الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها
نشرت في العدد الثالث من العروة الوثقى بالعنوان الآتي [1]
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62)
أرأيت أمة من الأمم لم تكن شيئًا مذكورًا ثم انشق عنها عماء العدم فإذا هي
بحمية كل واحد منها كون بديع النظام قوي الأركان شديد البنيان، عليها سياج من
شدة البأس ويحيطها سورين من مَنَعَة الهم، وتخمد في ساحاتها عاصفات النوازل،
وتنحل بأيدي مدبريها عُقد المشاكل. نمت فيها أفنان العزة بعد ما ثبتت أصولها
ورسخت جذورها، وامتد لها السلطان على البعيد عنها والداني إليها، ونفذت منها
الشوكة وعلت لها الكلمة وكملت القوة فاستعلت آدابها على الآداب، وسادت
أخلاقها وعاداتها على ما كان من ذلك لسابقيها ومعاصريها، وأحست مشاعر سواها
من الأمم بأن لا سعادة إلا في انتهاج منهجها وورود شريعتها وصارت وهي قليلة
العدد كثيرة الساحات كأنها للعالم روح مدبر وهو لها بدن عامل.
وبعد هذا كله وَهَى بناؤها، وانتثر منظومها، وتفرقت فيها الأهواء، وانشقت
العصا، وتبدد ما كان مجتمعًا، وانحل ما كان منعقدًا، وانفصمت عرى التعاون،
وانقطعت روابط التعاضد، وانصرفت عزائم أفرادها عما يحفظ وجودها، ودار كلٌّ
في محيط شخصه المحدد بنهايات بدنه لا يلمح في مناظره بارقة من حقوقها الكلية
والجزئية، وهو في غيبة عن أن ضروريات حاجاته لا تُنَال إلا على أيدي
الملتحمين معه بلحمة الأمة، وأنه أحوج إلى شد عضدهم من تقوية ساعده، وإلي
توفير خيرهم من تنمية رزقه، وكأنه بهذه الغيبة في سبات يخيله الناظر إليه صَحْوًا،
وذبول يظنه المغرور زهوًا، وأخذ القنوط بآمال أولئك المدهوشين فأبادها وحدثت
فيهم قناعة إليهم والرضا بكل حال، ولئن تنبه خاطر للحق في خيال أحدهم أو
استفزه داع من قلبه إلى ما يكسب ملته أو يعيد لها مجدًا عَدَّه هوسًا وهذيانًا أصيب
به من ضعف في المزاج أو خلل في البنية، أو حسب أنه لو أجاب داعي الذمة لعاد
عليه بالوبال وأورده موارد الهلكة، أو لصار من أقرب الأسباب لزوال نعمته ونكد
معيشته، ويحكم لنفسه سلاسل من الجبن وأغلالاً من اليأس فتغل يداه عن العمل
وتقف قدماه عن السعي، ويحس بعد ذلك بغاية العجز عن كل ما فيه خيره وصلاحه
ويقصر نظره عن دَرك ما أتى أسلافه من قبله، وتجمد قريحته عن فهم ما قام به
أولئك الآباء الذين تركوه خليفة على ما كسبوا وقيمًا على ما أورثوه لأعقابهم، ويبلغ
هذا المرض من الأمة حدًّا يشرف بها على الهلاك ويطرحها على فراش الموت
فريسة لكل عاد وطعمة لكل طاعم.
نعم رأيت كثيرًا من الأمم لم تكن ثم كانت، وارتفعت ثم انحطت وَقَوِيَتْ ثُمَّ
ضَعُفَتْ، وَعَزَّتْ ثُمَّ ذَلَّتْ، وصحَّت ثم مرضت، ولكن أليس لكل علة دواء؟ بلى
واأسفا ما أصعب الداء وما أعز الدواء وما أقل العارفين بطرق العلاج، كيف يمكن
جمع الكلمة بعد افتراقها وهي لم تفترق إلا لأن كلاًّ عَكَفَ عَلَى شأنه
…
أستغفر الله
لو كان له شأن يعكف عليه لما انفصل عن أخيه وهو أشد أعضائه اتصالاً به، ولكنه
صرف لشئون غيره وهو يظنها من شئون نفسه، نعم ربما التفت كلٌّ إلى ما هو في
فطرة كل حي من ملاحظة حفظ حياته بمادة غذائه، وهو لا يدري من أي وجه
يحصلها ولا بأية طريقة يكون في أمن عليها، كيف تبعث الهمم بعد موتها وما ماتت
إلا بعد ما سكنت زمانًا غير قصير إلى ما ليس من معاليها؟ هل من السهل رد
التائه إلى الصراط المستقيم وهو يعتقد أن الفوز في سلوك سواه؟ خصوصًا بعد ما
استدبر المقصد وفي كل خطوة يظن أنه على مقربة من الحظوة؟ كيف يمكن تنبيه
المستغرق في منامه المبتهج بأحلامه وفي أذنه وقر في ملامسه خَدَر؟ هل من
صيحة تقرع قلوب الآحاد المتفرقة من أمة عظيمة تتباعد أنحاؤها وتتناءى أطرافها
وتتباين عاداتها وطبائعها؟ هل من نبأة تجمع أهواءها المتفرقة، وتوحد آراءها
المتخالفة بعد ما تراكم جهل وران غَيْن وخُيِّلَ للعقول أن كل قريب بعيد وكل سهل
وعر؟ وأيم الله إنه لشيء عسير يعيا في علاجه النطاسي ويحار فيه الحكيم البصير،
هل يمكن تعيين الدواء إلا بعد الوقوف على أصل الداء وأسبابه الأولى والعوارض
التي طرأت عليه؟ إن كان المرض في أمة فكيف يمكن الوصول إلى علله وأسبابه
إلا بعد معرفة عمرها، وما اعتراها فيه من تنقل الأحوال وتنوع الأطوار؟ أيمكن
لطبيب يعالج شخصًا بعينه أن يختار له نوعًا من العلاج قبل أن يعرف ما عرض له
من قبل في حياته ليكون على بينة من حقيقة المرض؟ وإلا فإن كثيرًا من الأمراض
تتولد جراثيمها في طور من أطوار العمر ثم لا تظهر إلا في طور آخر لتغلب قوة
الطبيعة على مادة المرض فلا يبدو أثرها.
