الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة التاسعة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم إنا نحمدك على ما آتيت من المواهب والقوى، وأنزلت من البينات
والهدى، ونصلي على نبيك المصطفى، الذي بعثته لإصلاح جميع الورى
ونستمطر رحمتك ورضوانك على مَن صلح باتباعه واهتدى، ثم أصلح بحاله وقاله
وهدى {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا} (الكهف: 10)
ولا تهلكنا بما فعل أهل السرف منا والهوى، واكفنا اللهم شر من ظلم من رؤسائنا
وبغى، وفتنة من ضل من مرشدينا وغوى، وخُسْر من عصى من دهمائنا واعتدى،
واجعل اللهم لنا على نيران هذه الحوادث هُدى، ويسِّرنا بفضلك لليسرى، وانفعنا
بما أنزلت من الذكرى، وآتنا ما وعدتنا في الآخرة والأولى.
هذا ما يفتتح به المنار سنته التاسعة: تذكير ودعاء، يبعثهما أمل ورجاء،
على حين سحلت مرائر الآمال، وخويت من الرجاء قلوب الرجال، وأحاط الخطر
بالمسلمين من كل جانب، وتنازع إرث ما بقي من أرضهم الأجانب، بين سلطان
يحارب العلم وسلطان يحاربه الجهل، وأمير مفتون بالدَّثر، وأمير مغبون بالفقر،
وعالم ينافس بكسوة التشريف، وعالم يحسد على الرغيف، ومرشد يؤيد حكومة
يستغل سلطتها، ومرشد يخادع أمة يستدر غفلتها في بلاد أمات الاستبداد قلوب
كبرائها، وبلاد أفسدت الشهوات أخلاق أغنيائها، دع ذكر البلاد التي نزغ بين
زعمائها شيطان السياسة فأغراهم بالتنازع على الرياسة، والأمة من وراء هؤلاء
الكبراء تذل كل يوم وتخزى، سنة الله في القرون الأولى {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُم مِّنَ القُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} (طه:
128) .
نعم، إن المسلمين أمسوا كالريش في مهب رياح الحوادث، وكالغثاء في
مجرى سيول الكوارث لا رأي لخواصهم فيما يراد منهم، ولا شعور لعوامهم فيما
يراد بهم، وللأجانب يد في تصرف حكامنا في سياستنا ويد في تصريف أموالنا في
مصلحتهم دون مصلحتنا، ويد تطبع الأرواح بأخلاق وعادات تنافي آداب ملتنا،
وتودع في العقول عقائد وأفكارًا تقوَّض بناء وحدتنا، فأي شيء بقي في أيدينا من
شئون أمتنا، اللهم إنه يقل فينا من بقي له أذن تسمع وعين تبصر، وقلب يشعر
وعقل يفكر ويقل في هؤلاء القليلين مَن له إرادة تتوجه إلى عمل للأمة، وثبات فيما
يحاول من كشف الغمة، والرجاء بفضل الله تعالى محصور في هؤلاء الأقلين،
فمن يتصل بحزبهم حينًا بعد حين، والعاقبة للمتقين {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) ، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ
وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132) ،
133) .
بلى قد جاءتنا صحف الأولين، فكانت مثالاًَ لما رأينا في صحف الآخرين،
إنه لم تستيقظ أمة من نومتها، ولم تبعث دولة بعد موتتها، إلا بصيحة نفر من أولي
الألباب، ومثقفي العقول والآداب، الذين يغير الله ما في نفوس أقوامهم بما يلقيه
من الحكمة في ذلاقة ألسنتهم ونفثات أقلامهم، فيستبدلون الاعتصام بالانفصام،
والاتفاق بالشقاق، والوحدة بالفرقة، والمقة والحب، بالبغضاء والمقت، ولذلك
يشعر الأفراد بمعنى الأمة، ويعملون بالتعاون فيكونون أمة، {سُنَّتَ اللَّهِ الََّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ} (غافر: 85) ، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: 31) .
ما المنار إلا صحيفة أو صحف أنشئت لتأييد دعاة العلم للأمة والعمل لها سواء
منهم من دعا إلى الإصلاح قبلها ومن يدعو إليه معها ، ولتكثير سواد الدعاة الذين
يتعلمون للأمة، ويعملون للأمة، ويحيون للأمة، ويموتون في سبيل الأمة، بذلك
صرحنا في فاتحة السنة الأولى وبذلك نصرح في كل سنة من السنين، مهتدين
بهدي كتاب الله المبين، وسنة خاتم النبيين والمرسلين، اللذين هما ينبوع الهداية،
واتباعهما ينبوع السعادة، من تمسك بهما نجا، ومن تركهما ضل وغوى، وخزي
في الآخرة والأولى، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: 124-127) .
هذه نُذُر الكتاب المبين، لمن ترك الاعتصام بحبله المتين، يجازى بالضيق
والضنك في معيشته الأولى، وبالعذاب في الدار الأخرى، وقد قال تعالى وهو أقوم
قيلاً: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا} (الإسراء:
72) ؛ فالدنيا مزرعة الآخرة، وسنة الله تعالى فيهما واحدة فإذا سلكنا سبل الظلم
والإفساد، حتى زال عزنا وسلطاننا من البلاد، فلا ينجينا في الآخرة لقب الإسلام،
ولا الانتساب إلى أولئك السلف الكرام، أَمَا سمع المغرور حديث الصحيحين: (يا
فاطمة بنت محمد سَلِيني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا) {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفى * أَلَاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن
لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفى} (النجم: 36-41) .
القرآن حجة على شعوب المسلمين في هذا العصر، بما أصابهم وأصاب
دولهم من الخُسْر، الذي جنبه الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر، وبأخذ الأمم والدول إياهم أخذًا وبيلاً {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) .
نعم، إن المؤمن يبتلى ويفتن، ولكنه لا يهن ولا يحزن، بل يصبر حتى
تكون العاقبة للمتقين {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل
عمران: 139) ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ
بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} (الحج: 11) فما انتفع المغرورون بهذه الذكرى، ولا اتبعوا هذه الهداية
العليا {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى * أَمْ
لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} (النجم: 23-25) .
نعق به ناعق أئمة الجور، ونصير الاستبداد والظلم أن لا نجاة لكم من
البلاء الذي أصابكم، ولا أمن لكم من الخطر الذي يوشك أن ينزل بكم، إلا بفناء
إرادتكم في إرادة حكامكم، لا بتغيير ما في أنفسكم من أوهام وخرافات، وأخلاق
ذميمة وعادات، ولا بتربية العقل والإرادة على الاستقلال، والتعاون على البر
والتقوى والاشتراك في الأعمال، ولا بجعل الشورى قاعدة الأحكام، وإقامة
الشريعة في الحلال والحرام، ولا التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وصاح بهم خطيب فتنة الوطنية أن لا حياة لكم
بالرابطة الملّية، لأنها ممقوتة في نظر أهل المدنية الغربية، الذين سادوا بترك
العصبية الدينية، فعلى أهل كل قطر إسلامي أن يعتزوا بسكان بلادهم الأولين، ولا
يحبوا من هاجر إليهم من المؤمنين، فضلاً عن إيثارهم كما فعل الأنصار مع
المهاجرين، فما اعتز به المسلمون الأولون من آداب القرآن قد نسخته مدنية أوربا
في هذا الزمان، فالوطنيةَ الوطنيةَ ، الزموها تكونوا من الفائزين، والدخلاءَ
الدخلاءَ ، احذروهم وإن خدموا الأمة والدين، إن يبغون بدعوة الوطنية إلا العصبية
الجاهلية والهوى، وكثرة العرض والغنى، والزلفى عند أهل المراتب العليا،
{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَاّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} (النجم: 29-30) .
اختلفت عليكم الدعوة أيها المسلمون، وكل حزب بما لديهم فرحون {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) فله
وحده دعوة الحق، وما خالفها فهو باطل أو فسق {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا
تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء:
150-
152) . ها نحن أولاء قد خرجنا عن استقلالنا الاجتماعي زمنًا طويلاً،
أطعنا فيه ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، وأخذنا الأجانب من ناحية سلطتهم أخذًا
وبيلاً، فما أغنت عنا ذلة العبودية لهم فتيلاً، {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلى
رَبِّهِ سَبِيلاً} (الإِنسان: 29) ولا سبيل إليه إلا باتباع هدايته، والسير على
سنته في خليقته {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) ] وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى*
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى*
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [ (الليل:1-10) .
فعليكم أيها المسلمون وقد أعوزت النجاة واختلفت دعوة الدعاة، أن تجيبوا
داعي الله، وتكونوا من حزب من أعطى العفو من ماله لإعلاء كلمة الله ومواساة
عياله، واتقى أسباب الفتن والمحن، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وصدق
بالشريعة الحسنى، والخليقة الفضلى، تصديق إذعان، يتبعه العمل بالجَنان
والأركان، والتعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان، فإذا فعلتم ذلك يسر الله
لكم خط النجاح لليُسرى، وأقامكم على طريق الفطرة المثلى، وأعزكم في هذه الدنيا،
ولكم في الآخرة الجزاء الأوفى، ولا تكونوا ممن بخل بفضل نعمته، واستغنى
بالتعزز بماله عن الاعتزاز بأمته وملته، وكذب في نفسه بأن الشرعة الحسنى،
والخليقة الفضلى هي طريق السعادة الكبرى، فإن الله تعالى لا ييسر له بمقتضى
سنته إلا عُسرى الخطتين، وسوءَى الطريقتين، فيكون شقيًّا بماله، مضطربًا في
حاله، مبغضًا إلى قومه وآله، لا فرق في هذه السنة بين الشخص والأمة،
والأمر في الشعوب أظهر لمن يرى، فما رزئ شعب بهذه الثلاثة إلا وقع في
مهاوي الردى {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ
وَالأُولَى} (الليل: 11-13) .
هذا ضرب من ضروب هداية القرآن، الذي دعا إلى جميع الأصول التي فيها
سعادة الإنسان فجعل البرهان العقلي أساس العقائد، وأقام بناء الآداب والأحكام على
قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وأرشد إلى ما لشئون البشر الاجتماعية من
السنن الثابتة أو النواميس الطبيعية، وأثبت أن الدين القيم الذي جاء به الإسلام هو
إقامة سنن فطرته التي فطر عليها الأنام، فالإسلام عبارة عن إصلاح العقول
بالعقائد اليقينية، وإصلاح النفوس بالأخلاق المَرضية، وإصلاح شؤون البشر
الاجتماعية، بإقامة العدل والسير على السنن الكونية، فمن أقام هذه الأركان كلها
كان هو المسلم الكامل وإن سمي ملحدًا أو دهريًّا، ومن هدمها كلها كان ملحدًا في
آيات الله وإن سمى نفسه مسلمًا حنيفيًّا، ومن كان أقرب إليها كان حظه من السعادة
بمقدار سهمه منها، ومتى تنازع شعبان أو أمتان، كان الظفر لمن كان أقرب من
هذه الأركان، وهو الأقرب إلى هداية القرآن {وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا
وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (الكهف: 59) ، {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (الجن: 16-17)، {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى:
9-
10) ، أما حزب الشيطان، وأنصار الظلم والعدوان، فسيقولون: إن هذه
الدعوة إلى هداية القرآن، هي اجتهاد أُقفل بابه في هذا الزمان، والداعي إليها عدو
مبين لأهل الإيمان، وما علينا إلا تقليد شيوخنا أهل الفقه والعرفان، ومن هؤلاء
من يُلقي تبعة هلاك المسلمين وضياع الإسلام، على عواتق أهل السلطة المتغلبين
على الأحكام، ومنهم من يوجب الخضوع لكل ذي سلطان، وإن نسخ باستبداده
القرآن، وطغى بظلمه في الميزان، ومنهم من يحيل على القضاء والقدر، ومنهم
من يقول: ليس لها إلا المهدي المنتظر، ومن ورائهم قوم آخرون مرقوا من الدين،
أنكروا التقليد ولم يعرفوا الحق اليقين، يقولون: لا رجاء للمسلمين بحياة ملية،
ولا أمل بإقامة حكومة إسلامية، فإذا لم يحيوا حياة وطنية فلا حياة لهم، وإذا لم
يتبعوا خطوات أوربا فلا مدنية لهم، كل هذا وذاك مما ينادي به المسلمون
الجغرافيون أو السياسيون، ولهم شهوات من دون ذلك هم لها عاملون، ولم نَرَ
دعوة من هذه الدعوات أنكرها الرؤساء الرسميون، والأمراء المستبدون، إلا دعوة
هذه الأمة، إلى الاهتداء بالكتاب والسنة، فلقد قاوموا المنار، وآذوا الأهل
والأنصار، ودمروا على الدار، واحتووا الكتب والأسفار، وراقبوا الشيخ في عقر
الدار، حتى اختار الله له دار القرار، وصادرونا في الوقف وتصدَّوا للعقار،
وهنالك العالم الآثم، يمد بغيه الحاكم الظالم.
هذا وقد كان لبلاد الحرية أصبع فيما كان في بلاد العبودية، بعد استفتاء
وائتمار، بشأن الإخراج من الديار، فكان نجاح المئبر، بديلاًَ من خذلان المئمر،
وطعن أشهر جرائد المسلمين اليومية، إيماءً إلى تلك المقاصد الخفية أو الجلية،
وما زادنا ذلك إلا رجاءً بالله، وانتظارًا لروح الله، مع العجز والتقصير، وفقد
العون والنصير، فوعده تعالى هو الحق، وما جاء به رسوله هو الصدق،
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (النجم: 1-2) ، {قُلْ كُلٌّ
مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} (طه:
135) .
