الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
رأي في اللغة العربية
وأغلاط الكُتَّاب
وَعَدْنا في الجزء الماضي أن نبيِّن شيئًا مما خالف القياس فيه جبر أفندي
ضومط تساهلاً في القياس وحبًّا في سعته لا جهلاً ولا ضعفًا في اللغة وفنونها،
وإننا نقول قبل أن نورد ما لا مَنْدُوحَة لنا عن إيراده: إن مثل هذه المخالفة والخطأ
مما نراه في كلام جميع كتاب العصر الذي نطلع عليه ولا أستثني النقادين الذين
بذلوا جُلَّ عنايتهم في التحرير والتصحيح، وأنا أُقرُّ بأنني كثيرًا ما أراجع بعض
مباحث المنار السابقة فأجد فيها من الغلط ما أعلم أن عِلَّته السهو العارض أو الجهل
السابق، لا مجرد تحريف الطبع، وأكثر ما يقع لنا من ذلك استعمال كلمة عامية أو
جمع غير قياسي أو تعدية فعل بما لم تُعَدّه به العرب، ونحو ذلك مما يكثر في
الجرائد والمطبوعات العصرية ونقرأه كل يوم فيعلق منه بأذهاننا ما يعلق على
انتقادنا له فسبق إلى أقلامنا، أعتذر بهذا عن نفسي وعن غيري من العارفين باللغة،
وأَنَّي لمثلي أن يسلم من مثل هذه الأغلاط الفاشية، وهو ممن يكتب المقال فيلقيه
إلى عمال المطبعة ورقة ورقة من غير أن يعيد إليه النظر أو يقرأ منه سطرًا ابتغاء
التصحيح والتحرير، وأما تصحيح الطبع فإنه يشغل صاحبه عن كل ما عداه حتى
لا يكاد المصحح يفهم ما يقرأ، كأن قوة ذهنه كلها توجهت إلى النظر في صور الكلم
ومحاولة تطبيقها على الأصل الذي طبع المثال الذي يراد تصحيحه عنه.
أقول: إنني لم أسلَم من الغلط ولم أر أحدًا من كُتَّاب العصر سلم منه، ولكن
أصحاب الملكات القوية والاطلاع الواسع في اللغة يقل غلطهم جدًّا، حتى إن العالم
النقاد لَيقرأ لأحدهم عدة فصول لا يجد فيها غلطة، وهؤلاء قليلون في كُتابنا اليوم
وأكثر منهم من لا تقرأ لأحدهم بضعة أسطر إلا ويعثر ذهنك بغلطة، ويرتبك فهمك
عند جملة، ولا أرى من الصواب إضاعة الوقت في الانتقاد على هؤلاء ولكن
الانتقاد على هفوات الكُتاب البارعين والعلماء الراسخين، وعلى المتوسطين بينهم
وبين أولئك المتطفلين، هو الذي يُحْيِي اللغة ويرقى بها إلى أعلى علّيين، وإعلاء
شأن اللغة واجب في نفسه لا ينسخه وجوب انتقاد المصنفات من جهة موضوعها
ومسائلها، فإذا قام بهذا قوم وبهذا آخرون رُجي لنا أن نرتقي في العلوم وفي اللغة
التي تؤدى بها العلوم، ولكن جبر أفندي لا يحفل بانتقاد اللغة بل يكتفي بأن يكون ما
يكتب مما فهمه القارئ، وإن مُزج بالألفاظ العامية التي ليست من اللغة وبالأغلاط
النحوية وأَبَقَ من أساليب العرب، وهذا هو ما ننتقده عليه، ونقول: إنه يجب على
كل كاتب أن يتبع أئمة اللغة وفنونها فيما قرروه فلا يقيس على السماعي، ولا يخرج
في القياس عن حدوده، ولا يدخل الكلمات العامية المحضة في كتابه ولا بأس بغير
المحضة وهو ما كان عربي الأصل، وهو أكثر كلامهم على تحريف فيه يسهل
تصحيحه، ذلك أن التساهل وتَرْك الأمر فوضى للكاتبين بدعوى العناية بالمعاني
مما يفسد اللغة بما يجرئ الجهلاء والضعفاء على التأليف مع كثرة غلطهم ودخيلهم
ويثني همة غيرهم عن التحصيل والإتقان.