كلا إنه ليصعب على الطبيب الماهر تشخيص علة لشخص واحد سنو عمره
محدودة وعوارض حياته محصورة، فكيف بمن يريد مداواة أمة طويلة الأجل وافرة
العدد؟ لهذا يندر في أجيال وجود بعض رجال يقومون بإحياء أمة أو إرجاع شرفها
ومجدها إليها، وإن كان المتشبهون بهم كثيرين، وكما أن المتطبب القاصر في
الأمراض البدنية لا يزيد علاجه المرض إلا شدة لولا مساعدة الاتفاق والصدفة، بل
ربما يفضي بالمريض إلى الموت - كذلك يكون حال الذين يقومون بتعديل أخلاق
الأمم على غير خبرة تامة بشأنها وموجب اعتلالها ووجوه العلة فيها وأنواعها، وما
يكتنف ذلك من العادات وما يوجد في أفرادها من المذاهب والاعتقادات وحوادثها
المتتابعة على اختلاف مواقعها من الأرض ومكانتها الأولى من الرفعة ودرجتها
الحالية من الضعة وتدرجها فيما بين المنزلتين، فإن أخطأ طالب إصلاحها في اكتناه
شيء مما ذكرنا تحول الدواء داء والوجود فناء، فمن له حظ من الكمال الإنساني
ولم يطمس من قلبه موضع الإلهام الإلهي لا يجرؤ على القيام بما يسمونه تربية
الأمم وإصلاح ما فسد منها، وهو يحس من نفسه أدني قصور في أداء هذا الأمر
العظيم علمًا أو عملاً، نعم يكون ذلك من محبي الفخفخة الباطلة وطلاب العيش في
ظل وظائف ليسوا من حقوقها في شيء.
ظن أقوام في هذه الأزمان أن الأمم تعالج بنشر الجرائد، وأنها تكفل إنهاض
الهمم وتنبيه الأفكار وتقويم الأخلاق، كيف يصدق هذا الظن؟ وإنا لو فرضنا أن
كتاب الجرائد لا يقصدون بما يكتبون إلا نجاح الأمم مع التنزه عن الأغراض، فبعد
ما عم الذهول واستولت الدهشة على العقول وقل القارئون والكاتبون لا تجد لها
قارئًا، ولئن وجدت القارئ فقلما تجد الفاهم، وقد يحمل ما يجده على غير ما
يراد منه لضيق في التصور أو ميل مع الهوى، فلا يكون منه إلا سوء التأثير
فيشبه غذاء لا يلائم الطبع فيزيد الضرر أضعافًا، على أن الهمة إذا كانت في درك
الهبوط فمن يستطيع تفهيمها فائدة الجرائد حتى تتجه منها الرغبات لاستطلاع ما فيها
مع قِصَر المدة وتدفق سيول الحوادث؟ إن هذا وحقك لعزيز.
ويظن أقوام آخرون أن الأمة المنبثة في أقطار واسعة من الأرض مع تفرق
أهوائها وإخلادها إلى ما دون رتبتها بدرجات لا تحصر، ورضاها بالدون من
العيش والتماس الشرف بالانتماء لمن ليس من جنسها ولا مشربها، بل لمن كان
خاضعًا لسيادتها راضخًا لأحكامها - مع هذا كله يتم شفاؤها من هذه الأمراض القاتلة
بإنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة في كل بقعة من بقاعها، وتكون على الطراز
الجديد المعروف بأوربا حتى تعم المعارف جميع الأفراد في زمن قريب، ومتى
عمت المعارف كملت الأخلاق واتحدت الكلمة واجتمعت القوة، وما أبعد ما يظنون،
فإن هذا العمل العظيم إنما يقوم به سلطان قوي قاهر يحمل الأمة على ما تكره أزمانًا
حتى تذوق لذته وتجني ثمرته، ثم يكون ميلها الصادق من بعد نائبًا عن سلطته في
تنفيذ ما أراد من خيرها، ويلزم له ثروة وافرة تفي بنفقات تلك المدارس وهي كثيرة.