…
...
…
...
…
...
…
منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مباحث المنار الدينية ودعوته إلى الانتقاد عليه
إن الغرض من مباحث المنار الدينية هو بيان أن الإسلام هو الحق الهادي إلى
سعادة الدنيا والآخرة ، ودفع شُبه أعدائه عنه في عقائده وآدابه وأحكامه والدعوة إلى
الاهتداء به. وإنما تتوجه الشبهات إلى الكتاب والسنة لا إلى أقوال العلماء والفقهاء.
فمن ثم كانت عمدة المدافع عن الإسلام والمحتج على حقيته إنما هي نصوص
الكتاب والسنة. فنرغب إلى من يسألوننا عن حكم الإسلام وأحكامه أن لا يقيدونا
بمذاهبهم ، ومن أراد الانتقاد على المنار في أمر ديني فليؤيد انتقاده بالدليل كآية
كريمة أو حديث يحتج به لا بقيل وقال. إلا إذا أخطأنا في نقل عن أئمة العلم الذين
نستضيء بأنوار أفهامهم في الكتاب والسنة أو الفهم أو في الأداء فللمنتقد أن يبين لنا
ذلك. وإننا نعيد القول كما بدأناه أول مرة بأننا ننشر كل ما ينتقده علينا العلماء
والأدباء، وما يشكل على عامة القراء، فإن كان المنتقد مصيبًا اعترفنا وشكرنا،
وإن كان مخطئًا بيَّنا وأعذرنا، ولا عذر لعالم يرى منا الخطأ فيسكت عليه بعد علمه
بهذا وبأن الحق يدفع الباطل وبأن الله أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب ليبيننه
للناس ولا يكتمونه، وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن يذم المنار
بعد هذا أو يقدح في صاحبه ولم يبين له خطأه فهو فاسق مغتاب، كاتم للعلم مذموم
بنص الكتاب.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسائل الاختيار والعلة والحكمة والحسن والقبح
نذكر ما أورد السفاريني فى هذه المسائل ليعلم قراء كتب الأشعرية ما في غيرها من الحقائق التي قد تخالفها إلى صواب، وأن الاقتصار على كتب طائفة معينة هو من قيود التقليد. قال في شرح قوله:
وربنا يخلق باختيار
…
من غير حاجة ولا اضطرار
لكنه لا يخلق الخلق سدى
…
كما أتى في النص فاتبع الهدى
(وربنا) تبارك وتعالى (يخلق) ما شاء أن يخلقه من سائر مخلوقاته
(باختيار) منه، فمذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله تعالى لم يزل فاعلاً لما يشاء وأنه
تقوم بذاته الأمور الاختيارية وأنه تعالى لم يزل متصفًا بصفاته الذاتية والفعلية فلم
يحدث له أسماء من أسمائه ولا صفة من صفاته، فيخلق سبحانه المخلوقات
ويحدث الحوادث بعد أن لم تكن سواء كان ذلك على مثال سابق أو لا. والإبداع
إحداث الشيء بعد أن لم يكن على غير مثال سابق (من غير حاجة) منه تعالى
إليه أي يخلق الخلق لا لحاجة إليه ولا (اضطرار) عليه، فالحاجة: المصلحة
والمنفعة ، والاضطرار: الإلجاء والإحواج والإلزام والإكراه، فلا حاجة باعثة له
سبحانه على خلقه للخلق، ولا مكره له عليه بل خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات
لمحض المشيئة وصرف الإرادة. وهذا قول جمهور من يثبت القدر وينتسب الى
السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم، وقال به طوائف من الحنبلية والمالكية
والشافعية وغيرهم، وهو قول أبي الحسن الأشعري وأصحابه، وهو قول كثير من
نفاة القياس في الفقه من الظاهرية كابن حزم وأمثاله، وحجة هذا أنه لو خلق الخلق
لعلة لكان ناقصًا بدونها مستكملاً بها؛ فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها
بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به؛ فإن كان الأول امتنع أن يفعل
لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به فيكون مستكملاً بها فيكون قبلها
ناقصًا، وأيضًا فالعلة إن كانت قديمة وجب قدم المعلول؛ لأن العلة الغائية، وإن
كانت متقدمة على المعلول في العلم والقصد فهي متأخرة في الوجود عن المعلول كما
يقال: أول الفكرة آخر العمل. وأول البغية آخر المدرك. ويقال: إن العلة الغائية
بها صار الفاعل فاعلاً فمن فعل فعلاً لمطلوب يطلبه بذلك الفعل كان حصول المطلوب
بعد الفعل فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديمًا؛ كان الفعل قديمًا بطريق
الأولى، فلو قيل: إنه يفعل لعلة قديمة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث وهو
خلاف المشاهدة، وإن قيل: إنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران:
(أحدهما) أن يكون محلاًّ للحوادث فإن العلة إن كانت منفصلة عنه فإن لم
يعد إليه منها حكم امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها، وإن قدر أنه عاد إليه
منها حكم كان ذلك حادثًا فتقوم به الحوادث ، والمحذور الثاني أن ذلك يستلزم
التسلسل من وجهين:
(أحدهما) أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضًا مما يحدثه الله تعالى
بقدرته ومشيئته فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم، وإن كان لعلة عاد التقسيم
فيها فإذا كان كل ما يحدثه أحدثه لعلة ، والعلة ما أحدثه لزم تسلسل الحوادث.
(الثاني) أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى فإن كان
الأول امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه وإن
كان الثاني فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل، فهذه الحجج من حجج
من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه.
(التقدير الثاني) قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية
قديمة كما يقوله الفلاسفة القائلون بقدم العالم وأصل قول هؤلاء أن المبدع للعالم
علة تامة تستلزم معلولها فلا يجوز أن يتأخر عنها معلولها وأعظم حججهم قولهم:
إن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود
المفعول في الأزل لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها فإنه لو تأخر لم تكن جميع
شروط الفعل وجدت في الأزل فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما تستلزم المعلول فإذا
قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة وإن لم تكن العلة التامة التي هي جميع
الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضي التام لوجود الفعل وهي جميع شروط الفعل
التي يلزم من وجودها وجود الفعل وإن لم تكن جميعها فى الأزل فلا بد إذا وجد
المفعول بعد ذلك من تجدد سبب حادث وإلا لزم تجريح أحد طرفي الممكن بلا
مرجح وإذا كان هناك سبب حادث فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول ويلزم
التسلسل، قالوا: فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل
وإما الترجيح بلا مرجح. ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها
الفاعلة لكنهم متناقضون فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية
ويقولون مع هذا: ليس له إرادة بل هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار وقولهم
باطل من وجوه كثيرة مذكورة في محالها منها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية روّح
الله روحه في كتابه (حسن الإرادة) . هذا القول يستلزم أن لا يحدث شيء وإن كل
ما حدث حدث بغير إحداث محدث ومعلوم أن بطلان هذا بيّن وأطال في رد ذلك ،
ومما ذكر: أن يقال لهم: حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية إما أن يكون ممكنًا في
العقل أو ممتنعًا فإن كان ممتنعًا لزم أن الحوادث جميعها لها أول كما يقوله أهل
الحق وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك وإن كان ممكنًا أمكن أن يكون حدوث ما
أحدثه الله تعالى كالسماوات والأرض موقوف على حوادث قبل ذلك كما تقولون أنتم
فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك
فيلزم فساد حجتكم على التقديرين ثم يقال: إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية
مطلوبة أو لا، فإن لم تثبتوا بطل قولكم بإثبات العلة الغائية وبطل ما تذكرونه من
حكمة الباري تعالى في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات وأيضًا فالوجود
يبطل هذا القول فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوت العد والإحصاء كإحداثه
سبحانه لما يحدثه من نعمته ورحمته وقت حاجة الخلق إليه كإحداث المطر وقت
الشتاء بقدر الحاجة وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته وأمثال
ذلك مما هو كثير جدًا وإن أثبتم له تعالى حكمة مطلوبة وهي باصطلاحكم العلة
الغائية - لزم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة فإن القول بأن الفاعل فعل كذا
لحكمة كذا بدون كونه مريدًا لتلك الحكمة المطلوبة جمْع بين النقيضين وهؤلاء
المتفلسفة من أكثر الناس تناقضًا ولهذا يجعلون العلم هو العالم والعلم هو الإرادة
والإرادة هى القدرة وأمثال ذلك.
(التقدير الثالث) وهو أنه سبحانه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة
محمودة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا قول أكثر الناس من المسلمين وغيرهم
وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد رضي الله عنهم وقول
طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكرَّامية والمرجئة وغيرهم وقول أكثر
أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وأكثر قدماء الفلاسفة وكثير من متأخريهم
كأبي البركات وأمثاله لكن هؤلاء على أقوال، منهم من قال: إن الحكمة المطلوبة
مخلوقة ومنفصلة عنه تعالى وهم المعتزلة والشيعة ومن وافقهم قالوا: الحكمة في
ذلك إحسانه للخلق والحكمة في الأمر تعريض المكلفين للثواب قالوا: فعل الإحسان
إلى الغير حسن محمود في العقل فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من
ذلك حكم ولا قام به نعت ولا فعل فقال لهم الناس: أنتم تناقضون في هذا القول لأن
الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه إلى فاعله حكم يحمد لأجله إما لتكميل
نفسه بذلك وإما لقصده الحمد والثواب بذلك وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع
بالإحسان ذلك الألم وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان فإن النفس الكريمة تفرح
وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها فالإحسان إلى الغير محمود لكون
المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة
إلى الفاعل سواء لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه بل مثل هذا يعد عبثًا في
عقول العقلاء وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من
الوجوه لا عاجلة ولا آجلة - كان عبثًا ولم يكن محمودًا على هذا ، وأنتم عللتم أفعاله
تعالى فرارًا من العبث فوقعتم فيه ، فإن العبث هو الفعل الذي لا مصلحة ولا منفعة
ولا فائدة تعود على الفاعل ولهذا لم يأمر الله تعالى ولا رسوله ولا أحد من العقلاء
أحدًا بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة
فأمر الفاعل بفعل لا يعود عليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من
الوجوه لا في العاجل ولا في الآجل- لا يستحسن من الآمر ومن ثم قال: (لكنه)
تعالى وتقدس، هذا استدراك من مفهوم قوله: إنه يخلق بالاختيار أي لا بالذات خلافًا
للمعتزلة ومن وافقهم من غير حاجة إليه ولا اضطرار عليه غير أنه جل وعلا: (لا
يخلق الخلق سدى) أي هَملاً بلا أمر ولا نهي ولا حكمة ومعنى السدى المهمل
وإبل سدى إذا كانت ترعى حيث شاءت بلا راعٍ (كما أتى في النص) القرآني
والسنة النبوية والآثار مما هو كثير جدًا أن الله تبارك وتعالى لا يفعل إلا لحكمة
وعلم وهو العليم الحكيم فما خلق شيئًا ولا قضاه ولا شرعه إلا بحكمة بالغة وإن
تقاصرت عنها عقول البشر (فاتبع الهدى) باقتفاء المأثور واتباع السلف الصالح
ولا تجحد حكمته كما لا تجحد قدرته فهو الحكيم القدير، قال شيخ الإسلام ابن تيمية
قدس الله روحه: ونشأ من هذا الاختلاف نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم
في مسألة التحسين والتقبيح العقلي فأثبت ذلك المعتزلة والكرَّامية وغيرهم ومن
وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعى وأحمد وأهل الحديث وغيرهم
رضي الله عنهم وحكوا ذلك عن الإمام أبي حنيفة نفسه رضي الله عنه ، ونفى ذلك
الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم واتفق الفريقان
على أن الحسن والقبح إذا فسر بكون الفعل نافعًا للفاعل ملائمًا له وكونه ضارًّا
للفاعل منافرًا له أنه تمكن معرفته بالعقل كما يعرف بالشرع وظن من ظن من
هؤلاء وهؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا وليس كذلك بل
جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم
وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم والحمد
والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له والذم والعقاب
المترتب على معصيته ضار للفاعل مفسدة له والمعتزلة أثبتت الحسن فى أفعال الله
تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله تعالى قال الشيخ: ومنازعوهم لما اعتقدوا
أن لا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك وقالوا:
القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته وكل ما يقدر ممكنًا من الأفعال فهو حسن
إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول وأولئك - يعني المعتزلة - أثبتوا
حسنًا وقبحًا لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته وعندهم لا يقوم بذاته لا وصف
ولا فعل ولا غير ذلك وإن كانوا قد يتناقضون ثم أخذوا يقيسون على ما يحسن من
العبد ويقبح فجعلوا يوجبون على الله سبحانه من جنس ما يوجبون على العبد
ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد ويسمون ذلك العدل والحكمة مع
قصور عقلهم عن معرفة حكمته فلا يثبتون له مشيئة عامة ولا قدرة تامة فلا يجعلونه
على كل شيء قدير ولا يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا يقرون بأنه
خالق كل شيء ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه فإنه سبحانه قال: {وَمَن يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْما وَلَا هَضْما} (طه: 112) : أي لا يخاف
أن يُظلم فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته وقال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ
القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (ق: 29) ، وفي حديث البطاقة عند الترمذي
وغيره: (لا ظلم عليك اليوم) .