يرى جبر أفندي ضومط أن هذا التساهل مما نحتاج إليه ونحن نمنع ذلك على
إطلاقه كما علم من الجزء الماضي، وإنما نريد إيراد بعض ما وقع له من الخطأ
وإن كان لا يكاد يسلم منه أحد منا لنبين أنه لا حاجة إليه، فيقال: ينبغي أن نجيزه
للحاجة، وأن في الصواب الذي لا نزاع فيه مندوحة عنه، وليعلم الذين ينتقدون
بعض عباراته في كتبه أن جُلَّ ما يرونه فيها خطأ يراه هو صوابًا، فهو لم يأته عن
جهل (حاشاه من ذلك) ، فلا أريد بما أورده من الأمثلة تحرير مسائلها والجزم بأنه
لا يمكن تأويل شيء منها، إنْ أريد إلا أنه خالف القياس المعروف لمحض التساهل
من غير حاجة إليه.
أول ما خطر في بالي مما انتقد في كتبه قاعدته التي بنى عليها كتاب فلسفة
البلاغة وهي على ما أذكر (الاقتصاد على فهم السامع) ، فالاقتصاد لا يتعدى بعلى
والمعنى المراد من القاعدة لا يفهم منها بذاتها بل بما شرحها به، ولو قال: التوفير
بدل الاقتصاد لكانت العبارة صحيحة؛ إذ يقال وفر عليه وإن لم تَخْلُ من توسع في
إفادة المعنى المراد وهو مما يعهد في المواضعات، بل لو قال: (القصد في كد ذهن
السامع) لَتم له ما أراد، ولم يُعدَّ الفعل بما لا يُتعدَّى إليه في لغة العرب فكل عالم
باللغة يفهم هذه العبارة لأول وهلة من غير كد للذهن ولكن عبارته لا تكاد تفهم مع
كد الذهن إلا بعد الوقوف على ما فسرها به، فما لا خطأ فيه هو الذي يتفق مع القاعدة
ومثله من يعلم أن اقتصد لا يتعدى بعلى، ولكنه التساهل الذي اتخذه مذهبًا.
ومن مخالفة القياس في مقالته (انتقاد فتاة مصر) قوله: (كما في ص من 545 المقتطف) : والتقحّم فيها على الخراب. لا يقال في اللغة: تقحّم عليه
كما يقال هجم عليه، وإنما قالوا: تقحّم الفرس بصاحبه:إذا نَدَّ به، فلم يضبط
رأسه وإذا ألقاه راكبه، فكان ينبغي أن يقول: وتقحَّما أو تقحَّمها بنا في الخراب.
ومنها قوله في ابتداء كلام: (أولاً الانتقاد النحوي) ثم قوله: (ثانيًا
الانتقاد البياني) إلخ وهو يكثر من مثل هذه في كتبه تساهلاً في مجاراة كُتاب
الجرائد وأمثالهم، وهذا غير معهود في الكلام العربي الصحيح أو الفصيح، ولا
يمكن إعرابه إلا بتكلف لا حاجة إليه لمكان الاستغناء عنه بقولنا: (الأول كذا.
الثاني كذا) وقد استعمله في أثناء الكلام كما يستعملونه، ومنه قوله: (في ص
545) وفيه مثال آخر:
وإنها أجدر كتاب لحدّ الآن يَحْسُن بنا أن نضعه في أيدي شباننا وطلبة مدارسنا
يقرءونه أولاً لما فيها من حسن الأسلوب ودقة التعبير إلخ، وإنني أجزم بأنه لولا
رأيه الذي ذكرت لما سقط من قلمه مثل هذه الجملة التي لا تكاد تنطبق على قاعدته
فيما أرى، ولا أظن أن العالم بالعربية في الهند وبخارى وروسيا وتركيا يفهمها
كما يفهمها من أَلِفَ هذا الأسلوب، واعتاد قراءة مثله من سوري ومصري.
