذن بشر مستطير، والله الواقي وحده، والسلام.

_________

(1)

ذكر الكاتب هنا أسماء بعض المشهورين من دعاة الإلحاد ومحرري جريدتهم ومدرسي جامعتهم.

(2)

صرح أحد أفراد هذه الجمعية بأن من مضار تمسك الشعب المصري بالإسلام أنه هو المانع من الرضاء بكون حكامنا من الإنكليز المصلحين ورضاهم بسلالة من الترك أو الألبان أنهم يسمون مسلمين (!) .

ص: 471

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الحديثة

(الرد على كتاب الإسلام وأصول الحكم)

قد علم قراء المنار من مجلد المنار السادس والعشرين نبأ جرأة الشيخ علي

عبد الرازق الذي كان من علماء الأزهر وقضاة المحاكم الشرعية على نشر كتاب

باسم (الإسلام وأصول الحكم) حاول فيه هدم شريعة الإسلام من أساسها والإباحة

المطلقة للمسلمين بأن يختاروا لأنفسهم من الشرائع ونظم الحكم ما شاءوا من غير

تقيد بنص كتاب إلهي ولا سنة نبوية، ولا هدي سلف، ولا اجتهاد إمام متبع

بالأولى.

وعلموا أننا أول من انتدب لتزييف هذا الكتاب وإبطال كفره وضلاله،

وتحريض علماء الأزهر وغيرهم على الرد عليه ومؤاخذته، وأنهم قد فعلوا فقررت

جمعية كبار العلماء اشتمال هذا الكتاب على ما ينافي الدين، ويرد المعلوم منه

بالضرورة بإجماع المسلمين، وحكمت بمحو اسمه من علماء الأزهر ووجوب طرده

من وظيفة القضاء الشرعي وعدم إسناد وظيفة أخرى في الحكومة إليه، وأن

الحكومة نفذت هذا الحكم فعزلته من منصب القضاء الشرعي، وأنه زاد احترامه

عند الزنادقة والمنافقين ولا سيما جمعية الدعوة إلى الإلحاد والزندقة، والإباحة

المطلقة، وصارت جريدتهم السياسة تلقبه بالعلامة المحقق.

ونذكر الآن أن بعض العلماء ألفوا كتبًا في الرد التفصيلي على ذلك الكتاب

وقد أهدي إلينا منذ العام الماضي كتابان حافلان في ذلك (أولهما) سمي (بنقض

الإسلام وأصول الحكم) من تصنيف الشيخ محمد الخضر حسين أحد مدرسي جامع

الزيتونة وقضاة المحاكم الشرعية في وطنه تونس قبل هجرته منه - وقد نال أخيرًا

شهادة العالمية الرسمية من الجامع الأزهر بعد الامتحان الرسمي فيه - (وثانيهما)

سمي (حقيقة الإسلام أصول الحكم) وهو من تصنيف الشيخ محمد بخيت المطيعي

أحد كبار علماء الأزهر الحاضرة وأشهر المدرسين فيه، وقد كان تقلب في القضاء

الشرعي ورياسة المحاكم حتى كان أشهر أعضاء المحكمة الشريعة العليا في مصر

ثم أسند إليه منصب مفتي الديار المصرية.

فهذان المصنفان في الرد على كتيب الشيخ علي عبد الرزاق يفوقانه فيما نال

من شهادة أزهرية، وقضاء شرعي في محكمة ابتدائية، ولا يلحق غبار واحد منهما

في العلوم الشرعية، إذ انصرف كل همه إلى الكتابة الأدبية، وتقاليد أعداء الإسلام

من الشعوب الإفرنجية، وهذا تعريف وجيز بالكتابين.

***

(نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم)

بلغت صفحات هذا الكتاب 245 صفحة كصفحات المنار، وقد رتبه ترتيب

الأصل المردود عليه كتابًا كتابًا، وبابًا بابًا، وقال في مقدمته:

(وطريقتنا في النقد أن نضع في صدر كل باب ملخص ما تناوله المؤلف من

أمهات المباحث ثم نعود إلى ما نراه مستحقًّا للمناقشة من دعوى أو شبهة فنحكي

ألفاظه بعينها، ونتبعها بما يزيح لبسها أو يحل لغزها، أو يجتثها من منبتها.

وتخيرنا هذا الأسلوب لتكون هذه الصحف قائمة بنفسها، ويسهل على القارئ

تحقيق البحث وفهم ما تدور عليه المناقشة، ولو لم تكن بين يديه نسخة من هذا

الكتاب الموضوع على بساط النقد والمناظرة.

وقد طبع الكتاب في العام الماضي بالمطبعة السلفية طبعًا حسنًا وأهداه مؤلفه

إلى خزانة جلالة ملك مصر المعظم، وثمن النسخة منه 10 قروش ما عدا أجرة

البريد، وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر.

***

(حقيقة الإسلام وأصول الحكم)

بلغت صفحات هذا الكتاب 447 صفحة بقطع المنار، وحروفه فهو مرتب

ترتيب ما سبقه، ولكنه لم يكتف بتفنيد مزاعم الشيخ علي عبد الرازق، وإبطال

دعاويه بكونها دعاوى لا تقوم عليها بينة على كونها كما قال سلبية، بل استطرد

إلى إيراد الشواهد على إثبات ما ادعى نفيه من نظم الحكومة الإسلامية بالنقول من

الكتب المعروفة، وأهمها مبحث بيان النبي صلى الله عليه وسلم لنظام القضاء

وما يتوقف عليه، وقد عقد لذلك سبعة أبواب (الأول في الوظائف والأعمال البلدية)

وفيه 23 فصلاً، أدخل فيها الوظائف الدينية كإمامة الصلاة (الثاني في العمالات

المتعلقة بالأحكام) ، وفيه ستة فصول (الثالث في العمالات الجهادية، وما يتشعب

منها) ، وفيها 11 فصلاً (الرابع في العمالات الجبائية) وفيه ثلاثة فصول

إلخ

وقد طبع الكتاب في المطبعة السلفية أيضًا طبعًا حسنًا، وثمن النسخة منه 15

قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

***

(القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق)

يستدل بعض العوام على مشروعية البدع الفاشية فيهم عامة وفي المنتسبين

إلى طرائق المتصوفة خاصة بسكوت علماء الشرع عن الإنكار عليها وحضور

بعضهم أقبح احتفالاتها كالموالد وزيارتهم معهم للقبور المشرفة التي بنيت عليها

المساجد وتضاء عليها السرج والشموع كل ليلة ولا سيما ليالي الموالد، وهذا

الاستدلال باطل وغير صحيح على إطلاقه.

أما بطلانه فلأن سكوت هؤلاء العلماء ليس بحجة شرعية وكذا أعمالهم ومن

سكت منهم عن المنكر وأقره وهو قادر على إنكاره، أو شارك أهله فيه لمنفعة له

منه كالذين يعطون نصيباً مما ينذر لأصحاب القبور أو من أهله فهؤلاء ممن قال الله

فيهم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ

وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23)

وأما كونه غير صحيح فلأن كثيرًا من العلماء ينهون عن البدع، والمنكرات

في كل زمان، وكل قطر إسلامي وهذه كتبهم مودعة في الخزائن، وقد طبع بعضها

في هذا العصر ككثير من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وكتاب تلبيس

إبليس للحافظ ابن الجوزي، وكتاب الاعتصام للإمام الشاطبي، وكتاب المدخل

للفقيه ابن الحاج، وكتاب الطريقة المحمدية للبركوي، وكتب المجدد الشيخ محمد

عبد الوهاب، وأولاده وأحفاده وتلاميذه من علماء نجد وبعض رسائل القاضي

الشوكاني وغيره من علماء اليمن وكتبهم - وأما علماء هذا العصر فلهم رسائل

ومقالات كثيرة في ذلك منها مقالات الأستاذ الإمام وبعض رسائله، وهذه مجلدات

المنار ولله الفضل والمنة.

وبين يدينا الآن رسالة مطبوعة في إنكار الفاشي من بدع أهل الطرق في

مصر هي جواب سؤال للشيخ محمد حسنين العدوي من كبار علماء الأزهر في هذا

العصر، وكان وكيلاً للأزهر ومديرًا للمعاهد الدينية وسماها (القول الوثيق في الرد

على أدعياء الطريق) ، وقد رأينا أن ننشر نص السؤال وبعض نص الجواب تأييداً

لخطة المنار، ولأن فيه بدعًا لم يسبق لنا الإنكار عليها، وتجد ذلك في باب المقالات

(ص 469) .

***

(جريدة الصراط المستقيم)

وقد أتمت هذه الجريدة الإسلامية الوطنية الفلسطينية السنة الأولى بجد

وثبات من مؤسسها ومحررها الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الله القلقيلي الأزهري فقد

نوهض واعتدي عليه وأحرقت مطبعة جريدته؛ فصبر صبرًا يبشر بنجاحه في

عمله فقد قال بعض حكماء الصوفية: من لم تكن له بداية محرقة، لا تكون له نهاية

مشرقة، وإنا ليسرنا نجاحه لأنه على مشربنا في الإصلاح، لا جامدًا كجمهور

الأزهريين، كما يسوؤنا أن يكون خصماً للمجلس الإسلامي الفلسطيني فإنه شديد

الانتقاد عليه قد لا يخلو عدد من أعداد الجريدة من ذلك، ولا ننكر عليه أنه ينتقد ما

يراه منتقدًا، ولا نتهمه بأنه كالخصوم السياسيين الذين يجعلون حق خصومهم باطلاً،

وباطلهم حقًّا في كل شيء، ولكننا نذكره بأن يحاسب نفسه على النظر بعين

السخط إلى هذا المجلس وبعين الرضا إلى خصومه وكل من العينين خادعة

لصاحبها، ونحب له أن يتحرى إقامة ميزان القسط في الفريقين، ويجعل

جريدته للمصلحة العامة لا لحزب دون حزب، فإن كان عند نفسه على هذا

الرأي، فلا يثقلن عليه أن يذكره أحد شيوخ الصحافة الإصلاحية بالتحري

ومحاسبة النفس والاستعانة على ذلك بمطالعة كتاب النية والصدق والإخلاص

من جزء الإحياء الرابع.

_________

ص: 477

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة من جدة - الحجاز

(س 11 - 14) من صاحبي الإمضاء بجدة

1-

هل كاتب النبي صلى الله عليه وسلم كل ملوك الأرض العظماء

الموجودين في أيامه أو أكبرهم شكيمة كملك الصين وملك الترك وإمبراطور روما

الغربية، وإذا كان لم يكاتب هؤلاء - كما هو المتبادر من التاريخ - فلماذا؟

2 -

فيما نرى عرفنا أن أشهر الأنبياء كلهم كانوا آسيويين ولم نسمع بنبي

أرسل في أوربا مع أنها من الدنيا القديمة المعمورة فما هي الحكمة؟

3 -

يقول علماء الدين -ولا سيما العصريين منهم- إن الإسلام هو الدين الصالح

لكل الأمم وفي كل الأرض، فما هي تلك الأفكار الخالدة الموافقة لعناصر جميع

الأمم التي أتى بها الإسلام؟

4 -

لماذا فرض الإسلام الجزية على اليهود والنصارى فقط ولم يقبل من

العرب سوى الإسلام أو السيف؟

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ رشيد رضا دام نفعه.

نؤمل إجابتنا تحريريًّا على هذه الأسئلة وإذا تكرمتم بنشرها في المنار نكون

شاكرين تفضلكم.

...

...

حسن أبو الحمايل. محمد حسن عواد

(ج) نجيب عن هذه الأسئلة بالترتيب وإن كان قد سبق لنا فيها تحقيق من

قبل فنقول:

***

(حكمة مكاتبة النبي (ص) لبعض الملوك دون بعض)

كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك العرب في جزيرتهم وإلى

ملوك البلاد المجاورة لها وهي مصر وسوريا والعراق وفارس يدعوهم إلى

الإسلام؛ لأن الدعوة إنما تفيد من عقلها وأهل البلاد التي يمكن نشر الإسلام وتنفيذ

أحكامه فيها بمجرد دخول أهله فيه، أو خضوعهم لسلطانه بالصلح وإعطاء الجزية،

ولو تيسر للنبي صلى الله عليه وسلم في زمنه مكاتبة فغفور الصين وخان

الترك وقيصر رومية بإرسال رسل إليهم يحملون كتبه العربية، وأمكن لهؤلاء

الرسل الوصول إلى بلادهم وأمكن لهؤلاء الملوك فهم هذه الكتب وإجابة الدعوة،

لكان من المتعذر في ذلك الوقت نشر الإسلام وتنفيذ أحكامه في تلك الأقطار النائية،

التي يحول بينها وبين مهده - جزيرة العرب - شعوب معادية، فالدعوة العامة ما

كان يمكن نشرها إلا بالتدريج والانتقال من محلها إلى الأقرب فالقريب، فالبعيد

فالأبعد من البلاد والأقطار.

ومن المعلوم في التاريخ أن بلاد سوريا عربية الأصل، وكذلك العراق وإن لم

تكن اللغة المضرية عامة فيهما في زمن البعثة، وإن مصر استعمرها العرب زمنًا

طويلاً وكانت مدينتها الأولى عربية المنشأ ولغتها الهيروغليفية ممزوجة بالعربية

مزجًا، وهي لمجاورتها لجزيرة العرب قد سهل تعريب أهلها في زمن غير طويل.

كذلك المجاورة بين عرب العراق وعجم إيران كانت مسهلة لنشر الإسلام ولغته

العربية ببلاد فارس في مدة قريبة. وما كان يمكن مثل هذا في الصين لو أمكن

إيصال الدعوة إليهم وقبولهم إياها.

***

بعثة الرسل في جميع الأمم

وبطلان ادعاء أنهم كلهم أسيويون

إن بني إسرائيل لم يكونوا يعرفون غير أنبيائهم فزعموا أن النبوة محصورة

فيهم، وحرفوا آيات التوراة المبشرة برسول يبعثه الله من بني إخوتهم - أي أبناء

إسماعيل عليه السلام ولما بعث الله خاتم النبيين وأتم على لسانه الدين بين لنا في

الكتاب المنزل عليه أنه أرسل في جميع الأمم رسلاً يدعون إلى مثل ما دعا إليه في

أصوله وجوهره كما قال {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا

الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (النحل: 36) .

وقد قص الله تعالى عليه في كتابه قصص أشهر الرسل والنبيين الذين عرفت

العرب والمجاورون لهم من أهل الكتاب شيئًا من تاريخهم لأجل العبرة بسيرتهم كما

قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ

عَلَيْكَ} (غافر: 78) ولو قص عليه خبر نبي أرسل في الصين لا يعرف أحد

من المخاطبين الأولين بالقرآن ولا من يجاورهم من أهل الكتاب عنه شيئًا لكان

قصصه فتنة لا عبرة، ولقالوا: إنه يفتري علينا ما لا سبيل لنا إلى معرفته، والمثل

العامي يقول: (إذا أردت أن تكذب فبعد شهودك) ، والله تعالى يقول في حكمة

أخبار الرسل: من آخر سورة يوسف بعد ذكر الرسل إجمالاً: {لَقَدْ كَانَ فِي

قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يوسف: 111) الآية وقال {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ

وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود: 120) فهذه الحكم التي

ذكرها الله تعالى لبيان قصص الرسل لا تحق إلا بمن يعرف عنهم شيئًا في الجملة،

ويفصل الوحي ما لم يعرف منها.

نعم، لو أخبرنا الله تعالى في كتابه أن برهما أو بوذا من دعاة التوحيد

والفضيلة في الهند وكونفشيوس من دعاتهما في الصين وبعض حكماء مصر

واليونان من دعاتهما في أوربا وأفريقيا كانوا من رسل الله تعالى مثلاً وأنه لما

طال الأمد على اتباعهم أشركوا بالله وفسقوا عن أمره، كما قال في أهل الكتاب

المعروفين عند العرب {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ

مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:

31) وقال في وعظ المؤمنين: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ

عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) لو أخبرَنا الله

تعالى بما ذكر لكان آية لأهل القرون الأخيرة على أخبار القرآن بالغيب ولكن بعد

أن يكون فتنة لأهل القرون الأولى - ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

روي عن علي رضي الله عنه وكرم وجهه أن المجوس كانوا أهل كتاب كما

سيذكر في بحث الجزية من هذه الفتاوى.

وثبت في تاريخ غيرهم من الشعوب التي عرف تاريخها أنه ظهر فيها

حكماء ربانيون دعوا الناس إلى توحيد الخالق وعبادته وحدة والإيمان بالبعث

والجزاء، والأمر بالعمل الصالح، وهذه الأصول الثلاث هي التي دعا إليها جميع

الرسل وعليها مدار سعادة الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ

هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ

عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) فالظاهر أن أولئك

الدعاة إلى الأصول الثلاثة كانوا رسلاً يوحى إليهم فإن نقل عنهم ما ينافي الرسالة

فلا يعد حجة نفي صحيحة؛ لأننا قد عرفنا ما حل بكتب المتأخرين عنهم الذين حفظت

كتبهم في الجملة فكيف بهؤلاء الذين طمس جل تاريخهم؟ بل نرى المسلمين الذين

كفل الله تعالى حفظ كتابهم في الصدور والسطور فلم يفقد ولم يحرف منه حرف

واحد، وضبطت سنه رسولهم صلى الله عليه وسلم ضبطًا لم يضبط مثله

كتاب في تاريخ البشر - نراهم قد سرت إلى كثير منهم عقائد الوثنية وعباداتها

المخالفة لنصوص القرآن والسنة القطعية ولعمل الصدر الأول المنقول بالتواتر -

ونسمع الآن شيعة إيران ودعاة الفتنة في الهند يصيحون ويولولون نادبين هدم

هياكل الوثنية التي بنيت على القبور المعبودة من دون الله تعالى في الحجاز وهي

التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بناة أمثالها إذ لعن كل من يبني

مسجدًا على قبر ومن يضع عليه سراجًا.. .إلخ.

***

أصول الإسلام الصالحة

المصلحة لكل الأمم في كل زمان

إن الجواب عن هذا السؤال لا يمكن بيانه التفصيلي إلا في سِفْر مستقل

وموضوع هذه الفتاوى الاختصار، فنشير إلى مهمات هذه الأصول بالإيجاز فنقول:

(الأصل الأول) كون الإسلام دين الفطرة فليس فيه شيء غير معقول

كالتثليث ولا غير ممكن طبعًا كحب الأعداء، وأساسه تجريد التوحيد الذي يعتق

البشر من رق الخرافات والأوهام وقد شرحنا هذا الأصل مرارًا كثيرة.

(الأصل الثاني) ختم الرسالة والنبوة المقتضي أن لا يوجد بعد محمد

صلوات الله وسلامه عليه نبي معصوم يبلغ الناس شيئًا عن وحي الله أو يشرع لهم

شيئًا من الدين أو يحرم عليها شيئًا تحريمًا دينيًّا.

وهذا من إتمام عتق البشر من الأدعياء الذين يتحكمون في أفكار الناس

وإرادتهم يدعون أنهم نواب فيهم عن ربهم، أو أنهم آلهة بالفعل كما يدعي البهائيون

في زعيمهم أو أنبياء كما يدعي الأحمدية القاديانيون في مسيحهم الدجال.

(الأصل الثالث) أن حكومة الإسلام مقيدة بالنصوص وبالشورى ورئيسها

مقيد باختيار أهل الحل والعقد الذين يمثلون الأمة فلا يكون سلطانًا لها إلا باختيارهم

إياه للخلافة ومبايعتهم له، وهو مساو لسائر المسلمين في الحقوق فيُقتل قصاصًا

يقتل أضعف السوقة وأفقرهم، ولا يطاع في معصية الله تعالى وإنما الطاعة في

المعروف.

(الأصل الرابع) استقلال الفكر في فهم الدين، والعلم، وجميع شؤون

الحياة، فليس في الإسلام سلطة دينية روحانية تلزم المسلمين اتباع مذهب لمجتهد

وآراءه في العقائد، والعبادات الدينية، والحلال والحرام الدينيين، وإنما هنالك

نصوص قطعية وأصول وفروع إجماعية يشترك جميع المسلمين في التزامها ولا

يعد أحد متبعًا لأحد غير الرسول وجماعة الأمة فيها، ويقرب من الإجماع ما جرى

عليه جمهور سلف الأمة الصالح من أمر الدين ولم يشذ عنهم إلا أفراد لا يعتد بهم،

وماعدا ذلك من المسائل فهو اجتهادي ويجب على كل مسلم أن يعمل باجتهاد نفسه،

فإن عجز فله أن يأخذ بعلم من يثق بعلمه ودينه.

والراجح المختار في العبادات أنه لا اجتهاد في التشريع فيها بل في التنفيذ،

والأحكام الدينية منوطة بنصوص الكتاب والسنة، والقضائية يعتبر فيها مراعاة

المصالح وعليها مدارها، وهو مذهب مالك إمام دار الهجرة.

(الأصل الخامس) المساواة بين المسلمين في جميع أحكام الشرع، وهو

أصل مستقل ذكر استطرادًا في بعض الأصول قبله.

وهذه حرية دينية لا توجد في دين آخر، ومقتضاها أن البشر صاروا أحرارًا

أعزة وإخوانًا لا يفضل أحد منهم أحدًا بتفضيل إلهي محتوم، ولا بمنصب موروث

كالقديسين في بعض الملل، وإنما يتفاضلون بكسبهم العلمي والعملي حتى يجوز أن

يكون ابن أفقر الناس وأضعفهم أعلم علماء عصره وأتقاهم فيكون أفضلهم.

(الأصل السادس) تقييد المسلمين بعقائد، وأحكام وآداب وفضائل دينية

بالوازع النفسي لا تتغير، ولا تنقض وهي تؤمنهم من فوضى الحرية المسرفة التي

أوقعت شعوب أوربا في أسر النظام المالي وسلطان أهله من جهة وفي البلشفية من

جهة أخرى، وفي المفاسد الأدبية التي هتكت الأعراض وأضاعت الأنساب وبددت

الأموال من جهة ثالثة

إلخ إلخ.

(الأصل السابع) بناء الأحكام السياسية والمدنية على أساس درء المفاسد

وحفظ المصالح - والأحكام القضائية على العدل المطلق والمساواة - ووجوب حفظ

الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، ولازمه النسب من الاعتداء عليهن.

(الأصل الثامن) مساواة النساء للرجال في جميع الحقوق بالمعروف إلا

الولاية بقسميها العام، وهو منصب الإمامة العظمى، والخاص كرياسة الأسرة،

لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:

228) وبين هذه الدرجة بقوله {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النساء: 34) .

(الأصل التاسع) بناء ضرورات الاجتماع السابقة كالحرب والرق

والضرورات الفردية على قاعدة التوقيت فيها وتقديرها بقدرها وتخفيف شرها

والسعي الممكن لإزالتها والاستغناء عنها.

(الأصل العاشر) فرضه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الفريضة

التي تحفظ على الأمة فضائلها وآدابها ما أقامتها.

(الأصل الحادي عشر) تكافل المسلمين وتضامنهم حكومة وأفرادًا فبهذا

وبفريضة الزكاة والترغيب في الصدقات، والواجب من الكفارات يكون جماعة

المسلمين دائمًا في كفاية قلما تنال الضرورة إلا من بعض الأفراد المجهولين منهم،

وبذلك يقل التحاسد والعدوان بينهم، ولا تجد الجماعات منهم دافعًا إلى العدوان ولا

مشكلاً كبيرًا من مشاكل الاجتماع كالبلشفية وما يقرب منها.

هذا ما أمكنت الإشارة إليه بالإيجاز، وسنفصله في أول فرصة تسنح لنا إن شاء

الله تعالى ومن يراجع كتابنا (الخلافة أو الإمامة العظمى) يجد فيه شيئًا من هذا

التفصيل.

***

فرض الجزية على أهل الكتاب

وإلزام العرب الإسلام

التحقيق أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب وإن كانوا عربًا، وقد أخذها النبي -

صلى الله عليه وسلم من أكيدر دومة وكان هو وقومه عربًا من غسان وكذا من

نصارى نجران في صلحه لهم وتؤخذ أيضًا من المجوس؛ لأن النبي - صلى الله

عليه وسلم - قال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) رواه الشافعي، وعن عليّ كرم الله

وجهه أنهم كانوا أهل كتاب ففقد أو رفع رواه عنه عبد الرزاق والشافعي، ويمكن

الجمع بينه وبين الحديث المرفوع بأن لقب: أهل الكتاب، صار علمًا لليهود

والنصارى وسببه معروف بيناه من قبل.

وأما مشركو العرب فسياسة الإسلام فيهم أن يكونوا مسلمين وأن تبقى جزيرة

العرب خالصة لهم، ولمن ساكنهم فيها من المسلمين، والحكمة في ذلك أن يبقى

للإسلام دولة مستقلة في مهده تقيم شرائعه، وقد فصلنا هذا من قبل مرارًا، ومع

هذا لم يكرههم على الإسلام إكراهًا، وقبل من بعضهم الجزية، وقد ظهر ولا يزال

يظهر من حكمة سياسته ما نراه من إزالة الأعاجم لملك العرب، ثم شرع الإسلام من

جميع بلاد الأعاجم إلا بقية قليلة أقواها في بلاد أفغانستان، وهم يتواطئون

ويتعاونون على التعدي على جزيرة العرب وحدها، وإزالة حكم الإسلام وسيادة

العرب منها، فالإيرانيون الآن يتعاونون مع بعض الهنود من الشيعة وخرافي

أدعياء السنة على سلب الحجاز نفسه من دولة السنة الحاضرة، وإن وقع في أيدي

الأجانب، ولم نر أحدًا منهم احتج ولا أنكر إعطاء الشريف علي بن حسين قسمًا

عظيمًا من أرض الحجاز للإنكليز حتى إن شوكت علي ومحمد علي الزعيمين

السياسيين في الهند يريدان أن تكون حكومة الحجاز جمهورية والحق الأعظم في

إدارتها للأعاجم ولهذا عادَيا ملك الحجاز وإمام السنة العربي ابن السعود؛ لأنه لم يقبل

هذا.

وقد كتب إلي بعض علماء الهنود الأحرار مرة أن ما كتبته في الخلافة وحق

قريش فيها وكون الإسلام عربي اللغة هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه

ولا من خلفه قال: (ولكن هؤلاء الأعاجم من الهنود لا يرونه إلا لهذا الجيل من

الترك) يعني أنهم ينسخون قاعدة الصديق الأكبر والخليفة الأول رضي الله عنه

في قوله: إن العرب لا ترى هذا الحق إلا لهذا الجيل من قريش.

وسيظهر للمسلمين من عصبية الأعاجم من الغرائب ما لم يكن يخطر لهم ببال

ونكتفي الآن بهذا الإجمال، الذي كتبناه بمنتهى الاستعجال، وما زالوا يؤيدون

خلافة الترك الباطلة الصورية على فسادهم التي نبذوها هي والإسلام وراء ظهورهم

واستبدلوا بشرعها شرائع الإفرنج، ومع هذا كله لا يزال الزعيمان شوكت علي

ومحمد علي مستمسكين بها، ويضعون شارتها على صدرهم ورؤوسهم! .

***

بدعة المحمل

وتناصر المسلمين على المستعمرين

(س 15، 16) من أيوب أفندي صبري صاحب جريدة الوطنية بمصر.

مولاي الجليل:

ألتمس من سماحتكم أن تكشفوا النقاب للمسلمين عن النقطتين الآتيتين وهما:

أولاً - ما هي علاقة المحمل بالدين الإسلامي حتى ينظر إليه كبدعة تجب

مقاومتها والقضاء عليها؟

وإذا أثبتم هذه العلاقة وأن المحمل بدعة. فما هي الأسباب التي حملت كبار

علماء المسلمين من شيوخ الأزهر الشريف والمفتيين والقضاة الشرعيين على إقرار

هذه البدعة منذ وجودها إلى الآن - وهذا الإقرار ظاهر من اشتراكهم مع الحكومة

في الاحتفال بالمحمل عند سفره وعند عودته وتقبيلهم مقوده - ثم من عدم تقدمهم

للحكومة بحكم الشرع الشريف حتى تقضي على هذه البدعة ومن عدم إصدارهم

الفتاوى الدينية وإذاعتها بين المسلمين بكل طرق الإذاعة وأهمها الصحف التي

ترحب بتلك الفتاوى وتنشرها بكل سرور؟

ومن المعلوم أنه ليس للحكومة غرض سياسي أو مالي من هذه البدعة يحول

بين العلماء وبين التقدم لها (الحكومة) بحكم الشرع الشريف في أمرها (البدعة)

وعلى فرض أن يكون للحكومة غرض فإن واجب العلماء أن يبينوا حكم الشرع

سواء رضيت عنهم الحكومة أم غضبت وبين العلماء عدد كبير غير مرتبط مع

الحكومة بشيء ما.

النقطة الثانية - تعلمون سماحتكم أن الثورة السورية - والحركة الفلسطينية

ضد الصهيونية - والثورة الريفية - إنما قامت لمقاومة الحرب الصليبية الثانية التي

أرادت أوربا بها استعباد المسلمين، والأمم الإسلامية تحت أسماء شفافة وأغراض

مزوقة لم تخف عنا بل إن المظالم التي نرزح تحت كلكلها تدل على نية أوربا

السيئة - وتعلمون أن دول أوربا - رغم ما بينها من عداوات تتناصر على إذلال

المسلمين، وامتلاك بلادهم أفلا ترون واجبًا على المسلمين أن يتناصروا على دفع

بلاء الاستعباد عنهم وعن بلادهم.

وإذا كان الريفيون لم يجدوا حولهم أمة مسلمة حرة من الاستعباد الأوروبي

تناصرهم بجيشها أو بالمال أو بالسلاح - فإن السوريين والفلسطينيين على الحدود

النجدية الحجازية، ونجد والحجاز تحت حكم ملك واحد حر من قيود الاستعمار،

فلماذا لا يناصر جلالته إخوانه المسلمين المجاورين له بجيشه، أو بسلاحه، أو

بماله، أو بنفوذه كأن يحتج ويستنكر تلك الجرائم بصفة علنية للدول التي ترتكبها

ولجمعية الأمم وللدول الأخرى؟ وأية وسيلة ترونها كفيلة بتناصر المسلمين على

تحرير أنفسهم، وبلادهم من قيود الاستعمار، واشتراك الأحرار مع المجاهدين

لفكها واشتراك المستعبدين بالتطوع بأنفسهم وأموالهم مع المجاهدين أو بإيقاد نار

الثورات في بلادهم إلى أن يهلكوا أو يتحرروا من هذا الاستعباد الجهنمي.

نلتمس الجواب على هاتين النقطتين على أن تأذنوا بنشره وإذاعته أدامكم الله

منارًا للإسلام وأهله، ونفع المسلمين، وبلادهم بمواهبكم وعلومكم على الدوام.

...

...

...

...

... المخلص

...

...

...

...

... أيوب صبري

***

الجواب على بدعة المحمل وإقرار العلماء لها

قد بينا في إحدى مقالاتنا التي ننشرها بجريدة الأهرام الوجه الشرعي في عد

المحمل المصري المعروف بدعة دينية، وإنه لم يكن كذلك منذ أحدثته شجرة الدر

ملكة مصر بل أصله على ما قال بعضهم: إنها اتخذت هودجًا حجت فيه حين حجت

وحملت معها من الأموال للحرمين الشريفين ما حملت، ثم صارت ترسل ذلك الهودج

في كل سنة مع ركب الحج المصري الذي يحمل الأموال إلى الحرمين.

وهذا يعد من العادات المباحة التي لا علاقة لها بالدين فيعد المحدث منها بدعة

دينية محرمة.

ثم حدث من زمن لا نعرف ابتداءه أن هذا الهودج أو الهيكل الخشبي المكسو

بالديباج، المضون بالذهب صار يطاف به في الكعبة كما يطوف الناس، وينقل في

مشاعر النسك كعرفات ومنى كأنه من الحجاج، ويوضع في الحرم فيتبرك به

الجهال، ثم يدخل المسجد النبوي مع الزائرين ويوضع في حجرة هنالك كما يوضع

في المسجد الحرام قبله أيامًا، ثم صار الناس في مصر نفسها يتبركون به تبركًا

دينيًّا يرجون نفعه حتى في ذراريهم، وصار يعد من شعائر الإسلام فتحتفل به

الحكومة احتفالاً دينيًّا، ويقبل ملوكها وأمراؤها وكبار علمائها مقود جمله - فبهذه

الأشياء صار يعد من البدع الدينية؛ لأن كل هذه الأمور منكرات شرعية تشبه

المشروعة - وما هي بمشروعة - وهذا تحقيق معنى البدعة كما حققه الإمام

الشاطبي في الاعتصام الذي طبع في مصر من قبل وزارة المعارف.

وأما إقرار العلماء له فكان مجاراة للحكومة في عملها قبل أن يتحقق فيه معنى

البدعة واستمروا على ذلك بعده، وليس هذا بالمنكر الوحيد الذي أتته الحكومات

المستبدة في بلاد الإسلام وسكت عليه العلماء الضعفاء، بل هنالك بدع ومنكرات

كثيرة ومعاص من الكبائر المعلومة من الدين بالضرورة.

ومن تلك المنكرات التي صارت تعد بعدم مقاومة العلماء للحكومات من

الإسلام أو شعائره بناء المساجد على قبور الصالحين وغيرهم وتشريفها

وتجصيصها ووضع الستور وإضاءة السرج والشموع عليها وتتخذ أعيادًا ومواسم

يسمونها الموالد. وكل هذه من الأمور المحرمة التي كانت ذريعة للشرك أو الفسق

وهم يقرؤون في صحاح الأحاديث لعن النبي صلى الله عليه وسلم حتى في

مرض موته من يفعلها.

على أن كثيرًا من كبار العلماء أنكروا أكثر هذه البدع والمعاصي فلم تبال

الحكومات بإنكارهم؛ ولذلك يعذر بعض العلماء المتأخرين أنفسهم بسكوتهم على

منكرات الحكومات بأن الإنكار لا يفيد على كونهم لا يسلمون من ضرر يصيبهم

بسببه، ونحن لا نزال منذ أنشأنا المنار ننعي عليهم مخالفتهم لعلماء السلف بهذا

السكوت على المنكرات، والمعاصي حتى انتدب أستاذنا الشيخ المرحوم حسين

الجسر للرد علينا في جريدة طرابلس منذ تسع وعشرين سنة واضطرنا إلى الرد

عليه في المجلد الثاني من المنار.

هذا وإن سكوت العلماء مهما يكن من سببه لا يعد حجة شرعية على حكم

شرعي باتفاق علماء الأصول والفقهاء. وقد فصل الإمام محمد بن إسماعيل الوزير

هذه المسألة في رسالته (تطهير الاعتقاد) وذكر بعض المنكرات والمعاصي الفاشية

في المساجد المبتدعة على القبور التي منها ما هو شرك بالله تعالى، وكذا في مكة

أم القرى أيضًا ولا ينكرها أحد، وذكر منها المقامات الأربعة للمذاهب الأربعة التي

أحدثها (بعض ملوك الشراكسة الجهلة الضلال)(كما قال) في حرم الله تعالى

(ففرقت بها عبادات المسلمين وصيرتهم كالملل المختلفة في الدين) إلخ وذكر سكوت

علماء الآفاق عليها، ثم قال: (أفهذا السكوت دليل على جوازها؟ هذا لا يقوله من له

إلمام بشيء من المعارف، كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين) .

ثم ذكر في موضع آخر احتجاج بعضهم على جواز بناء المساجد على القبور

بالقبة المبنية على قبر النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ولله الحمد لم يتخذ

مسجدًا - وأجاب عنه بأن هذه القبة ليست من بنائه صلى الله عليه وسلم ولا

بناء أصحابه ولا التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته بل هي من أبنية قلاوون

الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678هـ، ثم قال: (فهذه أمور دولية

لا دليلية يتبع فيها الآخر الأول) .

وإننا بعد كتابة ما ذكر وجمع حروفه في المطبعة وقبل طبعه قد اطلعنا على

كتاب في البدع لبعض علماء الأزهر المدرسين فيه لقسم التخصص العالي صرح

فيه بالإنكار على العلماء للسكوت على المنكرات، والبدع الفاشية بعد أن عد كثيرًا

ًمنها كابن الوزير.

***

الجواب

عن مسألة تعاون المسلمين على دول الاستعمار

لا شك أن هذا التعاون واجب شرعًا، ولكن تفرق المسلمين وسوء حالهم

المانعة من ذلك معلومة للسائل ولغيره كما يعلم اتفاق دول الاستعمار وتعاونهم المنظم

على سلب بلادنا واستعباد شعوبنا فلو أن ابن السعود أراد مساعدة السوريين بالحرب

على كونهم يقولون إنهم يحاربون حربًا مدنية وطنية لا دينية لحاربته إنكلترا

وإيطاليا مع فرنسا، ولساعدهن على ذلك ملك العراق، وأمير شرق الأردن وشاه

إيران قطعًا، وربما شايعهم آخرون من الشعوب الإسلامية، وقد سمعنا الملك عبد

العزيز يقول غير مرة بمكة أمام الناس: (إن عداوة الإفرنج لنا أمر معقول لا

يعقل غيره وإننا والله لا نخاف من عداوتهم كما نخاف من عداوتنا نحن المسلمين

بعضنا لبعض، فنحن على شدتنا في مقاومة الاستعمار قولاً وعملاً لا نشير عليه بما

ذكره السائل؛ لأننا نعلم علمًا قطعيًّا، أنه يقضي بذلك على دولة في أول نشأتها وهو

إلى الآن لم يسلم من شر المسلمين أنفسهم.