والحاصل أن فعل الله - تعالى وتقدس - وأمره لا يكون لعلة في قول مرجوح ،
اختاره كثير من علمائنا وبعض المالكية والشافعية وقاله الظاهرية والأشعرية
والجهمية ، والقول الثاني أنهما لعلة وحكمة اختاره الطوفي وهو مختار شيخ الإسلام
ابن تيمية وابن القيم وابن قاضي الجبل وحكاه عن إجماع السلف وهو مذهب
الشيعة والمعتزلة لكن المعتزلة تقول بوجوب الصلاح ولهم فى الأصلح قولان كما
يأتي في النظم ، والمخالفون لهم يقولون بالتعليل لا على منهج المعتزلة قال شيخ
الإسلام: لأهل السنة في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه قولان والأكثرون على
التعليل والحكمة وهل هي منفصلة عن الرب لا تقوم به أو قائمة مع ثبوت الحكم
المنفصل؟ لهم فيه أيضًا قولان، وهل يتسلسل الحكم أو لا يتسلسل أو يتسلسل في
المستقبل دون الماضي؟ فيه أقوال قال: احتج المثبتون للحكمة والعلة بقوله تعالى:
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (المائدة: 32) وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا
القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَاّ لِنَعْلَمَ} (البقرة: 143) ونظائرها ولأنه تعالى حكيم
شرع الأحكام لحكمة ومصلحة لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) والإجماع واقع على اشتمال الأفعال على الحكم والمصالح جوازًا
عند أهل السنة ووجوبًا عند المعتزلة فيفعل ما يريد بحكمته وتقدم أن النافين للحكمة
والعلة احتجوا مما احتجوا به أنه يلزم من قدم العلة قدم المعلول وهو محال ومن
حدوثها افتقارها إلى علة أخرى وأنه يلزم التسلسل قال الإمام الرازي: وهو مراد
المشايخ بقولهم كل شيء صنعه ولا علة لصنعه وما أجاب به من قال بالحكمة وأنها
قديمة لا يلزمه من قدم العلة قدم معلولها كالإرادة فإنها قديمة ومتعلقها حادث وتقدمت
الإشارة في أول البحث إلى محصل هذا كله والحاصل أن شيخ الإسلام وجمعًا من
تلامذته أثبتوا الحكمة والعلة فى أفعال الباري جل وعلا وأقاموا على ذلك من
البراهين ما لعَلَّّه لا يبقي في مخيلة الفطين السالم من ربقة تقليد الأساطين أدنى
اختلاج وأقل تخمين وأما الإمام المحقق شمس الدين ابن القيم فقد أجلب وأجنب
وأتى بما يقضي منه العجب في كتابه (شرح منازل السائرين) و (مفتاح دار
السعادة) وغيرهما فمما احتج به في مفتاح دار السعادة قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) فدل على أن هذا حكم بشيء قبيح
يتنزه الله عنه فأنكره من جهة قبحه في نفسه لا من جهة كونه أنه لا يكون، ومن هذا
إنكاره تعالى على من جوّز أن يترك عباده سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا
يعاقبهم وأن هذا الحسبان باطل والله متعالٍ عنه لمنافاته لحكمته فقال تعالى:
{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة: 36) ، فأنكر سبحانه على من زعم
أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه وأنه لا يليق أن
ينسب ذلك إلى أحكم الحاكمين ومثله قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} (المؤمنون: 115-116) فنزَّه نفسه سبحانه وباعدها عن هذا الحسبان وأنه متعالٍ
عنه فلا يليق به لقُبحه ومنافاته الحكمة وهذا يدل على إثبات المعاد بالعقل كما يدل
على إثباته بالسمع ثم إن ابن القيم بسط القول ووسع العبارة في أزيد من عشرة
كراريس ثم قال: الكلام هنا في مقامين أحدهما في التلازم بين الحسن والقبح
العقليين وبين الإيجاب والتحريم شاهدًا وغائبًا والثاني في انتفاء اللازم وثبوته فأما
المقام الأول فلمُثبتي الحسن والقبح فيه طريقان:
أحدهما: ثبوت التلازم والقول باللازم وهذا القول هو المعروف عن المعتزلة
وعليه يناظرون وهو القول الذى نصب خصومهم الخلاف معهم فيه.
والقول الثاني: إثبات الحسن والقبح وأربابه يقولون بإثباته ويصرحون بنفي
الإيجاب قبل الشرع على العبد وبنفي إيجاب على الله شيئًا ألبتة كما صرح به كثير
من الحنفية والحنابلة كأبي الخطاب وغيره والشافعية كسعد بن علي الزنجاني الإمام
المشهور وغيره ولهؤلاء في نفي الإيجاب العقلي في المعرفة بالله وثبوته خلاف.
قال: فالأقوال أربعة لا مزيد عليها:
(أحدها) نفي الحسن والقبح ونفي الإيجاب العقلي في العمليات دون العلميات
كالمعرفة وهذا اختيار أبي الخطاب وغيره فعرف أنه لا تلازم بين الحسن والقبح
وبين الإيجاب والتحريم العقليين فهذا أحد المقامين.
(وأما المقام الثاني) وهو انتفاء اللازم وثبوته فللناس فيه ههنا ثلاث طرق:
أحدهما: التزام ذلك والقول بالوجوب والتحريم العقليين شاهدًا وغائبًا وهذا قول
المعتزلة وهؤلاء يقولون: يترتب الوجوب شاهدًا ويترتب المدح والذم عليه. وأما
الصفات فلهم فيها اختلاف وتفصيل فمن أثبته منهم يقولون: إن العذاب الثابت بعد
الإيجاب الشرعي نوع آخر غير العذاب الثابت على الإيجاب العقلي وبذلك يجيبون
عن النصوص النافية للعذاب قبل البعثة وأما الإيجاب والتحريم العقليان غائبًا فهم
مصرحون بهما ويفسرون ذلك باللزوم الذي أوجبته حكمته وأنه يستحيل عليه خلافه
كما يستحيل عليه الحاجة والنوم والتعب واللغوب فهذا معنى الوجوب والامتناع في
حق الله تعالى عندهم فهو وجوب اقتضته ذاته وحكمته وامتناع مستحيل عليه
الاتصاف به لمنافاته كماله وغناه قالوا: وهذا في الأفعال نظير ما يقول أهل السنة
في الصفات: إنه يجب له كذا ويمتنع عليه كذا فكما أن ذاك وجوب وامتناع ذاتي
يستحيل عليه خلافه فهكذا ما تقتضيه حكمته وتأباه يستحيل عليه الإخلال به وإن
كان مقدورًا له لكنه لا يخل به لكمال حكمته وعلمه وغناه.
(الفرقة الثانية) منعت ذلك جملة وأحالت القول به وجوزت على الرب
تعالى كل شيء ممكن وردت الإحالة والامتناع في أفعاله تعالى إلى غير الممكن من
المُحالات كالجمع بين النقيضين وبابه فقابلوا المعتزلة أشد مقابلة واقتسما طرفي
الإفراط والتفريط ورد هؤلاء الوجوب والتحريم الذي جاءت به النصوص إلى
مجرد صدق الخبر فما أخبر أنه يكون فهو لتصديق خبره وما أخبر أنه لا يكون فهو
ممتنع لتصديق خبره والتحريم عندهم راجع إلى مطابقة العلم لمعلومه والمخبر
لخبره وقد يفسرون التحريم بالامتناع عقلاً كتحريم الظلم على نفسه فإنهم يفسرونه
بالمستحيل لذاته كالجمع بين النقيضين وليس عندهم في المقدور شيء هو ظلم يتنزه
الله عنه مع قدرته عليه وحكمته وعدله فهذا قول الأشعرية ومن وافقهم.
(الفرقة الثالثة) هم الوسط بين هاتين الفرقتين فإن الفرقة الأولى أوجبت
على الله شريعة بعقولها حرمت عليه وأوجبت ما لم يحرمه على نفسه ولم يوجبه
على نفسه والفرقة الثانية جوزت عليه ما يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته حكمته وكماله
والفرقة الوسط أثبتت له ما أثبته لنفسه من الإيجاب والتحريم الذى هو مقتضى
أسمائه وصفاته الذي لا يليق نسبته إلى ضده لأنه موجب كماله وحكمته وعدله ولم
تدخله تحت شريعة وضعتها بعقولها كما فعلت الفرقة الأولى ولم تجوز عليه ما نزه
نفسه عنه كما فعلت الفرقة الثانية، قالت الفرقة الوسط: قد أخبر الله تعالى أنه حرم
الظلم على نفسه كما قال على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي إني
حرمت الظلم على نفسي) وقال: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف: 49) وقال:
{وَمَا رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) وقال: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (النساء: 77) ، فأخبر بتحريمه على نفسه ونفى عن نفسه فعله وإرادته ، وللناس
في تفسير هذا الظلم الذي حرمه على نفسه تعالى وتنزّه عن فعله وإرادته ثلاثة
أقوال بحسب أصولهم وقواعدهم: (أحدها) أنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم
لبعض فشبهوه في الأفعال ما يحسن منها وما لا يحسن بعباده فضربوا له من قبل
أنفسهم الأمثال فصاروا بذلك مشبهة ممثلة في الأفعال وامتنعوا من إثبات المثل
الأعلى الذى أثبته لنفسه ثم ضربوا له الأمثال ومثلوه في أفعاله بخلقه كما أن
الجهمية المعطلة امتنعت من إثبات المثل الأعلى الذي أثبته لنفسه ثم ضربوا له
الأمثال ومثلوه في صفاته بالجمادات الناقصة بل بالمعدومات وأهل السنة نزهوه عن
هذا وهذا وأثبتوا ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال ونزهوه فيها عن
الشبيه والمثال فأثبتوا له المثل الأعلى ولم يضربوا له الأمثال فكانوا أسعد الناس
بمعرفته وأحقهم بولايته ومحبته وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ثم التزم أصحاب
هذا التفسير عنه من اللوازم الباطلة ما لا قبل لهم به فقالوا: إذا أمر العبد ولم يُعِنْهُ
بجميع مقدوره تعالى من وجوه الإعانة فقد ظلمه والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالاًّ
كما زعموا أنه لا يقدر أن يضل مهتديًّا وقالوا: إنه إذا أمر اثنين بأمر واحد وخص
أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالمًا وأنه إذا اشترك اثنان في ذنب يوجب
العقاب فعاقب به أحدهما وعفا عن الآخر كان ظالمًا إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة
التي جعلوا لأجلها ترك تسويته بين عباده في فضله وإحسانه ظلمًا فعارضهم
أصحاب التفسير الثاني وقالوا: الظلم المنزه عنه من الأمور الممتنعة لذاتها فلا
يجوز أن يكون مقدورًا له تعالى ولا أنه تركه بمشيئته واختياره وإنما هو من باب
الجمع بين الضدين وجعل الجسم الواحد في مكانين وقلب القديم محدثًا والمحدث
قديمًا ونحو ذلك وإلا فكل ما يقدره الذهن وكان وجوده ممكنًا والرب قادر عليه فليس
بظلم سواء فعله أو لم يفعله وتلقى هذا القول عنهم طوائف من أهل العلم وفسروا
الحديث به وأسندوا ذلك وقوّوه بآيات وآثار زعموا أنها تدل عليه كقوله تعالى: {إِن
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} (المائدة: 118) : يعني لم تتصرف في غير ملكك بل إنما
عذبت من تملك وعلى هذا فجوزوا تعذيب كل عبد له ولو كان محسنًا ولم يروا ذلك
ظلمًا ، وبقوله تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) وبقول
النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم
وهو غير ظالم لهم) وبما رُوي عن إياس بن معاوية قال: (ما ناظرت بعقلي
كله أحدًا إلا القدرية قلت لهم: ما الظلم؟ قالوا: أن تأخذ ما ليس لك وأن تتصرف
فيما ليس لك، قلت: فلله كل شيء) ، والتزم هؤلاء عن هذا القول لوازم باطلة
قولهم: إن الله تعالى يجوز عليه أن يعذب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه وأهل
طاعته ويخلدهم في العذاب الأليم ويكرم أعداءه من الكفار والمشركين
والشياطين ويخصهم بجنته وكرامته وكلاهما عدل وجائز عليه وأنه يعلم أن لا يفعل
ذلك بمجرد خبره فصار ممتنعًا لإخباره أنه لا يفعله لا لمنافاة حكمته ولا فرق بين
الأمرين بالنسبة إليه ولكن أراد هذا وأخبر به وأراد الآخر وأخبر به فوجب هذا
لإرادته وخبره وامتنع ضده لعدم إرادته وإخباره بأنه لا يكون. والتزموا أيضًا أنه
يجوز أن يعذب الأطفال الذين لا ذنب لهم أصلاً ويخلدهم في الجحيم وربما قالوا
بوقوع ذلك.
فأنكر على الطائفتين معًا أصحاب التفسير الثالث وقالوا: الصواب الذي دلت
عليه النصوص أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه وتنزه عنه فعلاً وإرادة هو ما
فسر به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل عليه سيئات غيره ولا يعذب بما لا تكتسب
يداه ولم يكن سعى فيه ولا ينقص من حسناته فلا يجازى بها أو ببعضها إذا قارنها
أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالها أو اقتصاص المظلومين منها وهذا الظلم الذي نفى
الله تعالى خوفه عن العبد بقوله: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ
ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (طه: 112) قال السلف والمفسرون: لا يخاف أن يحمل
عليه سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، فهذا هو المعقول من الظلم ومن عدم
خوفه وأما الجمع بين النقيضين وقلب القديم محدثًا والمحدث قديمًا فمما يتنزه كلام
آحاد العقلاء عن تسميته ظلمًا وعن نفي خوفه عن العبد فكيف بكلام رب العالمين؟!.