ومنها ابتداؤه الكلام بالعطف كقوله: (وأكثر كتابنا) وإدخال (قد) على الفعل
المنفي كقوله: (قد لا يعد، قد لا يعقل، قد لا تخلو) وكان يمكنه أن يستغني عن
الواو ويستبدل (ربما) بقد؛ لإفادة التقليل،ولكنه يكتفي باستعمال الناس مجوزًا،وقد
استعمل المَناطقة قد مع النفي في القضايا الشرطيَّة السالبة،وهو يحتج بمن دونهم
في الاستعمال كابن الفارض وابن عابدين.
ومن المفردات قوله في ص 547: (صفِّيف الأحرف) وكلمة صفِّيف لم
يتفق عليها عمال المطابع فنقول: إنه اتبع العرف وإن كان عاميًّا، ولا هي من
الكلمات التي لا يوجد في العربية ما يغني عنها؛ إذ يمكن أن يقال مُرتِّب الحروف
أو جامع الحروف، وعامة المصريين يقولون جمِّيع، ومنهم من يكتبها جمَّاع
بصيغة المبالغة. ومنها قوله: في ص 552: (مقاسة) والصواب: مقيسة،
ولعل هذا من السهو أو غلط الطبع ومثله قوله ص 554: يصوغ بالصاد.
وأما الألفاظ التي صححها وتَمحَّل لجَعْلها قياسية فلا حاجة إلى استعمال تكاتفوا
منها مع كثرة ما ورد في معناها، وقوله في تعليل قياسها على تظاهروا: إن وضع
الكتف للكتف في التعاون أقرب للفهم؛ لأنه أكثر مشاهدة من وضع الظهر للظهر -
فيه نظر؛ إذ لا نسلم أن معنى تظاهروا في الأصل وَضَعَ كلٌّ ظهره إلى ظهر
الآخر والأظهر أن معناه كان كل منهم ظهيرًا للآخر أي معينًا،والظهير: المعين
والقوي الظهر، ولعل هذا هو الأصل، ولمَّا كان قوي الظهر من الإبل والدواب مما
يعتمد عليه في الإعانة سمي المعين ظهيرًا، ويجوز أن يكون من المظاهرة بين
الثوبين ونحوهما أي المطابقة بينهما؛ لأن المتظاهرَيْنِ يكونان كشيء واحد أو هو
من حماية الظهر وهو معهود عندهم فمعاونك يمنع عنك من ورائك وأنت تمنع عنه
من الأمام من حيث يمنع كل منكما عن نفسه، وهذا نحو جعله من وضع الظهر
للظهر ولكنه أظهر في التعاون، ومَنْ ماشاك كتفًا إلى كتف لا يُفْهم من مُماشاته لك
أنه يمنع عنك ويعاونك كما يفهم مما تقدم.
وما قاله أيضًا في تصحيح استعمال لفظ العائلة بمعنى الآل أو العشيرة غير
ظاهر فإن العائلة وصف لمحذوف معروف، أي الجماعة التي تعقل إبل الدية عن
القاتل من عشيرتها، فإذا كانت العائلة مِنْ عال عياله بمعنى كفاهم معاشهم ومُؤَنهم
يكون معنى الكلمة: الجماعة العائلة،أي المنفقة، وإنما المنفق هنا واحد وهو العائل
والمُنْفََقُ عليهم هم الجماعة أي العيال ومثل هذا يقال في تعليله الآخر، ولو قيل:
إن الكلمة محرَّفة عن العاقل بإبدال القاف همزة كدأب العوامّ لم يكن بعيدًا.
