الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: مهاتما غاندي
الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي
القسم الثاني
الباب الأول
العلاج بالهواء
قد فرغنا الآن من البحث في أساسات الصحة وأصولها وكذلك عن طرق
صيانتها والمحافظة عليها. ولو أن جميع الناس - رجالاً ونساء - يخضعون
لقوانين الصحة ويتمسكون بالتجرد التام، لا تبقى أي حاجة للأبواب الآتية؛ لأنهم
يكونون في مأمن من جميع الأمراض والأوصاب سواء في أجسامهم أو عقولهم.
ولكن أين نجد هؤلاء الناس؟ وأين الذين لا يصابون بالأمراض؟ وعلى كل فإنَّا
كلما نعتني بالتمسك في الأصول التي دونت في هذا الكتاب، فالأغلب أننا نسلم من
الأمراض، ولكن إن أصابنا مرض فيجب أن نعالجه باهتمام، والأبواب الآتية تبين
كيفية العلاج بدون الاستعانة بالطبيب.
إن الهواء النقي كما هو لا بد منه لصيانة الصحة، كذلك لا غنى عنه في
معالجة الأمراض، فالمصاب بالنقرس مثلاً إذا عولج بالبخار الساخن يعرق بكثرة
وتلين أعصابه، وتستريح مفاصله، وهذا القسم من علاج البخار يسمى (الاستحمام
التركي) .
ومن كان يشكو حمى شديدة، فليجرد من ملابسة، ويلقى في الهواء الطلق،
تنزل الحرارة حالاً ويشعر براحة بينِّة، وعندما يحس بالبرد فليلفّ في ثوب فيعرق
حالاً وتزول الحمى سريعًا.
ولكن ما نفعله عادة هو على عكس ذلك تمامًا، حتى إنا نمنع المريض من
البقاء في الهواء الطلق ولو أراد بنفسه، ونغلق عليه جميع أبواب حجرته
ونوافذها ونغطي جميع جسده مع رأسه وأذنيه باللحف والأغطية. فتكون النتيجة أن
المريض يجزع فيزداد ضعفًا عن مقاومة مرضه. ينبغي أن نفهم أنه إن كان سبب
الحمى شدة الحر، فالعلاج بالهواء الذي ذكر آنفًا غير مضر أصلاً، ويشعر
بتأثيره حالاً نعم يجب الاحتراس لئلا تأخذ المريض القشعريرة في الهواء الطلق،
فإن كان لا يستطيع البقاء عاريًا فيجوز تغطيته جيدًا بالدثار.
إن تغيير الهواء علاج مفيد للحمى المزمنة وغيرها من الأمراض، فالعادة
العامة التي جرت بتغيير الهواء ليست إلا عملاً بأصول العلاج الهوائي، وكثيرًا ما
نغير محل إقامتنا متوهمين أن البيت الذي تعاوده الأمراض محل الأرواح
الشريرة هذا وهم محض. إن (الأرواح الشريرة) الحقيقية في مثل هذه الأحوال
إنما هي الهواء الفاسد في داخل البيت، إن تغير البيت يتبعه تغيير للهواء، وهذا هو
الذي يدفع المرض. إن العلاقة بين الصحة والهواء قوية جدًّا حتى إن التغيير
القليل له يؤثر حالاً تأثيرًا رديئًا أو حسنًا، يستطيع الأغنياء أن ينتقلوا إلى أماكن بعيدة
وأما الفقراء فكذلك يستطيعون الانتقال من قرية إلى قرية، أو على الأقل من بيت إلى
بيت، بل إن تغيير حجرة بحجرة في البيت نفسه كثيرًا ما ينفع المريض نفعًا
محسوسًا، ولكن تجب مراعاة الأحوال ليكون للتغيير نفع حقيقي، فالمرض الذي
سببه الهواء الرطب مثلاً لا يمكن علاجه بالانتقال إلى محل رطب، وبما أن الناس
لا يهتمون بمثل هذه الاحتياطات البسيطة الاهتمام الكافي لذلك لا يجدي تغيير
الهواء نفعًا في أكثر الأحيان.
إن هذا الباب قد احتوى على بعض الأمثلة البسيطة لاستعمال الهواء علاجًا
للأمراض، وقد مر في القسم الأول من الكتاب باب يبين قيمة الهواء النقي للصحة،
ولذا أرجو من قرائي أن يقرءوا البابين معًا.
***
الباب الثاني
العلاج بالماء
إن الهواء غير منظوم، فنحن لا ندرك تأثيره العجيب، لكن عمل الماء
وتأثيره الصحي يمكن إدراكه وفهمه بسهولة.
يعرف جميع الناس شيئًا من استعمال البخار وسيلة صحية، فكثيرًا ما
نستعمله في الحميات ونعالج به وحده الصداع الشديد، وكذلك المصاب بالوجع
الروماتيزمي في المفاصل يشعر بالراحة السريعة عند استعمال البخار وإتباعه
استحمام بارد، والدمامل والقروح لا تبرأ بمجرد وضع المرهم أو الدهان عليها،
ولكنه تشفى تمامًا باستعمال البخار.
ثم إن الاستحمام الحار أو الاستحمام بالماء الحار يتبعه مباشرة الاستحمام
البارد مفيد جدًّا في التعب الشديد، وكذلك النوم في الهواء المطلق بعد الاستحمام
البخاري يصحبه استحمام بارد نافع جدًّا في الأرق.
إن الماء الساخن يصح استعماله دائمًا كبدل للبخار، وإذا أصيب الإنسان
بوجع شديد في بطنه، يشفيه حالاً تدفئة البطن بقنينة مملوءة بماء مغلي توضع فوق
قماش غليظ على البطن، وإذا ما أريد التقيؤ فيمكن ذلك بشرب كمية وافرة من الماء
الساخن، إن الذين يشكون الإمساك يستفيدون كثيرًا بشربهم كوبة من الماء الساخن،
إما وقت النوم في الليل أو بعد تنظيف الأسنان صباحًا مباشرة.
إن سير جوردن سبرنج spring gordon sir قد عزى صحته
الجيدة إلى تعوده شرب كوبة من الماء الساخن يوميًّا قبيل النوم في الليل وبعد اليقظة
صباحًا، إن كثيرًا من الناس لا تلين معدتهم إلا إذا شربوا الشاي صباحًا، فيعتقدون
-حمقًا- أن الشاي هو الذي أحدث هذا التأثير، مع أن الشاي وحده مضر في الحقيقة.
وإنما الذي أثر هذا التأثير هو الماء الساخن في الشاي، فهو الذي يلين المعدة
ويزيل الإمساك.
قد اخترعت أرجوحة تستعمل عادة للاستحمام البخاري، ولكنها ليست
ضرورية جدًّا بل يصح أن يوقد (وابور) من الاسبرتو أو الغاز أو كانون من
الوقود أو الفحم تحت كرسي اعتيادي من الخيزران، ويوضع فوق الموقد قِدْر
مملوء بالماء مغطى بغطاء وينشر فوق الكرسي رداء أو دثار بحيث تنزل أطرافه
إلى الإمام لتقي المريض من حر النار، ثم يقعد المريض على الكرسي ويلف في
رداء أو دثار، وعند ذلك يرفع غطاء القدر بحيث يكون المريض معرضًا للبخار
الذي يتصاعد منه، أما ما تعودناه من تغطية رأس المريض فهو احتياطي غير
ضروري؛ إذ حرارة البخار تتصاعد من طريق الجسم إلى الرأس وتسبب عرقًا
كثيرًا في الوجه، وإن كان المريض ضعيفًا جدًّا بحيث لا يستطيع القعود، فحينئذ
يصح أن يضجع على سرير ذي فتحات وفرجات ولكن يحترس أن لا يذهب شيء
من البخار سدى، وكذلك - كما لا يخفى - يجب الاحتياط لئلا تصل النار ملابس
المريض أو دثاره، وكذلك تجب المراعاة التامة لحالة صحة المريض؛ لأن
استعمال البخار بدون مبالاة يخشى منه الخطر أيضًا، إن المريض لا بد من أن
يشعر بضعف بعد هذا الاستحمام البخاري، ولكن ضعفه لا يلبث أن يزول.