قالوا: وأما استدلالكم بتلك النصوص الدالة على أنه سبحانه إن عذبهم فإنهم عباده
وأنه غير ظالم لهم وأنه لا يسأل عما يفعل وأن قضاءه فيهم عدل وبمناظرة إياس
للقدرية فهذه النصوص وأمثالها كلها حق يجب القول بموجبها ولا تحرف معانيها
والكل من عند الله ولكن أي دليل فيها يدل على أنه يجوز عليه تعالى أن يعذب
أهل طاعته وينعم أهل معصيته ويعذب بغير جرم ويحرم المحسن جزاء عمله ونحو
ذلك بل كلها متفقة متطابقة دالة على كمال القدرة وكمال العدل والحكمة
فالنصوص التي ذكرناها تقتضي كمال عدله وحكمته وغناه ووضعه العقوبة والثواب
مواضعهما وأنه لم يعدل بهما عن مسببهما والنصوص التي ذكرتموها تقتضي كمال
قدرته وانفراده بالربوبية والحكم وأنه ليس فوقه آمر ولا ناهٍ يتعقب أفعاله بسؤال
وأنه لو عذب أهل سمواته وأرضه لكان ذلك تعذيبًا لحقه عليهم وكانوا إذ ذاك
مستحقين للعذاب؛ لأن أعمالهم لا تفي بنجاتهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (لن
ينجي أحدًا منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني
لله برحمة منه وفضل) فرحمته لهم ليس في مقابلة أعمالهم ولا هي ثمنًا لها فإنها
خير منها كما قال في الحديث نفسه: (ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من
أعمالهم) فجمع بين الأمرين في الحديث أنه لو عذبهم لعذبهم باستحقاقهم ولم يكن
ظالمًا لهم وأنه لو رحمهم لكان ذلك مجرد فضله وكرمه لا بأعمالهم إذ رحمته خير
لهم من أعمالهم فطاعات العبد كلها لا تكون في مقابلة نعم الله عليهم ولا مساوية لها
بل ولا للقليل منها فكيف يستحقون بها على الله النجاة وطاعة المطيع لا نسبة لها
إلى نعمة من نعم الله عليه فتبقى سائر النعم تتقاضاه شكرًا والعبد لا يقوم بمقدوره
الذى يجب لله عليه فجميع عباده تحت عفوه ورحمته وفضله فما نجا منهم أحد إلا
بعفوه ومغفرته ولا فاز بالجنة إلا بفضله ورحمته وإذا كانت هذه حال العباد فلو
عذبهم وهو غير ظالم لهم لا من حيث كونه قادرًا عليهم وهم ملك له بل لاستحقاقهم
ولو رحمهم لكان ذلك بفضله لا بأعمالهم ويأتي لهذا مزيد تحرير والله أعلم.
(المنار)
أيها الأشعري إنك ترى في هذه الجملة من النقول عن أئمة الأمة ما ينبئك
بحقيقة معنى العلة والحكمة وأن كُلاًّ من المعتزلة والأشعرية أخطأوا من جهة
وأصابوا من أخرى، وأن مذهب السنة الصحيح وسط بين المذهبين وأن أخذ العلم
من كتب طائفة تؤيد مذهبًا معينًا دون النظر في كتب أهل المذاهب الأخرى لا يفك
الآخذ من ربقة التقليد ولا يهديه إلى طريقة التمحيص والتحديد وأن كتب ابن تيمية
وابن القيم أنفع كتب الكلام وأن هذين الشيخين هما الجديران بلقب شيخ الإسلام فقد
أصاب من لقبهما به من العلماء الأعلام.
وخلاصة القول الحق أن العقل والكتاب يدلان على حكمة الله تعالى وعدله
ورحمته وفضله كما يدلان على قدرته وإرادته واختياره يستحيل عليه أضدادها فكل
أفعاله حكمة ومصلحة للخلق والحكمة أو المصلحة فى الفعل تسمى في اللغة علة
وجاء ذلك في القرآن بحرف التعليل فاجمعْ بين العقل والنقل تهتدِ السبيل ولا تكفِّرْ
أو تضللْ أحدًا من أهل القبلة إذا هو خالف مذهبك بالعلة أو غير العلة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأسئلة الجاوية في سماع آلات اللهو
جاءتنا الأسئلة الآتية من جاوه فأرجأنا الجواب عنها حتى نسيناها بسقوط
صحيفتها بين الرسائل المهملة ، ثم رأيناها الآن فنذكرها سردًا ، ثم نجيب عنها ،
والظاهر أنها عُرضت على غيرنا ولكن لم نسمع لها صدى وهي:
(السؤال الأول)
ما قولكم متع الله بحياتكم وأحيا بكم معالم الدين وشريعة سيد المرسلين في
تصريح الأئمة المشهورين الذين هم من حملة الشريعة المطهرة بتحريم سماع
الأوتار التى هي من آلة الملاهي المحرمة كالعود المعبر عنه بالقنبوس ، وتصريحهم
بأنها شعار شربة الخمر وبفسق مستمعها وتأثيمه وبرد شهادته (وذلك) كقول حجة الإسلام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين ما معناه: فحرم ما هو شعار أهل الشرب
وهي الأوتار والمزامير إلى قوله: فيحرم التشبه بهم لأن (مَن تشبه بقوم فهو
منهم) . انتهى (وقوله) فيه أيضًا ومنها - أي المنكرات - سماع الأوتار أو سماع
القينات إلى أن قال: فكل ذلك محظور منكر يجب تغييره ، ومن عجز عن تغييره
لزمه الخروج ولم يجز له الجلوس فلا رخصة له في الجلوس في مشاهدة
المنكرات. انتهى (وقوله) : أيضًا يحرم السماع بخمسة عوارض إلى قوله:
والثاني الآلة بأن تكون من شعار الشربة والمخنثين وهى المزامير والأوتار. انتهى.
(وكقول) الشيخ ابن حجر في التحفة ما ملخصه: ويحرم استعمال آلة من شعار
الشربة كطنبور وعود ورباب ومزمار وسائر أنواع الأوتار لأن اللذة الحاصلة منها
تدعو إلى فساد ولأنها شعار الفسقة والتشبه بهم حرام. انتهى (ومثله) في النهاية
للشيخ الرملي. (وقول) الشيخ ابن حجر في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر ما
معناه: من استمع إلى شيء من هذه المحرمات فسق ورُدت شهادته. انتهى.
(وقوله) فيه أيضًا: أما المزامير والأوتار والكوبة فلا يختلف في تحريم استماعها
وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج للشهوات والفساد والمجون ،
وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه. انتهى ملخصًا.
وقد أورد الحبيب عبد الله بن علوي الحداد في كتابه النصائح الدينية عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه: إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، وذكر
من جملتها اتخاذ القَينات والمعازف يعني الملاهي من الأوتار والمزامير (وقول)
الحبيب عبد الله بن حسين في كتابه سلم التوفيق في عد كبائر الذنوب ما لفظه:
واللعب بآلات اللهو المحرمة كالطنبور والرباب والمزمار والأوتار، وكتصريح
هؤلاء الأئمة تصريح غيرهم من حملة الشريعة المحمدية بالتحريم واتفاقهم عليه
حيث اتفقوا على تحريم العود وهو القنبوس وما ذكر معه وعلى تفسيق فاعله
وسماعه وعلى رد شهادتهم (فهل) قول هؤلاء الأئمة وتصريحهم بما ذكر معتمد
في المذهب ومعول عليه يجب العمل بمقتضاه وهو اجتناب هذا المحرم المتفق عليه
وعلى تفسيق فاعله أم لا؟ .
(السؤال الثاني)
وما قولكم متَّّع الله بحياتكم وحفظ بكم الشريعة المطهرة في تصريح هؤلاء
الأئمة وغيرهم من المحققين موافقة للمذاهب الأربعة في الرد الشنيع على من أباح
تلك الآلة المحرمة كتصريح الشيخ ابن حجر في التحفة بقوله: إني رأيت تهافت
كثيرين على كتاب لبعض مَن أدركناهم من صوفية الوقت تبع فيه خراف ابن حزم
وأباطيل ابن طاهر وكذبه الشنيع في تحليل الأوتار وغيرها ، ولم ينظر لكونه
مذموم السيرة مردود القول عند الأئمة ووقع بعض ذلك للإدفوي في تأليف له في
السماع ولغيره وكل ذلك يجب الكف عنه واتباع ما عليه أئمة المذاهب الأربعة
وغيرهم. انتهى بالاختصار (ومثله) في النهاية للشيخ الرملي وغيرها
(وكتصريح) الشيخ ابن حجر في الزواجر بقوله: وأما حكاية ابن طاهر عن
صاحب التنبيه أنه كان يبيح سماع العود ويسمعه وأنه مشهور عنه ولم يكن من
علماء عصره من ينكر عليه وإن حله ما أجمع عليه أهل المدينة فقد ردوه على ابن
طاهر لأنه مجازف إباحي كذاب رجس العقيدة نجسها فمن ثم قال الأذرعي عقب
كلامه هذا: وهذه مجازفة ، وإنما فعل ذلك بالمدينة أهل المجانة والبطالة ونسبة ذلك
إلى صاحب التنبيه كما رأيته في كتاب له في السماع نسبة باطلة قطعًا وقد صرح
في مهذبه بتحريم العود وهو قضية ما في تنبيهه ومن عرف حاله وشدة ورعه
ومتين تقواه جزم ببعده عنه وطهارة ساحته منه. انتهى. (وكتصريح) الشيخ
الباجوري في حاشيته على ابن قاسم بقوله:
فاجزم على التحريم أي جزم
…
والرأي أن لا تتبع ابن حزم
فقد أبيحت عنده الأوتار
…
والعود والطنبور والمزمار
(وتصريح) الشيخ ابن حجر أيضًا في الزواجر بقوله: ومن عجيب تساهل
ابن حزم واتِّباعه لهواه أنه بلغ من التعصب الى أن حكم على هذا الحديث وكل ما
ورد في الباب بالوضع وهو كذب صُراح منه فلا يحل لأحد التعويل عليه في شيء
من ذلك. انتهى (وقوله) أيضًا في موضع آخر: فقد حكيت آراء باطلة منها قول
ابن حزم: وقد سمعه - أي العود - ابن عمر وابن جعفر رضي الله عنهما وهو
من جموده على ظاهريته الشنيعة القبيحة وما زعمه من هذين الإمامين ممنوع ولا
يثبت ذلك عنهما وحاشاهما من ذلك لشدة ورعهما وبُعدهما من اللهو. انتهى ملخصًا،
وقول الشيخ الرملي في النهاية: وما حُكي عن ابن عبد السلام وابن دقيق العيد
أنهما كانا يسمعان ذلك - فكذب. انتهى (فهل) تصريح هؤلاء الأئمة الذين هم
حملة الشريعة المطهرة بهذا الرد الشنيع على من أحل الأوتار وبتكذيب نُقُُولهم معتمد
في المذهب ومعول عليه يجب العمل بمقتضاه وهو عدم جواز التعويل ولا الالتفات
إلى من أحل الأوتار وعدم جواز نسبة سماعها إلى العلماء أو الصلحاء أم لا؟
(السؤال الثالث)
وما قولكم متع الله بكم وشيد بكم أركان الدين في شأن سيرة السلف الصالحين
من العلويين وغيرهم رضي الله عنهم ونفعنا بهم في شدة مجاهدتهم واجتهادهم
واستغراق أوقاتهم في تحصيل العلوم بشرائطها وآدابها ثم اجتهادهم في العبادة من
دوام القيام وسرد الصيام بكمال المتابعة وشدة المجاهدة للنفس ومكابدتها والورع
والزهد كما لا يخفى على من اطلع على كتب تراجمهم ومناقبهم رضي الله عنهم
كالمشرع الروي والجوهر الشفاف والبرقة المشيقة وغير ذلك أن كثيرًا منهم من
يصلي الصبح بوضوء العشاء في عدة سنين كثيرة ، وختم القرآن بعدد كثير من
زمن يسير وغير ذلك من الأعمال الصالحات مع غاية الزهد والورع وترك ملاذ
الدنيا المباحة فضلاً عن المحرمات وغير ذلك من أوصافهم الحميدة وشدة مجاهدتهم
ما يحير عقل من وقف على سيرتهم ومن مخالفتهم للنفس والهوى ما يقطع يقينًا
على بعد ساحتهم عن الملاهي ونظافة ساحتهم من المناهي (فهل) يسوغ للمؤمن
بالله أن ينسب إلى أحد منهم سماع العود الذى اتفق أئمة الشريعة على تحريمه
وتفسيق فاعله حتى يعتقد الغوغاء بسبب هذه النسبة والافتراء حل سماع العود وأنه
من شعار الصالحين أم لا يسوغ ذلك؟
(السؤال الرابع)
وما قولكم متع الله بكم وصان بكم شريعة سيد المرسلين فيما إذا سمع هذا
القنبوس أناس من المترسمين بالعلم أو من أهل البيت النبوي بحيث يقتدي بهم
الغوغاء ، ويحتجون بسماعهم له على جواز سماع القنبوس (فهلا) يعظم وزر
المقتدى بهم ويدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة سيئة فعليه
وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) أم لا؟
(السؤال الخامس)
وما قولكم متع الله بكم وذب بكم عن شريعة سيد المرسلين من دعاوى الكاذبين
فيما نص به العلامة السيد مصطفى العروسي في كتابه نتائج الأفكار وهو قوله:
(تنبيه) إن قال قائل: نحن لا نسمع بالطبع بل بالحق فنسمع بالله وفي الله لا
بحظوظ البشرية قلنا له: كذبتَ على طبعك وكذبت على الله في تركيبك وما وصفك
من حب الشهوات، وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (مَن فارق إلفه
وادعى العصمة فاجلدوه فإنه مفترٍ كذابٌ) . انتهى وفيما نص به الشيخ البجيرمي
على الإقناع وهو قوله: وما قيل عن بعض الصوفية من جواز استماع الآلات
المطربة لما فيها من النشاط على الذكر وغير ذلك فهو من تهورهم وضلالهم فلا
يعول عليه. انتهى (فهل) هذه النصوص صحيحة يجب العمل بمقتضاها وهو
عدم الاغترار بخرافات الأغيار أم لا؟
أفتونا في هذه الأسئلة فإن البلية الباعثة عليها قد عمت مصيبتها وطارت
شررها لعل الله بنور علمكم يطفيها، لا زلتم ناصرين لشريعة سيد المرسلين
وللمعاونة على البر والتقوى معاونين أحيا الله بكم الإسلام. آمين. اهـ بنصه.