وموضوع كلامنا في الضعف وداوئه، فهل مع الضعف سلطة تقهر وثروة تغني،
ولو كان للأمة هذان لما عدت من الساقطين.
فإن قالوا: يمكن التدريج مع الاستمرار والثبات، وافقناهم على الإمكان لولا ما
يكون من طمع الأقوياء، حتى لا يدعون لهم سبيلاً لأن يستنشقوا نسيم القوة، فأين
الزمان لنجاح تلك الوسائل البطيئة الأثر
…
على أنا لو فرضنا مسالمة الدهر
ومنحت الأمة مدة من الزمان تكفي لبث تلك العلوم في بعض الأفراد والاستزادة منها
شيئًا فشيئًا، هل يصح الحكم بأن هذا التدريج يفيدها فائدة جوهرية، وأن ما يصيبه
البعض منها يهيؤه للكمال اللائق به، ويمكنه من القيام بإرشاد الباقي من أبناء أمته،
واعجبًا كيف يكون هذا، وإن الأمة في بُعْدٍ عن معرفة تلك العلوم الغريبة عنها،
وكيف بذرت بذورها، وكيف نبتت واستوت على سوقها وأينعت وأثمرت وبأي
ماء سقيت وبأي تربة غذيت؟ ولا وقوف لها على الغاية التي قصدت منها في
مناشئها ولا خبرة لها بما يترتب عليها من الثمرات، وإن وصل إليها طرف من ذلك
فإنما يكون ظاهرًا من القول لا نبأ عن الحقيقة، فهل مع هذا يصيب الظن بأن مفاجأة
بعض الأفراد بها وسوقها إلى أذهانهم المشحونة بغيرها يقوِّم من أفكارهم ويعدل من
أخلاقهم ويهديهم طرق الرشاد في إفادة إخوانهم، لعل الأقرب أن ناقلي تلك العلوم
وهم من أمة هذا شأنها مع ما ينعكس إليهم من الأوهام المألوفة فيها، وما رسخ في
نفوسهم على عهد الصبا وما يعظمونه من أمر الأمة التي تلقوا عنها علومهم -
يكونون بين أمتهم كخلط غريب لا يزيد طبائعها إلا فسادًا.
ماذا يكون من أولئك الناشئين في علوم لم تكن ينابيعها من صدورهم، ولو
صدقوا في خدمة أوطانهم؟ يكون منهم ما تعطيه حالهم يؤدون ما تعلموه كما سمعوه
لا يراعون فيه النسبة بينه وبين مشارب الأمة وطباعها وما مرنت عليه من عاداتها
فيستعملونه على غير وضعه. ولبعدهم عن أصله ولهوهم بحاضره عن ماضيه
وغفلتهم عن آتيه، يظنونه على ما بلغهم هو الكمال لكل نفس، والحياة لكل روح
فيرمون من الصغير ما لا يرام إلا من الكبير، وبالعكس غير ناظرين إلا إلى صور
ما تعلموه ولا مفكرين في استعداد من يعرض عليهم، وهل يكون له من طباعهم
مكان يحمد أو يزيدها على ما بها أضعافًا. وما هذا إلا لكونهم ليسوا أربابها، وإنما
هم لها نقلة وحملة، فهؤلاء الصادقون - إلا من وفقه الله منهم بعنايته الإلهية -
يكون مثلهم كمثل والدة حنون يلذ لها غذاء فتفيض منه على ولدها وهو رضيع
ليساهمها في اللذة وسنه سن اللبان لا يقبل سواه فيسرع إليه المرض وينتهى به إلى
التلف؛ فتكون منزلتهم من الأمة منزلة الآلة المحللة يشتتون بقية الجمع ويبددون
أخريات الالتئام. إن كان الفساد أبقى للقوم بعض الروابط فهؤلاء المغرورون
يغشونهم بما يذهلهم عنها، وما قصدوا إلا خيرًا إن كانوا مخلصين ويوسعون بذلك
الخصاص (الخرْق في باب ونحوه) حتى تعود أبوابًا، ويباعدون ما بين الضفاف
حتى تصير ميادين لتداخل الأجانب تحت اسم النصحاء وعنوان المصلحين،
ويذهبون بأمتهم إلى الفناء والاضمحلال وبئس المصير.