إن الإكثار من استعمال البخار يضعف البنية على كل حال؛ ولذلك لا ينبغي
أن يستعمل إلا لضرورة شديدة، والبخار كما يستعمل للجسد كله كذلك يصح
استعماله لجزء خاص منه، فمثلاً إذا استعمل في الصداع فلا احتياج إلى عرض
سائر الجسم له، بل يوضع الرأس وحده فوق قدر صغير الفم مملوء بماء فاتر ويلف
عليه قماش، ثم يستنشق البخار بالأنف ليتصاعد إلى الرأس، وإذا كانت المناخر
مسدودة فهي تنفتح بهذا العمل، وهكذا أن تورم عضو من الجسم فهو وحده يعرض
للبخار.
قليل من الناس يعرفون القيمة الصحية للماء البارد، مع أنه في الحقيقة أنفع
في هذا الباب من الماء الساخن. ويمكن أن يستعمله حتى أضعف الناس بنية،
فالتلفُّف بثوب مبلول بالماء البارد نافع جدًّا في الحمى والجدري والأمراض الجلدية
ويمكن لجميع الناس استعماله بدون أدنى خطر، إن الدوار والهتر (جنون الحمى)
يمكن دفعه حالاً بلف ثوب مبلول في ثلج مذاب على الرأس. والذين يشكون
الإمساك ينفعهم جدًّا لف ثوب مبلول بثلج مذاب على البطن لحين من الزمن،
وكذلك يمكن منع كثرة الاحتلام في أكثر الأحيان بهذه الطريقة نفسها.
إن نزف الدم من أي عضو كان يمكن منعه باستعمال ثوب مبلول بماء بارد
مثلج ' وكذلك الرعاف يمنع بصب الماء البارد فوق الرأس، إن أمراض الأنف
الزكام والصداع يمكن معالجتها باستنشاق الماء البارد من الأنف، ويمكن استنشاقه
بمنخر وإخراجه بمنخر آخر أو يستنشق بمنخرين معًا ويخرج من الفم. ولا ضرر
من وصول الماء إلى المعدة إن كانت المناخر نظيفة. إن هذه أحسن طريقة لجعل
المناخر نظيفة دائمًا. وأما الذين لا يستطيعون استنشاق الماء بالمناخر فيجوز لهم
أن يستعملوا المحقن، ولكنهم يتعلمون بسعي قليل كيفية الاستنشاق بسهولة، بل يجب
على جميع الناس أن يتعلموها؛ لأنها سهلة نافعة جدًّا للصداع والرائحة الخبيثة في
الأنف، وكذلك لإزالة الأوساخ في مجرى الأنف.
يخاف كثير من الناس من استعمال المحقنة، بل يزعم بعضهم أن الجسم
يضعف به، ولكن هذه المخاوف ليست إلا وهمية، ليس هناك طريقة للإسهال
القوي أكثر تأثيرًا من هذه الطريقة، وقد ثبت نفعها العظيم في كثير من الأمراض
حينما لم تجد غيرها من المعالجات. ولا عجب فهي تنظف الأحشاء تمامًا وتمنع
تراكم المواد السامة فيها.
إن الذين يتأذون من الأوجاع الروماتيزمية أو سوء الهضم أو الأوجاع من
سوء حالة الأحشاء الصحية ينبغي لهم أن يحقنوا برطلين من الماء فيرون تأثيره
السريع القوي.
قال أحد الكتاب في هذا الموضوع: إنه كان يشكو مرة سوء هضم مزمن
واستعمل جميع الأدوية سدى وعبثًا فنحل جسمه بذلك. ولكن حقنة الماء ردت إليه
شهية الطعام وشفته من دائه في بضعة أيام، حتى إن بعض الأمراض مثل اليرقان
يمكن معالجتها باستعمال حقنة الماء. إن الذي يستعمل الحقنة أحيانًا كثيرة يجب أن
يستعمل الماء البارد، لأن الماء الحار ربما يضعف البنية بتكراره.
إن الدكتور الألماني لويس كوهن kuhne louis قد حكم أخيرًا بعد
التجارب المتوالية بأن العلاج المائي نافع جدًّا في جميع الأمراض، وقد نالت
كتبه في الموضوع قبولاً عامًّا، حتى إنها ترجمت إلى جميع لغات العالم تقريبًا
ومن جملتها بعض اللغات الهندية.
قال هذا الدكتور: إن البطن هو بيت الأدواء كلها، فإذا كثرت الحرارة في
البطن كثرة زائدة، تجلت على الجسم في صورة الحمى والروماتيزم والقروح
والبثور وغيرها من الأمراض.
إن منافع العلاج المائي قد عرفها قبل كيوهن بكثير أناس عديدون، ولكنه هو
أول من قال بأنه أصل مشترك لجميع الأمراض، لسنا بمجبورين على أن نسلم
بآرائه كلها على علاتها، ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن أصوله وطرقه قد
ثبت نجاحها في كثير من الأمراض، وإني أذكر لذلك مثالاً واحدًا من أمثلة كثيرة قد
اختبرتها بنفسي، وذلك في مصاب بروماتيزم شديد جدًّا، فقد حصل له الشفاء التام
بطريقة كيوهن بعد أن خابت جميع المعالجات الأخرى.
قال الدكتور كوهن: إن حرارة البطن تزول باستعمال الماء البارد، وعلى
ذلك أكد غسل البطن وما حوله من الأعضاء بماء بارد جدًّا، ولتسهيل الغسل قد
اخترع نوعًا خاصًّا من المغاسل من الصفيح، ولكنها ليست بلازمة، إذ قصاع
الصفيح الهلالية الشكل في مقادير مختلفة لأناس مختلفي القامات التي تباع في
أسواقنا تقوم مقامها تمامًا، يجب أن يملأ (ثلاثة أرباع) من القصعة بالماء البارد
ويجلس فيها المريض بهيئة تبقى معها رجلاه وجسمه الأعلى خارج الماء، ويبقى
وسطه من الفخذ إلى ما فوق البطن في داخله، والأحسن أن تسند الرجلان على
كرسي قصير، ويجلس المريض في الماء عاريًا بالمرة، وإن كان يحس بالبرد
فيغطي رجليه وجسده الأعلى برادء، وإن لبس القميص فليبق القميص خارج الماء
بالمرة، ويجب أن يكون هذا الغسل في مكان طلق حيث يكثر الهواء النقي والنور،
ثم يفرك بطنه بنفسه أو غيره بخرقة خشنة من خمس إلى ثلاثين دقيقة أو أكثر.