(جواب المنار)
قد اختلف العلماء في سماع الغناء وآلات اللهو قديمًا وحديثًا، وأكثروا القول
فيه بل كتبوا فيه المصنفات واستقصوا الروايات، ونحن نذكر أقوى ما ورد من
الأحاديث في هذا الباب ثم ملخص اختلاف العلماء وأدلتهم، ثم ما هو الحق الجدير
بالاتباع، ثم نتكلم على أسئلة السائل.
أحاديث الحظر
1-
عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري أنه
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحِر
والحرير والخمر والمعازف) أخرجه البخاري بهذا الشك بصورة التعليق وابن
ماجه من طريق ابن محيريز عن أبي مالك بالجزم ولفظه: (ليشربن ناس من أمتي
الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله
بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير) وأخرجه أبو داود وابن حبان وصححه.
2-
عن نافع أن ابن عمر سمع صوت زمارة راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه
وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع فأقول: نعم فيمضي حتى
قلت: لا ، فرفع يده وعدل راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم سمع زمارة راع فصنع مثل هذا، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، قال
أبو علي اللؤلؤي: سمعت أبا داود يقول: وهو حديث منكر.
3-
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم الخمر
والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام) رواه أحمد وأبو داود، وفي لفظ
لأحمد أنه قال بعد الميسر: (والمزر والكوبة والقنين) وفي إسناد الحديث الوليد
ابن عبدة راويه عن ابن عمر، قال أبو حاتم الرازي: هو مجهول، وقال ابن
يونس في تاريخ المصريين: إنه روى عنه يزيد بن أبي حبيب. وقال المنذري:
إن الحديث معلول ولكنه يشهد له حديث ابن عباس بنحوه وهو (عن ابن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل
مسكر حرام) .
وقد فسر بعضهم الكوبة بالطبل قال سفيان: عن علي بن بذيمة ، وقال ابن
الأعرابى: الكوبة: النرد وقد اختلف في الغبيراء (بالضم) قال الحافظ في
التلخيص: فقيل: الطنبور، وقيل: العود، وقيل: البربط، وقيل: مزر يصنع
من الذرة أو من القمح، وبذلك فسره في النهاية. والمزر بالكسر نبيذ الشعير،
والمعتمد في الغبيراء ما قاله في النهاية من أنها من الأشربة ، والقنين قيل لعبة
للروم يقامرون بها، وقيل: الطنبور بالحبشية فظهر بهذا أن الحديثين ليسا في
موضوع المعازف وآلات السماع اتفاقًا.
4-
عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في
هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، فقال رجل من المسلمين: ومتى ذلك يا رسول
الله؟ قال: (إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور) رواه الترمذي وقال:
هذا حديث غريب، أقول: وقد أخرجه من طريق عبّاد بن يعقوب وكان من غلاة
الروافض ورؤوس البدع إلا أنه صادق الحديث، وقد روى له البخاري حديثًا
واحدًا مقرونًا بغيره، وقال ابن عدي: أنكروا عليه أحاديث وهو رواه عن عبد الله
بن عبد القدوس وهو رافضي مثله قال: قال يحيى بن معين: ليس بشيء،
والنسائي: ليس بثقة، وضعَّفه الدارقطني.
5-
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اتخذ
الفيء دولاً والأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا، وتُعُلِّمَ لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته
وعق أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد
القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القيان
والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحًا
حمراء وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع بعضه
بعضًا) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب أقول: إن راويه عن أبي هريرة
هو رميح الجذامي قال في الميزان: لا يعرف.
6-
عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تبيت طائفة من
أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثم يصبحون قردة وخنازير وتبعث على أحياء
من أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسف من كان قبلكم باستحلالهم الخمر وضربهم
بالدفوف واتخاذهم القينات) رواه أحمد. قال في المنتقى: وفي إسناده فرقد السبخي
قال أحمد: ليس بقوي ، وقال ابن معين: هو ثقة وقال الترمذي: تكلم فيه يحيى
بن سعيد وقد روى عنه الناس.
7-
عن (أمامة) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله بعثني رحمة
وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات يعنى البرابط والمعازف
والأوثان التى كانت تعبد في الجاهلية) رواه أحمد عن عبيد الله بن زحر عن علي
بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن. قال البخاري: عبيد الله بن زحر ثقة، وعلي
بن يزيد ضعيف. وقال أبو مسهر في عبيد الله بن زحر: إنه صاحب كل معضلة،
وقال يحيى بن معين: إنه ضعيف وقال مرة: ليس بشيء وقال ابن المديني: منكر
الحديث، وقال ابن حبان: يروي موضوعات عن الأثبات، إذا روى عن علي بن
يزيد أتى بالطامات.
8-
وعنه بهذا السند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا القينات
ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام. في مثل هذا
أنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (لقمان: 6) الآية) رواه الترمذي وأحمد بالمعنى ولم يذكر الآية والحميدي في
مسنده بلفظ: (لا يحل ثمن المغنية ولا بيعها ولا شراؤها ولا الاستماع إليها) وهو
لا يصح كما تقدم.
9-
عن ابن مسعود: (الغناء ينبت النفاق في القلب) رواه أبو داود مرفوعًا
والبيهقي مرفوعًا وموقوفًا وفي إسناده شيخ لم يسمَّ وفي بعض طرقه ليث بن أبي
سليم وهو متفق على ضعفه كما قال النووي. وقال الغزالي: رفعه لا يصح ،
ومعناه أن المغني ينافق لينفق. وقد زدنا هذا وما قبله إتمامًا للبحث.
وقد رأيتَ أنه لا يصح من هذه الأحاديث إلا الأول وستعلم مع ذلك ما قيل في
إعلاله وما روي غيرها أوهَى منها إلا أثر عن ابن مسعود في تفسير اللهو فقد
صححه ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي.
(أحاديث الإباحة)
(1)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم (أيام مِنى) وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث فاضطجع على الفراش
وحوَّل وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ ! فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (دعهما يا
أبا بكر فإنها أيام عيد) وفي رواية: (يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا) ،
فلما غفل غمزتهما فخرجتا، تقول: لما غفل أبو بكر، رواه البخاري في سنة العيد
وفي أبواب متفرقة، ومسلم في العيد، والنسائي في عشرة النساء، وإنما أنكر أبو
بكر لظنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نائمًا لم يسمع.
(2)
وعنها أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: (يا عائشة ما كان معكم من لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو) رواه
البخاري. قال الحافظ في الفتح عند شرح قوله: (ما كان معكم لهو) : في رواية
شريك (فقال: فهل بعثتم جارية تضرب بالدف وتغني؟ قلت: تقول ماذا؟ قال:
تقول:
أتيناكم أتيناكم
…
فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر
…
ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمراء
…
ما سمنت عذاريكم
(3)
عن خالد بن ذكوان عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ قالت: دخل عليَّ النبي
صلى الله عليه وسلم غداة بُني عليَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني،
وجويريات يضربن بالدف يندبن مَن قتل من آبائي يوم بدر حتى قالت إحداهن:
وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولي هكذا وقولي
كما كنتِ تقولين) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا النسائي.
(4)
عن محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح) رواه أحمد والترمذي
والنسائي وابن ماجه والحاكم.
(5)
عن عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود
الأنصاري في عُرس وإذا جوارٍ يغنين فقلت: أي صاحِبَيْ رسول الله صلى الله
عليه وسلم أهل بدر يُفعل هذا عندكم؟ ! فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا وإن
شئت فاذهب فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس، أخرجه النسائي والحاكم
وصححه.
(6)
عن بُريدة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض
مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن
َرَدَّكَ الله صالحًا أن أضرب بين يديك الدف وأتغنى، قال لها: إن كنت نذرت
فاضربي وإلا لا، فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي
تضرب ثم دخل عثمان وهى تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت
عليه! . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان لَيخاف منك يا عمر؛
إني كنت جالسًا وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر
ألقت الدف!) رواه أحمد والترمذي وصححه وابن حبان والبيهقي.
خلاف العلماء في مسألة
سماع الغناء والمعازف وأدلتهم
في الباب أحاديث أخرى، وما أوردنا هو أصح ما ورد فيه مما يحتج به،
وأحاديث الحظر التى تقدمت تحظر المعازف وهي آلات اللهو - والدف منها قطعًا
- وغناء القيان وهن الجواري المغنيات، وقد رأيت في أحاديث الإباحة إباحة
العزف بالدف وغناء الجواري وانعقاد نذره، ومما ينبغي الالتفات إليه أن كلام أبي
بكر وكلام عامر بن سعد يدل على أن الناس كانوا يتوقعون حظر السماع واللهو لا
سيما أصوات النساء لولا النص الصريح بالرخصة وتكراره في الأوقات التى جرت
عادة الناس بتحري السرور فيها كالعيد والعرس وقدوم المسافر، فأحاديث الإباحة
مرجحة بصحتها وضعف مقابلها ونكارته ، وبكونها على الأصل في الأشياء وهو
الإباحة، وبموافقتها ليُسر الشريعة وسماحها وموافقتها للفطرة، وهذا لا ينافي أن
الانصراف الزائد إلى اللهو والإسراف فيه ليس من شأن أهل المروءة والدين،
ولهذا رأيت كثيرًا من أئمة العلماء الزهاد شدد النكير على أهل اللهو لما كثر
وأسرف الناس فيه عندما عظم عمران الأمة واتسعت مذاهب الحضارة فيها حتى
جاء أهل التقليد من المصنفين فرجحوا أقوال الحظر وزادوا عليها في التشديد حتى
حرم بعضهم سماع الغناء مطلقًا وسماع آلات اللهو جميعها إلا طبل الحرب ودف
العرس، وزعموا أنه دف مخصوص لا يطرب وأنه غير دف أهل الطرب. وهاك
أجمع كلام يحكي خلاف علماء الأمة وأدلتهم في هذه المسألة بالاختصار وهو كلام
الشوكاني في نيل الأوطار قال بعد ما أورد ما تقدم من أحاديث الحظر:
قد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها فذهب الجمهور إلى
التحريم مستدلين بما سلف، وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر
وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع، ولو مع العود واليراع، وقد حكى
الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان
لا يرى بالغناء بأسًا ويصوغ الألحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتاره وكان ذلك
في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضًا
عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري والشعبي.
وقال إمام الحرمين في النهاية وابن أبي الدم: نقل الأثبات من المؤرخين أن
عبد الله بن الزبير كان له جوارٍ عوَّادات وأن ابن عمر دخل عليه وإلى جنبه عود
فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ ! ، فناوله إياه فتأمله ابن عمر فقال: هذا
ميزان شامي قال ابن الزبير: يوزن به العقول.
وروى الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالته في السماع بسنده إلى ابن سيرين
قال: إن رجلاً قدم المدينة بجوارٍ فنزل على عبد الله بن عمر وفيهن جارية تضرب
فجاء رجل فساومه فلم يهوَ منهن شيئًا قال: انطلقْ إلى رجل هو أمثل لك بيعًا من
هذا، قال: مَن هو، قال: عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه فأمر جارية منهن فقال
لها: خذي العود فأخذته فغنت فبايعه ثم جاء إلى ابن عمر.. إلى آخر القصة.
وروى صاحب العِقد العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي أن عبد الله بن عمر دخل
على أبي جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود ثم قال لابن عمر: هل ترى
بذلك بأسًا؟ قال: لا بأس بهذا، وحكى الماوردي عن معاوية وعمرو بن العاص
أنهما سمعا العود عند ابن جعفر. وروى أبو الفرج الأصبهاني أن حسان بن ثابت
سمع من عزة الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره. وذكر أبو العباس المبرّد نحو
ذلك (والمزهر عند أهل اللغة: العود) وذكر الإدفوي أن عمر بن عبد العزيز كان
يسمع من جواريه قبل الخلافة، ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاووس ونقله
ابن قتيبة وصاحب الإمتاع عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن
الزهري من التابعين، ونقله أبو يعلى الخليلي في الإرشاد عن عبد العزيز بن سلمة
الماجَشَوْن مفتي المدينة. وحكى الروياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة
الغناء بالمعازف. وحكى الأستاذ أبو منصور والفوراني عن مالك جواز العود
وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبورًا في بيت المنهال
بن عمرو المحدث المشهور.
