المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة - مجلة المنار - جـ ٢٧

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (27)

- ‌رمضان - 1344ه

- ‌فاتحة المجلد السابع والعشرين

- ‌نموذج من آراء أساتذة المدارس المصرية

- ‌حكم الشرع الشريف في لبس القبعة

- ‌مكان الإسلام من مسلمي الزمانوالحكم عليهم بنصوص القرآن

- ‌مسألة صفات الله تعالىوعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

- ‌الصحة

- ‌حديث عن الجامعة الأحمديةالمشهورة - في بلادنا - باسم القاديانية [*]

- ‌سوانح وبوارح [*]

- ‌فتنة ملاحدة الترك في سورية ومصر

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌شوال - 1344ه

- ‌مسألة صفات الله تعالىوعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

- ‌فتاوى لابن تيمية

- ‌دعاية الإلحاد في مصر

- ‌الإلحاد في الجامعة المصرية

- ‌بلاغ عام

- ‌مذكرةمقدمة إلى مؤتمر الخلافة العامفي مصر القاهرة

- ‌الصحة

- ‌رجال الدين في أمريكايعارضون عقد معاهدة مع أمة غير مسيحية

- ‌ذو القعدة - 1344ه

- ‌علماء مصر يؤيدون مذهب السلف الصالح

- ‌علاقة الأحياء بالأموات [*]

- ‌مقدمة مجموعة مقالاتالوهابيون والحجاز

- ‌مسألة صفات الله تعالىوعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

- ‌الصحة

- ‌أفحكم الجاهلية يبغون

- ‌رأي في الجديد ومدعي التجديد

- ‌محاربة البغاء

- ‌جواب الأستاذ الإمامعن كتاب لبعض علماء الشام

- ‌أمر القادياني قد فصّل

- ‌ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله(5)

- ‌ذو الحجة - 1344ه

- ‌الإرشاد

- ‌الصحة

- ‌ساعة مع جلالة الملك عبد العزيز بن السعود

- ‌الوهابية والعقيدة الدينية للنجديين

- ‌الألفة والاتحاد أساس مجد الإسلام

- ‌الجماعة الإسلامية في برلينونداؤها العام وبلاغاتها

- ‌استدراك آخرعلى إهداء العبادات أو ثوابها إلى الموتى

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌المحرم - 1345ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌الصحة

- ‌جمعية تجديد الإلحاد والزندقةوالإباحة المطلقة

- ‌البابية البهائية في بلاد العرب

- ‌عودتنا من الحجاز

- ‌صفر - 1345ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌جمعية الإلحاد والزندقةالعلم والدين [*]

- ‌الصحة

- ‌مبحث في الجرح والتعديل(2)

- ‌ذات بين مصر والحجاز

- ‌نموذج من كتابالقول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌ربيع الأول - 1345ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌العلم والدين(2)

- ‌الصحة

- ‌كعب الأحبار ووهب بن منبه

- ‌الزعيمانشوكت علي ومحمد علي

- ‌نموذج من كتابالقول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌ربيع الآخر - 1345ه

- ‌ما يباح للرجل من محارمهوشراء السلعة بأكثر من ثمن المثل لأجَل

- ‌الإيمان والكفر والنفاق والظلم والفسق(2)

- ‌قاعدة جليلةفيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

- ‌القرآن والعلم الحديث

- ‌الصحة

- ‌بطلان الدفاع عنجرح كعب الأحبار ووهب بن منبه

- ‌جهل زعماء المسلمين

- ‌الحجاز والمؤتمرات الإسلاميةفي الهند وجاوة

- ‌جمادى الأولى - 1345ه

- ‌البدعة اللغوية والبدعة الشرعية

- ‌طلاق الغضبانوالتزوج بالنصرانية

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلقبأحكام السفر والإقامة

- ‌إعجاز القرآن

- ‌كتاب في الشعر الجاهليدعاية إلى الإلحاد والزندقةوطعن في الإسلام

- ‌الصحة

- ‌مذكرة مرفوعة

- ‌نموذج من كتابالقول الوثيقفي الرد على أدعياء الطريق

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌مطبوعات المكتبة الأهلية

- ‌جمادى الآخرة - 1345ه

- ‌أسئلة عن الأبدال والأوتادوالقطب الغوث

- ‌قاعدة جليلة فيما يتعلقبأحكام السفر والإقامة

- ‌منهج الدكتور طه حسين العلمي في البحث

- ‌الصحة

- ‌الطحال والكبد.. هل هما دمان

- ‌وجوب الحج

- ‌تتمة القول في مسألة الجسدالذي ألقي على كرسي سليمان عليه السلام

- ‌أثر المقتطف في نهضةاللغة العربية بالعلم

- ‌العرب وجزيرتهم بين الإمامينيحيى بن حميد الدين وعبد العزيز آل سعود

- ‌خاتمة المجلد السابع والعشرين

الفصل: ‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان وغير ذلك

لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية

رحمه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

قال شيخنا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه:

الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،

من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده

لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(أما بعد) فهذه قاعدة في الأحكام التي تختلف بالسفر والإقامة مثل قصر

الصلاة والفطر في شهر رمضان ونحو ذلك، وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي

وأحمد وغيرهم جعلوها نوعين؛ نوعًا يختص بالسفر الطويل وهو القصْر والفطر،

ونوعًا يقع في الطويل والقصير كالتيمم والصلاة على الراحلة، وأكل الميتة هو من

هذا القسم، وأما المسح على الخفين، والجمع بين الصلاتين فمن الأول، وفي ذلك

نزاع.

والكلام في مقامين (أحدهما) الفرق بين السفر الطويل والقصير فقال:

***

المقام الأول

(الفرق بين السفر الطويل والقصير)

هذا الفرق لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسول الله (صلى الله عليه

وسلم) بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها به مطلقًا كقوله تعالى في آية الطهارة:

{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ} (النساء: 43) .

وقوله تعالى في آية الصيام {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ

أُخَرَ} (البقرة: 184) . وقوله تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ

جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101)

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر

الصلاة) [1]

وقول عائشة: فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة

الحضر. وقول عمر: صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر

ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم. وقوله صلى الله

عليه وسلم: (يمسح المقيم يومًا وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن) وقول صفوان بن

عسال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفرًا أو مسافرين أن لا ننزع

خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط أو بول أو نوم [2] . وقول

النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان

يعمل وهو صحيح مقيم) [3] وقوله صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب

يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليتعجل الرجوع

إلى أهله) [4]

فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر

طويل وسفر قصير، فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقًا لا

أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي ذكر من

تعليق الشارع الحكم بمسمى الاسم المطلق وتفريق بعض الناس بين نوع ونوع من

غير دلالة شرعية له نظائر:

(منها) أن الشارع علق الطهارة بمسمى الماء في قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً

فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (النساء: 43) . ولم يفرق بين ماء وماء، ولم يجعل الماء

نوعين طاهرًا وطهورًا.

(ومنها) أن الشارع علق المسح بمسمى الخف ولم يفرق بين خف وخف

فيدخل في ذلك المفتوق والمخروق وغيرهما من غير تحديد، ولم يشترط أيضًا أن

يثبت بنفسه (ومن ذلك) أنه أثبت الرجعة في مسمى الطلاق بعد الدخول، ولم يقسم

طلاق المدخول بها إلى طلاق بائن ورجعي.

(ومن ذلك) أنه أثبت الطلقة الثالثة بعد طلقتين و (افتداء) .

والافتداء: الفرقةُ بعوض، وجعلها موجبة للبينونة بغير طلاق يحسب من

الثلاث.

وهذا الحكم معلق بهذا المسمى لم يفرق بين لفظ ولفظ (ومن ذلك) أنه علق

الكفارة بمسمى أيمان المسلمين في قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (المائدة: 89) وقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: 2) ولم يفرق

بين يمين ويمين من أيمان المسلمين، فجعل أيمان المسلمين المنعقدة تنقسم إلى

مكفرة وغير مكفرة مخالف لذلك (ومن ذلك) أنه علق التحريم بمسمى الخمر وبَيَّن

أن الخمر هي المسكر في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر، وكل مسكر

حرام) ولم يفرق بين مسكر ومسكر.

(ومن ذلك) أنه علق الحكم بمسمى الإقامة كما علقه بمسمى السفر، ولم يفرق

بين مقيم ومقيم، فجعل المقيم نوعين نوعًا تجب عليه الجمعة بغيره ولا تنعقد به،

ونوعًا تنعقد به لا أصل له.

بل الواجب أن هذه الأحكام لمّا علقها الشارع بمسمى السفر فهي تتعلق بكل

سفر سواء كان ذلك السفر طويلاً أو قصيرًا، لكن ثَمَّ أمور ليست من خصائص

السفر بل تشرع في السفر والحضر فإن المضطر إلى أكل الميتة لم يخص الله حكمه

بسفر؛ لكن الضرورة أكثر ما تقع به في السفر فهذا لا فرق فيه بين الحضر والسفر

الطويل والقصير فلا يجعل هذا مغلقًا بالسفر.