فيرى نفع هذه العملية حالاً في أكثر الأحوال. ففي الروماتيزم مثلاً يأخذ الريح في
الخروج حالاً في صورة الجشاء وغيره، أما في الحمى فتنزل الحرارة درجة أو
درجتين، وتنظف الأحشاء بهذه العملية تمامًا ويزول التعب، وإن كان يشكو الأرق
يحل محله النوم، وإن كان النعاس والارتخاء فيأخذ مكانه اليقظة والنشاط.
لا تعجب من اختلاف النتائج؛ لأنه ليس في الحقيقة أمرًا عجيبًا كما يظهر،
وذلك لأن قله النوم وكثرته علتهما واحدة ، وكذلك الدوسنطاريا والإمساك اللذَين هما
نتيجة لسوء الهضم يعالجان بنفس هذه الطريقة. والبواسير المزمنة يمكن معالجتها
أيضًا بهذا الاستحمام مع ترتيب حسن في الغذاء، والذين يشكون كثرة البصاق
الدائم يجب أن يسرعوا حالاً إلى هذا العلاج. وكذلك المصابون بالضعف يتقوون
بهذه الطريقة، وقد عولج بها حتى الروماتيزم المزمن فشفى تمامًا وهو كذلك علاج
مؤثر في النزف الدموي والصداع وتسمم الدم، وقد قال عنه كيوهن: إنه علاج ثمين
حتى للسرطان والحامل التي تستحم هذا الاستحمام بنظام تجد الوضع سهلاً.
والحاصل أنه يمكن لجميع الناس بدون استثناء العمر والجنس الاستفادة منه.
وهنالك نوع آخر من الاستحمام يسمى: (ويت - شيت - باك) (pack ـ
shet - wet) وهو علاج نافع دائمًا للأمراض المختلفة وطريقته كما يلي:
يوضع سرير أو كرسي يمكن نوم المريض فيه براحة تامة في هواء طلق
وينشر فوقه نحو أربع بطانيات كبيرة يتدلى طرفًا من جانبيه أو أكثر أو أقل حسب
حالة الجو، وتنشر فوقها ملاءتان بيضاوان مغموستان في الماء البارد، وتوضع
المخدة تحت الباطانيات في طرق السرير، وعند ذلك يجرد المريض من ثيابه (إلا
إزار صغير في وسطه إن كان يريده) وينام على الملاءتين مع بسط يديه حذاء جنبيه
وعند ذلك تلف الملاءتان ومن فوقها البطانيات على جسمه مع الاعتناء برفع
الأطراف النازلة جهة الرجل حتى تغطيها جيدًا، وإن كان المريض
متعرضًا للشمس يوضع ثوب مبلول فوق رأسه ووجهه مع ترك الأنف مكشوفًا
دائمًا، فيشعر المريض في أول الأمر ببعض القشعريرة، ولكنها لا تلبث أن تزول
ويحل محلها الشعور بحرارة لذيذة فيبقى في هذه الحالة من خمس دقائق إلى ساعة
أو أكثر، وبعد مدة يتصبب العرق من جسمه، ويغرق هو في النوم في أكثر الأحوال
وعقب خروجه من هذه اللفائف يجب أن يغتسل بالماء البارد. وهذا علاج
ناجح للجدري، والحمى والأمراض الجلدية مثل الجرب، والقوباء، والنفاطات،
والدمامل، حتى إن أقبح أنواع الحصبة والجدري يشفى به تمامًا. ويمكن لسائر الناس
أن يتعلموا بسهولة استحمام (ويت - شيت - باك) بأنفسهم، ويصفوه لغيرهم وهكذا
يرون بأنفسهم تأثيره العجيب، وبما أن الدنس كله ينتقل من الجسم إلى الملاءة
السفلى الملاصقة للبشرة يمتنع أن تستعمل ثانيًا بدون غسلها جيدًا في
ماء فاتر.
لا احتياج إلى التذكير بأن الفائدة التامة من هذه الاستحمامات لا يمكن أن
تحصل إلا بعد مراعاة الأصول التي ذكرت في أبواب الغذاء والرياضة، وغيرها
مراعاة تامة. فإن كان المصاب بروماتيزم مثلاً يستحم استحمام كيوهن، أو استحمام
ويت - شيت - باك ولكن يأكل غذاء رديئًا، ويعيش في هواء فاسد ويعرض عنه
رياضته فلا ينال أي فائدة من الاستحمام؟ إن المراعاة التامة لجميع قوانين الصحة
هي التي تجعل العلاج المائي نافعًا ناجحًا بلا ريب وإلا فلا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [1]
(3)
باقي محضر الجلسة الرابعة
تقرير
اللجنة التي ألفها المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر بجلسته المنعقدة في 3
ذي القعدة سنة 1344 - 15 مايو سنة 1926 للنظر في المسائل الثلاث الأخيرة
من برنامج المؤتمر.
انعقدت اللجنة المشكّلة بقرار المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر الصادر
في 3 ذي القعدة سنة 1344هـ (15 مايو سنة 1926) بدار المعاهد الدينية
التابعة للجامع الأزهر الشريف بالحلمية الجديدة في يوم الأحد 4 ذي القعدة سنة
1344هـ (6 مايو سنة 1926) لبحث المواد الرابعة والخامسة والسادسة من
برنامج المؤتمر، وباشرت عملها في جلستين إحداها قبل الظهر والثانية بعد الظهر
من اليوم المذكور، وكان محمد شكري رجب أفندي كاتبًا لها، وقد كانت منعقدة من
جميع حضرات أعضائها ما عدا السيد محمد الصديق مندوب مراكش والسيد
الميرغني الإدريسي لغيابهما، وبعد البحث والمداولة قررت ما يأتي:
أولاً: أن يكون حضرة صاحب الفضيلة والسماحة السيد عبد الحميد البكري
شيخ مشايخ الطرق الصوفية رئيسًا للجنة.
ثانيًا: أن يكون حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عطاء الله الخطيب
أفندي مندوب العراق مقررًا للجنة.
ثم تذاكرت في المسائل الأخيرة من برنامج المؤتمر مسألة مسألة، وقررت ما
يأتي:
أولاً: المسألة الرابعة (هل يمكن الآن إيجاد الخلافة المستجمعة للشروط
الشرعية؟)
قررت اللجنة فيها ما يأتي:
إن الخلافة الشرعية المستجمعة لشروطها المبينة في تقرير اللجنة العلمية
(الذي أقره المؤتمر في الجلسة الرابعة) والتي من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في
جميع بلاد المسلمين، وتنفيذ أحكام الشريعة الغراء فيها لا يمكن تحققها بالنسبة للحالة
التي عليها المسلمون الآن.
ثانياً: المسألة الخامسة (إذا لم يكن من الميسور إيجاد هذه الخلافة فما الذي
يجب أن يعمل) .
قررت اللجنة الآتي:
إن مركز الخلافة العظمى في نظر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها
وفي نظر أمم العالم جميعًا (له) من الأهمية الكبرى ما يجعله من المسائل التي لا
يمكن البت فيها الآن للأسباب المذكورة. لما يجب أن يراعى في حل مسألتها الحل
الذي يتفق مع مصلحة المسلمين في الحاضر والمستقبل.
من أجل هذا تقرر ما يأتي:
تبقى هيئة المجلس الإداري لمؤتمر الخلافة الإسلامية بمصر على أن ينشئ له
شعبًا في البلاد الإسلامية المختلفة يكون على اتصال بها لعقد مؤتمرات متوالية فيها
حسب الحاجة للنظر في تقرير أمر الخلافة الإسلامية النظر الذي يتفق مع مركزها
السامي [2] .