وحكى أبو الفضل بن طاهر في مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل
المدينة في إباحة العود قال ابن النحوي في العمدة: قال ابن طاهر: هو إجماع أهل
المدينة، قال ابن طاهر: وإليه ذهبت الظاهرية قاطبة قال الإدفوي: لم يختلف
النقلة في نسبة الضرب إلى إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر وهو ممن أخرج له
الجماعة كلهم [1] وحكى الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية، وحكاه أبو
الفضل بن طاهر عن أبي إسحاق الشيرازي وحكاه الإسنوي في المهمات في
الروياني والماوردي، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور ، وحكاه ابن
الملقن في العمدة عن ابن طاهر، وحكاه الإدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد
السلام ، وحكاه صاحب الإمتاع عن أبي بكر بن العربي وجزم بالإباحة الإدفوي،
هؤلاء جميعًا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة، وأما مجرد الغناء
من غير آلة فقال الإدفوي في الإمتاع: إن الغَزَالي في بعض تآليفه الفقهية نقل
الاتفاق على حله، ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج
الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل المدينة عليه وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز
يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيه بالعبادة والذكر.
قال ابن النحوي في العمدة: وقد روي الغناء وسماعه عن جماعة من
الصحابة والتابعين فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر وغيره وعثمان كما
نقله الماوردي وصاحب البيان والرافعي وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ابن
أبى شيبة وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي وبلال وعبد الله بن الأرقم
وأسامة بن زيد كما أخرجه البيهقي أيضًا و (حمزة) كما في الصحيح وابن عمر كما
أخرجه ابن طاهر والبراء بن مالك كما أخرجه أبو نعيم وعبد الله بن جعفر كما
رواه ابن عبد البر وعبد الله بن الزبير كما نقله أبو طالب المكي وحسان كما رواه
أبو الفرج الأصبهاني وعبد الله بن عمرو كما رواه الزبير بن بكار وقرظة بن كعب
كما رواه ابن قتيبة و (خوات) بن جبير ورباح المعترف كما أخرجه صاحب
الأغاني والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي وعمرو بن العاص كما حكاه
الماوردي وعائشة والربيع كما في صحيح البخاري وغيره.
وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عمرو بن حسان وخارجة بن زيد
وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء
ابن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم
الزهري. وأما تابعوهم فخلق لا يحصون منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور
الشافعية. انتهى كلام ابن النحوي.
واختلف هؤلاء المجوزون فمنهم من قال بكراهته ، ومنهم من قال باستحبابه
قالوا: لكونه يرق القلب ويهيج الأحزان والشوق إلى الله ، قال المجوزون: إنه
ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما
يقتضي تحريم مجرد الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات.
أما المانعون فاستدلوا بأدلة منها حديث أبي مالك أو أبي عامر المذكور في أول
الباب وأجاب المجوزون بأجوبة:
(الأول) ما قاله ابن حزم وقد تقدم جوابه [*] .
(والثاني) أن في إسناده صدقة بن خالد وقد حكى ابن الجنيد عن يحيى بن
معين أنه ليس بشيء، وروى المزي عن أحمد أنه ليس بمستقيم، ويجاب عنه أنه
من رجال الصحيح.
(والثالث) أن الحديث مضطرب سندًا ومتنًا.
أما الإسناد فللتردد من الراوي في اسم الصحابي كما تقدم.
وأما متنًا فلأن في بعض الألفاظ (يستحلون) وفي بعضها بدونه، وعند أحمد
وابن أبى شيبة بلفظ (ليشربن أناس من أمتي الخمر) وفي رواية: الحر بمهملتين
وفي أخرى بمعجمتين كما سلف. ويجاب عن دعوى الاضطراب في السند بأنه قد
رواه أحمد وابن أبى شيبة من حديث أبي مالك بغير شك، ورواه أبو داود من
حديث أبي عامر وأبي مالك وهي رواية ابن (داسة) عن أبي داود، ورواية ابن
حبان أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الأشعريين فتبين بذلك أنه من روايتهما جميعًا.
وأما الاضطراب في المتن فيجاب عنه بأن مثل ذلك غير قادح في الاستدلال
لأن الراوي قد يترك بعض ألفاظ الحديث تارة ويذكرها أخرى.
(والرابع) أن لفظة (المعازف) التى هي محل الاستدلال ليست عند أبي
داود ويجاب بأنه قد ذكرها غيره، وثبت في الصحيح والزيادة من العدل مقبولة.
وأجاب المجوزون على الحديث المذكور من حيث دلالته فقالوا: لا نسلم
دلالته على التحريم، وأسندوا هذا المنع بوجوه:
(أحدها) أن لفظة (يستحلون) ليست نصًّا في التحريم فقد ذكر أبو بكر بن
العربي لذلك معنيين: أحدهما أن المعنى يعتقدون أن ذلك حلال، الثاني أن يكون
مجازًا عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور ، ويجاب بأن الوعيد على الاعتقاد
يشعر بتحريم الملابسة بنحو الخطاب ، وأما دعوى التجوز فالأصل الحقيقة ولا
ملجئ إلى الخروج عنها.
(وثانيها) أن المعازف مختلف في مدلولها كما سلف ، وإذا كان اللفظ محتملاً
لأن يكون للآلة ولغير الآلة لم ينتهض للاستدلال لأنه إما أن يكون مشتركًا ، والراجح
التوقف فيه أو حقيقةً ومجازًا ولا يتعين المعنى الحقيقي ، ويجاب بأنه يدل على تحريم
استعمال ما صدق عليه الاسم ، والظاهر الحقيقة في الكل من المعاني المنصوص
عليها من أهل اللغة، وليس من قبيل المشترك؛ لأن اللفظ لم يوضع لكل واحد بل
وضع للجميع على أن الراجح جواز استعمال المشترك في جميع معانيه مع عدم
التضاد كما تقرر في الأصول.
(وثالثها) أنه يحتمل أن تكون المعازف المنصوص على تحريمها هي
المقترنة بشرب الخمر كما ثبت في رواية بلفظ: (ليشربن أناس من أمتي الخمر
تروح عليهم القيان وتغدو عليهم المعازف) ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن
المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث لا يحرم إلا عند
شرب الخمر واستعمال المعازف واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله أيضًا يلزم في
مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الحاقة: 33-34) أنه لا يحرم عدم الإيمان إلا عند عدم الحض على طعام
المسكين فإن قيل: تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم منه دليل آخر
فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضًا كما سلف على أنه لا ملجئ
إلى ذلك حتى يصار إليه.
(ورابعها) أن يكون المراد (يستحلون) مجموع الأمور المذكورة فلا يدل
على تحريم واحد منها على الانفراد وقد تقرر أن النهي عند الأمور المتعددة أو
الوعيد على مجموعها لا يدل على تحريم كل فرد منها ويجاب عنه بما تقدم في الذى
قبله.
واستدلوا ثانيًا بالأحاديث المذكورة في الباب التى أوردها المصنف رحمه الله
تعالى ، وأجاب عنها المجوزون بما تقدم من الكلام في أسانيدها ويجاب بأنها
تنتهض بمجموعها ولا سيما وقد حسن بعضها ، فأقل أحوالها أن تكون من قسم
الحسن لغيره ولا سيما أحاديث النهي عن بيع القينات والمغنيات فإنها ثابتة من
طرق كثيرة منها ما تقدم ومنها غيره ، وقد استوفيت ذلك في رسالة وكذلك حديث (إن
الغناء ينبت النفاق) فإنه ثابت من طرق قد تقدم بعضها ، وبعضها لم يذكر، منه
عن ابن عباس عن ابن صصري في أماليه، ومنه عن جابر عند البيهقي ومنه عن
أنس عند الديلمي وفي الباب عن عائشة وأنس عند البزار والمقدسي وابن مردويه
وأبى نعيم والبيهقي بلفظ (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة مزمار عند نعمة ورنة
عند مصيبة) وأخرج ابن سعد في السنن عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: (إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لهو ولعب
ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة وخمش وجه وشق جيب ورنة شيطان)
وأخرج الديلمي عن أبي أمامة مرفوعًا: (إن الله يبغض صوت الخلخال كما يبغض
الغناء) والأحاديث في هذا كثيرة قد صنف في جمعها جماعة من العلماء كابن حزم
وابن طاهر وابن أبي الدنيا وابن حمدان الإربلي والذهبي وغيرهم.
وقد أجاب المجوزون عنها بأنه قد ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية
والحنابلة والشافعية ، وقد تقدم ما قاله ابن حزم ، ووافقه على ذلك أبو بكر بن
العربي في كتابه الأحكام وقال: لم يصح في التحريم شيء، وكذلك قال الغزالي
وابن النحوي في العمدة، وهكذا قال ابن طاهر: إنه لم يصح منها حرف واحد،
والمراد ما هو مرفوع منها وإلا فحديث ابن مسعود - في تفسير قوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (لقمان: 6) - قد
تقدم أنه صحيح ، وقد ذكر هذا الاستثناء ابن حزم فقال: إنهم لو أسندوا حديثًا واحدًا
فهو إلى غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا حجة في أحد دونه كما روي
عن ابن عباس وابن مسعود في تفسير قوله تعالى:] وَمِنَ النَّاسِ.. [الآية أنهما
فسرا اللهو بالغناء قال: ونص الآية يبطل احتجاجهم لقوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ} (الحج: 9) وهذه صفة مَن فعلها كان كافرًا ولو أن شخصًا اشترى
مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوًا؛ لكان كافرًا فهذا هو الذى ذم الله تعالى
وما ذم من اشترى لهو الحديث ليروّح به نفسه لا ليضل به عن سبيل الله.
انتهى. قال الفاكهاني: إني لم أعلم في كتاب الله ولا في السنة حديثًا صحيحًا صريحًا
في تحريم الملاهي وإنما هى ظواهر وعمومات يُسْتَأْنَسُ بها، لا أدلة قطعية.
واستدل ابن رشد بقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (القصص:
55) وأي دليل في ذلك على تحريم الملاهي والغناء وللمفسرين فيها أربعة
أقوال:
الأول: أنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا فكان اليهود يلقونهم بالسب
والشتم فيعرضون عنهم.
والثاني: أن اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غيَّره اليهود من التوراة وبدلوا
من نعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفته أعرضوا عنه وذكروا الحق.
الثالث: أنهم المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا إليه.
الرابع: أنهم ناس من أهل الكتاب لم يكونوا هودًا ولا نصارى وكانوا على
دين الله كانوا ينتظرون بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما سمعوا به بمكة
أتوه فعرض عليهم القرآن فأسلموا، وكان الكفار من قريش يقولون لهم: أف لكم
اتبعتم غلامًا كرهه قومه وهم أعلم به منكم؟ ! وهذا الأخير قاله ابن العربي في
أحكامه. وليت شعري كيف يقوم الدليل من هذه الآية؟ . انتهى.
ويجاب بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللغو عام وهو في
اللغة: الباطل من الكلام الذي لا فائدة فيه، والآية خارجة مخرج المدح لمن فعل
ذلك، وليس فيها دلالة على الوجوب.
ومن جملة ما استدلوا به حديث: (كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا
ثلاثة: ملاعبة الرجل أهلَه وتأديبه فرسَه ورميه عن قوسه) قال الغزالي: قلنا:
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فهو باطل) لا يدل على التحريم بل يدل على
عدم الفائدة. انتهى ، وهو جواب صحيح لأن ما لا فائدة فيه من قسم المباح على أن
التلهي بالنظر إلى الحبشة وهم يرقصون في مسجده صلى الله عليه وسلم وآله وسلم
كما ثبت في الصحيح خارج عن تلك الأمور الثلاثة.
أجاب المجوزون عن حديث ابن عمر المتقدم في زمارة الراعي بما تقدم من
أنه حديث منكر، وأيضًا لو كان سماعه حرامًا لما أباحه صلى الله عليه وآله وسلم
لابن عمر ولا ابن عمر لنافع ولنهى عنه وأمر بكسر الآلة؛ لأن تأخير البيان عن
وقت الحاجة لا يجوز، وأما سده صلى الله عليه وسلم لسمعه فيحتمل أنه تجنبه كما
كان يتجنب كثيرًا من المباحات كما تجنب أن يبيت في بيته درهم أو دينار وأمثال
ذلك. لا يقال: يحتمل أن تركه صلى الله عليه وآله وسلم للإنكار على الراعي إنما
كان لعدم القدرة على التغيير لأنا نقول: ابن عمر إنما صاحَبَ النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وهو بالمدينة بعد ظهور الإسلام وقوته فترك الإنكار فيه دليل على عدم
التحريم.
وقد استدل المجوزون بأدلة منها قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الخَبَائِث} (الأعراف: 157) ووجه التمسك أن الطيبات جمع محلًّى باللام
فيشمل كل طيب ، والطيب يطلق بإزاء المستلذ وهو الأكثر المتبادر إلى الفهم عند
التجرد عن القرائن ويطلق بإزاء الطاهر والحلال، وصيغة العموم كلية تتناول كل
فرد من أفراد العام فتدخل أفراد المعاني الثلاثة كلها ولو قصرنا العام على بعض
أفراده لكان قصره على المتبادر هو الظاهر ، وقد صرح ابن عبد السلام في دلائل
الأحكام أن المراد في الآية بالطيبات المستلذات. ومما استدل به المجوزون ما
سيأتي في الباب الذى بعد هذا [2] وسيأتي الكلام عليه.
ومن جملة ما قاله المجوزون أن لو حكمنا بتحريم اللهو لكونه لهوًا لكان جميع
ما في الدنيا محرمًا لأنه لهو لقوله تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (محمد
: 36) ويجاب بأنه لا حكم على جميع ما يصدق عليه مسمى اللهو لكونه لهوًا بل
الحكم بتحريم لهو خاص وهو لهو الحديث المنصوص عليه في القرآن لكنه لما علل
في الآية بعلة الإضلال عن سبيل الله لم ينتهض للاستدلال به على المطلوب.
