الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: أمين الرافعي
الوهابية والعقيدة الدينية للنجديين
حديث مع رئيس القضاة في مكة
مذهب أهل نجد - التوحيد العلمي والعملي - التوسل والوسيلة - زيارة
القبور بناء القبور والبناء عليها - شارع المسعى والحرم - المرأة والحجاب -
حاشية.
يتطلع الكثيرون إلى معرفة العقيدة الدينية للنجديين وحقيقة مذهبهم؛ لأن
الآراء تضاربت في هذا الموضوع تضاربًا كثيرًا، فرأيت أن أستقي الحقيقة من
موردها الأصلي، فلم أجد سوى التحدث إلى رجل كبير من رجالهم، وعالم فاضل
من علمائهم هو فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الله بن بليهد شيخ الإسلام ورئيس القضاة
في مكة.
عرفت فضيلته في المؤتمر الإسلامي فوجدت فيه عالمًا مُتقد الذكاء، واسع
الاطلاع، صافي الذهن، يعرف كيف يحل المعضلات، ويوفق بين الآراء
المختلفة ويقر الصلح محل الخصام. وقد بعثت لكم في رسالة سابقة موقفه من
مشكلة زيارة القبور، ومن أجل هذا اعتقدت أنه ضالتي المنشودة، فطلبت إليه أن
يجيبني إلى ما سألقيه عليه من الأسئلة في موضوع العقيدة الدينية للنجديين. فأظهر
ارتياحًا كبيرًا لهذا الأمر وحدد لي ميعادًا في الساعة الثانية عشرة (على الحساب
العربي) صباحًا من يوم الجمعة أول ذي الحجة فقصدت إلى داره، وهناك قابلني
بما هو معهود فيه من كرم الأخلاق والبشاشة والظرف، وما لبثنا أن بدأنا الحديث كما
يلي:
***
العقيدة الإسلامية للنجديين
سألته: إن الأقوال والآراء متضاربة فيما يتعلق بمذهب الوهابية والوهابيين
ففريق يقول: إن هذا المذهب ليس سوى مذهب سيدي أحمد بن حنبل، وفريق لا
يقول ذلك ويزعم أنه مذهب خامس، وفريق يدعي أنه خليط من مذهب ابن حنبل
ومن أحكام دينية أخرى، فما هي الحقيقة في كل ذلك؟
الجواب: أهل نجد هم جميعهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل فهم سلفية
العقيدة (نسبة إلى السلف) حنابلة المذهب. أما تسميتهم بالوهابيين وتسميه مذهبهم
بالوهابية فليست من عملهم وإنما هي من عمل خصومهم الذين أرادوا تنفير الناس
منهم بإيهامهم الناس أن هذا مذهب جديد يخالف المذاهب الأربعة.
أما محمد بن عبد الوهاب الذي كان اسمه من أسباب تسمية النجديين بالوهابيين
فهو عالم من علماء نجد اتصل بدولة آل سعود فصار له قبول عندهم.
وقواعد التوحيد لدينا مبسوطة في كتب المذهب، ففيما يتعلق بالتوحيد العلمي
نقبل آيات الصفات وأحاديث الصفات على صورتها الحقيقية بغير أن نتعرض لها
بتأويل.
فاستواء الله على العرش {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) مثلاً
لا نؤوله بأنه الاستيلاء أو القهر كما يرى البعض وإنما نسلم به كما هو عاملين
بمذهب الأئمة الذي لخصه الإمام مالك في قوله: (الاستواء معقول والكيف مجهول،
والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) .
فالكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات فهو ممنوع.
وكما أنه سبحانه وتعالى لا تشبه ذاته بذوات المخلوقين فكذلك صفاته لا تشبه
بصفات المخلوقين.
أما فيما يتعلق بالتوحيد العملي فمذهبنا أن العبادة حق لله تعالى دون سواه فلا
يجوز صرف شيء منها لغيره كائنًا من كان، لا لملِك ولا لنبي ولا لولي ولا
لغيرهم. فمن سوى بين الله تعالى وبين أحد من المخلوقين في أي نوع من أنواع
العبادات كان عمله شركًا.
***
سألناه: وماذا ترون في التوسل بالأولياء والأنبياء؟
فأجاب: إن التوسل مبتدع وليس شركًا، وأهل نجد يمنعون ذلك ويعتبرونه
منكرًا.
وأما الوسيلة بالعبادات وهل تصل إلى الميت أو لا تصل ففيه كلام؛ لأن
العبادات ثلاثة أنواع: بدنية ومالية ومركبة منهما. فالعبادة البدنية كالصلاة والتلاوة
والذكر والدعاء فيها خلاف بالنسبة للصلاة؛ إذ يقول البعض إن صلاة الغير لا تصل
إلى الميت.
ونقول نحن: إنها تصل عملاً بعبارة بعض فقهاء الحنابلة: (كل قربة فعلها
العبد وأهدى ثوابها للميت توصل إليه) أما التلاوة والذكر والدعاء فإنها تصل، وأما
العبادة المالية كالصدقة فإنها تصل، والعبادة المركبة منهما كالحج فإنها تصل.
***
زيارة القبور
سألناه عن زيارة القبور فأجاب:
هذه الزيارة ثلاثة أقسام:
أولاً: زيارة شرعية وهي التي يقصد منها تذكر الآخرة والإحسان إلى الميت
والدعاء له وإحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة ومثل هذه الزيارة سنة.
ثانيًا: الزيارة البدعية، والقصد منها عبادة الله عند القبور بالصلاة ونحوها
بحيث يعتقد أن للعبادة عندها مزية على العبادة في المساجد التي هي أحب البقاع
إلى الله.
ثالثًا: الزيارة الشركية، والقصد منها دعاء الموتى لقضاء الحاجات وتفريج
الكربات.
***
بناء القبور
والبناء على القبور
سألناه عن القبور وبنائها وما يبنى عليها؟
فأجاب: بناء القبور نفسها لا يجوز رفعها أكثر من شبر، واختلف العلماء أن
يكون مسطحًا أو مسنمًا، ولا يجوز تجصيصها ولا الكتابة عليها، وإنما يجوز وضع
حجر عليها لتمييزها، أما البناء على القبور فإنه ممنوع منعًا باتًا لأن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عنه. وإذا أقيم فوق القبر مسجد فلا تجوز الصلاة فيه.
ومن أجل ذلك كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس داخلاً في الحرم
النبوي. وإنما هو موجود في بيت عائشة. ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه
وسلم عند اعتكافه لم يكن يدخل بيت عائشة، بل كان يعتكف في المسجد نفسه.
سألناه: وهل ترضون عن الحالة الحاضرة في شارع المسعى من حيث كونه
قذرًا ومملوءًا بدكاكين الباعة وبالكلاب الضالة؟ ؟
فأجابنا: إن شارع المسعى كان عرضه واسعًا في الأصل، فما زال الناس
يغتصبون أراضيه شيئًا فشيئًا حتى ضاق وصار عرضه إلى هذا المقدار الموجود
الآن، فيجب إزالة هذا الاغتصاب وإزالة دكاكين الباعة منه ومنع دخول الكلاب
فيه حتى يصبح خاصًّا بالسعي وسنعرض هذا الأمر على المؤتمر الإسلامي.
سألناه وهل ترضون عن حالة الحرم المقدس من حيث نوم الحجاج فيه
بملابسهم القذرة ومأكولاتهم المتعفنة الفاسدة.
فأجاب: إن الواجب منع اتخاذ الحرم محلاًّ لتناول الطعام، أما النوم فإننا لا
نمنعه إلا إذا ترتب عليه مفسدة.
وكان الأستاذ الشيخ حافظ وهبه قد جاء في هذه اللحظة وحضر الحديث في
هذه المسألة فقال لفضيلة قاضي القضاة (ولكن نوم الحجاج في موسم الحج بالحرم
قد ترتب عليه ضرر) .
فأجاب فضيلة القاضي: (إذن يمكن منع النوم في أثناء موسم الحج دفعًا للضرر
المترتب عليه) .
***
المرأة والحجاب
وهنا كان الحديث قد انتهى فاستطرد فضيلة محدثنا من ذلك إلى إطلاعنا على
أسئلة وردت عليه من بيروت ليجيب عنها، وكان منها سؤال خاص بالمرأة وحجابها
فطلبنا إليه أن ننقل السؤال والجواب عليه؛ لأنه يتعلق بمسألة هي مثار الجدل في
مصر، وهذا ملخص السؤال.
ما رأيكم في رفع الحجاب وكشف المرأة وجهها وكفيها في الطرقات
والمجتمعات العامة؟ وهذا نص ما أجاب به:
إن ذلك ممنوع خشية الفتنة لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ
وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59) .
ولحديث عائشة، قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها. وإذا
كان هذا في حالة الإحرام ففي غيرها أولى.
وإلى هنا انتهى الحديث، فشكرنا فضيلة القاضي وطلبنا إليه أن يسمح لنا بنشر
أقواله فأذن لنا بعد اطلاعه عليها.