ثالثاً: المسألة السادسة (إذا قرر المؤتمر وجوب نصب خليفة فما الذي يتخذ
لتنفيذ ذلك) قررت اللجنة فيها ما يأتي:
حيث إن المادة المذكورة معلقة على قرار المؤتمر فلم تر اللجنة ضرورة
للبحث فيها للأسباب المذكورة في قرار اللجنة بالمادة السابقة.
ثم ختمت الجلسة حيث كانت الساعة الرابعة والنصف مساء على أن تجتمع
في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي.
إمضاءات الأعضاء
…
...
…
...
…
... رئيس اللجنة
محمد مراد
…
عطاء الله الخطيب
…
... عبد الحميد البكري
أبو بكر جميل الدين يعقوب شنكوفتش
…
...
…
إمضاء
…
...
…
...
…
...
…
محمد الصالحي عبد الله أحمد
…
...
…
...
…
محمد إدريس السنوسي عناية الله خان
***
لجنة بحث المسائل الثلاث الأخيرة
من برنامج المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر
انعقدت اللجنة المؤلفة لبحث المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج المؤتمر
الإسلامي العام للخلافة بمصر للمرة الثالثة الساعة الحادية عشرة من برنامج صباح
يوم الاثنين 5 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ (17 مايو سنة 1926) في دار
المؤتمر برياسة حضرة صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري، وبحضور
حضرات أصحاب الفضيلة والسعادة أعضائها ما عدا حضرات السيد محمد الصديق
والسيد الميرغني الإدريسي والحاج عبد الله أحمد لغيابهم.
وبحضور محمد شكري رجب أفندي الكاتب المكلف بتدوين قراراتها، فتلى
محضر الجلستين الماضيتين، فوافقت عليه اللجنة كما هو. ثم نظرت فيما يأتي:
أولاً: الاقتراح المرفوع إليها من سكرتارية المؤتمر بناءً على قرار لجنة
الاقتراحات والأبحاث والخطب. وهو مقدم من حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ
الشيخ خليل الخالدي (ومرافق لهذا) فقررت اللجنة أن موضوعه داخل في أبحاث
المؤتمرات التي ارتأت اللجنة انعقادها للبحث في تقرير أمر الخلافة.
ثانياً: في وضع تقرير يشمل بيان الأسباب والاعتبارات التي بنت عليها
رأيها في المسائل الثلاث الأخيرة المبينة في برنامج المؤتمر.
وبعد البحث والمداولة قررت اللجنة وضع هذا التقرير بالصورة الآتية:
(تتشرف اللجنة المشكلة للنظر في المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج
المؤتمر برفع تقريرها ببيان الاعتبارات التي بنت عليها رأيها في المسائل المحولة
إليها ليقرر المؤتمر ما يراه، ورأيه مقرون بالتوفيق إن شاء الله.
إن للخلافة شأنًا عظيمًا بين المسلمين، وكان ذلك الشأن بارزًا بكل ما يتصور
من مجد وعظمة أيام الخلفاء الراشدين، وأيام كانت كلمة المسلمين متحدة، وآمالهم
متجهة نحو جهة واحدة من إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه، ورفع شأن الإسلام
والمسلمين إلى أن ظهر الضعف فيهم، وتضاءل نفوذ الخلافة فأصبحت عبئًا ثقيلاً
على من يتحملها حتى إن الأتراك نبذوها بدلاً من أن يروها عمادًا عظيمًا يبنون
عليها مجدهم، ومسندًا هامًّا يسندون إليه ظهورهم، وعلى أثر ذلك اجتمعت هيئة
كبار علماء مصر، وأصدرت قرارها المعروف بشأن الخلافة، فأثارت بذلك مسألة
البحث فيها من جميع نواحيها.
ولقد اشتمل قرار العلماء على أن الإمام يحوط الدين وينفذ أحكامه ويدير
شؤون الخلق على مقتضى النظر الشرعي وعلى أنه صاحب التصرف التام في
شؤون الرعية وأن جميع الولايات تستمد منه، فعلم من ذلك أن أهم الشروط في
الخليفة أن يكون له من النفوذ ما يستطيع معه تنفيذ أحكامه وأوامره، وأن يدافع عن
بيضة الإسلام وحوزة المسلمين طبق أحكام الدين.
وهل من الممكن الآن قيام الخلافة الإسلامية على هذا النحو؟ إن الخلافة
الشرعية بمعناها الحقيقي إنما قامت على ما كان للمسلمين في الصدر الأول من
وحدة الكلمة واجتماع الممالك مما جعل الإسلام كتلة واحدة يأتمر بأمر واحد،
ويخضع لنظام واحد كما ذكرنا آنفًا.
أما وقد تناثر عقد هذا الاجتماع، وأصبحت ممالكه وأممه متفرقة بعضها عن
بعض في حكوماتها وإدارتها وسياستها وكثير من بنيها تملكته نزعة قومية تأبى على
أحدهم أن يكون تابعًا للآخر فضلاً عن أن يرضخ لحكم غيره ويدخله في شؤونه
العامة فمن الصعب تحققها الآن.
هذا إذا فرضنا أن الشعوب الإسلامية كلها كيان مستقل يحكم نفسه بنفسه على
أن الواقع غير ذلك، فإن أكثر هذه الشعوب تابع لحكومات غير أهلية، وهنا يزداد
أمر الخلافة الشرعية تعقيدًا لما يوجد بطبيعة هذه الحال من العلاقات
والروابط الدقيقة من الأمم المستقلة فيها وغير المستقلة.
فإذا فرض أن أقيم خليفة عام للمسلمين فلا يكون له النفوذ المطلوب شرعًا، ولا
تكون الخلافة التي يتصف بها خلافة شرعية بمعناها الحقيقي، بل تصبح وهمية
ليس لها من النفوذ قليل ولا كثير.
إزاء هذه المصاعب التي تحول دون إيجاد الخلافة الشرعية بالنسبة للأحوال
التي عليها الأمم الإسلامية، وإزاء الأهمية القصوى التي لمركز الخلافة وما يترتب
على إقامتها بين المسلمين من المزايا والمنافع الكبرى.
قد قررنا القرار الآتي على المادة الرابعة من المواد التي نيط بنا النظر فيها
على الوجه الآتي:
(إن الخلافة الشرعية المستجمعة لشروطها المبينة في تقرير اللجنة العلمية
(الذي أقره المؤتمر في هذه الجلسة) والتي من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في
جميع بلاد المسلمين، وتنفيذ أحكام الشريعة الغراء فيها لا يمكن تحققها بالنسبة للحالة
التي عليها المسلمون الآن) .
ولما كان إبقاء أمر المسلمين مهملاً على ما هو الآن بدون مدبر غير جائز
فإننا نرى أن الحل الوحيد لهذه المعضلة أن تتضافر الشعوب الإسلامية على تنظيم
عقد مؤتمرات بالتوالي في البلاد الإسلامية المختلفة لتبادل الآراء بين أعضائها من
وقت إلى آخر حتى يتيسر لهم مع الزمن تقرير أمر الخلافة على وجه يتفق مع
مصلحة المسلمين.