وأما الجمع بين الصلاتين فهل يجوز في السفر القصير؟ فيه وجهان في

مذهب أحمد أحدهما لا يجوز كمذهب الشافعي قياسًا على القصر، والثاني يجوز كقول

مالك؛ لأن ذلك شرع في الحضر للمرض والمطر فصار كأكل الميتة إنما علته

الحاجة لا السفر وهذا هو الصواب، فإن الجمع بين الصلاتين ليس معلقًا بالسفر

وإنما يجوز للحاجة بخلاف القصر.

وأما الصلاة على الراحلة فقد ثبت في الصحيح بل استفاض عن النبي صلى

الله عليه وسلم أنه كان يصلي على راحلته في السفر أيَّ وجه توجهت به، ويوتر

عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.

وهل يسوغ ذلك في الحضر؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره فإذا جوز في

الحضر ففي القصر أولى، وأما إذا منع في الحضر فالفرق بينه وبين القصر

والفطر يحتاج إلى دليل.

***

المقام الثاني

(حد السفر الذي علق الشارع به الفطر والقصر)

وهذا مما اضطرب الناس فيه، قيل: ثلاثة أيام وقيل: يومين قاصدين؟

وقيل: أقل من ذلك؛ حتى قيل: ميل والذين حددوا ذلك بالمسافة منهم من قال:

ثمانية وأربعون ميلاً، وقيل: ستة وأربعون، وقيل خمسة وأربعون، وقيل

أربعون، وهذه أقوال عن مالك، وقد قال أبو محمد المقدسي: لا أعلم لما ذهب إليه

الأئمة وجهًا.

وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتًا بنص ولا إجماع ولا قياس

وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير، ويجعلون ذلك حدًّا للسفر الطويل

ومنهم من لا يسمي سفرًا إلا ما بلغ هذا الحد، وما دون ذلك لا يسميه سفرًا فالذين

قالوا: ثلاثة أيام احتجوا بقوله (يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن) وقد ثبت عنه

في الصحيحين أنه قال (لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم) وقد

ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (مسيرة يومين) وثبت في الصحيح (مسيرة يوم)

وفي السنن (بريدًا) فدل على أن ذلك كله سفر، وإذنه له في المسح ثلاثة أيام إنما

هو تجويز لمن سافر ذلك وهو لا يقتضي أن ذلك أقل السفر، كما أذن للمقيم أن

يمسح يومًا وليلة وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة، والذين قالوا: يومين اعتمدوا

على قول ابن عمر وابن عباس، والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة حتى ابن

عمر وابن عباس وما روي (يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من

مكة إلى عسفان) إنما هو من قول ابن عباس ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعًا

إلى النبي صلى الله عليه وسلم باطل بلا شك عند أئمة أهل الحديث، وكيف يخاطب

النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة بالتحديد، وإنما أقام بعد الهجرة زمنًا يسيرًا وهو

بالمدينة لا يحد لأهلها حدًّا، كما حده لأهل مكة وما بال التحديد يكون لأهل مكة

دون غيرهم من المسلمين؟

وأيضًا فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض

وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس، ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليدًا

وليس هو مما يقطع به، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر الأرض بمساحة أصلاً

فكيف يقدر الشارع لأمته حدًا لم يجر به له ذكر في كلامه وهو مبعوث إلى جميع

الناس فلا بد أن يكون مقدار السفر معلومًا علمًا عامًّا، وذرع الأرض مما لا يمكن

بل هو إما متعذر وإما متعسر؛ لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح طريق فإنما

يمسحونه على خط مستوٍ أو خطوط منحنية انحناء مضبوطًا، ومعلوم أن المسافرين

قد يعرفون غير تلك الطريق وقد يسلكون غيرها، وقد يكون في المسافة صعود وقد

يطول سفر بعضهم لبطء حركته ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته والسبب

الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض.

والموجود في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في تقدير الأرض

بالأزمنة كقوله في الحوض (طوله شهر وعرضه شهر) وقوله: (بين السماء

والأرض خمسمائة سنة) [5] وفي حديث آخر: (إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون

سنة) فقيل الأول بالسير المعتاد سير الإبل والأقدام والثاني سير البريد فإنه في

العادة يقطع بقدر المعتاد سبع مرات، وكذلك الصحابة يقولون يوم تام ويومان ولهذا

قال من حده بثمانية وأربعين ميلاً مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام لكن

هذا لا دليل عليه.

