الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة التاسعة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم إنا نحمدك على ما آتيت من المواهب والقوى، وأنزلت من البينات
والهدى، ونصلي على نبيك المصطفى، الذي بعثته لإصلاح جميع الورى
ونستمطر رحمتك ورضوانك على مَن صلح باتباعه واهتدى، ثم أصلح بحاله وقاله
وهدى {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا} (الكهف: 10)
ولا تهلكنا بما فعل أهل السرف منا والهوى، واكفنا اللهم شر من ظلم من رؤسائنا
وبغى، وفتنة من ضل من مرشدينا وغوى، وخُسْر من عصى من دهمائنا واعتدى،
واجعل اللهم لنا على نيران هذه الحوادث هُدى، ويسِّرنا بفضلك لليسرى، وانفعنا
بما أنزلت من الذكرى، وآتنا ما وعدتنا في الآخرة والأولى.
هذا ما يفتتح به المنار سنته التاسعة: تذكير ودعاء، يبعثهما أمل ورجاء،
على حين سحلت مرائر الآمال، وخويت من الرجاء قلوب الرجال، وأحاط الخطر
بالمسلمين من كل جانب، وتنازع إرث ما بقي من أرضهم الأجانب، بين سلطان
يحارب العلم وسلطان يحاربه الجهل، وأمير مفتون بالدَّثر، وأمير مغبون بالفقر،
وعالم ينافس بكسوة التشريف، وعالم يحسد على الرغيف، ومرشد يؤيد حكومة
يستغل سلطتها، ومرشد يخادع أمة يستدر غفلتها في بلاد أمات الاستبداد قلوب
كبرائها، وبلاد أفسدت الشهوات أخلاق أغنيائها، دع ذكر البلاد التي نزغ بين
زعمائها شيطان السياسة فأغراهم بالتنازع على الرياسة، والأمة من وراء هؤلاء
الكبراء تذل كل يوم وتخزى، سنة الله في القرون الأولى {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُم مِّنَ القُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} (طه:
128) .
نعم، إن المسلمين أمسوا كالريش في مهب رياح الحوادث، وكالغثاء في
مجرى سيول الكوارث لا رأي لخواصهم فيما يراد منهم، ولا شعور لعوامهم فيما
يراد بهم، وللأجانب يد في تصرف حكامنا في سياستنا ويد في تصريف أموالنا في
مصلحتهم دون مصلحتنا، ويد تطبع الأرواح بأخلاق وعادات تنافي آداب ملتنا،
وتودع في العقول عقائد وأفكارًا تقوَّض بناء وحدتنا، فأي شيء بقي في أيدينا من
شئون أمتنا، اللهم إنه يقل فينا من بقي له أذن تسمع وعين تبصر، وقلب يشعر
وعقل يفكر ويقل في هؤلاء القليلين مَن له إرادة تتوجه إلى عمل للأمة، وثبات فيما
يحاول من كشف الغمة، والرجاء بفضل الله تعالى محصور في هؤلاء الأقلين،
فمن يتصل بحزبهم حينًا بعد حين، والعاقبة للمتقين {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) ، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ
وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132) ،
133) .
بلى قد جاءتنا صحف الأولين، فكانت مثالاًَ لما رأينا في صحف الآخرين،
إنه لم تستيقظ أمة من نومتها، ولم تبعث دولة بعد موتتها، إلا بصيحة نفر من أولي
الألباب، ومثقفي العقول والآداب، الذين يغير الله ما في نفوس أقوامهم بما يلقيه
من الحكمة في ذلاقة ألسنتهم ونفثات أقلامهم، فيستبدلون الاعتصام بالانفصام،
والاتفاق بالشقاق، والوحدة بالفرقة، والمقة والحب، بالبغضاء والمقت، ولذلك
يشعر الأفراد بمعنى الأمة، ويعملون بالتعاون فيكونون أمة، {سُنَّتَ اللَّهِ الََّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ} (غافر: 85) ، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: 31) .
ما المنار إلا صحيفة أو صحف أنشئت لتأييد دعاة العلم للأمة والعمل لها سواء
منهم من دعا إلى الإصلاح قبلها ومن يدعو إليه معها ، ولتكثير سواد الدعاة الذين
يتعلمون للأمة، ويعملون للأمة، ويحيون للأمة، ويموتون في سبيل الأمة، بذلك
صرحنا في فاتحة السنة الأولى وبذلك نصرح في كل سنة من السنين، مهتدين
بهدي كتاب الله المبين، وسنة خاتم النبيين والمرسلين، اللذين هما ينبوع الهداية،
واتباعهما ينبوع السعادة، من تمسك بهما نجا، ومن تركهما ضل وغوى، وخزي
في الآخرة والأولى، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: 124-127) .
هذه نُذُر الكتاب المبين، لمن ترك الاعتصام بحبله المتين، يجازى بالضيق
والضنك في معيشته الأولى، وبالعذاب في الدار الأخرى، وقد قال تعالى وهو أقوم
قيلاً: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا} (الإسراء:
72) ؛ فالدنيا مزرعة الآخرة، وسنة الله تعالى فيهما واحدة فإذا سلكنا سبل الظلم
والإفساد، حتى زال عزنا وسلطاننا من البلاد، فلا ينجينا في الآخرة لقب الإسلام،
ولا الانتساب إلى أولئك السلف الكرام، أَمَا سمع المغرور حديث الصحيحين: (يا
فاطمة بنت محمد سَلِيني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا) {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفى * أَلَاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن
لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفى} (النجم: 36-41) .
القرآن حجة على شعوب المسلمين في هذا العصر، بما أصابهم وأصاب
دولهم من الخُسْر، الذي جنبه الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر، وبأخذ الأمم والدول إياهم أخذًا وبيلاً {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) .
نعم، إن المؤمن يبتلى ويفتن، ولكنه لا يهن ولا يحزن، بل يصبر حتى
تكون العاقبة للمتقين {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل
عمران: 139) ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ
بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} (الحج: 11) فما انتفع المغرورون بهذه الذكرى، ولا اتبعوا هذه الهداية
العليا {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى * أَمْ
لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} (النجم: 23-25) .
نعق به ناعق أئمة الجور، ونصير الاستبداد والظلم أن لا نجاة لكم من
البلاء الذي أصابكم، ولا أمن لكم من الخطر الذي يوشك أن ينزل بكم، إلا بفناء
إرادتكم في إرادة حكامكم، لا بتغيير ما في أنفسكم من أوهام وخرافات، وأخلاق
ذميمة وعادات، ولا بتربية العقل والإرادة على الاستقلال، والتعاون على البر
والتقوى والاشتراك في الأعمال، ولا بجعل الشورى قاعدة الأحكام، وإقامة
الشريعة في الحلال والحرام، ولا التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وصاح بهم خطيب فتنة الوطنية أن لا حياة لكم
بالرابطة الملّية، لأنها ممقوتة في نظر أهل المدنية الغربية، الذين سادوا بترك
العصبية الدينية، فعلى أهل كل قطر إسلامي أن يعتزوا بسكان بلادهم الأولين، ولا
يحبوا من هاجر إليهم من المؤمنين، فضلاً عن إيثارهم كما فعل الأنصار مع
المهاجرين، فما اعتز به المسلمون الأولون من آداب القرآن قد نسخته مدنية أوربا
في هذا الزمان، فالوطنيةَ الوطنيةَ ، الزموها تكونوا من الفائزين، والدخلاءَ
الدخلاءَ ، احذروهم وإن خدموا الأمة والدين، إن يبغون بدعوة الوطنية إلا العصبية
الجاهلية والهوى، وكثرة العرض والغنى، والزلفى عند أهل المراتب العليا،
{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَاّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} (النجم: 29-30) .
اختلفت عليكم الدعوة أيها المسلمون، وكل حزب بما لديهم فرحون {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) فله
وحده دعوة الحق، وما خالفها فهو باطل أو فسق {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا
تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء:
150-
152) . ها نحن أولاء قد خرجنا عن استقلالنا الاجتماعي زمنًا طويلاً،
أطعنا فيه ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، وأخذنا الأجانب من ناحية سلطتهم أخذًا
وبيلاً، فما أغنت عنا ذلة العبودية لهم فتيلاً، {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلى
رَبِّهِ سَبِيلاً} (الإِنسان: 29) ولا سبيل إليه إلا باتباع هدايته، والسير على
سنته في خليقته {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) ] وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى*
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى*
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [ (الليل:1-10) .
فعليكم أيها المسلمون وقد أعوزت النجاة واختلفت دعوة الدعاة، أن تجيبوا
داعي الله، وتكونوا من حزب من أعطى العفو من ماله لإعلاء كلمة الله ومواساة
عياله، واتقى أسباب الفتن والمحن، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وصدق
بالشريعة الحسنى، والخليقة الفضلى، تصديق إذعان، يتبعه العمل بالجَنان
والأركان، والتعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان، فإذا فعلتم ذلك يسر الله
لكم خط النجاح لليُسرى، وأقامكم على طريق الفطرة المثلى، وأعزكم في هذه الدنيا،
ولكم في الآخرة الجزاء الأوفى، ولا تكونوا ممن بخل بفضل نعمته، واستغنى
بالتعزز بماله عن الاعتزاز بأمته وملته، وكذب في نفسه بأن الشرعة الحسنى،
والخليقة الفضلى هي طريق السعادة الكبرى، فإن الله تعالى لا ييسر له بمقتضى
سنته إلا عُسرى الخطتين، وسوءَى الطريقتين، فيكون شقيًّا بماله، مضطربًا في
حاله، مبغضًا إلى قومه وآله، لا فرق في هذه السنة بين الشخص والأمة،
والأمر في الشعوب أظهر لمن يرى، فما رزئ شعب بهذه الثلاثة إلا وقع في
مهاوي الردى {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ
وَالأُولَى} (الليل: 11-13) .
هذا ضرب من ضروب هداية القرآن، الذي دعا إلى جميع الأصول التي فيها
سعادة الإنسان فجعل البرهان العقلي أساس العقائد، وأقام بناء الآداب والأحكام على
قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وأرشد إلى ما لشئون البشر الاجتماعية من
السنن الثابتة أو النواميس الطبيعية، وأثبت أن الدين القيم الذي جاء به الإسلام هو
إقامة سنن فطرته التي فطر عليها الأنام، فالإسلام عبارة عن إصلاح العقول
بالعقائد اليقينية، وإصلاح النفوس بالأخلاق المَرضية، وإصلاح شؤون البشر
الاجتماعية، بإقامة العدل والسير على السنن الكونية، فمن أقام هذه الأركان كلها
كان هو المسلم الكامل وإن سمي ملحدًا أو دهريًّا، ومن هدمها كلها كان ملحدًا في
آيات الله وإن سمى نفسه مسلمًا حنيفيًّا، ومن كان أقرب إليها كان حظه من السعادة
بمقدار سهمه منها، ومتى تنازع شعبان أو أمتان، كان الظفر لمن كان أقرب من
هذه الأركان، وهو الأقرب إلى هداية القرآن {وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا
وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (الكهف: 59) ، {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (الجن: 16-17)، {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى:
9-
10) ، أما حزب الشيطان، وأنصار الظلم والعدوان، فسيقولون: إن هذه
الدعوة إلى هداية القرآن، هي اجتهاد أُقفل بابه في هذا الزمان، والداعي إليها عدو
مبين لأهل الإيمان، وما علينا إلا تقليد شيوخنا أهل الفقه والعرفان، ومن هؤلاء
من يُلقي تبعة هلاك المسلمين وضياع الإسلام، على عواتق أهل السلطة المتغلبين
على الأحكام، ومنهم من يوجب الخضوع لكل ذي سلطان، وإن نسخ باستبداده
القرآن، وطغى بظلمه في الميزان، ومنهم من يحيل على القضاء والقدر، ومنهم
من يقول: ليس لها إلا المهدي المنتظر، ومن ورائهم قوم آخرون مرقوا من الدين،
أنكروا التقليد ولم يعرفوا الحق اليقين، يقولون: لا رجاء للمسلمين بحياة ملية،
ولا أمل بإقامة حكومة إسلامية، فإذا لم يحيوا حياة وطنية فلا حياة لهم، وإذا لم
يتبعوا خطوات أوربا فلا مدنية لهم، كل هذا وذاك مما ينادي به المسلمون
الجغرافيون أو السياسيون، ولهم شهوات من دون ذلك هم لها عاملون، ولم نَرَ
دعوة من هذه الدعوات أنكرها الرؤساء الرسميون، والأمراء المستبدون، إلا دعوة
هذه الأمة، إلى الاهتداء بالكتاب والسنة، فلقد قاوموا المنار، وآذوا الأهل
والأنصار، ودمروا على الدار، واحتووا الكتب والأسفار، وراقبوا الشيخ في عقر
الدار، حتى اختار الله له دار القرار، وصادرونا في الوقف وتصدَّوا للعقار،
وهنالك العالم الآثم، يمد بغيه الحاكم الظالم.
هذا وقد كان لبلاد الحرية أصبع فيما كان في بلاد العبودية، بعد استفتاء
وائتمار، بشأن الإخراج من الديار، فكان نجاح المئبر، بديلاًَ من خذلان المئمر،
وطعن أشهر جرائد المسلمين اليومية، إيماءً إلى تلك المقاصد الخفية أو الجلية،
وما زادنا ذلك إلا رجاءً بالله، وانتظارًا لروح الله، مع العجز والتقصير، وفقد
العون والنصير، فوعده تعالى هو الحق، وما جاء به رسوله هو الصدق،
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (النجم: 1-2) ، {قُلْ كُلٌّ
مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} (طه:
135) .
…
...
…
...
…
...
…
منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مباحث المنار الدينية ودعوته إلى الانتقاد عليه
إن الغرض من مباحث المنار الدينية هو بيان أن الإسلام هو الحق الهادي إلى
سعادة الدنيا والآخرة ، ودفع شُبه أعدائه عنه في عقائده وآدابه وأحكامه والدعوة إلى
الاهتداء به. وإنما تتوجه الشبهات إلى الكتاب والسنة لا إلى أقوال العلماء والفقهاء.
فمن ثم كانت عمدة المدافع عن الإسلام والمحتج على حقيته إنما هي نصوص
الكتاب والسنة. فنرغب إلى من يسألوننا عن حكم الإسلام وأحكامه أن لا يقيدونا
بمذاهبهم ، ومن أراد الانتقاد على المنار في أمر ديني فليؤيد انتقاده بالدليل كآية
كريمة أو حديث يحتج به لا بقيل وقال. إلا إذا أخطأنا في نقل عن أئمة العلم الذين
نستضيء بأنوار أفهامهم في الكتاب والسنة أو الفهم أو في الأداء فللمنتقد أن يبين لنا
ذلك. وإننا نعيد القول كما بدأناه أول مرة بأننا ننشر كل ما ينتقده علينا العلماء
والأدباء، وما يشكل على عامة القراء، فإن كان المنتقد مصيبًا اعترفنا وشكرنا،
وإن كان مخطئًا بيَّنا وأعذرنا، ولا عذر لعالم يرى منا الخطأ فيسكت عليه بعد علمه
بهذا وبأن الحق يدفع الباطل وبأن الله أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب ليبيننه
للناس ولا يكتمونه، وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن يذم المنار
بعد هذا أو يقدح في صاحبه ولم يبين له خطأه فهو فاسق مغتاب، كاتم للعلم مذموم
بنص الكتاب.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسائل الاختيار والعلة والحكمة والحسن والقبح
نذكر ما أورد السفاريني فى هذه المسائل ليعلم قراء كتب الأشعرية ما في غيرها من الحقائق التي قد تخالفها إلى صواب، وأن الاقتصار على كتب طائفة معينة هو من قيود التقليد. قال في شرح قوله:
وربنا يخلق باختيار
…
من غير حاجة ولا اضطرار
لكنه لا يخلق الخلق سدى
…
كما أتى في النص فاتبع الهدى
(وربنا) تبارك وتعالى (يخلق) ما شاء أن يخلقه من سائر مخلوقاته
(باختيار) منه، فمذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله تعالى لم يزل فاعلاً لما يشاء وأنه
تقوم بذاته الأمور الاختيارية وأنه تعالى لم يزل متصفًا بصفاته الذاتية والفعلية فلم
يحدث له أسماء من أسمائه ولا صفة من صفاته، فيخلق سبحانه المخلوقات
ويحدث الحوادث بعد أن لم تكن سواء كان ذلك على مثال سابق أو لا. والإبداع
إحداث الشيء بعد أن لم يكن على غير مثال سابق (من غير حاجة) منه تعالى
إليه أي يخلق الخلق لا لحاجة إليه ولا (اضطرار) عليه، فالحاجة: المصلحة
والمنفعة ، والاضطرار: الإلجاء والإحواج والإلزام والإكراه، فلا حاجة باعثة له
سبحانه على خلقه للخلق، ولا مكره له عليه بل خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات
لمحض المشيئة وصرف الإرادة. وهذا قول جمهور من يثبت القدر وينتسب الى
السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم، وقال به طوائف من الحنبلية والمالكية
والشافعية وغيرهم، وهو قول أبي الحسن الأشعري وأصحابه، وهو قول كثير من
نفاة القياس في الفقه من الظاهرية كابن حزم وأمثاله، وحجة هذا أنه لو خلق الخلق
لعلة لكان ناقصًا بدونها مستكملاً بها؛ فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها
بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به؛ فإن كان الأول امتنع أن يفعل
لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به فيكون مستكملاً بها فيكون قبلها
ناقصًا، وأيضًا فالعلة إن كانت قديمة وجب قدم المعلول؛ لأن العلة الغائية، وإن
كانت متقدمة على المعلول في العلم والقصد فهي متأخرة في الوجود عن المعلول كما
يقال: أول الفكرة آخر العمل. وأول البغية آخر المدرك. ويقال: إن العلة الغائية
بها صار الفاعل فاعلاً فمن فعل فعلاً لمطلوب يطلبه بذلك الفعل كان حصول المطلوب
بعد الفعل فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديمًا؛ كان الفعل قديمًا بطريق
الأولى، فلو قيل: إنه يفعل لعلة قديمة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث وهو
خلاف المشاهدة، وإن قيل: إنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران:
(أحدهما) أن يكون محلاًّ للحوادث فإن العلة إن كانت منفصلة عنه فإن لم
يعد إليه منها حكم امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها، وإن قدر أنه عاد إليه
منها حكم كان ذلك حادثًا فتقوم به الحوادث ، والمحذور الثاني أن ذلك يستلزم
التسلسل من وجهين:
(أحدهما) أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضًا مما يحدثه الله تعالى
بقدرته ومشيئته فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم، وإن كان لعلة عاد التقسيم
فيها فإذا كان كل ما يحدثه أحدثه لعلة ، والعلة ما أحدثه لزم تسلسل الحوادث.
(الثاني) أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى فإن كان
الأول امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه وإن
كان الثاني فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل، فهذه الحجج من حجج
من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه.