شيد العثمانيون والمصريون عددًا من المدارس على النمط الجديد، وبعثوا
بطوائف منهم إلى البلاد الغربية؛ ليحملوا إليهم ما يحتاجون له من العلوم والمعارف
والصنائع والآداب وكل ما يسمونه تمدنًا، وهو في الحقيقة تمدن للبلاد التي نشأ فيها
على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني ، هل انتفع المصريون والعثمانيون بما
قدموا لأنفسهم من ذلك، وقد مضت عليهم أزمان غير قصيرة، هل صاروا أحسن
حالاً مما كانوا عليه قبل التمسك بهذا الحبل الجديد، هل استنقذوا أنفسهم من أنياب
الفقر والفاقة؟ هل نجوا بها من ورطات ما يلجئهم إليه الأجانب بتصرفاتهم؟ هل
أحكموا الحصون وسدوا الثغور؟ هل نالوا بها من المَنَعَة ما يدفع عنهم غارة
الأعداء عليهم؟ هل بلغوا من البصر بالعواقب والتصرف في الأفكار حدًّا يميل
عزائم الطامعين عنهم؟ هل وجدت فيهم قلوب مازجتها روح الحياة الوطنية، فهي
تؤثر مصلحة البلاد على كل مصلحة وتطلبها وإن تجاوزت محيط الحياة الدنيا وإن
بادت في سبيلها خلفها وراث على شاكلتها كما كان في كثير من الأمم؟
نعم ربما يوجد بينهم أفراد يتفيهقون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية وما
شاكلها، ويصوغونها في عبارات متقطعة بتراء لا تعرف غايتها ولا تعلم بدايتها
ووسموا أنفسهم بزعماء الحرية أو بِسِمَةٍ أخرى على حسب ما يختارون، ووقفوا
عند هذا الحد، ومنهم آخرون عمدوا إلى العمل بما وصل إليهم من العلم فقلبوا
أوضاع المباني والمساكن، وبدلوا هيئات المآكل والملابس والفرش والآنية وسائر
الماعون، وتنافسوا في تطبيقها على أجود ما يكون منها في الممالك الأجنبية
وعدُّوها من مفاخرهم وعرضوها معرض المباهاة؛ فنسفوا بذلك ثروتهم إلى غير
بلادهم، واعتاضوا عنها أعراض الزينة مما يروق منظره ولا يحمد أثره، فأماتوا
أرباب الصنائع من قومهم، وأهلكوا العاملين في المهن لعدم اقتدارهم أن يقوموا بكل
ما تستدعيه تلك العلوم الجديدة والكماليات الجديدة؛ لأن مصانعهم لم تتحول إلى
الطراز الجديد وأيديهم لم تتعود على الصنع الجديد وثروتهم لا تسع جلب الآلات
الجديدة من البلاد البعيدة، وهذا جدع لأنف الأمة يشوه وجهها ويحط بشأنها، وما
كان هذا إلا لأن تلك العلوم وضعت فيهم على غير أساسها وفجأتهم قبل أوانها
…
علمتنا التجارب ونطقت مواضي الحوادث بأن المقلدين من كل أمة المنتحلين
أطوار غيرها يكوِّنون فيها منافذ وكوًى لتطرق الأعداء إليها، وتكون مداركهم
مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين
قلدوهم، واحتقار من لم يكن على مثالهم شُؤْمًا على أبناء أمتهم يذلونهم ويحقرون
أمرهم ويستهينون بجميع أعمالهم وإن جلَّت، وإن بقي في بعض رجال الأمة من
الشمم أو النزوع إلى معالي الهمم انصبوا عليه وأرغموا من أنفه حتى يمحى أثر
الشهامة وتخمد حرارة الغيرة، ويصير أولئك المقلدون طلائع لجيوش الغالبين
وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل ويفتحون الأبواب، ثم يثبتون أقدامهم ويمكنون
سلطتهم، ذلك بأنهم لا يعلمون فضلاً لغيرهم، ولا يظنون أن قوة تغالب قواهم.
أقول ولا أخشى لومًا: لو كان في البلاد الأفغانية عدد قليل من تلك الطلائع
عندما تغلب على بعض أراضيها الإنكليز لما بارحوها أبد الآبدين، فإن نتيجة العلم
عند هؤلاء ليست إلا توطيد المسالك والركون إلى قوة مقلديهم واستقبال مشارق
فنونهم، فيبالغون في تطمين النفوس وتسكين القلوب حتى يزيلوا الوحشة التي قد
يصون بها الناس حقوقهم ويحفظون بها استقلالهم، ولهذا لو طرق الأجانب أرضًا
لأية أمة ترى هؤلاء المتعلمين فيها يقبلون عليهم ويعرضون أنفسهم لخدمتهم بعد
الاستبشار بقدومهم، ويكونون بطانة لهم ومواضع لثقتهم كأنما هم منهم، ويعدون
الغلبة الأجنبية في بلادهم مباركة عليهم وعلى أعقابهم.