وإذا كان كذلك فنقول: كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه

إلى العرف، فما كان سفرًا في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم

وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة؛ فإن هذه المسافة بريد وهذا سفر ثبت فيه جواز

القصر والجمع بالسنة، والبريد هو نصف يوم سير الإبل والأقدام وهو ربع مسافة

يومين وليلتين وهو الذي قد يسمى مسافة [6] ، وهو الذي يمكن الذاهب إليها أن

يرجع من يومه، وأما ما دون هذه المسافة إن مسافة القصر محدودة بالمساحة فقد قيل

يقصر في ميل. وروي عن ابن عمر أنه قال: لو سافرت ميلاً لقصرت قال

ابن حزم: لم نجد أحدًا يقصر في أقل من ميل ووجد ابن عمر وغيره يقصرون في

هذا القدر، ولم يحد الشارع في السفر حدًا فقلنا بذلك اتباعًا للسنة مطلقة، ولم نجد

أحدًا يقصر بما دون الميل ولكن هو على أصله وليس هذا إجماعًا، فإذا كان ظاهر

النص يتناول ما دون ذلك لم يضره أن لا يعرف أحداً ذهب إليه كعادته في

أمثاله، وأيضًا فليس في قول ابن عمر أنه لا يقصر في أقل من ذلك، وأيضًا فقد ثبت

عن ابن عمر أنه كان لا يقصر في يوم أو يومين فإما أن تتعارض أقواله أو

تحمل على اختلاف الأحوال، والكلام في مقامين.

(للبحث بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة بسند صحيح.

(2)

رواه الشافعي وأحمد والنسائي والترمذي وابن خزيمة وصححاه وغيرهم وحكى الترمذي عن البخاري أنه حديث حسن وأورده المجد ابن تيمية جد المؤلف في المنتقى بلفظ أمرنا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على ظهر ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة، رواه أحمد وابن خزيمة وقال الخطابي: صحيح الإسناد وحديث عائشة وعمر الموقوفان لهما حكم المرفوع وهما في الصحيح.

(3)

رواه أحمد والبخاري.

(4)

رواه أحمد والشيخان وابن ماجه.

(5)

هذا الحديث لا يصح قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء رواه الترمذي من رواية الحسن عن أبي هريرة، وقال غريب (قال) ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة ورواه أبو الشيخ في العظمة من رواية أبي نصر عن أبي ذر ورجاله ثقات إلا أنه لا يعرف لأبي نصر سماع من أبي ذر انتهى، وأقول: الحسن هو البصري الزاهد الفقيه التابعي المشهور قالوا كان يرسل كثيراً ويدلس فيروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول: حدثنا وخطبنا يعني قومه، وهذا الحديث من مراسليه التي قالوا: إنها كالريح وأبو نصر راوي الحديث الثاني، قال البزار: مخرجه أحسبه حميد بن هلال ولم يسمع من أبي ذر كما، قال البزار: مخرج الحديث عنه وينبغي أن يعتد بمراسليه من يحتج بالمراسيل كالحسن؛ لأن ابن سيرين قال: كان أربعة يصدقون كل من حدثهم ولا يبالون ممن يسمعون الحسن وأبو العالية وحميد بن هلال وداود بن أبي هند ذكر هذا الدارقطني في سننه وسقط من بعض نسخها اسم الأخير كما في تهذيب التهذيب.

(6)

بهامش الأصل: لعله مسافة الغدو ورواحه.

ص: 347

الكاتب: محمد بهجت البيطار

كتاب الموجز في الاجتماع

بحث علمي ديني للأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار

عضو المجمع العلمي بدمشق والمؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة

(2)

(تابع لما نشر في ج4 ص 295)

الرابع

مبحث الخلافة الإسلامية

الحكم في الإسلام أهو ثيوقراطي أو ديمقراطي؟

عد حضرة المؤلف الخلافة في الإسلام من النوع الثيوقراطي، قال: وهو

الحكم الذي يستمد نفوذه وقوّته من الله، والقائمون بهذا الحكم باسم الله يحكمون

وباسمه يتكلمون، حتى إنهم لينزلون أنفسهم من الله في منزله الوزراء. أهـ

أقول: يبدو للإنسان إزاء هذه الكلمة آراء ووجوه:

(1)

أن الحكم في الخلافة الإسلامية لله وحده على قاعدة العدل والمساواة

بين الناس في الحقوق، لا فرق في ذلك بين الصعاليك والملوك، قال تعالى: {إِنَّا

أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ

عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) وقال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ

قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) أي: لا يحملنكم بغض

قوم لكم أو بغضكم لهم على ألا تقيموا سنة العدل فيهم، ثم أمرهم بالعدل الكامل

الشامل للمسلمين وغيرهم على اختلاف طبقاتهم بقوله (اعدلوا) وحذف المعمول

يؤذن بالعموم.

ومن هذا النوع قصة المخزومية التي أوردها المؤلف في كتابه عن

الصحيحين وأنها لما سرقت أهم قريشًا أمرها، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم

معاتبًا أسامة الذي استشفع لها (أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت

محمد سرقت لقطعت يدها) فهذه الخلافة هي المثل الأعلى في حكومات الأرض،

وهي التي جرى عليها الخلفاء الراشدون من بعد، وسأنقل عن الأستاذ المؤلف

تفضيلها على كل حكومة أخرى.