(التقدير الثاني) قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية
قديمة كما يقوله الفلاسفة القائلون بقدم العالم وأصل قول هؤلاء أن المبدع للعالم
علة تامة تستلزم معلولها فلا يجوز أن يتأخر عنها معلولها وأعظم حججهم قولهم:
إن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود
المفعول في الأزل لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها فإنه لو تأخر لم تكن جميع
شروط الفعل وجدت في الأزل فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما تستلزم المعلول فإذا
قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة وإن لم تكن العلة التامة التي هي جميع
الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضي التام لوجود الفعل وهي جميع شروط الفعل
التي يلزم من وجودها وجود الفعل وإن لم تكن جميعها فى الأزل فلا بد إذا وجد
المفعول بعد ذلك من تجدد سبب حادث وإلا لزم تجريح أحد طرفي الممكن بلا
مرجح وإذا كان هناك سبب حادث فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول ويلزم
التسلسل، قالوا: فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل
وإما الترجيح بلا مرجح. ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها
الفاعلة لكنهم متناقضون فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية
ويقولون مع هذا: ليس له إرادة بل هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار وقولهم
باطل من وجوه كثيرة مذكورة في محالها منها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية روّح
الله روحه في كتابه (حسن الإرادة) . هذا القول يستلزم أن لا يحدث شيء وإن كل
ما حدث حدث بغير إحداث محدث ومعلوم أن بطلان هذا بيّن وأطال في رد ذلك ،
ومما ذكر: أن يقال لهم: حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية إما أن يكون ممكنًا في
العقل أو ممتنعًا فإن كان ممتنعًا لزم أن الحوادث جميعها لها أول كما يقوله أهل
الحق وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك وإن كان ممكنًا أمكن أن يكون حدوث ما
أحدثه الله تعالى كالسماوات والأرض موقوف على حوادث قبل ذلك كما تقولون أنتم
فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك
فيلزم فساد حجتكم على التقديرين ثم يقال: إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية
مطلوبة أو لا، فإن لم تثبتوا بطل قولكم بإثبات العلة الغائية وبطل ما تذكرونه من
حكمة الباري تعالى في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات وأيضًا فالوجود
يبطل هذا القول فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوت العد والإحصاء كإحداثه
سبحانه لما يحدثه من نعمته ورحمته وقت حاجة الخلق إليه كإحداث المطر وقت
الشتاء بقدر الحاجة وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته وأمثال
ذلك مما هو كثير جدًا وإن أثبتم له تعالى حكمة مطلوبة وهي باصطلاحكم العلة
الغائية - لزم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة فإن القول بأن الفاعل فعل كذا
لحكمة كذا بدون كونه مريدًا لتلك الحكمة المطلوبة جمْع بين النقيضين وهؤلاء
المتفلسفة من أكثر الناس تناقضًا ولهذا يجعلون العلم هو العالم والعلم هو الإرادة
والإرادة هى القدرة وأمثال ذلك.
(التقدير الثالث) وهو أنه سبحانه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة
محمودة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا قول أكثر الناس من المسلمين وغيرهم
وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد رضي الله عنهم وقول
طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكرَّامية والمرجئة وغيرهم وقول أكثر
أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وأكثر قدماء الفلاسفة وكثير من متأخريهم
كأبي البركات وأمثاله لكن هؤلاء على أقوال، منهم من قال: إن الحكمة المطلوبة
مخلوقة ومنفصلة عنه تعالى وهم المعتزلة والشيعة ومن وافقهم قالوا: الحكمة في
ذلك إحسانه للخلق والحكمة في الأمر تعريض المكلفين للثواب قالوا: فعل الإحسان
إلى الغير حسن محمود في العقل فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من
ذلك حكم ولا قام به نعت ولا فعل فقال لهم الناس: أنتم تناقضون في هذا القول لأن
الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه إلى فاعله حكم يحمد لأجله إما لتكميل
نفسه بذلك وإما لقصده الحمد والثواب بذلك وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع
بالإحسان ذلك الألم وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان فإن النفس الكريمة تفرح
وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها فالإحسان إلى الغير محمود لكون
المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة
إلى الفاعل سواء لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه بل مثل هذا يعد عبثًا في
عقول العقلاء وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من
الوجوه لا عاجلة ولا آجلة - كان عبثًا ولم يكن محمودًا على هذا ، وأنتم عللتم أفعاله
تعالى فرارًا من العبث فوقعتم فيه ، فإن العبث هو الفعل الذي لا مصلحة ولا منفعة
ولا فائدة تعود على الفاعل ولهذا لم يأمر الله تعالى ولا رسوله ولا أحد من العقلاء
أحدًا بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة
فأمر الفاعل بفعل لا يعود عليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من
الوجوه لا في العاجل ولا في الآجل- لا يستحسن من الآمر ومن ثم قال: (لكنه)
تعالى وتقدس، هذا استدراك من مفهوم قوله: إنه يخلق بالاختيار أي لا بالذات خلافًا
للمعتزلة ومن وافقهم من غير حاجة إليه ولا اضطرار عليه غير أنه جل وعلا: (لا
يخلق الخلق سدى) أي هَملاً بلا أمر ولا نهي ولا حكمة ومعنى السدى المهمل
وإبل سدى إذا كانت ترعى حيث شاءت بلا راعٍ (كما أتى في النص) القرآني
والسنة النبوية والآثار مما هو كثير جدًا أن الله تبارك وتعالى لا يفعل إلا لحكمة
وعلم وهو العليم الحكيم فما خلق شيئًا ولا قضاه ولا شرعه إلا بحكمة بالغة وإن
تقاصرت عنها عقول البشر (فاتبع الهدى) باقتفاء المأثور واتباع السلف الصالح
ولا تجحد حكمته كما لا تجحد قدرته فهو الحكيم القدير، قال شيخ الإسلام ابن تيمية
قدس الله روحه: ونشأ من هذا الاختلاف نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم
في مسألة التحسين والتقبيح العقلي فأثبت ذلك المعتزلة والكرَّامية وغيرهم ومن
وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعى وأحمد وأهل الحديث وغيرهم
رضي الله عنهم وحكوا ذلك عن الإمام أبي حنيفة نفسه رضي الله عنه ، ونفى ذلك
الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم واتفق الفريقان
على أن الحسن والقبح إذا فسر بكون الفعل نافعًا للفاعل ملائمًا له وكونه ضارًّا
للفاعل منافرًا له أنه تمكن معرفته بالعقل كما يعرف بالشرع وظن من ظن من
هؤلاء وهؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا وليس كذلك بل
جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم
وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم والحمد
والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له والذم والعقاب
المترتب على معصيته ضار للفاعل مفسدة له والمعتزلة أثبتت الحسن فى أفعال الله
تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله تعالى قال الشيخ: ومنازعوهم لما اعتقدوا
أن لا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك وقالوا:
القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته وكل ما يقدر ممكنًا من الأفعال فهو حسن
إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول وأولئك - يعني المعتزلة - أثبتوا
حسنًا وقبحًا لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته وعندهم لا يقوم بذاته لا وصف
ولا فعل ولا غير ذلك وإن كانوا قد يتناقضون ثم أخذوا يقيسون على ما يحسن من
العبد ويقبح فجعلوا يوجبون على الله سبحانه من جنس ما يوجبون على العبد
ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد ويسمون ذلك العدل والحكمة مع
قصور عقلهم عن معرفة حكمته فلا يثبتون له مشيئة عامة ولا قدرة تامة فلا يجعلونه
على كل شيء قدير ولا يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا يقرون بأنه
خالق كل شيء ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه فإنه سبحانه قال: {وَمَن يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْما وَلَا هَضْما} (طه: 112) : أي لا يخاف
أن يُظلم فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته وقال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ
القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (ق: 29) ، وفي حديث البطاقة عند الترمذي
وغيره: (لا ظلم عليك اليوم) .
والحاصل أن فعل الله - تعالى وتقدس - وأمره لا يكون لعلة في قول مرجوح ،
اختاره كثير من علمائنا وبعض المالكية والشافعية وقاله الظاهرية والأشعرية
والجهمية ، والقول الثاني أنهما لعلة وحكمة اختاره الطوفي وهو مختار شيخ الإسلام
ابن تيمية وابن القيم وابن قاضي الجبل وحكاه عن إجماع السلف وهو مذهب
الشيعة والمعتزلة لكن المعتزلة تقول بوجوب الصلاح ولهم فى الأصلح قولان كما
يأتي في النظم ، والمخالفون لهم يقولون بالتعليل لا على منهج المعتزلة قال شيخ
الإسلام: لأهل السنة في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه قولان والأكثرون على
التعليل والحكمة وهل هي منفصلة عن الرب لا تقوم به أو قائمة مع ثبوت الحكم
المنفصل؟ لهم فيه أيضًا قولان، وهل يتسلسل الحكم أو لا يتسلسل أو يتسلسل في
المستقبل دون الماضي؟ فيه أقوال قال: احتج المثبتون للحكمة والعلة بقوله تعالى:
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (المائدة: 32) وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا
القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَاّ لِنَعْلَمَ} (البقرة: 143) ونظائرها ولأنه تعالى حكيم
شرع الأحكام لحكمة ومصلحة لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) والإجماع واقع على اشتمال الأفعال على الحكم والمصالح جوازًا
عند أهل السنة ووجوبًا عند المعتزلة فيفعل ما يريد بحكمته وتقدم أن النافين للحكمة
والعلة احتجوا مما احتجوا به أنه يلزم من قدم العلة قدم المعلول وهو محال ومن
حدوثها افتقارها إلى علة أخرى وأنه يلزم التسلسل قال الإمام الرازي: وهو مراد
المشايخ بقولهم كل شيء صنعه ولا علة لصنعه وما أجاب به من قال بالحكمة وأنها
قديمة لا يلزمه من قدم العلة قدم معلولها كالإرادة فإنها قديمة ومتعلقها حادث وتقدمت
الإشارة في أول البحث إلى محصل هذا كله والحاصل أن شيخ الإسلام وجمعًا من
تلامذته أثبتوا الحكمة والعلة فى أفعال الباري جل وعلا وأقاموا على ذلك من
البراهين ما لعَلَّّه لا يبقي في مخيلة الفطين السالم من ربقة تقليد الأساطين أدنى
اختلاج وأقل تخمين وأما الإمام المحقق شمس الدين ابن القيم فقد أجلب وأجنب
وأتى بما يقضي منه العجب في كتابه (شرح منازل السائرين) و (مفتاح دار
السعادة) وغيرهما فمما احتج به في مفتاح دار السعادة قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) فدل على أن هذا حكم بشيء قبيح
يتنزه الله عنه فأنكره من جهة قبحه في نفسه لا من جهة كونه أنه لا يكون، ومن هذا
إنكاره تعالى على من جوّز أن يترك عباده سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا
يعاقبهم وأن هذا الحسبان باطل والله متعالٍ عنه لمنافاته لحكمته فقال تعالى:
{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة: 36) ، فأنكر سبحانه على من زعم
أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه وأنه لا يليق أن
ينسب ذلك إلى أحكم الحاكمين ومثله قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} (المؤمنون: 115-116) فنزَّه نفسه سبحانه وباعدها عن هذا الحسبان وأنه متعالٍ
عنه فلا يليق به لقُبحه ومنافاته الحكمة وهذا يدل على إثبات المعاد بالعقل كما يدل
على إثباته بالسمع ثم إن ابن القيم بسط القول ووسع العبارة في أزيد من عشرة
كراريس ثم قال: الكلام هنا في مقامين أحدهما في التلازم بين الحسن والقبح
العقليين وبين الإيجاب والتحريم شاهدًا وغائبًا والثاني في انتفاء اللازم وثبوته فأما
المقام الأول فلمُثبتي الحسن والقبح فيه طريقان:
أحدهما: ثبوت التلازم والقول باللازم وهذا القول هو المعروف عن المعتزلة
وعليه يناظرون وهو القول الذى نصب خصومهم الخلاف معهم فيه.
والقول الثاني: إثبات الحسن والقبح وأربابه يقولون بإثباته ويصرحون بنفي
الإيجاب قبل الشرع على العبد وبنفي إيجاب على الله شيئًا ألبتة كما صرح به كثير
من الحنفية والحنابلة كأبي الخطاب وغيره والشافعية كسعد بن علي الزنجاني الإمام
المشهور وغيره ولهؤلاء في نفي الإيجاب العقلي في المعرفة بالله وثبوته خلاف.
قال: فالأقوال أربعة لا مزيد عليها:
(أحدها) نفي الحسن والقبح ونفي الإيجاب العقلي في العمليات دون العلميات
كالمعرفة وهذا اختيار أبي الخطاب وغيره فعرف أنه لا تلازم بين الحسن والقبح
وبين الإيجاب والتحريم العقليين فهذا أحد المقامين.
(وأما المقام الثاني) وهو انتفاء اللازم وثبوته فللناس فيه ههنا ثلاث طرق:
أحدهما: التزام ذلك والقول بالوجوب والتحريم العقليين شاهدًا وغائبًا وهذا قول
المعتزلة وهؤلاء يقولون: يترتب الوجوب شاهدًا ويترتب المدح والذم عليه. وأما
الصفات فلهم فيها اختلاف وتفصيل فمن أثبته منهم يقولون: إن العذاب الثابت بعد
الإيجاب الشرعي نوع آخر غير العذاب الثابت على الإيجاب العقلي وبذلك يجيبون
عن النصوص النافية للعذاب قبل البعثة وأما الإيجاب والتحريم العقليان غائبًا فهم
مصرحون بهما ويفسرون ذلك باللزوم الذي أوجبته حكمته وأنه يستحيل عليه خلافه
كما يستحيل عليه الحاجة والنوم والتعب واللغوب فهذا معنى الوجوب والامتناع في
حق الله تعالى عندهم فهو وجوب اقتضته ذاته وحكمته وامتناع مستحيل عليه
الاتصاف به لمنافاته كماله وغناه قالوا: وهذا في الأفعال نظير ما يقول أهل السنة
في الصفات: إنه يجب له كذا ويمتنع عليه كذا فكما أن ذاك وجوب وامتناع ذاتي
يستحيل عليه خلافه فهكذا ما تقتضيه حكمته وتأباه يستحيل عليه الإخلال به وإن
كان مقدورًا له لكنه لا يخل به لكمال حكمته وعلمه وغناه.
(الفرقة الثانية) منعت ذلك جملة وأحالت القول به وجوزت على الرب
تعالى كل شيء ممكن وردت الإحالة والامتناع في أفعاله تعالى إلى غير الممكن من
المُحالات كالجمع بين النقيضين وبابه فقابلوا المعتزلة أشد مقابلة واقتسما طرفي
الإفراط والتفريط ورد هؤلاء الوجوب والتحريم الذي جاءت به النصوص إلى
مجرد صدق الخبر فما أخبر أنه يكون فهو لتصديق خبره وما أخبر أنه لا يكون فهو
ممتنع لتصديق خبره والتحريم عندهم راجع إلى مطابقة العلم لمعلومه والمخبر
لخبره وقد يفسرون التحريم بالامتناع عقلاً كتحريم الظلم على نفسه فإنهم يفسرونه
بالمستحيل لذاته كالجمع بين النقيضين وليس عندهم في المقدور شيء هو ظلم يتنزه
الله عنه مع قدرته عليه وحكمته وعدله فهذا قول الأشعرية ومن وافقهم.
(الفرقة الثالثة) هم الوسط بين هاتين الفرقتين فإن الفرقة الأولى أوجبت
على الله شريعة بعقولها حرمت عليه وأوجبت ما لم يحرمه على نفسه ولم يوجبه
على نفسه والفرقة الثانية جوزت عليه ما يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته حكمته وكماله
والفرقة الوسط أثبتت له ما أثبته لنفسه من الإيجاب والتحريم الذى هو مقتضى
أسمائه وصفاته الذي لا يليق نسبته إلى ضده لأنه موجب كماله وحكمته وعدله ولم
تدخله تحت شريعة وضعتها بعقولها كما فعلت الفرقة الأولى ولم تجوز عليه ما نزه
نفسه عنه كما فعلت الفرقة الثانية، قالت الفرقة الوسط: قد أخبر الله تعالى أنه حرم
الظلم على نفسه كما قال على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي إني
حرمت الظلم على نفسي) وقال: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف: 49) وقال:
{وَمَا رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) وقال: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (النساء: 77) ، فأخبر بتحريمه على نفسه ونفى عن نفسه فعله وإرادته ، وللناس
في تفسير هذا الظلم الذي حرمه على نفسه تعالى وتنزّه عن فعله وإرادته ثلاثة
أقوال بحسب أصولهم وقواعدهم: (أحدها) أنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم
لبعض فشبهوه في الأفعال ما يحسن منها وما لا يحسن بعباده فضربوا له من قبل
أنفسهم الأمثال فصاروا بذلك مشبهة ممثلة في الأفعال وامتنعوا من إثبات المثل
الأعلى الذى أثبته لنفسه ثم ضربوا له الأمثال ومثلوه في أفعاله بخلقه كما أن
الجهمية المعطلة امتنعت من إثبات المثل الأعلى الذي أثبته لنفسه ثم ضربوا له
الأمثال ومثلوه في صفاته بالجمادات الناقصة بل بالمعدومات وأهل السنة نزهوه عن
هذا وهذا وأثبتوا ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال ونزهوه فيها عن
الشبيه والمثال فأثبتوا له المثل الأعلى ولم يضربوا له الأمثال فكانوا أسعد الناس
بمعرفته وأحقهم بولايته ومحبته وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ثم التزم أصحاب
هذا التفسير عنه من اللوازم الباطلة ما لا قبل لهم به فقالوا: إذا أمر العبد ولم يُعِنْهُ
بجميع مقدوره تعالى من وجوه الإعانة فقد ظلمه والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالاًّ
كما زعموا أنه لا يقدر أن يضل مهتديًّا وقالوا: إنه إذا أمر اثنين بأمر واحد وخص
أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالمًا وأنه إذا اشترك اثنان في ذنب يوجب
العقاب فعاقب به أحدهما وعفا عن الآخر كان ظالمًا إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة
التي جعلوا لأجلها ترك تسويته بين عباده في فضله وإحسانه ظلمًا فعارضهم
أصحاب التفسير الثاني وقالوا: الظلم المنزه عنه من الأمور الممتنعة لذاتها فلا
يجوز أن يكون مقدورًا له تعالى ولا أنه تركه بمشيئته واختياره وإنما هو من باب
الجمع بين الضدين وجعل الجسم الواحد في مكانين وقلب القديم محدثًا والمحدث
قديمًا ونحو ذلك وإلا فكل ما يقدره الذهن وكان وجوده ممكنًا والرب قادر عليه فليس
بظلم سواء فعله أو لم يفعله وتلقى هذا القول عنهم طوائف من أهل العلم وفسروا
الحديث به وأسندوا ذلك وقوّوه بآيات وآثار زعموا أنها تدل عليه كقوله تعالى: {إِن
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} (المائدة: 118) : يعني لم تتصرف في غير ملكك بل إنما
عذبت من تملك وعلى هذا فجوزوا تعذيب كل عبد له ولو كان محسنًا ولم يروا ذلك
ظلمًا ، وبقوله تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) وبقول
النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم
وهو غير ظالم لهم) وبما رُوي عن إياس بن معاوية قال: (ما ناظرت بعقلي
كله أحدًا إلا القدرية قلت لهم: ما الظلم؟ قالوا: أن تأخذ ما ليس لك وأن تتصرف
فيما ليس لك، قلت: فلله كل شيء) ، والتزم هؤلاء عن هذا القول لوازم باطلة
قولهم: إن الله تعالى يجوز عليه أن يعذب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه وأهل
طاعته ويخلدهم في العذاب الأليم ويكرم أعداءه من الكفار والمشركين
والشياطين ويخصهم بجنته وكرامته وكلاهما عدل وجائز عليه وأنه يعلم أن لا يفعل
ذلك بمجرد خبره فصار ممتنعًا لإخباره أنه لا يفعله لا لمنافاة حكمته ولا فرق بين
الأمرين بالنسبة إليه ولكن أراد هذا وأخبر به وأراد الآخر وأخبر به فوجب هذا
لإرادته وخبره وامتنع ضده لعدم إرادته وإخباره بأنه لا يكون. والتزموا أيضًا أنه
يجوز أن يعذب الأطفال الذين لا ذنب لهم أصلاً ويخلدهم في الجحيم وربما قالوا
بوقوع ذلك.