وأما ما دون ذلك من مساعدة فلا يصح للسائل ولا لغيره أن يجزم بنفيها ولا

أن يسأل عنها، كما أنه لا يصح له أن يجعل ما يجب أن يعمله المسلمون للدفاع

عن أنفسهم من المباحث التي تنشر في الجرائد، وليس من المصلحة أن نقول أكثر

من هذا في هذه المسألة الكبرى.

ــ

ص: 494

الكاتب: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

الإيمان والكفر والنفاق والظلم والفسق

من رسائل إمام نجد في عصره العلامة الشيخ

عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

رحمهم الله تعالى

ويعلم منها ما عليه علماء نجد في مسألة تكفير المخالفين واحتياطهم فيها

أكثر من سائر علماء المذاهب الأخرى

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى عبد العزيز الخطيب، سلام

على عباد الله الصالحين. وبعد فقرأت رسالتك وعرفت مضمونها وما قصدته من

الاعتذار، ولكن أسأت في قولك، إن ما أنكره شيخنا الوالد من تكفيركم أهل الحق

واعتقاد إصابتكم أنه لم يصدر منكم، وتذكر أن إخوانك من أهل البقيع يجادلونك

وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور، وأنت

تعرف أنهم يذكرون هذا غالبًا على سبيل القدح في العقيدة، والطعن في الطريقة،

وإن لم يصرحوا بالتكفير فقد حاموا حول الحمى، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدي،

ومن الغَي عن سبيل الرشد والعمى، وقد رأيت سنة أربع وستين رجلين من

أشباهكم المارقين بالإحساء قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفرَّا من في تلك البلاد

من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الإحساء يجالسون ابن

فيروز، ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده

الذي رد دعوة الشيخ محمد ولم يقبلها وعاداها، قالا: ومن لم يصرح بكفره فهو

كافر بالله لم يكفر بالطاغوت [1] ومن جالسه فهو مثله، ورتبوا على هاتين

المقدمتين الكاذبتين الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى

تركوا رد السلام، فرفع إليّ أمرهم، فأحضرتهم وهددتهم، وأغلظت لهم القول،

فزعموا أولاً أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم،

فكشفت شبهتهم وأدحضت ضلالتهم بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة

الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، فإنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير

فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسوله أو بشيء منها، بعد قيام الحجة

وبلوغها المعتبر، كتفكير مَنْ عَبَدَ الصالحين ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادًا يستحقه

على خلقه من العبادات والألهية، وهذا مجمع عليه عند أهل العلم والإيمان، وكل

طائفة من أهل المذاهب المقلدة يفردون هذه المسألة بباب عظيم يذكرون فيه حكمها

وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك الأكبر، وقد أفرد ابن حجر [2]

هذه المسألة بكتاب سماه (الإعلام بقواطع الإسلام) .

وقد أظهر الفارسيان المذكوران التوبة والندم وزعما أن الحق ظهر لهما ثم لحقا

بالساحل وعادا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك

المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين، ونعوذ بالله من

الضلال بعد الهدى والحور بعد الكور [3] .

وقد بلغنا عنكم نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في

الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا ونحو ذلك من

مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم

من الجفاة، ولا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزق الفهم عن الله

وأوتي الحكمة وفصل الخطاب، والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما قدمناه،

ومعرفة أصول عامة كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها،

وأعرض عنها وعن تفاصيلها، فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة مواقع

الخطاب وتفاصيله، يحصل به من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد

الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم القرآن.

قال ابن القيم في كافيته رحمه الله تعالى:

فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ

إطلاق والإجمال دون بيان

قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ أذهان والآراء كل زمان

وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام فهذا مذهب

الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ومن معه من

الصحابة، فإنهم أنكروا عليهم تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص في

الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام، فأنكرت الخوارج عليه ذلك وهم

في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا حكمت الرجال في دين الله،

وواليت معاوية وعمرًا وتوليتهما وقد قال تعالى: {إِنِ الحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} (الأنعام:

57) وضربت المدة بينكم وبينهم وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة منذ أنزلت

براءة، وطال بينهما النزاع والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين وقتلوا من

ظفروا به من أصحاب علي، فحينئذ شمر رضي الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون

النهروان بعد الإعذار والإنذار، والتمس المخدج المنعوت في الحديث الصحيح الذي

رواه مسلم وغيره من أهل السنن فوجده علي فسر بذلك وسجد لله شكرًا على توفيقه،

وقال: لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم

لنكلوا عن العمل، هذا وهم أكثر الناس عبادة وصلاة وصومًا.

***

فصل

ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون،

والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها مسماها المطلق

وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين،

والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان

النبوي وتفسير السنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ

لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) الآية وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِي

إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ

لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 43- 44) ، وكذلك اسم

المؤمن والبر والتقي يراد بها عند الإطلاق والثناء غير المعنى المراد في مقام الأمر

والنهي، ألا ترى أن الزاني والسارق والشارب يدخلون في عموم قوله تعالى {يَا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} (المائدة: 6) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} (الأحزاب: 69) الآية وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (المائدة: 106) ولا يدخلون في مثل قوله: {إِنَّمَا

المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: 15) وقوله تعالى:

{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (الحديد: 19) الآية وهذا هو

الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق باسم الإيمان والبر.

وفي الحديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر

حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو

مؤمن) وقوله: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)[4] لكن تقي الإيمان هذا لا يدل

على كفره، بل يطلق عليه اسم الإسلام، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله، وهذا

هو الذي فهمه السلف وقرروه في باب الرد على الخوارج والمرجئة ونحوهم من

أهل الأهواء، فافهم هذا فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام.

وأما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر فقد يمنع منه مانع في

حق المعين كحب الله ورسوله والجهاد في سبيله ورجحان الحسنات ومغفرة الله

ورحمته وشفاعة المؤمنين والمصائب المكفرة في الدور الثلاثة، وكذلك لا يشهدون

لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة فهم

يفرقون بين العام المطلق، والخاص المقيد، وكان عبد الله (حمار)[5] يشرب

الخمر فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل وقال: ما أكثر

ما يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي - صلى الله عليه

وسلم - (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)[6] مع أنه لعن الخمر وشاربها وبائعها

وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه [7] .

وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة وما فيها من الفوائد فإنه هاجر إلى الله

ورسوله وجاهد في سبيله، لكن حدث منه أنه كتب بسر رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - إلى المشركين من أهل مكة يخبرهم بشأن رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - ومسيره لجهادهم ليتخذ بذلك يدًا عندهم يحمي بها أهله وماله بمكة فنزل

الوحي يخبره، وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها فأرسل رسول الله -

صلى الله عليه وسلم عليًّا والزبير في طلب الظعينة، وأخبر أنهما يجدانها في

روضة خاخ فكان ذلك، فتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها فأتي به رسول

الله صلى الله عليه وسلم فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال له: ما هذا؟ فقال: يا

رسول الله إني لم أكفر بعد إيمان، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت

أن تكون لي عند القوم يد أحمى بها أهلي ومالي، فقال صلى الله عليه وسلم

(صدقكم خلوا سبيله) واستأذن عمر في قتله، فقال: دعني أضرب عنق هذا

المنافق، فقال: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد

غفرت لكم وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا

تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الممتحنة: 1) الآيات فدخل حاطب في

المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه وله خصوص

السبب الدال على إراداته مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع

موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل، لكن

قوله: (صدقكم خلوا سبيله) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمنًا بالله ورسوله

غير شاك ولا مرتاب وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قيل (خلوا سبيله)

لا يقال قوله صلى الله عليه وسلم لعمر (وما يدريك لعل الله اطلع على

أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) هو المانع من تكفيره؛ لأنا نقول لو

كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من لحاق الكفر وأحكامه فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله

تعالى {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: 5) وقوله تعالى:

{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) والكفر محبط لحسنات

والإيمان بالإجماع فلا يظن هذا.

وأما قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) وقوله: {لَا تَجِدُ

قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (المجادلة: 22)

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ

أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة: 57)

فقد فسرته السنة، وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة.

وأصل الموالاة هو الحب والنصرة والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة

ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من

الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وغيره، وإنما أشكل الأمر، وخفيت

المعاني والتبست الأحكام على خلوف من العجم والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا

الشأن، ولا ممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن، ولهذا قال الحسن رضي الله عنه:

من العجمة أتوا. وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد لما ناظره في مسألة خلود

أهل الكبائر في النار، واحتج ابن عبيد أن هذا وعد، والله لا يخلف وعده -

يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود -

فقال له ابن العلاء: من العجمة أتيت، هذا عيد لا عد، وأنشد قول الشاعر:

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وقال بعض الأئمة فيما نقل البخاري أو غيره: إن من سعادة الأعجمي

والأعرابي إذا أسلما أن يوفقا لصاحب سنة، وإن من شقاوتهما أن يمتحنا وييسرا

لصاحب هوى وبدعة.

ونضرب لك مثلاً هو أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله أحدهما

خارجي والآخر مرجئ، وقال الخارجي: إن قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ} (المائدة: 27) دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار وبطلانها إذ لا قائل إنهم من

عباد الله المتقين، قال المرجئ: هي في الشرك فكل من اتقى الشرك يقبل عمله

لقوله تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160) قال الخارجي:

قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} (الجن:

23) يرد ما ذهبت إليه، قال المرجئ: المعصية هنا الشرك بالله واتخاذ الأنداد

معه لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء:

48) قال الخارجي: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} (السجدة: 18) دليل

على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها، قال له المرجئ في آخر الآية:

{وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} (السجدة: 20) دليل على أن

المراد من كذب الله ورسوله والفاسق من أهل القبلة مؤمن كامل الإيمان.

ومن وقف على هذه المناظرة من جهال الطلبة والأعاجم ظن أنها الغاية

المقصودة وعض عليها بالنواجذ، مع أن كلا القولين لا يرتضى، ولا يحكم

بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله؛

لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما أنزل إليهم، وأما أهل البدع والأهواء

فيستغنون عنها بآرائهم وأهوائهم وأذواقهم.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

قوله: لم يكفر بالطاغوت، إما تعليل لكفره بالله على طريقة الاستئناف البياني، فالكفر بالطاغوت شرط لصحة الإيمان بالله وإما خبر بعد خبر.

(2)

هو العلامة أحمد بن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي.

(3)

الحور بعد الكور ومعناه النقصان بعد الزيادة كالعصيان بعد الطاعة والجهل بعد الحلم.

(4)

الحديث الأول رواه الشيخان وغيرهما والثاني رواه البخاري بلفظ (والله لا يؤمن والله لا يؤمن - قيل من يا رسول الله؟ قال الذي لا يأمن جاره بوائقه) ورواه أحمد أيضًا ولا أذكر لفظه.

(5)

صحابي معروف وحمار لقب له.

(6)

الحديث من أفراد البخاري ولفظه عند جمهور رواته (تلعنوه) فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله) أي أن الذي علمته أنه يحب الله ورسوله وفي إعراب الجملة أقوال وفي رواية (ما علمت إلا أنه يحب) إلخ وما ذكره المصنف، رواية الواقدي.

(7)

رواه أبو داود وكذا الترمذي وابن ماجه بزيادة فيه.

ص: 505

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

(تابع لما نشر في الجزء الماضي)

حكم المولاة بين صلاتي الجمع:

والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال، لا في وقت الأولى، ولا في وقت

الثانية، فإنه ليس لذلك حد في الشرع، ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة،

وهو شبيه بقول من حمل الجمع بالفعل؛ وهو أن يسلم من الأولى في آخر وقتها،

ويحرم بالثانية في أول وقتها، كما تأول جمعه على ذلك طائفة من العلماء أصحاب

أبي حنيفة وغيرهم، ومراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها فإنه يريد أن يبتدئ

فيها إذا بقى من الوقت مقدار أربع ركعات أو ثلاث في المغرب، ويريد مع ذلك أن

لا يطيلها، وإن كان بنية الإطالة تشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك، وإذا دخل في

الصلاة ثم بدا له أن يطيلها، أو أن ينتظر أحدًا ليحصل الركوع والجماعة لم يشرع

ذلك ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت، ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب

الأشياء علمًا وعملاً وهو يشغل قلب المصلي بغير مقصود الصلاة، والجمع شُرع

رخصة ودفعًا للحرج عن الأمة، فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد، ومع ما

ينقض مقصود الصلاة؟

فعلم أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أخر الظهر عجل العصر وأخر المغرب

وعجل العشاء، يفعل ذلك على الوجه الذي يحصل به التيسير ورفع الحرج له

ولأمته، ولا يلتزم أنه لا يسلم من الأولى إلا قبل خروج وقتها الخاص، وكيف يعلم

ذلك المصلي في الصلاة وآخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل

التحديد بالظل، والمصلي في الصلاة لا يمكنه معرفة الظل ولم يكن مع النبي - صلى

الله عليه وسلم - آلات حسابية يعرف بها الوقت، ولا موقت يعرف ذلك

بالآلآت الحسابية؛ والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بمغيب الشفق، فيحتاج أن ينظر

إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض؟ والمصلي في الصلاة

منهي عن مثل ذلك.

وإذا كان يصلي في بيت أو فسطاط ونحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر

عليه في الصلاة النظر إلى المغرب فلا يمكنه في هذه الحال أن يتحرى السلام في

آخر وقت المغرب بل لا بد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم أنه معه يسلم قبل

خروج الوقت، ثم الثانية لا يمكنه على قولهم أن يشرع فيها حتى يعلم دخول الوقت

وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

كان يراعيه بل ولا أصحابه، فهؤلاء لا يمكن الجمع على قولهم في غالب الأوقات

لغالب الناس إلا مع تفريق الفعل، وأولئك لا يكون الجمع عندهم إلا مع اقتران

الفعل، وهؤلاء فهموا من الجمع اقتران الفعلين في وقت واحد أو وقتين، وأولئك

قالوا: لا يكون الجمع إلا في وقتين، وذلك يحتاج إلى تفريق الفعل، وكلا القولين

ضعيف.

والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا، ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا،

والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة،

وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة وفي بعض أسفاره وتارة يجمع فيما

بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولى، وقد يقعان معًا في

أول وقت الثانية، وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا، وكل هذا جائز؛ لأن أصل

هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك والتقديم والتوسط بحسب الحاجة

والمصلحة، ففي عرفة ونحوها يكون التقديم هو السنة.

وكذلك جمع المطر، السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب حتى اختلف

مذهب أحمد، هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية؟ على وجهين.

وقيل: إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع وفيه وجه ثالث أن الأفضل التأخير في الجمع

أفضل مطلقًا؛ لأن الصلاة يجوز فعلها بعد الوقت عند النوم والنسيان، ولا

يجوز فعلها قبل الوقت بحال، بل لو صلاها قبل الزوال، وقبل الفجر أعادها،

وهذا غلط فإن الجمع بمزدلفة إنما المشروع فيه تأخير المغرب إلى وقت العشاء

بالسنة المتواترة، واتفاق المسلمين وما علمت أحدًا من العلماء سوغ له هناك أن

يصلي العشاء في طريقه، وإنما اختلفوا في المغرب، هل له أن يصليها في

طريقه على قولين.

وأما التأخير فهو كالتقديم، بل صاحبه أحق بالذم، ومن نام عن صلاة أو

نسيها فإن وقتها في حقه حين يستيقظ ويذكرها، وحينئذ هو مأمور بها لا وقت لها

إلا ذلك فلم يصلها إلا في وقتها.

وأما من صلى قبل الزوال وطلوع الفجر الذي يحصل به، فإن كان متعمدًا؛

فهذا فعل ما لم يؤمر به، وأما إن كان عاجزًا عن معرفة الوقت كالمحبوس الذي لا

يمكنه معرفة الوقت؛ فهذا في أجزائه قولان للعلماء، وكذلك في صيامه إذا صام،

حيث لا يمكنه معرفة شهور رمضان كالأسير إذا صام بالتحري، ثم تبين له أنه قبل

الوقت ففي أجزائه قولان للعلماء، وأما من صلى في المصر قبل الوقت غلطًا فهذا

لم يفعل ما أمر به وهل تنعقد صلاته نفلاً أو تقع باطلة؟ على وجهين في مذهب

أحمد وغيره.

والمقصود أن الله لم يبح لأحد أن يؤخر الصلاة عن وقتها بحال كما لم يبح له

أن يفعلها قبل وقتها بحال فليس جمع التأخير بأولى من جمع التقديم، بل ذاك

بحسب الحاجة والمصلحة فقد يكون هذا أفضل وقد يكون هذا أفضل، وهذا مذهب

جمهور العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره، ومن أطلق من

أصحابه القول بتفضيل أحدهما مطلقًا فقد أخطأ على مذهبه.

***

الأحاديث في الجمع تقديمًا وتأخيرًا:

وأحاديث الجمع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مأثورة من حديث

ابن عمر، وابن عباس، وأنس، ومعاذ وأبي هريرة، وجابر، وقد تأول هذه

الأحاديث من أنكر الجمع على تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية إلى أول

وقتها، وقد جاءت الروايات الصحيحة بأن الجمع كأن يكون في وقت الثانية، وفي

وقت الأولى وجاء الجمع مطلقًا، والمفسر يبين المطلق، ففي الصحيحين من حديث

سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان

إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء.

وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء، رواه مسلم، وروى مسلم من

حديث يحيى بن سعيد، حدثنا عبيد الله أخبرني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا جدَّ به

السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، ويذكر أن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء.

***

حديث ابن عمر في جمع التأخير:

قال الطحاوي: حديث ابن عمر إنما فيه الجمع بعد مغيب الشفق من فعله،

وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين، ولم يذكر كيف

كان جمعه؛ هذا إنما فيه التأخير من فعل ابن عمر لا فيما رواه عن النبي - صلى

الله عليه وسلم - فذكر المثبتون ما رواه محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا حماد بن

مسعدة عن عبيد الله بن عمر، عن نافع أن عبد الله بن عمر أسرع السير فجمع

بين المغرب والعشاء فسألت نافعًا فقال: بعدما غاب الشفق بساعة، وقال: إني

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك إذا جدّ به السير، ورواه

سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع، أن ابن عمر

استصرخ على صفية بنت أبي عبيد وهو بمكة وهي بالمدينة، فأقبل فسار حتى

غربت الشمس وبدت النجوم، فقال رجل كان يصحبه: الصلاة الصلاة، فسار

ابن عمر، فقال له سالم: الصلاة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم

كان إذا عجل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين، فسار حتى إذا غاب

الشفق جمع بينهما وسار ما بين مكة والمدينة ثلاثًا.

وروى البيهقي هذين باسناد صحيح مشهور، قال وراه معمر عن أيوب

وموسى بن عقبة عن نافع، وقال في الحديث فأخر المغرب والعشاء، قال:

وكان سول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك إذا جدّ به السير أو جزبه أمر (قال)

ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع فذكر أنه سار قريبًا

من ربع الليل ثم نزل فصلى، ورواه من طريق الدارقطني، حدثنا ابن صاعد

والنيسابوري حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد، أخبرني عمر بن محمد بن يزيد،

حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر، أنه أقبل من مكة وجاءه خبر

صفية بنت أبي عبيد فأسرع السير، فلما غابت الشمس، قال له إنسان من

أصحابه: الصلاة. فسكت، ثم سار ساعة فقال له صاحبه: الصلاة، فقال الذي

قال له الصلاة: إنه ليعلم من هذا علمًا لا أعلمه فسار حتى إذا كان بعدما غاب الشفق

بساعة نزل، فأقام الصلاة وكان لا ينادي لشىء من الصلاة في السفر فأقام فصلى

المغرب والعشاء جميعًا جمع بينهما ثم قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم

كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق بساعة، وكان

يصلي على ظهر راحلته أين توجهت به السبحة [1] في السفر) ويخبر أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصنع ذلك.

قال البيهقي: اتفقت رواية يحيى بن سعيد الأنصاري، وموسى بن عقبة،

وعبيد الله بن عمر، وأيوب السختياني، وعمر بن محمد بن زيد، على أن جمع

عبد الله بن عمر بين الصلاتين بعد غيوبة الشفق، وخالفهم من لا يدانيهم في حفظ

أحاديث نافع، وذكر أن جابر رواه عن نافع ولفظه: حتى إذا كان في آخر الشفق

نزل فصلى المغرب ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى بنا ثم أقبل عليها فقال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به الأمر صنع هكذا، وقال:

وبمعناه رواه فضل بن غزوان وعطاف بن خالد عن نافع، ورواية الحفاظ من

أصحاب نافع أولى بالصواب فقد رواه سالم بن عبد الله، وأسلم مولى عمر وعبد

الله بن دينار، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن ذويب، عن ابن عمر نحو روايتهم،

أما حديث سالم فرواه عاصم بن محمد عن أخيه عمر بن محمد عن سالم، وأما

حديث أسلم فأسنده من حديث ابن أبي مريم، أنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد بن

أسلم عن أبيه، قال: كنت مع ابن عمر فبلغه عن صفية شدة وجع فأسرع السير

حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعتمة جمع بينهما، وقال: إني

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جدّ به السير أخَّر المغرب وجمع

بينهما، رواه البخاري في صحيحه عن ابن أبي مريم.

وأسند أيضًا من كتاب يعقوب بن سفيان أنا أبو صالح وابن بكير قالا: حدثنا

الليث قال: قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: حدثني عبد الله بن دينار، وكان من

صالحي المسلمين صدقًا ودينًا، قال: غابت الشمس ونحن مع عبد الله ابن عمر

فسرنا، فلما رأيناه قد أمسى قلنا له: الصلاة فسكت حتى غاب الشفق، وتصوبت

النجوم، فنزل فصلى الصلاتين جميعًا، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - إذا جدّ به السير صلى صلاتي هذه، يقول جمع بينهما بعد ليل.

وأما حديث إسماعيل بن عبد الرحمن، فأسند عن طريق الشافعي وأبي نعيم

عن ابن عيينة عن أبي نجيح عن إسماعيل بن الرحمن بن ذؤيب، قال: صحبت

ابن عمر فلما غابت الشمس هبنا أن نقول له: قم إلى الصلاة فلما ذهب بياض

الأفق وفحمة العشاء نزل فصلى ثلاث ركعات وركعتين ثم التفت إلينا، فقال: هكذا

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.

***

حديث أنس في جمع التقديم

وأما حديث أنس ففي الصحيحين عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول

الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى

وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى

الظهر ثم ركب.

هذا لفظ الفعل عن عقيل عنه، ورواه مسلم من حديث ابن وهب، حدثني

جابر بن إسماعيل عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس عن رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - أنه كان إذا عجل به السير [2] يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع

بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينهما وبين العشاء حين يغيب الشفق.

ورواه مسلم من حديث شبابة حدثنا الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب

عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين

الظهر والعصر في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع

بينهما، وروراه من حديث الإسماعيلي [3] أنا الفريابي، أنا إسحاق بن راهويه،

أنا شبابة بن سوار عن ليث عن عقيل عن أنس كان رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - إذا كان في السفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل

قلت: هكذا في هذه الرواية، وهي مخالفة للمشهور من حديث أنس.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المراد بالسبحة النافلة.

(2)

في نسخ مسلم عجل عليه السفر.

(3)

ظاهر هذا أن مسلمًا روى حديث أنس هذا باللفظ الآتي عن الإسماعيلي، وليس كذلك، والصواب أن الإسماعيلي رواه عن جعفر الفريابي عن إسحاق إلخ.

ص: 513

الكاتب: محمد أحمد الغمراوي

‌العلم والدين

(2)

وبعد: فما هي عناصر الخلاف وعوامل الخصومة التي توجب أن يكون

الدين في ناحية والعلم في ناحية أخرى. وأن ليس إلى التقائهما من سبيل؟

ساق الدكتور في الجواب على هذا السؤال ثلاثة أمور:

(الأمر الأول) أن الدين حين يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء ويأخذ الناس

بالإيمان بهما يثبت أمرين لم يستطع العلم إلى الآن أن يثبتهما، فالعلم لم يصل بعد

إلى إثبات وجود الله، ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الأنبياء، ولا سبيل إلى أن

يتفقا إلا يوم يعترف العلم بوجود الله ونبوة الأنبياء، أو يوم ينزل الدين عن وجود

الله ونبوة الأنبياء، هذا أمر.

(الأمر الثاني) أن الكتب السماوية لم تقف عند إثبات وجود الله ونبوة

الأنبياء، وإنما عرضت لمسائل أخرى يعرض لها العلم بحكم وجوده ولا يستطيع

أن ينصرف عنها، وهنا ظهر تناقض صريح بين نصوص الكتب السماوية، وما

وصل إليه العلم من النظريات والقوانين.

(الأمر الثالث) وهو في رأي الدكتور ثالثة الأثافي أن العلم طمع في أن

يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله، وهو لا يحفل الآن بأن التوراة تناقضه أو لا

تناقضه؛ وإنما يزعم أن له الحق في أن يضع الدين نفسه موضع البحث، وقد فعل،

وأن العالم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة واللباس من حيث إنها كلها ظواهر

اجتماعية تتبع الجماعة في تصورها وتتأثر بالبيئة والإقليم والوضع الجغرافي، فهو

لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض.

هذه هي ثلاثة الأدلة التي أرسلها الدكتور في سياق التدليل على متناقضاته.

وإني أسأل الدكتور ما حد الخصومة التي يزعمها قائمة بين العلم والدين، أليست

الخصومة هي الجدل والغلب حيث يدفع أحد الخصمين ما يثبته الآخر ويثبت ثانيهما

ما ينفيه صاحبه؟

فإذا كان هذا معنى الخصومة، فهل نفى العلم ما أثبته الدين من وجود الله

ونبوة الأنبياء؟ إن في كلام الدكتور جواب هذا السؤال الأخير، فهو يصرح بأن

العلم لا ينفي وجود الله ونبوة الأنبياء، ويقرر في وضوح أن العلم ينصرف عنهما

انصرافًا تامًّا إلى ما يمكن أن يتناوله بالبحث والتمحيص.. . فهو إذن مسلم بأن

العلم لا يستطيع أن يتناول بالبحث والتمحيص هذين الأمرين لعجز آلاته عن بحثهما

وتمحيصهما. وهو إذًا مسلِّم بأن العلم منصرف عنهما انصرافًا تامًّا إلى ما يمكن أن

يتناوله بالبحث والتمحيص. وإذًا فلا خصومة بين العلم والدين في وجود الله ونبوة

الأنبياء، إذ كيف تقع الخصومة بين طرفين في أمر يعترف أحدهما بأنه عاجز عن

مباشرة أسباب الخصومة فيه، وكيف تتصور الخصومة ممن هو منصرف انصرافًا

تامًّا عن تناول ما هو مثار الخصومة؟

فالحق أنه لا خصومة بين الدين والعلم على وجود الله ونبوة الأنبياء، وأن

ميدان الدين أوسع دائرة من ميدان العلم الحسي، وأنه إذا كان العلم الحسي لم

يستطع أن يجري مع الدين في ميدانه الفسيح فإن العقل لم ينقطع عن الجري مع

الدين في هذا الميدان ولم تنضب موارده الخصبة [1] ولم يضن على الدين بالمساعدة

والتأييد فالأدلة العقلية على وجود الله وعلى نبوة الأنبياء متظاهرة متضافرة،

وليست الصحف اليومية بميدان صالح لنشرها وبسطها [2] ، وهي في كتب العقائد

مبسوطة مدعمة ومن أحسن تلك الكتب رسالة التوحيد للأستاذ الإمام الشيخ محمد

عبده، فليرجع القارئ إليها إذا شاء.

بعد هذا نعرض للأمر الثاني الذي ساقه الدكتور للتدليل على رأيه في وجود

الخصومة بين العلم والدين، وهو أن الكتب السماوية عرضت لمسائل أخرى

يعرض لها العلم بحكم وجوده، ولا يستطيع أن ينصرف عنها، قال الدكتور: وهنا

ظهر تناقض صريح بين نصوص هذه الكتب السماوية وما وصل إليه العلم من

النظريات والقوانين.

على أن الدكتور في هذا الموقف الخطير لم يذكر لنا ولو قانونًا واحدًا من تلك

القوانين العلمية التي تناقض نصوص القرآن تناقضاً صريحاً في زعمه، واكتفى

بالإشارة إلى أن في القرآن ذكراً للخلق وصورته ومدته، وفي علم الجيولوجيا

تعرض لهذا، وبين نظريات علم الجيولوجيا وبين القرآن خلاف قوي عنيف، هذا

خلاف، وخلاف آخر بين الدين والعلم في نشأة الإنسان.

زعم الدكتور أنه ليس بأقل من الخلاف في خلق السموات والأرض، وأن

مذهب النشوء والارتقاء لا يمكن أن يتفق مع ما في القرآن بوجه من الوجوه، ولن

يتفق علم الأمبريولوجيا مع ما جاء في القرآن من تكوّن الجنين، ومثل ذلك ما بين

نصوص القرآن وعلم الفلك من خلاف، هذه هي جملة الأمور التي بني الدكتور

عليها حكمه بأن الدين والعلم ليسا متفقين، ولا سبيل إلى أن يتفقا إلا أن ينزل

أحدهما لصاحبه عن شخصيته كلها.

ولن نرى موقفًا أدنى إلى السخف، وأدعى إلى السخرية، والاستهزاء

بصاحبه من هذا الموقف بفقه الدكتور من كتاب الله، ومن علوم لا يحسن القول

فيها، ولا يدري الفرق بين نظرياتها وقوانينها، فيريك كيف يذري الجهل بصاحبه

وكيف تجني الحماقة على جانيها، ويعطيك صورة مضحكة لأولئك الثرثارين

المتفيهقين الذين يقع نظرك عليهم كثيراً في النوادي ومجالس السمر حتى يتشدقون

بالحديث في مختلف الشئون العلمية والسياسية والاقتصادية وهم لا يدرون شيئًا عما

يتحدثون فيه، ولا يعرفون إنْ كانت السياسة طعامًا يؤكل، أو ثيابًا تلبس أو ألعوبة

يتسلى بها الصبية؛ فلو أن الدكتور كان من علم ما عرض للكلام فيه بالمكان الذي

يدعيه لنفسه وبالمنزلة التي يوهم البسطاء والمخدوعين أنه لا يشق له فيها غبار؛

لما جهل الفرق بين النظريات والقوانين في العلوم ولا سمح لنفسه أن يتحدث عن

ظهور تناقض صريح بين نصوص القرآن وما وصل إليه العلم من النظريات، إذ

ما الذي يضير القرآن إذا كان مخالفًا لنظريات لم يبرهن عليها في العلم، ولم تصر

بعد من اليقينيات المسلمات فيه؟ ولو أن الدكتور كان يحسن من هذه العلوم شيئًا

كما يوهم لما اكتفى بأن يرسل الكلام إرسالاً يقف فيه عند حد القول بأن بين

نظريات علم الجيولوجيا وبين القرآن خلافًا قويًّا عنيفًا، وأن مذهب النشوء

والارتقاء لا يمكن أن يتفق مع ما في القرآن بوجه من الوجوه، إلى غير ذلك من

أقوال مرسلة ودعاوى عريضة، ولذكر لنا ولو بحثًا من أبحاثه الفلكية المخالفة

لنصوص القرآن.

بيد أننا في هذا الموقف نطمئن الدكتور إشفاقًا عليه، ونقول له: هون عليك

فإن الأمر أهون مما تظن فلن ينزل الدين عن شخصيته للعلم، ولن ينازع العلم الدين

في شيء من الأصول الأساسية التي أقرها، وسيظل العلم والدين صديقين وفيين

وخليلين متناصرين على ترقية الإنسانية وتوفير الخير لها حتى تقوم الساعة.

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت:

53) .

ولأجل أن ننزع عن الدكتور ما أحاط به من اللبس ونكشف له عما اشتبه

عليه من هذه المسائل التي ذكرها نقول له: إن القرآن نزل لهداية البشر لما فيه

سعادتهم في الدنيا والآخرة. وهذه الغاية تتحقق بثلاثة أمور:

أولها: تصحيح عقائد الناس فيما يختص بذات الإله وما يجب لها من صفات

الكمال.

وثانيها: تهذيب الأخلاق بالمواعظ الحسنة، وتكميل النفوس وترغيبها في

العبادات والأعمال الصالحة والأخلاق الطيبة التي أجمعت العقول على حسنها.

وثالثها: إصلاح حال الجماعة بتجديد علائق بعضهم ببعض ووصف العلاج

الناجح الذي يشفي الجماعة من أمراضها المستعصية، وهو في كل ذلك لم يعرض إلا

قليلاً لجزيئات الأمور؛ لأن الجزيئات كثيرة التغير سريعة التحول، فقرر القواعد

العامة التي تتمارى العقول فيها والتي ترمي إلى إصلاح الأرواح والنفوس من

غير إخلال بمصالح الجسد، واكتفى من الجزيئات بذكر ما فيه نفع ظاهر أو ما

فيه ضرر بَيِّن.

فالقرآن لم ينزل لتقرير قواعد العلوم وتفصيل مسائل الفنون إذ لو كان كذلك

لكان كسائر الكتب العلمية التي لا ينتفع بها إلا قليل من الناس، وإذًا يفوت الغرض

المقصود منه - أعني هداية البشر - ولو نزل بتفصيل قواعد العلوم وتفصيل

مسائلها لاستنفد عمر الإنسانية في إدراك قواعده والتصديق بمسائله.

فهو إذاً عرض لذكر شيء من الآيات الكونية في سياق التدليل بها على ما

يقرره من القضايا فإنما يتناوله بالقدر الذي يشترك في التسليم به كافة الناس عامتهم

وعلماؤهم ويلفت الأذهان إلى ما في تلك الآيات من أسرار تدق على عقول الدهماء،

ولا تجل عن أفهام العلماء، في أسلوب يحفز العقول إلى المعرفة ويستثير ما كَمُن

في النفوس من الغرائز والقوى إلى التبسط في العلم، واستجلاء آيات الله في

الكائنات، مجزلاً للعلماء حظهم من الثناء والتكريم.

فتراه حين يدلل على وحدانية الله بما في خلق السموات والأرض واختلاف

الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى غير ذلك من الآيات

الكونية تراه حين يدلل على الوحدانية بما في هذه الكائنات وغيرها من سنن ثابتة

محكمة مطردة تدل على وحدانية صانعها وعلمه وقدرته يعقب ذكرها ببيان أن في

ذلك آيات لقَوْمٍ يَعْقِلُون، وأن في ذلك آيات لقوم يعلمون، وأن في ذلك آيات لقوم

يتفكرون، ليوجه العقول إلى معرفة ما فيها من آيات، ويسوق النفوس والهمم إلى

استجلاء ما في الكائنات من أسرار.

وأما إذا عرض لذكر السموات وما فيها من النجوم والكواكب، وللأرض وما

فيها من المخلوقات والعجائب؟ فلا يعرض لبيان حقائق الكواكب وأشكالها، ولا

لتفصيل مقادير أبعادها ونظام سيرها في أفلاكها، ورجوعها واستقامتها وميلها،

واختلاف مناظرها، إلى غير ذلك من الأبحاث الفلكية، كذلك لا يعرض عند ذكر

الأرض لوصف شكلها وإثبات حركتها أو سكونها [3] ، وما يترتب على ذلك من

اختلاف الليل والنهار، والفصول الأربعة، ولا يذكر أسباب وجود الجبال واختلاف

طبقاتها وألوانها، ولا أسباب وجود الوديان والزلازل وغير ذلك من الظواهر

الطبيعية، وإنما يكتفي بذكر تلك الظواهر وما للناس فيها من نفع أو غيره لافتًا

الأذهان إلى ما فيها من سنن وعبر - فهو كما قدمنا يتناولها بالمقدار الذي يشترك سائر

الناس في العلم به لينال كل حظه من الهداية كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ

أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ

مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ

إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 27-28) ومن ذا يماري أن الماء منه

حياة كل شيء نامٍ، وأن الله يخرج به من الأرض ثمرات مختلفًا ألوانها؟ وأن في

اختلاف ألوان الجبال والناس والدواب والأنعام آيات وأسرارًا عظيمة؟ وإن كان لا

يقف على كنه هذه الآيات والأسرار إلا العلماء.