***
حاشية
قد يصادف الإنسان في مكة بعض النجديين المتعصبين فيرى منهم عجبًا، فمن
ذلك أنني تقابلت مع أحدهم قبل مقابلة الأستاذ الشيخ عبد الله بن بليهد فأردت أن
أتحدث معه في موضوع العقيدة الدينية للنجديين، ووجهت إليه سؤالاً في هذا الصدد
فأجاب بنفور:
(لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا. فقلت إن السؤال يستوجب بيانًا،
فأجابني بهذا الجواب الغريب: إني رجل جاهل لا أعرف شيئًا) .
ثم أراد أن يهاجمني بعد ذلك فقال لي (هل أنت أجنبي عن مكة؟ أجبت نعم،
فقال: لماذا تحلق ذقنك ولا ترسلها؟ أجبته هذه مسألة تعنيني وليس هذا موضوع
الحديث) .
ثم استأنفت سؤاله وقلت له: (وماذا ترون في التوسل بالنبي عليه الصلاة
والسلام) .
فأجابني قائلاً: (لا يُدعى إلا الله ولا يسأل إلا الله) فأردت أن أدون هذا الرد
في ورقة لدي وبعد أن دونته قال لي: ماذا صنعت؟ أجبته (كتبت رأيك) فقال:
أطلعني على هذه الورقة، فأطلعته عليها، فقال: أعطني قلمك فناولته إياه فوضعه
في فمه ثم أخذ يمحو به تلك العبارة المكتوبة، ثم رد الورقة والقلم فقلت له: لا داعي
للكتابة ولنقتصر على الكلام، ووجهت إليه سؤالاً عن زيارة القبور فأجاب بكل أدب
أليس لك عقل؟ ألم أقل لك إني رجل جاهل لا أعرف شيئًا!
فقلت له: لقد حصل لنا الشرف، ثم أردت أن لا تنتهي هذه الفكاهة دون أن
أعرف صاحبها فسألت محدثي عن اسمه الكريم فأجاب: (إني أخ من الإخوة
المسلمين) فقلت له: هذه صفة يشترك فيها كل المسلمين وإني أريد معرفة اسمك،
فأجاب: (لا أقول شيئًا أكثر مما قلت) وأخذ يغط في نومه.. . وانتهى الحديث
بسلام واكتفى صاحبنا بالخشونة والسب بينما بعض أمثاله يضربون، فقد سمعت
من غير واحد من المصريين أنهم نالوا نصيباً قليلاً من الضرب؛ لأن نجديًا متعصبًا
سمعهم يقولون (أنا في جاه رسول الله) .
ولله في خلقه شئون
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... أمين الرافعي
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [*]
باقي محضر الجلسة الثالثة
(تابع لما نشر في الجزء الماضي)
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: نحن
في بيان الشروط ولسنا في استفتاء، والشروط هي ما ذكرها الفقهاء في كتبهم، نحن
ذكرنا رواية ابن خلدون وهو فقيه من الفقهاء ولم نأخذ برأيه.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: الموضوع
المعروض الآن جزء من البرنامج وهناك تقرير آخر لباقي المسائل والبحث إنما
يكون بعد تلاوة التقرير الآخر فليتل التقرير الآخر.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: تعلمون أن مسألة
الخلافة بحسب أصلها مسألة فقهية من فروع الفقه، ولكن لما اختلفت فيها قوم
خارجون عن السنة والجماعة وكثر فيها القال والقيل، أخذ المتكلمون على عهدتهم
الكلام فيها بحثًا طويلاً وألفوا فيها كتبًا خاصة كإمام الحرمين وغيره، فالمسألة ليست
مسألة مذهبية يختلف فيها الحنفي والشافعي وإنما هي مسألة كلامية.
فعندما يتكلم الباقلاني يتكلم باعتبار أنه من علماء الكلام بحسب ما يرى،
وإنما الفقهاء تكلموا فيها قليلاً اعتمادًا على ما تكلم به المتكلمون، فهل يقول أحد
منكم بعد ذلك أن الخليفة يكون غير مسلم أو يكون رقيقًا ليس بحرّ، أو يكون صبيًّا،
أو يكون أعمى، أو يكون عاجزًا عن إدارة الأحكام وحفظ بيضة الإسلام بجيشه
ومع هذا ألا يكون جبانًا.
إن الله تعالى قال في كتابه العزيز لنبيه صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ
بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 62) والنبي ما حارب إلا بعد أن صار له عدد
عديد من الجيش وقبل ذلك ما كان يفرض عليه الجهاد، وما شرع له الجهاد إلا
بالتدريج.
وشرع في أول الأمر أن يقاتل من قاتله وبعد ذلك شرع أن يقاتل من قاتله
ويبدأ بالقتال، وذلك كله بالتبع للقوة فليس في استطاعة الخليفة أن يجاهد إلا بأمته
فهذه الشروط إذًا لا ينازع فيها أحد فهي مما أجمع عليه. بقيت الشروط التي اختلفوا
فيها، ومنها الاجتهاد فوجب في الإمام وكذلك القاضي أن يكون مجتهدًا وعلى ذلك كان
السلف الصالح وقد استمر القضاء في مصر يتولاه المجتهدون إلى أن تضعضع الأمر
فعهد في ذلك إلى غير المجتهدين، وجوّزوا أن يعمل برأي المفتي في القضاء وألا
يكون الإمام مجتهدًا وأن يكتفي برأي العلماء.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: من الذي ألغى الاجتهاد؟ فقال
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: حصل خلاف: هل يتجزأ
الاجتهاد أو لا يتجزأ؟ والذي يتجزأ يختص ببعض المسائل والفروع، وقد كان بعض
الصحابة يرجع إلى بعض فيما لم يبلغ فيه مرتبة الاجتهاد المطلق.
وأما مجتهد المذهب فهو القادر على استخراج المسائل الفرعية من قواعدها
التي وضعها العلماء، وكذلك مجتهد الفتوى. هذا هو الأصل وقد تعذر الآن، ومعنى
ذلك أنه لا يمكن مجتهد اليوم أن يستنبط غير ما استُنبط أو يَخرج عما قالوه ودونوه
في كتبهم.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: ما قول الأستاذ في: (يحدث
للناس أقضية بقدر ما أحدثوا [1] ) .
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: لقد حدث حادث
السكورتاه والحوالات المالية وتكلم في ذلك المتأخرون بالقياس على ما قاله
المتقدمون ولا يخرج عن المذاهب التي كانت في الزمن الماضي.
ومن شروط الإمام أن يكون عدلاً فإذا وجدنا عدلاً شجاعًا لا يعدل عنه وإذا لم
نجد من يجمع بين الشرطين فالشجاعة هي المطلوبة للدفاع عن الأمة. ومن
الشروط أيضًا القرشية وقد اختلفوا فيها وتكلموا في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(الأئمة من قريش) فقالوا هل حصر الأئمة في قريش لأنهم كانوا أصحاب عصبية
في ذلك الوقت فالمناط العصبية؟ [2] وإذا كان الباقلاني قد تكلم في ذلك فبصفته
متكلمًا لا فقيهًا.
وهنا رفعت الجلسة لصلاة المغرب؛ إذ كانت الساعة السابعة مساءً.
ثم أعيد انعقاد الجلسة الساعة السابعة والنصف.
فأخذ حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت يكمل كلامه وقال:
إن هذا التقرير بالاختصار اشتمل على مسائل ثلاث. وإن حقيقة الخلافة على
الوجه المذكور في التقرير لا خلاف فيها وهي مسألة مفروغ منها. وهل يستطيع
أحد أن يقول إن الخلافة ليست هي الرياسة العامة كما في التقرير؟ طبعًا لا ينازع
في ذلك أحد. فلا معنى لأن يكون ذلك موضع بحث ويجب أن يقبله الجميع.
ولا يمكن أن نقول: إن الخلافة روحية فقط كما قال الملحدون فإنهم يؤمنون
ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. فالشروط المجمع عليها هي أن يكون الخليفة
مسلمًا حرًّا ذكرًا شجاعًا بصيرًا، وليس لأحد أن يناقش في ذلك الإجماع.
وإن من الشروط المختلف فيها الاجتهاد والنسب والعدالة، وأن الذين خالفوا
في القرشية اعتمدوا على أن حديث (الأئمة من قريش) قابل للتأويل. وقد قال
بعض العلماء: إن العدالة لا تتحقق في الواقع ونفس الأمر. والضرورات تبيح
المحظورات.
وتعلمون أن شرعنا جاء بمراعاة مصالح العباد. ومن هنا أمكن القياس في
المسائل لأن النصوص قواعد معللة وهذا يمكن من مراعاة المصلحة. ولكم أن
تنظروا ذلك في جلسة أخرى يكون موضوع البحث فيها المسائل التي وقع فيها
الخلاف؛ وأعود فأقول: إذا بحثنا في القرشية فما الذي يتبع في إثبات النسب
أبالطريقة التي كان يتبعها السلف أم بغير ذلك؟ وإذا كان هناك قرشي فهل توجد فيه
الشجاعة والعلم أي الفهم.