(2)

لا نعرف أحدًا من خلفاء المسلمين الراسخين يدعي لنفسه هذه الرتبة،

(ينزل نفسه منزلة الوزير من الله) ، أو يزعم أنه مؤيد بالعصمة، كما هو شأن

رجال هذا النوع من الحكم، ولا نعرف في الإسلام أقل حق يمتاز به أكبر خليفة

عن أصغر واحد من الرعية، وليس الإمام إلا حافظًا ومنفذًا للأحكام العادلة المأخوذة

أو المستنبطة من النصوص الشرعية العامة تحت مراقبة أولي الأمر، وهم أهل

الحل والعقد والشورى في الإسلام، ويبقى له هذا الأمر، وتجب طاعته فيه،

وإعانته عليه مدة استقامته كما أمر، فإذا أعوج وجب تقويمه بالكلام أو بحد الحسام

يؤيد ذلك قول عمر رضى الله عنه: إن رأيتم فيَّ اعوجاجا فقومومني بألسنتكم، قالوا:

بل نقومك بسيوفنا، فإذا لم يرجع إلى الحق وجب خلعه، ما لم تترتب على ذلك

مفسدة أكبر من مفسدة بقائه.

(3)

الظاهر أن المؤلف يعرض بالحكومة الإسلامية في دور التقهقر

والخذلان أيام تغلغل نفوذ الأعاجم - الذين لم يرسخوا في الإسلام رسوخ أهل

العرب فيه في البلدان الإسلامية باستعمال الملوك إياهم، وفشت أخلاقهم في

المسلمين، فتعطلت أحكام الخلافة، وعادت اسمًا بلا مسمى، ولفظًا بلا معنى،

وطفق المتملقون والمستجدون من الشعراء، يكيلون المدح لمن سموهم خلفاء

المسلمين جُزافًا، وانتهى الأمر باجتياح التتار بلاد المسلمين، والقضاء على

الخلافة الإسلامية العربية.

(4)

فتن كثير من الناس بما صنع الترك الكماليون من القضاء على الدولة

التي كانت تنتحل اسم الخلافة واستبدال حكومة جمهورية لا دينية بها، وظنوا كما

ظن زعماء الترك أن هذه الفعلة الشنعاء هي التي أورثتهم استقلالهم، وأن الإسلام

هو الذي كان عثرة في سبيلهم، وموغرًا لصدور الأوروبيين عليهم، فلما وضعوا

القبعة على رؤوسهم وعملوا بقوانين أهلها زال تعصب الغربيين عنهم، وصاروا

يعاملونهم معاملة أنفسهم؛ لأنهم صاروا أمة متمدنة في نظرهم! !

والجواب من وجوه:

(الأول) : أن رئيس الجمهورية قد صرح بأنهم لم ينالوا استقلالهم إلا بالقوة

الحربية التي استخدموها في الدفاع عن حوزتهم، واسترداد ملكهم.

(الثاني) أن المعروف أنهم انتصروا باسم الدين لا الإلحاد، وهم أثناء

الحرب قد أزالوا المنكرات من بلادهم بأيديهم كالمواخير العامة والحانات وغيرهما.

(الثالث) أن الإفرنج لا يبغضون من الإسلام حروفه، وإنما يبغضون منه

ما يوجبه على أهله من الأخذ بأسباب النصر، والتماس وسائل القوة والعزة والثروة

والسيادة في الأرض {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ،

{وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: 55) . فهذه الوسائل

والمقاصد يحاربها الغرب الطامع المستعبد حيثما وجدت، وتحت أي عنوان استترت

أو ظهرت، سواء أكان إسلامًا أم إلحادًا، صلاحًا أم فسادًا، وهم الآن إذا جاملوا

الكماليين فلقوتهم وبأسهم، لا لكفرهم أو فسقهم.

(الرابع) أن عمل الجمهورية على كونه فعلة شنيعة في الإسلام - مناقض

للقواعد الاجتماعية، مخالف للسنن الكونية، بل هو ضربة قاضية على الحكومة

الديمقراطية، ذلك بأنه ليس مستمدًّا من روح الأمة، بل هو مخالف لعقيدتها وتربية

دهمائها، وقد أوقد عملها في شعبها الآمن المتدين نار الثورة، وأثار عليها حفائظ

الانتقام، وفتح بابًا الدسائس الأجنبية في بلادها، فهي تضعف باقتتالها من حيث

تطلب القوة، وتنقسم على نفسها من حيث تريد الوحدة.