هذا ما يأتي به التساهل وهو إذا كان سهلاً في نفسه، ويمكن تأويل بعضه فهو
عظيم من عالم يعد من أوسع علماء اللغة اطلاعًا في هذا العصر، فماذا نقول في
كتابة جماهير المعاصرين الذين لا نكاد نفهم كلامهم لولا معرفتنا باللغة العامية؟ على
أن منه ما لا يفهم منه الغرض المجمل إلا بمعونة القرائن، فإذا كان صديقنا يجعل
المعيار في جيد الكتابة ورديئها فَهْم القارئ فعليه أن لا ينسى أن العبرة بالقارئ
العارف بالعربية الصحيحة المدونة المقروءة دون العامية التي تختلف باختلاف
البلاد، فإذا كان فَهْم المصري لا يقف في فَهْم قول بعض الكُتَّاب في بعض الصحف
(المرأة التي عندها أطول شَعْر من غيرها) فإن فَهْم الحجازي والنجدي والعراقي
وكذا الأناطولي والقوقاسي ونحوهما من الأعاجم الذين تعلموا اللغة من الكتب، لا
يدرك المراد منه مهما كدَّ ذهنه، ولعل أقرب ما يخطر لأمثال هؤلاء بعد طول
التأمل أن معنى الجملة: (المرأة التي يوجد عندها في الدار مثلاً أطول شعر هو
من شعور غيرها لا من شعرها هي) وإنما أراد الكاتب أن يقول: (أطول النساء
شعرًا) فمن تأمل هذا جزم بأنه لا يجوز لنا أن نخالف القواعد والنقل في اللغة -
مفرداتها وجملها وأساليبها - إلا لضرورة يقدرها علماء هذا الشأن بقدرها. وإنني
أميل إلى مخالفة المتقدمين في بعض ما قالوا: إنه سماعي، ولكنني لا أجيز لنفسي
الانفراد بذلك واستعماله لغير ضرورة حتى يوفق الله علماء هذه اللغة لتأليف جمعية
تنهض بهذا العمل وعسى أن يكون ذلك قريبًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب مرجليوث
في النبي صلى الله عليه وسلم
ألف الدكتور مرجليوث الإنكليزي المستشرق كتابًا بِلُغته في سيرة النبي صلى
الله عليه وسلم قال في مقدمته: إنه يَعدّ النبي محمدًا من أعاظم الرجال وأنه حل
معضلة سياسية هي تكوين دولة عظيمة من قبائل العرب، وأنه يُجله ويؤدي له ما
يستحقه من التعظيم والتبجيل، ولا يقصد بتأليف كتابه الدفاع عنه، ولا إدانته كما
فعل غيره من كتاب المسلمين أو النصارى، فليس من غرضه تفضيل الدين
الإسلامي على غيره ولا تقبيحه والطعن فيه، ومَنْ علم أن هذا المؤلف عرف اللغة
العربية معرفة قلما يساويه أحد من الفرنج فيها، واطلع على كثير من كتب
المسلمين يظن أن فهمه للإسلام وتاريخه أدق من أفهامهم، فهو أجدر بالقدرة على
بيان الحقيقة؛ ولكن قراءة بعض ما كتب تكفي للذهاب بهذا الظن.
يحول بين الإفرنج وفهم الإسلام وتاريخه أمور إذا سَلِمَ بعضهم من بعضها
فيندر أن يسلم منها كلها أحد (منها) تأثير ما تربَّوْا عليه ونُشِّئوا فيه من كراهة
الإسلام واحتقار المسلمين تعصبًا لدينهم، ومَنْ خُتِمَ على شعوره ووجدانه من أول
نشأته بخاتم تعسَّر عليه فَضُّه، فإن هو فضه تعسر عليه محو أثره، وإن هو نزع
رِبْقَة التقليد، آوى إلى ركن الاستقلال الشديد، وناهيك إذا كانت حياته الاستقلالية
تؤيد ذلك الشيء لمصلحة سياسية، وهذا هو الأمر الثاني وبيانه أن حرص
الأوربيين على الفتوح والتغلب وشَرَههم في الكسب من الشرق، وما تُكنُّ صدورهم
من الضغن والحقد على جيرانهم من أهله، كل ذلك مما يصرف أبصارهم عن
محاسن الإسلام حتى لا يكاد يقع بها إلا على ما يمكن انتقاده، إلا أهل الإنصاف
الكامل الذين انسلخوا من تأثير التقاليد والسياسة، ووَجَّهوا كل عنايتهم إلى معرفة
الحقائق وقليل ما هم.