على أن الإسلام والشجاعة والعلم إنما ينظر إليها عند التنفيذ والتطبيق وليس
كلامنا الآن في ذلك وإنما هو في بيان الشروط، وأما البيعة فمبينة في كتاب الأحكام
السلطانية وكذلك أهل الحل والعقد.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد هارون: لا نفصل في
التقرير الأول الآن ونريد أن يتلى التقرير الثاني ثم يؤخذ الرأي.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: هذا تقرير وذاك
تقرير آخر وقد حصلت مناقشات كثيرة، فإذا استحسنتم فليرجأ النظر إلى الغد.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: أطلب أن يضم التقرير الأول
إلى التقرير الثاني وبعد تلاوتهما يُؤخذ الرأي.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الصالحي التونسي: إن
المؤتمر الشريف الذي حضرنا إليه أعطى لنا برنامجًا وألف لما في البرنامج لجنتين:
لجنة علمية تنظر في المسائل الثلاث الأولى من البرنامج ولجنة تنظر في المسائل
الثلاث الأخيرة منه. وفي اللجنة العلمية المنتخبة علماء أجلاء ثلاثة من كل مذهب
من المذاهب الثلاثة ومستشار حنبلي وقد وثق المؤتمر بهم في هذا وقدموا تقريرًا
شافيًا كافيًا استندوا فيه إلى ما دون في المذاهب الأربعة وشرحوا المسائل أتم شرح
ولخصوا المسائل المختلف فيها فلم يبق محل للمناقشة، ويلزم الاقتراع الآن على هذا
التقرير فإن كانت هناك ملاحظات فلتبين.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمد مراد أفندي. إننا آثرنا بحث
الاجتهاد وأمضينا فيه وقتًا طويلاً نحن في حاجة إلى أن نمضيه فيما بين أيدينا وما
زال هذا البحث مثارًا لنزاع العلماء. وأمامنا الآن تقريران نريد قراءتهما، وبعد ذلك
نبحث فيهما مادة مادة أو يعطى حضرات الأعضاء مهلة لدرسهما ثم تعقد جلسة في
الغد.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي: ألف
المؤتمر لجنتين لعملين، وخص كل لجنة منهما بعمل، فيحسن أن نأخذ الرأي في
التقرير الأول.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: ليس من
الحكمة الخوض في موضوع قبل أن يكون أمام الخائض فيه نبراس، والسرعة
والإتقان لا يجتمعان، أما أعضاء اللجنة العلمية فقد درسوا ما كتبوه، وأما الذين لم
يكونوا في هذه اللجنة فإنهم يحتاجون إلى النظر والتدقيق. وكذلك درس أعضاء
اللجنة الثالثة ما كتبوه في تقريرهم، فهم مستغنون عن النظر ثانيًا، ولا كذلك الذين لم
يكونوا معهم في اللجنة وقراءة التقريرين في هذه السويعة بعد هذه المتاعب في
المناقشات مما يسمى سرعة لا يحتمل معها الإتقان ولا سيما هذا الموضوع الخطير.
وهنا طلب كثيرون من حضرات الأعضاء أن يتكلموا، فأقفل حضرة صاحب
الفضيلة الرئيس باب المناقشة وأعلن انتهاء الجلسة إذ كانت الساعة الثامنة مساءً
على أن يجتمع المؤتمر الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر الغد.
نائب السكرتير العام
…
...
…
...
…
رئيس المؤتمر
إمضاء (محمد قدري)
…
...
…
ختم (محمد أبو الفضل)
***
محضر الجلسة الرابعة
يوم الأربعاء 7 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ
19 مايو سنة 1926م
اجتمع المؤتمر في الساعة الخامسة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ
الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر ورئيس المؤتمر. وحضور من
حضروا الجلسة الثالثة وزاد عليهم الشيخ إسماعيل الخطيب المحامي الشرعي
بفلسطين. والشيخ عيسى منون مندوب بالمجلس الإسلامي الأعلى بفلسطين.
والشيخ عبد القادر الخطيب مفتش الأوقاف بسوريا ولبنان.
ولم يحضر السيد الميرغني الإدريسي لعذر، والسيد عبد الحميد البكري.
وتولى أعمال السكرتارية من كانوا في الجلسة الثالثة.
وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس افتتاح الجلسة وأذن
بتلاوة محضر الجلسة الماضية المنعقدة يوم الثلاثاء 6 ذي القعدة الحرام سنة 1344
هـ (18 مايو سنة 1926م) فتلاه علي أحمد عزت أفندي من السكرتيرين
المساعدين.
ولما وصل فيه إلى عبارة (ولا يمكن أن نقول: إن الخلافة روحية فقط كما قال
الملحدون) الواردة في كلام حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت
اعترض على كلمة (الملحدين) حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي وقال:
هل قال فضيلة الأستاذ الشيخ بخيت هذه الكلمة.
فقال الأستاذ: نعم قلتها.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: ليس بيننا ملاحدة وطلب
حذف هذه الكلمة من المحضر.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: إن الملاحدة
موجودون قديمًا وحديثًا.
فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: هذه الكلمة ليس فيها أي طعن
شخصي، بل فيها رد على الذين يحاربون ديننا.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: الذين يحاربون الدين
الإسلامي موجودون في كل مكان.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: إن الذين قالوا: إن
الخلافة روحية فقط ملحدون.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: هل تخصيص أحكام الخلافة
أو شروطها يعتبر إلحادًا.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: نعم؛ لأن شَطْر
الخلافة شطرين وإلغاء أحد الشطرين إلحاد.
فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: هذه فتوى من مولانا الأستاذ
الشيخ محمد بخيت المفتي يجب أن نُجلها ونحترمها كل الاحترام.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: أرجو من حضرة
صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ بخيت أن يتسامح في هذه الكلمة فإنه صاحب الحق
في ذلك وفي كلامه الباقي ما يشير إلى المخالف وقد يكون ذلك كافيًا.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس العام. لا داعي لتضييع
الوقت في هذا فليؤخذ الرأي.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إسماعيل الخطيب: لا رأي بعد
الفتوى.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري:
ليست المسألة فيما أرى الآن مسألة بحث وسيخرج بنا هذا عن الموضوع، والمفهوم
أن لكل واحد ملء الحرية في كل ما يقول، ولا يعتبر هذا القول إلا لصاحبه فقط.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد القادر الخطيب: يسأل أولاً
فضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: هل هو مصمم على بقاء هذه الكلمة.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: أنا مصمم على
بقائها.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: أريد
أن أقول: إن المسألة في المحضر حكاية محضة لما دار ومهمة السكرتارية أن تدون
كل ما يقال صوابًا كان أو خطأ فلا معنى لأخذ الرأي على إبقائها أو حذفها.
وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: نحن موافقون ونؤيد الفتوى. ثم
تابع السكرتير المساعد تلاوة بقية المحضر حتى فرغ منه.
فقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: سبق لنا أن طلبنا دعوة
أرباب الصحف لحضور جلسات المؤتمر فرأيي الاكتفاء بما يرسل إليهم من
السكرتارية، ولكنني أرى مكاتب المقطم موجودًا خارج هذا المؤتمر فأرى أن يؤذن
لغيره من مكاتبي الصحف بالحضور.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسن أبو السعود: إن المؤتمر حر في
مسألة الصحافة فلماذا يؤذن لإحدى الصحف دون الأخرى؟
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: إننا لم نأذن لأحد
من مكاتبي الصحف أن يحضر.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: جرى
بالأمس كلام من فضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي مفتي الموصل بشأن
النظام الداخلي هل للمؤتمر أن يعدله أو ينظر فيه؟ ودار كلام مني حول ذلك، ولم
يثبت ذلك في المحضر.
فقال حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد علي الببلاوي: السكرتارية مؤتمنة
على كل ما يدور من الكلام.
وقال محمد قدري أفندي نائب السكرتير العام: حضرة صاحب الفضيلة الشيخ
حسين والي، إن ذلك وارد في المحضر وقد تلي على حضراتكم بالنص الآتي:
(ثم قال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: قدمت اقتراحات في
الجلسة الماضية في موضوع كيفية أخذ الآراء وعلنية الجلسات، ونريد أن نعلم
رأي اللجنة فيها وما يقرره المؤتمر بشأنها قبل النظر في الأعمال الأخرى، فلِمَ لَمْ
يكتب ذلك في جدول الأعمال. فحصلت مناقشة طويلة حول ذلك اشترك فيها
حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة الشيخ حسين والي، والشيخ محمد مصطفى
المراغي، والشيخ إبراهيم الجبالي، وعطاء الله الخطيب أفندي. وعبد العزيز
الثعالبي أفندي. والشيخ محمد العبيدي. والشيخ محمد فراج المنياوي. والشيخ
إسماعيل الخطيب. والشيخ عبد الرحمن قراعة. انتهت بتقديم النظر في تقرير
اللجنة العلمية كما في جدول الأعمال) .
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: قد أجمل ذلك في
المحضر إجمالاً وكنا نريد التفصيل.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: أذكر أن هذه
المسألة تكلم فيها قبل هذا جمال الحسيني بك، وحصلت فيها المناقشة، وذكر ذلك
على وجه التفصيل وسبق أن قلنا له: إن لجنة الاقتراحات نظرت في ذلك ولم تحدث
شيئًا جديدًا معدلاً لنظام المؤتمر وسيعرض تقريرها عليه.