وكذلك إذا لفت الناس إلى ما في خلق الإنسان من إبداع الصنع وإحسان الخلق

وذكر الأطوار التي تكون للجنين في الرحم وأنه يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم

يصير مضغة فتخلق المضغة عظامًا، فتكتسي العظام باللحم؛ فإنما يذكر الظواهر

التي يشترك سائر الناس في إدراكها فإذا أثبت علم الأمبريولوجيا أن النطفة تشتمل

على حيوان إنساني، وأنه يتصل ببويضات في الرحم يلقحها فيتكون من مجموعها

إنسان يتطور في الرحم في أطوار شتى، وإذا أثبت هذا العلم بواسطة

الميكروسكوب أن تلك النطفة التي يراها الناس علقة ومضغة هي في الواقع إنسان

تام الأجزاء، ولكنه غير تام التكوين، فهل ينفي ذلك أن النطفة صارت علقة وأن

العلقة صارت مضغة؟ وهل يطعن ذلك في القرآن أو ينقضه؟ كلا، وكيف

يكون العلم ناقضًا للقرآن أو مكذبًا له، وكيف يعادي القرآن العلم والقرآن يحيل

الناظر على العلم ويزكيه ويصدقه وينبئ بأن في الكائنات أسرارًا وآيات قد فصلها

لقوم يعلمون؟ وهل يزكي القرآن العلم والعلماء هذه التزكية ويأمرنا بسؤال أهل

الذكر في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ثم هو

مع هذا يعادي العلم ويرد حكمه؟ لا أظن عاقلاً يسلم بهذا.

بقي من الأمثلة التي ساقها الدكتور مسألة خلق السموات والأرض وتحديد مدة

الخلق وما بين مذهب النشوء والارتقاء وبين القرآن من خلاف؛ فأما مذهب النشوء

والارتقاء، فلا يزال العلماء الباحثون فيه يرونه نظريًّا غير مدلل ولا مبرهن،

فليس من بأس منه على القرآن على فرض أن في نظرياته ما يخالف القرآن.

وكذلك مسألة خلق السموات والأرض لم يأت القرآن فيها بتفصيل ينفيه العلم.

فجملة ما يفهم من ظاهر الآيات أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقتا [4]

وأن السماء كانت كالدخان [5] ، وأن الأرض تم تكوينها قبل أن تخلع السماء

صورتها الدخانية المعتمة، وتلبس هذه الصورة ذات اللون البهيج، وظاهر القرآن

أيضًا أن السموات سبع طباق، وأنها ذلك الشيء البديع الصنع، المنسق الأجزاء

المحكم البناء، المحيط بالأفق الذي يسحر العقول {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً

مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (الملك:

3) .

هذه هي السموات، لم يعرض القرآن لبيان حقيقتها ولم يكشف عن ماهيتها

ولا عن حقيقة ذلك الشيء ذي اللون الأزرق البديع؛ فإذا أثبت العلم أن الأرض

جزء من الشمس فليس في القرآن ما ينفي ذلك، وقد يكون فيه ما يثبته؛ وإذا أثبت

العلم أن هذا الشيء الأزرق الذي يعلو رؤوسنا ويسمى سماء هو فضاء تسبح فيه

الكواكب، وأن من الكواكب والنجوم ما لا يصل إلينا نوره إلا بعد ألوف أو ملايين

من السنين؛ فليس هذا بالذي يضير القرآن في شيء، أليس هذا الفضاء في رأي

العين متسق الأجزاء كالبناء متناسق التركيب ما ترى فيه من تفاوت؟ وكونه سبع

طبقات لا يختلف في شيء مع العلم، أليس العلم قرر أن هذا الفضاء مَسْبَح للكواكب

وأن هذه الكواكب متفاوتة البعد في طبقات متمايزة؟ وماذا يمنع من أن هذا

الفضاء سبع طبقات متمايزة لكل طبقة منها خصائص ليست للطبقة الأخرى؟

وأما تحديد مدة الخلق بستة أيام وما فيه من زعم منافاته للعلم فقد أجاب القرآن

الكريم عنه فدل على أنه {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) فلئن كان

العلم يثبت أن الدنيا قديمة العمر، وأنها مرت في أطوار مختلفة كل طور منها

استنفذ آلافًا من السنين؛ فإن القرآن يصرح بأن من الأيام ما يقدر عند الله بألف

سنة، بل منها ما يقدر بخمسين ألف سنة قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ

سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47) وقال: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج: 4) ثم إذا لاحظنا أن لغة العرب تستعمل السبعين والألف أمثالاً

لإفادة الكثرة من غير قصد إلى التحديد بالعدد المعين، لم يكن ثمَّ مانع من أن يراد

بهذا العدد الكثرة التي تتناول ملايين السنين [6] .

هذا تأويل بعض ما أشكل على الدكتور من آي القرآن الكريم لم نخرج فيه

عما يفهم من ظاهر اللغة وظاهر القرآن، ولم تحتج في بيانه إلى ارتكاب تجوّز

نلتمس له القرائن العقلية وإن كان هذا مما أذنت به اللغة ونطق به القرآن في كثير

من الآيات.

ولئن فرض أن السلف أو غيرهم لم يفهموا من بعض آي القرآن ما يفهمه من

بعدهم، ولئن أَوّل العلماء آية كريمة، فكان في بعض تأويله غير موفق؛ فليس

ذلك بالذي يضر القرآن في شيء، فإن القرآن لم ينزل للسلف وحدهم، ولقد كان

القرآن ولا يزال حجة قائمة على المدارك والإفهام.

وبعد فماذا بقي في مقال الدكتور من شبهة يحتاج القارئ إلى أن نتحدث معه

في شأنها؟ أستغفر الله لقد أُنسيت.

بقي الأمر الثالث الذي حدث عنه الدكتور بأنه أعظم من الأمرين الأولين

خطرًا، وأبعد منهما في تحقيق الخلاف أثرًا، بقيت ثالثة الأثافي، بقي أن العلم

يطمع في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله، وأنه يعده ظاهرة اجتماعية وأنه لم

ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض.

وليس بعجيب أن يطمع العلم في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله ما دام

هذا العلم من نوع ما يدعيه دكتورنا لنفسه، ولكن العجيب أن نطمع من دكتورنا في

أن لا يختم بحثه بضرب من التناقض والسخف أفظع وأشنع مما بدأ به بحثه فيترك

القارئ يستمتع ببقية من عقله بعد أن يفرغ من قراءة هذيانه؛ فلقد رأيت مما

قدمناه من المقال أن الدكتور يقول بملء فِيهِ: (إن العلم ينصرف انصرافًا تامًّا عن

البحث في وجود الله ونبوة الأنبياء - وهما أساس الدين - إلى ما يمكن أن يتناوله

بالبحث والتمحيص ويقرر أن العلم لا يستطيع أن يتناولهما بالبحث

والتمحيص وأنت لا تراه الآن ينقض ما قرره أولاً ويعود فلا يكتفي بأن

يطمع العلم في إخضاع الدين لبحثه، بل يزعم أن له الحق في أن يضع الدين

نفسه موضع البحث، وقد فعل فهل رأيت كهذا التناقض والتخبط؟

على أننا نصرف النظر عن هذا التناقض أيضًا، ونسأله ماذا يقصد بالدين

الذي يعده ظاهرة اجتماعية؟ ويزعم أنه لم ينزل من السماء وإنما خرج من

الأرض؛ فإذا كان يريد من الدين مجموع العادات والأحوال التي يكون عليها الناس

في وقت من الأوقات، فله أن يسمى هذا ظاهرة اجتماعية لا ننازعه ولا ندفعه عن

ذلك؛ وإذا أراد به التعاليم المعينة التي أرسل بها نبي من الأنبياء إلى أمة من الأمم

فإننا لا نسلم له بذلك فإن المعروف من تاريخ الديانات أن الآتين بها لاقوا من

عنت أممهم وعدائهم ما لاقوا، وكم ذاق الأنبياء من أممهم صنوف العذاب والتنكيل،

وليس حديث موسى وهارون وما لقيا من عنت بني إسرائيل، وليس حديث محمد

صلى الله عليه وسلم وما لقي من أذى قومه بالذي يؤيد زعم الدكتور، ولو كان

الدين المنزل ظاهرة اجتماعية اقتضتها روح الأمم والجماعات، كالثورة الفرنسية

وغيرها من الثورات، لثارت الأمم له ولم تثر عليه، ولجأت به الجماعة لا الفرد،

ولكن إذا جاء به الفرد تلقته أمته بالتكريم والتبجيل لا بالتعذيب والتنكيل، وهذا غير

ما عرف من تاريخ الديانات.

أرجو أن يكون في هذا البيان شفاء لما عسى أن يكون قد علق بنفس القارئ

من شبه الدكتور طه ووساوسه وأن يكون هذا البحث قد انتهى بنا إلى النتائج

الصحيحة الآتية:

وهي أن الدين المنزل من عند الله لا سيما دين الإسلام ليس بينه وبين العلم

من خلاف ولا خصومة، وأن الإسلام والعلم سيبقيان صديقين وفيين وحميمين

متآلفين يتعاونان على خير الإنسانية حتى يصلا بها إلى منازل السعادة والكرامة

ويكون الناس بهما إخوانًا على سرر متقابلين.

كم أحب أن يفكر الدكتور طه في عاقبة طيشه وتهوره، وكم أود أن يتروى

في بحثه وفيما يكتب، وألا يطير وراء الشهوات، ولا ينخدع بما يقرأ له في كتب

الفرنجة من الأباطيل والترهات، وأن يتجنب الكلام في شئون الدين ويحتفظ لنفس

إن أراد أن يفتتن بآراء الملحدين، إنه إن فعل ذلك يعصم مصر من شر مستيطير،

ويرح نفسه من عناء كثير، فليس الإسلام كالمسيحية وليست مصر كفرنسا؛

فللشرق كرمه ووداعته، وللغرب تهوره وحدته.

ومصر وإن كانت كغيرها من بلاد الله جادة في حياتها العقلية فإنها بالغة

بفضل دينها وإيمانها وعزائم رجالها فوق ما بلغته الأمم الأخرى التي تقدمتها، فلئن

كانت الأمم الأخرى قد وجدت من دينها عقبة تمنعها من النهوض فاضطرت للثورة

عليه، فإن مصر ستجد من دينها وتأييده لها على ما تحاوله من الآمال الشريفة خير

عون، وأقوى ظهير تركن إليه، إن شاء الله.

...

...

...

محمد أحمد الغمراوي

...

...

...

... المدرس بمعهد أسيوط

***

ملحوظة

هذا البحث قدم إلى جريدة السياسة الأسبوعية في يوم الخميس 29 يوليو

رجاء نشره كما نشرت مقال الدكتور طه حسين فوعدت وسوفت ثم أخلفت.

(المنار)

هذا يدل على أن السياسة لا تنشر أمثال تلك المقالات الإلحادية من باب حرية النشر الواسعة بل هي لسان حال هؤلاء الملاحدة الإباحيين في هذا الباب، كما أنها لسان حال حزب الأحرار الدستوريين في السياسة، بل ظاهر إطلاقها أنها لسان حال هؤلاء يشمل هذا ولكننا نعرف منهم أفرادًا أولي دين وعسى أن يحملوها على ترك الدعاية الإلحادية أو ينفصلوا من حزبها محتجين.

_________

(1)

المنار: المراد بالموارد الخصبة أنها سبب الخصب وإلا فالظاهر أن توصف بالمذبة.

(2)

سبب هذا أن صاحب المقالة أرسلها أولاً إلى جريدة السياسة اليومية لأنها رد على ما نشر فيها كما سيأتي.

(3)

المنار: لعل الكاتب يريد أنه لا يقرر ذلك تقريرًا فنيًّا، صريحًا قطعيًّا، وهذا لا ينفي أن فيه آيات بينة في ذلك على ما اتفق عليه علماء هذا العصر كقوله تعالى:[يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ](الزمر: 5)، وقوله:[يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً](الأعراف: 54) ، وغير ذلك مما بيناه في المنار بالتفصيل.

(4)

سورة الأنبياء.

(5)

سورة فصلت.

(6)

المنار: التحقيق أن اليوم في اللغة هو زمن مبهم، يفسره ما يقع فيه من حدث كأيام العرب في حروبها وغيرها ومنه [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس] (آل عمران: 140) ، قد فصلنا ذلك في التفسير.

ص: 521

الكاتب: مهاتما غاندي

‌الصحة

تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي

ترجمةالأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي

الباب السادس

الجدري وهل هو من الأمراض المعدية

نبحث الآن في معالجة الأمراض المعدية، إن هذه الأمراض كلها ترجع إلى

أصل واحد مشترك، ولكن بما أن الجدري له أهمية خاصة بينها نخصص له بابًا

مستقلاً وفي أخواته في باب آخر.

لقد اعتدنا أن نخاف كثيرًا من الجدري لأوهام واهية نتوهمها فيه؛ فقد أخذنا

في الهند نعبده كإله، والحقيقة أنه يتسبب من فساد الدم لارتباك في المعدة، كبعض

الأمراض الأخرى؛ فالسم الذي يجتمع في البنية يخرج بصورة الجدري، وما دام

هذا الرأي صحيحًا فليس هنالك أدنى محل للخوف منه، لو كان الجدري مرضًا

معديًا بالحقيقة لتعدي بمجرد لمس المريض. ولكن الواقع ليس كذلك دائمًا، والحقيقة

أن لمس المريض لا يضر إذا اتخذت بعض الاحتياطات الضرورية، نعم نحن لا

نستطيع أن نقول: إن الجدري لا يتعدى باللمس مطلقًا، فالذين هم في حالة جسدية

ملائمة لانتقاله ينتقل إليهم، وهذا هو السبب في انتقال الجدري إلى الآخرين إذا

ظهر في جهة من الجهات، وهذا الذي وسع المجال للوهم بأنه مرض معد؛ ومن

هذا أتى تضليل الناس بإقناعهم بأن اللقاح طريقة مؤثرة لمنعه، إن اللقاح عبارة عن

حقن سائل الجدري الذي يستحصل من ثدي البقر [1] بعد أن يدخل في ثديها مادة

الجدري، لقد كانت الفكرة القديمة هي: بأن اللقاح مرة واحدة يحفظ الإنسان من هذا

المرض طول العمر؛ ولكن لما وجدوا أن الملقحين أيضًا يصابون به عدلوا عن تلك

الفكرة وأخذوا يقولون: بأن التلقيح يجب أن يعاد بعد كل زمن معين؛ وعلى هذا قد

جرى عامة الناس الآن سواء كانوا ملقحين؛ فإنهم يلقحون أنفسهم كلما انتشر هذا

المرض في إحدى الجهات. ولذلك ليس بعجيب أن نرى الآن أناسًا قد لقحوا بضع

مرات.

إن التلقيح عمل همجي ومكيدة من أكبر المكائد التي انتشرت في أيامنا

والتي لا توجد حتى في الأمم التي نسميها متوحشة [2] إن المدافعين عن التلقيح

لم يكتفوا بأولئك الذين لا يرون أي اعتراض إزاءه، بل قد اجتهدوا ولا يزالون

يجتهدون في إجرائه على جميع الناس بالقوانين التعزيزية والعقوبات الإجبارية

الصارمة، إن عملية اللقاح ليست بقديمة العهد بل قد ابتدأت من سنة 1798م ولكن

في خلال هذه المدة الوجيزة من الزمن قد سقط الملايين من الناس فريسة للوهم

القائل بأن الذين يلقحون أنفسهم يسلمون من الجدري، لا يستطيع أحد أن يدعي أن

اللذين لا يلقحون لا بد من أن يهاجمهم الجدري؛ لأنه قد وجدت أمثلة كثيرة لغير

الملقحين لم يصابوا به فقط، وكذلك لا يصح أن يستنتج من إصابة غير الملقحين

بالمرض أنهم لو لقحوا لسلموا منه.

على أن التلقيح عمل (وسخ) للغاية لأن المصل الذي يدخل في الجسم

الإنساني لا يحتوي على ما يخرج من البقر فقط بل كذلك يكون قيحًا حقيقيًّا للجدري

إن الرجل العادي ليتقيأ بمجرد النظر إلى هذا الشيء، وإذا تلوثت يده بهذه المادة

يغسلها حالاً بالصابون، ولو طلب منه أن يأكله لنفر وغضب غضبًا شديدًا، ولكن

الذين يرضون بالتلقيح لا يفهمون بأنهم في الحقيقة يأكلون هذا الشيء الوسخ بعينه!

[3]

، يعرف كثير من الناس بأن الأدوية والأطعمة الرقيقة تحقن في كثير من

الأمراض في الدم فتتحلل في البدن بسرعة أكثر مما لو أكلت بالفم، وكل ما هنالك

من الفرق بين الحقن والأكل العادي بالفم بأن الأول يمتزج حالاً بينما الثاني يمتزج

ببطء، ولكن مع هذا نحن لا نتردد في تلقيح أنفسنا، قد قيل حقًّا (إن الجبان يموت

مرات كثيرة قبل موته) كذلك تهافتنا على التلقيح بسبب خوفنا من الموت أو من

تشويه الجدري لوجوهنا.

وأنا لا أملك دفع الشعور بأن التلقيح هتك لأحكام الدين والأخلاق معًا.

إن شرب الدم وإن كان من البهائم المذبوحة يمقته أشد المقت حتى أولئك الذين

يأكلون اللحم عادة! ، وليس التلقيح دم حيوان حي معصوم بعد تضميمه؟ ، فما

أجدر الذين يخشون الله بأن يقعوا فريسة للجدري ويموتوا موتًا سريعًا من أن

يرتكبوا جناية خسيسة مثل هذه الجناية!

لقد اكتشف بعض المفكرين في إنكلترا بعد تحقيق دقيق المضار

المتنوعة للتلقيح، وقد أسست جمعية هنالك ضد هذا العمل تسمى بـ

Soiety Vaccination ـ Anti وأعلن أعضاء هذه الجمعية حربًا علنية

على التلقيح ورضوا بأن يدخلوا السجون عوضًا من أن يخضعوا له أو يسكتوا

عليه، إن اعتراضاتهم على اللقاح تتلخص فيما يأتي:

1 -

إن تجهيز المادة من ثدي البقر والعجل يوجب عذابًا أليمًا على ألوف من

المخلوقات المعصومة، وهذا لا يمكن أن يجوز مهما كانت فوائد التلقيح كبيرة.

2 -

إن التلقيح عوضًا من أن ينفع يجلب ضررًا كبيرًا؛ لأنه يسبب أمراضًا

كثيرة جديدة، حتى إن المدافعين عنه أيضًا لا يستطيعون أن ينكروا أن أمراضًا

كثيرة جديدة قد ظهرت بعد شيوعه.

3 -

إن المادة التي تستحصل من دم المصاب بالجدري قد تحتوي على

ميكروبات لأمراض مختلفة كامنة في المريض فينقلها إلى السليم الذي يلقح به.

4 -

ليس هناك أي ضمان يضمن أن لا يصاب الملقح بالمرض فالدكتور

جينر Jenner مخترع اللقاح زعم في أول الأمر أن الصيانة التامة تحصل بلقاح

واحد في ذراع واحد؛ ولما ثبت بطلان هذا قالوا: إن اللقاح على الذراعين يحصل

به المقصود، ولما ثبت خيبة هذا الرأي أيضًا أخذوا يزعمون أن الذراعين كليهما

يلقحان في أماكن متعددة، ويجدد التلقيح في كل سبع سنين، وقد نقصوا أخيرًا مدة

هذه الصيانة إلى ثلاث سنين! فكل هذا يثبت أن الأطباء أنفسهم ليسوا بمتفقين في

المسألة، والحق ما بيناه آنفًا، وهو أنه ليس هناك قول بأن الملقح لا يصاب

بالجدري، أو أن جميع أحوال الصيانة إنما هي نتيجة للتلقيح.

5 -

إن المادة جوهر وسخ ومن الحمق الاقتناع بأن وساخة تزيل وساخة

أخرى؛ فبهذه وغيرها من الدلائل قد حولت هذه الجمعية رأي جم غفير من الناس

ضد اللقاح، يوجد في إنكلترا بلد يرفض أكثر أهاليها التلقيح، ولكن مع ذلك قد

أثبتت الإحصاءات بأنهم سالمون من المرض بطريقة عجيبة [4] .

إن الحق الصراح هو أن المنافع الشخصية للأطباء هي التي تحول دون نسخ

هذا العمل الوحشي، فإنهم لخوفهم من ضياع إيراد كبير يحصلونه الآن من هذه

الطريقة قد عموا عن الشرور الكثيرة التي تنجم من هذا العمل الشنيع! ولكن هنالك

من الأطباء من اعترفوا بهذه الشرور وهم ألد الخصوم للتلقيح.

لا ريب أن الذين يمقتون التلقيح مسوقين من قِبَل وجدانهم هم الذين يملكون

الجرأة على أن يقابلوا جميع العقوبات التي يصبها عليهم القانون بقلب ثابت، وإنْ

دعت الضرورة يقفون وحدهم أمام جميع الدنيا للمدافعة عن معتقدهم، إن الذين

يتحرزون من التلقيح لأسباب صحية فقط يجب أن يحققوا تحقيقًا تامًا في المسألة

حتى يتأهلوا لإقناع الآخرين بصحة أفكارهم ويسوقوهم إلى العمل بها، ولكن الذين

ليست لهم أفكار معينة في المسألة أو ليست فيهم الجرأة الكافية للمدافعة عن عقائدهم

فلا ريب أنه يجب عليهم الخضوع لقانون الحكومة، والأَوْلى لهم مجاراة الوسط

الذي يعيشون فيه.

إن الذين يتحرزون من التلقيح يجب أن يراعوا بكل قوة أصول الصحة التي

قد بينت في هذا الكتاب؛ لأن المراعاة التامة لهذه الأصول هي التي تحفظ في

الجسم تلك القوى الحيوية التي تزاحم ميكروبات جميع الأمراض، وتكون أحسن

وقاية من الجدري وغيره من الأمراض، ولكنهم إن كانوا أثناء مخالفتهم لإدخال

المادة السامة - التي هي اللقاح - في أجسامهم يسلمون أنفسهم للسم الذي هو أكبر

من هذا السم - أي سم الشهوة والفسوق - فإنهم بلا ريب يحرمون أنفسهم من قبول

الناس لأفكارهم.

***

علاج الجدري:

إذا ظهر الجدري على الجسد ظهورًا تامًّا فأحسن علاج له هو (ويت - شيت -

باك) الذي يجب أن يستعمل كل يوم على الأقل ثلاث مرات، فإنه يزيل الحمى

ويشفى الجروح بسرعة، وليس هناك حاجة لاستعمال الزيوت أو الدهان فوق

الجروح.

نعم؛ إذا أخذت البثور تنشف فزيت الزيتون يستعمل دائمًا ويستحم المريض

كل يوم، هكذا تسقط القشور بسرعة وتزول البثور سريعًا، ويستعيد الجلد لونه

الطبيعي ورونقه.

يجب أن يكون غذاء المجدور من الرز والثمار الطرية الخفيفة مع عصير

الليمون، ويجتنب جميع الثمار الثقيلة مثل التمر واللوز، إن الجروح عامة تأخذ

في الاندمال تحت تأثير (ويت - شيت - باك) في أقل من أسبوع، وإن لم يحصل

ذلك فمعناه أن السم لا يزال في الجسم ولم ينفجر تمامًا، فعوضًا من أن نعد الجدري

مرضًا فظيعًا يجب أن نعده كأحسن علاج من الطبيعة لإخراج السم من الجسم

لتبقى الصحة كأحسن ما ينبغي.

إذا شفي الجدري فالمجدور يبقى ضعيفًا لمدة من الزمن وفي بعض الأحوال

يصاب بأمراض أخرى. ولكن هذه الأمراض لا تكون نتيجة للجدري نفسه، بل

للمعالجات الخاطئة التي تستعمل له، وكذلك استعمال الكينا في الحمى قد يوجب

الصمم وقد يقود إلى أشد أشكاله، وهو يعرف (Quininism) بالكينينسم، وكذلك

الزئبق في الأمراض التناسلية يسوق إلى أمراض كثيرة جديدة، وهكذا الإكثار من

شرب المسهلات في الإمساك يحدث أمراضًا كالبواسير.

إن الطريقة الوحيدة المؤثرة في المعالجة هي تلك التي تزيل الأسباب الأساسية

للأدواء بمراعاة قوية للقواعد الأساسية الصحية حتى إن الجواهر المحرقة التي تعد

علاجًا ناجحًا حتميًّا لمثل هذه الأدواء مضرة جدًّا في الحقيقة؛ لأنها وإن كانت تعد

نافعة بادئ الرأي فإنها تحرك دواعي الشر وتقضي في الأخير على الصحة.

إذا عولج الجدري بالطريقة الساذجة الطبيعية التي ذكرناها آنفًا فهي لا تزيل

المرض فحسب، بل تجعل المجدور في مأمن منه إلى آخر العمر [5] .

***

الباب السابع

الأمراض المعدية الأخرى

نحن لا نخاف من الحماق كما نخاف من أخيه الجدري، لأنه أقل خطرًا على

النفس وأقل تشويهًا للوجه منه، مع أنه الجدري بعينه في شكل آخر، ولذلك تجب

معالجته بنفس تلك الطريقة التي يعالج بها الجدري.

***

الطاعون وعلاجه الغدّي:

إن الطاعون الغدي مرض خطر، وقد سبب موت الملايين من إخواننا منذ

دهم بلادنا سنة 1896م، ولم يهتد الأطباء إلى الآن مع عظيم جهدهم إلى علاج

ناجع لهم، وقد راجت في هذه الأيام عملية التلقيح له أيضًا رواجًا عظيمًا، وتأصل

في النفوس الاعتقاد بأن حملة الطاعون يمكن الأمن منها به، ولكن التلقيح للطاعون

رديء وإثم مثل تلقيح الجدري، إنا وإن كنا نعلم أنه لم يعرف لهذا الداء علاج ناجع

إلى الآن، نتجرأ على اقتراح العلاج الآتي لأولئك الذين يثقون ثقة مطلقة بالخالق

سبحانه [6] والذين لا يخافون من الموت. وهو:

1 -

استحمام (ويت - شيت - باك) بمجرد ظهور علائم الحمى.

2 -

وضع اللبخة الطينية الغليظة على الغدة.

3 -

تجويع المريض تمامًا.

4 -

إن أحس المريض بالعطش يسقى عصير الليمون في ماء بارد.

5 -

ينوم المريض في هواء طلق.

6 -

يجب أن لا يكون بجنبه أكثر من ممرض واحد.

يمكننا أن نقول بكل ثقة: إنه إن كان هذا الداء الوبيل يتأتى الشفاء منه بعلاج

ما فهو هذا العلاج.

إنه وإن كان المصدر الحقيقي لهذا المرض غير معلوم إلى الآن، لا يمكن أن

ننكر أن للفيران أثرًا مهمًّا في انتشاره، فعلى هذا يجب أن نتخذ جميع الاحتياطات

في الجهة التي دخل فيها الطاعون لمنع دخول الفيران فيها، وإن عجزنا عن

التخلص منها فلنهجر البيوت.

إن أمثل طريقة لصد هجوم الطاعون هي المراعاة التامة لأصول الصحة:

المعيشة في هواء طلق، وأكل غذاء جيد خفيف بالاعتدال، والتريض

برياضة جيدة، وجعل البيت نظيفًا، وترك جميع العادات القبيحة، وبالاختصار

جعل الحياة ساذجة طاهرة من كل الوجوه، يجب أن تكون حياتنا دائمًا هكذا، ولكن

في أيام الطاعون وغيره من الأوبئة يجب أن نضاعف الاحتياط.

***

الطاعون الرئوي والهيضة:

إن الطاعون الرئوي لأشد أنواع هذا المرض خطرًا فيكون هجومه بغته

وخطرًا على الدوام، يصاب المريض بحمى شديدة ويجد صعوبة كبيرة في التنفس

وفي أكثر الحوادث يغمى عليه، وقد انتشر هذا القسم من الطاعون في أفريقيا

الجنوبية سنة 1904م وقد قلنا فيما سبق [7] : إنه لم يسلم من 23 إصابة به إلا

رجل واحد.

وأما علاج هذا الطاعون الرئوي فمثل علاج الطاعون الغدي تمامًا، إلا أن

اللبخة تستعمل في الأول في الجانبين من الصدر، إن كان ليس هنالك فرصة

لاستحمام (ويت - شيت - باك) فيجب أن تربط اللبخة الطينية على الرأس، ولا

حاجة إلى التنبيه - في شأن هذا المرض وغيره - أن الوقاية خير من المداواة

على كل حال.

نحن نخاف من الهيضة (الكوليرا) مثلما نخاف من الطاعون، ولكنها في

الحقيقة أقل خطرًا من الطاعون بكثير، إن استحمام (ويت - شيت - باك) ليس

بنافع في هذا المرض ولكن اللبخة الطينية تستعمل على البطن؛ وأما الأعضاء التي

تتشنج ويحس فيها بوخزات أليمة فتدفأ بقنينة مملوءة بماء ساخن، وتفرك الأرجل

بزيت الخردل ويجوع المريض؛ والحذر كل الحذر من أن يجزع المريض إن كان

الإسهال كثيرًا جدًّا ولا ينبغي أن يقوم المريض كل مرة من فراشه بل يضع تحت

السرير وعاء للبراز.

إن اتخذت هذه الاحتياطات في الوقت اللازم تمامًا فالخطر هناك قليل.

ينتشر هذا المرض في أيام الحر عندما نأكل عامة الثمار الفجة أو مقادير

كبيرة زيادة على أكلنا الاعتيادي من الناضجة؛ والماء الذي نشرب في هذا الفصل

يكون أحيانًا وسخًا؛ لأنها تقل كميته في الآبار والأحواض والمناقع في هذه الأيام.

ونحن لا نحب أن نكلف أنفسنا غَليه أو تقطيره، ثم إن الذي يزيد المرض

انتشارًا هو ترك براز المريض مكشوفًا فتنتشر جراثيمه في الهواء، لا شك أننا

عندما نتفكر في قلة اهتمامنا بهذه الحقائق والأصول الأولية يجدر بنا أن نستغرب

كون مهاجمة هذه الأمراض والأوبئة الخطرة لنا دون تعرضنا لأسبابها.

يجب أن نأكل قليلاً ونقتصر على المأكولات الخفيفة؛ إذا انتشر هذا الوباء

وأن نملك شهوتنا تمامًا، ونستنشق كمية كبيرة من الهواء النقي، ونغلي الماء الذي

نشربه إلى درجة الفوران، ونصفيه في قماش غليظ نظيف، ويجب أن نغطي براز

المريض بتراب أو رماد كثير جاف مثلما ينبغي ذلك في الأحوال العادية، إن

فعلنا كل هذا فيكون هناك خطر قليل جدًّا لانتشار الهيضة (الكولرا) إن الحيوانات

الدنيئة مثل القطط تعمل هذا الاحتياط دائمًا، ولكننا نحن معشر البشر أصبحنا

أحط منها في هذا الشأن.

وإني أؤكد بكل قوتي للمصابين بالأمراض المعدية والذين يعيشون حولهم بأنه

لا ينبغي لهم أن يوسعوا المجال للخوف، والجزع على أنفسهم في حال من الأحوال؛

لأن الخوف يشل الأعصاب ويزيد خطر الهلاك.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المعروف أنه يستخرج من مادة الجدري نفسها لا من لبن البقر فقط، ولعل الذي بغّضه إليه استخراجه من البقر المقدس؛ وقد يوجد من قومه من يعتقد أن ما يؤخذ من البقر ينفع لقداستها، وعند الهندوس شجر مقدس يعتقدون أنه يشفي من الجدري، رأيته في بنارس؟ .

(2)

من غرائب شذوذ المؤلف استشهاده بالأمم المتوحشة، وأغرب منه جعلها غاية بقوله: حتى

والموضوع عمل مدني فني! ! .

(3)

هذا الكلام من المنفرات الشعرية لا من القضايا العلمية.

(4)

الإنكليز شعب محافظ متدين ولما كشف لقاح الجدري، وسنت الحكومة قانونًا للعمل به قاومها الذين حرموه تحريمًا دينيًّا، كما يحرمه غندي اليوم؛ فاضطرت إلى وضع مادة في القانون تستثنى من يعتقدون حرمته من إكراههم عليه وبقي هذا التقليد إلى اليوم.

(5)

المنار: لا شك في أن غلو غندي في تقبيح تلقيح الجدري سببه الشعور الديني كبعض متقدمي الإنكليز ومتأخريهم، وفقهاؤنا ناطوا الحكم بالأطباء الثقات، والحق أن المسألة لا علاقة لها بالدين وإنما هي كغيرها من أمور الطب والعلاج منوطة بالأطباء؛ فإن اختلفوا في أمر فالعاقل يعمل بما هو الأحوط، والأطباء عندنا متفقون على نفع التلقيح، وقلما نرى أو نسمع أن أحدًا تضرر منه فهو إذا لم ينفع لا يضر - هذا هو المعروف المجرب والنادر لا حكم له.

(6)

هذه معالجة فنية كالمعالجة بالتلقيح، فلماذا جعلها خاصة بالمتوكلين على الله دون الأخرى التي يعدها من ضعف الإيمان أو فقده، لعل دين الهندوس يفرق بينها.

(7)

راجع الباب الرابع من القسم الثاني.

ص: 531

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كعب الأحبار ووهب بن منبه

في انتقاد الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الرحمن الجمجوني علينا في جرحنا

لكعب الأحبار ووهب بن منبه أغلاط وآراء غير صحيحة، لو أردنا أن نبينها كلها

بالتفصيل لأخذنا من صحائف المنار ما لا يسمح لنا به جمهور القراء؛ فإنه أطال

الكلام فذكر انتقاده الأول وردنا عليه وتاريخ نشره، وأعاد بعض عباراتنا وعباراته

كما أعاد ذكر شبهته على ضرر جرح الحبرين بأنه يثير شبهات الملاحدة على

الإسلام وهو لاشتغاله بالزراعة كما قال لم يختبر في هذا الموضوع بعض اختبارنا

في ثلث قرن قضيناه في معالجة هذه الشبهات ومناظرة هؤلاء الملاحدة وأمثالهم من

خصوم الإسلام والرد عليهم قولاً وكتابة، وقد ثبت عندنا أن روايات كعب

ووهب في كتب التفسير والقصص والتاريخ كانت مثار شبهات كثيرة للمؤمنين لا

للملاحدة والمارقين وحدهم، وأن المستقلين في الرأي لا يقبلون قوله: (إن كل من

قال جمهور رجال الجرح والتعديل المتقدمون بعدالته فهو عدل وإن ظهر لمن بعدهم

فيه من أسباب الجرح ما لم يظهر لهم) .

وأنا لا أتكلم فيما أطال به من المباحث الخارجة عن الموضوع ولا في الأقوال

والنقول في توثيق جمهور رجال الجرح والتعديل للحبرين كعب ووهب حتى النقل

عن المعاصرين الذين ليسوا منهم كالقاسمي والخولي والخضري وما يتعلق بذلك

من مدح بعض الأفراد أو الكتب الذي لا أنازعه فيه وإن لم يكن كله مقبولاً عندي

وإنما أتكلم في أهم ما جاء به المنتقد في مقاله الأخير من تخطئتي في الموضوع

والاستدلال عليه فأقول:

الانتقاد الأول

عبارة الحافظ الذهبي في كعب (وله شيء في صحيح البخاري وغيره) ووقع

في قولنا وليس له شيء.... ولا ندري الآن كيف وقع ذلك هل نقلناه من كتاب

آخر أو سبق به القلم لما هو معلوم عندنا من أن البخاري لم يرو عنه شيئًا في

صحيحه؟ ومهما يكن من السبب فإننا نعترف بأن الذي في تذكرة الحفَّاظ هو

الإثبات كما ذكره.

***

الانتقاد الثاني

رمي معاوية لكعب بالكذب

اعترف المنتقد بأن ما رواه البخاري عن معاوية من قوله: إنهم كانوا يبلون

(أي يختبرون) الكذب على كعب الأحبار هو طعن شديد في عدالته، إذا أخذ على

ظاهره، وقد رده بما يأتي:

1-

ادعى أن الصواب في العبارة أنها ثناء عليه بدليل ما نقل عنه في تهذيب

التهذيب (أي معاوية) من قوله فيه: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده

لعلم كالثمار وإن كنا فيه لمفرطين.

ووجه الاستدلال بهذا عند المنتقد أن بين هذا القول وذلك القول تناقضًا بين

عبارتي (خليفة من خلفاء الإسلام وصحابي من أكابر الصحابة هداه الأنام، مشهور

بحصافة الرأي ومعروف بالبلاغة) .. إلخ ما قاله في تعظيم معاوية مما يكاد

يجعله به معصومًا من الخطأ مع إجماع أئمة السنة والشيعة على أنه كان باغيًا على

أمير المؤمنين عليّ المرتضى، وترتب على بغيه عليه سفك دماء غزيرة وفتن

ومعاص لم يخلص المسلمون من شرها إلى هذا اليوم، والظاهر أنها ستبقى إلى يوم

القيامة.

نعم، يقول المتكلمون: إنه كان في بغيه متأولاً لا متعمدًا، وقد نقلوا من تأوله:

أنه لما احتج عليه بالحديث الصحيح في عمار بن ياسر (تقتله الفئة الباغية)، قال:

إنما قتله من أخرجه! ! فرد عليه أمير المؤمنين علي لما بلغه ذلك أن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم هو الذي قتل عميه حمزة وجعفرًا وغيرهما من شهداء بدر

وسائر الغزوات فهذا استطراد نقابل به استطراده في مدح معاوية بغير مناسبة

لغرضه.