أما إذا لم تساعد الأحوال والظروف على استمرار عقد المؤتمرات، وتعذر
انعقادها للنظر في أمر الخلافة فتفاديا من أن يبقى مسندها شاغرًا زمنًا طويلاً وما
يتبع ذلك من بقاء المسلمين دون مركز يرجعون إليه في أمور دينهم العامة، ينبغي
إيجاد هيئة مكونة من زعماء المسلمين وأهل المكانة والرأي تنعقد في كل سنة للنظر
في شؤون المسلمين وتؤلف في كل أمة إسلامية لجنة تنفيذية ذات صبغة قومية
تكون ذات اتصال بالهيئة العامة، وهذه اللجان يقوم كل منها بتنفيذ قرارات الهيئة
العامة في بلادها.
1 -
ظهر جليًّا مما تقدم أن إقامة الخلافة في مثل هذه الأحوال والظروف التي
وصفناها أمر متعذر إن لم يكن في حكم المستحيل من الوجهة العملية، وهذا يستتبع
حتمًا استبعاد فكرة النظر في تنصيب إمام أو خليفة للمسلمين الآن؛ لأن إقامة خليفة
في الوقت الحاضر على ما هي عليه الأمم الإسلامية لا يحل مشكلة الخلافة بل من
شأنه أن يزيدها تعقيدًا على تعقيد فضلاً عن أنه لم يوجد إلى الآن هيئة من أهل الحل
والعقد في أمور المسلمين تملك حق البيعة شرعًا كما أنه لم يشترك في هذا المؤتمر
كثير من الأمم الإسلامية التي دعيت للاشتراك.
ولهذا قد قررنا أن يكون الجواب على المادة الخامسة الواردة في البرنامج على
الوجه الآتي:
(إن مركز الخلافة العظمى في نظر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها
وفي نظر أمم العالم جميعًا له من الأهمية الكبرى ما يجعله من المسائل التي لا يمكن
البت فيها الآن للأسباب المذكورة لما يجب أن يراعى في حل مسألتها الحل الذي
يتفق مع مصلحة المسلمين في الحاضر والمستقبل.
من أجل هذا تقرر ما يأتي: تبقى هيئة المجلس الإداري لمؤتمر الخلافة
الإسلامية بمصر على أنه ينشئ له شعبًا في البلاد الإسلامية المختلفة يكون على
اتصال بها لعقد مؤتمرات متوالية فيها حسب الحاجة للنظر في تقرير أمر الخلافة
الإسلامية النظر الذي يتفق مع مركزها السامي) .
ولا غضاضة في ذلك على الأمم الإسلامية إذا كانت لم توفق إلى الآن إلى حل
مسألة الخلافة الشرعية، ونصب الإمام كما أنه لا غضاضة على المؤتمر الحاضر إذا
لم يتيسر له تقرير أمر الخلافة والخليفة نهائيًّا. ويكفيه من ذلك أنه قام بأجل خدمة
المسلمين بأن شخَّص لهم الداء ووصف لهم الدواء فيكون بذلك قد قام بالواجب الديني
نحو الإسلام والمسلمين.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ
خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) .
رئيس اللجنة
…
...
…
...
…
امضاءات الأعضاء
عبد الحميد البكري
…
...
…
محمد مراد
…
عطاء الله الخطيب
(إمضاء)
…
...
…
... أبو بكر جمال الدين يعقوب شينكه ويج
…
...
…
...
…
محمد الصالحي
…
... عبد الله أحمد
…
...
…
...
…
محمد إدريس السنوسي عناية الله خان
***
الاقتراح الملحق بتقرير اللجنة
أرى أنه يجب على المؤتمر أن يبحث عن كيفية الصلة ودرجات الارتباط بين
المسلمين في جميع الممالك والحكومات، وأن يبينوا كيف تكون العلاقات بين
المسلمين بعضهم مع بعض، وأن يبحثوا عن كيفية العلاقات التي تكون بينهم وبين
المسلمين المحكومين من الأجانب مباشرة كالجزائر وملبار وباتاوي ومدراس مثلاً،
وأن يبحثوا أيضًا عن كيفية الصلة ودرجات الارتباط فيما بينهم وبين البلاد التي
تحت الحماية الأجنبية، وفيها أمير مسلم كتونس وفاس ومسقط وزنجبار وبعض
أمراء حضرموت.
ثم في البلاد التي فيها برلمان وملك وهي مستقلة إلا أنها مضغوط عليها
كمصر، ثم أيضاً في البلاد المستقلة التي لا ضغط ولا حماية فيها وليس فيها برلمان
كنجد والأفغان والريف، ثم في البلاد المستقلة استقلالاً تاماً ولها برلمان كتركيا
وفارس.
فيجب أن ينظر في اتحادهم على مدافعة حقوقهم ومصالحهم والذب عنها.
وفي إصلاح ذات البين فيما بينهم بحيث لا يثيرون عليهم ثائرة المستعمرين. وأن
ينظروا في تعاونهم على ما فيه نفع المجموع.
هذا ما أرجو قبوله من حضرات الحاضرين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
إمضاء
…
...
…
...
…
...
…
...
…
خليل الخالدي
عرض هذا الاقتراح على لجنه النظر في الخطب والاقتراحات والأبحاث
فقررت إحالته إلى اللجنة الثالثة.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
سكرتير اللجنة
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... إمضاء
4 ذي القعدة سنة 1344 (16 مايو سنة 1926) أحمد عبد القادر
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
منقول عن (محاضر) مؤتمر الخلافة التي نشرتها سكرتارية المؤتمر.
(2)
لو أن السكرتير العام قدم للجنة اقتراح صاحب المنار على المؤتمر أن يقرر السعي لتكوين جماعة أهل حل وعقد في كل قطر إسلامي لرجونا أن تقرره اللجنة ولكن السكرتير كتم الاقتراح، وقد نشر في المنار وغيره.
الكاتب: عبد الرحمن الجمجموني
مبحث في الجرح والتعديل
بسم الله الرحمن الرحيم
إثبات توثيق
كعب الأحبار ووهب بن منبه
حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإنكم كثيرًا ما تدعون إلى انتقاد المنار. وإن هذه أكبر مزية له؛ لأن تحقيق
المباحث العلمية من أسمى ما يتشوق إليه طلاب الحقائق الذين لا يستريحون إلا
بالوقوف عليها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالانتقاد والمناقشة والأخذ والرد. فإن
الحقيقة بنت البحث، وإن المناقشة في أي مبحث كان تولد فيه من الفوائد العلمية ما
تجعله مقدمًا على غيره من المواضيع الغفل التي لم يطرقها بحث فلم تنضج بعد.
ولم يكن لها في نفس القارئ ذلك الأثر الثابت الذي يشعر به عند تلاوة مواضع
البحث والمناظرة، وشتان بين اطلاعه على ما يحتمل أنه رأي شخصي، وبين ما
يعلم عنه من سميته في الحال.
لذلك أكتب ما يأتي:
أتيتم في خلال تفسير قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: 107) من
سورة الأعراف بما يؤخذ منه أنكم تجرحون وتطعنون على كعب الأحبار
ووهب بن منبه بأنهما:
(1)
رويا أخبار غرائب بني إسرائيل المكذوبة.
(2)
وكانا يدسان في الدين الإسلامي بكذب الرواية.
(3)
وأنهما من جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين عمر وعثمان رضي الله
عنهما كما هو موضح بصحيفة 169 من الجزء الثالث الصادر في 29 شعبان سنة
1342هـ ولما كان هذا التجريح غير المعروف عنهما عند رجال الحديث من
المتقدمين والمتأخرين إلى عصرنا هذا. ويوجب سوء سمعتهما عند قراء المجلة.