فما الحيلة وما الوسيلة والجرائد بعيدة الفائدة ضعيفة الأثر لو صحت الضمائر
فيها؟ والعلوم الجديدة لسوء استعمالها رأينا ما رأينا من آثارها والوقت ضيق والخطب
شديد؟ أي جهوري من الأصوات يوقظ الراقدين على حشايا الغفلات؟ أي قصفة
تزعج الطباع الجامدة وتحرك الأفكار الخامدة؟ أي نفخة تبعث هذه الأرواح في
أجسادها وتحشرها إلى مواقف صلاحها وفلاحها؟ الأقطار فسيحة الجوانب، بعيدة
المنكب والمواصلات عسرة بين الشرقي والغربي والجنوبي والشمالي، الرءوس
مطرقة إلى ما تحت القدم أو منغضة إلى ما فوق السماء، ليس للأبصار جولان إلى
الأمام والخلف واليمين والشمال ولا للأسماع إصغاء ولا للنفوس رغبات. وللأهواء
تحكم وللوساوس سلطان
…
ماذا يصنع المشفقون على الأمة والزمن قصير؟ ماذا
يحاولون والأخطار محدقة بهم؟ بأي سبب يتمسكون ورسل المنايا على أبوابهم؟
لا أطيل عليك بحثًا، ولا أذهب بك في مجالات بعيدة من البيان، ولكني
أستلفت نظرك إلى سبب يجمع الأسباب ووسيلة تحيط الوسائل، أرسل طرفك إلى
نشأة الأمة التي خملت بعد النباهة، وضعفت بعد القوة، واستُرقَّت بعد السيادة،
وضيمت بعد المنعة، وتبين أسباب نهوضها الأول حتى نتبين مضارب الخلل
وجراثيم العلل، فقد يكون ما جمع كلمتها وأنهض همم آحادها ولحم ما بين أفرادها
وصعد بها إلى مكانة تشرف منها على رؤوس الأمم وتسوسهم، وهي في مقامها
بدقيق حكمتها - إنما هو دين قويم الأصول محكم القواعد شامل لأنواع الحكم باعث
على الألفة، داع إلى المحبة، مُزَكٍّ للنفوس مطهر للقلوب من أدران الخسائس،
منور للعقول بإشراق الحق من مطالع قضاياه، كافل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من
مباني الاجتماعات البشرية، وحافظ وجودها، وينادي بمعتقديه إلى جميع فروع
المدنية، فإن كانت هذه شرعتها، ولها وردت وعنها صدرت فما تَراه من عارض
خَللها وهبوطها عن مكانتها، إنما يكون من طرح تلك الأصول ونبذها ظهريًّا،
وحدوث بدع ليست منها في شيء، أقامها المعتقدون مقام الأصول الثابتة، وأعرضوا
عما يرشد إليه الدين وعما أتى لأجله، وما أعدته الحكمة الإلهية له - حتى لم يبق منه
إلا أسماء تُذْكَر وعبارات تُقْرَأ، فتكون هذه المحدثات حجابًا بين الأمة وبين الحق
الذي تشعر بندائه أحيانًا بين جوانحها
…
فعلاجها الناجح إنما يكون برجوعها إلى
قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية
بتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق وإيقاد نيران الغيرة، وجمع الكلمة وبيع الأرواح
لشرف الأمة؛ ولأن جرثومة الدين متأصلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة،
والقلوب مطمئنة إليه، وفي زواياها نور خفي من محبته فلا يحتاج القائم بإحياء
الأمة إلا إلى نفخة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح لأقرب وقت، فإذا قاموا
لشؤونهم ووضعوا أقدامهم على طريق نجاحهم، وجعلوا أصول دينهم الحقة نصب
أعينهم فلا يعجزهم بعدُ أن يبلغوا بسيرهم منتهى الكمال الإنساني
…
ومن طلب
إصلاح أمة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه فقد ركب بها شططًا، وجعل النهاية
بداية، وانعكست التربية، وخلف فيها نظام الوجود؛ فينعكس عليه القصد ولا يزيد
الأمة إلا نحسًا، ولا يكسبها إلا تعسًا.
هل تعجب أيها القارئ من قولي: إن الأصول الدينية الحقة المبرأة عن
محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف على لذة
الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف، وتنتهي بها إلى
أقصى غاية في المدنية؟ إن عجبت فإن عجبي من عجبك أشد، هل نسيت تاريخ
الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات وإتيان الدنايا
والمنكرات، حتى إذا جاءها الدين فوحَّدها وقوَّاها وهذَّبها ونوَّر عقولها، وقوَّم
أخلاقها، وسدَّد أحكامها؛ فسادت على العالم، وساست من تولته بسياسة العدل
والإنصاف، وبعد أن كانت عقول أبنائها في غفلة عن لوازم المدنية ومقتضياتها
نبهتها شريعتها وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها، ونقلوا إلى
بلادهم طب بقراط وجالينوس وهندسة إقليدس وهيئة بطليموس وحكمة أفلاطون
وأرسطو، وما كانوا قبل الدين في شيء من هذا، وكل أمة سادت تحت هذا اللواء
إنما كانت قوتها ومدنيتها في التمسك بأصول دينها.