وإذا تقرر ما حررناه من حجج الفريقين فلا يخفى على الناظر أن محل النزاع
إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه ، والمؤمنون وقَّافون عند
الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح: (.. ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه
ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) ولا سيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود
والخدود والجمال والدلال، والهجر والوصال، ومعاقرة العقار، وخلع العذار
والوقار، فإن سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلية وإن كان من التصلب في ذات
الله على حد يقصر عنه الوصف، وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول
وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول، نسأل الله السداد والثبات.
ومن أراد الاستيفاء للبحث فعليه بالرسالة التى سميتها (إبطال دعوى الإجماع
على تحريم مطلق السماع) اهـ كلام الإمام الشوكاني.
(للكلام بقية)
ومعلوم أن نَذْر الحرام أو المكروه لا ينعقد. وهذا يبطل ما قاله الشوكاني هنا
من أن أدلة المانعين تنهض شبهة وسيأتي التحقيق فيه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
يريد بالجماعة أحمد والبخاري ومسلما وأصحاب السنن كلهم فهم ثقة عندهم.
(*) قال المؤلف قبل ما ذكرنا في الكلام على أحاديث الحظر ما نصه:.
(وفي الباب أحاديث كثيرة وقد وضع جماعة من أهل العلم في ذلك مصنفات ولكنه ضعفها جميعًا بعض أهل العلم حتى قال ابن حزم: إنه لا يصح في الباب حديث أبدًا وكل ما فيه فموضوع ، وزعم أن حديث أبي عامر أو أبي مالك المذكور في أول الباب منقطع فيما بين البخاري وقد وافقه على تضعيف أحاديث الباب من سيأتي قريبًا قال الحافظ في الفتح: وأخطأ في ذلك - يعنى في دعوى الانقطاع - من وجوه والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح ، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر الحديث في موضوع آخر من كتابه، وأطال الكلام في ذلك بما يكفي اهـ كلام الشوكاني ومنه تعلم أن الحافظ ابن حجر والشوكاني يعترفان بأنه لم يصح من الأحاديث الواردة في حظر آلات اللهو إلا الحديث الأول مما أوردنا ويقولان: لا بأس بانقطاع سنده هنا وقد علمت أنه ليس فيه إلا لفظ (المعازف) وعرفت معناه وأنه يشمل الدف الذى سمعه النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
هو حديث الجارية التى نذرت الضرب بالدف وتقدم في أحاديث الإباحة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحق والباطل والقوة
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (سبأ: 49) ، {وَقُلْ جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء:18) .
مضت السنة في المغلوبين على أمرهم، المقهورين في أرضهم أن يعتذروا
عن أنفسهم بدعوى أن القوة هي التي غلبتهم على حقهم، وأنهم غير مذنبين ولا
مقصرين، ولا مسرفين ولا مضيعين، وجرت عادة الغالبين على أمرهم،
والقاهرين في حكمهم أن يحتجوا لأنفسهم بأنهم أصحاب الحق الذى يعلو ولا يُعلى
وأن الحق هو الذى جعل كلمته العليا وكلمة أعدائهم السفلى، وقد يعتور الأمة
الواحدة القوة والضعف والعز والذل فتدعي في طور قوتها وعزها أنها اعتزت
بالحق وغلبت، وفي طور الضعف والذل أنها أُخذت بالقوة فقهرت، وأنها حليفة
الحق في الطورين، لم تتعدَّ حدوده في حال من الحالين، وتلك سنة الله تعالى في
الأفراد أيضًا يدعي الرجل الحق لنفسه ما ظفر، ويعتذر عنها بالقوة إذا هو غلب
وقهر، وهذا الغرور من الإنسان قد أضله عن طريق الحق حتى لا يكاد يفهم معنى
كلمة (الحق) ومدلولها الصحيح. وما نقل إلينا قول عن غالب يتعزز فيه بالقوة
على الحق إلا تلك الكلمة المأثورة عن بِسْمَرْك: (القوة تغلب الحق) وقد أرسلها
مثلاً، وهي لا تصح إلا تأويلاً وجدلاً، ولو غُلب الحق لما كان حقًّا. والحق أن
الحق قد يخفى، وقد يُترك ويُنسى، ولكن ما صارع الباطلَ إلا صرعه، ولا قارعه
إلا وقرعه، (وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه) ، والقوة إنما تظفر إذا كانت
شعبة منه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الحق عبارة عن الشيء أو الأمر الثابت المتحقق في الواقع ، والباطل هو ما
لا ثبوت أو لا تحقق له في نفسه ، وما لا ثبوت له ولا تحقق لا يَمْحَق ما كان ثابتًا
متحققًا كما هو الشأن في الموجود والمعلوم والموهوم، وهذا مما لا مجال فيه
لاختلاف العقلاء. إنْ يختلفون إلا في الحقوق العرفية والوضعية، والدينية
والشرعية، وما تحكم فيه الشرائع من الأمور الاجتماعية، وفي كل ذلك حق
وباطل لا يتنازعان إلا ويكون الحق هو الغالب والباطل هو المغلوب ، وإننا نبين
ذلك ، ونذكر مواضع غلط الناس فيه ومناشئ شبهاتهم، فنقول: إن الحق والباطل
يتنازعان في خمسة أمور كلية وهي:
(1)
الفلسفة والنظريات العقلية.
(2)
الوجود والسنن الكونية.
(3)
السنن الاجتماعية.
(4)
القوانين والمواضعات العرفية.
(5)
الدين والشريعة الإلهية.
الفلسفة والنظريات العقلية:
اختلف الناس في الفلسفة والمسائل النظرية في القديم والحديث، ومنهم المحق
والمبطل ، فيقول من يظن أن الباطل يغلب الحق: إن كثيرًا من الآراء الباطلة في
ذلك كانت رائجة لا ينازع فيها أحد، وكثير منها كان موضوع النزاع ، وكان أكثر
الباحثين فيه على الباطل، ولا يزال يظهر للعلماء في كل زمان وكل جيل خطأ
كثير من السابقين والمعاصرين، فيظهر بذلك أن الباطل كان هو الغالب فإن كنت
تقول: لا عبرة إلا بغلب دائم فإنك لا تقدر أن تثبت الدوام لحق ولا لباطل، فيكفي
في إثبات قوة الباطل وظهوره على الحق أن يظهر عليه زمنًا طويلاً، ودفع هذا
الظن سهل، وإن كنا نعترف بأن الحق والباطل في الآراء النظرية والفلسفية من
أخفى الأمور وأوغلها في الإبهام؛ ذلك أن التنازع بين الحق والباطل لا يتحقق هنا
ما دام كل من المتناظرين في المسألة يجادل بالنظريات ولم ينتهِ بدلائله إلى إحدى
اليقينيات التي لا نزاع فيها. وبيان ذلك أن المسألة ما دامت نظرية من الجانبين
فالتنازع إنما يكون من بين الدليلين لا بين المدلولين، والحق في الدليل هو إفادة
اليقين فما دام نظريًّا فهو غير حق إنما هو موقوف أو باطل يعارض مثله، فإذا انتهى
أحد المتناظرين إلى اليقين البديهي في المسألة فهو صاحب الحق وهو الغالب سواء
أذعن له مناظره أو كابره. وما كان الغَلَب والسلطان لتلك المسائل النظرية الباطلة
في الفلسفة العليا وغير العليا ذلك الزمن الطويل إلا لأن الحق فيها كان خفيًا أو غير
معروف لأهلها. بل نقول: إن في طرق الاستدلال نفسها حقًا وباطلاً فالحق هو ما
وافق شروط القياس المنطقي وأعني بكونه حقًّا أن النفس فطرت على الانتقال من
المقدمات المترتبة على ذلك النحو من الترتيب المعروف في أشكال القياس إلى
المطالب التي هي النتائج فإذا كانت المقدمات مسلّمة فلا مندوحة للنفس عن التسليم
بالنتيجة. وقد يكون صاحب الدعوى الحق غير قادر على نظم الدليل الحق مع كون
الدعوى نفسها غير بديهية فإذا غلب مناظره المبطل في الدعوى حينئذ فلا بد أن
يكون أقرب منه إلى الحق من طريق الاستدلال وأن يكون قد أقنعه ببعض المقدمات
الباطلة وفي هذه الحال يكون مبطلاً ومن ناحية الباطل قد أخذ - وهو ما سلمه من
المقدمات - لا من ناحية الحق وهو أصل الدعوى التي نطق بها على غير بينة
وبغير بينة.
ولو شئت لجئت في هذا الأصل بالأمثلة والشواهد التي تجليه أكمل التجلي
ولكن القصد بهذا المقال إلى غيره مما نرى الناس مصرين على الخطأ فيه وفي
خطأهم الضلال البعيد والخسران العظيم.
الوجود وسنن الكون:
كلُّ وجودٍ حق، والعدم باطل لا حقيقة له، وكل نظام في الطبيعة والخليقة فهو
حق، والخلل فيها باطل لا تحقق له، والخلل الصوري الذى يعبر عنه علماء الكون
بفلتات الطبيعة له سنن خفية أي نواميس لم يطلعوا عليها وهم يتوقعون اكتشافها
ويرجونه {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت} (الملك: 3) ، {الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة: 7) ولا تنازع بين الوجود والعدم ولا بين النظام
والخلل، وإنما يقع التنازع بين الناس في فهم ذلك والعلم به، فمن كان أعلم بالوجود
والنظام كان أعلم بالحق وأقرب إلى الحق وكانت له الغلبة بالحق. وهذا ظاهر في
نفسه، وسيادةُ العَالِمِينَ بحقائق الوجود وسنن الله في الكائنات على الجاهلين بها
مشاهَدةٌ لا ينكرها المسودون المغلوبون بجهلهم وباطلهم، وإن كانوا يجهلون أن علم
من سادوهم هو الحق وأنه سبب لسيادتهم، وأنهم هم بجهلهم على باطل وبه كانوا
مغلوبين على أمرهم، ومقهورين في أرضهم وديارهم، وأن منهم المسلمين الذين
يقول كتابهم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (يونس:
5) ويقول: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الجاثية: 22) ، وفي معناهما آيات، ولا ترى شعبًا إسلاميًّا
يعتقد بأن سعة العلم بالسموات والأرض من الحق الذي تعتز به الأمم، وإن جهلت
الأمة وهلكت فقد جزيت بما كسبت، وظَلمت نفسها وما ظُلمت.
السنن الاجتماعية:
للكون سنن في تكوّن الأحجار الكريمة وغير الكريمة كالصخور وفي نمو
النبات وحياة الحيوان وفي اجتماع الأجسام وافتراقها وتحللها وتركبها، وهي ما
عنيناه بالأصل الثاني. وللبشر سنن خاصة بهم في حياتهم الاجتماعية عليها يسيرون
وفيها يتقلبون فقوتهم وضعفهم وغناهم وفقرهم وعزهم وذلهم وسيادتهم وعبوديتهم
وحياتهم وموتهم كل ذلك غاية لاتباع سنن الله في السير على أحد الطريقين المشار
إليهما بقوله تعالى في الإنسان: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) فهذه السنن
حق وتجنبها خروج عنه إلى الباطل. وما زال العارفون بسنن الله تعالى في الأمم
هم الآخذين بأطراف السعادة من أمم ينتصرون على الجاهلين بها من المبطلين من
حيث هم مبطلون وهو ما به الاختلاف وإن كان الغالب القاهر مبطلاً في شيء آخر
والمغلوب محق في مخالفته له فيه.
لم يعرف كتاب قبل القرآن نطق بأن للأمم في قوتها وضعفها وحياتها وموتها
سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول كقوله في سورة الأنفال: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن
يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} (الأنفال: 38)
أي فإنه يحل بهم ما حل بمن قبلهم ممن عاند الحق وقاومه. وقوله في سياق الكلام
على الأنبياء وأحوال الأمم في سورة الحجر: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (الحجر
: 13) وقوله في سياق الكلام في بذل المال والحرب {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) ،
وفي الآية الثالثة بعدها: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس
…
} (آل عمران: 140) الآيات.
فهذه الآيات البينات حق، وما ترشد إليه من سنن الاجتماع حق، فالجهل
بسنن الاجتماع باطل، وترك الاعتبار بها في شؤون الأمم باطل، فهل وُجِدَتْ أمة على سطح هذه الأرض عرفت هذه السنن وسارت عليها ثم قاومتها أمة أخرى تجهلها
أو لا تعتبر ولا تهتدي بما عساها تعرف منها ثم كانت الجاهلة الضالة هى الغالبة
فيقال: إن الباطل قد يغلب الحق؟ كلا، ما كان ذلك ولن يكون ومن العجائب
والعجائب جمة أن يكون المسلمون في هذا العصر أجهل الأمم كلها بسنن الله تعالى في
البشر حتى إن من يدعوهم إلى تعلمها وتعلم مصادرها وهي تواريخ الأمم يعده رجال
الدين منهم جانيًا على الدين صادًّا عنه لا سيما إذا كانت دعوته موجهة إلى
طلاب علوم الدين في مثل مدرسة الأزهر!! ، فأين هذا الدين الذي يعد العرفان
بسنن الاجتماع صدًّا عنه وجناية عليه من القرآن الذي هو أول كتاب أرشد إلى
هذه السنن؟! وإذا غلبت كل أمة مهدية بهذه السنن في كسبها وعملها وسياستها
وحروبها على الأمة الجاهلة بها الضالة عنها وسادت عليها فهل يصح أن يقال:
إن الباطل قد غلب الحق؛ لأن دين المسلمين هو الحق وأديان الغالبين عليهم هي
الباطلة؟ كلا إن كل مغلوب فهو بسبب الباطل قد غُلِبَ، وكل غالب فهو بسنن الحق
قد غلب، أينصرون ويسودون ، وهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون ،
وحكامهم يظلمون ولا يعدلون؟! ، والله تعالى يقول في بيان سننه الحق: {فَلَوْلَا
كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَاّ قَلِيلاً مِّمَّنْ
أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 116-117) فسروا الظلم ههنا
بالشرك، والمعنى أن الله تعالى لا يهلك الأمم بسبب الشرك إذا كانت مُصلحة في
الأعمال ولكن يهلك المفسدين الذين لا ينهون عن الفساد لا سيما إذا كان منبعه
أمراؤهم وملوكهم، أو المعنى ما كان ليهلكها بظلم منه؛ لأنه منزه عن الظلم وهي لا
تستحق الإهلاك؛ لأنها مُصلحة في العدل والعمران.