أما وقد أعيد فيها الكلام فقد أثبت ذلك عند الإعادة بصفة إجمالية.
فقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: لماذا ذكر في المحضر بحث
علمي برمته وحصل الإطناب فيه والتزم الاختصار في غيره؟ إن في المحضر
نقصًا.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: ليس في هذا
المحضر إشارة إلى مسألة النظام الداخلي فكيف تجمع الآراء في مسألة الملاحدة
وغيرها.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: قلنا: إنه سبق الكلام في هذا
تفصيليًا وقلنا: إن الاقتراحات قدمت إلى لجنتها، وقلنا: إن اللجنة لم تعدل في النظام
الداخلي، ولم تقرر مسألة حضور مكاتبي الصحف. ولما اعترض جمال الحسيني
بك بأن تقرير لجنة الاقتراحات لم يعرض على المؤتمر حصلت مناقشة اشترك فيها
جمع من حضرات الأعضاء كما أشير إلى ذلك في المحضر إجمالاً. فإذا كان هذا
لم يكف على أنه معقول، فما على السكرتارية إلا أن تثبت ما أردتم إثباته.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: قلت بالأمس إن
كان النظام الداخلي قد وافق عليه المؤتمر فأنا قابل له ولم يذكر ذلك في المحضر.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: قلنا غير مرة يكفي الإجمال
في هذا كما ذكر في صدر المحضر لسبق التفصيل. وإن رأيتم التفصيل فلا مانع
من أن يستدرك في المحضر بدل الإجمال.
وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: ما المانع من أن يذكر في
المحضر كل شيء يقال بالتفصيل؟
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة: اكتبوا أن في
المحضر نقصًا فيما دار من المناقشة بيني وبين حضرة صاحب الفضيلة الشيخ
محمد حبيب العبيدي.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان: أرى أن يقال: يتدارك
ما حصل ولا يقال: إن في المحضر نقصًا، وإن المحاضر في المجالس النيابية قد
يحصل فيها استدراك.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: السكرتارية مكلفة أن تكتب
محضرًا لا مضبطة بمقتضى النظام الداخلي للمؤتمر. والمضبطة يكتب فيها كل ما
يقال. والمحضر يكتب فيه مجمل ما في المضبطة. فإذا كانت الكتابة على صورة
ملخصة فهي المحضر بعينه وهو المطلوب وفق النظام الداخلي للمؤتمر. وإذا كان
هناك تفصيل في بعض المواضع دون بعض فذلك زيادة على المطلوب والمحل
الأصلي لذلك إنما هو المضبطة. هذا هو العرف الجاري في مثل ذلك على أن
الموضوع الذي أثير الكلام فيه الآن ذكر تفصيليًا فيما سبق. ، فليس في المحضر
نقص، ولا سهو، ولا غلط. وأكرر قولي إن هذه المسائل التي تكلم فيها جمال
الحسيني بك وغيره من حضرات الأعضاء حصل الكلام فيها قبل هذا وأخذت حقها
من المناقشة، وانتهى الأمر بأن أحيلت إلى لجنة الاقتراحات. وقد نظرتها اللجنة
وأصدرت فيها قراراتها بما لا يخالف النظام الداخلي للمؤتمر وسيعرض ذلك عليه.
وسبق أن قلنا: إننا كتبنا في جدول الأعمال ما هو المقصود وقدمنا الأهم على المهم.
فقدمنا النظر في التقرير العلمي ثم النظر في تقرير اللجنة الثالثة. وقد زدت على
ذلك أن قلت: إن لجنة الاقتراحات لم تحدث شيئًا جديدًا في مواد النظام الداخلي. فلو
أنصف حضرات إخواني الأعضاء لوجدوا أن الإشارة الإجمالية كافية بعد ذلك
التفصيل السابق.
على أن المضبطة التي يكتب فيها كل ما يقال بالحرف الواحد موجودة في
السكرتارية. ولو أردتم أن ينقل ما فيها إلى المحضر فلا عمل إلا ضم بعض
الكلمات إلى بعض وإثبات ذلك في المحضر. إنكم إذا أردتم تفصيلاً أكثر مما في
المحضر فنحن لا نأبى ذلك وإنْ كان زائدًا على ما في النظام الداخلي للمؤتمر.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد فراج المنياوي: عقد المؤتمر
ثلاث جلسات وهذه هي الرابعة ولم نعمل شيئًا ونحن ما اجتمعنا لأجل أن نتحدث
في الأمور الثانوية، ولكن لنقدم للمسلمين عملاً نافعًا. فأرجو أن يسود بيننا حسن
التفاهم. إما أن يقف بعضنا لبعض بحسن نية أو بغير ذلك، فهذا مما يجب أن نترفع
عنه. يجب أن نتعاون يا إخواني على البر والتقوى. وأن نقدم للمسلمين عملاً
جديدًا، ويجب الآن أن يوافق على تقرير اللجنة العلمية (ضجة ومقاطعة) اسمحوا
لي أن أتكلم: إن الذي أريده من حضراتكم أن توافقوا على تقرير اللجنة العلمية لأن
الأحكام الفقهية وإن كانت ظنية فإن المجتهد فيها لم يخرج عن كونه نظر في الدليل
الشرعي وانتهى به اجتهاده إلى حكم من الأحكام. ذلك الحكم وإن كان ظنيًّا فهو
حكم الله بالنسبة للمجتهد.
فليس من حقنا أن نقول: نقبل هذا الحكم أو نرده. وإنما يتعين علينا أن نقبله.
إن هذه الهيأة فيها من عنده قوة الترجيح ولكن ليس فينا من عنده قوة الاجتهاد فيقول
هذا مقبول وهذا مردود. فأقترح الموافقة على تقرير اللجنة العلمية ثم ينظر في
التقرير الآخر ولحضراتكم الرأي الأكبر.
ثم قرر المؤتمر أن يكتب التفصيل مكان الإجمال في محضر الجلسة الماضية.
وبعد ذلك قال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: هناك مسائل أولية أردت أن أبحث فيها من الجلسة الأولى. نحن نقول: يجب أن ندعو ممثلاً لنقابة
الصحافة ولم توافقوا. فلماذا نرى مندوباً عن جريدة المقطم يحضر خارج المؤتمر؟
نريد أن نبحث فكيف جاز لشخص لا علاقة له في المؤتمر أن يحضر بدون إذن مع
احترامي لشخصه واحترامي لجريدته.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: لم يحصل منا إذن لمكاتب
صحيفة مطلقًا.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: الآن
وقد علمنا أن أخبار المؤتمر تنشر محرفة وبشيء ربما أثار ثائرة في وجه المؤتمر
وحرف وجهة النظر أرى خيرًا من هذا أن يدعى أهل الصحافة جميعًا لحضور
المؤتمر من الجلسة الآتية:
وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: نحن نؤيد هذا الرأي ونطلب
مندوبًا واحدًا عن نقابة الصحافة.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: لأن تنشر قرارات
المؤتمر بوساطة مندوبي الصحف خير من أن تنشر الجرائد أخبارنا محرفة.
وقال حضرة صاحب السماحة السيد محمد الببلاوي: أنا أوافق الأستاذ وأظن
أن مسألة انتخاب نائب عن الصحافة انتهت، وسيحضر من الغد وأطلب أخذ الرأي
على ذلك.
…
...
…
...
…
...
فأخذت الآراء فكانت النتيجة موافقة المؤتمر بالأغلبية على انتداب مندوب عن
نقابة الصحافة.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الصالحي التونسي: أطلب أن
تكون مناقشاتنا بشكل نظامي بحيث لا نخرج من موضوع إلى موضوع فجأة. إن
موضوعنا التكلم في التقرير العلمي، فهل لأحد الأعضاء ملاحظة عليه؟ إننا بين أحد
أمرين إما الموافقة على التقرير العلمي وإما تأخير الموافقة إلى أن يعرض تقرير
اللجنة المؤلفة لبحث النصف الثاني من البرنامج، فليس من المناسب ترك هذا
الموضوع والدخول في موضوع اقتراح قدم في أول جلسة للمؤتمر وأحيل إلى لجنة
الاقتراحات وقررت فيه قرارها وسيعرض تقريرها وللمعارض وقتئذ أن يعارض.
احتجاج المؤتمر على الفظائع في سورية:
وقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: نريد أن نعرف الفرق بين
البحث السياسي وغير السياسي نحن لا نريد أن نبحث شيئًا سياسيًّا هنا، لقد وردت
علينا برقية عن حوادث دمشق الشام، وهي رابعة البلاد المقدسة، جاء فيها أن
مساجدها تهدم على رؤوس المصلين والمدرسين فيها. وهذا مؤتمر إسلامي عام
أتعدون ذلك من المسائل السياسية أو الدينية؟
وقال حضرة صاحب العزة وحيد بك الأيوبي: أنا موافق على أن يحتج
المؤتمر على ما هو واقع في دمشق وإذا لم نحتج على هذا العمل يكون ذلك عارًا
علينا. إن هؤلاء أرسلوا إلى المؤتمر يستنجدونه ويستصرخونه فيجب أن نلبي
استصراخهم ونحتج بشدة على ما هو واقع، ليس على إخواننا المسلمين فقط بل على
المسلمين وغيرهم.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد فراج المنياوي: إن المؤتمر ألف
لجنة لنظر الاقتراحات.
فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: اللجنة ما هي إلا جزء من
المؤتمرين ولا وجود للجنة عند وجود المؤتمر. لقد كتبت الصحف عن هذا
الاعتداء. وأرى واجباً على مؤتمر الخلافة أن يكون هذا الاحتجاج من أول أعماله.
ومن العار سكوتنا وأن هذا لا دخل له في السياسة على الإطلاق بل هذا يتألم من
فظائع وقعت ويجب أن نظهر التألم لكل الناس.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي: هذا حسن ولكن لنا
مقصد أصلي لم نمض فيه خطوة. أبعد هذا نصرف كثيرًا من الوقت في مثل ذلك.
فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك أخجل كثيرًا إذا لم نحتج على
هذا.
وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: هذا الاحتجاج كان واجبًا
عمله من أول الأمر، ولقد تأخر الاحتجاج عن وقته فنحن باحتجاجنا الآن نكون قد
تداركنا ما أهملناه.
وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: هذا من أول واجبات مؤتمر
الخلافة ونحن نعمل لبناء الخلافة.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد هارون: لقد جاءنا تلغراف بهذا
المعنى. وهل تحققنا هذا الأمر؟ يجب أن نتحقق أولاً.
وقال حضرة صاحب العزة وحيد بك الأيوبي: ليس لنا أن نكذب الخبر وكل
هذه الفظائع قد نشرتها الصحف واطلع عليها الجمهور.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان: أرى أن إبداء الأسف
حق من حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، لا فرق بين فرد وفرد وبين جماعة
وجماعة. ونحن قوم مسلمون نحمل بين جوانحنا إيمانًا صادقًا وعطفًا على إخواننا
في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا الأمر الذي حصل وجاءتكم به البرقية أمر
وحشي لا يليق بإنسان أن ينزله بحيوان أعجم فضلاً عن إنسان مثله. ولهذا أقترح
أن تقرروا أسفكم وأن تعلنوه على صفحات الجرائد مقرونًا باحتجاجكم الشديد على
الذين ارتكبوا هذه الفظائع. وأن تقرروا ذلك باسم الدين خارجًا عن كل صيغة
سياسية.
وقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: المسألة دينية محضة، فقال
حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الصالحي التونسي: أقول: إن ما وصلنا إليه
أخيراً وطلب بشأنه الموافقة هو اقتراح خارج عن الموضوع الذي نحن بصدد النظر
فيه. وأطلب أن يكون كل عمل في وقته، فنحن بصدد الكلام في التقرير العلمي وما
راعني إلا خروجنا عن هذه الوجهة.
وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: هذا قد وقع ولا محل
للاستغراب.
فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: الاحتجاج تأخر، وكان يجب
عمله على إثر قراءة التلغراف فيجب أن نتدارك ما أهملناه.
صفة أخذ الآراء في المؤتمر:
ثم أمر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس بأخذ الآراء فكانت
النتيجة موافقة المؤتمر بالأغلبية على الاحتجاج على ذلك.
ثم قال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة: فلتؤخذ الآراء
على التقرير الأول.
وقال صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: لم أعرف للآن كيفية أخذ
الآراء.
وقال حضرة صاحب الفضيلة عطاء الله الخطيب أفندي: لم يستقر الرأي
على كيفية التصويت وهي لا تزال على حالها من الإبهام.
وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: نترك هذا البحث الآن.
وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: يؤخذ الرأي على التصويت
هل يكون باعتبار عدد الأصوات أو بحسب البلدان.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: كيف ذلك؟ وأمامنا التقرير
العلمي والعلم شائع لا يختص به شعب دون شعب، والنظام الداخلي للمؤتمر يقول:
العبرة بآراء الحاضرين. ولم تغير لجنة الاقتراحات منه شيئًا كما قلنا ذلك مرارًا.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة: أمامنا النظر
لمصلحة الإسلام ما دامت وجهتنا واحدة؛ فإذا قلنا: ننظر لمصلحة مصر أو لمصلحة
العراق مثلاً فهنالك يكون الكلام في مسألة البلدان، أما وقد قلنا: النظر لمصلحة
الإسلام، فلا معنى لأن ننظر لمصلحة البلدان.
وقال حضرة عبد العزيز الثعالبي أفندي: علينا واجب هو أن نتفق مع
المسلمين على أساس معين ولا يكون عملنا مبنيًّا على مصلحة الأفراد وأنا ملتزم
قبول الفتاوى الشرعية. فإذا صوت لكم فأنا ألزم به من أرسلني إليكم.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: إذا جاء
وقت ننظر فيه للتطبيق فيكون الرأي بمراعاة الأقطار لا أقول الأقطار
الحاضرة فقط بل جميع الأقطار. أما إذا لم نصل إلى التطبيق وكنا نتكلم علميًّا،
فالعلم حق مشاع للجميع وهذا ما نسير فيه للنهاية؛ فإما أن يوافق المؤتمر أو تؤخذ
الأصوات.
فأمر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس بأخذ الآراء.
فكانت النتيجة موافقة المؤتمر بالإجماع - ما عدا حضرة صاحب الفضيلة
الشيخ محمد حبيب العبيدي - على أن تؤخذ الآراء بعدد الحاضرين في المسائل
العلمية وعند التطبيق تؤخذ الآراء بعدد الشعوب.
ثم أمر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس بأخذ الآراء في تقرير
اللجنة العلمية المؤلفة لبحث المسائل الثلاث الأولى عن برنامج المؤتمر الذي تلي
في الجلسة الماضية فكانت النتيجة موافقة المؤتمر عليه.
ثم استأذن حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عطاء الله الخطيب مقرر اللجنة
المؤلفة لبحث المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج المؤتمر، وتلا تقرير هذه اللجنة.
وبمناسبة ما جاء فيه من غياب حضرة الدكتور الحاج عبد الله أحمد أحد
أعضاء اللجنة قال فضيلة المقرر: إنه أثناء المذاكرة حضر ووقع القرار.
وهذا نص تقرير اللجنة:
(سيأتي)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) منقول عن (محاضر) مؤتمر الخلافة التي نشرتها سكرتارية المؤتمر.
(1)
المنار: هذه الكلمة مروية عن الإمام عمر بن عبد العزيز.
(2)
المنار: هذا الرأي افتخره ابن خلدون بعد إجماع خير القرون على اشتراط القرشية فلا يقيد بخلافه ولا بخلاف الباقلاني قبله.
الكاتب: محمد بهجت البيطار
كتاب الموجز في الاجتماع
بحث علمي ديني للأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار
عضو المجمع العلمي بدمشق والمؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة
ما أشد حاجة الأمم التي تتخبط في ديجور الجهل، أو ترسف في قيود الذل،
إلى علم الاجتماع الذي يهديها إلى سنن الله تعالى في الوجود، ودرس أسرار تقدم
الممالك والشعوب، واتقاء أسباب الفشل والحبوط.
استنبط العرب (رحمهم الله تعالى) أيام حضارتهم من الكتاب الكريم علومًا
وفنونًا كثيرة، وجعلوها ذات أصول راسخة، وقواعد محكمة، فلو رزق علم
الاجتماع عندهم من العناية والتدقيق حظ هاتيك العلوم، وجرى ملوكهم وأولو الأمر
فيهم في تسيير دفة الملك والسياسة على مقتضى تلك الأسس الثابتة، والسنن
الكونية التي لا تقبل التبديل ولا التحويل، لما علقت بأصول مدنيتهم تلك الشوائب
والأوضار، وأفضت بملكهم وعظمتهم إلى الزوال.
تلوت كتاب (الموجز) في علم الاجتماع لمؤلفه العالم الضليع، والكاتب
البليغ، عارف بك النكدي، أستاذ علم الاجتماع في معهد الحقوق وأحد أعضاء
المجمع العلمي العربي في دمشق - فألفيته من أجود كتبنا العربية الحديثة، وكم يود
الغيور على ملته أن يكون هذا العلم في جملة العلوم المتداولة يبن طلاب العلوم الدينية فإن مباحثه ليست بأدق من مباحث أصول الفقه التي يتلقونها ولا بأقل فائدة وعائدة
منها، وإذا كان علم الأصول يتعلق باستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية
على قاعدة جلب المصالح للأمة ودرء المفاسد عنها، فإن علم الاجتماع
يبحث عن سنن الله تعالى في حياة الأمم وموتها، والمحافظة على مقومات الأمة
ومشخصاتها التي تكون لها بها شخصية خاصة ووجود مستقل بين الأمم، وأَنَّى
يتيسر لأمة مغلوبة على أمرها، مستعبدة لغيرها، أن تحافظ على دينها وتحتفظ
بمصالحها، وتدرأ المفاسد عنها؟
***
ابن خلدون وعلم الاجتماع
ذكر المؤلف الكريم أن للعلامة الشهير ابن خلدون سابقة فضل في استنباط هذا
العلم، وأورد عنه أنه قد شرح أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع
الإنساني من العوارض الذاتية، وذكر أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول،
وأسباب التعرف والحول، وما يعرض في العمران من دولة وملة، وعزة وذلة،
وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة. وتعرض
للعصبية وسلطانها، والإقليم ونفوذه، والوراثة وتأثيرها، وتبدل الأخلاق والعادات،
وما لذلك من العلل والأسباب، (ثم قال) وإذا كان ابن خلدون لم يجعل علم
الاجتماع الذي يسميه (العمران البشري) وأحيانًا (الاجتماع الإنساني) علمًا ذا
قواعد ثابتة، فلا يقدح ذلك فيه ما دام الناس لا يزالون إلى يومنا هذا وهم في شك من
هذا العلم، وأصحابه في تردد من أمرهم، وحسب الرجل أنه أدرك العوامل
الاجتماعية من اقتصادية وطبيعية ونفسية، قبل أن يدركها غيره من الغربيين
بمئات السنين، فإذا لم يكن ابن خلدون مؤسس هذا العلم فهو لا ريب مهيئ
أسبابه اهـ.