وقد تكون نشأة الأمة قائمة بدعوة الملك وافتتاح الأقطار وطلب السيادة على
الأمصار، وتلك الدعوة لما تستدعيه من عظم الهمم وارتفاع النفوس عن الدنايا وبعد
الغايات وعلو المقاصد هي التي هذَّبت أخلاقهم، وقوَّمت أفكارهم، وكفتهم عن
معاطاة الرذائل وخسائس الأمور وسوافلها، ثم بعد ما مضى زمان من نشأتها أصابها
من الانحطاط ما أصابها، فبيان أسباب الخلل فيها وعلاته نفرد له فصلاً مستقلاًّ في
عدد آخر إن شاء الله، وهو الموفق للصواب.
_________
(1)
نشرنا هذه المقالة في المجلد الأول من المنار ونعيد نشرها الآن؛ لما فيها من التذكير الذي
يجب أن لا يُنسى، والعنوان لنا.
الكاتب: أبو حامد الغزالي
سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين
(تابع لما في الجزء السابع وما قبله)
قال في الإحياء: وعن أبي عمران الجوني قال: لما ولي هارون الرشيد
الخلافة زاره العلماء فهنأوه بما صار إليه من أمر الخلافة؛ ففتح بيوت الأموال
وأقبل يجزيهم بالجوائز السنية، وكان قبل ذلك يجالس العلماء والزهاد، وكان يظهر
النسك والتقشف، وكان مواخيًا لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري قديمًا فهجره
سفيان ولم يزره؛ فاشتاق هارون إلى زيارته ليخلو به ويحدثه فلم يزره ولم يعبأ
بموضعه ولا بما صار إليه، فاشتد ذلك على هارون فكتب إليه كتابًا يقول فيه:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان
ابن سعيد بن المنذر أما بعد، ياأخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين
المؤمنين، وجعل ذلك فيه وله، واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبك ولم
أقطع منها ودك، وأني مُنْطَوٍ لك على أفضل المحبة والإرادة، ولولا هذه القلادة
التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوًا لما أجد لك في قلبي من المحبة، واعلم يا أبا عبد
الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهنأني بما صرت إليه،
وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتهم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به
عيني، وإني استبطأتك فلم تأتني، وقد كتبت إليك كتابًا شوقًا مني إليك شديدًا، وقد
علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته، فإذا ورد عليك
كتابي فالعجل العجل) .
فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده فإذا كلهم يعرفون سفيان الثوري وخشونته
فقال: علي برجل من الباب، فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني فقال: يا عباد
خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور، ثم سل عن
سفيان الثوري، فإذا رأيته فألق كتابي هذا إليه، وعِ بسمعك وقلبك جميع ما
يقول، فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به. فأخذ عباد الكتاب وانطلق به
حتى ورد الكوفة، فسأل عن القبيلة فأرشد إليها، ثم سأل عن سفيان فقيل له: هو في
المسجد، قال: فأقبلت إلى المسجد، فلما رآني قام قائمًا وقال: أعوذ بالله السميع
العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير، قال عباد:
فوقعت الكلمة في قلبي فخرجت، فلما رآني نزلت بباب المسجد قام يصلي ولم يكن
وقت صلاة؛ فربطت فرسي بباب المسجد ودخلت، فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا
رؤوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما
رفع أحد رأسه وردوا السلام عليَّ برؤوس الأصابع، فبقيت واقفًا فما منهم أحد يعرض
عليَّ الجلوس، وقد علاني من هيبتهم الرعدة، ومددت عيني إليهم فقلت: إن
المصلي هو سفيان، فرميت بالكتاب إليه فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه كأنه حية
عرضت له في محرابه؛ فركع وسجد وسلَّم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه
فقلبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال يأخذه بعضكم يقرؤه؛ لأني أستغفر الله أن
أمس شيئًا مسه ظلَاّم بيده، قال عباد: فأخذه بعضهم فحله كأنه خائف من فم حية
تنهشه ثم فضه وقرأه وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب، فلما فرغ من قراءته قال:
اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة فلو
كتبت إليه في قرطاس نقي، فقال: اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فإن كان اكتسبه
من حلال فسوف يُجْزَى به وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يَصْلَى به ولا يبقى
شيء مسه ظالم عندنا فيفسد علينا ديننا، فقيل له: ما تكتب، فقال: اكتبوا.