والجواب عن هذا الفهم الغريب الذي قوّاه بالإطراء والثناء هو أن العبارتين لا

تناقض بينهما كما فهم، ففي كل منهما اعتراف بأن كعبًا كان ذا علم كثير وثبوت

العلم الكثير لا يقتضي نفي الكذب؛ فكم من عالم كان أعلم من كعب الأحبار وكان

يكذب، إن علم كعب كان جله عندهم ما يرويه عن التوراة وغيرها من كتب قومه

وينسبه إليها ليقبل ولا شك في أنه كان من أذكى علماء اليهود قبل إسلامه، وأقدرهم

على غش المسلمين بروايته بعده، ومن كبار علماء التفسير الذين رماهم المحدثون

بالكذب السدي الصغير - وكذا الكبير - والكلبي وأمثالهم كثيرون. والأستاذ المنتقد

نسي ما قاله العلماء في تعريف التناقض، وشروط تحققه، أو لم يقرأ المنطق، فإن

كان معاوية معصومًا منه فهذه العصمة لا تخدش ما فهمه هو من عبارتيه، وهما لا

تدلان عليه.

2 -

قوله: إن العبارة المذكورة لا تصلح من حيث تركيبها العربي دليلاً على

أقل ألفاظ هذا التجريح قال: (فإن إسناد الكذب فيها إلى الكتاب باعتبار ما فيه من

التبديل أقرب من إسناده إلى (كعب) كما قرره شراح البخاري (ولأنه أقرب مذكور)

ثم ادَّعى أن جميع شراح البخاري فهموا من هذه العبارة توثيق معاوية لكعب (! !)

(وأن الخليفة ابتلى الكذب على الكتاب نفسه لما فيه من التحريف والتبديل بناءً

على عود الضمير إلى أقرب مذكور) وليس الأمر كذلك.

أسدل المنتقد على هذه الدعوى بعبارة نقلها عن فتح الباري في شرحه لكلمة

معاوية فتصرف فيها كما يشاء، وهي لا تدل على دعواه ولا توضحه كما ادعى

وإنما هي عبارة عن تفسير لفظ الكذب بقول الحافظ: (أي يقع بعض ما يخبرنا

عنه بخلاف ما يخبرنا به) ، ولكن زاد عليها المنتقد (فلفظ يقع يدل على أن المخبر

به أمور من قبيل ما يسمونه ملاحم ولا علاقة لذلك بأمر الدين الإسلامي) .

أقول: هذا فهم غريب جدًّا جدًّا؛ فإننا لا نعلم أن أحدًا من علماء اللغة فسر كلمة

يقع بما فسرها به، فمن أين جاءته هذه الدلالة؟ أما والله إن من يفهم مثل هذا

الفهم ويكتبه في انتقاد علمي ليس جديرًا بأن يُرد عليه في شيء.

قال المنتقد بعد هذا: ثم نقل الحافظ ابن حجر عقب رأيه الشخصي المذكور

عبارة ابن التين على طولها، وعبارة ابن حبان في توثيق كعب بما يقرب من هذا

المعنى. اهـ

وأقول الحق عبارة ابن التين قصيرة لا طويلة وهذا نصها: وهذا نحو قول

ابن عباس في حق كعب المذكور: بدل من قبله فوقع في الكذب، قال: والمراد

بالمحدثين أنداد كعب ممن كان من أهل الكتاب وأسلم فكان يحدث عنهم، وكذا من

نظر في كتبهم فحدث عما فيها، إلا أن كعبًا كان أشد منهم بصيرة وأعرف بما

يتوقاه، وقال ابن حبان في كتاب الثقات: أراد معاوية أنه يخطئ أحيانًا فيما يخبر

به ولم يرد أنه كان كذابًا. اهـ

وأقول: إن عبارة الحافظ وعبارتي ابن التين وابن حبان لا يدل شيء منها على

ما ادعاه المنتقد وأورد العبارات لتأييده وتوضيحه وهو أن نص عبارة معاوية

العربي لا يدل على وصفه بالكذب بل يدل على الثناء وتوثيقه؛ لأنه يتعين أن

يكون قوله: (نبلو عليه الكذب) للكتاب لا لكعب، وإنما هي إيراد احتمال في

سبب الكذب وتسميته خطأ، ولكن الحافظ نقل احتمال عود الضمير إلى الكتاب عن

مجهول وعن القاضي عياض صحة الوجهين وسيأتي ما فيهما.

ثم قال المنتقد: (أما القسطلاني فابتدأ شرح الموضوع بتوجيه الاحتمالين في

مرجع الضمير مباشرة ثم نقل عن الحافظ ابن الجوزي المعروف بتشدده في التعديل

ما نصه توثيقًا: (يعني أن الكذب فيما يخبر عن أهل الكتاب لا منه؛ فالأخبار التي

يحكيها عن القوم يكون في بعضها كذب، فأما كعب الأحبار؛ فمن خيار الأحبار) .

(وكذا عبارة العيني والكرماني والسندي وهو آخر من كتب على البخاري

فيما نعلم) . اهـ

أقول: هذا الذي عزاه إلى القسطلاني أيضًا تلبيس وإيهام، وأجله عن تسميته

كذبًا ككذب كعب الأحبار، فالمقام مقام إيراد شواهد على ما ادعاه من كون عبارة

معاوية لا تدل بنصها العربي على إسناد الكذب إليه بل تدل على إسناد الكذب إلى

الكتاب؛ لأنه أقرب مذكور (!) والقسطلاني لم يوجه الاحتمالين في مرجع

الضمير مباشرة كما فهم خطأ أو أدعى، وإنما جزم برجوع الضمير إلى كعب وذكر

رجوعه إلى الكتاب بصيغة التمريض (قيل) لأنه ضعيف بل غلط وهذا نص

عبارته:

(الضمير المخفوض بعلى يعود على كعب الأحبار يعني أنه يخطئ فيما

يقوله في بعض الأحيان، ولم يرد أنه كان كذابًا، كذا ذكره ابن حبان في كتاب

الثقات) .

وقيل: إن الهاء في (عليه) راجعه إلى الكتاب من قوله: إن كان من أصدق

هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب. قال القاضي عياض وعندي أنه

يصح عوده على كعب أو على حديثه، وإن لم يقصد الكذب أو يتعمده كعب؛ إذ لا

يشترط في الكذب عند أهل السنة التعمد بل هو إخبار بالشيء على خلاف ما هو

عليه، وليس في هذا تجريح لكعب بالكذب، ثم ذكر بعدها عبارة ابن الجوزي

المارة.

فظهر بهذا أن القسطلاني جزم بأن الضمير يعود على كعب خلافًا لما قال

المنتقد، وأنه تبرأ من قول ابن حبان: بأن معاوية لم يرد بقوله: إنه كان كذابًا

لقوله: كذا قال ابن حبان، وإن نص القاضي عياض ليس فيه احتمال عود

الضمير إلى الكتاب بل هو راجع إلى كعب نفسه أو إلى حديثه المفهوم من فعل

يحدثون؛ إذًا لم يقل باحتمال عوده إلى الكتاب إلا ذلك المجهول الذي عبر عنه الحافظ

بقوله (وقال غيره) بعد عبارة ابن حبان، وقال القسطلاني في حكايته:

(وقيل) .

والقول الفصل في هذه المسألة أن المتبادر من عبارة معاوية الذي يفهمه كل

من يعرف اللغة العربية من إطلاقها، أن الضمير راجع إلى كعب الأحبار نفسه كما

فسرها ابن حجر والقسطلاني والجمهور، وذلك أن الكتاب لم يذكر في العبارة عمدة

مستقلاً فيعود عليه الضمير، وإنما ذكر مضافًا إليه كلمة أهل، فأهل الكتاب هم

العمدة في العبارة، وإنما قاله مجهول لا قيمة لقوله لمخالفته للمتبادر الذي جرى

عليه الجمهور، وهذا يدحض دعوى المنتقد أن عبارة معاوية لا تدل بنصها

العربي إلا على عود الضمير على الكتاب، ودعواه أن الجمهور جروا على هذا،

والسياق يقتضي أن تكون كلمة معاوية في ابتلاء الكذب عليه استدراكًا على ما قبلها،

إذ قال: إلا أننا كنا نبلو عليه الكذب - ولا معنى لهذا الاستثناء على القول

باحتمال عود الضمير إلى الكتاب.

غاية الأمر أن هؤلاء الشراح لما كانوا مقلدين لمن عدل كعبًا من رجال الجرح

والتعديل أولوا عبارة معاوية بما علمت من كونه غير متعمد للكذب إذ كان ناقلاً له

عن غيره؛ وأنه كان مخطئًا لا كذابًا

إلخ، وهذه غفلة منهم عن الواقع وهو أنه

كان يزعم أنه ينقل عن الكتاب نفسه لأنه قرأ الكتب وما كان حبرًا عند اليهود إلا

بذلك ولم يكن راويًا لها عن غيره، على أن التأول له بتسمية الكذب خطأ جرح له

ينافي صحة روايته ولكن لا يقتضي أنه وضاع كما أثبتنا بالدليل.

3 -

ادعاؤه أن غرض معاوية مما ذكره للقرشيين في سياق الكلام عن رواة

الإسرائيليات (إرشادهم إلى الثقة بما صح سنده إلى كعب مما حدث به عن كتب

أهل الكتاب القديمة) إلخ.

وضرب المنتقد مثلاً لذلك ما نقله عنه الحافظ في الفتح أن النبي - صلى الله

عليه وسلم - موصوف في التوراة بصفة واضحة حيث قال في السطر الأول منها:

(محمد رسول الله عبدي المختار مولده بمكة ومهاجره المدينة وملكه بالشام) .

أقول ذكر المنتقد في دعواه هذه المسألة الثقة بما صح سنده عن كعب مبنية

على ما سيأتي التنبيه عليه من ادعائه، إن كل ما ينتقد من المرويات عنه فآفته

الرواة عنه، وهذه القاعدة لم تكن مما يخطر ببال في معاوية إذ كان معاصرًا لكعب

وسمع منه هو وأهل عصره، ومن لم يسمع مروياته من أولئك القرشيين منه فقد

سمعها ممن سمعها منه، ولم يكن هذا يسمى سندًا، ولا كان في زمن معاوية شيء

من هذا الاصطلاح ولا من هذا البحث، وسياق الكلام يأبى هذه الدعوى كما يأبى ما

قبلها؛ وهو أن معاوية ذكر عبارته عند ذكر كعب، فالكلام فيه لا في الكتاب وقد

فضله على غيره من المحدثين عن أهل الكتاب، وجعل قوله: (وإن كنا مع ذلك

لنبلو عليه الكذب) ، غاية واستدراكًا على تفضيله على غيره منهم كما أشرنا إليه

في المسألة الثانية من هذا الانتقاد.

هذا وإن ما اعترف المنتقد بصحته من رواية كعب عن التوراة من وصف

النبي صلى الله عليه وسلم كذب على التوراة أيضًا وبمثلها كان يخدع المسلمين،

ولو كانت هذه العبارة في التوراة لرواها من أسلم على يدي النبي - صلى الله

عليه وسلم - من أحبار اليهود كعبد الله بن سلام وجماعته رضي الله عنه ولنقلت

بالتواتر ولكان لها شأن عظيم، إذ لا يمكن للمعاندين تأويلها كما أولوا البشارات

غير الصريحة بهذا المقدار.

4-

قد افتات المنتقد على البخاري كما افتات على معاوية في بيانه لغرض كل

منهما: غرض هذا من عبارته وغرض ذاك من ذكرها في ترجمة الباب الذي عقده

للنهي عن سؤال أهل الكتاب عن شيء. قال: إن غرض البخاري يؤخذ من قول

العيني في مطابقة عبارة معاوية لترجمة الباب وهو (مطابقته للترجمة في ذكر كعب

الأحبار الذي كان يتحدث من الكتب القديمة ويسأل عنها أحبارهم) قال المنتقد ومنه

يعلم أن غرض البخاري هو الاحتجاج بكعب الأحبار في دفع التعارض بين النهي

في الترجمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء)

وبين الأمر في قول الله تعالى {فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس:

94) بأن كعبًا كان ممن يسألون؛ لأنه قرأ الكتاب من قبل ثم أسلم.. والنهي كان

عن سؤال من لم يسلم، وقد جعل المنتقد هذا الاستنباط الباطل أدل على توثيق

البخاري لكعب من روايته عنه التي اعتذر عنها بعدم توفر السند الصحيح إليه كما

تقدم في مقاله.

أقول: عبارة العيني لا تدل على ما استنبطه منها فإن الباب كله في النهي

عن أخذ شيء عن أهل الكتاب؛ لأن شرع الإسلام ناسخ لشرعهم؛ ولأن نبي الإسلام

خاتم النبيين، ولو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعه كما صح مرفوعًا، ولأنهم لا

يهدون المسلمين وقد ضلوا، كما في أحاديث الباب وما ذكروه في شرحها،

والظاهر أن غرض البخاري من إيراد عبارة معاوية تأكيد عدم الثقة بما ينقل عنهم

حتى إن كعبًا الذي كان يعد من أصدق المحدثين عنهم كانوا قد اختبروا عليه الكذب

أي فكيف يوثق بما ينقله غيره عنهم؟ ولا ينافي هذا ما ذكره بعضهم من الاعتذار

عن كذب روايته بأن سببها كذب من أخذ عنهم لا كذبه هو.

هذا وإن البخاري لم يذكر في هذا الباب قوله تعالى: {فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ

الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس: 94) فيصح قوله: إنه أراد الجمع بينه وبين حديث

الترجمة وإنما ذكره الحافظ في آخر الكلام عليها من الفتح استطرادًا لمناسبته

للموضوع فلا يدل إيراده له على شيء مما استنبطه المنتقد بفهمه الغريب للكلام.

والتحقيق أنه لا تعارض بين الآية والأحاديث فيحتاج إلى الجمع بينهما وأن

هذا الجمع على تقدير التعارض غير صحيح.

أما الأول؛ فإن الأمر بسؤال أهل الكتاب في آية يونس ليس أمرًا تكليفيًّا لا

يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عهدته إلا بسؤالهم فيقال: إنه أمره بسؤال

من آمن منهم، بل هو أمر في معنى الخبر مبني على فرض المحال وهو شك النبي

صلى الله عليه وسلم في الوحي الذي أنزل إليه مطلقًا أو في قصة موسى من

سورة يونس الذي أنزل في آخرها {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ

يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} (يونس: 94) فهذا التعبير يراد به أن ما في هذه السورة من قصة موسى معروف

عند أهل الكتاب في كتابهم بحيث لو سئلوا عنه لما استطاعوا إنكاره، قد ورد في

التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلوات الله وسلامه عليه لم

يشك ولم يسأل، وروي هذا مرفوعًا أيضًا، وبعض المفسرين أورد فيها وجوهًا

أخرى للتفصي من جعل هذا الأمر بسؤالهم على ظاهره، وليس هذا بمحل لاستيفاء

تفسيرها.

وأما الثاني فلأن هذه الآية كالسورة التي أنزلت فيها مكية ولم يكن في ذلك

الوقت أحد من اليهود قد أسلم فيصح الجمع الذي قيل والأمر حقيقيته للحال.

***

الانتقاد الثالث

جعله كعبًا من رجال البخاري

نقلنا عن تهذيب التهذيب قول الحافظ ابن حجر: إن صاحب التهذيب أخطأ

في وضعه علامة البخاري وهي حرف (خ) عند ذكره؛ لأنها تدل على رواية

البخاري عنه في صحيحه، وهو لم يرو عنه شيئًا وإنما ذَكَرَ ما قاله فيه معاوية -

فزعم المنتقد أن هذه التخطئة من الحافظ في غير محلها، واستدل على ذلك بما

استنبطه هو من كون عبارة معاوية توثيقًا لكعب وكون البخاري أراد بذكرها بيان

هذه الثقة به كما تقدم آنفًا، وعد هذا الفهم منه احتجاجًا من البخاري بكعب وقال:

وباعتبار أن البخاري اعتمد في كتابه على الرواة، والمحتج بهم يصح أن يطلق

على كل منهما أنه من رجال البخاري وأنه أخذ عنه (كذا كذا) بلا فرق بينهما.

(كذا كذا بحروفه) .

وبنى على هذا تصويب صاحب تهذيب الكمال في وضع علامة البخاري

بجانب اسم كعب، وتخطئة الحافظ ابن حجر في انتقاده له وقال (وجل المنزه عن

الخطأ) .

ثم استدل على عدم جزم الحافظ ابن حجر بغلط صاحب تهذيب الكمال بإبقائه

حرف الخاء بجانب اسم كعب في تهذيب التهذيب، قال: فلو كان جازمًا بغلط

صاحب التهذيب في ذكر هذا الحرف لحذفه هو من كتابه (كذا! !)

أقول: لا شك أن أهل العلم بالحديث وباللغة قد تعجبوا من نشري لانتقاد هذا

الأستاذ، وأن سائر قراء المنار سيتعجبون عند قراءة هذا الرد من صبري في كتابته

وسماحه بصفحات المنار وبما هو أثمن منها وهو الوقت النفيس الذي صرف

فيه. وأعتذر لهم بأن سبب هذا حسن ظني بإخلاص المنتقد وإعلامه بقيمة مبلغ

فهمه ليكون عونًا له على الفهم والاستدلال كما أراد هو إفادتي وإفادة قراء المنار

بنقده.

إذًا لا بد لي من التصريح له بأن جميع المحدثين الذين وضعوا في كتبهم

رموزًا من الحروف لمخرجي السنن والآثار، قد وضعوا حرف (خ) لرجال

البخاري الذين روى عنهم في الجامع الصحيح خاصة، بل لما روي عنهم الأخبار

والآثار المسندة بشروطها عنده دون التعاليق فقد وضع لها صاحب تهذيب التهذيب

فيه (خت) وقد وضعوا لسائر كتبه كالأدب المفرد وكتاب رفع اليدين وكتاب

أخلاق العباد رموزًا أخرى معروفة، فلا يصح عندهم بحال من الأحوال أن يسمى

كل من عدله ووثقه من رجال الجامع الصحيح وأن يوضع حرف (خ) رمزًا له.

فإن فرضنا أن ما استنبطه المنتقد من تعديله لكعب صحيح في نفسه لم يكن

مجوزًا أن يعد من رواته في الجامع الصحيح الذين وضعوا لهم حرف الخاء.

والبخاري قد عدل في تاريخه كثيرًا من الرجال وروى عن بعضهم في تعاليق

جامعة بصيغة الجزم وعن بعضهم في غير جامعة ولم يعدهم أحد من رجاله أي

رجال الجامع الصحيح.

وأما استدلاله بإبقاء الحافظ ابن حجر لحرف (خ) في مختصره على ما ذكر

مع تصريحه بتخطئة صاحب التهذيب فيه فهو من السقطات التي نذكرها آسفين

لصدورها عنه، كما نأسف لقوله: إنه لم يوافق الحافظ أحد المتقدمين والمتأخرين

على التعجب من عد كعب من رجال البخاري، مع عدم مماراته هو في عدم روايته

عنه شيئًا مسندًا في صحيحه! ! ! وكيف يوافقه من قبله؟ ومن ذا الذي خطأه ممن

بعده؟ فإن فرضنا أن أحدًا مثل المنتقد خطأه فماذا يضره والدليل معه.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 539

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الزعيمان

شوكت علي ومحمد علي

هذان الزعيمان المشهوران في الهند ممن ولدت الحرب العظمى من الزعماء

في البلاد المختلفة، وعندما زرنا الهند سنة 1330هـ (الموافقة لسنة 1912م) لم

يكن لهما ذكر فيها، وسبب زعامتهما اضطهاد الحكومة الإنكليزية لهما بشدة

انتقادهما إياها على قتال الدولة العثمانية الممثلة للخلافة الإسلامية.

ملأ ذكر شوكت علي ومحمد علي الآفاق بعد الحرب العظمى وقد كان من

فوائد رحلتنا إلى الحجاز في موسم الحج الأخير لقاء الزعيمين الكبيرين في مكة

المكرمة ومعرفة كنه حالهما، ولما دعاني جلالة ملك الحجاز إلى الانتظام في سلك

المؤتمر الإسلامي العام الذي دعا إليه، كنت أعدّ من ثمراته الدانية

الجنى الاشتغال في خدمة الإسلام والحرمين الشريفين مع الوفود الإسلامية

عامة والوفود الهندية خاصة، ووفد الخلافة الذي يعد الزعيمان أشهر أركانه على الوجه الأخص. وقد كاشفت رئيس هذا الوفد صديقي الأستاذ السيد سليمان الندوي

بذلك وبأنه يحسن أن نتذاكر في المسائل المختلف فيها أو التي هي مظنة الاختلاف

عندما تعرض على المؤتمر وتمحصها ليسهل علينا التعاون على إقناع غيرنا

بتقريرها فيه وأن نراعي في هذه المباحث ما يمكن، وما لا يمكن، وما يسمى في

عرف هذا العصر (بالأمر الواقع) وما يترتب عليه، وقد استحسن الأستاذ الندوي

هذا الرأي وقال: إنه سيعرضه على رفاقه، ثم رأيت رفيقيه غير مباليين بمذاكرة

أحد ولا بالتعاون مع أحد، كأنهما يظنان أنهما بنفوذهما الشخصي يفعلان في

المؤتمر ما يفعلان في جمعية الخلافة، حتى بدا لهما أفن هذا الرأي وبطلان هذا الظن

في أثناء المؤتمر، وسنفصل ذلك في رحلتنا الحجازية بما فيه العبرة والعظة للعالم

الإسلامي ونكتفي هنا بتعليق وجيز على أول خطبة لأخينا محمد علي ألقاها في ميناء

كراجي أول ثغر ألما به من موانئ الهند، وقد بلغنا أن ما بثاه بعد ذلك في خطبهما

ومكتوباتهما شر منه وأنهما أحدثا شقاقًا في الهند بأقوالهما الجديدة في ابن

السعود المخالفة لأقوالهما السابقة.

***

خطبة مولانا محمد علي في كراجي:

خطب مولانا محمد علي في أهالي كراجي خطبة حماسية طويلة بكى فيها

واستبكى - وما أسهل هذا عليه! فرأيت من واجب التناصح أن أعلق على بعض

عباراته فيها تعليقات مؤيدة بالبرهانين الديني والعقلي فأقول:

تزكية نفسه وشهادته لها بالمغفرة:

1 -

بدأ خطبته بالتودد إلى أهل تلك الناحية بذكر حبه الشديد لهم وحبهم له

وتذكيرهم بجلب القضاء البريطاني له إلى بلدهم لمحاكمته محاكمة المجرمين، وهذا

أعظم ما يتقرب به إليهم لعدهم محاكمة الدولة له أكبر مناقبه، وقال في أثناء ذلك

(وقد تم من إرادة الله وكرمه أن أعود إليكم بعد أن طهرني الله من جميع الذنوب

والأوزار) وقد كرر هذا المعنى مرتين لتأكيده.

فنذكر أخانا في الإسلام الذي تأكدت أُخوته لنا باشتراكنا في غسل بيت الله

الحرام، وتطييب جدرانه من الداخل بعطر الورد، بأن لا يعود إلى مثل هذا فإن

الجزم القطعي بغفران الله تعالى وتطهيره لشخص معين من الذنوب والأوزار لا

يُعلم إلا بوحي من الله علام الغيوب، والأعمال المكفرة للذنوب كالحج لا تكون

كذلك إلا إذا كانت صحيحة باستيفاء شروطها وواجباتها الظاهرة والباطنة كالإخلاص

وكانت مقبولة عند الله تعالى، والعلم باستيفاء الشروط والواجبات عسر، وأما العلم

بالمقبول عند الله تعالى فمتعذر، وقد قال بعضهم في واجب واحد من شروط الحج

الظاهرة.

إذا حججت بمال أصله دنس

فما حججت ولكن حجت العير

لا يقبل الله إلا كل طيبة

ما كل من حج بيت الله مبرور

ولا محل هنا لذكر ما استدل به العلماء على عدم القطع لأحد بالمغفرة والجنة

إلا من بشرهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقد فسروا الحج المبرور

المكفر للذنوب الذي ورد الحديث فيه بأنه الذي لا يقع فيه معصية، أو لا رياء فيه.

أخذوا هذا من حديث الصحيحين واللفظ للبخاري (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق

رجع كيوم ولدته أمه) ومن دعائه صلى الله عليه وسلم بأن يجعل حجه لا رياء

فيه ولا سمعة، وقالوا: مع هذا إن الحج المبرور إنما يكفر حقوق الله تعالى لا

حقوق العباد.

وقد قال الله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32)

ويدخل في هذا النهي مدح المرء لنفسه وتزكيتها ولو بالحق ولا سيما إذا كان في

سياق الفخر والتبجح، ويمكن لأخينا أن يراجع في هذه المسألة وما حولها كتب

التفسير وكتب السنة ولا سيما رد النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن أبي

وقاص فيمن قال فيه إني لأراه مؤمنًا - فقال له صلى الله عليه وسلم (بل

مسلمًا) وهو في الصحيحين - ويراجع أيضًا كتاب الحج وكتابي (العجب والغرور

من إحياء علوم الدين) ، ويتذكر كيف كان يستغيب ملك الحجاز حتى في بيت الله

تعالى وفيما لا مصلحة فيه له وللمسلمين كالكلام في لحيته وزواجه

إلخ.

***

دعواه إخلاف ابن سعود وكذبه:

2 -

قال: إن ابن السعود كان كتب إليه أن الحجاز أمانة في يده للمسلمين

وإنه يخضع لما يراه المؤتمر الإسلامي ومستعد لتخلية الحجاز لمن يختاره هذا

المؤتمر.

(وقال) فلما قصدت الحجاز وجدت أن الأفعال غير الأقوال - ثم أطال

الكلام في الوعود والعهود والمواثيق، والكذب والخداع؛ وذكر من الأفعال

المخالفة هدم القباب العالية، والمنارات الشامخة، والمقابر، والمآثر - وبالغ في

تعظيم أمر هذا الهدم لهذه المبتدعات كأنما هدم بها أركان الإسلام، وبكى في أثناء

هذا التهويل، وبالغ في الندب والعويل، حتى استبكى الجم الغفير، من عباد القبور

ومخبولي القباب الشامخة الباذخة الضخمة الفخمة، التي لعن رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - الذين يبنونها مساجد على المقابر في مرض موته ليحذر أمته من

فتنتها ومن بناء مثلها.

ونذكر هذا الزعيم بأنه ليس من الذنوب المغفور له عند الله أن يدافع عن هذه

القباب والمساجد المبنية على القبور التي هي شر من مسجد الضرار الذي قال الله

تعالى فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ} (التوبة:

107) الآية. ثم نذكره بقوله وقول أخيه: إنهما لا يقولان بأن هذه القبور والقباب

والمساجد عليها مطلوبة شرعًا ولا أنها كما يزعم العوام الجاهلون تنفع وتضر -

وإنما يدافعان عنها مراعاة للشيعة والعوام في الهند لأجل الانتفاع بعصبيتهم أو ما

هذا معناه.

ولكن ابن السعود لا يحابي الشيعة ولا العوام في الدين، وقد قال لهما

ولغيرهما من أعضاء المؤتمر وغيرهم ولا سيما ليلة دعوته الكبرى لرجال المؤتمر

قال: إن مسألة المقابر والمآثر قد عمل فيها بفتوى العلماء؛ فإذا اجتمعت جمعية من

علماء السنة وفقهاء المذاهب الأربعة وأعادوا المذاكرة وأثبتوا بالدليل خطأه في شيء

فعله، ووجوب تلافي هذا الخطأ؛ فإنه يأخذ بقولهم، هذا ما صرح به مرارًا.

وأما الأخذ بقول الزعيمين السياسيين شوكت علي ومحمد علي، وليسا من

علماء الدين، أو بأهواء الشيعة والعامة لأجل السياسة فلا سبيل إليه.

وأما قول الزعيم الهندي بأن الملك السلطان العربي وعده ووعد جمعية الخلافة

بأن يخضع لقرار المؤتمر الإسلامي في حكم الحجاز ويخليه لمن يختاره هذا

المؤتمر - وأن أفعاله خالفت أقواله - فنسأله: هل يُعد رأيه ورأي أخيه الشاذ في

جعل حكومة الحجاز جمهورية، وجعل حق انتخاب رئيسها للمؤتمر - قراراً من

المؤتمر بذلك؟ إن المؤتمر لم يقرر شيئًا في هذه المسألة، ولا جعلها من موضوع

مذكراته، والسواد الأعظم من مندوبي المؤتمر، ومنهم مندوبو الحكومات المستقلة

معترفون بأن جلالة عبد العزيز بن السعود ملك الحجاز، فما معنى هذه المخالفة

بين الأقوال والأفعال في هذه المسألة؟ أيليق بزعيم كبير أن يقول هذا في خطاب

عام؟

***

افتخار محمد علي بالشجاعة في سبيل الله:

3 -

افتخر الزعيم أمام أهل كراجي وتبجح بالشجاعة والإقدام وعدم المبالاة

بالموت في سبيل الله إذ صارح ابن السعود بالانتقاد على أعماله وباختصاصه

بالسلطة الشخصية في الحجاز (ورفع صوته عاليًا غير هياب في الحق ولا وجل)

وذكرهم بأنه (لم يَرهب الحكومة البريطانية التي هي أقوى دول الأرض في هذا

العهد) وأطال في ذلك وكرره، حتى خُيل لسامع كلامه أنه كان موطنًا نفسه على

سفك هذا الملك الجبار لدمه (أمام كعبة الله) كما قال! ! !

ونحن لا نرى لهذا الفخر أدنى مجال ولا مسوغ فابن سعود ليس جبارًا ولا

بطاشًا بمن ينتقده، ولا بمن يذمه، ولم ينقل عنه أنه عاقب رجلاً أساء إليه، بل

نقل عنه أنه عفا عن رجل كان يريد قتله بعد أن قبض عليه رجاله، واعترف بأنه

كان يريد قتله، وقد وقفت إدارة الأمن العام في الحجاز على جمعية سرية في مكة

تأتيها الأموال والأسلحة والديناميت من الخارج.. . ولم يأمر الملك بقتل أحد من

أعضائها، ولما أعلنت حكومة الحجاز المنع من بيع هذا السلاح في الحجاز انتدب

الزعيمان (محمد علي وشكوت علي) للإنكار عليها كأنهما راضيان بعمل هذه

الجمعية واستعدادها لسفك الدماء في حرم الله الذي يحرم فيه قتل القاتل قصاصًا

شرعيًّا (! !)

ثم إننا لا نرى معنى لاستدلاله على عدم الخوف من ابن سعود بقوله: إنه

كذلك لم يخف من الدولة البريطانية، وهي أقوى دول الأرض فإن عقاب الحكومات

للأفراد لا تفاوت فيها بين حكومة قوية وضعيفة، ولكنه يتبجح بأن الحكومة

البريطانية تحميه من ملك الحجاز إذا أراد الانتقام منه؟ وهذا التبجح لا يليق به

على أنه في غير محله أيضًا؛ لأن ملك الحجاز إذا أراد معاقبة مثل محمد علي على

قدحه فيه وذمه إياه - ولن يريد - فلا يكون عقابه له بالقتل ولا بالجلد، ولا

بالحبس أيضًا - حتى يحتاج إلى هذه الشجاعة كلها، أو إلى حماية الإنكليز أقوى

دول الأرض له، وإنما يكون بمثل ما عاقب به المشاغبين من أعضاء جمعية خدام

الكعبة، وهو إخراجهم من الحجاز، أو بالحرمان من حضور جلسات المؤتمر،

وكلاهما أمر يسير غير عسير، ولكن الملك عبد العزيز الحليم العادل المتواضع قد

قابل ما كان يستفرغه الزعيم الشجاع بسعة الصدر التامة، وما كان يزيده ذلك إلا

إكرامًا لضيفه العزيز في قومه.

***

طعن الزعيم على رجال المؤتمر:

4 -

طعن الزعيم الكبير في رجال من أعضاء المؤتمر بأنهم أصحاب

أغراض شخصية ومآرب ذاتية، وأنه لا ضمير لهم ولا مبدأ، ولماذا؟ قال: إن

أحدهم قال له: يجب أن لا تقول شيئًا ضد ابن السعود.

سبحان الله! لماذا يجوز له أن يطعن هو في ابن السعود أشد الطعن؛ لأنه

يخالفه في سياسته التي يستميل بها الشيعة وعوام الهنود الخرافيين في بلاده -

ويخالفه هو وأهل الحجاز فيما لا يعنيه من شكل حكومته، ولا يجوز لغيره أن يعد

ابن السعود مصلحًا بإزالته للبدع وذرائع الشرك والمعاصي - ويدافع عنه لأجل هذا

أو لأن الطعن فيه غير مفيد في نفسه، ولا لائق بآداب رجال المؤتمر ومقاماتهم في

أقوامهم، ولا لائق بآداب الشرع، ولا لائق بالحرم الشريف، ولا سيما للحجاج لأن

أقل ما فيها إثارة الجدال والمراء المذمومين شرعًا، ولا سيما في الحرم أو لغير

ذلك من الأسباب، وإنما حلمنا نهي من نهي الزعيم الكبير عن الكلام فيما سماه

(ضد ابن سعود) على الطعن فيه، وإن كان في سياق شكل حكومته أو أعماله في

إزالة البدع؛ لأن هذا هو الذي كان معروفًا واشتهر عنه، لإسرافه فيه وإكثاره منه.

***

دعواه أنه منع من حريته في المؤتمر:

5 -

قال: (لقد منعت من إعلان اقتراحي في المؤتمر وظلمت من جانب ابن

سعود، ولكني رفعت صوتي عاليًا غير هيَّاب في الحق ولا وجل)

إلخ ما

تنفج به وتبجح، فكيف من إعلان اقتراحه وكيف رفع صوته بلا مبالاة؟ وبم ظلمه

ابن السعود في هذا المقام وهو قد أعطى المؤتمر حرية تامة ما كان أحد ينتظرها؟

أطال في الافتخار بعدم خوفه من ابن السعود، وفي كونه أنكر عليه في وجهه

الانفراد بحكم بلاد الحجاز وصارحه بأن القبب والأضرحة ليست أشد خطرًا على

الإسلام والمسلمين من تفرده بالحكم في حرم الله، قال: إنه أنكر عليه ما ذكر بما

ذكر من الغلظة أربع مرات ولم يكن يجيبه إلا بقوله: إننا متمسكون بكتاب الله

وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثم أشار إلى أن طبيعة الملك تغري صاحبها بسفك الدماء، وقال: (وهكذا

أخذ على طريق الرأي والاقتراح، وأغلق في وجهي طريق العمل والإصلاح) .

نقول: إذا كان الملك ابن السعود لم يزد في جوابه على أغلاط هذا الرجل في

القدح فيه على كونه متبعًا للكتاب والسنة في عمله، أي لا لآراء محمد علي وآراء

أمثاله السياسيين الذين يستبيحون أو يوجبون في سبيل سياستهم كل شيء - وإذا

كان هذا الملك حليمًا رفيقًا يقبل من الإنكار عليه في وجهه كل تلك الغلظة اتباعًا

للخلفاء الراشدين وأئمة السلف ' فما معنى الافتخار بالشجاعة أمامه ولا دعاء توطين

النفس على القتل بسيفه؟

ثم ما معنى كونه هو الذي ظلمه بمنعه من إبداء رأيه كله في المؤتمر، إن

الملك لم يكن عضوًا في المؤتمر فيعارض فيه أحدًا أو يمنعه من إبداء رأيه،

فإن كان أنصاره والراضون عنه في المؤتمر هم الذين منعوا محمد علي مما ذكر

فأي ذنب لابن السعود إذا كانت الأكثرية الساحقة في المؤتمر تؤيده وتخالف خصمه؟

إن هذا الكلام شهادة من أخينا محمد علي بأنه هو الذي كان مخالفًا للمؤتمر لا

ابن السعود، وكل أعضاء المؤتمر كانوا يتبرمون من أكثر خطبه وخطب أخيه

الطويلة الخارجة عن موضوع المؤتمر والتي يكثر فيها الفخر بالإخلاص ورمي

المخالفين بعدم الإخلاص، وإنما كانوا يجاملونهما حذرًا من وقوع الشقاق والفشل

في المؤتمر، وسنبين هذا بالتفصيل في رسالتنا إن شاء الله تعالى.

إننا وأيم الحق كنا نتمنى لو يكون هذا الزعيم بل هذان الزعيمان الكبيران

أحكم وأقوم سبيلاً مما وجدناهما عليه ومما نقل إلينا عنهما بعد عودتهما إلى الهند.

ونحن لم نقل إلا بعض ما نراه في شأنهما هو الحق، مع مراعاة الرأفة في الحكم،

ومن أثبت لنا خطأنا في شيء مما قلناه رجعنا عنه معتذرين، واستغفرنا الله تعالى

تائبين.

***

علاقتنا بابن السعود دينية إصلاحية:

نعم، قد يقول قائل: إنك نصير لابن السعود وما عهدناك إلا مؤيدًا له ومدافعًا

عنه، ولم نرك تنتقده في شيء.

وأقول في جوابه: لا أنكر أنني أيدت الرجل ودافعت عنه ولا أزال كذلك،

ولكن فيما اعتقد أنه الحق، والمصلحة لملتنا وأمتنا، وأنا في ذلك على خطتي التي

أعلنها في المنار كل عام مرة أو مرارًا، وهي أن كل من بين لنا خطأنا في شيء

كتبناه أنا أو إخواني فإن من إنصافنا أن ننشره له مع بيان رأينا فيه ونترك للقراء

الحكم في الخلاف إذا نحن اختلفنا.