(ومنها) وهو الأمر الثالث سوء حال المسلمين في هذه القرون التي ارتفع
فيها شأن أوربا في السياسة والعلم والعمران فقد أمسى المسلمون حُجَّة على أنفسهم
وعلى دينهم كما بيَّنا ذلك مرارًا.
(ومنها) ما تعوَّدوه من الجراءة على الحكم في المسائل التاريخية وكل ما
هو غير محسوس بالقرائن الضعيفة واستنباط الأمر الكلي من أمر جزئي واحد،
واختراع العلل والأسباب للحوادث بمجرد الرأي والتحكم.
(ومنها) عدم إتقانهم لفهم اللغة العربية وفنونها اللغوية والشرعية؛ لأنهم لا
يتلقون كل فن عن الأساتذة الماهرين فيه، وقد ينبغ المحصل لبعض العلوم باجتهاده
دون التلقي عن الأساتذة المهرة حتى يبرز على كثير ممن تلقى ذلك العلم ويظهر
فضله عليهم، ثم هو يخطئ فيما لا يخطئ فيه مَنْ هو دونه في التحصيل من أهل
التلقي، وقد سمعت رجلاً من أَعْلَمِ المستشرقين بالعربية وأدقهم فهمًا لها يقول: إن
المسلمين يقدمون الحديث على القرآن، فأنكرت عليه ذلك فاحتج بكلام علي لابن
عباس رضي الله عنهما لما بعثوا للاحتجاج على الخوارج، وهو: لا تخاصمهم
بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون ولكن حاجّهم بالسُّنة فإنهم لن
يجدوا عنها محيصًا. اهـ. فقلت له: ليس المراد بالسُّنة هنا ما اصطلح عليه
المحدثون والفقهاء، وإنما المراد بالسنة الطريقة التي جرى عليها النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه في العمل، فهذه هي التي لا محيص عنها؛ لأنها لا تحتمل
التأويل ولا القال والقيل، وأما الأحاديث القولية فإن التأويل ينال منها كما ينال من
القرآن أو يكون أشد نَيْلاً، ومن ذلك تأويل عمرو بن العاص الحديث الناطق بأن
عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية بقوله: إنما قتله مَنْ أخرجه يعني عليًّا، فقال علي:
إذًا ما قتل حمزة إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي أخرجه، ولم نعلم أن
أحدًا من المسلمين قَويِّهم وضعيفهم متبعهم ومبتدعهم وَهِمَ من كلمة علي كرم الله
وجهه ما فهم هذا العالم المستشرق.
وجملة القول: أن المنصف من الأوربيين يعسر عليه أن يفهم الإسلام حق
فهمه بمجرد الوقوف على فنون العربية والاطلاع على كتبها، فما بالك بغير
المنصف وغير المتقن، وسترى فيما ننتقده على الدكتور مرجليوث أن السبب في
أكثر غلطه وخطئه في هذه السيرة هو التحكم في الاستنباط والقياس الجزئي وبيان
أسباب الحوادث، كما هو شأنهم في أخذ تاريخ الأقدمين من الآثار المكتشفة واللغات
المنسية، وأقله عدم فهم اللغة وإلا فهو من أعلمهم ومحبي الاعتدال فيهم، وإننا نبدأ
بخير قوله وأقربه من الصواب.
ذكرنا ما قال في مقدمة الكتاب من أنه يَعدُّ النبي محمدًا من أعظم الرجال إلخ.
ومما عده له من المآثر غير تكوين دولة عظيمة من قبائل العرب أمران
عظيمان أحدهما وجوب حسم المسائل التي تتعلق بسفك الدماء بغير الحرب،
والثاني أنه إذا ثارت الحرب يجب الحصول بسرعة على النتيجة لا أن تعاد الحرب
وتكرر دون جدوى (راجع ص 55) منه.