(بسم الله الرحمن الرحيم من العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري
إلى العبد المغرور بالآمال هارون الرشيد الذي سُلِبَ حلاوة الإيمان. أما بعد، فإني
قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك، فإنك
قد جعلتني شاهدًا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت
مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه، ثم لم ترضَ بما فعلته
وأنت ناءٍ عني حتى كتبت إليَّ تشهدني على نفسك، أما إني قد شهدت عليك أنا
وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة عليك غدًا بين يدي الله تعالى،
يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة
قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟
أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والأرامل والأيتام؟ أم هل رضي بذلك خلق
من رعيتك؟ فشدَّ يا هارون مئزرك وأَعِدَّ للمسألة جوابًا وللبلاء جلبابًا، واعلم أنك
ستقف بين يدي الحَكَم العَدْل فقد رُزِئْتَ في نفسك إذ سُلِبْتَ حلاوة العلم والزهد ولذيذ
القرآن ومجالسة الخيار ورضيت لنفسك أن تكون ظالمًا وللظالمين إمامًا. يا هارون
قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت سترًا دون بابك وتشبهت بالحجبة
برب العالمين ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك يظلمون الناس ولا
ينصفون، يشربون الخمور ويضربون من يشربها، ويزنون ويحُدُّون الزاني،
ويسرقون ويقطعون السارق، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها
على الناس؟ فكيف بك يا هارون غدًا إذا نادى المنادي من قِبَل الله تعالى:
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات: 22) أين الظلمة وأعوان الظلمة؟
فقدمت بين يدي الله تعالى ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك،
والظالمون حولك وأنت لهم سابق وإمام إلى النار، كأني بك يا هارون وقد أخذت
بضيق الخناق ووردت المشاق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات
غيرك في ميزانك زيادة على سيئاتك بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة. فاحتفظ
بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها، واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك
في النصح غاية، فاتق الله يا هارون واحفظ محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمته،
وأحسن الخلافة عليهم، واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك، وهو
صائر إلى غيرك، وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحدًا بعد واحدٍ، فمنهم من تزود زادًا
نفعه ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه
وآخرته، فإياك أن تكتب لي كتابًا بعد هذا فلا أجيبك عنه ، والسلام) .
قال عَبَّادٌ: فألقى إليَّ الكتاب منشورًا غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت
إلى سوق الكوفة وقد وقعت الموعظة من قلبي، فناديت: يا أهل الكوفة، فأجابوني،
فقلت لهم: يا قوم من يشتري رجلاً هرب من الله إلى الله؟ فأقبلوا إليَّ بالدنانير
والدراهم فقلت: لا حاجة لي في مال ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية، قال:
فأوتيت بذلك ونزعت ما كان علي من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين،
وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أحمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين
هارون حافيًا راجلاً فهزأ بي من كان على باب الخليفة، ثم استؤذن لي فلما دخلت
عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد، ثم قام قائمًا وجعل يلطم رأسه ووجهه
ويدعو بالويل والحزن ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسِل ما لي وللدنيا ما لي
ولملك يزول عني سريعًا، ثم ألقيت الكتاب إليه منشورًا كما دفع إلي فأقبل هارون
يقرأه ودموعه تنحدر من عينه، ويقرأ ويشهق، فقال بعض جلسائه: يا أمير
المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن
كنت تجعله عبرة لغيره، فقال هارون: اتركونا يا عبيد الدنيا، المغرور مَنْ
غررتموه، والشقي من أهلكتموه، وإن سفيان أمة وحده، فاتركوا سفيان وشأنه. ثم
لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هارون يقرأه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله.
فرحم الله عبدًا نظر لنفسه واتقى الله في ما يقدم عليه غدًا من عمله فإنه عليه يحاسب
وبه يجازى، والله ولي التوفيق.
وعن عبد الله بن مهران قال: حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أيامًا، ثم
ضرب بالرحيل فخرج الناس وخرج بهلول المجنون فيمن خرج، فجلس بالكناسة
والصبيان يؤذونه ويولعون به إذ أقبلت هوادج هارون، فكف الصبيان عن الولوع
به، فلما جاء هارون نادى بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين. فكشف هارون السجاف
بيده عن وجهه، فقال: لبيك يا بهلول، فقال: يا أمير المؤمنين حدثنا أيمن بن نائل
عن قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منصرفًا من
عرفة على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك، وتواضعك في سفرك
هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك وتجبرك. قال: فبكى هارون حتى سقطت
دموعه على الأرض، ثم قال: يا بهلول زدنا رحمك الله، قال: نعم يا أمير
المؤمنين، رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق من ماله، وعف في جماله، كُتب في
خالص ديوان الله تعالى مع الأبرار، قال: أحسنت يا بهلول، ودفع له جائزة فقال:
اردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها، قال: يا بهلول فإن كان عليك
دين قضيناه، قال: يا أمير المؤمنين هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون قد اجتمعت
آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز، قال: يا بهلول فنجري عليك ما يقوتك أو
يقيمك، قال: فرفع بهلول رأسه إلى السماء، ثم قال: يا أمير المؤمنين أنا وأنت
من عيال الله فمحال أن يذكرك وينساني، قال: فأسبل هارون السجاف ومضى.