(الخامس) أنها لو أرادت أن تتمتع وتعيش - كشعب أوروبي - بالقوة

والثروة والوحدة والنظام لما رأت في الإسلام ما يعارض ذلك، بل الإسلام قد سبقها

وسبق أوربا بمئات السنين إليه، وجرى ملوكه العدول أيام حضارتهم عليه، ولكنها

أرادت أن تعيش كأشد شعب أوربي إيغالاً في المفاسد، وتفننًا في الرذائل،

كاستباحة الإبضاع والأموال وغيرهما. وهذه من آفات المدنية المادية، ومقطعات

روابط الهيأة الاجتماعية، وهي ما تنزهت عنه مدنية الإسلام، وامتازت به

حضارته الأخلاقية - التي أساسها العدل والفضيلة - على سائر المدنيات التي تبيح

الظلم والرذائل.

(السادس) أن الله تعالى قيض للإسلام حماة ودعاة في الشرق والغرب،

وتجددت دعوته بقوة في جزيرة العرب، وبدأ ينقشع عن محياه ما تكثف عليه من

غيوم البدع والأوهم، وما علق به من شبه الماديين وأعداء الإسلام، فمن مرقوا

منه بفتنة تفرنج أو شبهة إلحاد، عوضنا المولى عنهم بمن هم خير منهم.

***

الحكومة الإسلامية ديموقراطية

وبعد هذا كله أقول: إن الخلافة في الإسلام هي روح الديموقراطية الحرة؛

لأنها تستمد قوانينها من كتاب الله الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من

خلفه تنزيل من حكيم حميد، ومن سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم التي تبين

للناس ما نزل إليهم من ربهم.

ومن مميزات هذه الحكومة الإسلامية على سائر الحكومات النيابية المدنية أن

قوانينها مبنية على النصفة والعدل، (لا ضرر ولا ضرار) بخلاف هذه القوانين

التي تبيح كثيرًا من الضرر بالنفس والعقل والعِرْض والمال.

ومن مميزاتها الرجوع عند تنازع أولي الحل والعقد إلى كتاب الله تعالى وسنة

النبي صلى الله عليه وسلم، وهما الأصلان اللذان تسلم الأمة لحكمها تسليمًا،

والقول في كل قضية لمن كان أصح دليلاً، وأهدى سبيلاً، وأدنى في حكمة إلى

المصلحة العامة، بخلاف المجالس القانونية التي كثيرًا ما تحكم الأكثرية فيها بما

تملي عليها المصلحة الخاصة أو الهوى، وتخالف الحق الصريح مخالفة ظاهرة،

فلا هي معتقدة بصحة حكمها، ولا الأقلية المنصفة مقتنعة بفساد رأيها، ولكنها

تكون مغلوبة للأكثرية.

قال الأستاذ الإمام في كتاب الإسلام والنصرانية: (ولا يجوز لصحيح النظر

أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (كراتيك) أي سلطان إلهي، فإن

ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة بالتشريع، وله

في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة،

بل بمقتضى الإيمان، إلى أن قال:

يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني، أفلا يكون للقاضي أو

المفتي أو شيخ الإسلام؟ وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد

وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع

الإسلامي) .

وقال عالم الإسلام السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر في كتابه

(الخلافة أو الإمامة العظمى) ص 91: (إن صحفنا العربية تصرح في هذا العهد آنًا

بعد آخر بأن أحدث أصول التشريع هو أنه حق للأمة، ويظن هؤلاء الذين يكتبون

هذا، وأكثر من يقرءون كلامهم أن هذا الأصل من وضع الإفرنج، وأن الإسلام لا

تشريع فيه للبشر؛ لأن شريعته مستمدة من القرآن، والأحكام المدنية والسياسية فيه

قليلة محدودة، ومن السنة - والزيادة فيها على ما في القرآن قليلة، ومناسبة

لحال المسلمين في أول الإسلام دون سائر الأزمنة ولا سيما زماننا هذا، وأن

الإجماع والاجتهاد - على استنادهما إلى الكتاب والسنة قد انقطعا، وأقفلت أبوابهما

باعتراف جماهير علماء السنة في جميع الأقطار الإسلامية، وأن هذا هو السبب في

تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدينية واضطرار الحكومتين المدنيتين

الوحيدتين التركية والمصرية إلى استبدال بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة

الإسلامية تقليدًا ثم تشريعًا! !)