فأنكر على الطائفتين معًا أصحاب التفسير الثالث وقالوا: الصواب الذي دلت
عليه النصوص أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه وتنزه عنه فعلاً وإرادة هو ما
فسر به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل عليه سيئات غيره ولا يعذب بما لا تكتسب
يداه ولم يكن سعى فيه ولا ينقص من حسناته فلا يجازى بها أو ببعضها إذا قارنها
أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالها أو اقتصاص المظلومين منها وهذا الظلم الذي نفى
الله تعالى خوفه عن العبد بقوله: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ
ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (طه: 112) قال السلف والمفسرون: لا يخاف أن يحمل
عليه سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، فهذا هو المعقول من الظلم ومن عدم
خوفه وأما الجمع بين النقيضين وقلب القديم محدثًا والمحدث قديمًا فمما يتنزه كلام
آحاد العقلاء عن تسميته ظلمًا وعن نفي خوفه عن العبد فكيف بكلام رب العالمين؟!.
قالوا: وأما استدلالكم بتلك النصوص الدالة على أنه سبحانه إن عذبهم فإنهم عباده
وأنه غير ظالم لهم وأنه لا يسأل عما يفعل وأن قضاءه فيهم عدل وبمناظرة إياس
للقدرية فهذه النصوص وأمثالها كلها حق يجب القول بموجبها ولا تحرف معانيها
والكل من عند الله ولكن أي دليل فيها يدل على أنه يجوز عليه تعالى أن يعذب
أهل طاعته وينعم أهل معصيته ويعذب بغير جرم ويحرم المحسن جزاء عمله ونحو
ذلك بل كلها متفقة متطابقة دالة على كمال القدرة وكمال العدل والحكمة
فالنصوص التي ذكرناها تقتضي كمال عدله وحكمته وغناه ووضعه العقوبة والثواب
مواضعهما وأنه لم يعدل بهما عن مسببهما والنصوص التي ذكرتموها تقتضي كمال
قدرته وانفراده بالربوبية والحكم وأنه ليس فوقه آمر ولا ناهٍ يتعقب أفعاله بسؤال
وأنه لو عذب أهل سمواته وأرضه لكان ذلك تعذيبًا لحقه عليهم وكانوا إذ ذاك
مستحقين للعذاب؛ لأن أعمالهم لا تفي بنجاتهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (لن
ينجي أحدًا منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني
لله برحمة منه وفضل) فرحمته لهم ليس في مقابلة أعمالهم ولا هي ثمنًا لها فإنها
خير منها كما قال في الحديث نفسه: (ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من
أعمالهم) فجمع بين الأمرين في الحديث أنه لو عذبهم لعذبهم باستحقاقهم ولم يكن
ظالمًا لهم وأنه لو رحمهم لكان ذلك مجرد فضله وكرمه لا بأعمالهم إذ رحمته خير
لهم من أعمالهم فطاعات العبد كلها لا تكون في مقابلة نعم الله عليهم ولا مساوية لها
بل ولا للقليل منها فكيف يستحقون بها على الله النجاة وطاعة المطيع لا نسبة لها
إلى نعمة من نعم الله عليه فتبقى سائر النعم تتقاضاه شكرًا والعبد لا يقوم بمقدوره
الذى يجب لله عليه فجميع عباده تحت عفوه ورحمته وفضله فما نجا منهم أحد إلا
بعفوه ومغفرته ولا فاز بالجنة إلا بفضله ورحمته وإذا كانت هذه حال العباد فلو
عذبهم وهو غير ظالم لهم لا من حيث كونه قادرًا عليهم وهم ملك له بل لاستحقاقهم
ولو رحمهم لكان ذلك بفضله لا بأعمالهم ويأتي لهذا مزيد تحرير والله أعلم.
(المنار)
أيها الأشعري إنك ترى في هذه الجملة من النقول عن أئمة الأمة ما ينبئك
بحقيقة معنى العلة والحكمة وأن كُلاًّ من المعتزلة والأشعرية أخطأوا من جهة
وأصابوا من أخرى، وأن مذهب السنة الصحيح وسط بين المذهبين وأن أخذ العلم
من كتب طائفة تؤيد مذهبًا معينًا دون النظر في كتب أهل المذاهب الأخرى لا يفك
الآخذ من ربقة التقليد ولا يهديه إلى طريقة التمحيص والتحديد وأن كتب ابن تيمية
وابن القيم أنفع كتب الكلام وأن هذين الشيخين هما الجديران بلقب شيخ الإسلام فقد
أصاب من لقبهما به من العلماء الأعلام.
وخلاصة القول الحق أن العقل والكتاب يدلان على حكمة الله تعالى وعدله
ورحمته وفضله كما يدلان على قدرته وإرادته واختياره يستحيل عليه أضدادها فكل
أفعاله حكمة ومصلحة للخلق والحكمة أو المصلحة فى الفعل تسمى في اللغة علة
وجاء ذلك في القرآن بحرف التعليل فاجمعْ بين العقل والنقل تهتدِ السبيل ولا تكفِّرْ
أو تضللْ أحدًا من أهل القبلة إذا هو خالف مذهبك بالعلة أو غير العلة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأسئلة الجاوية في سماع آلات اللهو
جاءتنا الأسئلة الآتية من جاوه فأرجأنا الجواب عنها حتى نسيناها بسقوط
صحيفتها بين الرسائل المهملة ، ثم رأيناها الآن فنذكرها سردًا ، ثم نجيب عنها ،
والظاهر أنها عُرضت على غيرنا ولكن لم نسمع لها صدى وهي:
(السؤال الأول)
ما قولكم متع الله بحياتكم وأحيا بكم معالم الدين وشريعة سيد المرسلين في
تصريح الأئمة المشهورين الذين هم من حملة الشريعة المطهرة بتحريم سماع
الأوتار التى هي من آلة الملاهي المحرمة كالعود المعبر عنه بالقنبوس ، وتصريحهم
بأنها شعار شربة الخمر وبفسق مستمعها وتأثيمه وبرد شهادته (وذلك) كقول حجة الإسلام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين ما معناه: فحرم ما هو شعار أهل الشرب
وهي الأوتار والمزامير إلى قوله: فيحرم التشبه بهم لأن (مَن تشبه بقوم فهو
منهم) . انتهى (وقوله) فيه أيضًا ومنها - أي المنكرات - سماع الأوتار أو سماع
القينات إلى أن قال: فكل ذلك محظور منكر يجب تغييره ، ومن عجز عن تغييره
لزمه الخروج ولم يجز له الجلوس فلا رخصة له في الجلوس في مشاهدة
المنكرات. انتهى (وقوله) : أيضًا يحرم السماع بخمسة عوارض إلى قوله:
والثاني الآلة بأن تكون من شعار الشربة والمخنثين وهى المزامير والأوتار. انتهى.
(وكقول) الشيخ ابن حجر في التحفة ما ملخصه: ويحرم استعمال آلة من شعار
الشربة كطنبور وعود ورباب ومزمار وسائر أنواع الأوتار لأن اللذة الحاصلة منها
تدعو إلى فساد ولأنها شعار الفسقة والتشبه بهم حرام. انتهى (ومثله) في النهاية
للشيخ الرملي. (وقول) الشيخ ابن حجر في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر ما
معناه: من استمع إلى شيء من هذه المحرمات فسق ورُدت شهادته. انتهى.
(وقوله) فيه أيضًا: أما المزامير والأوتار والكوبة فلا يختلف في تحريم استماعها
وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج للشهوات والفساد والمجون ،
وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه. انتهى ملخصًا.
وقد أورد الحبيب عبد الله بن علوي الحداد في كتابه النصائح الدينية عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه: إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، وذكر
من جملتها اتخاذ القَينات والمعازف يعني الملاهي من الأوتار والمزامير (وقول)
الحبيب عبد الله بن حسين في كتابه سلم التوفيق في عد كبائر الذنوب ما لفظه:
واللعب بآلات اللهو المحرمة كالطنبور والرباب والمزمار والأوتار، وكتصريح
هؤلاء الأئمة تصريح غيرهم من حملة الشريعة المحمدية بالتحريم واتفاقهم عليه
حيث اتفقوا على تحريم العود وهو القنبوس وما ذكر معه وعلى تفسيق فاعله
وسماعه وعلى رد شهادتهم (فهل) قول هؤلاء الأئمة وتصريحهم بما ذكر معتمد
في المذهب ومعول عليه يجب العمل بمقتضاه وهو اجتناب هذا المحرم المتفق عليه
وعلى تفسيق فاعله أم لا؟ .
(السؤال الثاني)
وما قولكم متَّّع الله بحياتكم وحفظ بكم الشريعة المطهرة في تصريح هؤلاء
الأئمة وغيرهم من المحققين موافقة للمذاهب الأربعة في الرد الشنيع على من أباح
تلك الآلة المحرمة كتصريح الشيخ ابن حجر في التحفة بقوله: إني رأيت تهافت
كثيرين على كتاب لبعض مَن أدركناهم من صوفية الوقت تبع فيه خراف ابن حزم
وأباطيل ابن طاهر وكذبه الشنيع في تحليل الأوتار وغيرها ، ولم ينظر لكونه
مذموم السيرة مردود القول عند الأئمة ووقع بعض ذلك للإدفوي في تأليف له في
السماع ولغيره وكل ذلك يجب الكف عنه واتباع ما عليه أئمة المذاهب الأربعة
وغيرهم. انتهى بالاختصار (ومثله) في النهاية للشيخ الرملي وغيرها
(وكتصريح) الشيخ ابن حجر في الزواجر بقوله: وأما حكاية ابن طاهر عن
صاحب التنبيه أنه كان يبيح سماع العود ويسمعه وأنه مشهور عنه ولم يكن من
علماء عصره من ينكر عليه وإن حله ما أجمع عليه أهل المدينة فقد ردوه على ابن
طاهر لأنه مجازف إباحي كذاب رجس العقيدة نجسها فمن ثم قال الأذرعي عقب
كلامه هذا: وهذه مجازفة ، وإنما فعل ذلك بالمدينة أهل المجانة والبطالة ونسبة ذلك
إلى صاحب التنبيه كما رأيته في كتاب له في السماع نسبة باطلة قطعًا وقد صرح
في مهذبه بتحريم العود وهو قضية ما في تنبيهه ومن عرف حاله وشدة ورعه
ومتين تقواه جزم ببعده عنه وطهارة ساحته منه. انتهى. (وكتصريح) الشيخ
الباجوري في حاشيته على ابن قاسم بقوله:
فاجزم على التحريم أي جزم
…
والرأي أن لا تتبع ابن حزم
فقد أبيحت عنده الأوتار
…
والعود والطنبور والمزمار
(وتصريح) الشيخ ابن حجر أيضًا في الزواجر بقوله: ومن عجيب تساهل
ابن حزم واتِّباعه لهواه أنه بلغ من التعصب الى أن حكم على هذا الحديث وكل ما
ورد في الباب بالوضع وهو كذب صُراح منه فلا يحل لأحد التعويل عليه في شيء
من ذلك. انتهى (وقوله) أيضًا في موضع آخر: فقد حكيت آراء باطلة منها قول
ابن حزم: وقد سمعه - أي العود - ابن عمر وابن جعفر رضي الله عنهما وهو
من جموده على ظاهريته الشنيعة القبيحة وما زعمه من هذين الإمامين ممنوع ولا
يثبت ذلك عنهما وحاشاهما من ذلك لشدة ورعهما وبُعدهما من اللهو. انتهى ملخصًا،
وقول الشيخ الرملي في النهاية: وما حُكي عن ابن عبد السلام وابن دقيق العيد
أنهما كانا يسمعان ذلك - فكذب. انتهى (فهل) تصريح هؤلاء الأئمة الذين هم
حملة الشريعة المطهرة بهذا الرد الشنيع على من أحل الأوتار وبتكذيب نُقُُولهم معتمد
في المذهب ومعول عليه يجب العمل بمقتضاه وهو عدم جواز التعويل ولا الالتفات
إلى من أحل الأوتار وعدم جواز نسبة سماعها إلى العلماء أو الصلحاء أم لا؟
(السؤال الثالث)
وما قولكم متع الله بكم وشيد بكم أركان الدين في شأن سيرة السلف الصالحين
من العلويين وغيرهم رضي الله عنهم ونفعنا بهم في شدة مجاهدتهم واجتهادهم
واستغراق أوقاتهم في تحصيل العلوم بشرائطها وآدابها ثم اجتهادهم في العبادة من
دوام القيام وسرد الصيام بكمال المتابعة وشدة المجاهدة للنفس ومكابدتها والورع
والزهد كما لا يخفى على من اطلع على كتب تراجمهم ومناقبهم رضي الله عنهم
كالمشرع الروي والجوهر الشفاف والبرقة المشيقة وغير ذلك أن كثيرًا منهم من
يصلي الصبح بوضوء العشاء في عدة سنين كثيرة ، وختم القرآن بعدد كثير من
زمن يسير وغير ذلك من الأعمال الصالحات مع غاية الزهد والورع وترك ملاذ
الدنيا المباحة فضلاً عن المحرمات وغير ذلك من أوصافهم الحميدة وشدة مجاهدتهم
ما يحير عقل من وقف على سيرتهم ومن مخالفتهم للنفس والهوى ما يقطع يقينًا
على بعد ساحتهم عن الملاهي ونظافة ساحتهم من المناهي (فهل) يسوغ للمؤمن
بالله أن ينسب إلى أحد منهم سماع العود الذى اتفق أئمة الشريعة على تحريمه
وتفسيق فاعله حتى يعتقد الغوغاء بسبب هذه النسبة والافتراء حل سماع العود وأنه
من شعار الصالحين أم لا يسوغ ذلك؟
(السؤال الرابع)
وما قولكم متع الله بكم وصان بكم شريعة سيد المرسلين فيما إذا سمع هذا
القنبوس أناس من المترسمين بالعلم أو من أهل البيت النبوي بحيث يقتدي بهم
الغوغاء ، ويحتجون بسماعهم له على جواز سماع القنبوس (فهلا) يعظم وزر
المقتدى بهم ويدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة سيئة فعليه
وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) أم لا؟
(السؤال الخامس)
وما قولكم متع الله بكم وذب بكم عن شريعة سيد المرسلين من دعاوى الكاذبين
فيما نص به العلامة السيد مصطفى العروسي في كتابه نتائج الأفكار وهو قوله:
(تنبيه) إن قال قائل: نحن لا نسمع بالطبع بل بالحق فنسمع بالله وفي الله لا
بحظوظ البشرية قلنا له: كذبتَ على طبعك وكذبت على الله في تركيبك وما وصفك
من حب الشهوات، وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (مَن فارق إلفه
وادعى العصمة فاجلدوه فإنه مفترٍ كذابٌ) . انتهى وفيما نص به الشيخ البجيرمي
على الإقناع وهو قوله: وما قيل عن بعض الصوفية من جواز استماع الآلات
المطربة لما فيها من النشاط على الذكر وغير ذلك فهو من تهورهم وضلالهم فلا
يعول عليه. انتهى (فهل) هذه النصوص صحيحة يجب العمل بمقتضاها وهو
عدم الاغترار بخرافات الأغيار أم لا؟
أفتونا في هذه الأسئلة فإن البلية الباعثة عليها قد عمت مصيبتها وطارت
شررها لعل الله بنور علمكم يطفيها، لا زلتم ناصرين لشريعة سيد المرسلين
وللمعاونة على البر والتقوى معاونين أحيا الله بكم الإسلام. آمين. اهـ بنصه.
(جواب المنار)
قد اختلف العلماء في سماع الغناء وآلات اللهو قديمًا وحديثًا، وأكثروا القول
فيه بل كتبوا فيه المصنفات واستقصوا الروايات، ونحن نذكر أقوى ما ورد من
الأحاديث في هذا الباب ثم ملخص اختلاف العلماء وأدلتهم، ثم ما هو الحق الجدير
بالاتباع، ثم نتكلم على أسئلة السائل.
أحاديث الحظر
1-
عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري أنه
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحِر
والحرير والخمر والمعازف) أخرجه البخاري بهذا الشك بصورة التعليق وابن
ماجه من طريق ابن محيريز عن أبي مالك بالجزم ولفظه: (ليشربن ناس من أمتي
الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله
بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير) وأخرجه أبو داود وابن حبان وصححه.
2-
عن نافع أن ابن عمر سمع صوت زمارة راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه
وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع فأقول: نعم فيمضي حتى
قلت: لا ، فرفع يده وعدل راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم سمع زمارة راع فصنع مثل هذا، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، قال
أبو علي اللؤلؤي: سمعت أبا داود يقول: وهو حديث منكر.
3-
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم الخمر
والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام) رواه أحمد وأبو داود، وفي لفظ
لأحمد أنه قال بعد الميسر: (والمزر والكوبة والقنين) وفي إسناد الحديث الوليد
ابن عبدة راويه عن ابن عمر، قال أبو حاتم الرازي: هو مجهول، وقال ابن
يونس في تاريخ المصريين: إنه روى عنه يزيد بن أبي حبيب. وقال المنذري:
إن الحديث معلول ولكنه يشهد له حديث ابن عباس بنحوه وهو (عن ابن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل
مسكر حرام) .
وقد فسر بعضهم الكوبة بالطبل قال سفيان: عن علي بن بذيمة ، وقال ابن
الأعرابى: الكوبة: النرد وقد اختلف في الغبيراء (بالضم) قال الحافظ في
التلخيص: فقيل: الطنبور، وقيل: العود، وقيل: البربط، وقيل: مزر يصنع
من الذرة أو من القمح، وبذلك فسره في النهاية. والمزر بالكسر نبيذ الشعير،
والمعتمد في الغبيراء ما قاله في النهاية من أنها من الأشربة ، والقنين قيل لعبة
للروم يقامرون بها، وقيل: الطنبور بالحبشية فظهر بهذا أن الحديثين ليسا في
موضوع المعازف وآلات السماع اتفاقًا.
4-
عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في
هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، فقال رجل من المسلمين: ومتى ذلك يا رسول
الله؟ قال: (إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور) رواه الترمذي وقال:
هذا حديث غريب، أقول: وقد أخرجه من طريق عبّاد بن يعقوب وكان من غلاة
الروافض ورؤوس البدع إلا أنه صادق الحديث، وقد روى له البخاري حديثًا
واحدًا مقرونًا بغيره، وقال ابن عدي: أنكروا عليه أحاديث وهو رواه عن عبد الله
بن عبد القدوس وهو رافضي مثله قال: قال يحيى بن معين: ليس بشيء،
والنسائي: ليس بثقة، وضعَّفه الدارقطني.
5-
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اتخذ
الفيء دولاً والأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا، وتُعُلِّمَ لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته
وعق أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد
القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القيان
والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحًا
حمراء وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع بعضه
بعضًا) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب أقول: إن راويه عن أبي هريرة
هو رميح الجذامي قال في الميزان: لا يعرف.
6-
عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تبيت طائفة من
أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثم يصبحون قردة وخنازير وتبعث على أحياء
من أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسف من كان قبلكم باستحلالهم الخمر وضربهم
بالدفوف واتخاذهم القينات) رواه أحمد. قال في المنتقى: وفي إسناده فرقد السبخي
قال أحمد: ليس بقوي ، وقال ابن معين: هو ثقة وقال الترمذي: تكلم فيه يحيى
بن سعيد وقد روى عنه الناس.
7-
عن (أمامة) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله بعثني رحمة
وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات يعنى البرابط والمعازف
والأوثان التى كانت تعبد في الجاهلية) رواه أحمد عن عبيد الله بن زحر عن علي
بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن. قال البخاري: عبيد الله بن زحر ثقة، وعلي
بن يزيد ضعيف. وقال أبو مسهر في عبيد الله بن زحر: إنه صاحب كل معضلة،
وقال يحيى بن معين: إنه ضعيف وقال مرة: ليس بشيء وقال ابن المديني: منكر
الحديث، وقال ابن حبان: يروي موضوعات عن الأثبات، إذا روى عن علي بن
يزيد أتى بالطامات.