وأما مسألة الانتقاد عليه والنصح له فإن ما أمر الله تعالى به من الدعوة إلى

سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة يقتضي أن يكون الانتقاد والنصح بيننا وبينه ما دام

ذلك ممكنًا، وإنما يلجأ المرء إلى النشر في حالة امتناع الموعظة في السر، أو في

حالة التمرد وعدم قبول النصح، ونحن نصرح بأننا نصحنا للرجل بالكتابة مرارًا

ببيان ما يجب عليه لملته الإسلامية ولأمته العربية، وانتقدنا عليه بعض الأمور

التي رويناها أو رأيناها من قومه كتابة في حالة البعد، ومشافهة في حالة

القرب، فلم يقابل نصحنا وانتقادنا إلا بالقبول والشكر، مع بيان ما عنده

من الاعتقاد والرأي.

وإننا نرجو أن يكون ما كتبناه وما سنكتبه لوجه الله تعالى؛ لأن مودتنا هي في

سبيل الله تعالى لا لأجل غرض دنيوي، وهو أعلم الناس بهذا، وقد اعترف لنا به

كتابةً، ولا سيما بعد عودتنا من الحجاز، وإذا اقتضت المصلحة العامة نشر شيء

مما كتبه إلينا في ذلك فإننا ننشره.

إنه قد ثبت عندنا بالاختبار الطويل أن أهل نجد أشد مسلمي هذا العصر

اعتصامًا بما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأبعدهم

عن الخرافات والبدع التي أفسدت على أكثر المسلمين دينهم وديناهم، وأن آل سعود

هم الذين أيدوا هذا الإصلاح من نشأته إلى الآن ولولاهم لما انتشر وثبت، وأن ما

ينتقد على أهل نجد من التشدد في الدين خير مما ينتقد على من غيرهم من نبذه

وراء الظهور، وفي نجد عوام وجاهلون كما يوجد في سائر الدنيا ولكنهم أقرب إلى

قبول الحق إذا ثبت عندهم بدليل شرعي، ولا نعرف شعبًا غيرهم يبذل نفسه وماله

في سبيل الله بالوازع النفسي، فلهذا دون غيره نؤيدهم ونسعى لترقيتهم وإكمال ما

ينقصهم لخدمة الإسلام والعرب في هذا العصر.

ومن الشواهد على ما تقدم أننا لما رأينا في الجرائد المصرية أن الأمير سعود

قد زار المشهد الحسيني كتبنا إليه كتابًا شددنا فيه الإنكار عليه، وأنكرنا فيه عليه

أيضًا ما قيل من أنه حضر حفلة الموسيقى في حديقة الأزبكية وصفق لها - فلما

قرأه امتعض وتألم ألمًا شديدًا، وأرسل إلينا معتمد حكومتهم الشيخ فوزان فكذب لنا

الخبرين، ولو لم يفعل ذلك لأنكرنا عليه في الجرائد، ولامتنعت عن زيارته هجرًا

له في الله عز وجل، ولما زرته بعد ذلك كرر لي تكذيب الخبرين ونشرت ذلك

في المنار، وهذا برهان على كوننا نؤيدهم فيما يؤيدون به السنة وننكر عليهم إذا

خالفوها.

هذا وإن إنكاري عليه ما قيل من حضوره حفلة الموسيقى مبني على ما أعلم

من اعتقاده واعتقاد قومه تحريم جميع المعازف لا ما استثني من دف العرس وطبل

الحرب مثلاً.

وهذا ما عليه جمهور فقهاء المذاهب المشهورة من أهل السنة وغيرهم، خلافًا

لبعض علماء السلف ولا سيما الحجازيين في ذلك، وأنا أعتقد حل الموسيقى

العسكرية؛ لأنه لا يصح دليل على تحريمها، ولأنها من قبيل ما استثناه بعض فقهائنا

من طبل الحرب والله أعلم.

_________

ص: 548

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نموذج من كتاب

القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق

(تابع لما سبق في الجزء الماضي)

أما السادة الصوفية فهم صفوة أهل الله وخلاصة هذه الأمة كما قال أبو القاسم

القشيري: الصوفية خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله، الحافظون قلوبهم

عن طوارق الغفلة وقال شهاب الدين السهروردي: الصوفي يضع الأشياء في

مواضعها ويدير الأوقات والأحوال كلها بالعلم، يقيم الخلق مقامهم ويقيم

أمر الحق مقامه، ويَستر ما ينبغي أن يُستر، ويُظهر ما ينبغي أن يُظهر،

ويأتي بالأمور من مواضعها بحضور عقل وصحة توحيد وكمال معرفة ورعاية

صدق وإخلاص.

إلا أن هذه المنكرات كانت خفية جدًّا لا تكاد تظهر إلا بين أفراد من الناس

منعزلين عن عامة المسلمين بسبب سطوة العلماء وأولي الأمر وشدة تمسكهم بالدين،

واعتصامهم بحبله المتين، ووجود الغيرة في قلوب العامة، إلى أن تقادم عهد

هؤلاء الأكابر وأهمل في الأمر أولياؤه، وفقدت الغيرة الدينية من قلوب المسلمين

وأسندت الأمور إلى غير أهلها، فكثرت هذه البدع والمنكرات واتسع نطاقها واشتهر

أمرها بين الخاصة والعامة وأصبحت من الأمور التي تلتزم التزام الفرائض والسنن،

وصار الإنكار عليها ممن أحيا الله في قلبه غيرة الدين وفضيلة الإسلام من الشذوذ

بمكان يستحق عليه اللوم والتعنيف فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ولنبين لك أيها السائل أرشدك الله إلى الحق حكم فعل ما سألت عنه بإيجاز

فنقول:

1-

الأذكار الملحونة:

أجمع المسلمون على حرمة الإلحاد في أسمائه تعالى والتحريف في آياته

وعلى حرمة ذكره على وجه ينافي الإعظام والإجلال قال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ

يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) وقال تعالى:

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: 1) .

ولا ريب أن اللحن في الكلمة المشرفة إلحاد وتحريف في الاسم الشريف،

وذكر له تعالى على وجه لا تسبيح فيه ولا تقديس، ولم يسمع عن أحد من الصحابة

والتابعين ومن يعول عليه من أئمة الدين وأهل الطريق أنه ذكر الله تعالى، أو قال

بجواز الذكر على غير الوجه المشروع الوارد كتابًا أو سنة المتلقى من أفواه الرواة

والشيوخ بالكيفية المعروفة بين أهل الأداء المضبوطة في الكتب، وقد نصوا على

أن أسماء الله تعالى توقيفية لا تثبت وضعًا وكيفية إلا بكتاب أو سنة صحيحة، وأن

الكلمة المشرفة من القرآن والزيادة فيه كالنقص حرام، وممن نص على حرمة ذلك

العلامة (الأمير في رسالته)(نتائج الفكر في آداب الذكر) عند ضبطه للكلمة

المشرفة والولي الشهير سيدي عبد الرحمن الأخضري بقوله في منظومته:

ومن شروط الذكر أن لا يسقطا

بعض حروف الاسم أو يفرطا

في البعض من مناسك الشريعة

عمدًا فتلك بدعة شنيعة

فواجب تنزيه ذكر الله

على اللبيب الذاكر الأوّاه

عن كل ما يفعله أهل البدع

ويقتدي بفعل أرباب الورع

لقد رأينا فرقة إن ذكروا

تبدعوا وربما قد كفروا

وصنعوا في الذكر صنعًا منكرًا

صعبا فجاهدهم جهادًا أكبرا

خلوا من اسم الله حرف الهاء

فألحدوا في أعظم الأسماء

لقد أتوا والله شيئًا إدّا

تخر منه الشامخات هدّا

(وفي الجوهر الخاص في أجوبة مسائل الإخلاص) للعارف بالله تعالى سيدي

محمد الغمري ما يوافقه ومثله في شرح الخريدة لأبي البركات سيدي أحمد الدردير

وفي تحفة السالكين لسيدي محمد المنير خليفة الشمس الحفني وفي النفحات القدسية

لأبي المواهب الشعراني، وفي شرح العلم الشهير سيدي محمد السنوسي على

صغراه.

وجملة القول أن هذا الحكم مما تضافرت عليه أكابر الصوفية وأهل السنة

والجماعة ولم يستثنوا منه إلا مفقود الإحساس غائب الحواس الذي يغيب في القرب

عن القرب لعظيم القرب، ولا يبقى يعرف ما يقول ولا ما يقال له فنسلم قياده إلى

وارده يتصرف فيه كما شاء؛ لأنه ليس محلاً للتكليف وأمره بيد الله تعالى يفعل فيه

ما يشاء.

أما هؤلاء الجهلة الذين يتغيبون من غير غيبة ويتواجدون من غير وجدان فما

أسوأ حالهم وأخسر أعمالهم (راجع شمس التحقيق لأبي المعارف سيدي أحمد

شرقاوي رضي الله عنه .

***

2-

قصر لفظ الجلالة:

وكما لا يجوز اللحن في أسمائه تعالى لا يجوز قصر لفظ الجلالة وهو نقصه

عن المدّ الطبيعي الذي لا وجود للحرف إلا به؛ لأنه من جملة اللحن وقد نص

الفقهاء على أن الإتيان به مقصورًا لا يعد ذِكرًا ولا تنعقد به يمين وتفسد به الصلاة

في تكبيرة الإحرام وذكره الفخر الرازي وأبو السعود في تفسيرهما والمحقق الأمير

في نتائج الفكر، وأما قصره في قول الشاعر:

ألا لا بارك الله في سهيل

إذا ما الله بارك في الرجال

فضرورة كما صرح به ابن منظور في لسان العرب وأئمة التفسير وسيدي

مصطفى البكري وسيدي محمد الغمري واللقاني في وسطه والزرقاني والخرشي

في كبيرة والعدوي والأمير في مجموعه.

على أن صاحب المصباح نقل عن أبي حاتم أن حذف ألف الله خطأ لا أصل

له في اللغة ولا يعرفه أئمة اللسان والبيت موضوع، ولئن سلمنا جوازه لغة، فلا

يلزم منه جوازه شرعًا، ولذلك نظائر كثيرة ليس هذا موضوع إيرادها وأسماء الله

تعالى توقيفية ولم يرد في الكتاب أو السنة قصر هذا الاسم الشريف.

وما تعلل به بعض القاصرين لتجويز الذكر بالاسم الشريف مقصورًا وبغيره

على أي كيفية وقع من قوله عليه الصلاة والسلام (إنما الأعمال بالنيات) ومما ينقله

مشايخهم من أن هذا الذكر بهذه الهيئة كان في عصر فلان وفلان من آبائهم

وأسلافهم الغابرين فمردود بهذه النصوص الواضحة، وبأن النية لا تقترن بالعمل

على الوجه المشار إليه في الحديث إلا إذا أتمت صورة العمل وهيئته المبنية في الشرع

وأن تشبثهم بما أقره أسلافهم وتركهم أوامر الدين في ذلك كتشبث اليهود

والنصارى بقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22)[1] .

وما أحسن قول الأستاذ أبي المعارف في نصيحة الذاكرين: وماذا علينا إذا

وافقنا الله والرسول، وتركنا ما عليه الأسلاف والأصول، فإن الشرع حجة عليهم

كما هو حجة علينا، وليسوا هم حجة على الشرع، فإنه يحتج به لا عليه فالاحتجاج

بالأسلاف، لا فائدة فيه ولا إسعاف، وإنما هو ذكر لمساويهم، وإظهار لمعاصيهم،

وقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: (اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن

مساويهم) اهـ

وجملة القول أن هذا منكر من القول وزور يجب على الأمة الإسلامية وخاصة

علماءها وقادتها إزالته بما لهم من الحول والسلطان، والله يهدي من يشاء إلى صراط

مستقيم.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: الآية نزلت في مشركي العرب، وهي تصدق في أهل الكتاب المقلدين لآبائهم

فيما خالفه كهؤلاء المسلمين وخص أهل الكتاب بالذكر؛لأن هؤلاء أشبه بهم منهم بمشركي العرب، وأمثالهم من حيث أن كتاب الله حجة عليهم.

ص: 556

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الحديثة

(المواكب)

نظرات شاعر ومصور في الأيام والليالي

جبران خليل جبران أديب سوري عربي هاجر إلى أمريكا لأجل التجارة

كغيره وأقام فيها، لكن روح جبران شعرية فلسفية، تغوص في بحر لجي من

الفلسفة النظرية، وتطير في جو واسع من الخيال الشعري، وقد ينظم أحيانًا ما

يجنيه بغوصه من درر الفلسفة في أسلاك من الشعر، تحكي خيوط أشعة القمر أو

أسلاك أشعة الشمس، يراها [1] الرائي في الصحائف بعينيه، ويسمعها المصغي

بأذنيه، ويقرؤها القارئ بلسانه ويشعر بها الشاعر بوجدانه، ولا يملك أحد أن

يقبض على شيء منها، كشأن اليد مع الأشعة، إذا غابت عن الحس، غابت عن

النفس، إلا صورة مبهمة في الخيال، وذكرى تخطر بالبال، ذلك شعر الفلسفة

النظرية وفلسفة الخيال الشعري، وذلك جبران خليل جبران في مواكبه الجديدة،

وله شعر آخر يدخل في أبواب الأعمال ونظم الاجتماع، ليس أمامنا منه الآن شيء.

تصفحنا صفحاتها الثلاثين التي أهديت إلينا مطبوعة منذ ثلاث سنين، فإذا

هي مقاطيع من الشعر أشبه بالمواصيل، تصور للناظر فلسفة حياة البشر الفطرية

والمدنية، في بضعة عشر شأنًا من شؤونهم الأدبية والاجتماعية، وهي: الخير

والشر الحياة وما فيها من رغد وبؤس وكدر، السُّكر والنشوة، الدين، العدل

والعقاب، العزم، العلم، الحرية، اللطف، الظرف، الحب، جنون الحب، القوة

والفتح والظلم، السعادة، الروح مع الجسد، الجسم للروح والعقم، الموت والخلود.

تلك موضوعات المواكب، وكل منها مركب من مقاطيع كمجاميع الكواكب:

مقطوعة من بحر البسيط وقافية الراء المضمومة في وصف حال أهل الحضارة في

موضوعها يليها أربع أبيات لا يلتزم فيها قافية في وصف عيشة الغاب أي سذاجة

الفطرة وعيشة البادية، يليها بيتان في غناء الناي:

وهاك المثال وهو الموكب الأول:

الخير في الناس مصنوع إذا جبروا

والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا

وأكثر الناس آلات تحركها

أصابع الدهر يوما ثم تنكسر

فلا تقولن هذا عالم علَم

ولا تقولن ذاك السيد الوقُر

فأفضل الناس قطعان يسير بها

صوت الرعاة ومن لم يمش يندثر

***

ليس في الغابات راع

لا ولا فيها القطيع

فالشتا يمشي ولكن

لا يجاريه الربيع

خلق الناس عبيدًا

للذي يأبى الخضوع

فإذا ما هب يومًا

سائرًا سار الجميع

***

أعطني الناي وغني

فالغنا يرعى العقول

وأنين الناي أبقى

من مجيد وذليل

قوله: السيد الوقر بضم القاف أصله الوقور فخفف لضرورة الشعر وهذا جائز

وقد يجيز هذا الشاعر وأمثاله من العصريين في مثل هذا ما لم يجزه علماء العربية

من قبل وينظر ما معنى قوله: فالغنا يرعى العقول - فهو من مبهماته التي يقف

فيها الذهن مفكرًا.

_________

(1)

أي هذه الفلسفة.

ص: 559

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ما يباح للرجل من محارمه

وشراء السلعة بأكثر من ثمن المثل لأجَل

س11: من صاحب الإمضاء في بيروت

حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام مفتي

الأنام ومرجع العلماء الأعلام الأستاذ الجليل السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب

مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.

تحية وسلامًا، وبعد أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه وهو:

هل يجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن محارمه من النساء ومعانقتهن

وضمهن وتقبيلهن ولمسهن بلا حائل أم لا؟

وهل يجوز مشتري شوال أرز أو ثوب من القماش وغير ذلك بزيادة عن سعر

يومه لأجل الأجل أم لا؟

تفضلوا بالجواب ولسيادتكم عظيم الأجر والثواب.. .

...

...

...

...

السائل

...

...

...

عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي

...

...

...

...

ببيروت

***

تحريم نظر الرجل إلى محارمه أو تقبيلهن أو لمسهن ومعانقتهن بشهوة

ج - لا يجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن الرجل من أقاربه ولا غيرهم

فضلاً عن المرأة بل ينظر إلى غير العورة، ولكن قال بعض العلماء: إن عورة

المرأة من المحارم على ابنها أو أخيها أو عمها أو خالها مثلاً ما بين السرة والركبة

فهو الذي لا يجوز النظر إليه، وقال آخرون: بل عورتها بالنسبة إلى المحارم هو ما

يستر عادة في البيوت عند خدمتها، وهذا أقرب. فيجوز أن ينظر المحرم من

محارمه ما يبدو في البيت من البدن عند لبس ثياب المهنة كالذراعين والساقين،

ويشترط في هذا النظر أن يكون بدون شهوة فالنظر بالشهوة محرم مطلقًا، ومثله

معانقتهن وتقبيلهن

إلخ؛ فهو مع الشهوة محرم قطعًا، بل هو أشد تحريمًا من مثله

مع الأجنبية، كما أن الزنا بالمحارم، وبحليلة الجار أفظع وأشد إثمًا؛ لأنه أشد

ضررًا وفسادًا في الفطرة، وإفسادًا للأسرة وإضاعة لحق الجوار. والسؤال ينم عن

وقوع ذلك وكون السؤال عنه، وإن كان وقوعه مما يتعجب منه لولا ضياع الدين

واستحواذ الشهوات الحيوانية على الناس، وقد وقع في مصر في هذه الأيام أن

حيوانًا من هذه الحيوانات السافلة المخلوقة بشكل البشر افترع بنتين له فعلقت منهما

واحدة، والعياذ بالله تعالى.

والأصل في هذا الجواب دليلان:

(أحدهما) ما أمر الله تعالى به في سورة النور من وجوب استئذان المملوك

من ذكر وأنثى والأولاد الذين لم يبلغوا الحلم في الدخول على أهل البيت من

رجل وامرأة في الأوقات التي هي مظنة ظهور العورات: قبل صلاة الفجر وعند

تخفيف الثياب للاستراحة أو القيلولة في وقت الظهيرة ومن بعد العشاء عند النوم.

(ثانيهما) سد ذرائع الفساد واتقاء الفتنة، كلاهما ظاهر لا مراء فيه.

***

شراء السلعة

بأكثر من ثمن المثل إلى أجل

إن هذا الشراء جائز وليس من الربا المحرم، والله أعلم.

_________

ص: 561

الكاتب: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

‌الإيمان والكفر والنفاق والظلم والفسق

(2)

من رسائل إمام نجد في عصره العلامة الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد

الرحمن بن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى.

ويعلم منها ما عليه علماء نجد في مسألة تكفير

المخالفين واحتياطهم فيها أكثر من سائر علماء

المذاهب الأخرى

تابع ما نشر في الجزء الماضي

وقد بلغني أنكم تأولتم قوله تعالى في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ

كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} (محمد: 26) على بعض ما

يجري من أمراء الوقت من مكاتبة أو مصالحة أو هدنة لبعض رؤساء الضالين،

والملوك المشركين، ولم تنظروا لأول الآية وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى

أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى} (محمد: 25) ولم تفقهوا المراد من هذه

الطاعة، ولا المراد من الأمر بالمعروف المذكور في قوله تعالى في هذه الآية

الكريمة، وفي قصة صلح الحديبية وما طلبه المشركون واشترطوه وأجابهم إليه

رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم.

***

فصل

وهنا أصول (أحدها) أن السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام

القرآنية وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله في باب معرفة حدود ما أنزل

الله، كمعرفة المؤمن والكافر، والمشرك والموحد، والفاجر والبر، والظالم والتقي،

وما يراد بالموالاة والتولي ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من

الأمر بالصلاة على الوجه المراد في عددها وأركانها وشروطها وواجباتها، وكذلك

الزكاة فإنه لم يظهر المراد من الآيات الموجبة ومعرفة النصاب والأجناس التي

تجب فيها من الأنعام والثمار والنقود ووقت الوجوب واشتراط الحلول في بعضها،

ومقدار ما يجب في النصاب وصفته، إلا ببيان السنة وتفسيرها. وكذلك الصوم

والحج جاءت السنة ببيانهما وحدودهما وشروطهما ومفسداتهما ونحو ذلك مما توقف

بيانه على السنة، وكذلك الصوم والحج جاءت السنة ببيانهما وحدودهما وشروطها

ومفسداتهما ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة، وكذلك أبواب الربا وجنسه

ونوعه وما يجري فيه وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي، وكل هذا

البيان أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الثقات العدول عن مثلهم

إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أهمل هذا

وإضاعه فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان، ومعرفة معاني التنزيل والقرآن.

(الأصل الثاني) أن الإيمان أصل له شُعب متعددة كل شعبة منها تسمى

إيمانًا فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فمنها ما

يزول الإيمان بزواله إجماعًا كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعًا

كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوته منها ما يلحق

بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها

أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص، وما كان عليه

سلف الأمة وأئمتها، وكذلك الكفر أيضًا ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان

إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها

من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء، والأحكام، وفرق بين من ترك

الصلاة والزكاة والصيام وأشرك بالله أو استهان بالمصحف، وبين من سرق، أو

زنى، أو شرب، أو انتهب، أو صدر منه نوع من موالاة [1] كما جرى لحاطب،

فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، وسوى بين شعب الكفر في

ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم

أهل البدع والأهواء.

(الأصل الثالث) أن الإيمان مركب من قول وعمل، والقول قسمان: قول

القلب وهو اعتقاده، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل

القلب وهو قصده واختياره ومحبته ورضاه وتصديقه وعمل الجوارح كالصلاة

والزكاة والحج والجهاد ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة، فإذا زال تصديق القلب

ورضاه ومحبته لله وصدقه زال الإيمان بالكلية، وإذا زال شيء من الأعمال

كالصلاة والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله فهذا محل خلاف هل يزول

الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية كالصلاة والحج والزكاة والصيام أو لا

يكفر؟

وهل يفرق بين الصلاة وغيرها أو لا يفرق؟ وأهل السنة مجمعون على أنه

لابد من عمل القلب الذي هو محبته ورضاه وانقياده، والمرجئة تقول: يكفي

التصديق فقط ويكون به مؤمنًا، والخلاف - في أعمال الجوارح - هل يكفر أو لا

يكفر؟ واقع بين أهل السنة، والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني

الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج، والقول الثاني أنه لا يكفر إلا من

جحدها، والثالث الفرق بين الصلاة وغيرها.

وهذه الأقوال معروفة. وكذلك المعاصي والذنوب التي هي فعل المحظورات

فرقوا فيها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه وما دون ذلك، وبين ما سماه الشارع

كفرًا وما لم يسمه، هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها.

(الأصل الرابع) أن الكفر نوعان: كفر عمل وكفر جحود وعناد وهو أن

يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودًا وعنادًا من أسماء الرب،

وصفاته، وأفعاله، وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وهذا

مضاد للإيمان من كل وجه، وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود

للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه.

وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد، وكذلك

قوله: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)[2] وقوله: (من أتى

كاهنًا فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله

عليه وسلم -[3] فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف

وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر وقد

سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمنًا بما عمل به،

وكافرًا بما ترك العمل به، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا

تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ} (البقرة: 84) إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ

وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) الآية، فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي

أمرهم به والتزموه وهذا يدل على تصديقهم به، وأخبر أنهم عصوا أمره وقتل

فريق منهم فريقًا آخر وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أُخذ عليهم، ثم أخبر

أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب.

وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه.

فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر

الاعتقادي، وفي الحديث الصحيح (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) فرق بين

سبابه وقتاله وجعل أحدهما فسوقًا لا يكفر به والآخر كفر ومعلوم أنه إنما أراد الكفر

العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية،

كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان.

وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام

والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم

فانقسموا فريقين فريقًا أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في

النار، وفريقًا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى

الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في

الملل.

فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم،

فعن ابن عباس في قول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) قال: ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه. رواه عنه سفيان وعبد

الرزاق وفي رواية أخرى: كفر لا ينقل عن الملة، وعن عطاء: كفر دون كفر،

وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهذا بَيّن في القرآن لمن تأمله فإن الله سبحانه

سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرًا وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله

كافرًا، وسمى الكافر ظالمًا في قوله:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 254)

وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالمًا، وقال: {وَمَن

يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) وقال يونس عليه السلام: {إِنِّي كُنتُ

مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 87) وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23)

وقال موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} (القصص: 16) وليس هذا الظلم مثل

ذلك الظلم.

وسمى الكافر فاسقًا في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الفَاسِقِينَ} (البقرة: 26)

وقوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَاّ الفَاسِقُونَ} (البقرة: 99)

وسمى العاصي فاسقًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ

فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) وقال في الذين يرمون المحصنات: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ

الفَاسِقُونَ} (النور: 4) وقال: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ} (البقرة: 197) وليس الفسوق كالفسوق [4] .

وكذلك الشرك شركان شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأكبر وشرك لا ينقل

عن الملة وهو الأصغر كشرك الرياء وقال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ

بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (المائدة:

72) وقال: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} (الحج:

31) الآية وقال في شرك الرياء: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً

وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110) وفي الحديث (من حلف بغير الله

فقد أشرك) [5] ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة ولا يوجب له حكم

الكفار، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الشرك في هذه الأمة أخفى من

دبيب النمل) [6] .

فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن

الملة وإلى ما لا ينقل عنها.

وكذلك النفاق نفاقان نفاق اعتقاد ونفاق عمل، ونفاق الاعتقاد مذكور في

القرآن في غير موضع أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل

جاء في قوله صلى الله عليه وسلم (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن

كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا

عاهد غدر وإذا خاصم فجر وإذا اؤتمن خان) وكقوله صلى الله عليه وسلم

(آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد خلف)[7] قال بعض

الأفاضل وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ

صاحبه عن الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم [8] فإن الإيمان ينهي

عن هذه الخلال فإذا كملت للعبد لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا

منافقًا خالصًا.

(الأصل الخامس) أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن

يسمى مؤمنًا، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرًا، وإن كان ما

قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أو من أجزاء الطب أو

من أجزاء الفقه أن يسمى عالمًا أو طبيبًا أو فقيهًا، وأما الشعبة نفسها فيطلق عليها

اسم الكفر كما في الحديث (ثنتان في أمتي هما بهم كفر الطعن في الأنساب والنياحة

على الميت) [9] وحديث (من حلف بغير الله فقد كفر)[10] ولكنه لا يستحق اسم

الكافر على الإطلاق، فمن عرف هذا عرف فقه السلف وعمق علومهم وقلة تكلفهم،

قال ابن مسعود من كان متأسيًا فليتأس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - فإنهم أبر هذه الأمة قلوبًا وأعمقها وأقلها تكلفًا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه

فاعرفوا لهم حقهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين لا يبالي بأيهما ظفر:

إحداهما: الغلو ومجاوزة الحد والإفراط، والثانية: هي الإعراض والترك والتفريط،

قال ابن القيم لما ذكر شيئًا من مكايد الشيطان: قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر

إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا

يبالي بأيهما ظفر، وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل في هذين الواديين وادي

التقصير ووادي المجاوزة والتعدي والقليل منهم جدًّا الثابت على الصراط الذي كان

عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعد رحمة الله كثيرًا من هذا

النوع إلى أن قال: وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان

جبريل وميكائيل فضلاً عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من

الإسلام بالكبيرة الواحدة.

هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة العظيمة المنافع، القاضية بالبراهين،

والدلائل القواطع، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_________

(1)

ولعل الأصل موالاة المشركين أو الكفار.

(2)

رواه أحمد والشيخان وغيرهما.

(3)

في الجامع الصغير (من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة (وحسنه) وفيه من حديثه عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضًا أو أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل على

محمد) .

(4)

كذا ولعل أصله: وليس الفسوق هنا كالفسوق هناك، كما قال في الظلم قبله.

(5)

رواه أحمد والترمذي والحاكم وهو حسن.

(6)

رواه الحكيم والترمذي.

(7)

الحديث الأول رواه الجماعة عن ابن عمر وقيل: إلا ابن ماجه وفي روايات الخصال تقديم وتأخير، والثاني رواه منهم الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.

(8)

هذا القيد روي في بعض ألفاظ الحديث.

(9)

رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة ولفظ مسلم (اثنتان في الناس) ولا تحفظه إلا هكذا.

(10)

رواه أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر وتقدم بلفظ فقد أشرك.

ص: 585

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌قاعدة جليلة

فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

(تابع لما نشر في الجزء الماضي)

وأما حديث معاذ فمن إفراد مسلم رواه من حديث مالك وزهير بن معاوية وقرة

بن خالد وهذا لفظ مالك عن أبي الزبير والمكي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة

أن معاذ بن جبل أخبرهم أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يومًا ثم خرج فصلى

الظهر والعصر ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء.

(قلت) الجمع على ثلاث درجات أما إذا كان سائرًا في وقت الأولى فإنما

ينزل في وقت الثانية، فهذا هو الجمع الذي ثبت في الصحيحين من حديث أنس وابن

عمر وهو نظير جمع مزدلفة، وأما إذا كان وقت الثانية سائرًا أو راكبًا فجمع

في وقت الأولى فهذا نظير الجمع بعرفة، وقد روي ذلك في السنن كما سنذكره إن

شاء الله، وأما إذا كان نازلاً في وقتهما جميعًا نزولاً مستمرًّا فهذا ما علمت روي ما

يستدل به عليه إلا حديث معاذ هذا فإن ظاهرة أنه كان نازلاً في خيمة في السفر

وأنه أخر الظهر، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل إلى بيته ثم خرج

فصلى المغرب والعشاء جميعًا فإن الدخول والخروج إنما يكون في المنزل وأما

السائر فلا يقال دخل وخرج، بل نزل وركب وتبوك هي أخر غزوات النبي -

صلى الله عليه وسلم ولم يسافر بعدها إلا حجة الوداع، وما نقل أنه جمع فيها إلا

بعرفة ومزدلفة، وأما بمنى فلم ينقل أحد أنه جمع هناك بل نقلوا أنه كان يقصر

الصلاة هناك، ولا نقلوا أنه كان يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ولا يقدم الثانية إلى

أول وقتها، وهذا دليل على أنه كان يجمع أحيانًا في السفر وأحيانًا لا يجمع وهو

الأغلب على أسفاره أنه لم يكن يجمع بينهما وهذا يبين أن الجمع ليس من سنة

السفر كالقصر بل يفعل للحاجة سواء كان في السفر أو في الحضر فإنه قد جمع

أيضًا في الحضر لئلا يحرج أمته، فالمسافر إذا احتاج إلى الجمع جمع سواء كان

ذلك لسيره وقت الثانية أو وقت الأولى وشق النزول عليه أو كان مع نزوله لحاجة

أخرى مثل أن يحتاج إلى النوم والاستراحة وقت الظهر ووقت العشاء فينزل وقت

الظهر وهو تعبان سهران جائع محتاج إلى راحة وأكل ونوم فيؤخر الظهر إلى وقت

العصر، ثم يحتاج أن يقدم العشاء مع المغرب، وينام بعد ذلك ليستيقظ نصف الليل

لسفره، فهذا ونحوه يباح له الجمع.

وأما النازل أيامًا في قرية أو مصر وهو في ذلك كأهل المصر، فهذا وإن كان

يقصر؛ لأنه مسافر فلا يجمع، كما أنه لا يصلي على الراحلة ولا يصلي بالتيمم ولا

يأكل الميتة، فهذه الأمور أبيحت للحاجة ولا حاجة به إلى ذلك بخلاف القصر فإنه

سنة صلاة السفر.

والجمع في وقت الأولى كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة

فمأثور في السنن مثل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث

المفضل ابن فضالة عن الليث بن سعد عن هاشم بن سعد عن أبي الزبير عن أبي

الطفيل عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة

تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل

أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك إن غابت

الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس

أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم نزل فجمع بينهما، قال الترمذي: حديث معاذ

حديث حسن غريب (قلت) وقد رواه قتيبة عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن

أبي الطفيل لكن أنكروه على قتيبة. قال البيهقي: تفرد به قتيبة عن الليث وذكر عن

البخاري قال قلت لقتيبة: مع من كتبت عن الليث ابن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب

عن أبي الطفيل فقال: كتبته مع خالد المدائني قال البخاري: وكان خالد هذا يدخل

الأحاديث على الشيوخ قال البيهقي: وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب

عن أبي الطفيل، فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل فهي محفوظة صحيحة

(قلت) وهذا الجمع الذي فسره هشام بن سعد عن أبي الزبير، والذي ذكره مالك

يدخل في الجمع الذي أطلقه الثوري وغيره فمن روى عن أبي الزبير عن أبي الطفيل

عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر

والمغرب والعشاء عام تبوك وهذا الجمع الأول ليس في المشهور من حديث أنس؛

لأن المسافر إذا ارتحل بعد زيغ الشمس ولم ينزل وقت العصر فهذا مما لا يحتاج

إلى الجمع بل يصلي العصر في وقتها وقد يتصل يسره إلى الغروب فهذا يحتاج

إلى الجمع بمنزلة جمع عرفة لما كان الوقوف متصلاً إلى الغروب صلى

العصر مع الظهر؛ إذ كان الجمع بحسب الحاجة.

وبهذا تتفق أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فالنبي صلى الله عليه

وسلم لا يفرق بين متماثلين، ولم ينقل أحد عنه أنه جمع بمنى ولا بمكة عام الفتح

ولا في حجة الوداع مع أنه أقام بها بضعة عشر يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل أحد

إنه جمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة فعلم أنه لم يكن جمعه لقصره، وقد روي

الجمع في وقت الأولى في المصر من حديث ابن عباس أيضاً موافقة لحديث معاذ

ذكره أبو داود فقال: وروى هشام بن عروة عن حسين بن عبد الله عن كريب عن

ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث الفضل (قلت) هذا

الحديث معروف عن حسين وحسين هذا ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به ولا يعتمد

عليه وحده فقد تكلم فيه على ابن المديني والنسائي ورواه البيهقي من حديث عثمان

بن عمر عن ابن جريج عن حسين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى

الله عليه وسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا زالت الشمس

وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر وإذا لم تزل حتى يرتحل سار حتى إذا

دخل وقت العصر نزل فجمع الظهر والعصر وإذا غابت الشمس وهو في منزله

جمع بين المغرب والعشاء وإذا لم تغب حتى يرتحل سار حتى أتت العتمة نزل

فجمع بين المغرب والعشاء. قال البيهقي: ورواه حجاج بن محمد عن ابن جريج

أخبرني حسين عن كريب، وكان حسين سمعه منهما جميعًا، واستشهد على ذلك

برواية عبد الرزاق عن ابن جريج وهي معروفة، وقد رواها الدارقطني وغيره وهي

من كتب عبد الرزاق. قال عبد الرزاق عن ابن جريج حدثني حسين بن عبد

الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة وعن كريب عن ابن عباس أن ابن عباس

قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر؟ قلنا: بلى

قال: كان إذا زاغت له الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب،

وإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر

والعصر، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء وإذا لم تحن في

منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما قال الدارقطني: ورواه عبد المجيد

بن عبد العزيز عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن حسين عن كريب،

فاحتمل أن يكون ابن جريج سمعه أولاً من هشام بن عروة عن حسين كقول عبد المجيد

عنه، ثم لقي ابن جريج حسينًا فسمعه منه كقول عبد الرزاق وحجاج عن ابن

جريج قال البيهقي: وروي عن محمد بن عجلان ويزيد بن الهادي وأبي رويس

المدني عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس، وهو بما تقدم من

شواهده يقوى، وذكر ما ذكره البخاري تعليقًا: حديث إبراهيم بن طهمان عن الحسين

عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - جمع بين الظهر والعصر في السفر إذا كان على ظهر سيره،

وجمع بين المغرب والعشاء. أخرجه البخاري في صحيحه، فقال: وقال إبراهيم

بن طهمان فذكره.

(قلت) قوله: على ظهر سيره قد يراد به على ظهر سيره في وقت الأولى،

وهذا مما لا ريب ويدخل فيه ما إذا كان على ظهر سيره في وقت الثانية كما جاء

صريحًا عن ابن عباس، قال البيهقي: وقد روى أيوب عن أبي قلابة عن ابن

عباس لا نعلمه إلا مرفوعاً بمعنى رواية الحسين وذكر ما رواه إسماعيل بن إسحاق

ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس ولا

أعلمه إلا مرفوعًا، وإلا فهو عن ابن عباس أنه كان إذا نزل منزلاً في السفر

فأعجبه المنزل أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، قال إسماعيل: حدثنا عارم

حدثنا حماد فذكره، قال عارم: هكذا حدّث به حماد قال: كان إذا سافر فنزل منزلاً

فأعجبه المنزل أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، ورواه حماد بن سلمة عن

أيوب من قول ابن عباس قال إسماعيل: ثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن أيوب عن

أبي قلابة عن ابن عباس قال: إذا كنتم سائرين فَنَبَا بكم المنزل فسيروا حتى تصيبوا نزولاً فعجل بكم أمر فاجمعوا بينهما ثم ارتحلوا.