ثم بين منشأ هذا الغلط العظيم، وساق أدلة الاشتراع في الإسلام بنحو ثلث

صحائف (ثم قال) :

(فنبين بهذا أن للاشتراع المدني والجنائي والسياسي والعسكري دلائل

كثيرة، منها قواعد الضرورات ونفي الحرج، ومنع الضرر والضرار، فلو لم

ينص في القرآن على أن أمور المؤمنين العامة شورى بينهم، ولو لم يوجب طاعة

أولي الأمر بالتبع لطاعة الله وطاعة الرسول، ولو لم يفرض على الأمة رد هذه

الأمور إليهم ويفوض إليهم أمر استنباط أحكامها، ولو لم يقر النبي - صلى الله

عليه وسلم - معاذًا على الاجتهاد والرأي فيما يعرض عليه من القضايا والأحكام

التي لا نص عليها في كتاب الله ولم تمض فيها سنة من رسوله - لو لم يرد هذا كله

وما في معناه - لكفت الضرورة أصلاً شرعيًّا للاستنباط الذي يسمى في عرف هذا

العصر بالتشريع. وراء هذا وذاك عمل الأمة في صدر الإسلام، وخير القرون،

وكذا ما بعدها من القرون الوسطى التي خرجت فيها الخلافة الكافلة للأمور العامة

عن منهج العلم الاستقلالي فزالا معًا لتلازمهما) اهـ.

ومن أراد تحقيق كون حكومة الخلافة في الإسلام أعدل حكومات الأرض

وأفضلها فعليه بمراجعة كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى الذي أثرنا عنه هذه الكلمة،

وكتاب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) ، لمؤلفه العلامة الجليل السيد محمد

الخضر التونسي، فإنهما من خير ما أخرج للناس في هذا العصر.

***

الخامس

مبحث الدين والعلم

قال صاحب (الموجز) ص 72: وعلى رجال العلم ألا يتقيدوا فيما يذهبون

إليه بشيء من عوامل الدين والسياسة، بل بما توحيه إليهم معارفهم، وبما توصلهم

إليه مساعيهم. أهـ

أقول: لا يخفى أن دين الحق لا يصادم العلم الصحيح، ولا يمنع أهله من

الاستفادة من نتائج قرائحهم، وثمرات معارفهم، بل يدعو إلى الاستزادة من العلم

والتحقيق فيه، ولكنه والعقل الصحيح يأبيان أن تتخذ المذاهب العلمية المتضاربة،

والآراء الكثيرة المتباينة أصولاً صحيحة ثابتة يرجع إليها، ويعتمد عليها،

ويجعل كل ذي مذهب، أو رأي مذهبه، أو رأيه قاعدة يحاول رد ما هو أقوى حجة

منها إليها، ومعلوم أن عوامل السياسة التي تعتمد الكذب لا تستوي مثلاً مع تعاليم

الدين التي توجب الصدق في كل شيء إيجابًا لا هوادة فيه.

وأذكر أني قرأت عن اللورد هدلي الإنكليزي تصريحه بأن سبب إسلامه هو

أنه ظهر له أن الآيات الكونية في القرآن الكريم لا تنبني إلا على أساس صحيح.

قال: وإذا اختلف القرآن مع العلم في شيء فيجب علينا أن نعترف للقرآن

بالصحة وأن معلوماتنا قاصرة بعد، وننتظر الزمن الذي تجيء فيه القضية العلمية

موافقة للتعاليم الإسلامية، وضرب لذلك مثلاً فقال: قضى الناس أجيالاً وهم

يحكمون بدوران الشمس حول الأرض التي زعموا أنها ثابتة، ثم عكسوا القضية

وحكموا بدوران الأرض حول الشمس، وأن هذه هي الثابتة، ثم صح عند العلماء

المتأخرين أن للشمس أيضًا حركة محورية.

قال: والقرآن الكريم الذي كانوا يخطئونه بأحكامهم الباطلة قد صرح بحركة

الأرض، وحركة الشمس المحورية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا. قال تعالى:

{وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) . وقال سبحانه: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ

العَلِيمِ} (يس: 38) . اهـ

على أن علماءنا قد صرحوا بأن النص الديني إذا خالف قاعدة قطعية وتعذر

الجمع بينهما أول النص بما ينطبق على العلم، ويتفق مع العقل [1] .

***

السادس

معنى كون الشرع صالحًا لكل جيل في كل زمن

قال صاحب (الموجز) : وكما أنه لا سبيل إلى وضع شرع دفعة واحدة،

فكذلك لا سبيل إلى أن يختم عليه بعد وضعه فيقال: (هذا هو الشرع الذي يصلح

لكل جيل في كل زمن) .