8-
وعنه بهذا السند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا القينات
ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام. في مثل هذا
أنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (لقمان: 6) الآية) رواه الترمذي وأحمد بالمعنى ولم يذكر الآية والحميدي في
مسنده بلفظ: (لا يحل ثمن المغنية ولا بيعها ولا شراؤها ولا الاستماع إليها) وهو
لا يصح كما تقدم.
9-
عن ابن مسعود: (الغناء ينبت النفاق في القلب) رواه أبو داود مرفوعًا
والبيهقي مرفوعًا وموقوفًا وفي إسناده شيخ لم يسمَّ وفي بعض طرقه ليث بن أبي
سليم وهو متفق على ضعفه كما قال النووي. وقال الغزالي: رفعه لا يصح ،
ومعناه أن المغني ينافق لينفق. وقد زدنا هذا وما قبله إتمامًا للبحث.
وقد رأيتَ أنه لا يصح من هذه الأحاديث إلا الأول وستعلم مع ذلك ما قيل في
إعلاله وما روي غيرها أوهَى منها إلا أثر عن ابن مسعود في تفسير اللهو فقد
صححه ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي.
(أحاديث الإباحة)
(1)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم (أيام مِنى) وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث فاضطجع على الفراش
وحوَّل وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ ! فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (دعهما يا
أبا بكر فإنها أيام عيد) وفي رواية: (يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا) ،
فلما غفل غمزتهما فخرجتا، تقول: لما غفل أبو بكر، رواه البخاري في سنة العيد
وفي أبواب متفرقة، ومسلم في العيد، والنسائي في عشرة النساء، وإنما أنكر أبو
بكر لظنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نائمًا لم يسمع.
(2)
وعنها أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: (يا عائشة ما كان معكم من لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو) رواه
البخاري. قال الحافظ في الفتح عند شرح قوله: (ما كان معكم لهو) : في رواية
شريك (فقال: فهل بعثتم جارية تضرب بالدف وتغني؟ قلت: تقول ماذا؟ قال:
تقول:
أتيناكم أتيناكم
…
فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر
…
ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمراء
…
ما سمنت عذاريكم
(3)
عن خالد بن ذكوان عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ قالت: دخل عليَّ النبي
صلى الله عليه وسلم غداة بُني عليَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني،
وجويريات يضربن بالدف يندبن مَن قتل من آبائي يوم بدر حتى قالت إحداهن:
وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولي هكذا وقولي
كما كنتِ تقولين) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا النسائي.
(4)
عن محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح) رواه أحمد والترمذي
والنسائي وابن ماجه والحاكم.
(5)
عن عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود
الأنصاري في عُرس وإذا جوارٍ يغنين فقلت: أي صاحِبَيْ رسول الله صلى الله
عليه وسلم أهل بدر يُفعل هذا عندكم؟ ! فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا وإن
شئت فاذهب فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس، أخرجه النسائي والحاكم
وصححه.
(6)
عن بُريدة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض
مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن
َرَدَّكَ الله صالحًا أن أضرب بين يديك الدف وأتغنى، قال لها: إن كنت نذرت
فاضربي وإلا لا، فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي
تضرب ثم دخل عثمان وهى تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت
عليه! . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان لَيخاف منك يا عمر؛
إني كنت جالسًا وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر
ألقت الدف!) رواه أحمد والترمذي وصححه وابن حبان والبيهقي.
خلاف العلماء في مسألة
سماع الغناء والمعازف وأدلتهم
في الباب أحاديث أخرى، وما أوردنا هو أصح ما ورد فيه مما يحتج به،
وأحاديث الحظر التى تقدمت تحظر المعازف وهي آلات اللهو - والدف منها قطعًا
- وغناء القيان وهن الجواري المغنيات، وقد رأيت في أحاديث الإباحة إباحة
العزف بالدف وغناء الجواري وانعقاد نذره، ومما ينبغي الالتفات إليه أن كلام أبي
بكر وكلام عامر بن سعد يدل على أن الناس كانوا يتوقعون حظر السماع واللهو لا
سيما أصوات النساء لولا النص الصريح بالرخصة وتكراره في الأوقات التى جرت
عادة الناس بتحري السرور فيها كالعيد والعرس وقدوم المسافر، فأحاديث الإباحة
مرجحة بصحتها وضعف مقابلها ونكارته ، وبكونها على الأصل في الأشياء وهو
الإباحة، وبموافقتها ليُسر الشريعة وسماحها وموافقتها للفطرة، وهذا لا ينافي أن
الانصراف الزائد إلى اللهو والإسراف فيه ليس من شأن أهل المروءة والدين،
ولهذا رأيت كثيرًا من أئمة العلماء الزهاد شدد النكير على أهل اللهو لما كثر
وأسرف الناس فيه عندما عظم عمران الأمة واتسعت مذاهب الحضارة فيها حتى
جاء أهل التقليد من المصنفين فرجحوا أقوال الحظر وزادوا عليها في التشديد حتى
حرم بعضهم سماع الغناء مطلقًا وسماع آلات اللهو جميعها إلا طبل الحرب ودف
العرس، وزعموا أنه دف مخصوص لا يطرب وأنه غير دف أهل الطرب. وهاك
أجمع كلام يحكي خلاف علماء الأمة وأدلتهم في هذه المسألة بالاختصار وهو كلام
الشوكاني في نيل الأوطار قال بعد ما أورد ما تقدم من أحاديث الحظر:
قد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها فذهب الجمهور إلى
التحريم مستدلين بما سلف، وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر
وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع، ولو مع العود واليراع، وقد حكى
الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان
لا يرى بالغناء بأسًا ويصوغ الألحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتاره وكان ذلك
في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضًا
عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري والشعبي.
وقال إمام الحرمين في النهاية وابن أبي الدم: نقل الأثبات من المؤرخين أن
عبد الله بن الزبير كان له جوارٍ عوَّادات وأن ابن عمر دخل عليه وإلى جنبه عود
فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ ! ، فناوله إياه فتأمله ابن عمر فقال: هذا
ميزان شامي قال ابن الزبير: يوزن به العقول.
وروى الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالته في السماع بسنده إلى ابن سيرين
قال: إن رجلاً قدم المدينة بجوارٍ فنزل على عبد الله بن عمر وفيهن جارية تضرب
فجاء رجل فساومه فلم يهوَ منهن شيئًا قال: انطلقْ إلى رجل هو أمثل لك بيعًا من
هذا، قال: مَن هو، قال: عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه فأمر جارية منهن فقال
لها: خذي العود فأخذته فغنت فبايعه ثم جاء إلى ابن عمر.. إلى آخر القصة.
وروى صاحب العِقد العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي أن عبد الله بن عمر دخل
على أبي جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود ثم قال لابن عمر: هل ترى
بذلك بأسًا؟ قال: لا بأس بهذا، وحكى الماوردي عن معاوية وعمرو بن العاص
أنهما سمعا العود عند ابن جعفر. وروى أبو الفرج الأصبهاني أن حسان بن ثابت
سمع من عزة الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره. وذكر أبو العباس المبرّد نحو
ذلك (والمزهر عند أهل اللغة: العود) وذكر الإدفوي أن عمر بن عبد العزيز كان
يسمع من جواريه قبل الخلافة، ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاووس ونقله
ابن قتيبة وصاحب الإمتاع عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن
الزهري من التابعين، ونقله أبو يعلى الخليلي في الإرشاد عن عبد العزيز بن سلمة
الماجَشَوْن مفتي المدينة. وحكى الروياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة
الغناء بالمعازف. وحكى الأستاذ أبو منصور والفوراني عن مالك جواز العود
وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبورًا في بيت المنهال
بن عمرو المحدث المشهور.
وحكى أبو الفضل بن طاهر في مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل
المدينة في إباحة العود قال ابن النحوي في العمدة: قال ابن طاهر: هو إجماع أهل
المدينة، قال ابن طاهر: وإليه ذهبت الظاهرية قاطبة قال الإدفوي: لم يختلف
النقلة في نسبة الضرب إلى إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر وهو ممن أخرج له
الجماعة كلهم [1] وحكى الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية، وحكاه أبو
الفضل بن طاهر عن أبي إسحاق الشيرازي وحكاه الإسنوي في المهمات في
الروياني والماوردي، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور ، وحكاه ابن
الملقن في العمدة عن ابن طاهر، وحكاه الإدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد
السلام ، وحكاه صاحب الإمتاع عن أبي بكر بن العربي وجزم بالإباحة الإدفوي،
هؤلاء جميعًا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة، وأما مجرد الغناء
من غير آلة فقال الإدفوي في الإمتاع: إن الغَزَالي في بعض تآليفه الفقهية نقل
الاتفاق على حله، ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج
الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل المدينة عليه وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز
يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيه بالعبادة والذكر.
قال ابن النحوي في العمدة: وقد روي الغناء وسماعه عن جماعة من
الصحابة والتابعين فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر وغيره وعثمان كما
نقله الماوردي وصاحب البيان والرافعي وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ابن
أبى شيبة وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي وبلال وعبد الله بن الأرقم
وأسامة بن زيد كما أخرجه البيهقي أيضًا و (حمزة) كما في الصحيح وابن عمر كما
أخرجه ابن طاهر والبراء بن مالك كما أخرجه أبو نعيم وعبد الله بن جعفر كما
رواه ابن عبد البر وعبد الله بن الزبير كما نقله أبو طالب المكي وحسان كما رواه
أبو الفرج الأصبهاني وعبد الله بن عمرو كما رواه الزبير بن بكار وقرظة بن كعب
كما رواه ابن قتيبة و (خوات) بن جبير ورباح المعترف كما أخرجه صاحب
الأغاني والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي وعمرو بن العاص كما حكاه
الماوردي وعائشة والربيع كما في صحيح البخاري وغيره.
وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عمرو بن حسان وخارجة بن زيد
وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء
ابن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم
الزهري. وأما تابعوهم فخلق لا يحصون منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور
الشافعية. انتهى كلام ابن النحوي.
واختلف هؤلاء المجوزون فمنهم من قال بكراهته ، ومنهم من قال باستحبابه
قالوا: لكونه يرق القلب ويهيج الأحزان والشوق إلى الله ، قال المجوزون: إنه
ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما
يقتضي تحريم مجرد الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات.
أما المانعون فاستدلوا بأدلة منها حديث أبي مالك أو أبي عامر المذكور في أول
الباب وأجاب المجوزون بأجوبة:
(الأول) ما قاله ابن حزم وقد تقدم جوابه [*] .
(والثاني) أن في إسناده صدقة بن خالد وقد حكى ابن الجنيد عن يحيى بن
معين أنه ليس بشيء، وروى المزي عن أحمد أنه ليس بمستقيم، ويجاب عنه أنه
من رجال الصحيح.
(والثالث) أن الحديث مضطرب سندًا ومتنًا.
أما الإسناد فللتردد من الراوي في اسم الصحابي كما تقدم.
وأما متنًا فلأن في بعض الألفاظ (يستحلون) وفي بعضها بدونه، وعند أحمد
وابن أبى شيبة بلفظ (ليشربن أناس من أمتي الخمر) وفي رواية: الحر بمهملتين
وفي أخرى بمعجمتين كما سلف. ويجاب عن دعوى الاضطراب في السند بأنه قد
رواه أحمد وابن أبى شيبة من حديث أبي مالك بغير شك، ورواه أبو داود من
حديث أبي عامر وأبي مالك وهي رواية ابن (داسة) عن أبي داود، ورواية ابن
حبان أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الأشعريين فتبين بذلك أنه من روايتهما جميعًا.
وأما الاضطراب في المتن فيجاب عنه بأن مثل ذلك غير قادح في الاستدلال
لأن الراوي قد يترك بعض ألفاظ الحديث تارة ويذكرها أخرى.
(والرابع) أن لفظة (المعازف) التى هي محل الاستدلال ليست عند أبي
داود ويجاب بأنه قد ذكرها غيره، وثبت في الصحيح والزيادة من العدل مقبولة.
وأجاب المجوزون على الحديث المذكور من حيث دلالته فقالوا: لا نسلم
دلالته على التحريم، وأسندوا هذا المنع بوجوه:
(أحدها) أن لفظة (يستحلون) ليست نصًّا في التحريم فقد ذكر أبو بكر بن
العربي لذلك معنيين: أحدهما أن المعنى يعتقدون أن ذلك حلال، الثاني أن يكون
مجازًا عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور ، ويجاب بأن الوعيد على الاعتقاد
يشعر بتحريم الملابسة بنحو الخطاب ، وأما دعوى التجوز فالأصل الحقيقة ولا
ملجئ إلى الخروج عنها.
(وثانيها) أن المعازف مختلف في مدلولها كما سلف ، وإذا كان اللفظ محتملاً
لأن يكون للآلة ولغير الآلة لم ينتهض للاستدلال لأنه إما أن يكون مشتركًا ، والراجح
التوقف فيه أو حقيقةً ومجازًا ولا يتعين المعنى الحقيقي ، ويجاب بأنه يدل على تحريم
استعمال ما صدق عليه الاسم ، والظاهر الحقيقة في الكل من المعاني المنصوص
عليها من أهل اللغة، وليس من قبيل المشترك؛ لأن اللفظ لم يوضع لكل واحد بل
وضع للجميع على أن الراجح جواز استعمال المشترك في جميع معانيه مع عدم
التضاد كما تقرر في الأصول.
(وثالثها) أنه يحتمل أن تكون المعازف المنصوص على تحريمها هي
المقترنة بشرب الخمر كما ثبت في رواية بلفظ: (ليشربن أناس من أمتي الخمر
تروح عليهم القيان وتغدو عليهم المعازف) ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن
المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث لا يحرم إلا عند
شرب الخمر واستعمال المعازف واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله أيضًا يلزم في
مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الحاقة: 33-34) أنه لا يحرم عدم الإيمان إلا عند عدم الحض على طعام
المسكين فإن قيل: تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم منه دليل آخر
فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضًا كما سلف على أنه لا ملجئ
إلى ذلك حتى يصار إليه.
(ورابعها) أن يكون المراد (يستحلون) مجموع الأمور المذكورة فلا يدل
على تحريم واحد منها على الانفراد وقد تقرر أن النهي عند الأمور المتعددة أو
الوعيد على مجموعها لا يدل على تحريم كل فرد منها ويجاب عنه بما تقدم في الذى
قبله.
واستدلوا ثانيًا بالأحاديث المذكورة في الباب التى أوردها المصنف رحمه الله
تعالى ، وأجاب عنها المجوزون بما تقدم من الكلام في أسانيدها ويجاب بأنها
تنتهض بمجموعها ولا سيما وقد حسن بعضها ، فأقل أحوالها أن تكون من قسم
الحسن لغيره ولا سيما أحاديث النهي عن بيع القينات والمغنيات فإنها ثابتة من
طرق كثيرة منها ما تقدم ومنها غيره ، وقد استوفيت ذلك في رسالة وكذلك حديث (إن
الغناء ينبت النفاق) فإنه ثابت من طرق قد تقدم بعضها ، وبعضها لم يذكر، منه
عن ابن عباس عن ابن صصري في أماليه، ومنه عن جابر عند البيهقي ومنه عن
أنس عند الديلمي وفي الباب عن عائشة وأنس عند البزار والمقدسي وابن مردويه
وأبى نعيم والبيهقي بلفظ (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة مزمار عند نعمة ورنة
عند مصيبة) وأخرج ابن سعد في السنن عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: (إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لهو ولعب
ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة وخمش وجه وشق جيب ورنة شيطان)
وأخرج الديلمي عن أبي أمامة مرفوعًا: (إن الله يبغض صوت الخلخال كما يبغض
الغناء) والأحاديث في هذا كثيرة قد صنف في جمعها جماعة من العلماء كابن حزم
وابن طاهر وابن أبي الدنيا وابن حمدان الإربلي والذهبي وغيرهم.
وقد أجاب المجوزون عنها بأنه قد ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية
والحنابلة والشافعية ، وقد تقدم ما قاله ابن حزم ، ووافقه على ذلك أبو بكر بن
العربي في كتابه الأحكام وقال: لم يصح في التحريم شيء، وكذلك قال الغزالي
وابن النحوي في العمدة، وهكذا قال ابن طاهر: إنه لم يصح منها حرف واحد،
والمراد ما هو مرفوع منها وإلا فحديث ابن مسعود - في تفسير قوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (لقمان: 6) - قد
تقدم أنه صحيح ، وقد ذكر هذا الاستثناء ابن حزم فقال: إنهم لو أسندوا حديثًا واحدًا
فهو إلى غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا حجة في أحد دونه كما روي
عن ابن عباس وابن مسعود في تفسير قوله تعالى:] وَمِنَ النَّاسِ.. [الآية أنهما
فسرا اللهو بالغناء قال: ونص الآية يبطل احتجاجهم لقوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ} (الحج: 9) وهذه صفة مَن فعلها كان كافرًا ولو أن شخصًا اشترى
مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوًا؛ لكان كافرًا فهذا هو الذى ذم الله تعالى
وما ذم من اشترى لهو الحديث ليروّح به نفسه لا ليضل به عن سبيل الله.
انتهى. قال الفاكهاني: إني لم أعلم في كتاب الله ولا في السنة حديثًا صحيحًا صريحًا
في تحريم الملاهي وإنما هى ظواهر وعمومات يُسْتَأْنَسُ بها، لا أدلة قطعية.
واستدل ابن رشد بقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (القصص:
55) وأي دليل في ذلك على تحريم الملاهي والغناء وللمفسرين فيها أربعة
أقوال:
الأول: أنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا فكان اليهود يلقونهم بالسب
والشتم فيعرضون عنهم.
والثاني: أن اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غيَّره اليهود من التوراة وبدلوا
من نعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفته أعرضوا عنه وذكروا الحق.
الثالث: أنهم المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا إليه.
الرابع: أنهم ناس من أهل الكتاب لم يكونوا هودًا ولا نصارى وكانوا على
دين الله كانوا ينتظرون بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما سمعوا به بمكة
أتوه فعرض عليهم القرآن فأسلموا، وكان الكفار من قريش يقولون لهم: أف لكم
اتبعتم غلامًا كرهه قومه وهم أعلم به منكم؟ ! وهذا الأخير قاله ابن العربي في
أحكامه. وليت شعري كيف يقوم الدليل من هذه الآية؟ . انتهى.
ويجاب بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللغو عام وهو في
اللغة: الباطل من الكلام الذي لا فائدة فيه، والآية خارجة مخرج المدح لمن فعل
ذلك، وليس فيها دلالة على الوجوب.
ومن جملة ما استدلوا به حديث: (كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا
ثلاثة: ملاعبة الرجل أهلَه وتأديبه فرسَه ورميه عن قوسه) قال الغزالي: قلنا:
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فهو باطل) لا يدل على التحريم بل يدل على
عدم الفائدة. انتهى ، وهو جواب صحيح لأن ما لا فائدة فيه من قسم المباح على أن
التلهي بالنظر إلى الحبشة وهم يرقصون في مسجده صلى الله عليه وسلم وآله وسلم
كما ثبت في الصحيح خارج عن تلك الأمور الثلاثة.
أجاب المجوزون عن حديث ابن عمر المتقدم في زمارة الراعي بما تقدم من
أنه حديث منكر، وأيضًا لو كان سماعه حرامًا لما أباحه صلى الله عليه وآله وسلم
لابن عمر ولا ابن عمر لنافع ولنهى عنه وأمر بكسر الآلة؛ لأن تأخير البيان عن
وقت الحاجة لا يجوز، وأما سده صلى الله عليه وسلم لسمعه فيحتمل أنه تجنبه كما
كان يتجنب كثيرًا من المباحات كما تجنب أن يبيت في بيته درهم أو دينار وأمثال
ذلك. لا يقال: يحتمل أن تركه صلى الله عليه وآله وسلم للإنكار على الراعي إنما
كان لعدم القدرة على التغيير لأنا نقول: ابن عمر إنما صاحَبَ النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وهو بالمدينة بعد ظهور الإسلام وقوته فترك الإنكار فيه دليل على عدم
التحريم.