ويترتب عليه الحط من اعتبار أشهر كتب الحديث (البخاري ومسلم وأبي
داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وموطأ الأمام مالك) لذكرهما فيها على سبيل
الرواية عنهما والاحتجاج بهما في عدة مواضع. وكنا في وقت كثر فيه الملحدون
والمارقون الذين يثيرون على الدين الإسلامي أقل شبهة، فخشية أن يقول مارق: إن
صاحب المنار قد أظهر في رجال كتب الحديث التي تدعون صحتها من هو كذاب،
دساس، ويحاول أن يقيم من وراء ذلك دليلاً على تقصير أصحابها في انتقاء
رجالهم، ولا يخفى ما في ذلك من الخطر، وإيفاء للرجلين حقهما بادرت إلى انتقاد
هذا الطعن والتجريح مثبتًا براءة الحبرين مما ذكر بالإشارة إلى محال نصوص
علماء الجرح والتعديل الصريحة في توثيقهما توثيقًا لا يصح معه جرحهما بشيء
مما ذكر.
فلم تنشروا الانتقاد إلا بعد أكثر من عام أي في صحيفة 73 من الجزء الأول
الصادر في 29 رمضان سنة 1343 متبعين له بشيء من الرد على. ثم لم تنشروا
بقية الرد إلا بعد عام آخر بصحيفة 716 من الجزء التاسع الصادر في 15 شعبان
سنة 1344 فلما كمل الرد ولم أجد فيه ما يشفي العلة. بل زاد الطين بلة. فإنكم
وإن سلمتم ببرائتهما من الطعن الثالث فقد بالغتم في نسبتهما إلى الأولين وهما محل
الخطر (فوقفت حائرًا) لأن الأمر أصبح في احتياج لمزيد من بحث ودرس، وأنا
مشتغل بالحرث والدرس. ولم يكن بد من بيان الواقع من توثيق الحبرين وإلا كنت
جانيًا عليهما بتركهما بعد تعريضهما لأسنة البحث والمناظرة. فرجعت إلى ردكم
منقبًا عما حال دون إدراك الحقيقة، فوجدت السبب ينحصر في ثلاثة مواضع مهمة.
فتجدد أملي في أنه مع بيانها يزول ما كنت أحذر. حيث إنها في نفس المنار تنشر
ومن علق بنفسه شيء مما سبق يزول. وننال معكم بذلك من الله تعالى الرضا
والقبول.
***
الموضع الأول
قلب نص قاطع في الموضوع من الإثبات إلى النفي - وذلك فيما نقلتم في
سياق جرحكم كعب الأحبار بصحيفة 77 من الجزء الأول المذكور ونصه (وقد
صرح الحافظ الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره) .
ولما كان هذا غير المعروف راجعت ترجمته في الطبقات، أي تذكرة الحفاظ
بصحيفة 45 من الجزء الأول فوجدت النص هكذا (وله شيء في صحيح البخاري
وغيره) .
هذا وقد قال الحافظ الذهبي في أول هذا الكتاب الجليل ما نصه (هذه تذكرة
بأسماء معدلي حملة العلم النبوي ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف
والتصحيح والتزييف) واسما الحبرين ثابتان فيها وقال في ترجمة كعب المذكورة
(إنه من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب أسلم في زمن أبي بكر فقدم من
اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم وأخذ هو من الكتاب
والسنة عن الصحابة وتوفي في خلافة عثمان، وروى عنه جماعة من التابعين
مرسلاً. وله شيء إلخ وترجمة وهب بن منبه في صحيفة 88 من الجزء نفسه
وقال فيها (إنه عالم أهل اليمن ولد سنة 34هـ وروى عن أبي هريرة وعن عبد
الله بن عمر وابن عباس وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وغيرهم وعنده من علم أهل
الكتاب شيء كثير فإنه صرف عنايته لذلك وبالغ. وحديثه في الصحيحين عن أخيه
همام) .
وقد نص صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبد العزيز الخولي المدرس بقسم
التخصص في القضاء الشرعي في رسالته مفتاح السنة المطبوعة والمنشورة بمجلة
المنار على أن تذكرة الحفاظ هذه من كتب الثقات. كما نص العلامة القاسمي في
كتابه الجرح والتعديل المطبوع والمنشور بالمنار أيضًا (على أن من الوجوه التي
تعرف بها ثقة الراوي ذكره في تاريخ الثقات) ، وحيث ثبت ذكر الحبرين في
هذه التذكرة وهي من تواريخ الثقات فيكون هذا حكمًا بتوثيقهما توثيقًا لا يقبل نقضًا
ومن ادَّعى غير ذلك فعليه البيان.
***
الموضع الثاني
حمل أقوال بعض سلف الأمة وعلمائها على غير مرادهم لعدم البحث - وذلك
ثابت في قولكم ضمن الرد بصحيفة 77 من الجزء الأول المذكور ما نصه (أما
كعب الأحبار، فإن البخاري لم يرو عنه في صحيحه شيئاً ولكن ذكره فيه بما يعد
جرحًا له لا تعديلاً. قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من تهذيب التهذيب: وروى
البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث
رهطًا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء
المحدثين عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب (تأمل) .
قال الحافظ بعد نقل هذه العبارة عن الأصل: (قلت) هذا جميع ما له في
البخاري وليست هذه رواية عنه فالعجب من المؤلف كيف يرقم له ورقم البخاري
وليست هذه رواية عنه فيوهم أنه أخرج له.. . إلخ، يعني أن ذكر صاحب
التهذيب رقم البخاري وهو حرف (خ) عند اسم كعب غلط، وقد صرح الحافظ
الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره. والمنتقد يبدي
ويعيد ذكر رواية البخاري عنه وتوثيقه له، وأقول: إن قول معاوية: إن كعبًا كان من
أصدق المحدثين عن أهل الكتاب، وإنهم مع ذلك اختبروا عليه الكذب طعن صريح
في عدالته وفي عدالة جمهور رواة الإسرائيليات؛ إذ ثبت كذب من يعد من أصدقهم
ومن كان متقنًا للكذب في ذلك يتعذر أو يتعسر العثور على كذبه في ذلك العصر إذ
لم تكن كتب أهل الكتاب منتشرة في زمانهم بين المسلمين كزماننا هذا، إلى أن قلتم:
وجمله القول أن جرح كعب لا يقتضي خسران شيء يذكر من العلم في صحيح
مسلم، ويوافق ما عند البخاري من إثبات معاوية لكذبه عنده وعند غيره؛ ولذلك امتنع
البخاري عن الرواية عنه على غرور الجمهور بعبادته. اهـ منار.
فهذه الجملة اشتملت عدا رأيكم على ثلاث عبارات للمتقدمين (الأولى) عبارة
سيدنا معاوية المروية في البخاري (الثانية) عبارة الحافظ ابن حجر المنصوصه
في كتابه تهذيب التهذيب (الثالثة) عبارة الحافظ الذهبي المثبتة في كتابه الطبقات
المذكورة. أما عبارة الذهبي فقد بينا ما فيها قريبًا وآفتها من كلمة (ليس) التي
حشيت فيها فقلبتها من الإثبات إلى النفي، وعبارة ابن حجر مترتبة معنى على
عبارة سيدنا معاوية. فوجب الكلام أولاً على عبارة معاوية رضي الله عنه من جهة
نصها ومعناها مع بيان غرض الإمام البخاري من ذكرها في صحيحه حتى يتبين
بجلاء إن كانت طعنًا على كعب أو توثيقًا له.