أقول: لا شك أن الإمام ابن خلدون قد استقى ما أورده في مقدمته من ذلك
المعين الذي لا ينضب وهو الكتاب الكريم الذي أشار (قبل ثلاثة عشر قرنًا ونصف
قرن تقريبًا) في كثير من آيه إلى السنن الإلهية الثابتة في الأفراد والأمم، ومنه ما
يسمى عندهم سنة الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح، وإليه الإشارة بمثل قوله عز
اسمه {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251) .
وقوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) وقوله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا
يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17) .
ولولا أن الكلام في علم الاجتماع من حيث هو علم لا من حيث هو دين
لأفضنا في ذكر الآيات التي يمكن أن يكون ما أورده الفاضل الكندي عن ابن خلدون
عناوين لها، وفصوله الممتعة مفسرة لها، مفصلة لمجملها.
***
الغرض من كتابة هذه الكلمة:
غرضي من هذه الكلمة التي أكتبها عن كتاب (الموجز) النفيس استنهاض
الهمم إلى الاستفادة من هذا العلم، وإيقاظ شعور من هم في غفلة عنه من رجال
الدين إلى سبر غوره، والتقاط درره، فإنه على الأكثر حجة لهم، ينفي عن دينهم
كثيرًا من المطاعن والشبه، ويكفيهم مؤونة الرد والدفاع من عند أنفسهم، وإني
مورد بعض الجمل الجميلة من هذا (الموجز) الجليل، ليكون قولي مؤيدًا بالدليل.
بطلان مذهب داروين:
قال في بطلان مذهب داروين - القائل بتولد نوع من نوع آخر أخس منه عن
طريق التحول (أي كتولد الإنسان من القرد!!) - معربًا عن كاترفاج نبذة مما جاء
في كتابه (الجنس الإنساني) ص 71: (ومن أراد أن يستشهد بما هو كائن، وأن
لا يبني حكمًا على شيء غير ما هو معلوم، استحال عليه أن يقول بتولد نوع من
نوع آخر عن طريق التحول، ومن قال بهذا فقد قال بشيء مجهول وجاء بالممكن
يحله محل الثابت بالتجربة. وبعد أن أفاض كاترفاج في هذا البحث وضرب له
الأمثال قال: وجملة القول أن (داروين) ومريديه من أجل أن يقروا التحول من
العنصر إلى النوع خلافًا لكل معارفنا المثبتة، ينبذون ما أثبتته التجربة والملاحظة،
ليحلوا محلها حادثًا ممكنًا ومجهولاً. قال مؤلف الموجز: لقد أتينا بهذه الكلمة بيانًا
لمذهب داروين الذي كثر أشياعه والمعجبون به، وهو مذهب لا يصح الركون إليه،
لأنه - كما قال كاترفاج - لا يستند على أساس ثابت، وإنما هو قائم على
الاحتمال والإمكان. ومهما يكن من الأمر فإن أصل الإنسان مسألة دقيقة غامضة،
إذا لم يؤخذ فيها بما ذهب إليه داروين، فليس هناك رأي آخر يعتمد كل الاعتماد
عليه، لتقادم العهد، وفقدان الأدلة الصحيحة) .
وأقول {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر: 57) وأقدم ،
والبحث عن مادتهما الأصلية لتعرفها أشد وأبعد، وإلى هذا كله الإشارة بقوله عز
شأنه {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ
المُضِلِّينَ عَضُداً} (الكهف: 51) .
***
وحدة أصل الإنسان، أو الإنسان الأول:
قال في ص 71: وإذا نحن وازنا بين هذين الرأيين (كون الناس يرجعون
إلى أصل واحد أو أصول مختلفة) وما جاء في حق كل منهما من البراهين التي
أدلى بها إلى يومنا هذا، كُنا أميل إلى القائلين بوحدة أصل الإنسان، لأن الفرق ما
بين أشد الأجناس الإنسانية بعدًا بعضها عن بعض، ليس بالشيء الذي يذكر في
جنب الفوارق بين أصناف النوع الواحد من الحيوان والنبات.
أقول: ما ذكره هو الظاهر المتبادر من قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) .
***
وظيفة المرأة في الحياة:
شغلت المرأة عالَمي الكتابة والخطابة في كثير من الأقطار وقتًا طويلاً، ولولا
حب الخروج بها عن أصل فطرتها ودائرة عملها، لما أشكل على الكثيرين أمرها
ولما أكثروا من الكتابة والخطابة في شأنها، فإن وظائفها الطبيعية الأربع التي تنتقل
فيها ولا تخرج عنها - وهي الحمل، والولادة، والرضاع، وتربية الأطفال
- دع تدبير المنزل - هذه الوظائف الطبيعية لا تدع لها مجالاً لمشاركة الرجل في
عمله الخارجي، وأنها تهدم من كيان الأسرة، وتفسد من شؤون المستقبل، بمقدار
ما تهمل من وظيفتها المنزلية، وإليك شذرات من (الموجز) في الموضوع:
(لقد قلنا: إن للنساء على الرجال سلطانًا لا يغالب، فإذا هن أجلسن على
مقاعد النيابة والأحكام، وشاركن في السياسة، ففوضت إليهن السلطة، فقد زاد
سلطانهن المعنوي سلطانًا سياسيًّا، فأصبح لهن الأمر كله، ووقعت السلطة العملية
في يد أضعف الجنسين عملاً، وتراكمت المصالح العامة في عهدة أعجزهما قدرة
على حفظها، فأين الفائدة بعد ذلك، بل أين المساواة؟
(وقال) : وقد شاءت هذه الطبيعة أن لا يجتمع الرجل والمرأة مجتمعًا لا
مبالاة معه، وكيف يريان سبيلاً إلى المباحثة في شؤون الدولة الخطيرة، وللعيون
مع كل نظرة بارقة من الأمل تذهب بالقضية بين سمع الأرض وبصرها [1] .
(وقال) : إن المبالغة في المساواة بين الرجل والمرأة كان من شأنه أن أفسد
كثيرًا من نظام الأسرة، فقد أدى ذلك إلى تعدد الطلاق في أمريكا تعددًا هائلاً، حتى
جاء في بعض الإحصاءات أن الطلاق بين المتزوجين واحد في الثمانية، وسبب
ذلك الغلو في المساواة، وكون المرأة أصبحت في غنى عن زوجها، لا تبالي أي
حياة تحيا، وهل مصير هذا إلى غير تفسخ الروابط الاجتماعية، ثم الفوضى
المطلقة، والرجوع بالإنسانية أجيالاً بعيدة إلى الوراء؟
وقد أفاض حضرته في هذا الموضوع، وأتى بالكثير الطيب، وذكر أن علم
منافع الأعضاء يثبت بين الجنسين الفوارق الطبيعية التي تستلزم الفوارق النفسية
والفكرية أيضاً (قال) وما دامت الطبيعة أسقطت عن المرأة مشاق الأعمال
وصعابها، فلم لا تستفيد المرأة من ذلك؟ وعلام تريد أن تحشر نفسها في مأزق
حرج، فتدخل في خطة صعبة يتمنى الرجل لو كان له مخرج منها؟
أقول: وإلى هذه الفوارق بين الرجل والمرأة، التي خصصت كلاًّ منهما بعمل،
يشير قوله جل اسمه] وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ [ (النساء: 32) .
ومما أثبته الفاضل (العارف) مستندًا فيه إلى علم الاجتماع ورجال الاشتراع
يظهر جلياً أن الرجل بما وهبه الحكيم العليم من المواهب الطبيعية هو المكلف
بالتوفر على عمله الخارجي، والقيام على عيله (عائلته من زوج وولد) بالنفقة
وحسن التربية والمعاملة، وهو المستفاد من قوله عز وجل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى
النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) .
وقد اقتصر الأستاذ النكدي في بحثه هذا على ضرر اشتغال النساء في القضايا
العامة كالمجالس النيابية لأنه - كما أفادنا حضرته مشافهة - يتكلم من الوجهة
الاجتماعية والسياسية ويقاس عليها اشتغالهن في القضايا الشخصية كالمحاماة
والهندسة والدخول في المعامل، فإن في هذا من فساد نظام الأسرة ما في ذاك.