وقد استدل المجوزون بأدلة منها قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الخَبَائِث} (الأعراف: 157) ووجه التمسك أن الطيبات جمع محلًّى باللام
فيشمل كل طيب ، والطيب يطلق بإزاء المستلذ وهو الأكثر المتبادر إلى الفهم عند
التجرد عن القرائن ويطلق بإزاء الطاهر والحلال، وصيغة العموم كلية تتناول كل
فرد من أفراد العام فتدخل أفراد المعاني الثلاثة كلها ولو قصرنا العام على بعض
أفراده لكان قصره على المتبادر هو الظاهر ، وقد صرح ابن عبد السلام في دلائل
الأحكام أن المراد في الآية بالطيبات المستلذات. ومما استدل به المجوزون ما
سيأتي في الباب الذى بعد هذا [2] وسيأتي الكلام عليه.
ومن جملة ما قاله المجوزون أن لو حكمنا بتحريم اللهو لكونه لهوًا لكان جميع
ما في الدنيا محرمًا لأنه لهو لقوله تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (محمد
: 36) ويجاب بأنه لا حكم على جميع ما يصدق عليه مسمى اللهو لكونه لهوًا بل
الحكم بتحريم لهو خاص وهو لهو الحديث المنصوص عليه في القرآن لكنه لما علل
في الآية بعلة الإضلال عن سبيل الله لم ينتهض للاستدلال به على المطلوب.
وإذا تقرر ما حررناه من حجج الفريقين فلا يخفى على الناظر أن محل النزاع
إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه ، والمؤمنون وقَّافون عند
الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح: (.. ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه
ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) ولا سيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود
والخدود والجمال والدلال، والهجر والوصال، ومعاقرة العقار، وخلع العذار
والوقار، فإن سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلية وإن كان من التصلب في ذات
الله على حد يقصر عنه الوصف، وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول
وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول، نسأل الله السداد والثبات.
ومن أراد الاستيفاء للبحث فعليه بالرسالة التى سميتها (إبطال دعوى الإجماع
على تحريم مطلق السماع) اهـ كلام الإمام الشوكاني.
(للكلام بقية)
ومعلوم أن نَذْر الحرام أو المكروه لا ينعقد. وهذا يبطل ما قاله الشوكاني هنا
من أن أدلة المانعين تنهض شبهة وسيأتي التحقيق فيه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
يريد بالجماعة أحمد والبخاري ومسلما وأصحاب السنن كلهم فهم ثقة عندهم.
(*) قال المؤلف قبل ما ذكرنا في الكلام على أحاديث الحظر ما نصه:.
(وفي الباب أحاديث كثيرة وقد وضع جماعة من أهل العلم في ذلك مصنفات ولكنه ضعفها جميعًا بعض أهل العلم حتى قال ابن حزم: إنه لا يصح في الباب حديث أبدًا وكل ما فيه فموضوع ، وزعم أن حديث أبي عامر أو أبي مالك المذكور في أول الباب منقطع فيما بين البخاري وقد وافقه على تضعيف أحاديث الباب من سيأتي قريبًا قال الحافظ في الفتح: وأخطأ في ذلك - يعنى في دعوى الانقطاع - من وجوه والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح ، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر الحديث في موضوع آخر من كتابه، وأطال الكلام في ذلك بما يكفي اهـ كلام الشوكاني ومنه تعلم أن الحافظ ابن حجر والشوكاني يعترفان بأنه لم يصح من الأحاديث الواردة في حظر آلات اللهو إلا الحديث الأول مما أوردنا ويقولان: لا بأس بانقطاع سنده هنا وقد علمت أنه ليس فيه إلا لفظ (المعازف) وعرفت معناه وأنه يشمل الدف الذى سمعه النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
هو حديث الجارية التى نذرت الضرب بالدف وتقدم في أحاديث الإباحة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحق والباطل والقوة
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (سبأ: 49) ، {وَقُلْ جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء:18) .
مضت السنة في المغلوبين على أمرهم، المقهورين في أرضهم أن يعتذروا
عن أنفسهم بدعوى أن القوة هي التي غلبتهم على حقهم، وأنهم غير مذنبين ولا
مقصرين، ولا مسرفين ولا مضيعين، وجرت عادة الغالبين على أمرهم،
والقاهرين في حكمهم أن يحتجوا لأنفسهم بأنهم أصحاب الحق الذى يعلو ولا يُعلى
وأن الحق هو الذى جعل كلمته العليا وكلمة أعدائهم السفلى، وقد يعتور الأمة
الواحدة القوة والضعف والعز والذل فتدعي في طور قوتها وعزها أنها اعتزت
بالحق وغلبت، وفي طور الضعف والذل أنها أُخذت بالقوة فقهرت، وأنها حليفة
الحق في الطورين، لم تتعدَّ حدوده في حال من الحالين، وتلك سنة الله تعالى في
الأفراد أيضًا يدعي الرجل الحق لنفسه ما ظفر، ويعتذر عنها بالقوة إذا هو غلب
وقهر، وهذا الغرور من الإنسان قد أضله عن طريق الحق حتى لا يكاد يفهم معنى
كلمة (الحق) ومدلولها الصحيح. وما نقل إلينا قول عن غالب يتعزز فيه بالقوة
على الحق إلا تلك الكلمة المأثورة عن بِسْمَرْك: (القوة تغلب الحق) وقد أرسلها
مثلاً، وهي لا تصح إلا تأويلاً وجدلاً، ولو غُلب الحق لما كان حقًّا. والحق أن
الحق قد يخفى، وقد يُترك ويُنسى، ولكن ما صارع الباطلَ إلا صرعه، ولا قارعه
إلا وقرعه، (وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه) ، والقوة إنما تظفر إذا كانت
شعبة منه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الحق عبارة عن الشيء أو الأمر الثابت المتحقق في الواقع ، والباطل هو ما
لا ثبوت أو لا تحقق له في نفسه ، وما لا ثبوت له ولا تحقق لا يَمْحَق ما كان ثابتًا
متحققًا كما هو الشأن في الموجود والمعلوم والموهوم، وهذا مما لا مجال فيه
لاختلاف العقلاء. إنْ يختلفون إلا في الحقوق العرفية والوضعية، والدينية
والشرعية، وما تحكم فيه الشرائع من الأمور الاجتماعية، وفي كل ذلك حق
وباطل لا يتنازعان إلا ويكون الحق هو الغالب والباطل هو المغلوب ، وإننا نبين
ذلك ، ونذكر مواضع غلط الناس فيه ومناشئ شبهاتهم، فنقول: إن الحق والباطل
يتنازعان في خمسة أمور كلية وهي:
(1)
الفلسفة والنظريات العقلية.
(2)
الوجود والسنن الكونية.
(3)
السنن الاجتماعية.
(4)
القوانين والمواضعات العرفية.
(5)
الدين والشريعة الإلهية.
الفلسفة والنظريات العقلية:
اختلف الناس في الفلسفة والمسائل النظرية في القديم والحديث، ومنهم المحق
والمبطل ، فيقول من يظن أن الباطل يغلب الحق: إن كثيرًا من الآراء الباطلة في
ذلك كانت رائجة لا ينازع فيها أحد، وكثير منها كان موضوع النزاع ، وكان أكثر
الباحثين فيه على الباطل، ولا يزال يظهر للعلماء في كل زمان وكل جيل خطأ
كثير من السابقين والمعاصرين، فيظهر بذلك أن الباطل كان هو الغالب فإن كنت
تقول: لا عبرة إلا بغلب دائم فإنك لا تقدر أن تثبت الدوام لحق ولا لباطل، فيكفي
في إثبات قوة الباطل وظهوره على الحق أن يظهر عليه زمنًا طويلاً، ودفع هذا
الظن سهل، وإن كنا نعترف بأن الحق والباطل في الآراء النظرية والفلسفية من
أخفى الأمور وأوغلها في الإبهام؛ ذلك أن التنازع بين الحق والباطل لا يتحقق هنا
ما دام كل من المتناظرين في المسألة يجادل بالنظريات ولم ينتهِ بدلائله إلى إحدى
اليقينيات التي لا نزاع فيها. وبيان ذلك أن المسألة ما دامت نظرية من الجانبين
فالتنازع إنما يكون من بين الدليلين لا بين المدلولين، والحق في الدليل هو إفادة
اليقين فما دام نظريًّا فهو غير حق إنما هو موقوف أو باطل يعارض مثله، فإذا انتهى
أحد المتناظرين إلى اليقين البديهي في المسألة فهو صاحب الحق وهو الغالب سواء
أذعن له مناظره أو كابره. وما كان الغَلَب والسلطان لتلك المسائل النظرية الباطلة
في الفلسفة العليا وغير العليا ذلك الزمن الطويل إلا لأن الحق فيها كان خفيًا أو غير
معروف لأهلها. بل نقول: إن في طرق الاستدلال نفسها حقًا وباطلاً فالحق هو ما
وافق شروط القياس المنطقي وأعني بكونه حقًّا أن النفس فطرت على الانتقال من
المقدمات المترتبة على ذلك النحو من الترتيب المعروف في أشكال القياس إلى
المطالب التي هي النتائج فإذا كانت المقدمات مسلّمة فلا مندوحة للنفس عن التسليم
بالنتيجة. وقد يكون صاحب الدعوى الحق غير قادر على نظم الدليل الحق مع كون
الدعوى نفسها غير بديهية فإذا غلب مناظره المبطل في الدعوى حينئذ فلا بد أن
يكون أقرب منه إلى الحق من طريق الاستدلال وأن يكون قد أقنعه ببعض المقدمات
الباطلة وفي هذه الحال يكون مبطلاً ومن ناحية الباطل قد أخذ - وهو ما سلمه من
المقدمات - لا من ناحية الحق وهو أصل الدعوى التي نطق بها على غير بينة
وبغير بينة.
ولو شئت لجئت في هذا الأصل بالأمثلة والشواهد التي تجليه أكمل التجلي
ولكن القصد بهذا المقال إلى غيره مما نرى الناس مصرين على الخطأ فيه وفي
خطأهم الضلال البعيد والخسران العظيم.
الوجود وسنن الكون:
كلُّ وجودٍ حق، والعدم باطل لا حقيقة له، وكل نظام في الطبيعة والخليقة فهو
حق، والخلل فيها باطل لا تحقق له، والخلل الصوري الذى يعبر عنه علماء الكون
بفلتات الطبيعة له سنن خفية أي نواميس لم يطلعوا عليها وهم يتوقعون اكتشافها
ويرجونه {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت} (الملك: 3) ، {الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة: 7) ولا تنازع بين الوجود والعدم ولا بين النظام
والخلل، وإنما يقع التنازع بين الناس في فهم ذلك والعلم به، فمن كان أعلم بالوجود
والنظام كان أعلم بالحق وأقرب إلى الحق وكانت له الغلبة بالحق. وهذا ظاهر في
نفسه، وسيادةُ العَالِمِينَ بحقائق الوجود وسنن الله في الكائنات على الجاهلين بها
مشاهَدةٌ لا ينكرها المسودون المغلوبون بجهلهم وباطلهم، وإن كانوا يجهلون أن علم
من سادوهم هو الحق وأنه سبب لسيادتهم، وأنهم هم بجهلهم على باطل وبه كانوا
مغلوبين على أمرهم، ومقهورين في أرضهم وديارهم، وأن منهم المسلمين الذين
يقول كتابهم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (يونس:
5) ويقول: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الجاثية: 22) ، وفي معناهما آيات، ولا ترى شعبًا إسلاميًّا
يعتقد بأن سعة العلم بالسموات والأرض من الحق الذي تعتز به الأمم، وإن جهلت
الأمة وهلكت فقد جزيت بما كسبت، وظَلمت نفسها وما ظُلمت.
السنن الاجتماعية:
للكون سنن في تكوّن الأحجار الكريمة وغير الكريمة كالصخور وفي نمو
النبات وحياة الحيوان وفي اجتماع الأجسام وافتراقها وتحللها وتركبها، وهي ما
عنيناه بالأصل الثاني. وللبشر سنن خاصة بهم في حياتهم الاجتماعية عليها يسيرون
وفيها يتقلبون فقوتهم وضعفهم وغناهم وفقرهم وعزهم وذلهم وسيادتهم وعبوديتهم
وحياتهم وموتهم كل ذلك غاية لاتباع سنن الله في السير على أحد الطريقين المشار
إليهما بقوله تعالى في الإنسان: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) فهذه السنن
حق وتجنبها خروج عنه إلى الباطل. وما زال العارفون بسنن الله تعالى في الأمم
هم الآخذين بأطراف السعادة من أمم ينتصرون على الجاهلين بها من المبطلين من
حيث هم مبطلون وهو ما به الاختلاف وإن كان الغالب القاهر مبطلاً في شيء آخر
والمغلوب محق في مخالفته له فيه.
لم يعرف كتاب قبل القرآن نطق بأن للأمم في قوتها وضعفها وحياتها وموتها
سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول كقوله في سورة الأنفال: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن
يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} (الأنفال: 38)
أي فإنه يحل بهم ما حل بمن قبلهم ممن عاند الحق وقاومه. وقوله في سياق الكلام
على الأنبياء وأحوال الأمم في سورة الحجر: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (الحجر
: 13) وقوله في سياق الكلام في بذل المال والحرب {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) ،
وفي الآية الثالثة بعدها: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس
…
} (آل عمران: 140) الآيات.
فهذه الآيات البينات حق، وما ترشد إليه من سنن الاجتماع حق، فالجهل
بسنن الاجتماع باطل، وترك الاعتبار بها في شؤون الأمم باطل، فهل وُجِدَتْ أمة على سطح هذه الأرض عرفت هذه السنن وسارت عليها ثم قاومتها أمة أخرى تجهلها
أو لا تعتبر ولا تهتدي بما عساها تعرف منها ثم كانت الجاهلة الضالة هى الغالبة
فيقال: إن الباطل قد يغلب الحق؟ كلا، ما كان ذلك ولن يكون ومن العجائب
والعجائب جمة أن يكون المسلمون في هذا العصر أجهل الأمم كلها بسنن الله تعالى في
البشر حتى إن من يدعوهم إلى تعلمها وتعلم مصادرها وهي تواريخ الأمم يعده رجال
الدين منهم جانيًا على الدين صادًّا عنه لا سيما إذا كانت دعوته موجهة إلى
طلاب علوم الدين في مثل مدرسة الأزهر!! ، فأين هذا الدين الذي يعد العرفان
بسنن الاجتماع صدًّا عنه وجناية عليه من القرآن الذي هو أول كتاب أرشد إلى
هذه السنن؟! وإذا غلبت كل أمة مهدية بهذه السنن في كسبها وعملها وسياستها
وحروبها على الأمة الجاهلة بها الضالة عنها وسادت عليها فهل يصح أن يقال:
إن الباطل قد غلب الحق؛ لأن دين المسلمين هو الحق وأديان الغالبين عليهم هي
الباطلة؟ كلا إن كل مغلوب فهو بسبب الباطل قد غُلِبَ، وكل غالب فهو بسنن الحق
قد غلب، أينصرون ويسودون ، وهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون ،
وحكامهم يظلمون ولا يعدلون؟! ، والله تعالى يقول في بيان سننه الحق: {فَلَوْلَا
كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَاّ قَلِيلاً مِّمَّنْ
أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 116-117) فسروا الظلم ههنا
بالشرك، والمعنى أن الله تعالى لا يهلك الأمم بسبب الشرك إذا كانت مُصلحة في
الأعمال ولكن يهلك المفسدين الذين لا ينهون عن الفساد لا سيما إذا كان منبعه
أمراؤهم وملوكهم، أو المعنى ما كان ليهلكها بظلم منه؛ لأنه منزه عن الظلم وهي لا
تستحق الإهلاك؛ لأنها مُصلحة في العدل والعمران.
القوانين والمواضعات العرفية:
لكل أمة من أمم الحضارة قوانين تسوس بها بلادها، ولكل قبيلة من القبائل
البدوية عُرف ومواضعات ترجع إليها في شؤونها الاجتماعية، وللدول قوانين في
الحقوق العامة والمصالح الخاصة، فهذه القوانين والمواضعات حقوق عرفية فالآخذ
بشيء من هذه الحقوق يكون هو الغالب لتاركها مادامت الأمة والدولة أو الدول التي
جعلت القانون حقًّا في عرفها حاقة له، فإذا رجعت الأمة عن عرفها أو الدولة عن
قانون لها في بلادها أو الدول عن بعض القوانين العامة لم يعد ذلك حقًّا؛ لأن حقيته لم
تكن لذاته وإنما كانت للعرف الذى يكفله أهله الواضعون له وقد زال، مثال ذلك
اعتداء دول أوربا على الممالك المشرقية وافتياتها على حكومات هذه الممالك، تركيا
فما دونها، وقد علم من القوانين العامة أنه ليس لدولة أن تفتات على الأخرى في
إدارتها الداخلية، ولكن أوربا تفتات وتغلب فهنا يظن الجاهل بالفصل بين الحق
والباطل أن الباطل قد غلب الحق بالقوة، ووجه الخطأ في هذا الظن أن هذا الحق
الذى ندعي أن أوربا سلبته من تركيا في مصر أو كريت مثلاً إما أن يكون حقًّا
طبيعيًّا يملك ويحفظ بمقتضى سنن الله في الاجتماع البشري أو حقًّا عرفيًّا يملك
ويحفظ بمقتضى القوانين العامة التي تعترف بها الدول وتكفلها؛ فإن ادعى المدعي
الشق الأول فإننا نمنع دعواه ونقول: إن سنن الاجتماع لا تتبدل ولا تتحول كما
نطق الكتاب العزيز ودلت التجربة والمشاهدة؛ لأن واضعها وحافظها هو العزيز
الحكيم وهي تنيط الغلبة ودوام السيادة بالعدل والعلم بالسنن والإصلاح في الأرض
والمنعة والتقوى والاستعداد للحماية بالقوة وأعظم القوة فيها قوة الأمة المستقلة
العارفة بحقوقها ثم القوة الآلية وذلك غير متحقق في تركيا كأوربا فلا حق طبيعي
هناك.
وأما الحق العرفي فقد قلنا: إنه ليس حقًّا ذاتيًّا وإنما هو حق ما كفله واضعوه
المعترِفون به وقد اتفقت الدول الكافلة للقوانين العامة على أن لا تعامل دول الشرق
بما تتعامل هي به وأن تفتات عليها بحكمة حتى لا يفضي الافتيات إلى الحرب،
التي يخسر فيها الغالب والمغلوب، فتبين بهذا أن الباطل لم يغلب الحق في هذه
المسألة بل الحق هو الغالب كما أخبر الله تعالى، وذلك أن دول أوربا الغالبة عارفة
بسنن الكون وسنن الاجتماع ومهتدية بها وهي الحق وبها الغلب والسلطان، كما
تقدم البيان مؤيدًا بالقرآن، فإن قيل: إن أوربا تظلم في البلاد التى تفتات فيها قلنا:
نعم ولكن ظلمها دون ظلم حكام البلاد المفتات عليهم فباطلها أقل وعدلها أكثر فحقها
أكبر وهكذا غلب الحق الباطل ولكن أكثر الناس لا يعلمون! .
ومن هذا القبيل غلب ألمانيا وانتصارها على فرنسا فإن سببه العلم بسنن
الكون وسنن الاجتماع والعمل به ولذلك قال بسمرك: (غلبنا بالمدرسة) وقوله هذا
حق وأما قوله: (القوة تغلب الحق) فقد لبّس فيه الحق بالباطل فالقوة الباطلة لا
تغلب الحق لكن القوة الطبيعية الاجتماعية تغلب الحق العرفي وحينئذ يكون الحق قد
غلب حقًّا أضعف منه في الظاهر بل هو لم يغلب إلا الباطل.