(قلت) فحديث ابن عباس في الجمع بالمدينة صحيح من مشاهير الصحاح

كما سيأتي إن شاء الله.

وأما حديث جابر ففي سنن أبي داود وغيره من حديث عبد العزيز بن محمد

عن مالك عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غابت

له الشمس بمكة فجمع بينهما بسرف. قال البيهقي ورواه من حديث الحماني عن

عبد العزيز، ورواه الأجلح عن أبي الزبير كذلك قال أبو داود: حدثنا محمد بن هشام

جار أحمد بن حنبل حدثنا جعفر بن عون عن هشام بن سعد قال: بينهما عشرة أميال

يعني بين مكة وسرف (قلت) عشرة أميال ثلاثة فراسخ وثلث، والبريد أربعة

فراسخ، وهذه المسافة لا تقطع في السير الحثيث حتى يغيب الشفق، فإن الناس

يسيرون من عرفة عقب المغرب ولا يصلون إلى جمع إلا وقد غاب الشفق، ومن

عرفة إلى مكة بريد، فجمع دون هذه المسافة وهم لا يصلون إليها إلا بعد غروب

الشفق فكيف بسرف، وهذا يوافق حديث ابن عمر وأنس وابن عباس أنه إذا كان

سائرًا أخَّر المغرب إلى أن يغرب الشفق ثم يصليهما جميعًا.

قال البيهقي: والجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة

فيما بين الصحابة والتابعين مع الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عن

أصحابه، ثم ما أجمع المسلمون من جمع الناس بعرفة ثم بالمزدلفة وذكر ما رواه

البخاري من حديث سعيد عن الزهري أخبرني سالم عن عبد الله بن عمر قال:

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة

المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء.

قال سالم: وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك إذا أعجله السير في السفر يقيم

صلاة المغرب فيصليها ثلاثا ثم يسلم، ثم قلَّما يلبث حتى يقيم صلاة العشاء ويصليها

ركعتين ثم يسلم ولا يسبح بينهما بركعة ولا يسبح بعد العشاء بسجدة حتى يقوم

من جوف الليل.

وروى مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال لسالم بن عبد الله بن عمر ما أشد ما

رأيت أباك عبد الله بن عمر أخر المغرب في السفر؟ قال: غربت له الشمس بذات

الجيش فصلاها بالعقيق قال البيهقي: رواه الثوري عن يحيى بن سعيد وزاد فيه:

ثمانية أميال.

ورواه بن جريج عن يحيى بن سعيد وزاد فيه قال (قلت) أي ساعة تلك؟ قال:

قد ذهبت ثلث الليل أو ربعه قال: ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن

نافع قال: فسار أميالاً ثم نزل فصلى. قال يحيى: وذكر لي نافع هذا الحديث مرة

أخرى فقال: سار قريبا من ربع الليل ثم نزل فصلى.

وروي من مصنف سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن

عباس أنه كان يجمع بين الصلاتين في السفر ويقول: هي سنة ومن حديث علي بن

عاصم أخبرني الجريري وسلمان التيمي عن أبي عثمان النهدي قال: كان سعيد

بن زيد وأسامة بن زيد إذا عجل بهما السير جمعا بين الظهر والعصر وبين

المغرب والعشاء.

وروينا في ذلك عن سعيد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وروي عن عمر

وعثمان وذكر ما ذكره مالك في الموطأ عن ابن شهاب أنه قال: سألت سالم بن عبد

الله هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم لا بأس بذلك ألا ترى إلى

صلاة الناس بعرفة؟ وذكر في كتاب يعقوب بن سفيان ثنا عبد الملك بن أبي سلمة

ثنا الداروردي عن زيد بن أسلم وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومحمد بن المنكدر

وأبي الزناد في أمثال لهم خرجوا إلى الوليد وكان أرسل إليهم يستفتيهم في شيء

فكانوا يجمعون بين الظهر والعصر إذا زالت الشمس (قلت) فهذا استدلال من السلف

بجمع عرفة على نظيره وأن الحكم ليس مختصا وهو جمع تقديم للحاجة في

السفر.

(للحديث بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 593

الكاتب: عبد المتعال الصعيدي

‌القرآن والعلم الحديث

لقمان الحكيم، وبلعام بن باعورا

جاء في القرآن الكريم عن لقمان {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن

يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ

يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 12-13) الآيات

من سورة لقمان فلقمان الحكيم في نظر القرآن كان رجلاً حكيمًا مؤمنًا ولكن من هو

لقمان الذي اشتهر عند العرب بالحكمة مع أنه لم يكن منهم ولم يرد له ذكر عند

غيرهم ومن البعيد أن يحفظ العرب ذكره ولا يكون له ذكر عند قومه. وهم أولى

بحفظ ذكره من العرب.

على أن علماءنا الأقدمين ليسوا علي بينة من أمر لقمان فمن قائل أنه لقمان

بن باعورا بن أخت أيوب أو ابن خالته ومن قائل: إنه من أولاد آزر عاش ألف

سنة وأدرك داود عليه السلام ومن قائل: إنه كان قاضيًا في بني إسرائيل، ومن قائل

أنه أسود من سودان مصر، وقد اختلفوا بعد هذا في أنه كان خياطًا أو نجارًا أو

راعيًا وهذا الاضطراب يدل علي أنهم لا يعرفون يقينًا ما لقمان ولا من أي قوم كان

وقد شك الألوسي المفسر في صحة هذه الروايات كلها ولكنه لم يبين لنا أصل هذا

الاسم الأعجمي الذي حفظه العرب بدون أن يعرفوا أصله ولم يرد فيه عند غيرهم

ما يوضح أمره.

وقد حاول العلم الحديث أن يحل هذه المسألة فهداه البحث إلى أن لقمان بن

باعورا الحكيم المؤمن هو بلعام بن بعور المذكور في التوراة والمشهور عند اليهود

بأنه فيلسوف الشعب الكافر، وقد قالوا عنه: إنه لا توجد في الدنيا فلاسفة مثله

وممن ذهب إلى هذا الدكتور ج درانبورج أحد أعضاء الجمعية الشرقية بمدينة

باريس ودليله عليه أن الأسماء المشهورة الواردة في التوراة والتي ذكر معظمها في

القرآن بالشكل الذي هي عليه في التوراة ينقصها اسم بلعام بن بعور فليس هو إلا

لقمان بن باعورا ويؤيد هذا اتفاق اسم الأب فيهما وأن الفعل العربي (لقم) معناه

باللسان العبري بلع على أنه يوجد في كتاب صغير لمؤلف يسمى أنوخ ما يؤخذ منه أن

دلالة هذين الاسمين على شخص واحد كان معروفا قديما فقد جاء فيه أن بلعام هو

الفيلسوف المسمى في العربية (لقنين) يعني لقمان وإنما أوقعه في هذا التحريف

بعده عن العربية وأنه ليس من أهلها.

وهذا الأمر إن صح لا يحل المسألة إلا من وجهتها التاريخية ولكنها من الوجهة

الدينية تبقى معقدة؛ لأن لقمان في نظر القرآن حكيم مؤمن وفي نظر التوراة إذا كان

هو بلعام فيلسوف كافر فقد ورد فيها أن بني إسرائيل لما ارتحلوا إلى موآب ليحاربوا

أهلها، أجمع شيوخها وأرسلوا إلى بلعام ليلعن هذا الشعب الذي يغير علي بلاده،

فقال له الرب: لا تلعن هذا الشعب لأنه مبارك ولما ألحوا عليه أذن له الرب أن

يذهب معه بشرط أن لا يتكلم إلا بما يأمره به فركب حماره، وغضب الرب لذهابه

تأمل؛ فأرسل له ملكًا في الطريق وفي يده سيف مسلول فلما أبصره حماره وقف

وكشف الله عن عينه؛ فرأى الملك متعرضًا في طريقه فأراد أن يرجع ولكن الملك

سمح له أن يذهب معهم بشرط أن لا يفعل إلا ما أمر به، ولما وصل إلى مكان يرى

منه شعب إسرائيل ظهر له الرب وأمره أن لا يلعنه فذهبوا به إلى مكان آخر لعل

الرب يظهر له ويغير أمره؛ فلم يأذن له في لعنهم فتركهم ورجع إلى مكانه الذي

كان فيه ولما استولى موسى وقومه علي بلاد موآب قتلوه مع كل ذكر فيها، وسبوا

النساء والأطفال فغضب موسى لعدم قتلهم النساء والأطفال، وقتل كل طفل فيها

وكل امرأة ثيب فهذا ما ذكرته التوراة الموجودة بأيدي اليهود عن بلعام.

وقد نقلت هذه الرواية إلى المسلمين مع من أسلم من أهل الكتاب ولكن بتغيير

قليل فإن التوراة لا تنص علي أنه دعا على موسى وقومه، وأما رواية مسلمي أهل

الكتاب فتنص علي أنه دعا عليهم فوقعوا بسبب دعوته في التيه؛ فقال موسى: يا

رب بأي ذنب وقعنا في التيه. فقال بدعاء بلعام فقال: كما سمعت دعاءه فاسمع

دعائي عليه فدعا أن ينزع منه الإيمان فسلخه مما كان عليه.

ولم يشأ علماؤنا إلا أن يصدقوا هذه الرواية التي لم ينزل بها إليهم كتاب ولم

يأت بها إليهم رسول فكان بلعام عندهم غير لقمان، وقد ذهبت الظنون بهم فيه أيضًا

؛ حتى قال بعضهم: إنه كان نبيًا، وقال آخرون: إنه كان من أهل اليمن وحمل

عليه ابن عباس قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ

الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ} (الأعراف: 175) وقالوا: إنه كان يعرف اسم الله

الأعظم الذي ما دعا به داع إلا استجيب له، ولا يخفى أن كل هذا من الإسرائيليات

التي رواها لنا كعب الأحبار وغيره من مسلمي أهل الكتاب، ولا يوثق بها عند

كثير من محققي المؤرخين عندنا، فإن مسلمي أهل الكتاب الذين نقلت عنهم هذه

الروايات كانوا في نشأتهم بين البدو من العرب بعيدين عن معرفة الأخبار الصحيحة

عن أهل الكتاب ولم يكن عندهم من العلم ما يميزون به غثها من سمينها.

وأما قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 175) الآية [1] فليس فيه ما

يدل على أن المراد به بلعام أو غيره، وقد قال ابن عمر: إنها نزلت في أمية بن أبي

الصلت كان على علم بكتب الله وآياتها وكان يعلم أن الله سيبعث رسولاً من العرب

ويرجو أن يكون هو فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حسده ومات كافرًا،

وقيل: إنها نزلت في أبي عامر الراهب وقيل: إنها مثل لكل من يعرف الهدى

ويعرض عنه؛ فليس في القرآن إذًا ما يمنع أن يكون بلعام هو لقمان الحكيم.

وأما رواية التوراة عن بلعام فلا يلزمنا أن نصدقها وقد نسبت إلى غير بلعام

من الأنبياء الذين لا نشك في عصمتهم كداود، وسليمان، وغيرهما أمورًا لا نشك

في أنهم منزهون عنها فما ورد فيها عن بلعام لا يمنعنا من أن نجاري العلم الحديث

في أنه هو لقمان الحكيم، علي أن بعض علماء المسيحيين يشك في صحة قصة

بلعام الواردة في التوراة للتناقض الذي فيها، فكيف يأذن له الله على ما سبق في

الذهاب مع قومه، ثم يغضب عليه لذهابه معهم، وكيف يقتله موسى عليه السلام

مع من قتل من قومه مع أن التوراة لم تنص علي أنه لعن بني إسرائيل كما كان

يريد قومه بل نصت علي أنه لما لم يأذن له الرب في لعنهم قال لبالاق بن صفور

ملك موآب قم يا بالاق واسمع؛ فليس الله إنسانًا فيكذب ولا ابن إنسان فيندم، وهل

يعد ولا يفي؟ وأخبره بأن بني إسرائيل سيملكون بلاده فبأي ذنب يقتل من هذا حاله

وبأي وجه يكون هذا الرجل عند اليهود فيلسوف الشعب الكافر؟ وإذًا ليس هناك من

جهة الدين ما يمنع أن يكون لقمان هو بلعام، وأنه لخير لنا أن نجاري العلم الحديث

في هذا، وأن لا نتأثر بما رواه اليهود من كفر بلعام كما تأثر به آباؤنا من قبلنا

فحال بينهم وبين الاهتداء إلى الحقيقة في أمر لقمان وجعلهم حيارى لا يدرون من

أي قوم كان؛ وإذا لم نذهب إلي ذلك فسنظل مطالبين أمام العلم بالأدلة التي نقنعه

بأن لقمان غير بلعام وبالآثار القديمة التي تكشف عن أمر هذا الحكيم الذي ورد به

القرآن الكريم.

ولماذا نكلف أنفسنا عناء هذا البحث والتفتيش ولا نقنع بما قنع به العلم

الحديث، ونحمده على هذه الخدمة التي خدم بها القرآن وقطعه الطريق على من

تحدثه نفسه من زنادقة هذا العصر بأن روايات القرآن عن لقمان حديث خرافة إذ لا

يجد له حديثًا في التاريخ القديم ولا ذكرًا عند الأقوام الذين نسبه إليهم علماء

المسلمين.

...

...

...

... عبد المتعال الصعيدي

...

...

...

... أحد علماء الجامع الأحمدي

_________

(1)

المنار: بينا في تفسيرها ما يؤيد رأي الكاتب في بلعام ولا ينافيه قتله.

ص: 600

الكاتب: مهاتما غاندي

‌الصحة

تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي

ترجمةالأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي

الباب الثامن

الأمومة والولادة

كان غرضنا في الأبواب الماضية بيان وحدة الأصل والعلاج لبعض الأمراض

الكثيرة الشيوع وإننا لنعلم أن الذين أصبحوا لسوء عاداتهم عرضة للأمراض أو

الذين يخافون من الموت دائمًا لا يزالون يضعون أنفسهم تحت رحمة الأطباء مهما

حاججناهم ومنعناهم من ذلك، ولكنا على كل حال نظن بأن هنالك على الأقل أفرادًا

يريدون أن يزيلوا أمراضهم بطرق طبيعية محضة ويحفظوا أنفسهم من هجوم

الأمراض الجديدة فهم بلا شك يحبون أن يتبعوا النصائح الساذجة التي بسطناها في

هذا الكتاب وقبل أن نغلقه نريد أن نشير بعض الإشارات إلى الأمومة وتربية الطفل،

وكذلك إلى بعض الحوادث الفجائية التي يكثر وقوعها. إن أوجاع الولادة غير معروفة

لدى الحيوانات الدنيا وكذلك النساء الصحيحات صحة تامة وإن أكثر القرويات

ليعددن الولادة شيئًا عاديًّا صرفًا فلا يزلن في أشغالهن العادية المتعبة إلى آخر لمحة

من الحمل تقريبًا وقلما يتألمن من الوضع.

لماذا إذن تتعذب نساء المدن هذا العذاب الأليم عند الوضع؟ ولماذا يضطررن

إلى التداوي الخاص قبل الولادة وبعدها؟

الجواب ظاهر وهو أن هاتة النسوة تعيش عيشة غير طبيعية فطعامها وعوائدها

وطرق معيشتها كل مخالفة للقوانين الطبيعية للحياة الصحية، ثم إنها فوق هذا ومع

حملها قبل أن يكمل استعدادها للحمل استعدادا تامًّا تكون ضحية مأسوفًا عليها لشهوة

الرجال أثناء الحمل، وبعد الوضع مباشرة وهكذا تحمل مرة قبل أن يمضي على

خلو الرحم مدة يعتد بها هذا هو سبب العذاب والتعاسة التي نجد فيها مئات الألوف

من بناتنا وأخواتنا الآن.

إن مثل هذه الحياة في رأيي قلما تختلف عن حياة المجرمين في جهنم، وما دام

الرجال يعاملون النساء بهذه المعاملة الفظيعة فلا يمكن أن يكون هناك أي رجاء

للمسرة لنسائنا؛ يحمل كثير من الناس اللوم على كواهن النساء نحن لا نناقشهم في

ذلك لأنه ليست وظيفتنا هنا الموازنة في الإثم المشترك بين الرجل والمرأة في هذه

المسألة، وإنما الذي يهمنا هو معرفة الشر الواقع والإشارة إلى علاجه ليعلم

المتزوجون والمتزوجات جيدًا أنه ما دام التمتع الزوجي موجودًا قبل أوانه وأثناء

الحمل وبعد الوضع مباشرة فلا يمكن أن تنجو النساء من أوجاع الولادة أو ترى

الولادة السهلة بل يبقى هذا الأمر حلمًا غير محقق.

تتحمل النساء بسكوت جميع أوجاع الولادة؛ لأنها تعترف باطلا بأنه لابد لها

منها، ولكنها لا تعلم أن جهلها وضعف إرادتها هو الذي يجعل ولادتها تتعسر

وأولادها يكبرون ضعفاء غير نشطين، إن من وظائف كل رجل وامرأة السعي في

إزالة هذه المصيبة بأي طريقة تتيسر. ولو أدى رجل واحد أو امرأة واحدة هذه

الوظيفة تكون الدنيا قد تقدمت إلى الأمام إلى ذلك الحد ومن البديهي أن هذا ما لا

يحتاج الإنسان في القيام به ولا ينبغي أن يحتاج إلى القدوة بإنسان آخر.

فعلى هذا أول وظيفة تجب على الزوج أن يقطع كل علاقة زوجية مع زوجته

من ساعة الحمل. إن المسئولية التي تقع على الزوجة خلال مدة الحمل لعظيمة جدًّا

يجب عليها أن تعلم جيدًا أن أخلاق الطفل الذي ستلده تتوقف كلها على حياتها

وسيرتها أثناء هذه المدة المقدسة، فإن هي ملأت مخيلتها بالحب لجميع الأشياء

الطيبة العالية والتفكر فيها، فالطفل كذلك ينطبع على هذه الطبيعة نفسها وبالعكس

إن وسعت المجال للغضب وغيره من الميول الفاسدة فطفلها كذلك يرث هذه الميول

حتمًا.

فإذن يجب عليها خلال هذه الأشهر التسعة أن تشغل نفسها تمامًا بأعمال طيبة

فتطهر مخها من كل خوف، وقلق، وانزعاج، ولا توسع المجال على نفسها لفكرة

خبيثة أو ميل فاسد ولا تضيع دقيقة واحدة في لغو الكلام أو الفعل عبث؛ فالطفل

الذي يولد لمثل هذه الأم لابد من أن يكون شريفًا نبيهًا قويًّا.

يجب أن تبقى الحامل نظيفة الجسم مثلما تبقى نظيفة المخ، وأن تستنشق كمية

كبيرة من الهواء النقي، وتقتصر على الغذاء الخفيف الجيد بقدر ما تستطيع هضمه

بسهولة، فإن هي قامت بجميع النصائح التي قد بينت في مسألة الغذاء وغيره فلن

تضطر إلى الاستعانة بالأطباء، وإن هي أصيبت بالإمساك فلتزد كمية زيت

الزيتون في الطعام، وفي حالة الغثيان والقيء يجب أن تشرب عصير الليمون في

الماء بدون سكر، ثم عليها أن تهجر جميع البهارات والتوابل على اختلاف أنواعها.

والميل الذي يتولد في الحامل إلى أكل أشياء مختلفة جديدة يمكن إزالته

باستحمام (كيوهن) الذي يزيد فوق ذلك قوتها الجسدية والحيوية ويسهل أوجاع

الولادة، وعليها أن تقوي إرادتها، فتقتل مثل هذه الرغبات في أول نشأتها، ويجب

على الوالدين أن يهتما غاية الاهتمام بخير الجنين في الرحم.

وكذلك يجب على الزوج أن يجتنب المشاجرة والخصام مع زوجته أثناء هذه

المدة؛ فيسير معها سيرًا يسرها ويرضيها وعلى الزوجة أن تقلل من واجبات البيت

الثقيلة وأن تمشي في هواء طلق مدة كل يوم وأن لا تستعمل أي دواء أثناء الحمل.

***

الباب التاسع

تربية الطفل

ليس غرضنا في هذا الباب ذكر وظائف القابلة أو المرضع بل نريد أن نبين

الاحتياطات الواجب اتخاذها إذا ولد الولد. إن الذين قرءوا الأبواب المتقدمة

لا يحتاجون إلى التنبيه على عظم الضرر الذي يلحق الأم بحبسها في حجرة مظلمة

فاسدة الهواء وتنويمها على فراش وسخ مع نار تحت سريرها أثناء مدة النفاس. إن

هذه العادة مهما تكن قديمة فهي محاطة بمخاطر كثيرة على كل حال، نعم، إن

التدفئة في أيام الشتاء واجبة ولكن ذلك يتم على أحسن صورة باستعمال الأغطية

الدافئة، وإن كانت الحجرة باردة جدًّا ولا بد من وضع النار فيها فلتوقد خارجها فإذا

ذهب دخانها تدخل فيها، وفي هذه الحالة أيضًا لا ينبغي وضعها تحت

السرير وكذلك تحصل التدفئة بوضع قوارير الماء الساخن على الفراش يجب

أن تنظف جميع الملابس والأقمشة تماماً بعد الولادة وقبل استعمالها ثانية.

وبما أن صحة الطفل تتوقف على صحة الأم فلذلك يجب الاهتمام العظيم

بغذائها وطرق معيشتها فيقدم إليها الطعام من القمح مع كمية كبيرة من الثمار الجيدة

كالموز وزيت الزيتون حتى تسري فيها الحرارة والقوة وتدر لبنًا كثيرًا.

إن زيت الزيتون يوجد الخواص المسهلة في لبن الأم وهكذا يساعد في حفظ

الطفل من الإمساك وإن انحرفت صحة الطفل وجب الاهتمام بحالة صحة الأم. إن

معالجة الطفل بالأدوية تساوي قتله؛ لأن الطفل بسب ضعف بنيته يمرض سريعاً من

تأثيراتها السامة؛ ولذلك يجب أن تعطى الأدوية للأم لا للطفل لكي تنتقل فوائدها إليه

مع لبنها، وإن أصيب الطفل بالسعال أو الإمساك كما يحصل كثيراً فلا ينبغي الخوف

من ذلك بل يجب الانتظار يوماً أو يومين لنعرف أساس المرض فنداويه، إن الجزع

والخوف لا يزيد الأمر إلا سوءًا وشدة.

يجب أن يغسل الطفل في الماء الفاتر دائمًا وتقلل ملابسه ما أمكن بل الأحسن

أن لا يلبس بضعة أشهر ثوبًا ما وينوم علي قماش أبيض لين ويغطى بقماش دافئ

ويترك حرًّا في حركاته ليتقوى ويتصلب يجب أن توضع قطعة من القماش الجيد

مطوية أربعة طيات على السرة وتربط فوقها عصابة.

إن عملية ربط السرة بخيط وتعليقه في العنق مضرة جدًّا بل يجب أن تكون

عصابة السرة غير مشدودة شدًّا محكماً وإن كان المكان حول السرة رطباً فينبغي أن

يذر عليه ذرور (بودرة) دقيق الرز الجيد الناعم جيدًا.

وما دام اللبن عند الأم كافيًا فيجب أن يقتصر عليه الطفل وحده، فإن قل يجوز

استعمال دقيق القمح المشوي المطحون جيدًا في الماء الساخن مع قليل من السكر

فإنه يأتي بنتائج حسنة، وكذلك نصف علبة من دقيق الموز معجوناً بنصف ملعقة من

زيت الزيتون نافع جدًّا، وإن كان لا بد من إعطائه لبن البقرة فيجب أن يمزج أولاً

بالماء بمقدار الثلث ثم يوضع على النار حتى يغلي ثم يزاد فيه قليل من سكر

القصب كذلك.

إن استعمال السكر عوضًا من سكر القصب مضر يجب أن يعود الطفل

تدريجًا على أكل الغذاء من الثمار ليبقى دمه طاهرًا من أول الأمر ويكبر قوي

الاستعداد للرجولية، وعظائم الأمور، إن الأمهات اللاتي يبادرن إلى إطعام

أطفالهن الأشياء الثقيلة كالرز والنباتات والعدس بمجرد ظهور الأسنان بل قبل ذلك

أيضًا فإنهن يضررنهم ضررًا بليغًا ولا احتياج إلى القول بأن القهوة والشاي يجب

منعها عنهم بتاتًا.

إذا كبر الطفل وأخذ في المشي فيلبس القميص وما شاكله من الملابس، ولكن

يجب أن تبقى أقدامه حافية لتكون حرة للمشي والتنقل على إرادتها.

إن لبس الحذاء يمنع دورة الدم ونماء القدم والرجل، إن كسو الطفل الملابس

الحريرية أو الأقمشة المزركشة مع الطربوش والحلل والحلي عمل همجي، وإن

سعينا لزيادة الجمال الذي وهبته الطبيعة بمثل هذه الطريقة المضحكة إنما يدل على

غرورنا وجهلنا يجب علينا دائما أن نعرف أن تعليم الطفل يبتدئ بمجرد ولادته

فيتلقى هو هذا التعليم من والديه أكثر من كل أحد.

إن تهديد الأطفال وتخويفهم وشحن بطونهم بالأغذية كل ذلك إغارة على

أصول التعليم الحق، وكما يقول المثل القديم (إن الطفل يكون مثل والديه) فقدوة

الوالدين وعملهما لا بد من أن يفرغ في قالبه سير الطفل وأخلاقه؛ فإن كانوا ضعافًا

فيكون أطفالهم كذلك ضعافًا نحافًا، وإن كانوا يتكلمون بفصاحة وبيان فكذلك يكون

أطفالهم، وإن كانوا يتلعثمون ويجمجون، فأطفالهم يقلدونهم في ذلك، وإن كانوا

يسبون ويشتمون أو كانوا متعودين العادات القبيحة فأطفالهم أيضًا تقلدهم وتكبر في

أخلاق سيئة، والحقيقة أنه ليس هناك عمل لا يقلد فيه الطفل والديه.

فترى من ذلك كيف أن المسئولية ثقيلة عظيمة إلى أكتاف الوالدين فأول ما

يجب على الإنسان هو أن يعلم أولاده تعليمًا يجعلهم مستقيمين صادقين وحلية

للمجتمع الذي يعيشون فيه.

نحن نرى في عالم الحيوان والنبات أن كل شيء ينزع إلى شبه والديه وأسلافه

ولكن الإنسان وحده قد خرق هذا الناموس الطبيعي فنرى فيه وحده أن الأشرار

يولدون من والدين فاضلين، والضعاف من الأصحاء، وليس هذا ذنب الأولاد بل هو

ذنبنا نحن الآباء والأمهات الذين ندخل في حياة الأبوة والأمومة ونحن غير مستعدين

تمام الاستعداد لحمل مسئولياتها العظيمة الثقيلة. إن من الواجبات المقدسة على

جميع الآباء الأفاضل أن يربوا أولادهم تربية عالية وهذا يتطلب أن يكون الوالدان

قد تعلما تعليمًا صحيحًا، فإن كانا يريان أنهما لم يتلقيا مثل هذا التعليم ويشعران

بنقصهما فعليهما تسليم الأولاد إلى تربية مربين صالحين، وإن من الحمق وقبح

التصور أن نظن بأن الأولاد يحصلون على العلم بمجرد إرسالهم إلى المدرسة وما دام

التعليم والتربية في المدارس يخالف ما في البيت فلا يمكن أن يكون هناك رجاء

لإصلاح النشء الجديد.

وحيث إن التعليم الصحيح للطفل يبتدئ بمجرد ولادته مباشرة فينبغي أن يلقن

مبادئ العلم أثناء اللعب. وعلى هذه الطريقة كان يمشي القدماء في تعليم أولادهم،

وأما عادة إرسال الأطفال إلى المدرسة فمن بنات الأمس، وإذا قام الوالدان بما يجب

عليهما لأولادهما فلا يكون هناك حد لرقيهم ولكنا - ويا للأسف - لا نقوم بواجبنا بل

الواقع أننا نتخذ أطفالنا ألعوبة لنا نحن نزين أجسامهم بالملابس الجميلة ونحليهم

بالذهب والمجوهرات ونملأ بطونهم بالحلوى ونفسد عاداتهم بحنيننا المتناهي وعطفنا

الكاذب من منشئهم ونتركهم يسرحون ويمرحون على أهوائهم متأثرين بعوامل

الحب الكاذب، وما دمنا نحن نعبد بكل شقاء شهواتنا ونسير سيرًا معوجا ونعيش

في الكسل والوساخة؛ فهل من العجب أن اتبع أولادنا خطواتنا وأصبحوا ضعفاء

أشرارًا أنانيين كسالى عُبَّاد الشهوة سيئ الأخلاق مثلنا؟ فليتدبر جميع

الآباء والأمهات جيدًا هذه المسائل؛ لأن عليهم وحدهم يتوقف مستقبل البلاد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 604

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بطلان الدفاع عن

جرح كعب الأحبار ووهب بن منبه

تتمة ما نشر في الجزء الماضي

الانتقاد الرابع

الاحتجاج بما لا يحتج به

ادعى المنتقد الفاضل أننا احتججنا في جرح الحبرين بما لا يصح الاحتجاج

لعدم صحته أو لخروجه عن موضوع البحث، قال: ومنه تفسير وهب بن منبه لقوله

تعالى في قصة موسى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: 107) .

سلم المنتقد أن ما نقلناه عن ابن كثير في ذلك أمر لا يتصوره عاقل وطعن في

صحة إسناده إلى وهب عند ابن جرير والإمام أحمد في الزهد وابن أبي حاتم في

تفسيره، قال: في سند ابن جرير من هو مجهول، وكتاب الزهد للإمام أحمد لم

يكن من كتب الحديث المعروفة، فلا يبعد أن يكون في سنده انقطاع، وابن أبى حاتم

تفسيره كتفسير ابن جرير، بل إنه يروي في الموضع الواحد متناقضات.

(قال) (وعلى ذلك لم يوجد سند صحيح بأن هذا الخبر الغريب صدر من

وهب ويدل على أنه موضوع على وهب أنه لم يروه أحد من أصحاب كتب الحديث

المعتبرة مثل البخاري أو مسلم أو غيرهما من الكتب التي يصح للمطلع عليها أن

يقطع أو يظن أنه صدر منه) .

أقول (أولاً) : إذا سلمنا أن في سند ابن جرير مجهولاً، فلا نسلم أن الراوي

المجهول حاله عند المؤلفين في الجرح والتعديل يقتضي أن تكون روايته

موضوعة فهذا لم يقل به أحد منهم ولا من غيرهم وإنما غايته التوقف عن الاحتجاج

بما ينفرد به وليس هذا منه إذ رواه غيره.

و (ثانيًا) إن طعنه في كتاب الزهد للإمام أحمد جرأة عظيمة لا ينبغي أن

يقدم عليها الحريص على توثيق كعب الأحبار، ووهب بن منبه؛ لئلا يعد جرحهما

طعنًا في رواة الحديث فنحن لو طرحنا كل ما روي عنهما لم نخسر من الدين ولا

من العلم شيئًا مهمًّا، وأما الإمام أحمد فهو إمام الأئمة شيخ البخاري ومسلم،

وغيرهما من أساطين السنة أحد الأربعة الذين عرض عليهم البخاري صحيحه

قبل أن يظهره للناس؛ ليرى رأيهم فيه عمدة المحدثين في الجرح والتعديل صاحب

المسند الذي كتبه ليكون إماماً يرجع إليه العلماء فيما اختلفوا فيه من السنة، أفقه

المحدثين، وأزهد الزهاد، وأورعهم، فهل يصح أن نطعن في كتاب ألفه لهداية

الناس لأجل توثيق وهب بن منبه، ويدعي الطاعن أنه يوثق وهبًا وكعبًا لئلا يعد

الطعن فيهما طعناً في السنة؟

سبحان الله! أيقول الشيخ عبد الرحمن الجمجوني المشتغل في جل أوقاته

بالزراعة الذي يرجع عنده إرادة الكتابة في مثل هذا المقام إلى الكتب فيقرأ منها ما

يريد أن يؤيد به رأيه الذي سنح له، وقد تقدم ما يدل على مبلغ فهمه لعباراتها الجلية؟

أيقول: إن كتاب الزهد للإمام أحمد غير معروف عنده، ويرتب على هذا أن يعد

بعض ما روي فيه موضوعًا أي كاذبًا، وهو لم يطلع على سنده؟ ! أيروي الإمام

أحمد الموضوعات في كتاب ألفه لهداية الناس في الدين، ولا يعد ذلك شبهة على

السنة وهو إمامها الأعظم ثم يعد من الشبهة عليها الطعن في مرويات كعب الأحبار

ووهب بن منبه الخرافية؟

و (ثالثاً) إن طعنه في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم مع تشبيهه بتفسير الإمام

محمد بن جرير الطبري أغرب من طعنه في كتاب الزهد للإمام أحمد رحمهم الله

تعالى، إننا نحن نخبره بأن هذين التفسيرين هما أعظم ما كتبه أئمة الحفاظ رواة الأثر

على الإطلاق وإذا كانوا قد اتفقوا على أن تفسير ابن جرير أجل التفاسير على

الإطلاق وأن الذي يليه هو تفسير ابن أبي حاتم كما نقله السيوطي، فما ذلك إلا لما في

الأول من علوم اللغة والنحو الترجيح بين الروايات واستنباط الأحكام، وأما من جهة

الرواية عن الصحابة والتابعين فابن أبي حاتم أشد من ابن جرير وسائر رواة التفسير

تحريًا للصحيح.

قال السيوطي في سياق كلامه عن الروايات المأثورة في التفسير ورواتها بعد

نقله عن الإرشاد تفضيل تفسير السدي ما نصه: وتفسير السُّدِّي الذي أشار إليه يورد

منه ابن جرير كثيرًا من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن

عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة هكذا، ولم يورد ابن أبي حاتم

منه شيئًا؛ لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد والحاكم يخرِّج منه في مستدركه

أشياء ويصححه لكن من طريق مرة عن ابن مسعود إلخ (راجع الإتقان) .

فكيف أباح لك دينك وحرصك على الصحيح من السنة أيها المسلم أن تطعن

في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم مع تصريح أهل الحديث بأنه التزم فيه أصح ما ورد

وتحامى ما تساهل في روايته الإمام ابن جرير، والحاكم في مستدركه على

الصحيحين وغيرهما من رواة التفسير المأثور أتجعل روايات هذا الحافظ مع هذه

الشهادة في حكم الموضوع لتبريء وهب بن منبه صاحب الخرافات من رواية من

رواياته غير المعقولة، وترى مع هذا أنك تنصر السنة وتدفع الشبه عنها؟ ؟

ومن غرائب منطق هذا المنتقد أنه يجعل كلامه المفتجر قواعد وأصولاً علمية

دينية يبني عليها أحكامًا كما فعل بطعنه في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم الذي قال

الحافظ السيوطي: إنه التزم فيه إيراد أصح الروايات فقد قال بعد ما تقدم:

(ومثل ذلك بل أقل منه ثبوتًا ما جعلتموه عمدتكم في الطعن على الحبرين

أخيرًا وذكر ما نقلناه عن الحافظ ابن أبي حاتم من زعم وهب بن منبه أن التوراة

والإنجيل لا يزالان كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منها حرف ثم قال: فهذا رواه ابن

أبي حاتم وحده فهو أقل ثبوتًا من سابقه فلا يصح أن تجرحوا وهبًا بناءً على مثل

هذه الرواية الساقطة) .

أقول: جعل هذه الرواية أقل ثبوتًا مما قبلها وهي التي حكم بوضعها أي كذبها

ولا نعلم أن عند المحدثين شيئًا أقل ثبوتًا من الموضوع ولكن عند الأستاذ الجمجوني

من فنون الحديث ما ليس عند المحدثين ومن قواعد العلم ما ليس عند أحد من

العلماء ووجه هذه الأقلية أنه افتجر أي: اختلق ما لم يقل به أحد ولا يوافقه عليه

أحد من الطعن بكل ما رواه ابن أبي حاتم ولما كانت كذبة وهب في مسألة عصا موسى

قد رواها عنه ابن أبي حاتم وابن جرير، والإمام أحمد، وحكم هو بأنها موضوعة،

كان لا بد أن تكون هذه الكذبة التي رواها ابن أبي حاتم وحده فيما يظهر أقلّ

ثبوتًا منها عنده.

***

الانتقاد الخامس

ما احتججنا به وهو خارج عن الموضوع عنده

هذا آخر انتقاد له علينا وخلاصته أننا احتججنا بالتوراة والإنجيل على كذب

ما رواه عنهما كعب الأحبار ووهب بن منبه من حيث إن ما يعزوانه إليهما لا يوجد

فيهما شيء منه على كثرته، قال: فهذا فضلا عن خروجه عن الموضوع لما هو

مقرر عند جميع علماء المسلمين من أن كتابي اليهود والنصارى الموجودين لا يصح

الاحتجاج بهما

إلخ.

أقول: ليتأمل العلماء والعوام المُلمُّون بالقراءة والكتابة وغير السلمين أيضًا هذا

الفهم العجيب والمنطق الغريب:

يقول الأستاذ الجمجوني النقادة: إن قولنا فيما رواه الحبران الإسرائيلي

والفارسي النسب عن التوراة والإنجيل: إنه لم يوجد فيهما شيء منه، وعدم وجوده

فيهما دليل على كذبهما فيما روياه عنهما خارج عن الموضوع؛ فما موضوع طعننا

فيهما؛ إذًا إنه قد اعترف أولاً بأن هذا الدليل هو عمدتنا في تكذيبهما في رواياتهما عن

الكتب السابقة ثم يقول: إنه خارج عن الموضوع وما هو إلا عين الموضوع وإن لم

يكن عين الموضوع فما الموضوع إذاً؟ سبحان الخلاق العظيم ماذا في خلقه من

عجائب!