ولم يذكر أضرار التفنن في التبرج والتفرنج وقتل الوقت في المسارح
والمراقص، لأن هذا محله بحث (تفسخ الهيئة الاجتماعية) من الجزء الثاني الذي
وعده بنشره، وسنراه قريبًا إن شاء الله تعالى.
***
حكمة تعدد الزوجات:
(قال) أما الحقيقة في تعدد الزوجات فهو يرجع في الأقاليم الحارة إلى
مؤثرات طبيعية غير فوارق اللذات، وإلى عوامل القتال والحروب، وما تجره من
فقدان الرجال في القبائل، التي لا تطفأ نار الشر بينها، وللرغبة في تكثير النسل،
والتقوي بأحلاف من العمومة والخؤولة، ولرُخَص دينية بنيت على هذه الأسباب
الاجتماعية كلها أو بعضها. اهـ.
أقول: لا يخفي أن الحروب في الأمم والشعوب، أشد منها في القبائل إهلاكًا
وتدميرًا، وأكثر أخذًا وتقتيلاً، فهذه الحرب العامة قد أزهقت قواها البرية والبحرية
والجوية ملايين البشر، وتركت ملايين النساء والأطفال بلا رجال؛ إذاً فحكمة تعدد
الزوجات في أمم الحضارة أظهر منها في أمم البداوة، وقد أدركت ألمانيا أثناء
الحرب العظمى هذا النقص الفادح فاضطرت إلى التصريح بضرورة التعدد.
أرأيت كيف جاء علم الاجتماع وأحداث الزمان مؤيدًا للقرآن، أعلمت كيف
انطبقت أصوله على تعاليم الإسلام؟
***
ما خالف الشرع من علم الاجتماع:
رب معترض يقول: إنك ذكرت من القضايا الاجتماعية ما هو حجة لذويك
وتركت ما هو حجة عليهم، وعلم الاجتماع لا يعرف المحاباة، وقد قال في (الموجز)
ص 109:
(1)
(فكل حق للرجال في حرمة أو مال يجب أن يكون للمرأة مثله، ولا
عليها ولا عليه أن يزيد حقها في هذه الأمور على حقه) وظاهر هذا معارض لنص
(للذكر مثل حظ الأنثيين) وفي بحث أدوار العقوبة وأنواعها (الدور الأول انتقام،
والثاني قصاص، والثالث تأديب وإصلاح) .
(2)
رأوا أن القود على إطلاقه، وجرح الجارح، وقطع السارق كان
لها أيام وانقضت. فتحولت العقوبة إلى واسطة يراد بها التأديب والإصلاح. وهذا
ينافي قوله تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (المائدة:
45) الآية.
وفي بحث أطوار العقوبة الثلاثة:
(3)
خروج العقاب عندئذ - أي عندئذ ترقّت الأوضاع الاجتماعية،
وتألفت السلطة المنظمة. إلخ - عن أن يكون حقًّا شخصيًّا أو إلهيًّا إلى حق عام.
وفي بحث النوع الثاني من أشكال الحكم (الشكل الثيوقراطي) وهو الحكم
الذي يستمد نفوذه وقوته من الله، والقائمون بهذا الحكم باسم الله يحكمون، وباسمه
يتكلمون.
(4)
حتى إنهم لينزلون أنفسهم من الله في منزلة الوزراء. (قال) ومن
الحكومات الثيوقراطية: حكومة القضاة في اليهود، والخلافة في الإسلام، والممالك
والإمبراطوريات الغربية التي كان يعتقد أصحابها أنهم يستمدون قوتهم من الله. ثم عد
الحكم الديمقراطي خير الأحكام وأصحها وعلل ذلك بقوله: لأنه يستمد قوته وسلطانه
من الأمة، وهي وحدها صاحبة الحق في الحكم. اهـ.
(5)
وقال (ص 186) : وكما أنه لا سبيل إلى وضع شرع دفعة واحدة.
فكذلك لا سبيل إلى أن يختم عليه بعد وضعه فيقال: هذا هو الشرع الذي يصلح
لكل جيل في كل زمن.
(6)
وفي (ص 72) : وعلى رجال العلم ألا يتقيدوا في ما يذهبون إليه
بشيء من عوامل الدين والسياسة، بل بما توحيه إليهم معارفهم وبما توصلهم إليه
مساعيهم.
***
تمهيد للجواب
أقول: لسنا نحاول في كلامنا هذا هدم القواعد الثابتة القطعية من علم الاجتماع
بالنصوص الدينية فإن في ذلك ما يحمل الاجتماعيين على التمسك بقواعدهم
والبراءة مما خالفها وفيما أورده (الموجز) عن حجة الإسلام الغزالي عبرة وعظة،
ولا نلغي إيضاحكم النصوص بهذه القرارات الاجتماعية التي تخالفها في الظاهر
(لا في الواقع على ما سيأتي) لأن هذا يشعر بأن النصوص لا تمشى مع العلم، ولا
تبقى مع الزمن، وينتج عن ذلك نفور المتدينين من اقتباس العلوم والفنون، وإيثار
الجهل عليها، لا بل تدعوهم حميتهم لمحاربتها باسم الدين دفاعًا عنه، وتأييدًا له!!
والحق أن القواعد السماوية الصحيحة، كالقضايا العقلية والطبيعية الصريحة، لم
تبن إلا على أمتن الأسس، وأرسخ القواعد، ولم تجئ إلا لتقرير الحقائق وتثبيتها،
وكيف يمكن أن يكون بينها تناقض، والذي أنزل الوحي، وخلق العقل، وأوجد
الطبيعة هو واحد جلت حكمته؟ إذاً فما على رجال الدين والدنيا الغيورين إلا أن
يعنوا بالتوفيق بينهما، عليهم ألا يطرحوا أحدهما في سبيل الآخر، فإن هذا أبقى
لدينهم ودنياهم، وأحفظ لمصالح البشر من الضياع والحرمان، وأدعى أن يستفيد
ألوف المتدينين من كتب العلوم والفنون النافعة.
وها أنا ذا أسعى في الجمع والتوفيق بين ما اختلف ظاهره من نصوص الكتاب
ومسائل الاجتماع؛ خدمة للأمرين معًا، وترغيبًا للمسلمين في الإقبال على هذا العلم
النافع (أي الاجتماع) الذي يوقظ شعورهم ويستفز هممهم، للمحافظة على الإرث
الموجود، واسترداد المفقود بالطرق القانونية والسنن الكونية، التي سطت بها
الأمم القوية على الأمم المستضعفة، وجردتها مما يبعث فيها روح الحياة الحرة.
إن مَن يعتمد النظرة الأولى في حكمه يحسب أن ما أوردناه عن الموجز
كنموذج لمخالفة الاجتماع لظاهر الشرع، مخالفًا له في الواقع ونفس الأمر، ولكن
الذي يمعن النظر يرى لذلك أسبابًا إذا روعيت بإنصاف، حل الوفاق محل الخلاف.
(الأول) أن الحق المعطى للمرأة في الإسلام مبني على الطريقة الاجتماعية
المُثلى، والسنة الطبيعية العادلة كما سيأتي.
(الثاني) عدم المنافاة بين حكمين وإثبات أن لهما جهة واحدة، وإن ظن
بادي الرأي اختلافهما كما سترى.
(الثالث) بيان المراد يدفع الإيراد، ويثبت الحكم على الوجه الصحيح.
***
أجوبة الأسئلة المتقدمة
الأول بحث المرأة:
إن الإسلام قد راعى طبيعة المرأة ووظيفتها في الحياة، ولم يدعها إلى عمل
الرجل الذي جعل كافلاً لها. وقد أوردنا عن الموجز في ذلك ما فيه مقنع. أما قوله
فكل حق للرجال في حرمة أو مال، ينبغي أن يكون للمرأة مثله، ولا عليها ولا
عليه أن يزيد حقها في هذه الأمور على حقه، فيجاب عنه من وجهين:
(1)
أن هذا مبني على الغلو في المساواة بين الرجل والمرأة في عامة
الشؤون والحقوق [2] وقد نقلنا عن (الموجز) نفسه رد هذا القول، لما ينبني عليه
من فساد نظام الأسر، وأن مصالح الحياة الخارجية يجب أن تكون بيد الرجل وحده،
إذاً فتسويتها به في المال - مع أنه هو المكلف أن يكون قوامًا عليها وعلى ولده
بمقتضى عمله الطبيعي - يعد ظلمًا بينًا، ينشأ عنه خلل اجتماعي، وهو وقوع
الثروة في يد أقل النوعين حاجة إليها.