أقول: المراد يدفع الإيراد، وهنا يحسن بي جدًّا أن أوثر كلمة عن كتاب

(الخلافة) لحجة الإسلام في هذا العصر، منشئ المنار الأغر، وأخرى عن رسالة

(القضاء في الإسلام) لصديقنا الأستاذ الكريم مؤلف (الموجز) وكلتاهما في بيان

المراد من كون الإسلام صالحًا لكل جيل في كل زمن، وهو قول الأمة بالإجماع،

قال في كتاب الخلافة باختصار: (الإسلام هداية روحية، وسياسة اجتماعية مدنية،

فأما الهداية الدينية المحضة فقد جاء بها تامة أصلاً وفرعًا، وفرضًا ونفلاً، وأما

السياسة الاجتماعية المدنية، فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها، وشرع للأمة

الرأي والاجتهاد فيها؛ لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وترتقي بارتقاء

العمران، وفنون العرفان، ومن قواعده فيها أن سلطة الأمة لها، وأمرها شورى

بينها، وأن حكومتها ضرب من الجمهورية، وخليفة الرسول فيها لا يمتاز في

أحكامها على أضعف أفراد الرعية، وإنما هو منفذ لحكم الشرع ورأي الأمة، وأنها

حافظة للدين ومصالح الدنيا، وجامعة بين الفضائل الأدبية والمنافع المادية، وممهدة

لتعميم الأخوة الإنسانية بتوحيد مقومات الأمم الصورية والمعنوية، ولما طرأ

الضعف على المسلمين قصروا في إقامة القواعد وضعف الأصول، ولو أقاموها

لوضعوا في كل عصر ما يليق به من النظم والفروع.

وقال الأستاذ عارف بك في آخر رسالة القضاء والإسلام ما يأتي:

(إن أهل العصر الحاضر يزعمون هذا الشرع غريبًا عن قضايا العقوبات

جملة - دع الأصول الحديثة - بعيدًا عن روح العدل في هذا الباب، على حين رأيتم

ما بينهما من الصلة والعلاقة. ولو أنه أتيح لهذه الشريعة خلف سار على سنة ذلك

السلف، لانفردت عن الأشباه، وتنزهت عن النظائر، وهو إن كان شرعًا إسلاميًّا

فقد كفل العدل والنصفة لكل من نزل على حكمة مسلمًا كان أو غير مسلم.

لهذا وأمثاله لقبت هذه الشريعة بالسمحة، وهذه هي المفاخر الصحيحة التي

يعرفها التاريخ الحق، لا تلك البدع العريقة بالوهم، فإذا استفاق الخلف، واقتفى

سنة السلف، ونبذ القشور، وعاد إلى اللباب، فقد عاد إلى هذا الوطن عصره

الأول، الأغر المحجل.

وأقول: إن أئمة الإصلاح الإسلامي في هذا العصر عاملون على تحقيق هذا

المطلب الخطير، ومريدوهم في كل قطر جارون على طريقتهم فيه، وقد بدت

ثمرة الإصلاح، وظهرت بوارق النجاح، وأقرب طريق وأفضله فيما نرى

للوصول إلى هذه الغاية النبيلة - أي عود العصر الذهبي - عصر السلف الصالح

هو إحياء طريقتهم المثلى التي نالوا بها ما نالوا، وهي أن يكون مؤلفو العلوم

والفنون ومدرسوها منا متشبعين بالروح الإسلامية، متضلعين بالعلوم الشرعية؛

لكيلا يقع في درسهم وبحثهم ما يوقع الانشقاق بين العلم والدين، وتسوء به حالة

المتعلمين وأن يكون لرجال الدين مشاركة في العلوم الكونية لئلا يحسبوا النافع منها

ضارًّا والمؤيد للدين مخالفًا له، فيحاربون العلم باسم الدين، فيسيئون إلى أمتهم

ودينهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

كتبت هذه الكلمة ومكتبتي - مخطوطها ومطبوعها - بعيدة عن عيني، وزند

الأسى والأسف ينقدح في صدري بما أصاب الشام من الكوارث العظمى، لا سيما

كارثة الميدان، التي تشيب لهولها الولدان، ولكن لم يسعني إلا امتثال أمر الأستاذ

العارف، الذي تفضل علي بإهداء مؤلفه الجليل، وأمرني بكتابة كلمة فيه، فجعلت

كلمتي خدمة للعلم والدين، وتوحيدًا لأفكار الناشئين المتعلمين {إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ

الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .

وأرجو العفو عن التقصير فإن الفكر سابح في وادي حالة البلاد، والقلب

معذب بما أصاب العباد، ونسأله سبحانه كشف البلاء، وتحقيق الرجاء بمنّه وكرمه.

وقد فرغت من كتابتها يوم الجمعة 25 شوال سنة 1344هـ.

...

...

...

...

دمشق

...

...

...

...

محمد بهجت البيطار

_________

(1)

المنار: قد بين شيخ الإسلام ابن تيمية بطلان هذه القاعدة ' وأثبت أن القطعي هو الذي يرجح على غير القطعي سواء كان دينيًّا أو عقليًّا وأن القطعيان لا يتعارضان.

ص: 354