ومما اعترف به أن النبي كان صادق الكُرْه للشعر والسجع، قال: ولعل
السبب في ذلك أنه لم يتعلمهما ولم يكن للعرب من أساليب الإنشاء سواهما. قال هذا
في ص 60 وفيه رَدَّ على ما نقله في ص 55، عن ما يدور في قوله: إن أهل
البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلم اللغة وطلاقة اللسان في التعبير، وأنه إن صح ذلك
فلا يبعد أن النبي مارس هذا الفن حتى نبغ فيه، أقول: ولو كان النبي صلى الله
عليه وسلم عني بذلك أو مارسه لعُرِفَ ذلك ولظهر أثره في لسانه في سن الشباب
ولكن لم يًنقل عنه قبل النبوة شيء من ذلك قط، ولم يكن يوصف بالفصاحة والبلاغة
بل كان يوصف بالصدق والأمانة وأحاسن الأخلاق فقول المؤلف هو الصواب.
ومما خلط فيه الثناء بالانتقاد قوله (في ص 63) : إن النبي بين لقومه بيانًا
مؤكدًا أن الكسوف والخسوف لا يكونان لأجل امرئ مهما علا قدره، ولكنه مع ذلك
عدهما أمرًا ذا بال وأنشأ لهما صلاة مخصوصة. ونقول: إن في بيانه هذا منقبة
غير مجرد بيان الحقيقة وتطهير العقول من الوهم، وهي أنه لم يرض أن يعظم
شأنه بالباطل، فقد قال ذلك يوم مات ولده إبراهيم عليه السلام، وكَسَفَت الشمس
فظن الناس أنها كسفت لأجل موته، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الشمس
والقمر آيتان من آيات الله، أي من دلائل حكمته وقدرته كما بين ذلك في آيات من
كتابه كقوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) وأنهما لا يكسفان
لموت أحد ولا لحياته، والحديث في البخاري وغيره، وأما أمره بذكر الله والصلاة
عند الخسوف والكسوف، فذاك لأن أهم أغراض الدين التذكير بقدرة الله تعالى
وحكمته وتوجيه القلوب إليه بالشكر والدعاء، وتأثر القلوب بذلك عند حدوث مظاهر
القدرة والحكمة والنظام،أقوى وأكمل؛ ولذلك كانت مواقيت الصلوات الخمس متعلقة
بما يحدث من التغيير في الطبيعة كل يوم وليلة كطلوع الفجر وزوال الشمس وميلها
وغروبها وزوال أثر ضوئها بمغيب الشفق؛ ولذلك شُرع الذكر والدعاء أيضًا عند
نزول المطر، فالدين يرشد الناس إلى ذكر الله تعالى عند كل حادث يذكِّر بقدرته
وحكمته كيلا ينسوه فتغلب عليهم حيوانيتهم فيفترس بعضهم بعضًا.
ومما اعترف به من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وحَارَ في تعليله
على اتساع دائرة التعليل عنده كما ستعلم ما قاله في ص 63 أيضًا وهو: أنه كان له
وسائل لمعرفة الأسرار نعجز عن إدراك حقيقتها، وأن الطبيعة دون الحنكة أعطته
موهبة يُحسد عليها ألا وهي معرفة طبائع البشر، فقلما أخطأ في معرفة أحد بل لم
يخطئ قط، ونحن نقول: إن إله الطبيعة هو الذي فضله بذلك ليستعين به على
هداية البشر، وقد كان ذلك، وما النبوة إلا تخصيص إلهي غايته هداية الناس
وإخراجهم من الظلمات إلى النور فما هذه الحيرة في التعليل، والانقطاع في وَسَط
السبيل.