أما من جهة نصها في صحيح البخاري فهي في كتاب الاعتصام بالكتاب
والسنة، وقد أتى بها البخاري عقب ترجمته هكذا (بسم الله الرحمن الرحيم باب قول
النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء. وقال أبو اليمان: أخبرنا
شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطًا من
قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين
يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب. اهـ بخاري
وأثبت صاحب الفتح (إن) في رواية (وحدثنا أبو اليمان) وأنّ إنْ مخففة من
الثقيلة، وضبط شيخ الإسلام (وذكر) بالبناء للمفعول وفي النسخ المضبوطة بالقلم
علامة صحة حذف كلمة (أهل) عن أبي ذر الهروي فتكون روايته هكذا (الذين
يحدثون عن الكتاب) هذا ما يتعلق باللفظ.
وأما من جهة المعنى فأحسن ما يبين معناها هو نفس كلام سيدنا معاوية ذاته
عن كعب الأحبار شخصه.
وقد اطلعتم على عبارة أخرى لسيدنا معاوية صريحة في الثناء على كعب
وهي قوله: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالثمار، وإن كنا فيه
لمفرطين كما هو منصوص في تهذيب التهذيب قبل ما نقلتم منه مباشرة.
والعبارتان صدرتا منه رضي الله عنه بعد وفاة كعب لتصريحه بالتفريط في
الأخذ عنه في هذه، ولا ولى، قالها لما حج بالناس في خلافته كما نص عليه في
الفتح وكعب توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه كما سبق، أي فلم يطرأ ما يوجب
تغيير رأيه بين العبارتين.
فلا يصح مع ذلك قولكم إن العبارة - طعن صريح في عدالة كعب - إذ ثبت
كذبه - بل كان متقنًا للكذب - ومغررًا للجمهور بعبادته - كما سبق نقله عن المنار،
لأن هذا تناقض بين عبارتي خليفة من خلفاء الإسلام وصحابي من أكابر الصحابة
هداة الأنام مشهور بحصافة الرأي ومعروف بالبلاغة، فلا يتأتى منه أن يأسف على
التفريط في الأخذ عن كذاب، وليس من البلاغة وصف رجل في أول جملة
بأنه من أصدق المحدثين وفي آخرها بأنه من أكذب الكذابين وكيف يكون ذلك من
أحد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
على أن العبارة من حيث تركيبها العربي لا تصلح دليلاً مطلقًا على أقل ألفاظ
هذا التجريح فإن إسناد الكذب فيها إلى (الكتاب) باعتبار ما فيه من التبديل أقرب
من إسناده إلى (كعب) كما قرره شارح البخاري في توجيه احتمال رجوع الضمير
في (عليه) إلى (الكتاب) ولأنه أقرب مذكور.
وعلى كل حال فقد صارت هذه العبارة لا تصلح حجة على الطعن في كعب
لأن الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.
لذلك لم يقل أحد من علماء الحديث الذين شرحوا البخاري وغيرهم: إن هذه
العبارة قصد بها سيدنا معاوية تجريح كعب مطلقًا بل بعكس ذلك فهموا أنها صدرت
منه للدلالة على توثيق كعب بأنه كان من أصدق المحدثين عن الكتاب وأن الخليفة
ابتلى الكذب على الكتاب نفسه لما علمه فيه من التحريف والتبديل بناء على عود
الضمير على أقرب مذكور - وقد رأى ذلك العلامة السيوطي كما يؤخذ من كتابه
(إسعاف المبطأ) المطبوع حديثاً مع الموطأ بمطبعة عيسى الحلبي حيث ترجم لكعب
الأحبار بصفته أحد رجال الموطأ (المعروف بانتقاء الإمام مالك لرجاله من أوثق
رجال الحديث) مقتصرًا على صدر عبارة سيدنا معاوية في الاستدلال على توثيق
كعب لكونه يرى إعادة الضمير على الكتاب وأنه بناءً على ذلك لا ارتباط بين صدر
هذه العبارة وآخرها.
فالسيوطي جعل العبارة توثيقًا وهو متوفى سنة 911هـ (هذا) ومن رأى
عود الضمير على كعب حمل الكذب في العبارة على ما يوجد في بعض أخباره من
الخطأ الذي سرى إليه من أهل الكتاب قبل إسلامه، ولا علاقة له بأمر الدين كالإخبار
بوقوع حوادث في المستقبل فلم يقع بعضها كما أخبر كعب.
يوضح هذا كله عبارة الحافظ ابن حجر في الفتح ونصه (قوله عليه الكذب)
أي يقع بعض ما يخبرنا عنه بخلاف ما يخبرنا به، فلفظ يقع يدل على أن المخبر
به أمور من قبيل ما يسمونه ملاحم، ولا علاقة لذلك بأمر الدين الإسلامي، ثم نقل
الحافظ ابن حجر عقب رأيه الشخصي المذكور عبارة ابن التين على طولها وعبارة
ابن حبان في توثيق كعب بما يقرب من هذا المعنى، ثم شرح توجيه إعادة الضمير
على الكتاب ونقل التصريح عن القاضي عياض بأن العبارة ليس فيها تجريح لكعب
بالكذب على كلا الاحتمالين، ثم ترجم لكعب موثقًا له وأتى في ضمن أدلة توثيقه
بقول سيدنا معاوية بلفظ (ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالبحار
وإن كنا فيه لمفرطين) والثمار أو البحار كلاهما كناية عن سعة علمه ونفعه)
أهـ فتح بتصرف فانظره.
أما القسطلاني فابتدأ شرح الموضوع بتوجيه الاحتمالين في مرجع الضمير
مباشرة، ونقل عن الحافظ ابن الجوزي المعروف بتشدده في التعديل ما نصه توثيقًا:
(يعني أن الكذب فيما يخبر به عن أهل الكتاب لا منه، فالأخبار التي يحكيها عن
القوم يكون في بعضها كذب فأما كعب الأحبار فهو من خيار الأحبار) ، وكذا عبارة
العيني والكرماني والسندي، وهو آخر من كتب على البخاري فيما نعلم.
واستدل صاحب كتاب إظهار الحق بعبارة سيدنا معاوية هذه على أن الصحابة
كانوا يعتقدون أن كتابي أهل الكتاب (التوراة والإنجيل) الموجودين محرفان كما في
الجزء الأول منه في الكلام على إثبات تحريف وتبديل التوراة والإنجيل، فاتضح
من ذلك معنى عبارة سيدنا معاوية، وأنه ليس فيها تجريح لكعب بالكذب وأن غرضه
منها إرشاد القرشيين إلى الثقة بما صح سنده إلى كعب مما حدث به عن كتب أهل
الكتاب القديمة؛ لأنه من أصدق المحدثين عنها - وذلك مثل ما أخبر به كعب من أن
النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في التوراة بصفة واضحة حيث قال في السطر
الأول منها (محمد رسول الله عبدي المختار: مولده بمكة، ومُهَاجَرُهُ المدينة، ومُلْكُهُ
بالشام) كما نقله الحافظ ابن حجر على موضعين كلاهما في الفتح في شرح باب
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الأحزاب: 45) من سورة الفتح في
كتاب التفسير من صحيح البخاري، وأشار إليه في تهذيب التهذيب في آخر ترجمة
كعب، وهذا من ثمار علمه التي صرح الخليفة أنهم فرطوا في الأخذ منها.