يقول الظانون في الحق غير الحق: إن القضاة بظلمهم ووكلاء الدعاوي
بِحِيَلِهِمْ وخَتَلِهِمْ كثيرًا ما يؤيدون المبطل في دعواه حتى يكون له الفلج والظفر،
ونقول: إن هذا القول صحيح ولكنه لا يفيد المطلوب فإن تأييد الباطل إذا كان من
الحكام فلا قانون ولا شريعة وإنما هو الهوى والظلم يتحكمان وهما من الباطل الذي
لا يغلبه إلا حق من جنسه وهو السلطة العادلة فإذا تنازعت سلطة عدل مع سلطة
ظلم وغلبت الثانية الأولى تكون المعارضة صحيحة وأما الدعوى فليست من جنس
السلطة فيقال: إنه يجب أن يغلب حق الأولى على باطل الثانية، وإن كان الحاكم
عادلاً والخصم المبطل أو وكيله المحامي عنه ألحن بحجته وأقدر على البيان من
الخصم المحق أو وكيله فالتغالب إذًا بين الحجة والحجة ولم تنس ما قلناه فيها عند
الكلام في الفلسفة والنظريات والعقلية.
إن الإنسان يظلم والظلم من الباطل حتى قيل: إن الظلم طبيعي في البشر
ومنه قولهم: الظلم كمين في النفس، القدرة تظهره والعجز يخفيه، وقال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
…
ذا عفة فلعلة لا يظلم
وهذا قول بأن الإنسان جبل على الباطل وهو على ظهور شبهته غير صحيح
وإنما الصحيح هو ما قاله الخالق الحكيم في السورة الخامسة والتسعين، وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
] وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [ (التين:1-8) .
أكد لنا القول عز وجل بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم؛ إذ أقسم على ذلك
بما ذكَّرنا بعهد الفطرة ومعاهد ظهور الشريعة ذلك أنه خلقه وجعل له من الحواس ما
يدرك به ما يحتاج إلى إدراكه في حفظ نفسه وتوفير منافعها ودفع المضار عنها
ومن العقل ما يميز به بين المدركات الحسية فيعرف صوابها وخطأها وما يحكم به
على هذه المشاعر المدركة فيوجهها إلى الاشتغال بالأنفع والأصلح فهو مجبول على
أن يختار ما هو أنفع وأصلح، ولكنه لما خلق مدنيًّا مستعدًا للكمال الشخصي
والنوعي بالعمل التدريجي والتعاون. والعمل لا يكون إلا بعلم ، والعلم لا يكون إلا
بالكسب؛ كان هذا الإنسان عرضة للجهل بوجوه المصالح والمفاسد والمنافع
والمضار سواء كانت للأفراد وللأمم والشعوب، والجهل من الباطل وبه رد الإنسان
بدخوله في طور الحياة الاجتماعية إلى أسفل سافلين فكان أفراده وجماعاته يجنون
على أنفسهم ويظلمونها من حيث يظنون أنهم ينفعونها ويؤيدون حقوقها ففطرتهم
تطلب الحق الذى فيه المصلحة والمنفعة وعقولهم تخطئ في تحديده فتقع في الباطل
فكانوا محتاجين إلى مساعدة للفطرة وللعقل يحدد لهما الحقوق النافعة ويميزها من
الأباطيل الضارة، وذلك هو الدين الذى نفثه روح الحق في روع كل واحد من أولئك
الشارعين الذين ظهروا في معاهد منبت التين والزيتون وطور سِينِين وفي ذلك البلد
الأمين (مكة المكرمة) وغيرها فصلح بها أمر الناس وساد الحق على الباطل ما
كانوا يهتدون بتلك الشرائع إيمانًا وعملاً صالحًا كما قال عز وجل.
فالباطل ليس من منزع الإنسان بطبعه ولكنه من العوارض اللازمة له من حيث
هو مريد مختار في علمه وعمله كاسب لهما بالتدريج. ولذلك أجمع العلماء في هذا
العصر على سنة من سنن الاجتماع التي جاء بها القرآن في شأن الحق والباطل وهي
ما يعبرون عنه بالانتخاب الطبيعي وقد بيَّنها الله تعالى بقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251)، وقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
…
} (الحج: 40)
…
إلخ وقوله: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ
وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) وبالآيات التي افتتحنا بها هذا المقال. وبمثل
قوله: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) وقوله - في السحر الذى هو
باطل لا حقيقة له -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} (يونس: 81- 82) وقوله بعد إرشاد للأمم منه النهي عن الفساد في الأرض بعد
إصلاحها: {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: 86) وقوله بعد
بيان أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) .
فاتفاق الحكماء على مضمون هذه الآيات وأمثالها في هذا العصر هو اعتراف
بأن للحق الغلبة والسلطان على الباطل إذا هما وجدا وتنازعا وعلى أن الإنسان
مفطورعلى تغليب الحق على الباطل لولا ما يعرض له من الخطأ في التمييز بينهما،
وإنما يسود الباطل في غيبة الحق أو غفلته عنه.
ذكرت لصديق لي هذا المبحث قبل أن أتم هذا المقال فأخبرني أنه يحفظ عن
الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني تمثيلاً في مصارعة الحق للباطل معناه أن الحق
كان يصرع الباطل ويصفعه، فرأى الباطل أن لا طاقة له به فاستشار أعوانه
فأجمعوا أمرهم وهم يمكرون على أن يكيدوا للحق كيدًا فجاءوه يلقون إليه السَّلَم
ويدعونه إلى مأدبة أعدوها له فلما حضر أجلسوه على بساط جميل تحته حفرة
عميقة فوقع في الحفرة فطفقوا يهيلون عليه التراب حتى دفنوه ثم جلسوا فوق الحفرة
لئلا يخرج منها فيبطش بصديقهم الباطل فكان ينتفض بقوته العظيمة يحاول الخروج
وهم يتحاملون بأثقالهم عليها خوفًا منه والباطل يسرح ويمرح آمنًا من رؤية الحق له؛
لأن أولياءه حالوا بينهما ولكن الحق ما عتّم أن انتفض انتفاضة نسف بها أولئك
المتثاقلين وخرج إلى الباطل فأوقع به ودفنه وأراح الناس من شره.
وحاصل التمثيل أن الباطل إنما يسود ويثبت حيث لا يوجد من يقوم بالحق
ويقاومه به ، وأن ذلك لا يدوم. فكل دولة أو حكومة ظالمة تخالف قوانين العدالة
في الأرض وتهضم حقوق الرعية فهي إنما تسود بباطلها ما دامت الرعية دافنة
للحق دائسة له فيكون باطل الحكومة غالبًا لباطل الرعية حتى إذا ما انتشر الظلم
وتفشى وذاق آلامه الجماهير فاستصرخوا الحق واستغاثوا به لبَّاهم مسرعًا وصار
على باطل الحكومة الظالمة (فجندله) وربما (جندلها) معه فإذا استماتت الرعية
وأنِست بالظلم فإن سنة الكون تسلط على الحكومة الظالمة حكومة أجنبية عادلة أو
ظالمة تفتك بها وتقلص ظلها ثم يكون بقاء الحكومة الثانية على سنة الله في الحكومة
الأولى {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) .
الدين والشريعة الإلهية:
ما قلناه آنفًا يثبت أن الدين في جملته حاجة طبيعية للبشر وإن كانت أحكامه
التفصيلية مما يجري فيه اختيارهم فهم يحكمون فيها عقولهم وأفكارهم ويتبعون فيها
قاعدة الأصلح والأنفع لهم. فالحق والباطل يجريان في الدين من وجهين:
(أحدهما) كون عقائده صحيحة معقولة في نفسها وأحكامه في العبادات
والآداب موافقة للفطرة في تقويم الملكات وتهذيب الأخلاق وتوثيق الروابط وشد
الأواخي بين الناس وأحكامه في القضاء والسياسة والإدارة موافقة لسنن الاجتماع
وقواعد العدل، أو كونها ليست كذلك.
(وثانيهما) كون عقائده راسخة في عقول الأمة مؤثرة في قلوبها، وآدابه
حاكمة في شعورها ووجدانها، وأحكامه محترمة عند أمرائها وجمهورها، أو كونها
ليست كذلك. فالدين سنة من سنن الاجتماع الكبرى وهو حق في الواقع أو باطل
مؤيد بحق إجماعي هو وحدة الأمة في الاعتقاد والعمل ولأهله الغلب والسلطان على
من ينازعهم فيه ويحاول إبطاله أو إرجاعهم عنه من المعطلين؛ لأنه إما أن يجمع
نوعي القوة في سنن الاجتماع وفي القوانين والمواضعات العرفية التي تسنها الأمم
لأنفسها وتعتقد أن فيه خيرها وحفظ حقوقها كما تقدم وإما أن ينفرد بالثانية. وما
اجتمع فيه الحقان يسود على ما اتفق له أحدهما فقط كما ساد الإسلام في أول نشأته
على سائر الأديان لأنه حق من كل وجه والأمة متحدة فيه.
والتاريخ يؤيد ما نطق به الكتاب في ذلك بقوله: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) وقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) ولكن هذا النصر خاص بالمؤمنين حقيقةً لا ادعاءً أو جنسيةً كما
قال في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
* وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد: 7-8) وقال عز وجل:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
…
} (النور: 55) - إلى قوله: {
…
وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الفَاسِقُون} (النور: 55) وقد فسروا الكفر هنا بكفر النعمة كالظلم والبغي
والإفساد في الأرض.
ونقول: إن عمل الصالحات - الذي قيد الوعد بالنصر - يشتمل مثل قوله تعالى
في وصف المؤمنين من سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ
يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الشورى: 38-43)، ومثل قوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) وقوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:
8) فهو يأمرهم بالقيام بالقسط دائمًا وهو العدل وبالشهادة لله بلا محاباة قريب ولا
غني ولا رحمة فقير مبطل ويأمرهم أن لا يحملنَّهم شنآن قوم أي عداوتهم على ترك
العدل فيهم بل يحتم عليهم العدل حتى مع الذين يعادونهم.
وقد أخبر تعالى في آيات كثيرة بأنه إنما ينصر رسله وعباده المؤمنين الذين
يصلحون في الأرض ولا يفسدون على الظالمين كقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (إبراهيم: 13-14) والآيات في هذا المعنى وهو نصر المصلحين في الأرض
وإهلاك الظالمين والمفسدين - كثيرة جدًّا.
لا يوجد في مقابل هذه الآيات آية واحدة تدل على أن الله ينصر الذين
ينتسبون إلى الإسلام وإن لم يقوموا بالقسط والإصلاح وينهوا عن الظلم والفساد فهل
يجيز هذا الكتاب الحكيم لمدعي الانتماء إليه بالقول دون العمل إذا رأى استيلاء
الأوربيين على بلاد المسلمين والافتيات على حكامهم في سائر بلادهم التى لم يتم
لهم الاستيلاء عليها - أن يقول: إن هؤلاء الأوربيين منهم الملحد ومنهم من يقول
بالتثليت فكيف سادوا بقوتهم على المسلمين، وأهل التوحيد وهو حق اليقين؟ ، كلا
إنه لا يجيز لهم هذا القول بعد ما بيَّن لهم أنه لا يهلك الأمم بالشرك إذا كانوا
مصلحين في الأرض بالعدل وسائرين على سنن الله في العمران ولكنه يهلك الأمم
الظالمة مهما كان اعتقادها كما علمت من الآيات التى أوردناها آنفًا ومثلها كثير.
وأعظم عبرة للمسلم انكسار الصحابة مع داعي الحق الأعظم صلى الله عليه
وسلم في وقعة أُحُد لما خالفوا سنن الاجتماع في الحرب فخالفوا القائد وتركوا حماية
ظهر الجيش وفيها نزل: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ
هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165) فكل من خالف سنن الله الحق يغلب
على أمره بحق حتى يرجع وما أسرع رجوع المؤمن إلى الحق إذا زلّ عنه.
لهذا أقول: إن الوصول إلى الحق اليقين في التوحيد ينافي الإصرار على
الظلم، والتمادي في الفساد والبغي، كما نطق القرآن وشهد العقل، فلو لم يجعل
الإسلام الأعمال الصالحة بعد ترك المفاسد سياجًا للإيمان وعنوانًا له ودليلاً عليه
وشرطًا لاجتناء ثمراته في الدنيا والآخرة لكان العقل وحده كافيًا في الدلالة على أن
الموقن بعقله المذعن بقلبه لعقيدة التوحيد الخالص لا يؤثر هواه ولا هوى الرؤساء
والحكام على رضوان هذا الإله العظيم الحكيم القوي العزيز وإنما رضوانه بالتماس
فضله من سننه في خلقه، والوقوف عند ما حدده من الشكر والعدل في شرعه، فهو
يمضي في تعرّف السنن والأحكام والعمل بها لا يخاف في ذلك وَثْبَات الظالمين
لقوله عز وجل: {فَلَا تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175)
وقوله بعد ذكر سنته في الأيام: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) ،
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139) فهل
تنطبق هذه الآيات على قوم يخافون الظالم أن ينهوه عن ظلمه، ولا يخافون الله
تعالى أن يخرجوا عن حكمه، وقد جعلوا دينه جنسية، لا هداية حقيقية، فهم
يرجون سعادة الدنيا والآخرة بالانتساب إليه، أو بالتوسل والدعاء لأشخاص ماتوا
عليه، وهم مختلفون متفرقون، متنازعون متواكلون، جاهلون متكاسلون، لا
يبذلون ولا يتعاونون، ولا ينظرون ولا يتفكرون، {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُم
مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 105-106) ، {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .
هؤلاء الصادقون هم الموعودون بنصر الله وتأييده: {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَه} (الحج: 47) فلو صدق المسلمون اليوم ما عاهدوا الله عليه باتخاذ الإسلام دينًا
من العمل بكتابه والاهتداء بسننه في خلقه لما غلبهم أحد على أمرهم فلقد صدقهم
وعده بصدقهم فيما سلف حتى إذا ما فشلوا وتنازعوا في الأمر وعصوه من بعد ما
أرى سلفهم ما يحبون أخذهم بعدله وسلط عليهم من هم أقرب إلى الأخذ بسننه منهم
كما توعدهم بقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) (راجع بحث الاختلاف
والتنازع في باب التفسير من هذا الجزء) .
طال المقام، والمبحث يطلب زيادة بيان لا يمكن الإتيان عليه إلا في مؤلَّف
خاص به؛ لأن المسألة من أبكار المسائل التى لم يخترعها أحد من الكتاب فيما نعلم
والشبهات فيها كثيرة وإنما اهتدينا فيها بهداية القرآن وآياته.
وخلاصة ما أقول في شأن المسلمين مع غيرهم في هذه الأزمنة أن من
يستخرج من القرآن الآيات الناطقة بسنن الله تعالى في أهل السيادة والعزة من
صفاتهم وأعمالهم، والآيات المبينة لسننه في الأمم المستحقة للإهلاك والإذلال،
ويعرض كل ذلك على الأمم الغالبة السائدة والأمم المغلوبة المقهورة يتجلى له صدق
قوله تعالى في سيادة الحق وغلبته وإزهاقه للباطل في كل أمة. وهذا النوع من
أنواع علوم القرآن ينهض وحده حجة على أن ذلك النبي الأمي الذى بعث في تلك
الجاهلية العمياء كان ينطق بوحي من الله ولم يعلِّمه بشر بل خفيت هذه المعارف
العلية عن أفهام أكثر البشر حتى بعد مجيء القرآن بها وإنما صدقها آنًا بعد آن
برؤية آياته تعالى في الآفاق وفي ترقي البشر في أنفسهم كما قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ} (فصلت: 53) .
فعلى المسلمين أن يعلموا أنهم أُخذوا بذنوبهم، لا بقوةٍ غلبتهم على حقهم،
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) وأن معظم هذه
الذنوب على عواتق رؤسائهم وكبرائهم، فلا يعذرون باستبدادهم واستعلائهم، وعلى
العقلاء وأهل البصيرة منهم وهم محل الرجاء في كل أمة استعدت للحياة - أن
يعلموا أن ليس لهم إمام يدعون إليه، ويجمعون الكلمة عليه، إلا هذا القرآن الذى لا
يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه، فعليهم أن يجتمعوا لهذه الدعوة وأن
يتناصروا في سبيلها وأن لا ينتظروا نصر الحق من المبطلين، ولا يتوانوا فيها
خوفًا فإن هذا الأمر إذا خرج من أيديهم يوشك أن لا يعود إليهم.
إن الإسلام لا يُنصر في الدنيا بالأماني والأحلام، ولا ينجي في الآخرة
بالخرافات والأوهام، إن أهل الحق لا يُظلمون، إن الظالمين لا يسودون، {فَإِذَا
جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} (غافر: 78) ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (الأحقاف: 35) ، {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام: 47) ، وهذه نُذُره تعالى لقوم لا يعدلون، بل هم
بربهم يعدلون، فبادروا أيها المؤمنون الصادقون {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا
وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 21) ، ولا تغتروا بدينكم الذي إليه تنتسبون،
ولكنكم به لا تعملون، فلقد أنزل الذكر على مَن قبلكم فسادوا وهم عاملون، {فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم
بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: 44-45) وقد أنذركم ما حل بهم لعلكم تعتبرون: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً
فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً
آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلىَ مَا
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 10-13) ، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا
كُنَّا ظَالِمِينَ} (الأنبياء: 14) ، {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً
خَامِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً
لَاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ
وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 15-18) .
_________
الكاتب: أديب متنكر
إجابة سُؤْل
أو
نقد شرح ديوان أبي تَمَّام
لأديب متنكِّر
(تأخرت عدة أشهر)
للنقد على العلم فضل يُذكر، ومِنَّة لا تُنكر، فهو الذي يجلو حقائقه، ويميط
عنه شوائبه، بل هو روحه التي تنميه، وتدني قطوفه من يد مجتنيه، وإذا أبيح
النقد في أمة واستحبه أبناؤها، وعُرضت عليه آثار كُتَّابها، كان ذلك قائدًا لها إلى
بحابح المدنية ، وآية على حياة العلم فيها، الحياة الطيبة التي تتبعها حياة الاجتماع
وسائر مقومات الحضارة والعمران. وقد بدأ مؤلفو العربية وكتابها يشعرون بفوائد
النقد وما يعود عليهم من ثمراته الشهية فأخذوا يعرضون آثارهم على النقّاد ويطلبون
منهم تمحيصها وبيان صحيحها من فاسدها.
وبالأمس اطَّلعت على ديوان أبي تمام المطبوع حديثًا في بيروت فوجدت
شارحه الفاضل قد اقترح على المشتغلين باللغة نقد ما علَّقه عليه من تفسير غريبه
وحل رموزه ، وأبدى من الرغبة في ذلك بحيث عين جائزة لمن عثر فيه على
عشرة أغلاط فأكثر. فأكبرت صنيعه، واستدللت منه على كِبَرِ نفسه، وعلو همته،
وشدة شغفه بخدمة العلم وتقرير الحقيقة، وها أنذا قد أجبت سُؤْله ، ووافيت
رغبته في الإشراف على ذلك الشرح ثم نقد ما تبين لي أنه رمى في تفسيره إلى
غير معناه، وحمله على غير ما أراده قائله منه، قال:
(ص2) :
قد كان خطب عاثر فأقاله
…
رأي الخليفة كوكب الخلفاء
(العاثر: الساقط ، والإقالة: الأخذ باليد) .