(2)
أن الإسلام وإن جعل للذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين، فإن المرأة
في هذه القسمة هي الراجحة الرابحة، لأن الرجل هو المكلف بالإنفاق طبعًا وشرعًا
كما قدمنا، فلو أخذ ميراثه ألفين مثلاً، وأخذت هي ألفًا، عاد لها من نصيبه ألف
بطريق النفقة العادلة، واحتفظت هي بنصيبها لنفسها، فكان لها بالنتيجة ألفان وكان
له ألف واحد، فأصبح للمرأة مثل حظ الذكرين، فأي حيف بعد هذا وقع على المرأة،
وأي ربح أصابه الرجل في هذا الاقتسام، وهل هُضمت المرأة حقها في شرعة
الإسلام؟
نعم، هناك أمور استثنائية تضطرها إلى العمل الخارجي أو الاكتساب كأن
تكون أيّمًا ولها صغار لا مال لهم ولا كافل ممن تلزمهم نفقتهم من آل الرجل، فالإسلام
قد أباح لها ما للرجل من موارد الكسب، وجعل نصيبها منها مساويًا لنصيبه -
وجملة القول أن المرأة في الإسلام لا تشكو ظلمًا ولا هضمًا، وهي جارية فيه
على مقتضى النواميس الكونية كما قدمنا.
***
الثاني والثالث الحقوق والعقوبات:
إن تقسيم العقوبة إلى أدوار انتقام وقصاص وإصلاح، والحق إلى شخصي،
وإلهي، وعام، هو تقسيم تاريخي، وأمور اعتبارية، لا حقائق ثابتة متغايرة، فإنه
لا منافاة بين كون العقوبة حقًّا شخصيًّا وإلهيًّا وعامًّا، وإنما يختلف التعبير باختلاف
الاعتبار، فالحق شخصي من جهة قرابة صاحب الحق وذويه، وإلهي من حيث إن
الله تعالى هو الذي قسَّم الحقوق على قاعدة العدل والإحسان، وشرع القصاص رحمة
بالعباد وذريعة لحسم مادة الفساد، وحق عام من حيث وحدة الأمة وتضامنها وأن ما
شرع في مصلحتها، فهي المكلفة بتنفيذ الحكم بواسطة حكومتها.
والانتقام قد يُراد به التأديب، والقصاص تكون غايته الحياة الطيبة والإصلاح،
فلو أن أمة (كالأمة العثمانية مثلاً) كان لها حريتها واستقلالها وسعة ملكها،
وعظمة سلطانها ثم خالفت في سيرها سنن الاجتماع، وأدارت رحى ملكها على
غير قطب الشورى والاشتراع، وراحت تسوس الرعية بما يملي عليها الهوى
والظلم، ثم طال عليها الأمد، فهبت فيها أعاصير الفتن، وذاق بعضها بأس بعض
فسطت عليها أمم قوية فسلبتها حريتها واستقلالها، وجعلت ممالكها بينها نهبًا مقسمًا،
قلنا: لو أن أمة أصيبت بمثل ذلك فاتعظت بما أصابها، وهبت تجاهد في سبيل حقها
المغصوب، وإعزاز شأن وطنها المحبوب، إذاً لصح أن يقال: إن ما أصابها كان
انتقامًا من ذنوبها، وقصاصًا أو جزاءً على عملها، وتعذيبها كان موقظًا لشعور
أفرادها، وسببًا لصلاحها ورشادها، وداعيًا إلى تضامنها واتحادها، والانتقام من
الأمم التي تطغى بإذاقتها العذاب بآية كونية أو بأيدي أمة أو أمم عاتية قوية هو
سنة من سنن الله تعالى في الوجود، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، والشواهد على ذلك
من تاريخ الأمم القديمة والحديثة كثيرة.
وما يقال في الأمم يقال في الأفراد، فإن القتل والقطع والجلد يراد منها صلاح
الفرد والمحافظة على المجموع، وكم من نقمة أورثت نعمة، وإن تعجب فعجب أن
يُرى في حد القاتل والزاني والسارق سُبَّة وعار على المجتمع، وأن لا يرى
الخطب أوجع، والخزي على المجتمع أشد، بما تصنعه هذه الأمم المادية - دعية
قوانين العدل والإصلاح!! - من قتل الشعوب الآمنة في عقر دارها وسلبها كل ما
تملك، وإفسادها نظام الأسر والبيوت، بل المجتمع كله.
والعجب كل العجب ممن يكبر أمر المسبب، ويغفل عن السبب، أو ينكر
القصاص العادل ولا يعظم الذنب.
الفظاعة ليست في قصاص البريء الذي يتعلق به الحق الشخصي والحق
الإلهي والحق العام، ولكنه في الجريمة التي أفضت إلى القصاص الذي أخذ المجرم
بذنبه، وكان فيه حياة الباقي، وإذعان القرابتين للحكم، وإزالة الوغر والضغن
وكف الأذى والعدوان.
وهل كانت دولة (الخلافة العثمانية) مصيبة في إبطالها أحكام الشريعة،
والاستعاضة عنها بتلك القوانين التأديبية، التي لم تكن إلا باعثًا على زيادة الإجرام
وارتكاب الآثام والفساد العام، الذي عمَّ المحكومين ومنفذي الأحكام؟ ألم تكن تلك
الكلمة الخاطئة: (اضرب واجرح لا تخف، هي حبسة وزوج أكتاف) هي المثل
السائر على ألسنة مجرمي العوام؟ المشجع على ارتكاب الجرائم في تلك الأيام؟
وهب أن في سجون الغرب من ضروب التربية والإصلاح ما يجعل الشقي سعيدًا،
فهل كانت سجون الشرق يوم اختيرت لها قوانين الغرب مستوفية وسائل التهذيب؟
وكيف عنينا بالغايات قبل التماس الوسائل؟ ثم ألا تختلف الأحكام باختلاف الأقوام؟
وهل اتحدت عقلية الشرق والغرب ونفسيتهما فتكون ذرائع الإصلاح فيهما واحدة؟
فقول (الموجز) : رأوا أن القود على إطلاقه وجرح الجارح وقطع السارق
كان لها أيام وانفضت. أقول (فيه) إنها ما انقضت ولن تنقضي، ولا تزال الأمة
التي تعمل بها كنجد واليمن أسعد حظًّا وأهنأ عيشًا وأقل جرائم من غيرها، وسعادتهم
في بلادهم تنبني على أصلين (الأول) التربية الدينية التي هي أقرب
مهذب للنفس وزاجر عن الشر (والثاني) اعتقاد أن كلاً مأخوذ بذنبه، وأن كل من
يقوم على ما تحدثه به نفسه من قتل أو جرح ينفذ فيه مثله في الحال.
ونحن نسأل الله تعالى أن يحمي الجزيرة العربية من آفات المدنية الحديثة،
ونفثات سمومها القاتلة، وأعظمها فتكًا في الأفراد والأمم، وتقويضًا لدعائم الاجتماع
والعمران، وهو ما أباحته قوانينها المهذبة (!) العادلة (!!) من الميسر والربا
والزنا والخمور، وإن شئت قلت: سلب الأموال، وإهلاك المساكين والعمال،
وتضييع الأنساب، وإفساد العقول.
وإليك ما قاله الأستاذ النكدي في محاضرته (القضاء في الإسلام) التي طبعها
من بعد رسالة مستقلة قال (ص 99 ج1 محاضرات المجمع) :
(جاء هذا القضاء بكثير من الأصول والأحكام التي يزعم أكثرنا أنها كانت
مجهولة لولا القوانين الحديثة) وكتبت تحت عنوان (الادّعاء العام) ما نصه:
(فوض القانون إلى المدّعى العام أن يتتبع الجرائم فيقيم الدعوى على فاعلها
وأن يدافع عن الحق العام، ويخاصم كل من يعبث به (إلى أن قال: وهذه الخطة
لم يغفل الشرع أمرها. وقد سماها الأصوليون (حقوق الله) وعرفوها بأنها ما تعلق
نفعه بالعامة، ويجب على ولي الأمر إقامتها مثل جزاء السارق، وقاطع الطريق
واللص وغيرهم من أهل الفسق والفجور) ثم نقل عن كتاب السياسة الإلهية لشيخ
الإسلام ابن تيمية ما يؤيد ذلك.
وقال ص 103 منه: (إدغام العقاب) :
لما ارتقت الهيئة الاجتماعية ورقت [3] قوانينها فكان [4] من وراء ذلك أن
جعلت العقاب إصلاحًا وتأديبًا، لا انتقامًا وتعذيبًا، وجاءت المادة (299) من
أصول المحاكمة الجزائية تقول في شقها الثاني: إذا ارتكب المتهم عدة جنايات
وجنحات معًا فتحكم [5] بالجزاء المعين للأشد عقوبة، ومثل ذلك ما قاله أبو يوسف
في كتاب الخراج به) .
وإن لم يكن القاذف ضرب للأول حتى قذف آخر فإنه يضرب لهما جميعًا
حدًّا.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
نقلنا هذا البحث عما كتبه (موريس بلوك) في معجم (السياسة والاجتماع) وهو قد اعتمد أيضًا في قسم مما كتبه على بول بواتوا) .
(2)
المنار: بل فيه خروج من المساواة إلى تفضيل المرأة كما صرح به في قوله: ولا عليها ولا عليه إلخ.
(3)
المنار: الصواب رقيت لأن رقي من باب علم، وورد رقا الطائر يرقو.
(4)
الصواب كان.
(5)
الصواب يحكم - بالبناء للمفعول.