(ثم قال في الإحياء بعد نصيحة للمأمون) :
وعن أحمد بن إبراهيم المقري قال: كان أبو الحسن النوري رجلاً قليل
الفضول لا يسأل عما لا يعنيه، ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكرًا
غَيَّرَه ولو كان فيه تلفه، فنزل ذات يوم إلى مشرعة [1] تعرف بمشرعة الفحامين،
يتطهر للصلاة إذ رأى زورقًا فيه ثلاثون دَنًّا مكتوب عليها بالقار: (لطف) فقرأه
وأنكره؛ لأنه لم يعرف في التجارات ولا في البيوع شيئًا يعبر عنه بلطف، فقال:
للملاح: إيش في هذه الدنان؟ قال: وإيش عليك امض في شغلك. فلما سمع النوري
من الملاح القول ازداد تعطشًا إلى معرفته، فقال له: أحب أن تخبرني إيش في
هذه الدنان، قال وإيش عليك، أنت والله صوفي فضولي هذا خمر للمعتضد، يريد
أن يتمم به مجلسه. فقال النوري: وهذا خمر؟ قال: نعم، قال: أحب أن تعطيني
ذلك المدرى. فاغتاظ الملاح عليه وقال لغلامه: أعطه حتى أنظر ما يصنع، فلما
صارت المدرى في يده صعد إلى الزورق ولم يزل يكسرها دنا دنا حتى أتى على
آخرها إلا دنا واحدًا والملاح يستغيث إلى أن ركب صاحب الجسر [2] ، وهو يومئذ
ابن بشر أفلح فقبض على النوري وأشخصه إلى حضرة المعتضد، وكان المعتضد
سيفه قبل كلامه، ولم يشك الناس في أنه سيقتله. قال أبو الحسن: فأُدْخِلْتُ عليه
وهو جالس على كرسي حديد وبيده عمود يقلبه، فلما رآني قال: من أنت قلت:
محتسب [3]، قال: ومن ولَاّك الحسبة، قلت: الذي ولَاّك الإمامة ولَاّني الحسبة يا
أمير المؤمنين، قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إليَّ، وقال: ما الذي
حملك على ما صنعت؟ فقلت: شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه
عنك قد قصرت عنه، قال: فأطرق مفكرًا في كلامي، ثم رفع رأسه إليَّ وقال:
كيف تخلص هذا الدن الواحد من جملة الدنان؟ فقلت: في تخلصه علة أخبر بها أمير
المؤمنين إن أذن، فقال: هات أخبرني، فقلت: يا أمير المؤمنين إني أقدمت على
الدنان بمطالبة الحق سبحانه لي بذلك، وغمر قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف
المطالبة فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه الحالة إلى أن صرت إلى هذا
الدن فاستشعرتْ نفسي كبرًا على أني أقدمت على مثلك. فمنعت، ولو أقدمت عليه
بالحال الأول وكانت ملء الدنيا دنان لكسرتها ولم أبال، فقال المعتضد: اذهب فقد
أطلقنا يدك، غَيِّرْ ما أحببت أن تغيره من المنكر، قال أبو الحسن: فقلت: يا أمير
المؤمنين بَغُضَ إليَّ التغيير؛ لأني كنت أغير عن الله تعالى وأنا الآن أغير عن
شرطي، فقال المعتضد: ما حاجتك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين تأمر بإخراجي سالمًا،
فأمر له بذلك، وخرج إلى البصرة فكان أكثر أيامه بها خوفًا من أن يسأله أحد حاجة
يسألها المعتضد، فأقام بالبصرة إلى أن توفي المعتضد ثم رجع إلى بغداد.
فهذه كانت حالة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة
مبالاتهم بسطو السلاطين، لكنهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا
بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة. فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب
القاسية فَلَيَّنَهَا وأزال قساوتها، وأما الآن فقيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن
تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا،
ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء
حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل
فكيف على الملوك والأكابر؟ والله المستعان على كل حال اهـ.
(المنار)
هذا كلام الإمام الغزالي في ملوك عصره وعلمائه وهم الذين يفتخر أهل هذا
العصر بهم، فكيف حال ملوك عصرنا وعلمائه والذين أضاعوا الدنيا والدين،
وجعلوا المسلمين بظلمهم وفسادهم في أسفل سافلين؟ ولا نطيل هنا في وصفهم
فحسبك ما تقرأ في المقال الآتي، ولكننا نقول: إن الزمان لا يخلو من العلماء
المخلصين، وهؤلاء هم الذين ندعوهم إلى نصيحة ملوكنا وأمرائنا قبل أن يضيعوا
هذه البقية القليلة التي بقيت لنا، فالخطر قريب إن لم يتداركوه نزل، والعياذ بالله
تعالى.
_________
(1)
مورد ماء.
(2)
أي الحاكم المُوَلَّى من الخليفة وهو كالمحافظ في مصر.
(3)
المحتسب هو من يزيل المنكرات كالبوليس.