حقيقة العثار أن يعثر الرجل بحجر أو بذيله مثلاً فيسقط ، وإذا عثر قيل له:
لعًا لك ، أي انتعاشًا ونهوضًا. قال في الأساس: ومن المجاز عثر في كلامه
وعثر الزمان به وجدّ عثور اهـ ، وعثار زمان المرء وعثار جدّه: كناية عن
تحول حاله ومفاجأة النوائب له. وحقيقة الإقالة فسخ البيع وإبطاله ، قال في
الأساس: ومن المجاز أقلته العثرة صفحت عنه. ومجاز الإقالة يستعمل مع مجاز
العثار. فقول شاعرنا: خطب عاثر فأقاله.. إلخ هو من المجاز في الكلمتين ، وكما
يقال: زمان عاثر أي سيء يقال: خطب عاثر أي سيء فظيع منكر. ثم قال: إن
رأي الخليفة أقال ذلك الخطب العاثر أي أبطله وفلّ غربه وأزال ضرره عن الناس ،
فالعاثر في البيت ليس المراد منه حقيقته وهي الساقط كما قال الشارح ، وإنما
المراد مجازه ، كما أن المراد بالإقالة مجازها وتفسير الشارح لها بالأخذ باليد ليس
من حقيقتها ولا مجازها، على أن ذلك التفسير يأتي على البيت من قواعده لأن
الخطب إذا عثر وأخذ الخليفة بيده فقد أنعشه ونشطه ، والشاعر يرمي إلى غير هذا.
وقد فسر الشارح الإقالة أيضًا في الصفحة 19 برفع العاثر من سقوطه وهو غير
وجيه لما سمعت.
(ص32)
فسيحوا بأطراف البلاد وارتعوا
…
فنا خالد من غير درب لكم درب
(الفناء: عتبة الدار) الفناء: الفسحة تكون أمام الدار أو حواليها أما العتبة
فهي أسكفة الباب السفلى أو العليا. والوصيد: الفناء والعتبة ، فإذا قيل: الفناء
هو الوصيد؛ أريد من الوصيد أحد معنييه وهو فسحة الدار لا المعنى الآخر وهو
عتبة بابها.
(ص 59)
نسائلها أي المواطن حلت
…
وأيّ بلاد أوطنتها وأيَّت
(أيَّت: أقامت) أيَّت: تأنيث أي الاستفهامية كأنه يقول: وأية بقعة تبوَّأتها
وتكرارها هنا كتكرارها في قول الشاعر * بأي كتاب أم بأية سنة * وورود تأيَّا
بمعنى توقف وتمكث ، لا يجيز لنا استعمال أي بمعنى أقام كما لا يجوز لنا أن نقول:
باء بالمكان بمعنى تبوأه ، وإنما رسمت تاء أيت هنا مفتوحة مع أن الأصل كتابتها
مربوطة ابتغاء مشاكلة القوافي في مثل (النجات) في قوله:
(وآله وصحبه الثقات
…
السالكين سبل النجات)
(ص61)
وأحيا سبيل العدل بعدد ثوره
…
وأنهج سبل الجود حين تعفت
(أنهج: قوَّم) أنهج السبيل: أوضحها وأظهرها بعد عفائها واضمحلالها.
وقوَّمها: عدلها بعد اعوجاجها والتوائها.
(ص 61)
به انكشفت عنا الغيابة وانفرت
…
جلابيب جور عمَّنا واضمحلت
(انفرت: انقطعت) الفري: القطع ، يقال: فريت الأديم أي قطعته ،
وانفرى الأديم: انشق ، وإذا أسند إلى مثل الجلابيب فسر بالانكشاف والانحسار
مثلاً. ومثله تفرَّى الليل عن بياض النهار أي انكشف ، ومن هذا القبيل جاب
ومعناه قطع كقوله تعالى: {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (الفجر: 9) فإذا قيل:
انجابت الظلمة ، أو انجاب الظل فُسّرا بانكشفت وتقلص مثلاً.
(ص 64)
إن الهموم الطارقات موهنًا
…
منعت جفونك أن تذوق حثاثا
(موهنًا: ضعيفًا) الوهن له معنيان: (1) الضعف (2) بعد ساعة من
الليل أو نحو نصفه ، أما الموهن فمعناه الثاني منهما. فإذا قالوا: الموهن الوهن
عنوا بعد ساعة من الليل أو نحو نصفه لا الضعف. والطارقات الملمات ليلاً ،
فالموهن في البيت بالمعنى الثاني.
(ص 66)
من كل رعبوبة تردَّى
…
بثوب فينانها الأثيث
(فينانها: المتفنن في نسجه) يطلق الفينان على الرجل الكثير الشعر ،
ويطلق أيضًا على نفس الشعر الكثير الكثيف تشبيهًا له بأفنان الشجرة إذا التفت
وتكاثفت ، فالفينان من الفنن وهو الغصن ، والشاعر يقول: إن تلك الرعبوبة لبِست
ثوبًا من شعرها الكثيف.
(ص72)
أشلى الزمان عليها كل حادثة
…
وفرقة تظلم الدنيا لنازحها
(أشلى: دعا) أشلى إذا عدي إلى مفعول واحد كان بمعنى دعا ، وإذا عُدي
إلى مفعولين ثانيهما بحرف الجر (على) كان بمعنى أغرى ، فإذا قلت: أشليت
الناقة والكلب أردت دعوتهما ، وإذا قلت: أشليت الكلب على الصيد؛ أردت
أغريته عليه. فأشلى في البيت بمعنى أغرى.
(ص100)
في كل يوم فتوح منك واردة
…
تكاد تفهمها من حسنها البرد
(البرد: المتبادر أنه جمع بريد وهو ما بين المنزلين) قال في شفاء الغليل
نقلاً عن الفائق: البريد في الأصل البغل ، وهي كلمة فارسية وأصلها (بريده دم)
أي محذوف الذنب؛ لأنه يقال: إن دابة البريد كانت كذلك اهـ فعرّبوا (بريده دم)
وخففوها إلى بريد فالبريد كلمة معربة معناها في الأصل: البغل الذي يحمل
الرسائل بين البلاد ، وكانوا يقطعون ذنبه ليكون ذلك كالعلامة له ، ثم سمي الرسول
الذي يركب البريد بريدًا ، ومنه قول بعض العرب: الحُمى بريد الموت والحديث:
(إذا أبردتم إليَّ بريدًا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم) وسميت أيضًا المسافة التي
يقطعها البريد بالبريد ومنه قولهم * إن البريد من الفراسخ أربع *.. الأبيات ، وقد
أراد الشاعر أن الدواب التي تحمل أخبار انتصار الممدوح في غزواته تكاد تفهم ما
حملته وتشعر بحسن وقْعه في النفوس.
(ص101)
حلفت برب البيض تدمى متونها
…
ورب القنا المنآد والمتقصّد
(المنآد: المتحرك) أَوِد العود: اعوجَّ ، وآوَّده وأوده: حناه وعطفه فتأود ،
وانآد: انحنى وانعطف ، والمنآد المنحني والمعوج ، فالشاعر يحلف بالرماح
التي بوشر الطعن بها فمنها ما تكسر ومنها ما اعوج وانحنى من شدة الطعن.
(ص101)
إذا ما دعوناه بأجلح أيمن
…
دعاه ولم يظلم بأجلح أنكد
(أجلح: شديد مقدام) يقولون: يوم أجلح وأصلع أي شديد ، وقالوا: جلّح
على الشيء من باب فرّح أي أقدم عليه إقدامًا شديدًا ، وهو ليس بالثلاثي فلا يأتي
منه التفضيل على أفعل. وعليه فأجلح في البيت وصف من الجلح وهو انحسار
الشعر عن مقدم الرأس كالصلع أو أخف منه ، يريد الشاعر أن الممدوح الذي فتك
ببابك إن كانت جلحته مباركة علينا ودعوناه لأجل ذلك بأجلح أيمن؛ فهي مشئومة
على بابك ، وهو جدير أن يدعوه بأجلح أنكد. ونسبة اليمن والنكد إلى الصلعة
معهود كنسبتهما إلى الوجه والطلعة.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(الحصون الحميدية لمحافظة العقائد الإسلامية)
طبع في هذه السنة كتاب مسمى بهذا الاسم من تأليف الشيخ حسين الجسر
الشهير صاحب الرسالة الحميدية. وطريقة المؤلف في باب الإلهيات هي طريقة
السنوسي التي جرى عليها المتأخرون الذين كتبوا على عقيدة السنوسي الصغرى
وعلى الجوهرة وآخرهم الباجوري فهو يذكر من صفات الله تعالى ما هو سلبي
كالقِدَم والبقاء ومخالفة الحوادث ، وما هو وجودي ، وما هو في عرفهم واسطة بين
الموجود والمعدوم وهو الوجود. ويعرف الصفات بما عرفوها به ، ويذكر لصفات
المعاني من التعلق ما ذكروا حتى قولهم: إن السمع والبصر يتعلقان بجميع
الموجودات.
ولكنه أطال في باب النبوات أكثر مما أطالوا ، فذكر أشهر معجزات الأنبياء
واستدل على كل واحدة منها بالدليل المعروف ، وهو أنها جائزة عقلاً إذ لا يترتب
على فرض وجودها محال ، وكل جائز في العقل فقدرة الله صالحة للتعلق بإيجاده ،
وقد أخبر الصادق أن ذلك وقع فوجب التصديق به ، وزاد عليه إيضاحًا وردًا لشُبه
أهل العصر.
ثم إنه يذكر من هذه المعجزات ما جاء به القرآن ، وما روي في أحاديث
الآحاد حتى ما لا يرتقي منها إلى درجة الصحة كحديث حبس الشمس أو ردّها
بدعوة نبينا صلى الله عليه وسلم وبدعوة يوشع بن نون عليه السلام. قال: إن
الإيمان بذلك هو الموافق لشأن المسلمين والأسلم لهم في دينهم فنحن نؤمن به
ونصدق.
أقول: إن مسألة رد الشمس له صلى الله عليه وسلم قد ورد في رواية ضعيفة
من أحاديث المعراج ، وورد في رواية أقوى منها في مناقب علي كرم الله وجهه ،
وهذه الرواية وثقها الطحاوي في مشكل الآثار ، وتبعه القاضي عِيَاض في الشفاء ،
وقد تكلم فيها بعض الحفاظ بل أوردها ابن الجوزي في الموضوعات ، وتعقبه في
اللآلئ ، وهذا نص الرواية من حديث أسماء بنت عميس: كان رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم يوحى إليه ، ورأسه في حجر علي فلم يصلِّ علي العصر حتى
غربت الشمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: صليت؟ قال: لا،قال:
(اللهم إن كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس) قالت أسماء:
فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت، رواه الجوزقاني عنها وقال: إنه
حديث مضطرب منكر ، وقال ابن الجوزي: موضوع وفضيل بن مرزوق
المذكور في إسناده قال ابن حبان: يروي الموضوعات ، ورواه ابن شاهين من غير
طريقه ، وفى إسناده أحمد بن محمد بن عقدة رافضي رمي بالكذب، ورواه ابن
مردويه عن أبي هريرة مرفوعًا وفي إسناده داود بن فراهيج مختلف فيه وقد وثقه
قوم.
أقول: وما ورد في حبس الشمس ليوشع ضعيف أيضًا ، وهو معارض لهذا ،
فإنه ورد بصيغة الحصر ، ولعل غرض شيخنا صاحب الحصون الحميدية من
اختيار التسليم بكل ما ورد من الخوارق للأنبياء وغيرهم وإن لم يتواتر بل وإن لم
يصح سنده في الآحاد عدم فتح باب إنكار الجزئيات لئلا يفضي بقوم إلى إنكار أصل
الخوارق من المعجزات والكرامات. فهو يقول: ما دمنا نؤمن بقدرة الله تعالى على
كل شيء فلا ينبغي لنا أن ننكر شيئًا يُؤْثر عن أصفياء الله تعالى ، وإن كان مخالفًا
لسننه فهو واضعها وهو الذي يغيرها إن شاء الله متى شاء على يد من شاء. هذا
رأيه ، وإننا نورد عبارته في بيان دفع ما يرد على هذه الخارقة بعد التصريح
بإمكانها قال (ص97) :
(وإن قيل: على فرض تسليم القول بالهيئة الجديدة ، وأن الأرض هي التي
تدور؛ لو وقفت الأرض عن حركتها أو انعكست حركتها يلزم أن يبقى ماء البحر
آخذًا بحركة الاستمرار فكان يفيض على اليابسة ويغرق أهلها - قلنا: إن القادر
على إيقاف الأرض أو عكس حركتها هو قادر على سلب حركة الاستمرار من ماء
البحر وجعله تابعًا للأرض في وقوفها وعكس حركتها فلا يفيض حينئذ على اليابسة ،
ولا يلتفت إلى قول بعض الملحدين: إنه ليس من حكمة الخالق تعالى أن يوقف
ذلك الجسم الكبير المبني حركته على ناموس عظيم في الكون وهو ناموس الجاذبية
كما يقول أهل الهيئة الجديدة لأجل غرض واحد من البشر (وهو محمد أو يوشع)
عليهما السلام؛ لأنا نقول: لم يكن ذلك الصنع منه تعالى لأجل مجرد غرض واحد
من البشر، وإنما هو لحكمة بالغة وهي إظهار المعجزة الخارقة للعادة التي ينشأ
عنها اهتداء ألوف من الخلق ، ويرجعون بذلك من الكفر الذي يهلك نفوسهم إلى
الإيمان الذي يحييها الحياة الأبدية ، وينشأ عنها تثبيت ألوف وتمكينهم بالإيمان ممن
آمنوا قبل ذلك ، ويبقى ذكرها ونقلها بين الخلق يتحدث بها الجيل بعد الجيل ،
وينتفع بنقلها من أراد الله تعالى هداه ويتصور بها عظمة قدرته تعالى وعجيب
أعماله. فهذه الحكمة العظيمة توازي في العظمة حصول تلك الخارقة وتفوقها ،
ويليق بها أن تحصل تلك الخارقة لأجلها. على أن ذلك الملحد نظر إلى مجرد
عظمة تلك الخارقة ، ولو قابلها بعظمة قدرة الله تعالى لما وجدها شيئًا يُذكر ، وهذه
الخارقة وغرض واحد من البشر عند الباري تعالى على حد سواء في أن كلاً منهما
تحت تصرفه ومشيئته ، ولا يعظم شيء منهما لدى عظمته ، وإن كان في نظرنا
القاصر أننا نجد الفرق بينهما عظيمًا وهما عند الله سيان في الجواز والإمكان.
ثم إنه في بعض الروايات التي نقلت تلك المعجزة ما يفيد أن الرسول طلب
وقوف الشمس أو إعادتها فلا يقال: على فرض تسليم رأي الهيئة الجديدة بدوران
الأرض أنه كان الصواب في حق ذلك الرسول أن يطلب وقوف الأرض أو عكس
حركتها عوضًا عن طلب ذلك في الشمس؛ لأنا نقول على فرض تسليم ذلك فلا
مانع من أن يكون الرسول يعلم حقيقة الأمر ، ولكنه طلب ذلك في الشمس بناءً على
الظاهر والجاري في رأي الشعب والمألوف بينهم في الاستعمال والله سبحانه يعلم
المقصود من طلبه ، ولا يكون ذلك غلطًا من الرسول ، وهكذا نرى أهل الهيئة
الجديدة يجرون في كلامهم على ظاهر ما يبدو لأهل لغتهم ويجري في استعمالهم
فيقولون: طلعت الشمس وغربت وهم يعتقدون وقوفها وحركة الأرض ، ولم
نسمعهم يقولون: طلعت الأرض أو وصلت الأرض لمقابلة نور الشمس أو فارقته ،
وكل ذلك منهم على حسب الشائع في الاستعمال ، وظاهر ما تعطيه المشاهدة إذا
علمت ما قررناه ، واندفعت عنك تلك الشبه بما حررناه ، فاعلم أننا معشر المسلمين
آمنا بهذه المعجزة إذ لا مانع يمنع من وقوعها والله قادر على إيجادها معجزة مؤيدة
لرسله الكرام يهدي ويثبت بها الألوف من الأنام) اهـ بحروفه.
ولا يحسبن القارئ أن الأستاذ المؤلف يحكم بأن من أنكر هذه المعجزة كأولئك
الحفاظ الأعلام يعد ملحدًا لتعبيره عن المعترض بلفظ الملحد ، فإنه لم يقل أحد من
المسلمين بكفر من ينكر أي حديث من أحاديث الآحاد وإن صح سنده ، فكيف
يكفرون من ينكر حديثًا ضعيفًا أو منكرًا باعتراف حفاظ الحديث أنفسهم. وإنما
يكون المنكر ملحدًا إذا كان ينكر قدرة الله تعالى على فعل تلك الخارقة أو أي ممكن
من الممكنات. والمؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعتقد بشيء ثبت
عنه عنده ثم ينكره لعظمته ، وإنما أنكر الأئمة كثيرًا من الأحاديث لعلة في رواتها
أو روايتها أو متنها ككونه لا يتفق مع الثابت القطعي فمن أنكر حبس الشمس أو
رجوعها لعلة من ذلك لا يعد ملحدًا ولا مبتدعًا ولا عاصيًا ولا منحرفًا عن سبيل
المسلمين لا سيما إذا لاحظ مع ضعف الرواية أن مثلها مما يشتهر وتتوفر الدواعي
على نقله ، فلما لم يروها أهل النقد من المحدثين كالشيخين وأصحاب السنن ومثل
مالك وأحمد ترجح عنده أن من جرح رواتها ولم يقبلها من المحدثين هو المصيب
دون من قبِلها.
ثم إن ما ذكره الأستاذ مؤلف الحصون الحميدية من الحكمة في وقوع هذه
الخارقة لم تؤيده رواية الحديث فيها إذ لم يرد أن كافرًا آمن لأجلها أو ضعيف إيمان
ثبت برؤيتها. ولا شك أن هذه الخارقة هي أعظم الخوارق الكونية التي نُقلت لأنها
إبطال لسنة الله في نظام العالم العلوي والسفلي فهي أعظم من إحياء الميت ومن
انقلاب العصا حية ونحو ذلك، فلو تحدى بها لرجي أن يظهر ما قاله من الحكمة
ولكن لم ينقل راوتها أنه وقع بها التحدي، نعم إن واضع السنن لنظام الكون
باختياره قادر على تبديلها أو تحويلها أو إزالتها إذا وافق ذلك حكمته، ولكن النظام
الثابت بالمشاهدة اليقينية وبالنقل اليقيني الناطق بأن سنن الله لا تتبدل ولا تتحول
وأن الشمس والقمر بحسبان، وأن لا تفاوت في خلق الرحمن، لا يصدق في دعوى
تغييره وتبديله قول فلان عن فلان، في رواية مطعون فيها من المحدثين، فهي لا
تفيد الظن فضلاً عن اليقين.
وإننا نعيد القول بأن مؤلف الحصون الحميدية لم يقصد بفتح باب التوجيه لكل
ما ورد من الخوارق ومن أمور الغيب التي ذكرها في باب السمعيات - وإن لم
يرتقِ الوارد فيها إلى درجة الصحة بل وإن كان قولاً مشهورًا لبعض العلماء لم يرد
فيه شيء عن المعصوم - إلا لأجل حماية القطعي الثابت من آيات الله ومن خبر
الوحي الثابت عن عالم الغيب؛ لئلا ينتقل العاصي ومن أمثاله ممن لا علم لهم
بحقائق الدين من إنكار ما لم يثبت باليقين إلى إنكار ما ثبت به وصار معلومًا من
الدين بالضرورة فيكفر؛ إذ الذي قطع به علماء العقائد أن المؤمن لا يحكم بكفره إلا
إذا جحد شيئًا مجمعًا عليه معلومًا من الدين بالضرورة. والدليل على هذا الجحد إما
القول وإما الفعل الذي ينافيه كالسجود للصنم اختيارًا.
والكتاب يُطلب من المكتبة الأزهرية وثمن النسخة منه أربعة قروش صحيحة.