أما من جهة بيان غرض البخاري من ذكر عبارة سيدنا معاوية في صحيحة
فيؤخذ من قول الإمام العيني في شرحها ما نصه (مطابقته للترجمة في ذكر كعب
الأحبار الذي كان يتحدث من الكتب القديمة ويسأل عنها أحبارهم) ومنه يعلم أن
غرض البخاري هو الاحتجاج بكعب الأحبار في دفع التعارض بين النهي في
الترجمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) وبين
الأمر في قول الله تعالى {فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس: 94)
بأن كعبًا كان ممن يسألون؛ لأنه قرأ الكتاب من قبل ثم أسلم وشهد له سيدنا معاوية
بأنه من أصدق المحدثين عن الكتاب، والنهي هو عن سؤال من لم يسلم كما نص
عليه في الفتح في آخر شرح هذه الترجمة، وهذا يدل على عظيم ثقة الإمام البخاري
بكعب الأحبار؛ لأن احتجاجه به في أمر الدين كما ذكر أبلغ في الدلالة على ثقته به
من الرواية عنه وعلى أنه لم يمنعه من الرواية عنه إلا عدم وفرة السند الصحيح له
إليه على شرطه المعروف ومثل كعب في ذلك كمثل الإمام أبي حنيفة، وكثير من
أوثق المحدثين الذين لم تذكر لهم رواية في البخاري للسبب المذكور والإمام الشافعي
لم يكن له رواية في البخاري وإنما له شيء يسير في التعليقات فقط فلا يقال: إن
البخاري امتنع عن الرواية عن هؤلاء الأئمة لعدم ثقته بهم وإلى هنا انتهى الكلام
على عبارة سيدنا معاوية من كل أوجهها المذكورة وعلم غرضه فيها وغرض
البخاري من ذكرها في صحيحه بما توضح.
ولم يبق في هذا الموضوع سوى الكلام على عبارة الحافظ ابن حجر المتوفى
سنه258هـ من جهة تعجبه ممن سبقه في عد كعب الأحبار من رجال البخاري بناءً
على عبارة سيدنا معاوية هذه مع أنها لم تكن رواية له عن كعب.
وقبل الكلام عن بيان غرض الحافظ ابن حجر من هذا التعجب أنقل شيئًا من
كلام علماء أصول الحديث يوضح لنا ما به يسمى الرجل من رجال صحيح
البخاري أو غيره. قال الحافظ ابن الصلاح في مقدمته المشهورة في النوع الثالث
والعشرين بصحيفة 41 ما نصه: (ثم من انزاحت عنه الريبة منهم بالبحث عن
حالة أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه، ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين
وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم فافهم ذلك فإنه مخلص حسن) ، وقال
العلامة ابن السبكي في الطبقات الكبرى في ترجمة الحافظ الذهبي المتقدم ما نصه:
نقلاً عن صاحب الترجمة (وقد كتبت في مصنفي الميزان عددًا كثيرًا من الثقات
الذين احتج البخاري أو مسلم أو غيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دون اسمه في
مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك وما زال يمر بي
الرجل الثقة وفيه مقال من لا يعبأ به. ثم استطرد إلى ذكر أسماء الذين لم يؤثر
عليهم ذلك الجرح لكون البخاري أو أحد أمثاله احتج ببعضهم إلى أن ذكر منهم
وهب بن منبه) ولم يذكر كعبًا؛ لأنه لم يجرح مطلقًا، وأما وهب فذكره؛ لأن ابن
الفلاس كان ضعفه قبل احتجاج البخاري به كما يأتي.
وقال شيخ الإسلام في شرح ألفية العراقي في مبحث (أصح كتب الحديث)
في إثبات أن البخاري ومسلم هما أصح الكتب ما نصه: (وما ذكر فيهما من
الضعفاء كمطر الوراق وبقية وابن إسحاق ونعمان بن راشد لم يذكر على سبيل
الاحتجاج بل على سبيل المتابعة والاستشهاد) .
فأنت ترى أن عباراتهم صريحة في أن كل من احتج به البخاري في صحيحه
يصير ثقة ولو كان مجروحًا من قبل وأنه لا يعبأ بكلام الجارح بعد ذلك الاحتجاج
وبناءً عليه صار كل من الراوي والمحتج به في البخاري حكمهما واحدًا في التوثيق
وباعتبار أن البخاري اعتمد في تكوين كتابه على الرواة والمحتج بهم يصح أن
يطلق على كل منهما أنه من رجال البخاري وأنه أخذ عنه بلا فرق بينهما في ذلك
أيضًا. (وقد احتج البخاري بكعب الأحبار احتجاجًا مهمًّا نافعًا كما سبق) .
فلا عجب حينئذ ممن عد كعبًا من رجال البخاري؛ لأنه متى علم السبب بطل
العجب واتضح أن صاحب التهذيب مصيب في عد كعب الأحبار من رجال البخاري
وأن ذكر حرف (خ) رقمًا على أخذ البخاري عن كعب صحيح لا (غلط) لأنه
اعتمد عليه في شيء من كتابه - على أنه لا غرض للحافظ ابن حجر من ذلك
التعجب إلا طلب النظر في الموضوع شأن أكابر المحققين إذا اختلفت وجهة نظرهم
مع من سبقهم يطلبون النظر في الأمر ليتبين الحق فيه وجل المنزه عن الخطأ
والنسيان وعلى ذلك أدلة منها أنه صرح بطلب النظر عقب عبارته هذه مباشرة
بقوله: وكذا رقم في الرواة عنه (كعب على معاوية ابن أبي سفيان رقم البخاري
معتمدًا على هذه القصة وفي ذلك نظر) .
يريد أن عبارة سيدنا معاوية قصها على الرهط من قريش ثناء على كعب لا
رواية عنه ولكن قول سيدنا معاوية (عنده علم كالثمار أو البحار) يدل على أخذه
عن كعب وإلا فمن أين علم ثمار علمه. ومنها أن ابن حجر أبقى حرف (خ) في
كتابه تهذيب التهذيب فلو كان جازمًا بغلط صاحب التهذيب في ذكر هذا الحرف
لحذفه هو من كتابه: ومنها أنه لم يجرح كعبًا بشيء ما في مؤلفاته بل ترجم له
ونقل توثيقه عن كثيرين تأييداً لتوثيقه له.
أما السابقون على الحافظ ابن حجر في عد كعب من رجال البخاري وتوثيقه
فهم الحافظ بن سرور المقدسي في كتابه الكمال وهو متوفى سنة 600هـ وتابعه
على ذلك الحافظ المزي في التهذيب، وهو متوفى سنة 742هـ وهو الذي يقصده
ابن حجر بقوله في عبارته: (فالعجب من المؤلف) ولكن الذهبي وافق المُزّي في
كتابه تهذيب التهذيب، وهو متوفى سنة 748هـ ومن المتأخرين عن ابن حجر، وهو
موافق للمتقدمين عليه الحافظ الخزرجي في كتابه (خلاصة تهذيب الكمال) وهو
متوفى سنة 923هـ ولم يوافق أحد ابن حجر من المتقدمين أو المتأخرين عنه في
التعجب من عد كعب من رجال البخاري.
البقية للآتي
((يتبع بمقال تالٍ))
_________