ثم زعم بعد هذا أنني نقضت هذا القول بقولي: إن ابن كثير كان يعلم من

كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلمه رجال الجرح والتعديل الأولون الذين جعلوا كعبًا

ووهبًا من الثقات في الرواية؛ ولذلك انتقد بعض ما روي عنهما ولم يأخذه بالتسليم

فأي نقض هذا؟ ؟

وقد ذكرت أيضًا أن ابن حزم وابن تيمية من علماء القرون الوسطى قد

اطلعوا على كتب أهل الكتاب التي لم يطلع عليها المتقدمون الذين وثقوا الرجلين كابن

حبان وغيره قال المنتقد: ولكن لم يرد عن أحد من هؤلاء ولا من غيرهم أنهم

طعنوا فيهما وهذا قول يقال ليس خارجاً عن العقل والفهم كالأقوال السابقة.

ويقال في الرد عليه أولاً: إن هذا النفي العام يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه

فعدم علمه لا يدل على عدمه كما أنه لا يدل على وجوده.

(ثانيًا) إن من ذكرناهم لا يبحثون في جرح راوٍ إلا إذا عرض لهم بحث في

تمحيص رواياته غير الثابتة عندهم، فمن سكت عن جرح الرجلين يمكن أن يقال:

إنه لم يتفق له ذلك فإن ابن حزم وابن تيمية لما تصديا للرد على أهل الكتاب ونظرا

في كتبهم لأجل ذلك لم يخطر في بالهما مراجعة ما روي عن هذه الكتب والرد عليه؛

لأنه ليس من موضوعهما بل ربما يعد حجة عليهما من حيث إن بعض كبار الرواة

الموثقين قد شهدوا لهذه الكتب.

(ثالثًا) إننا نرى الحافظ ابن كثير يستنكر بعض الروايات عن كعب ووهب

من غير طعن في سندها لعلمه بصحته وهذا يتضمن تكذيبها وإن لم يصرح به إذ

موضوعه نقد المروي؛ لأنه باطل لا الطعن في الرواة.

***

خلاصة الرد على الانتقاد:

إننا لم ننكر ولن ننكر أن جمهور رجال الجرح والتعديل عدوا كعبًا ووهبًا من

الثقات في الرواية ولم يقبلوا طعن ابن الفلاس منهم في وهب؛ لأنهم نقلوا عنه ما يدل

على رجوعه عما رماه به من البدعة، وإن منهم من تأول تكذيب معاوية لكعب بأنه

يعني به وقوع الكذب في رواياته لكذب من أخذ عنهم لا لكذبه هو أو بغير ذلك حتى

قال بعضهم ما ترده العبارة العربية ولا تحتمله ولو تكلفًا.

وإننا مع هذا نقول: إنه ظهر لنا ما لم يظهر لأولئك الموثقين لهما وهو أننا

رأينا الشيء الكثير من رواياتهما مما نقطع بكذبه، كمخالفة ما رواه عنهما الثقات مما

كانا يعزوانه للتوراة وغيرها من كتب الأنبياء لما عند أهل الكتاب فجزمنا بكذبهما

وهذا مما لم يكن يعلمه المتقدمون؛ لأنهم لم يطلعوا على كتب أهل الكتاب، وإننا بهذا

الطعن في روايتهما ندفع شبهات كثيرة عن كتب الإسلام سيما تفسير كتاب الله تعالى

بالمأثور عن السلف، وقد حشي خرافات كثيرة يأخذها القارئون للتفسير وقصص

الأنبياء بالتسليم.

وإننا إذا سلمنا للمنتقد أن كل من وثقه جمهور المتقدمين فهو ثقة، وإن ظهر

خلاف ذلك بالدليل نفتح بابًا آخر للطعن في أنفسنا بنبذ الدليل، والأخذ في مقدماته

بالتقليد ومخالفة هداية القرآن المجيد، نعم، إننا نعترف بأن نقض رواة السنة

والآثار من حيث جودة الحفظ والضبط وعدم الشذوذ ونحوه من العلل قد محصه

رجال الجرح والتعديل ووفوه حقه إلى درجة تقرب من الكمال ولم يبقوا لمن بعدهم

فيه إلا اجتهادًا قليلاً جُلّه فيما اختلفوا فيه.

وأما تمحيص متون الروايات وموافقتها أو مخالفتها للحق الواقع وللأصول أو

الفروع الدينية القطعية أو الراجحة وغيرها فليس من صناعتهم ويقل الباحثون فيه

منهم ومن تعرض له منهم كالإمام أحمد والبخاري لم يوفه حقه كما نراه فيما يورده

الحافظ ابن حجر في التعارض بين الروايات الصحيحة له ولغيره ومنه ما كان

يتعذر عليهم العلم بموافقته أو مخالفته للواقع، كظاهر حديث أبي ذر عند الشيخين

وغيرهما أين تكون الشمس بعد غروبها؟ فقد كان المتبادر منه للمتقدمين أن الشمس

تغيب عن الأرض كلها وينقطع نورها عنها مدة الليل؛ إذ تكون تحت العرش تنتظر

الإذن لها بالطلوع ثانية، وقد صار من المعلوم القطعي لمئات الملايين من البشر أن

الشمس لا تغيب عن الأرض في أثناء الليل وإنما تغيب عن بعض الأقطار وتطلع

على غيرها، فنهارنا ليل عند غيرنا وليلنا نهار عندهم كما هو المتبادر من قوله

تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) وقوله

جلت قدرته: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: 54) فنحن بعد

العلم القطعي الثابت بالحس في مثل هذه المسألة وما في حكمها لا مندوحة لنا عن أحد

أمرين، أما الطعن في سند الحديث وإن صححوه؛ لأن رواية ما يخالف القطعي من

علامات الوضع عند المحدثين أنفسهم وأقرب تصوير للطعن فيما اشتهر

رواته بالصدق والضبط أن يكون الصحابي أو التابعي منهم سمعه من مثل كعب

الأحبار ونحن نعلم أن أبا هريرة روى عن كعب وكان يصدقه ونرى الكثير من

أحاديثه عنعنة لم يصرح رضي الله عنه بسماعها من النبي -صلى الله عليه

وسلم- ومن القطعي أنه لم يسمع الكثير منها من لسانه صلى الله عليه وسلم

لتأخر إسلامه فمن القريب أن يكون سمع بعضها من كعب الأحبار، ومرسل

الصحابي إنما يكون حجة إذا سمعه من صحابي مثله، ومثل هذا يقال في ابن عباس

وغيره ممن روى من كعب وكان يصدقه، وأما تأويل الحديث بأنه مروي بالمعنى،

وأن بعض رواية لم يفهم المراد منه فعبر عما فهمه كعدم فهم راوي هذا الحديث الذي

ذكرنا على سبيل التمثيل المراد من قوله صلى الله عليه وسلم إن الشمس

تكون ساجدة تحت العرش

إلخ فعبر عنه بما يدل على أنها تغيب عن الأرض

كلها وقد يكون المراد من معنى سجودها أنه من قبيل قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ

وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: 6) كما أن توقف طلوعها على إذن الله تعالى

{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (الأعراف: 58) ، وهو إذن التكوين لا

التكليف وذلك أننا نؤمن بحق أن العالم كله بيد الله تعالى وتصرفه، وقد أول

الحديث بعض شراح الصحيحين ليوافق رأي المتقدمين من علماء الفلك فكان تأويلهم

متكلفًا يرده ظاهر الحديث ولا سيما رواية مسلم المطولة.

ومن هذا القبيل حكاية بعض الرواة ككعب ووهب عن كتب بني إسرائيل لم

يكن يحيى بن معين وأحمد وأبو حاتم وابنه وأمثالهم يعرفون ما يصح من ذلك وما لا

يصح لعدم اطلاعهم على تلك الكتب وعدم ظهور دليل على كذب الرواة المتقنين

للكذب فيما يعزونه إليها، فإذا ظهر لمن بعدهم في العصر أو فيما قبله أو فيما بعده ما

لم يظهر لهم من كذب اثنين أو أكثر من هؤلاء الرواة فهل يكابر حسه ويكذب نفسه

ويصدقهم بلسانه كذبًا ونفاقًا، أو يكتم الحق عن المسلمين لئلا يكون مخالفًا لمن قبله

فيما ظهر له ولم يظهر لهم، أفلم ير المنتقد الغيور على السنة أن الملاحدة الذين

يتقي طعنهم في السنة بتعديل كعب ووهب يشككون المسلمين في الأصول والمسائل

القطعية حتى في نصوص القرآن؟

ثم إننا نعيد القول ونؤكده بأن ظهور كذب كعب ووهب لنا لا يترتب عليه

خسراننا لشيء من أصول ديننا، ولا من فروعه فالعمدة في الدين هو القرآن وسنن

الرسول المتواترة وهي السنن العملية كصفة الصلاة والمناسك مثلا وبعض الأحاديث

القولية التي أخذ بها جمهور السلف، وما عدا هذا من أحاديث الآحاد التي هي غير

قطعية الرواية أو غير قطعية الدلالة فهي محل اجتهاد وإننا نرى بعض الأئمة

المجتهدين قد تركوا الأخذ بكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة حتى ما رواه

الشيخان منها ولا يزال يتبعهم الملايين من الناس في تركها ولا يعدهم سائر المسلمين

ضالين عن دينهم وقد أورد المحقق ابن القيم أكثر من مائة شاهد من هذه الأحاديث

الصحيحة التي خالفها الحنفية وغيرهم وهم أكثر مسلمي هذا العصر.

فماذا تكون قيمة روايات هذا الإسرائيلي (كعب الأحبار) وهذا الفارسي

(وهب بن منبه) وأكثرها خرافات إسرائيلية شوهت كتب تفسير كتاب الله وغيرها

من الكتب وكانت شبهًا على الإسلام يحتج بها أعداؤه الملاحدة بأنه كغيره، دين

خرافات وأوهام وما كان منها غير خرافة فقد تكون الشبهة فيه أكبر كالذي ذكره

كعب من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة واعترف المنتقد بصحته

عنه وقد أعدنا ذكره في هذا الرد.

نوه المنتقد برواية البخاري لقول أبي هريرة: إن عبد الله بن عمرو بن

العاص كان أكثر حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم منه، لأنه كان يكتب،

قال: وأنا لا أكتب إذ رواه من طريق وهب عن أخيه همام، ونقول أولاً: إن

البخاري قال عقب روايته له عنه: تبعه معمر عن همام يعني أن وهبًا لم ينفرد بهذه

الرواية عن همام بل رواها عنه معمر أيضًا، فلو أن وهبًا لم يروها ما كنا جهلناها،

ولو جهلناها لم يكن جهلها خسارة لشيء من أصول ديننا ولا فروعه، فقول أبي

هريرة ليس حجة شرعية وهو لا يدل علي أن ابن عمرو كان يكتب بأمر النبي -

صلى الله عليه وسلم ولا بإقراره فيصلح معارضًا لحديث نهيه - صلى الله عليه

وسلم - عن كتابه شيء عنه غير القرآن، وإن سماه المنتقد (حديثًا صحيحًا نافعًا)

ثم قال: (كما أن البخاري احتج بوهب في أول كتاب الجنائز، من صحيحه حيث

قال، وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلي، ولكن ليس

مفتاح إلا له أسنان؛ فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) اهـ

أقول:

(أولاً) إن هذا تعليق لا رواية مسندة وإنما رجال الصحيح من روى عنهم

المسند.

(وثانيًا) إنه أورده بصيغة التمريض، (قيل) قال الحافظ ابن حجر بعد

الكلام على صيغة الجزم في الروايات المعلقة في صحيح البخاري ما نصه:

والصيغة الثانية وهي صيغة التمريض لا يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه لكن

فيه ما هو صحيح، وفيه ما ليس بصحيح

إلخ، وثالثًا، إن هذا القول لوهب

قد انتقد المنار عليه وخطئ به؛ ولذلك قالوا لما رووا هذه العبارة مرفوعة من

حديث معاذ يحتمل أن تكون مدرجة فيه ولم يقولوا: إن وهبًا هو الذي سمعها وليس

هذا المقام محلاً لبسط هذا وأمثاله حتى إنني لم أجعله من الانتقادات علينا، وإن كان

المنتقد قد حاول به أن يجعل وهبًا من رواة أحاديث صحيح البخاري، كما حاول

أن يجعل كعبًا من رجاله، والحق أن البخاري - قدس الله سره - لم يرو عن كعب

شيئًا ولم يرو عن وهب حديثًا مسندًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

وإنما روى عنه عبارة وعلق عنه أخرى كما علمت آنفا.

كلمة بيني وبين المنتقد:

قد أطال صديقنا الأستاذ الجمجموني في انتقاده هذا فاضطرنا إلى الإطالة في

بيان أخطائه مع تحري الاختصار حتى لا يعود إلى مثل هذا الكلام الطويل المتهافت

على أنه إذا عاد لا ننشر له مثله، ولا سيما في هذا الموضوع [1] وإنما نشرنا هذا

تكريمًا له وتحسينًا للظن به على اعتقادنا أنه حسب أن ما جاء به حجج قيمة وبراهين

لا ترد وأنه أراد بإعادة كلامنا المنتقد عنده بنصوصه على كونه منشورًا في المنار

وأكثر النقول في الجرح والتعديل من جهة عامة وفي توثيق الحبرين مما نعرفه ولا

ننكره ولا أنكرناه من قبل أراد بهذا كله إظهار جهلنا، وإننا لو لم ننشره لظن أننا

لإصرارنا على خطئنا قد امتنعنا عن إظهار هذه الحقائق لقراء مجلتنا.

لقد كان يكفي في هذا الانتقاد ورقة أو ورقتان يذكر فيهما المنتقد أن جمهور

رجال الجرح والتعديل قد وثقوا الحبرين، وأن بعض شراح الحديث أولوا عبارة

معاوية في اختبار الكذب على كعب، وأن الروايات الخرافية عنهما يحتمل أن تكون

أسانيدها إليهما غير صحيحة وما في معنى هذا.

ولو اختصر لاختصرنا في الرد بأن جرحنا لهما إنما كان في شيء لم يكن

يعرفه رجال الجرح والتعديل المتقدمون، وهو وجيه يتعين قبوله لا يشكك أحدًا في

جمهور رواة الصحاح ولا من دونهم، وأن الروايات المعروفة صحتها عنهما كافية

في إثبات كذبهما وعدم صحة تأويل من أول لكعب بأن الكذب من غيره لما هو

معلوم بالبداهة من أن كعبًا من كبار أحبارهم، ولن يكون كذلك من لم يطلع على

التوراة وكتب الأنبياء بنفسه، وأن عدم الثقة بها سترد عن كتبنا شبهات كثيرة ولا

نخسر به شيئًا من علومها لغنانا بغيرها عنها.

بعد هذا كله أقول: إذا ثبت بما حررته كذب الرجلين بما ذكر فلا يبقى مجال

للشك في إنهما كانا يغشان المسلمين ويدخلان في كتبهم الدينية ورواياتهم ما يقتضي

الطعن في دينهم، وحينئذ لا يبقى محل لاستغراب اشتراكهما في تلك الجمعيات

اليهودية، والمجوسية التي كانت تكيد للإسلام والعرب.

هذا وإنني أستغفر الله تعالى لي ولأخي المنتقد، وقد وضح للقراء ما عندي

وما عنده في المسألة ولهم الحكم في ذلك، والله يحكم بين عباده فيما هم فيه يختلفون.

_________

(1)

قد جاءنا انتقاد آخر مفيد سننشره في الجزء التالي إن شاء الله.

ص: 610

الكاتب: محمد رشيد رضا

الدعوة إلى الإلحادبالتشكيك في الدين

كتاب

(في الشعر الجاهلي)

ظهر بمصر في أواخر السنة الماضية كتاب بهذا الاسم من وضع الدكتور طه

حسين مدرس الآداب في (الجامعة المصرية) وأحد أركان جمعية دعاية الإلحاد

بمصر، بنى بحثه فيه على منهج البحث في الآداب وغيرها، غريب هو أن يبنى

على الشك في كل ما روي عن المتقدمين، أو تكذيبه، وإن أجمعوا عليه وعلى

التجرد من الدين والجنسية والوطنية وجميع الروابط القومية والملية، وهو بناء

على هذه القاعدة يطعن فيما ثبت بنص القرآن المجيد وفي جميع ما صح عند علماء

الملة الإسلامية من الروايات الدينية والتاريخية والأدبية دع ما ليس له أسانيد تصل

إلى درجة الصحة كتواريخ سائر الأمم ومروياتها حتى إنه تجرأ على التصريح

بتكذيب القرآن المجيد فيما أثبته من بناء إبراهيم وإسماعيل لبيت الله الحرام بمكة

المكرمة، وشكك في آيات أخرى وفي أحاديث وروايات كثيرة من صدقه فيها من

تلاميذ الجامعة أو غيرها من الدهماء ينبذ الدين وراء ظهره ويمشي عاريًا مجردًا من

الوازع النفسي الذي ينهى عن الفواحش والمنكرات؛ فيستحل جميع ما قدر عليه من

أموال الناس وأعراضهم إذا عنت له وأمن العقاب عليها في الدنيا وحينئذ يكون

كالدكتور طه حسين في فلسفة وأحكامه التي كان منها عد أفسق الفساق في التاريخ

كأبي نواس، من كبار المصلحين ونشر أخبار فسقه في صحيفة السياسة وفيه ما

فيه من ترغيب الناس فيها. إن قاعدة الدكتور طه حسين التي جرى عليها في كتابة

هذا، وفي غيره هي أن الفلسفة العليا التي يتوقف عليها وصول الإنسان إلى العلم

الصحيح في الآداب والتاريخ وغير ذلك هي أن يكذب الله ورسله وأفضل البشر بعد

الرسل كالخلفاء الراشدين وأئمة العلم والدين أو يشكك في أقوالهم على الأقل، ويأخذ

بالقبول والتسليم ما فيه طعن في الإسلام وفي سلفه الصالح وكبار أئمته، وإن لم

يقله إلا بعض فساق المسلمين ومن لا ثقة بصدقه منهم ومن غيرهم، ثم ماذا؟

ثم يستبدل بها نظريات بل ضلالات اخترعتها مخيلات ملاحدة الإفرنج وكذا

دعاة النصرانية الذين تعلموا وربوا على الطعن في الإسلام، وجعل مدار معيشتهم

من جمعياتهم الدينية على تشكيك المسلمين بدينهم إن لم يقدروا على تحويلهم عنه

وجعلهم أعداء له، ويزين ذلك بخلابة اللفظ وشقشقة اللسان والقلم، وسفسطة الجدل

ولماذا؟ لأجل أن تنحل روابطهم الملية وتزول عقيدتهم الدينية وتفسد ملكاتهم الأدبية

فيقبلوا بارتياح أن يكونوا تابعين لدول الاستعمار الأجنبية فإن لم تكن هذه اللام لام

العلة والغاية، فلابد أن تكون لام الصيرورة والعاقبة.

إن موضوعات هذا الكتاب هي من دروس للدكتور طه الأدبية التي

يلقيها على تلاميذ الجامعة المصرية؛ لأجل أن ينسلخوا من الإسلام الذي صار قديمًا

رثًّا باليًا في نظره، ويصيروا أمة جديدة لا يدينون بدين ولا يحرمون ما حرم الله

ورسوله، ولا يأبون الخنوع لكل حاكم وإن كان أجنبيًّا.

وكذلك فعل صديقه وأحد أركان جمعيته الشيخ علي عبد الرازق في كتابه

(الإسلام وأصول الحكم) فأرضيا بذلك دول الاستعمار ودعاة النصرانية فأثنيا على

هذا أجل الثناء كما أثنيا على ذاك وكانا عندهم محل الرجاء.

ظهر هذا الكتاب وأنا في مكة المكرمة فرأيت في الجرائد خبره وقيام رجال

العلم والدين بالرد عليه والطعن فيه ومطالبة الحكومة بمصادرته ومنع قراءته

ورأيت فيه أن الحكومة (عاقبته) بشراء نسخ جميع الكتاب منه دفعة واحدة بدلاً من أن يبيعها هو في عدة سنين وحفظها لدى وزارة المعارف ولا ندري لماذا؟

ولما رجعت إلى مصر لم يتح لي الحصول على نسخة منه وإنما اطلعت أمس

علي نسخة منه استعرتها ساعة واحدة أو أقل من ساعة فتصفحت فيها أهم صحائفه

ورأيت قبل هذا في الجرائد اضطربًا في مجلس النواب؛ إذ طلب بعض أعضائه

عقاب هذا المعتدي على دين الحكومة الرسمي وهو من عمالها، وإخراجه من

المدرسة الجامعة حرصًا على عقائد طلبتها وآدابهم وكاد هذا الاضطراب يؤول إلى

استقالة الوزارة العدليه؛ لأن صاحب الدولة رئيسها ووزير الداخلية فيها رأى أنه لا

حق لمجلس النواب في مطالبتها بما طالبها فطفق يرد على بعض النواب، وانبرى

صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول رئيس المجلس لمناقشته والدفاع عن

حقوق المجلس حتى اعتقد الحاضرون أن الجلسة لا تنتهي إلا باستقالة الوزارة،

ولما كان اتفاق هذه الوزارة مع المجلس هو قطب الرحى لاتحاد الأمة المصرية

بعد طول الشقاق اقترح بعض الأعضاء تأجيل الفصل في هذه المسألة إلى الجلسة

التالية لتلك الجلسة وذهب في تلك الليلة كل من صاحبي الدولة رئيس الوزارة

ورئيس مجلس الشيوخ حسين رشدي باشا إلى بيت الأمة، فسمرا مع دولة سعد

سمراً طويلاً انتهى بالاتفاق على قبول ما صرحت به الحكومة في مسألة الدكتور طه

حسين وهو: أنها تعمل ما يحب عليها، وأن يطلب بعض النواب من النيابة العامة

إقامة الدعوى على الدكتور طه حسين وهكذا كان.

طلب بعض النواب محاكمة الدكتور طه حسين فطلبته النيابة العامة للتحقيق

معه، وعين جماعة من كبار العلماء الجامع الأزهر لمناقشته ومناقشة وكلائه في

القضية، وقد ظهر من ضعف هؤلاء العلماء في المناقشة ما كان مدعاة الامتعاض

والأسى من أهل الدين والتقوى وقال بعض الملاحدة: إن علماء الأزهر أرادوا أن

يثبتوا كفر الدكتور طه حسين فأثبت هو كفرهم! !

ليست هذه القضية قضية فرد اسمه طه حسين يشك ويشكك في الدين فقط -بل

هي أعظم من ذلك - ولا هي قضية أستاذ في مدرسة الجامعة المصرية أعطي حقًّا

رسميًّا في إفساد عقائد الطلبة في المدرسة الجامعة الرسمية وتجريدهم من دينهم وإن

هذا لعظيم جدًّا جدًّا جدًّا، ولكن وراءه ما هو أعظم منه وهو الذي يفقهه أهل الفقه في

مصر، وفي أوربة، وسائر العالم، وبه كانت القضية أعظم وأكبر شأنًا من قضية

فرد اشتهر بعدم التدين، وبالصد عن الدين وأعظم وأكبر شأنًا من كونها قضية

أستاذ في الجامعة المصرية أعطى حقًّا رسميًّا من الحكومة يبث رأيه على

زيغه أي بإفساد عقائد الطلبة.

بماذا كانت هذه القضية أعظم من هذا الأمر الذي اعترفنا بأنه عظيم جدًا جدًا

جدًّا.

يذكر قراء المنار أننا كتبنا في إحدى المقالات التي استنكرنا فيها جريمة كتاب

الشيخ علي عبد الرازق أن أحد أذكياء الإسرائيليين في مصر صرح في محفل أدبي

بأن قضيته هي قضية التنازع بين مدرسة الجامعة الأزهرية الدينية ومدرسة الجامعة

المصرية اللادينية، أو لتنازع بين الدين والإلحاد في البلاد المصرية ولعلهم يذكرون

أيضاً أن الشيخ علي عبد الرازق هدد خصومه في بعض المقالات التي نشرها في

جريدة السياسة وأنذرهم الخيبة والفشل في مقاومته ومحاكمة الأزهر له، ثم ظهر أن

وزير الحقانية ورئيس الحزب الحر الدستوري يعارض في محاكمة هيئة كبار علماء

الأزهر له بحسب قانون الأزهر، ولما أصر رئيس الوزارة في ذلك الوقت (يحيى

إبراهيم باشا) على وجوب محاكمته وعضده أكثر أعضائها استقال وزير الحقانية هو

وسائر الوزراء الذين من حزبه الحر الدستوري كما هو مشهور ولم ينسه الجمهور.

وهذا الدكتور طه حسين قد جعل كتابه الجديد هدية إلى صاحب الدولة عبد

الخالق باشا ثروت وزير الخارجية في الوزارة الحاضرة وأحد الأركان المؤسسين

للحزب الحر الدستوري وصدره باسمه وفهم الكثيرون أن رئيس الوزارة صاحب

الدولة عدلي باشا قد ناضل مجلس النواب واشتدت الملاحة بينه وبين صاحب الدولة

سعد باشا رئيس المجلس لأجله حتى كاد يسمح بترك الوزارة في هذه السبيل.

ومما يعلمه الجمهور مع هذا أن جريدة السياسة التي هي لسان الحزب الرسمي

هي اللسان غير الرسمي لهؤلاء الذين يطعنون في الإسلام ويحاولون هدم دعائمه

الدينية واللغوية والأدبية كالشيخ علي عبد الرازق والدكتور طه حسين وغيرهما

وهنالك جريدة أخرى أسبوعية تمُتّ إلى هذا الحزب بسبب وهي تهزأ بالدين ورجاله

في كل عدد ولو بغير سبب.

ومما يعلمون مع هذا أن الملاحدة والزنادقة قد كثروا في مصر وأنهم صاروا

يجاهرون بالدعوة إلى الإلحاد وإلى تقليد زعماء الترك في المروق منه والتفصي من

جميع مقوماته والانسلاخ من جميع مشخصاته وتقليد ملاحدة الفرنج وإباحيهم دون

أهل الدين منهم الذين يبذلون الملايين في تأييد دينهم ونشر دعوته في العالم ومن

هؤلاء الملاحدة أصحاب المناصب العالية والدانية.

فمن فكر في هذه المقدمات كلها يعلم أن قضية الدكتور طه حسين هي قضية

التنازع بين دين الإسلام والجهر بالإلحاد الصريح كما كانت قضية الشيخ علي عبد

الرازق كذلك، وقد صرح بهذا فيهما بعض كتاب الجرائد الأوربية في مصر وفي

أوربة نفسها فإذا برئ الدكتور طه حسين منها تعد تبرئته في عرف الشرق والغرب

انتصارًا للكفر على الإيمان وللإلحاد على الإسلام وثأرًا للملاحدة من المسلمين

وشبهة في حزب الأحرار الدستوريين تجرئ سائر الملاحدة على الطعن في الدين

وأنه لم يبق بين أتباع الحكومة المصرية خطوات الحكومة التركية الحاضرة إلا قليل

ولا أقول أكثر من هذا ولا حاجة إلى قول يعرفه جماهير المفكرين من شرقيين

وغربيين لا من المصريين وحدهم.

ولكن يمكنني مع هذا أن أقول: إن الحزب الحر الدستوري في جملته مغبون

ومظلوم في جعل جريدة السياسة لسان حاله في كل ما تنشره خارجًا عن الخطة

السياسية الوطنية للحزب كالحملة على الدين ورجاله ودعوتها إلى تجديد الأمة

المصرية بثقافة جديدة تحل روابط الثقافة الإسلامية وتحل محلها فإننا

نعرف من أعضائه المسلمين الصادقين المصلين الصائمين بل ربما كان في

أعضائه من يكره كثيرًا مما نشرته في سبيل سياسة الحزب أيضًا، وأقول أيضًا:

إن ما أشرت إليه من سبب نضال صاحب الدولة عدلي باشا لمجلس النواب هو

المعقول دون ما قيل وما انتشر من كون المراد به الدفاع عن طه حسين وكتابه

وأقول ثالثًا: إن صاحب الدولة ثروت باشا لا يعقل أن يكون قد استشير في

تصدير كتاب (في الشعر الجاهلي) باسمه أو أنه رضي بذلك على علم بما

في الكتاب.

ثم أقول رابعًا: إن النيابة العامة إذا قررت عدم محاكمة طه حسين، وإن

القضاء إذا برأه بعد محاكمته من عقاب الطعن في الدين وتكذيب القرآن وكذا التوراة

فلا يكون هذا ولا ذاك برهاناً منطقيًّا ولا قانونيًّا على تعمد نصر القضاء الكفر علي

الإيمان والإلحاد على الإسلام؛ لأن كلاًّ من رجال النيابة والقضاء المشتركين في هذه

القضية قد ينظرون ويحكمون بمقتضى الألفاظ التي يقولها الخصوم في مجالس

التحقيق والمحاكمة وقد يغفلون عن كون كلام طه حسين ووكلائه مخالفًا لكل ما فهمه

رجال الدين وجماهير المسلمين والغربيين في كتاب الدكتور طه حسين، وعن كون

فهم هؤلاء الجماهير يجب أن يكون له قيمة، بل أكبر قيمة في إدانته، فإن العبرة أو

العمدة في إثبات طعنه في الدين وإهانته له بما يفهمه جماهير الناس منه لا بما يمكن

أن يقال في تأويل الكلام والجدال فيه، وقد فهم العرب والإفرنج جميعًا أن الكتاب

طعن صريح في القرآن والنبي وسلف المسلمين الصالحين وأئمتهم، ونكتفي بنشر

برقية واحدة مما جاء من أوربة في ذلك.

***

رأي أوربة

في قضية الدكتور طه حسين

لندن في أول نوفمبر لمراسل الأهرام الخاص نشرت جريدة (الدايلي تلغراف)

اليوم مقالاً رئيسيًّا جاء فيه ما يأتي:

(ليس في العالم دين لا يوجد بين معتنقيه عدد من الهراطقة، فالدكتور طه

حسين رجل جسور فلا بد أن ينال جزاءه بالاضطهاد؛ فمن ينتقد القرآن فهو كافر؛

لأن القرآن منزل بحروفه، وهذا يعني أن الوحي لا يقتصر على ما يقوله القرآن،

بل يشمل أيضًا معنى ذلك القول كما فسره المفسرون القدماء، ثم إن المسلم المتمسك

بدينه يود أن يذهب إلى أبعد من الإيمان بوحي القرآن ويريد من الكتاب أن يكون

الحجة الفاصلة في الأدب العربي وينكر على كل إنسان أنه يستطيع الإتيان بمثل

لغته العالية؛ فمن الصعب على العقل الغربي أن يقبل هذا على أن المؤمنين أنفسهم

قد يجدون مثل هذه الصعوبة؛ فقد سأل اثنان من الصحابة النبي مرة كيف يقرأ آية

قرأها كل منهما قراءة مناقضة للأخرى فأجاب: إن القرآن أنزل عليه بسبع قراءات

ويظهر أن النبي لم يكن هو نفسه يكتب القرآن بل أنزل عليه بواسطة جبريل ثم

توقفت هذه البلاغات المكتوبة المرسلة من السماء وجعل النبي يتكلم بصوت الوحي

والصحابة يكتبون ما يقول، وقد نبه مرة إلى إحدى الآيات قائلاً: إنها وحي من

الشيطان فنسخت.

ليس في العالم عقيدة يسهل الدفاع عنها إذا شاء الناقدون البارعون تفنيدها

أمام جمهور يميل إلى النقد ومع ذلك فإذا لم يكن الوحي هو القوة التي جعلت

للقرآن ذلك السلطان، فما هي تلك القوة؟ لقد أوجد القرآن أحد الأديان العظمى التي

يعتنقها الجنس البشري وهو منذ ألف سنة من أعظم القوى الموجودة في العالم) اهـ.

***

(المنار)

اقتصرنا على هذه البرقية؛ لأن صاحب الجريدة الإنكليزية زاد على وصف

طه حسين بالهرطقة (يعني محاربة الدين) إن أيده في هرطقتة بأمور نشيرإلى

تخطئتها بالإيجاز، وشهدَ للقرآن شهادة معقولة نصفع بها وجوه الملاحدة

ودعاتها الذين يحاولون سلب هذه القوة من المسلمين والذين لا يفقهون

سر إعجاز القرآن فنقول:

1 -

إن الكاتب الإنكليزي علل كفر من ينتقد القرآن بأنه منزل بحروفه

وأستنبط من هذا أن تفسير القدماء للقرآن يدخل في معنى الوحي ومراده، أن من

ينتقد تفسير المتقدمين كان كافرًا كالذي ينتقد عبارة القرآن المنزلة يشير إلى أن طه

حسين قد يضطهد بمخالفته لتفسير قدماء العلماء وكأنه يلقنه بذلك نوعًا من أساليب

الدفاع.

وجوابه أن هذا خطأ كبير، فإنه لم يقل أحد من علماء المسلمين وأئمتهم إن

تفسير أحد من القدماء له حكم نص القرآن نفسه وكثيرًا ما نرى متأخري المفسرين

يخالفون بعض المتقدمين في تفاسيرهم حتى مفسري الصحابة منهم. نعم، إن

إجماع أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين على تفسير آية معتبر من أدلة

الشرع الواجب اتباعها، ولكن مخالفه لا يعد كافرًا إلا إذا كان أمرًا معلومًا من الدين

بالضرورة، وكان المخالف غير حديث عهد بالإسلام أو كان قد علم به وكذبه أو جحده

فالمدار في التكفير على اعتقاد المخالف أن هذا من قطعيات الدين المنصوصة في

القرآن ومخالفته أو جحوده مع ذلك.

2 -

قال: إن المتمسك بدينه يود أن يذهب إلى أبعد من الإيمان بوحي

القرآن

إلخ، وجوابه أن كل من قرأ القرآن أو سمعه من أهل المعرفة الصحيحة

باللغة العربية والذوق السليم في آدابها من المسلمين وغير المسلمين كانوا وما زالوا

يؤمنون بما ذكر الكاتب الإنكليزي من خصائص المسلم المتمسك بدينه وهو أن القرآن

هو الحجة الفاصلة في الأدب العربي، وأنه لم يستطع ولن يستطيع أحد

الإتيان بمثل لغته العالية ولا نسلم للكاتب قوله: (إن العقل الغربي يصعب عليه أن يقبل هذا فضلاًعن قوله: إن المؤمنين أنفسهم قد يجدون هذه الصعوبة. وذلك

أن العقل الغربي السليم لا يمكن أن يحكم في أمر لا يعرفه وهو ليس محالاً

لذاته) .

من المنصوص في القرآن والمعروف بالتواتر الإجماعي من تاريخ الإسلام أن

النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدى عرب قريش وهم أفصح العرب لغة، ثم

تحدى سائر الخلق بالإتيان بمثل القرآن أو بسورة من مثله، وجعل هذا

آيته الكبرى على كونه وحيًا من الله، وصرح بأنهم لن يستطيعوا ذلك فقال حاكيًا

عن الله تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُواْ} (البقرة: 24) فلو قدر أحد من الكافرين به وكان

أكثرهم كافرين أن يأتوا بسورة من مثله لأتوا بها لإبطال دعوته والاستراحة من

تعادي القبائل بمقابلته، ولكن ظهر عجزهم وعجز جميع الخلق عن الإتيان بسورة

من مثله في بلاغته وهم عن الإتيان بمثله في هدايته أعجز، فهذا النوع من

إعجازه قد اعترف به الكاتب الإنكليزي وغيره من الغربيين ولكنه امترى في

إعجازه ببلاغته؛ لأنه لا يعرف لغته فهذا العجز حجة للمسلمين الذين يعرفون البلاغة

العربية والذين يجهلونها من الأعاجم وعوام العرب على إعجاز القرآن وصدق وعد

الله عز وجل وهي حجة واقعية قطعية لا يمكن المراء والجدل فيها ولا مجال هنا

للزيادة على هذا وقد بسطناه في مواضع من التفسير وغير التفسير.

3 -

زعمه أن اثنين من الصحابة رضي الله عنهم سألا النبي - صلى الله

عليه وسلم - مرة كيف يقرأ آية قرأها كل منهما قراءة مناقضة للأخرى؟ فأجاب: إن

القرآن نزل عليه بسبع قراءات.

هذا النقل أو الزعم باطل وله أصل حرفه، أو لم يفهمه الناقل كدأب خصوم

الإسلام فيما ينقلون عنه، ونحن نذكر أصله الصحيح؛ ليعلم من يريد العلم الحق كيف

يكون الاختلاف والتحريف.

أقول:

أولاً: إن القرآن بالسبعة الأحرف وردت في حديث مستقل غير حديث

اختلاف بعض الصحابة في القراءة فقد روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن

عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرأني

جبريل على حرف فلم أزل أستزيده ويزيد لي حتى انتهى إلى سبعة أحرف، وفي

بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له هون على أمتي وإن

أمتي لا تطيق ذلك كما في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب، وهذه علة

منصوصة في سبب تعدُّد القراءات تنافي أن تكون لتصحيح ما اختلف فيه بعض

الصحابة.