* * *
(البائنة أو بحث في الدوطة)
الدوطة كلمة إفرنجية مشهورة معروفة المعنى وهي ما يأخذه الرجل من المرأة
التي يتزوجها كما هي عادة الإفرنج ومقلديهم! وقد وضع سليم أفندي عواد رسالة
في هذه المسألة بيَّن فيها أن لفظ (البائنة) العربي يؤدي معنى الكلمة عند الإفرنج،
ثم عرف الدوطة وبين سببها وذكر تاريخها عند اليونان والروم وأحكامها في
قوانين الإفرنج وكيف تملك وتورث، والرسالة تطلب من المؤلف في الإسكندرية.
* * *
(الروايات الشهرية)
هذا اسم لقصص يصدرها يعقوب أفندي الجمال كالمجلات الشهرية، وقيمة
الاشتراك السنوى فيها 50 قرشًا في القطر المصري و20 فرنكًا في غيره. والقصة
تناهز مائة صفحة من الشكل الثالث ونعني بالشكل الثالث ما كان دون المنار وهو
الشكل الثاني. وثمن النسخة الواحدة منها ستة غروش. وهي تطلب من صاحبها
في عزبة الزيتون بضواحي مصر.
* * *
(رواية الملك كورش الفارسي)
قصة أدبية غرامية تاريخية للكاتبة العربية المشهورة (زينب فواز) طبعت
على نفقة أمين أفندي هندية وتطلب منه.
* * *
(الطبيب المصري)
قصة أدبية أخلاقية تاريخية ألفها محمد أفندي الهراوي من عمال نظارة
المعارف، ولم نتمكن من قراءتها ولا قراءة سابقتيها لنبدي فيها رأيًا فاكتفينا
بالتعريف بفضل الكاتبين والمؤلفين والناشرين. وثمن النسخة من هذه القصة ثلاثة
قروش.
* * *
(مجلة المجلات)
عادت مجلة المجلات الشهيرة إلى السفور بعد احتجاب طويل شق على
عاشقي فوائدها، وقد صدر العدد الأول من سنتها الحاضرة (وهي السادسة) في
أول يناير من هذا العام الميلادي مفتتحة برسم الأستاذ الإمام وبترجمة له بعد خطبة
السنة، وفيه كثير من الفوائد العلمية والأدبية والصور فنرجو لها العمر الطويل،
ونثني على صاحبها (محمود بك حسيب) الثناء الجميل والمجلة شهرية يتألف
العدد منها من 64 صفحة وقيمة الاشتراك فيها 80 قرشًا في مصر و25 فرنكًا في
غيرها.
* * *
(الإخاء)
مجلة عمومية أدبية لصاحبها محمود أفندي الكاشف وكانت من قبل جريدة،
وهي مؤلفة من 16 صفحة، وقيمة الاشتراك فيها 50 قرشًا في مصر، و25 فرنكًا
في خارجها فنتمنى لها الثبات ودوام الانتشار والارتقاء.
* * *
(الصالح)
جريدة أسبوعية يصدرها في القاهرة محمد علي بك نصوحي الصيدلي وهي
معتدلة كصاحبها فنتمنى لها الرواج ونرجو لها الثبات.
* * *
(الإرشاد)
جريدة أسبوعية يصدرها في القاهرة الشيخ علي الجرجاوي وقد اشتهرت
بالمدافعة عن الأوقاف فنتمنى لها العمر الطويل والخدمة النافعة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(دعوة الإسلام في اليابان)
كان لما كتبناه في مسألة دعوة اليابان إلى الإسلام تأثير في جميع الأقطار
الإسلامية فقد نقلت ما كتبناه الجرائد الهندية وأضافت إليه ما أضافت.
وكتب إلينا بعض أهل الغيرة من مسلمي الآفاق بالاستحسان والاستعداد لإسعاد
الدعوة إن وجدت، ومن ذلك ما كتب إلينا بعض الفضلاء من سنغافورة وهو:
(قد أسرني ما رأيت بالمنار من ذكر الدعوة إلى الله بالجابان وباطلاعنا على
ما ذكرتم كتبنا لأحد المسلمين في شنغاي (بالصين) ليفيدنا عن الشيخ حسان ،
وأحببنا أن نكاتبه ونمن بما نقدر عليه، فوصلنا منه ما ترونه ضمن هذا بعد
الاطلاع عليه أرجعوه إلينا إن شئتم، وقد أجبناه عسى أن يؤلف لجنة لجمع إعانة
لهذه الغاية فعسى ولعل. ويقال: إن أهل الهند جهزوا عالمًا بخمسة آلاف روبية
ليذهب إلى جابان للدعوة. وقد أطربنا ما ذكرتم في المنار بالعدد الأخير (يعني ج
22) من دعوتكم العلماء للذهاب والأغنياء للمعاونة بالمال، وقبلنا تلك السطور
نيابة عن أنامل سطرتها ولكنا لا نوافقكم في أن (سروات) مصر لا يكتتبون
بالمبالغ الكبيرة، ودليلنا أن القوم يكتتبون سنويًّا لعيد الجلوس ونحوه من الأعياد
الفارغة بمبالغ غير حقيرة مع أن الأمير لا يقرأ تلك القوائم ولو قرأها لم تعلق بذهنه
فضلاً عن أن يثيب على ذلك فمن لا يبخل بالترهات كيف لا يبذل المال في نصرة
الدين، وإقراض أحكم الحاكمين؟ ! فلا نزيدكم توصية بالتكرار. وهنا قد أحب
بعض قراء المنار المشاركة وسيقدمون ما يجتمع وهو وإن كان زهيدًا فأول الغيث
قطر) اهـ. بنصه.
وهذا ما كتب إليه من شنغاي بعبارته، قال الكاتب بعد رسوم الخطاب:
(إحاطة علمكم ما هو محرر بمجلة المنار الإسلامي عن أن رجلاً من الصين
اسمه حسان قد قام بكتابة بعض عبارات في مجلة شوكيما الجبانية يدعو القوم إلى
الديانة الإسلامية (وتطلبوا) الإفادة عن (أدريسه) فلآخر شرحكم فهمناه كما
اطلعنا عليه بالمجلة المذكورة ونشكر غيرتكم الحمية عليه. غير أنه قد تعجبنا من
ذلك لعلمنا بعدم وجود (هكذا) شخص بالصين أهلاً لذلك، ونأسف كما يأسف كل
مسلم غيور بأن تكون أهالي الصين المسلمين محرومين من هكذا رجل وهو أحوج
الناس إليه، ولدى الاستعلام عن الشخص المذكور فهمنا بأنه قد حضر من بضعة
أشهر من بلدة (دلهي) بالهند رجل عالم اسمه بالإنكليزي (سفراي حسين) ولعله
هذا الشخص الذي يعني عنه المنار (حسان) من طرف جمعية إسلامية بالهند لهذه
الغاية إلى الجبان من بعد أن أقام كام يوم هنا طرف أحد الإخوان. وقد فهمنا أنه
توجه إلى الجبان إلى أوزاكا ومنها إلى ناكازاكي حيث أقام بتحرير جملة مقالات في
بعض جرائد الجبان وإلقاء بعض خطب بهذا المعنى، والآن نجهل محل إقامته كما
نجهل (أدريسه) إلا أنه يمكن يحرر له بالاسم المشروح أعلاه بالإنكليزي إلى
يوكاهاما أم ناكازاكي، وغدًا إن شاء الله سنحرر إلى أحد الأصحاب بتلك الأطراف
للاستعلام عن ذلك وإليكم الحقيقة بعد هذا.
أما حالة الجبان الدينية فهي كما كتب محرر المجلة المذكورة ولم يزالوا تائهين
حائرين على دين يعتقدوه (وإن يكن منهم صار الحظ الأوفر مسيحية) ونعرف
منهم اثنين قد اعتنقوا الدين الإسلامي ولا قدروا يفهموا منه إلا أسماءهم حيث قد
صاروا بأسماء جديدة أحدهم إبراهيم والثاني إسماعيل. ونعهد أن منهم جملة قد
صاروا يهودًا. والحقيقة الآن فرصة ثمينة جدًّا وثواب عظيم. ولكن يحتاج هذا
لرجل عظيم فيلسوف غيور مستعد ليس بعلم الفقه فقط.. على مذهب الشافعي..
وحضرتكم أعلم.
أما حالة الصين فلا ننكر وجود جملة إسلام يعد بالملايين ومنهم العلماء
الأعلام، ويوجد عندهم المدارس العالية الداخلية حيث يوجد بهم ألوف من طلبة
العلم أخصه في البلاد الداخلية حيث أعلم الإسلام بهم نظير كيانسو شانسي.
وهونان ولكن من الصعب وجود شخص بالاستعداد الكافي والغيرة لما ذكر.
ربنا اهدنا ووفق وألِّف بين قلوبنا إنك سميع مجيب.. اهـ. بحروفه ونقطه
إلا اسم العالم الهندي فقد رسمناه بحروف عربية وظاهر أنه يريد بالجبان اليابان
وبالأدريس (العنوان) .
وكنا قبل هذا قرأنا في جريدة (وكيل) الهندية الغراء ما ترجمته:
(حضر من أعيان الهند وعلمائها الأعلام (سرفواز حسين) إلى مدينة نجاساكي
اليابانية في 11 ديسمبر 1905 وفي 18 منه دخل إلى أحد معابدها المسمى
(جوسوجي) وألقى خطبة شائقة باللغة الإنكليزية موضوعها (التوحيد الإسلامي
ونبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان عدد الحاضرين يبلغ زهاء أربع
مائة من يابانيين وأوربيين، ودام في خطبته ساعتين، وكان من الحاضرين اللادي
مس ريندلف كود الأمريكانية، وكانوا يسمعون بكل انتباه وإصغاء. وفي اليوم
التالي ليوم إلقاء الخطبة كتبت عنها الجرائد الإنكليزية واليابانية مقرظة إياها أحسن
تقريظ وقد جاء كثيرون ليسألوا العالم الهندي بارتياح ومسرة عن التوحيد والنبوة
وبعد عشرة أيام برحها إلى مدينة كوبي ومنها إلى طوكيو) اهـ.
(المنار)
نقول: إن مصدر خبر الشيخ حسان الصيني هو الجرائد العثمانية ولا ندري
من أين أخذته. ولا فرق عندنا بين أن يكون الداعي للإسلام هنالك صينيًّا أو هنديًّا
لأن الملة واحدة، ولكن نرجو أن يكون هنديًّا لأن أهل الهند أعلم بها من أهل
الصين ومَن لنا بمَن يترجم لنا خطبة أخينا سرفواز حسين لعلنا نجد فيها ما يطمئن
له القلب من ناحية هذا الداعي الأول للإسلام في تلك البلاد. ولا يشك عاقل في أن
هذا العمل الجليل لا يكفي للقيام به عالم واحد مهما اتسعت دائرة علمه، ونفذت
أشعة عقله وفهمه، فلا بد للمسلمين من جمعية للدعاة يكون لها مدرسة لتربيتهم
وتعليمهم وصندوق غني للنفقة عليهم. ولكن هل بلغ استعداد المسلمين الديني
والاجتماعي في جميع الممالك إلى أن ينهضوا بجمعية واحدة كأصغر جمعية من
جمعيات المبشرين عند النصارى؟ ! .
يظن صاحبنا الذي كتب إلينا من سنغافورة أن المصريين وحدهم يضطلعون
بهذا العمل وهو قليل على كرمهم، ولكنه أيد ظنه بقياس الجد على الهزل ولا أزيد
على هذا شيئًا في الكلام على قياسه وأقول له: إن لي في المصريين لأملاً ما،
ولكني أعتقد أن هذا العمل لا يتم إلا إذا تضافر المسلمون في كل الأقطار عليه.
ويرجى بعد أن تبدو ثمراته بسعي أصحاب الهمم العالية والغيرة الصادقة أن تصير
الثقة به عامة وأن توقف عليه الأوقاف العظيمة فإن حب الخير وبذل المال في
سبيل الله لم يُمْحَ من نفوس المسلمين، ولكن الأغنياء منهم صاروا طبقات فمنهم مَن
عبد المال من دون الله لا يسمح بقليل منه ولا كثير وهؤلاء قد فسدت فطرتهم فلا
رجاء فيهم! ، ومنهم من لا هَم له إلا الإسراف والتبذير في سبل الشهوات واللذات
والفخفخة والزهو والخيلاء وأكثر هؤلاء من عبيد الشهوات الذين لم يبقَ للدين
بصيص من النور في قلوبهم. وقد يوجد فيهم من تُرجى أوبته، وتحسن خاتمته،
ومنهم من يحب عمل الخير ولكن يضعه في غير موضعه لجهله بما يُرضي الله
وينفع الناس فيبني مسجدًا حيث تكثر المساجد فيزيد المسلمين تفريقًا أو يوقف وقفًا
على ضريح بعض المشهورين بالصلاح، ومنهم من يميز بين الضار والنافع ولكنه
ضعيف لا يقدر على العمل بنفسه ولا يثق بالعاملين وإن كانوا قادرين، وإنما
الرجاء بمثل هذا بعد ظهور ثمرة العمل. وأما الغني السخي العاقل الشجاع الذي
يرجى للشروع في الأعمال العظيمة فقليل، وهو المرجو لهذا المشروع الجليل.
* * *
(منار السنة التاسعة - تنبيهات)
(1)
إننا سنزيد مادة التفسير في الأجزاء الآتية ، ويرى القراء أننا نراعي
في كتابة الآيات الكريمة المشكولة رسم المصحف العثماني اتباعًا لسلفنا وحفظًا لما
كانوا عليه في صدر الإسلام. ولكننا عندما نذكر هذه الآيات في أثناء التفسير نوافق
جميع كتب التفسير المطبوعة في جعْلها على قواعد الرسم المتبعة لأنها تكتب غير
مشكولة فيخشى أن يحرف قراءتها غير الماهر في التلاوة ، وقد نبهنا في هامش
الصفحة الأولى من التفسير على اكتفائنا بعدّ المصحف المطبوع في الأستانة للآيات
الكريمة. وقد تحرينا في هذه السنة الإشارة إلى السور وعدد الآيات في جميع ما
يذكر في المنار من القرآن المجيد ، ونفصل بين عدد السور وعدد الآية بنقطتين
هكذا (9: 25) والمراد بهذا المثال السورة التاسعة والآية الخامسة والعشرون منها
ومن كان عنده المصحف الذي طبعه فلوجل الألماني وراجع عدد الآية فرأى غيرها
فلينظر قبلها أو بعدها بآيات قليلة يجدها لأن الفرق في مواضع الاختلاف قليل.
(2)
قد جعلنا باب المقالات في هذا الجزء بعد باب الفتاوى ، ولكننا
سنجعله في الأجزاء الآتية بعده.
(3)
لا يقبل الاشتراك في المنار إلا من أول السنة الهجرية أو من أول
رجب منها ، ومَن قبِل الجزء الأول عُد مشتركًا إلى آخر السنة ولزمه أداء قيمتها
كاملة. وهذا الشرط يلتزمه من يفي بالعقود والشروط التي رضي بها وإن كان لا
يبالي بها من لا قيمة لنفسه عنده ، وحسبنا أننا نعامل أهل الفضل والشرف ومن شذ
فأخلف ظننا فحسبه أن يكون حسن الظن فيه كاذبًا.
(4)
نرجو من أهل الوفاء والفضل الذين لم يوفوا إلى الآن أن يرسلوا إلينا
القيمة المتأخرة عندهم حوالة على مكتب البريد في مصر القاهرة أو على بعض
التجار أو المصارف (البنوك) ونُعلم مشتركي سنغافوره وجاوه والهند أن قيمة
الروبية الورق (بنك نوط) في مصر ستة قروش مصرية ، فالعشر الروبيات
تنقص عن قيمة الاشتراك زيادة عن فرنكين ، فلعلهم يكفون عن إرسال هذه الأوراق.
(5)
إننا نريد أن نطبع عنوانات المشتركين في القطر التونسي وسائر
الأقطار ، فمن كان في عنوانه غلط فليصححه لنا لنطبعه على الصواب ، ونرجو
المبادرة إلى ذلك. وقد حظرنا على التونسيين في الجزء الماضي أن يدفعوا شيئًا
من قيمة الاشتراك بعد وصوله إليهم إلى المحصِّل الذي أقامه وكيل المنار في تونس
واسم هذا المحصل (أحمد أبو خطيوه) فقد كتبنا إليه نسأله عن التحصيل وعن
الوكيل الفاضل النبيل فلم يحر جوابًا ولعل له عذراً يظهر عن قريب. فنرجو من
فضلهم إرسال القيمة حوالة على البريد بمصر.
(6)
عزمنا على أن ننشر في الأجزاء الآتية نبذًا من المباحث الأدبية
منظومها ومنثورها ، ونذكر في الجزء الآتي كلامًا في المغرب الأقصى ومسألة
العقبة وما شاع من سلطان الجن والشياطين على بعض علماء الأزهر وغير ذلك
من العبر.
(7)
كنا نرسل المنار إلى كل طالب ونحسن الظن فيه فخاب ظننا بكثير
حتى من أصحاب الألقاب الضخمة ، وقد بدا لنا في ذلك فلا نرسل المنار في هذا
العام إلا لمن يرسل قيمة الاشتراك مع الطلب إلا أن يكون الطالب لنفسه أو لغيره
من أصدقائنا الموثوق بهم.
* * *
(عمال المطابع وأخلاق العامة)
أفادنا علم الأخلاق أن العمدة في ردع الناس عن الشر وتوجيههم إلى الخير
هو الوازع النفسي ، ويقول فلاسفة هذا العلم: إن هذا الوازع يتمكن في النفس
بالاعتقاد الديني وبتربية وجدان الشرف في النفس في أمة تعرف الشرف الحقيقي
وتحتقر من يتلوث بالخسة والدناءة. وأما عقوبة الأحكام فقد وضعت لأهل الشذوذ
لا لتربية العامة. فمن عرف هذا وعرف حال التربية في مثل هذه البلاد لم يتعجب
من تألم الناس هنا من الصناع والخدم وتجاوبهم بالشكوى منهم فإنهم محرومون من
آداب الدين ومن شعور الشرف إلا من شذ ، وإن أكبر خدمة تقوم بها الجمعية
الخيرية الإسلامية لهذه البلاد هي تربية أولاد الفقراء تربية دينية يرجى بها أن
يكونوا صناعًا وأجراء صالحين يوثق بهم ويؤمَنون على الأموال والأعمال.
كنا ظننا أن اللين والوفاء للصناع يقربهم من حسن الخدمة والاستقامة فإذا
بالقوم لا يفرقون بين الإحسان والإساءة ، وكم من عامل ترك العمل لأن رجلاً قال
له في الطريق: اترك هذه المطبعة واذهب معي إلى مطبعة كذا فذهب وليس له
عندنا قرش واحد ، على أن أكثر أصحاب المطابع يمسكون من أجور العمال شيئًا
بمثابة الرهن فمن ترك العمل ضاع عليه وكان عوضًا لصاحب المطبعة عما يخسره
بإهمال العمل إلى أن يجد عاملاً بديلاً منه. وقد تبلغ البلادة والحماقة ببعضهم أن
يترك العمل عدة أيام ليغيظ صاحب المطبعة وهو أحوج إلى أجر هذه الأيام من
صاحب المطبعة إلى عمله بل إلى المطبعة نفسها. ويعسر على أذكى الأذكياء
وأفصح البلغاء أن يقنع الكثيرين منهم بأن هذا العمل ضار به وهذا نافع له كأن
أقحافهم المحيطة بأدمغتهم أفلاك هيئة اليونان لا تقبل الخرق والالتئام. فتبًّا
للمتفرنجين المجاهرين بالفسق ، ولأهل الخرافات الذين أزالوا حرمة سلطان الدين
من نفوس هؤلاء العوام. حتى لم يبق لهم زمام ولا لجام، فاستحل أكثرهم الحرام،
وخزيت بهم الأنام، هذا وإن تأخير هذا الجزء عن موعده كان لامتناع بعض العمال
عن العمل أيامًا وسيتأخر الثاني ولا تأخير بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
_________