ومما حار في تعليله وهو من هذا القبيل سبب شروع النبي صلى الله عليه
وسلم في دعوى الرسالة فقد قال (في ص 72) يستفاد من تاريخ أشهر الرجال أن
بَدْءَهم بالأعمال العظيمة كان لأسباب معروفة تدعو إلى ذلك، أما النبي فلا يعلم
سبب لبدئه في دعوى الرسالة: ونقول: لو كان هذا الأمر من قَبيل تأسيس الممالك
لكان يستحيل أن يقدم عليه العاقل من غير أسباب طبيعية تمهد له النجاح: ككثرة
المال والمواطأة مع الزعماء والأعوان وسائر أسباب القوة، ولا عجب في ذلك فإنه
كان معتمدًا على خالق الأسباب والمسببات، وفاطر الأرض والسموات، الذي أمره
بالدعوة والتذكير، على أنه هو الولي له والنصير.
وقال (في ص 74) : إن عظمة النبي كانت في أمرين: أحدهما معرفة أن
الأمة العربية تحتاج إلى نبي، وثانيهما جَعْل هذه المعرفة ذات أثر، ونقول: إن
أمر النبوة لم يكن بمثل هذا التعمّل والتدبر والعمل والتدبير؛ إذ لو كان كذلك لكان
الاعتماد فيه على الأسباب الطبيعية، وقد تقدم آنفًا أنه لم يكن هناك أسباب؛ إذ لو
كانت لعُرِفَتْ؛ لأن الأسباب التي تأتي بأعظم المسببات لا تخفى.
وقال (في ص 80) سؤالان لا يمكن الإجابة عنهما (الأول) كيف أَتَتْ
فكرة النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل العربي دون سواه (الثاني)
كيف صادفت فيه من الصبر والعزيمة وقوة العارضة ما تحققت به؟ ولكن نقول كما
كان يقول كارليل من أيام (تيوبال كين) كان الماء يصل إلى درجة الغليان وكان
الحديد موجودًا ولم يوجد من تلك الربوات من الناس من يخترع الآلات البخارية
ونقول نحن: إنه ذهل عن الفرق العظيم بين اختراع الآلات البخارية وبين النبوة،
فإن أول مَنْ لاحظ أن لبخار الماء قوة يمكن استخدامها للرفع والدفع مثلاً لم يهتد إلى
استخدامها في تسيير المراكب البحرية والبرية ونحو ذلك، وإنما وصل الناس إلى
هذه الغاية بتدرج بطيء يبني فيه اللاحقون على ما وضع السابقون، والنبي ادَّعَى
النبوة، وجاء بالشريعة وقررها بالكتاب والعمل وجذب الناس، فتم له تكوين دين
وشريعة وأمة أحدثت بهدايته دولة قوية ومدنية راقية.
وقال (في ص 144) : إن النبي كان يعتقد في نفسه أنه كأحد أنبياء بني
إسرائيل. ونقول: إن هذا ينافي ما زعم في غير موضع من أنه قام بهذا الأمر عن
فكر وتدبير، وأنه كان يتعلم ويستفيد ويدعي أن ما استفاده من الناس وحي
من الله.
ومما أَعْياه تعليله فأحاله على الغيب ما تراه (في ص 368) من قوله: لا بد
أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم وسائط سِرِّيَّة لمعرفة الأخبار بسرعة غريبة،
يعلل بذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم بالوحي والإلهام، ولو كان هناك
وسائط لَمَا خفيت عن أولئك الأذكياء الذين كانوا معه، وكان ذلك كافيًا لانفضاضهم
من حوله، وعدم بذل أرواحهم في سبيل دعوته.
ومما مدح به وأثنى قوله في (ص458) : إن النبي نهى عن التعذيب
والتمثيل الذي لم تُحرّمه أوربا إلا حديثًا. ونقول: إنها وإنْ حرّمته في بلادها؛ لأن
الأمة قويت على السلطة فيها فهي تبيحه أحيانًا في غير بلادها، فهي لم تتمكن من
هذه الفضيلة تمام التمكُّن.
هذا جُلّ ما أنصف فيه وسدد وقارب، وسنذكر نموذجًا من خطئه في تاريخ الحوادث وبيان تعليلها وأسبابها.
_________