ثم أقول عنهما: إن الاختلاف وقع بين عمر بن الخطاب وحكيم بن هشام رضي

الله عنهما في بعض آيات سورة الفرقان كما في الصحيحين وكل منهما ادَّعى أن

النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه كما قرأ، فلببه عمر بردائه وأخذه إلى النبي -

صلى الله عليه وسلم وقص عليه ما سمعه منه مخالفًا لما أقرأه - صلى الله عليه

وسلم - فصدق كلا منهما بأنه هو الذي أقرأه كما قرأ، وقال: إن هذا القرآن

أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ووقع مثل ذلك لغيرهما، ولم يذكر

أحد من الرواة ما اختلف فيه عمر وهشام فمن أين أخذ هذا الإنكليزي قوله: إن

قراءة كل منهما كانت مناقضة للأخرى؟ هذا إذا كان قد عبر بما يدل على المناقضة

المعروفة في اللغة العربية أو اصطلاح علماء المناظرة عندنا. فأما إذا كان تعبيره

بمعنى المخالفة التي تصدق باللفظية بحيث لا ينقض معنى كل قراءة معنى

الأخرى؛ فيكون كلامه صحيحًا، وفي الفرقان ألفاظ كثيرة اختلف القراء في

قراءتها منها المتواتر الذي يعد قرآنا ومنها غيره وهو لا يعد قرآنا فالأول

كقراءة: {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} (الفرقان: 10) بضم لام (يجعل) وبجزمها

وقراءة (ضيقًا) من قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً} (الفرقان: 13)

بتخفيف الياء وبتشديدها وأمثال ذلك مما لا يتناقض معناه.

4ـ قوله: ويظهر أن النبي لم يكن هو نفسه يكتب القرآن

إلخ وهذا لا

يحتاج إلى استنباط منه أو استظهار فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أميًّا وأميته

من دلائل نبوته لا يكتب شيئًا وإنما كان يكتب له أصحابه كل ما يوحى إليه به

ويحفظونه ويقرءونه كما يقرأه صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس وفي

خارجها كل يوم والذين اختلفوا من الصحابة في بعض الألفاظ من سورتي الفرقان

والنحل سمعه بعضهم من بعض في الصلاة.

5 -

قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه نبه مرة إلى إحدى الآيات

قائلا: إنها وحي من الشيطان فنسخت غير صحيح، وهذه هي المسألة المعروفة

بمسألة الغرانيق، وقد كتب شيخنا الأستاذ الإمام مقالاً مسهبًا في تحقيق الحق فيها

يراجعه من شاء في المجلد الرابع من المنار، أو في ملحقات تفسير الفاتحة

المطبوع مرارًا.

6 -

قوله: (ليس في العالم عقيدة يسهل الدفاع عنها)

إلخ، هذا نفي مطلق

لا يجزم به عقل منطقي، فالدفاع عن وجود الله، ووحدانيته وحكمته من أسهل الأمور

وقد جزم بها أكثر البشر من جميع الملل والنحل والمنكرون لها على قلتهم لم يسمعوا

براهينها من أهل العلم الصحيح ومن سمع ذلك ومارى فيه فشأنه كشأن

السوفسطائية الذين أنكروا الحسيات وماروا فيها فلا يعتد بإنكارهم إذ مقتضاه أنه لا

يثبت في العالم شيء وهذا جهل ما وراءه جهل.

وأما شهادة الكاتب الإنكليزي التي حمله استقلال عقله على التصريح بها فهي

أن سلطان القرآن الروحي الذي حدث به ذلك الانقلاب العظيم في البشر وأوجد أحد

الأديان العظمى فيهم، وهو منذ ألف سنة ونيف من أعظم القوى الموجودة في العالم

إذا لم يكن هذا السلطان، وهذه القوة قوة الوحي الإلهي وسلطانه فأي شيء هما؟ وهذا

بمعنى ما قلناه وكتبناه مرارًا، وهو أن إعجاز القرآن بهدايته أعظم من إعجازه

ببلاغته وقد صرح بمعناه غير هذا الكاتب من حكماء الغرب.

إننا نكتفي في هذه المقالة بل العجالة بتنبيه الأذهان لخطر هذا الكتاب وأمثاله

من مكتوبات الدكتور طه حسين وإخوانه دعاة الإلحاد وأوليائهم وندع الرد علي

قضايا كتابه في الشعر الجاهلي أو الأدب الجهلي إلي الذين وجدوا من فراغ الوقت

ما شغلوه بالرد على قضاياه الباطلة وشبهاته العاطلة ووجه الخطر أنه دعوة إلي

الكفر والإلحاد وتحقير الدين والصد عنه ولا سيما في نابتة المدارس العليا وغيرهم

ونحن ما زلنا نذكر الأمة بخطر هؤلاء، وضررهم منذ بلغنا أنهم ألفوا جمعية

للتعاون على إفساد الدين في مصر، وكان أول من بلغنا هذا الخبر بعد وقوفه عليه

المرحوم الشيخ محمد مهدي أحد أساتذة البلاغة والدين في دار العلوم ثم في مدرسة

القضاء الشرعي التي صار وكيلاً لها ثم بلغنا في العام الماضي أن لهم أو لبعضهم

صلة خفية بجمعية يهودية في مصر الجديدة تساعدهم على سعيهم هذا والله أعلم.

ولا شك عندنا في أن هذا الإفساد هو أفعل أسباب ما يتفاقم خَطْبه في بلادنا هذه

من تهتُّك النساء والشبان واستباحة الأعراض وانحلال روابط البيوت وذهاب

الصحة والثروة، وكذا الاستعداد لقبول تعاليم البلشفية وغيرها من بدع الإفرنج التي

لا تقوي بنية دولتنا، ولا بنية أمتنا الاجتماعية والعلمية بدون الدين على ما تقوي

عليه من أحمالها بنى دول أوربة، وشعوبها بعلومها ونظمها وقومها العسكرية، فإن

قيل: إن الدكتور طه حسين قد صرح حين أتهم بهذه التهمة بأنه يؤمن بالله وملائكته

وكتبه ورسله، قلنا: إن مثل هذا التصريح المجمل المبهم في مقام دفع التهمة لا

يسلب منا لغتنا ولا عقولنا فتغير فهمنا لكتابه هذا وغيره من مكتوباته ومقالاته.

أهكذا يكتب المؤمنون؟ يضعون كلام الله المنزل موضع الشك، بل ينظمونه في

سلك الأساطير الخرافية، ثم ينقضونه بنظريات مخترعة لبعض أعداء الإسلام الإيمان

بكتب الله هو التصديق اليقيني بكل ما أنزله الله تعالى فيها مع الإذعان النفسي

والعملي له، فكيف يصدر عن صاحب هذا الإيمان ما ذكرناه وما لم نذكر من

تشكيك في القرآن، فتكذيب مقرون بالهزؤ؟ فترجيح لمطاعن أعدائه فيه على

نصوصه.

الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم هو تصديقه اليقيني القطعي في كل

ما جاء به عن الله تعالى، مع الإذعان النفسي والعملي لذلك، وهو يقتضي تعظيمه،

وتوقيره، وتعزيزه أي نصره، وتفخيمه، وتقديم حكمه على كل حكم وإننا نرى

له في هذا الكتاب ما نرى من التكذيب والهزؤ، ونراه إذا ذكر النبي الذي يدعي

ملته، فإنما يذكره كما يذكره الكافرون به بلا تعظيم، ولا صلاة، ولا سلام عليه،

قد كان يمكن لطه حسين أن يذكر شبهات أعداء الإسلام على بناء إبراهيم وإسماعيل

لبيت الله تعالى مثلاً بطريق الحكاية عنهم، وكان من مقتضى الإيمان أن يقفي عليها

بالرد، أو يجري فيها على قاعدته التشكيك على الأقل أو يقول: هذه نظريات مردودة

عندنا معشر المسلمين، أو عند المسلمين إذا لم يشأ أن يعد نفسه منهم بنص القرآن

الصريح الذي وصف في بعض سوره بأنه {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ

خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) ولكنني لم أر فيما قرأت من

الكتاب جملة تدل على أن كاتبه مسلم أو يدين بدين، وسأعود إن شاء الله تعالى إلى

النظر فيه؛ فإن وجدت شيئًا من ذلك أثبته له.

وصفوة القول فيه أنه لو لم يكن قاصدًا متعمدًا متوخيًا تجريد تلاميذه من دينهم

ووطنيتهم لادخر هذه الفلسفة لنفسه دونهم، وإن شاء ربي عليها أولاده الذين سماهم

بأسماء الإفرنج دون أسماء المسلمين عداوة لهذه اللغة وهذا الدين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 619

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جهل زعماء المسلمين

ومفاسد أهل الطرق والشرفاء

وكونهما سببًا لفشل زعيم الريف المغربي

إن أهل الطرق المنتسبين إلي الصوفية قد أفسدوا على عامة المسلمين في

الشرق والغرب دينهم ودنياهم وكان إفسادهم في أفريقية أشد منه في أسية ولم يكفهم

تشويه الإسلام بالبدع الذي يعد كثير منها ارتدادًا، عن الإسلام بل صاروا أعوانا

للفاتحين السالبين لملك المسلمين وأولياء لهم على المسلمين وقد بلغنا من رواية الثقة

من أهل المغرب الأقصى أن بعض مشايخ الطريقة التيجانية الزائغة وغيرها

كانوا أكبر أعوان الأجانب على الزعيم محمد عبد الكريم في قتاله لدولتي أسبانية

وفرنسة في الريف، ثم قرأنا في جريدة الشورى الأسبوعية حديثًا له في معتقله نشر

في بعض الجرائد الغربية، وهو كما يدل على فساد مشايخ الطرق وإفسادهم يدل

على جهل في الزعيم كان سبب فشله وانتصار المشايخ فالأجانب عليه؛ فبعض

الحديث حجة له وبعضه عليه قال:

حديث محمد عبد الكريم

أردت أن أجعل الريف بلادًا مستقلة كفرنسة، وأسبانية، وأن أنشئ فيها دولة

حرة ذات سيادة، لا إمارة خاضعة لأحكام الحماية، أو الوصاية فحاولت في بدء

الأمر أن أفهم موطني أنهم لا يستطيعون البقاء إلا إذا كانوا متضامنين كالبنيان

المرصوص وعملوا بصدق وإخلاص على تأليف وحدة قومية من القبائل المختلفة

الأهواء والنزعات؛ أي إني أردت أن يشعر مواطني بأن لهم وطنًا كما لهم دين.

انتقدني المنتقدون كثيرًا لأني في مفاوضات (وجدة) طلبت بإلحاح تحديد معنى

الاستقلال؛ فإن هذا التحديد كان ضروريًّا جدًّا؛ لأن غرضنا كان الاستقلال الحقيقي

الذي لا تشوبه شائبة الاستقلال الذي يكفل لنا الحرية التامة في تعيين مصيرنا،

وإدارة شؤوننا الاستقلالية، وعقد الاتفاقات والمحالفات التي نراها موافقة لنا.

وكنا أنا وأخي أطلقنا على بلادنا اسم (جمهورية الريف) منذ سنة 1923م

وطبعنا في فاس أوراقًا للحكومة عليها هذا الاسم لدلالة على أننا دولة مؤلفة من

قبائل مستقلة متحالفة لا دولة نيابية ذات برلمان منتخب، أما اسم الجمهورية فلم

يكن ليتخذ معناه الحقيقي في نظرنا إلا بعد مدة من الزمن؛ لأن جميع الشعوب

تحتاج حين تأليفها إلى حكومة حازمة وسلطة قوية ونظام قومي متين.

ولكن لسوء الحظ لم يفهمني غير أفراد قلائل يعدون على أصابع اليدين بل

كان أخلص أنصاري وأكثرهم علمًا، وذكاء يعتقدون أني بعد إحراز النصر سأترك

لكل قبيلة حريتها التامة مع علمهم بأن ذلك يعيد البلاد إلى أشد حالات الفوضى

والهمجية.

وكان التعصب الديني أعظم أسباب فشلي، إن لم أقل: إنه سببه الوحيد؛ لأن

مشايخ الطرق أعظم نفوذًا في الريف منهم في المغرب الأقصى وفي سائر بلدان

الإسلام وكنت عاجزًا عن العمل من دونهم ومضطرًّا إلى التماس مساعدتهم كل حين،

وقد حاولت في أول الأمر أن أستميل الجماهير إلى رأيي بالحجج والبراهين،

ولكني صادفت مقاومة عظيمة من الأسر الكبيرة ذات النفوذ إلا أسرة (خملاشة)

التي كان رئيسها صديقًا قديمًا لوالدي وأما الباقون فقل كانوا أعداء لي، ولا سيما بعد

ما أنفقت من أموال الأوقاف لشراء معدات الحرب؛ فإنهم لم يفهموا أن الأموال لا

يمكن أن تصرف على مشروع أشرف من مشروع استقلال البلاد.

ولا أنكر أني اضطررت في بعض الأحوال إلى استخدام الشعور الديني لتأييد

سياستي ، مثال ذلك أن الأسبانيين بعدما احتلوا أجدير أكرهوا على الجلاء عن قسم

منها كان فيه مسجد لم يحترموه بل جعلوه إصطبلاً فلما بلغني ذلك أمرت ثلاثة من

القواد المشهورين بالورع والتقوى أن يحققوا الأمر بأنفسهم وقد ضاعف عملي هذا

حماسة المحاربين وزاد تعلقهم بي وبقضيتي.

والحقيقة أن الإسلام عدو التعصب والخرافات، وأنا أعرف من قواعده ما

يجعلني أؤكد للملأ أن الإسلام الذي أعرفه في المغرب والجزائر بعيدًا جدًّا عن

الإسلام الذي جاء به النبي العظيم فإن الذين ادعوا خطأ أو صوابًا أنهم من تلك

السلالة الطاهرة وجهوا كل اهتمامهم إلى اكتساب عطف الشعب على أشخاصهم

الفانية، وأقاموا أنفسهم أصنامًا يعبدها الجهلاء وأنشئوا طرقًا دينية حولوها إلى جيش

منظم لخدمة أغراضهم الشخصية مع أن الإسلام أبعد ما يكون عن تقديس الأشخاص

؛ لأنه يأمر بالإخاء، والاتحاد في وجه العدو ويحض على الموت في سبيل الحرية

والاستقلال؛ ولكن مشايخ الطرق ورؤساء الدين عبثوا بكتاب الله وسنة رسوله

إرضاء لشهواتهم وسدًّا لأطماعهم ولم يشتركوا في الثورة بحجة أن

القتال في سبيل الوطن لا يعنيهم وأنهم لا يقاتلون إلا في سبيل الدين.

وقد أفرغت قصارى جهدي لتحرير بلادي من نير مشايخ الطرق هؤلاء الذين

هم عقبة في سبيل كل حرية واستقلال، وكانت خطة تركيا قد أعجبتني كثيرًا لعلمي

بأن البلدان الإسلامية لا يمكن أن تستقل ما لم تتحرر من التعصب الديني وتقتدي

بالشعوب الأوربية، ولكن الريفيين لم يفهموني لسوء حظي وحظهم حتى إن قيامة

المشايخ قامت عليّ؛ لأني خرجت في إحدى الأيام بلباس ضابط على أني لم أعد

إلى مثل هذا العمل فيما بعد.

وكان مشايخ الطرق ألد أعدائي وأعداء بلادي كما تقدم فلم يحجموا عن شيء

في سبيل إحباط مسعاي حتى أذاعوا في طول البلاد وعرضها أني أريد الاقتداء

بتركيا وأن ذلك يقضي حتمًا بتغيير عادات البلاد وتقاليدها وإطلاق حرية المرأة

فتخرج سافرة بالبرنيطة وتلبس كنساء الإفرنج، وتقلدهن في عاداتهن إلى غير ذلك

مما عزوه إليّ وقد أقنعتني دسائس هؤلاء المتعصبين الجهلاء بأن التطور في كل

بلاد لهم فيها نفوذ قوي لا يمكن أن يتم إلا ببطء وبالالتجاء إلى القوة والعنف.

ويجب أن أعلن هنا أني لم أجد في الريف أقل عضد في مساعي الإصلاحية

وأن فريقًا قليلاً من سكان فاس والجزائر فهموني وأيدوني ووافقوا على خطتي لأنهم

على احتكاك بالأجانب ولأنهم يعرفون أين هي مصلحة بلادنا الحقيقية.

وخلاصة القول: أني جئت قبل الأوان للقيام بمثل هذا العمل ولكني موقن بأن

آمالي ستحقق كلها عاجلاً أو آجلاً بحكم الحوادث وتقلبات الأحوال. اهـ كلامه

(المنار)

قد شهد الزعيم المغربي على نفسه بأنه لم يدر كيف يسوس قومه فهو كما

استفاد من خدمة الدولة الأسبانية ما علم به كيف يدير حركة الدفاع عن بلاده إدارة

فنية عصرية زادت قيمة شجاعة قومه أضعافًا قد فتن بظواهر الحضارة الأوربية

حتى إنه أراد أن يقلدها فيما يضعف قوة قومه الروحية ويحل روابطهم الملية

ويستبدل بهما ما يسمى بالرابطة، أو الحمية الوطنية، أي أراد أن يقتدي بالأتراك

الكماليين اللادينيين فيما لا يدركه ولا يستحسنه غيره هو في وطنه جاهلاً، وإن

الترك ما أقدموا على هذا الخطب العظيم بعد الاستعداد له زهاء قرن كامل، ولولا

أن أكثر رؤساء الجند الكبير المنظم الحاملين للسلاح على رأي مصطفي كمال لما

استطاع أن ينفذ هذه الخطة في هذا الشعب الإسلامي مع تمهيد جمعية الاتحاد

والترقي السبيل له ومع هذه يرى البلاد قد ثارت عليه وحاولت اغتياله مرارًا.

إن ما سماه محمد عبد الكريم تعصبًا دينيًّا، وذمه ولم يجد وسيلة لقمعه إلا

تقليد الترك الكماليين ليس تعصبًا للدين بل هو جهل لا يداوى بقمع القوة بل بنشر

العلم وكان يجب عليه تأجيل ذلك إلى ما بعد نيل الاستقلال وكان يمكن للزعيم أن

يعبر عن قتاله بأنه قال: في سبيل الله لأن الشرع يأمر به والنصوص على ذلك

في جميع كتب الفقه صريحة ولكنه قصر لقلة اطلاعه على كتب الشرع وانخداعه

بإمكان جعل الوطنية مكان الدين وجهله بإمكان الجمع بينهما، وقد كان هذا أهم ما

ينقصه من صفات الزعيم الحاكم لبلاد إسلامية، والدليل على جهله هذا إعجابه

بخطة الترك الذين أضاعوا أعظم سلطنة في الأرض بجهلهم ما يحتاج إليه من

يسوس الشعوب الإسلامية في هذا العصر، وافتتانهم بما رباهم عليه وأقنعهم به

الإفرنج، وصاروا إمارة صغيرة تحيط بها الأخطار من كل جانب وسنرى ما يكون

من أمرهم في أنفسهم، ومع الأجانب فإن أول خطأ ظهر لهم في نبذ الشرع

الإسلامي وانتحال التشريع الأوربي وليس البرنيطة أنهم كانوا يظنون أن أوربة

تعاملهم بهذا معاملة الأقران والأمثال وأنها لم تكن تناولهم إلا لتمسكهم بالإسلام فبدأ

منهم ما لم يكونوا يحتسبون.

_________

ص: 630

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحجاز والمؤتمرات الإسلامية

في الهند وجاوة

ألفت في الهند منذ بضع عشرة سنة جمعية إسلامية سميت جمعية خدام الكعبة

كان من مقاصدها الأساسية الدعاية للسياسة التركية وجعلت اسم خدمة الكعبة حجابًا

لها دون حكومة الهند وقد هتك جورج فيلبيدس الذي كان رئيس البوليس السري

بمصر حجابها للدولة البريطانية في أثناء الحرب فطاردتها فانحل عقدها وخلف

من بعدها جمعيتان جهريتان إحداهما سياسة تركية وهي جمعية الخلافة المناوئة

للسياسة البريطانية وجمعية خدام الحرمين الموالية لحكومة الهند والدولة البريطانية

كجمعية الديانة المسيحية القاديانية الملقبة بالأحمدية.

أما جمعية الخلافة ففيها أساطين رجال الهند وهي أقوى جمعيات المسلمين فيها

وسنتكلم عنها في مقال خاص عند سنوح الفرصة وأما جمعية خدام الحرمين فأكثر

أعضائها من الحشوية وطلاب المنافع المادية وأنصار البدع والخرافات، ولما

تصدت جمعية الخلافة للانتصار للسلطان ابن السعود كجمعية أهل الحديث على

الملك حسين بن علي لإلحاده في الحرم، وخدمته مع أولاده للسياسة الأجنبية

وموالاتهم لها قامت جمعية خدام الحرمين بمشايعة الملك حسين ثم ولده الشريف علي

وكان المحرك لها من وراء الدسائس السياسية حزب الشيعة المناوئين للنجديين

لاعتصامهم بالسنة اعتقادًا وعملاً؛ ولأنهم من العرب الخلص وقد أرسلت هذه

الجمعية وفدًا إلى الحجاز لبث الدسائس والفتن فيه وذلك قبل موسم الحج الماضي؛

فعاملهم ابن السعود أولاً بالحلم وسعة الصدر ولما علم بدسائسهم وفتنهم وسوء نيتهم

طردهم من الحجاز فجاءوا مصر ونشروا في المقطم وغيره طعنًا شديدًا فيه،

وكراسة ذكروا فيها من قصصهم أنهم سألوه أسئلة كثيرة كلفوه أن يجيبهم عنها كتابة

وهي متضمنة لاتهامه واتهام قومه بالجرائم كأنهم قضاة يحققون قضايا جنائية من

رعية دولتهم، يطلبون من الملك أن يعترف بها؛ أو يبرئ نفسه منها ومتضمنة

أيضًا للبحث عما عنده من الأسلحة وعن أمكنتها كأنهم مجلس أركان حرب يحاكم

قائدًا من القواد التابعين له على تهم وخيانات عسكرية فأي صعلوك من صعاليك

الناس يرضى لنفسه أن يقف أمام هؤلاء الأجانب الفضوليين هذا الموقف الذي

أرادوا أن يقفه ملك الحجاز وسلطان نجد بين أيديهم، ثم رجع هذا الوفد إلى الهند

وقوي اتحادهم بشيعة لكهنو، وقد ألفوا فيه ربيع الأول الماضي مؤتمرًا في بلدهم

لكهنو بإرشاد حزب الشيعة افتروا فيه الكذب واختلقوا الإفك على ملك الحجاز

وسلطان نجد والنجدين كعادتهم وأرسل رئيس الجمعية برقية بقراراته إلى نقابة

الصحافة بمصر وإلى سائر الأقطار ننقلها عن جريدة كوكب الشرق تعليقها عليها من

العدد الذي صدر في 27 ربيع الأول الماضي وهذا نصهما:

قرار غريب حول الحجاز

تلقت نقابة الصحافة المصرية التلغراف الآتي ليل أمس من لوكنو (الهند) .

(اجتمع مؤتمر الحجاز الذي يمثل جميع طبقات مسلمي الهند في لوكنو

تحت رئاسة (سالبهوي باروداوال) شريف بومباي ووضع قرارات خطيرة سجل

فيها استياءه العظيم من أعمال النجديين كتدمير المقامات والآثار القديمة والاعتداء

على المسلمين الأبرياء من رجال ونساء وصرح أن المسلمين عازمون على اتخاذ

جميع التدابير الممكنة لإخراج ابن السعود من الحجاز الذي لا يحق له أن يحكمه،

ولا سيما بعد هذه الأعمال.

ومن جملة القرارات التي وضعها المؤتمر قراران ينص أحدهما على وضع

نظام للحجاز يقبله الحجازيون ويرضي روح العالم الإسلامي وينص الثاني على

تنفيذ الشرع ومبدأ حق تقرير المصير.

واحتج المؤتمر في قرارات أخرى على تجريد حكومة نجد للحجازيين من

السلاح، وأعرب عن عدم استطاعة مسلمي الهند أن يساعدوا في أي مشروع كتمديد

الخطوط الحديدية وما أشبه ذلك في ظل النظام الحالي.

وقرر المؤتمر وقف الحج (!) ؛ لأن النجديين يعدون جميع المسلمين من

غير الوهابيين كفارًا أبيحت لهم أموالهم وأرواحهم ونصح المؤتمر لجميع البلدان

الإسلامية أن تفعل مثل ذلك وتساعد الحجازيين المتألمين، وقرر أن يؤلف وفدًا من

كبراء المسلمين يطوف المراكز الإسلامية الكبرى لهذه الغاية.

...

...

...

...

قطب الدين

...

...

...

رئيس جمعية خدام الحرمين

(الكوكب) ونحن نقول: إن هذا القرار لم يكن له محل ولا مكان بعد البيان

الرسمي الذي أذاعه جلالة ملك الحجاز بشأن المقامات الدينية في مكة المكرمة

وإنصافًا للحقيقة نعيد اليوم نشر هذا البيان بنصه وهو نشر بعض المرجفين أن في

النية هدم القبة النبوية؛ لذلك انشروا باسمنا أن كل ما يقال من العزم على هدم القبة

النبوية كذب لا أصل له، والقبة الخضراء وقبر الرسول في حفظ وأمان بحول الله

وإنا لنفديها بأموالنا وأولادنا وأنفسنا ولا يمكن أن يصيبها أذى وفينا عرق ينبض

كذلك جميع قبور الصالحين نحافظ عليها ونحترمها ونصونها من كل أذى ونرى ذلك

دينًا نعاهد الله عليه.

...

...

... ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها

...

...

...

...

عبد العزيز

وإنما ردت عليهم صحيفة كوكب الشرق بالبرقية الرسمية التي نشرها ملك

الحجاز لظنها أنهم يعتقدون صحة ما رموه بها، وأنهم سيرجعون عنه بعد علمهم

ببرقية الملك؛ لذلك كتبنا مقالاً نشرناه في جريدة البلاغ بينا فيه حقيقة هذه الجمعية

وما جاء في جرائد الهند من كون مؤتمرها قد ألف بأمر وسعي ومال زعيم الشيعة

الأكبر (راجا محمود آباد) ، وأن هذا المثري الكبير قد جمع من ماله وأموال

أغنياء الشيعة في الهند مبلغًا كبيرًا من المال لأجل بث الدعوة في الهند

وأفغانستان وغيرها من البلاد لإقناع عوام أهل السنة بترك فريضة الحج ما دام ابن

السعود ملكا على الحجاز والسعي لإقناع أمراء المسلمين وملوكهم بالاتحاد مع دولة

إيران الشيعية لإخراجه من الحجاز واستأجر (الراجا) هذه الجمعية لبث

الدعوة وكان هذا أول عملها، ولكن لم يحضر مؤتمرها أحد من كبار أهل السنة ولا

من جمعياتهم ولولا الغرور بالمال لما تجرأت جمعية حقيرة في وطنها على التصريح

بعزم (المسلمين) على اتخاذ جميع التدابير الممكنة لإخراج ابن السعود

من الحجاز.

ولما رأى المهراجا عظيم الشيعة أن هذا المؤتمر كان هزؤًا وسخرية

للمسلمين سعى إلى عقد مؤتمر آخر في بمبي كانت عاقبته شرًا من عاقبة المؤتمر

الأول وهاك نص البرقية التي جاءتنا وجاءت نقابة الصحافة في أمره وهذه ترجمتها:

***

مؤتمر الحجاز الهندي

(ختم المؤتمر المسمى مؤتمر الحجاز الهندي أعماله في 26 سبتمبر الماضي

ولم تشترك فيه قط أية هيئة إسلامية مهمة كلجنة الخلافة المركزية وجمعية علماء

الهند وجمعية أهل الحديث ولجنة حماية الإسلام ومؤتمر التعليم الهندي العام في

البنجاب ومعاهد عليكره الإسلامية المهمة وإنما حضره الزعيمان محمد علي وشوكت

علي بصفتهما الشخصية وقد تمت جميع إجراءات المؤتمر طبقًا لتعليمات ورغائب

عميد الشيعيين في لكنو (مهراجا محمود آباد جهانكير باد) وبعض العلماء

الإيرانيين وعرضت رياسة المؤتمر على كثيرين من مشاهير زعماء المسلمين فلم

يقبلها أحد منهم وقبلها (صالح بهائي بارودا ولا) وهو شيعي من بهرة غير

معروف لا في عالم الدين ولا في عالم السياسة.

(وقد احتج المؤتمر على وجود السلطان ابن السعود في الحجاز ومن الخطط

المحزنة التي اقترحت نشر الدعوة لمقاطعة الحج فأسف لهذا العمل البعيد عن روح

الإسلام جميع كبراء الساسة ورجال التعليم والمعرفة وعدوه غير قابل للتطبيق

ومناقضًا للحكمة السياسية وضربة في صميم الوحدة الإسلامية) .

...

...

...

... إسماعيل الغزنوي

...

...

...

... من أعضاء لجنة الخلافة

مؤتمر جمعية الخلافة المنتظر:

وستعقد جمعية الخلافة مؤتمرًا في لكهنو أيضًا يبحث في مسألة الحجاز

ومؤتمره وسيكون الزعيمان محمد علي وشوكت علي فيه خصومًا لملك الحجاز فيما

يظهر لنا ونحن نعتقد أن جميع رجال الإصلاح الديني في الجمعية والعقلاء

المعتدلين من رجال السياسة يعتقدون أن الزعيمين مخطئان في معاداة ملك الحجاز

وسلطان نجد؛ لأنه أكبر قوة إسلامية في الأرض بعد سقوط الدولة العثمانية

وصيرورة حكومة الترك لا دينية، وأن هذه القوة هي الوحيدة التي تنصر السنة

وترفض البدع والدجل الذي هو سبب ارتداد كثير من المسلمين عن دينهم آنًا بعد آن

وأنهما إنما يناوئانه بالباطل اتباعًا لهواهما واستمالة لشيعة الهند وعوامها الخرافيين

وهؤلاء الزعماء أعلم من محمد علي وشوكت علي بحقيقة الإسلام وبالسياسة المثلى

له وبمصلحة المسلمين وأبعد منهما عن اتباع الهوى ولكن الزعيمين الأخوين أقوى

إرادة وأمضى عزيمة وأقدر على استمالة العوام بغلوهما في الكلام وبدموعهما

السجام.

فإذا أتيح لهما الرجحان على أصحاب العقول الراجحة كحكيم الزمان أجمل

خان والدكتور أحمد أنصاري وعلى أصحاب اللسن والعلم الديني كالشيخ أحمد أبي

الكلام فستكون جمعية الخلافة آلة بيد غلاة الشيعة لمحاربة السنة، بل لمحاربة

الفرض والسنة كالدعوة إلى ترك فريضة الحج ولتفريق كلمة المسلمين التي يحاول

ابن السعود جمعها في المؤتمر الإسلامي.

***

مؤتمر الجمعيات الإسلامية بجاوة

سمعنا من بعض دعاة التشيع ومناوأة ابن السعود في مصر أن مؤتمر

الجمعيات الإسلامية في جاوه قد انعقد في سوراباية، واشترك فيه زهاء أربعين

جمعية تمثل الرأي العام الإسلامي في جزائر الهند الشرقية وقرر مقاومة ابن السعود

والدعوة إلى ترك أداء فريضة الحج ما دام مستوليًا على الحجاز فقيل له قد بقي

عليكم شيء آخر أشد نكاية فيه وهو ترك الصلاة إلى قبلة الإسلام بيت الله الحرام،

فإن من يستحل ترك فريضة الحج لما ذكر يستحل ترك صلاة الإسلام أيضًا؛ ثم

علمنا من جرائد سوراباية العربية حتى المعادية لابن السعود أن المؤتمر المذكور أيد

ابن السعود، وقد زارنا في هذه الأيام الشاب الذكي النبيه السيد عبد الله بن سالم

العطاس قادمًا من سوراباية وبلغنا سلام زعماء المسلمين وطلاب الإصلاح في جاوه

وكان ممن حضر المؤتمر وسافرا بعده إلى جدة بطريق مصر ليكون عضواً في فرع

البنك الهولندي الذي سيفتح فيها لتسهيل المعاملات مع الحجاج الجاويين وغيرهم،

فسألناه عن دعوة التشيع الذي بثها بعض العلويين في جاوه فكانت سبب الشقاق بين

المسلمين ومشاقة الكثيرين للعلويين بعد ما كان من الإجماع على إجلالهم فأخبرنا أن

تأثيرها ضعيف، وأن الكثيرين من العلويين أنفسهم مخالفون لها ودعاة سنة واتفاق

بين المسلمين ثم سألناه عن خبر المؤتمر فقال ما ملخصه:

(عقد المؤتمر جلسته الأولى في 12 ربيع الأول الأنور تيمنًا بذكر المولد

النبوي الشريف وهو مؤلف من مندوبي جميع الجمعيات الإسلامية في البلاد الجاوية

أو جزائر الهند الشرقية بمدينة سورابايه ماعدا جمعية واحدة وحضر المؤتمر أيضًا

مندوبون عن الجرائد المعتبرة في جميع البلاد وكثير من وجهاء البلاد وأهل الرأي

والمكانة فيها ومئات من دهماء الشعب ولولا أن فرضوا على كل من يدخله دفع

روبية هولندية لدخله ألوف كثيرة ويظهر أنهم أرادوا تقليل ازدحام العوام فيه قال

وكان أول الخطباء فيه أعضاء المؤتمر المكي الحاج عمر سعيد شكر وأمينوتو

والحاج منصور فذكرا لممثلي الأمة ما شاهداه من الأمن في الحجاز وأثنيا على

الملك ابن السعود أجل الثناء ولخّصَا لهم المهم من قرارات المؤتمر الإسلامي العام

فنال كلامهما الاستحسان العام ثم قرر المؤتمر قرارات مهمة.

(منها) تأليف لجنة خاصة لتسهيل الحج على الجاويين يكون لها فروع في

جميع البلاد.

(منها) إلغاء جمعية الخلافة بل تحويلها إلى ما يعبر عنه باسم (جمعية

المؤتمر الإسلامي للهند الشرقية) وهذه الجمعية لها حق الإشراف والمراقبة على

جميع لجان تسهيل الحج.

(منها) تأليف لجنة تنفيذية لجمعية المؤتمر تكون في سوراباية

و (منها) جمع تسعمائة جنيه لنفقات المؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة في

الموسم القابل

قال: وامتنعت جمعية نهضة العلماء (الجامدين المحافظين على التقاليد والبدع

وعلى مكانتهم عند العامة) فألفوا مؤتمرًا خاصًّا بهم لم يحضره أحد من جمعيات

المسلمين ولا من وجهائهم فكان جل ما لغطوا به حكاية ما أذاعه دعاة الرفض فيهم

من زعمهم أن ملك الحجاز منع حرية المذاهب إلا مذهبه، وأنه إذا كان المسلم لا

يستطيع أن يؤدي مناسك الحج كما يعتقد فلا ينبغي له الحج حتى ينجلي الآمر

ويظهر أنه يستطيع العمل بمذهبه.

هذا ما لخصناه من حديث الشاب الكريم السيد عبد الله بن سالم العطاس وهو

خلاصة ما علق بذهنه من جلسات المؤتمر.

وقد علم به أن هذه الجمعية الخرافية رضيت لنفسها أن تصد المسلمين عن

أداء فريضة الحج وتجرئهم على هدم هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، ولعلمها

بأن استباحة هذا كفر وردة عن الإسلام اخترعت له بتلقين دعاة الرفض علة ظنت

أنها يصح أن تكون عذرًا مبيحًا للدعوة إلى ترك هذه الفريضة والعلة باطلة بشهادة

عشرات الألوف الذين أدوا فريضة الحج من أهل جاوه وغيرهم فإنه لم يسأل أحد

منهم عن مذهبه، ولم يوجد أحد يلقن الحجاج مذهب الملك ابن السعود ولا غيره، بل

هذا متعذر لا يمكن لأحد أن يقوم به على أنه لو صح لما كان عذرًا يبيح ترك

فريضة الحج فمذهب ابن السعود وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأهل جاوه

شافعية من أهل السنة لا يعتقدون أن مذهب الإمام أحمد باطل ولا أن فيه ما يبطل

الحج في مذهب الشافعي رضي الله عنهما ولو أن ابن السعود هو الذي دعا إلى

ترك الحج بأي عذر كان لأجمعوا على كفره ووجوب قتاله فأعداء ابن السعود هم

الذين يهدمون أركان الإسلام نكاية فيه وما يتهمونه به من حمل الناس على مذهبه لو

صح لم يكن كمنع الحج بل لم يكن محرماً شرعًا لكنه غير صحيح.

هذا وإن جريدة الأحقاب التي تصدر في سوراباية نشرت في مقالها الأول عن

المؤتمر الإسلامي فيها أنه قد حضره في اليوم الأول من عقده وكلاء 81 جمعية

ومندوبو 22 صحيفة ورئيس البوليس ومستشار المسائل الأهلية والعربية للحكومة

الهولندية وأنه عند افتتاح الجلسة بتلاوة آيات من القرآن المجيد قام جميع من

حضر من الإفرنج وقوفًا مع المسلمين ماعدا اثنين من المتعصبين.

ولعلنا نعود إلى هذه المسألة في جزء آخر بعد قراءة كل ما تنشره الجرائد

الجاوية عنه.

_________

ص: 634