القوانين والمواضعات العرفية:
لكل أمة من أمم الحضارة قوانين تسوس بها بلادها، ولكل قبيلة من القبائل
البدوية عُرف ومواضعات ترجع إليها في شؤونها الاجتماعية، وللدول قوانين في
الحقوق العامة والمصالح الخاصة، فهذه القوانين والمواضعات حقوق عرفية فالآخذ
بشيء من هذه الحقوق يكون هو الغالب لتاركها مادامت الأمة والدولة أو الدول التي
جعلت القانون حقًّا في عرفها حاقة له، فإذا رجعت الأمة عن عرفها أو الدولة عن
قانون لها في بلادها أو الدول عن بعض القوانين العامة لم يعد ذلك حقًّا؛ لأن حقيته لم
تكن لذاته وإنما كانت للعرف الذى يكفله أهله الواضعون له وقد زال، مثال ذلك
اعتداء دول أوربا على الممالك المشرقية وافتياتها على حكومات هذه الممالك، تركيا
فما دونها، وقد علم من القوانين العامة أنه ليس لدولة أن تفتات على الأخرى في
إدارتها الداخلية، ولكن أوربا تفتات وتغلب فهنا يظن الجاهل بالفصل بين الحق
والباطل أن الباطل قد غلب الحق بالقوة، ووجه الخطأ في هذا الظن أن هذا الحق
الذى ندعي أن أوربا سلبته من تركيا في مصر أو كريت مثلاً إما أن يكون حقًّا
طبيعيًّا يملك ويحفظ بمقتضى سنن الله في الاجتماع البشري أو حقًّا عرفيًّا يملك
ويحفظ بمقتضى القوانين العامة التي تعترف بها الدول وتكفلها؛ فإن ادعى المدعي
الشق الأول فإننا نمنع دعواه ونقول: إن سنن الاجتماع لا تتبدل ولا تتحول كما
نطق الكتاب العزيز ودلت التجربة والمشاهدة؛ لأن واضعها وحافظها هو العزيز
الحكيم وهي تنيط الغلبة ودوام السيادة بالعدل والعلم بالسنن والإصلاح في الأرض
والمنعة والتقوى والاستعداد للحماية بالقوة وأعظم القوة فيها قوة الأمة المستقلة
العارفة بحقوقها ثم القوة الآلية وذلك غير متحقق في تركيا كأوربا فلا حق طبيعي
هناك.
وأما الحق العرفي فقد قلنا: إنه ليس حقًّا ذاتيًّا وإنما هو حق ما كفله واضعوه
المعترِفون به وقد اتفقت الدول الكافلة للقوانين العامة على أن لا تعامل دول الشرق
بما تتعامل هي به وأن تفتات عليها بحكمة حتى لا يفضي الافتيات إلى الحرب،
التي يخسر فيها الغالب والمغلوب، فتبين بهذا أن الباطل لم يغلب الحق في هذه
المسألة بل الحق هو الغالب كما أخبر الله تعالى، وذلك أن دول أوربا الغالبة عارفة
بسنن الكون وسنن الاجتماع ومهتدية بها وهي الحق وبها الغلب والسلطان، كما
تقدم البيان مؤيدًا بالقرآن، فإن قيل: إن أوربا تظلم في البلاد التى تفتات فيها قلنا:
نعم ولكن ظلمها دون ظلم حكام البلاد المفتات عليهم فباطلها أقل وعدلها أكثر فحقها
أكبر وهكذا غلب الحق الباطل ولكن أكثر الناس لا يعلمون! .
ومن هذا القبيل غلب ألمانيا وانتصارها على فرنسا فإن سببه العلم بسنن
الكون وسنن الاجتماع والعمل به ولذلك قال بسمرك: (غلبنا بالمدرسة) وقوله هذا
حق وأما قوله: (القوة تغلب الحق) فقد لبّس فيه الحق بالباطل فالقوة الباطلة لا
تغلب الحق لكن القوة الطبيعية الاجتماعية تغلب الحق العرفي وحينئذ يكون الحق قد
غلب حقًّا أضعف منه في الظاهر بل هو لم يغلب إلا الباطل.
يقول الظانون في الحق غير الحق: إن القضاة بظلمهم ووكلاء الدعاوي
بِحِيَلِهِمْ وخَتَلِهِمْ كثيرًا ما يؤيدون المبطل في دعواه حتى يكون له الفلج والظفر،
ونقول: إن هذا القول صحيح ولكنه لا يفيد المطلوب فإن تأييد الباطل إذا كان من
الحكام فلا قانون ولا شريعة وإنما هو الهوى والظلم يتحكمان وهما من الباطل الذي
لا يغلبه إلا حق من جنسه وهو السلطة العادلة فإذا تنازعت سلطة عدل مع سلطة
ظلم وغلبت الثانية الأولى تكون المعارضة صحيحة وأما الدعوى فليست من جنس
السلطة فيقال: إنه يجب أن يغلب حق الأولى على باطل الثانية، وإن كان الحاكم
عادلاً والخصم المبطل أو وكيله المحامي عنه ألحن بحجته وأقدر على البيان من
الخصم المحق أو وكيله فالتغالب إذًا بين الحجة والحجة ولم تنس ما قلناه فيها عند
الكلام في الفلسفة والنظريات والعقلية.
إن الإنسان يظلم والظلم من الباطل حتى قيل: إن الظلم طبيعي في البشر
ومنه قولهم: الظلم كمين في النفس، القدرة تظهره والعجز يخفيه، وقال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
…
ذا عفة فلعلة لا يظلم
وهذا قول بأن الإنسان جبل على الباطل وهو على ظهور شبهته غير صحيح
وإنما الصحيح هو ما قاله الخالق الحكيم في السورة الخامسة والتسعين، وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
] وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [ (التين:1-8) .
أكد لنا القول عز وجل بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم؛ إذ أقسم على ذلك
بما ذكَّرنا بعهد الفطرة ومعاهد ظهور الشريعة ذلك أنه خلقه وجعل له من الحواس ما
يدرك به ما يحتاج إلى إدراكه في حفظ نفسه وتوفير منافعها ودفع المضار عنها
ومن العقل ما يميز به بين المدركات الحسية فيعرف صوابها وخطأها وما يحكم به
على هذه المشاعر المدركة فيوجهها إلى الاشتغال بالأنفع والأصلح فهو مجبول على
أن يختار ما هو أنفع وأصلح، ولكنه لما خلق مدنيًّا مستعدًا للكمال الشخصي
والنوعي بالعمل التدريجي والتعاون. والعمل لا يكون إلا بعلم ، والعلم لا يكون إلا
بالكسب؛ كان هذا الإنسان عرضة للجهل بوجوه المصالح والمفاسد والمنافع
والمضار سواء كانت للأفراد وللأمم والشعوب، والجهل من الباطل وبه رد الإنسان
بدخوله في طور الحياة الاجتماعية إلى أسفل سافلين فكان أفراده وجماعاته يجنون
على أنفسهم ويظلمونها من حيث يظنون أنهم ينفعونها ويؤيدون حقوقها ففطرتهم
تطلب الحق الذى فيه المصلحة والمنفعة وعقولهم تخطئ في تحديده فتقع في الباطل
فكانوا محتاجين إلى مساعدة للفطرة وللعقل يحدد لهما الحقوق النافعة ويميزها من
الأباطيل الضارة، وذلك هو الدين الذى نفثه روح الحق في روع كل واحد من أولئك
الشارعين الذين ظهروا في معاهد منبت التين والزيتون وطور سِينِين وفي ذلك البلد
الأمين (مكة المكرمة) وغيرها فصلح بها أمر الناس وساد الحق على الباطل ما
كانوا يهتدون بتلك الشرائع إيمانًا وعملاً صالحًا كما قال عز وجل.
فالباطل ليس من منزع الإنسان بطبعه ولكنه من العوارض اللازمة له من حيث
هو مريد مختار في علمه وعمله كاسب لهما بالتدريج. ولذلك أجمع العلماء في هذا
العصر على سنة من سنن الاجتماع التي جاء بها القرآن في شأن الحق والباطل وهي
ما يعبرون عنه بالانتخاب الطبيعي وقد بيَّنها الله تعالى بقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251)، وقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
…
} (الحج: 40)
…
إلخ وقوله: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ
وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) وبالآيات التي افتتحنا بها هذا المقال. وبمثل
قوله: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) وقوله - في السحر الذى هو
باطل لا حقيقة له -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} (يونس: 81- 82) وقوله بعد إرشاد للأمم منه النهي عن الفساد في الأرض بعد
إصلاحها: {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: 86) وقوله بعد
بيان أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) .
فاتفاق الحكماء على مضمون هذه الآيات وأمثالها في هذا العصر هو اعتراف
بأن للحق الغلبة والسلطان على الباطل إذا هما وجدا وتنازعا وعلى أن الإنسان
مفطورعلى تغليب الحق على الباطل لولا ما يعرض له من الخطأ في التمييز بينهما،
وإنما يسود الباطل في غيبة الحق أو غفلته عنه.
ذكرت لصديق لي هذا المبحث قبل أن أتم هذا المقال فأخبرني أنه يحفظ عن
الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني تمثيلاً في مصارعة الحق للباطل معناه أن الحق
كان يصرع الباطل ويصفعه، فرأى الباطل أن لا طاقة له به فاستشار أعوانه
فأجمعوا أمرهم وهم يمكرون على أن يكيدوا للحق كيدًا فجاءوه يلقون إليه السَّلَم
ويدعونه إلى مأدبة أعدوها له فلما حضر أجلسوه على بساط جميل تحته حفرة
عميقة فوقع في الحفرة فطفقوا يهيلون عليه التراب حتى دفنوه ثم جلسوا فوق الحفرة
لئلا يخرج منها فيبطش بصديقهم الباطل فكان ينتفض بقوته العظيمة يحاول الخروج
وهم يتحاملون بأثقالهم عليها خوفًا منه والباطل يسرح ويمرح آمنًا من رؤية الحق له؛
لأن أولياءه حالوا بينهما ولكن الحق ما عتّم أن انتفض انتفاضة نسف بها أولئك
المتثاقلين وخرج إلى الباطل فأوقع به ودفنه وأراح الناس من شره.
وحاصل التمثيل أن الباطل إنما يسود ويثبت حيث لا يوجد من يقوم بالحق
ويقاومه به ، وأن ذلك لا يدوم. فكل دولة أو حكومة ظالمة تخالف قوانين العدالة
في الأرض وتهضم حقوق الرعية فهي إنما تسود بباطلها ما دامت الرعية دافنة
للحق دائسة له فيكون باطل الحكومة غالبًا لباطل الرعية حتى إذا ما انتشر الظلم
وتفشى وذاق آلامه الجماهير فاستصرخوا الحق واستغاثوا به لبَّاهم مسرعًا وصار
على باطل الحكومة الظالمة (فجندله) وربما (جندلها) معه فإذا استماتت الرعية
وأنِست بالظلم فإن سنة الكون تسلط على الحكومة الظالمة حكومة أجنبية عادلة أو
ظالمة تفتك بها وتقلص ظلها ثم يكون بقاء الحكومة الثانية على سنة الله في الحكومة
الأولى {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) .
الدين والشريعة الإلهية:
ما قلناه آنفًا يثبت أن الدين في جملته حاجة طبيعية للبشر وإن كانت أحكامه
التفصيلية مما يجري فيه اختيارهم فهم يحكمون فيها عقولهم وأفكارهم ويتبعون فيها
قاعدة الأصلح والأنفع لهم. فالحق والباطل يجريان في الدين من وجهين:
(أحدهما) كون عقائده صحيحة معقولة في نفسها وأحكامه في العبادات
والآداب موافقة للفطرة في تقويم الملكات وتهذيب الأخلاق وتوثيق الروابط وشد
الأواخي بين الناس وأحكامه في القضاء والسياسة والإدارة موافقة لسنن الاجتماع
وقواعد العدل، أو كونها ليست كذلك.
(وثانيهما) كون عقائده راسخة في عقول الأمة مؤثرة في قلوبها، وآدابه
حاكمة في شعورها ووجدانها، وأحكامه محترمة عند أمرائها وجمهورها، أو كونها
ليست كذلك. فالدين سنة من سنن الاجتماع الكبرى وهو حق في الواقع أو باطل
مؤيد بحق إجماعي هو وحدة الأمة في الاعتقاد والعمل ولأهله الغلب والسلطان على
من ينازعهم فيه ويحاول إبطاله أو إرجاعهم عنه من المعطلين؛ لأنه إما أن يجمع
نوعي القوة في سنن الاجتماع وفي القوانين والمواضعات العرفية التي تسنها الأمم
لأنفسها وتعتقد أن فيه خيرها وحفظ حقوقها كما تقدم وإما أن ينفرد بالثانية. وما
اجتمع فيه الحقان يسود على ما اتفق له أحدهما فقط كما ساد الإسلام في أول نشأته
على سائر الأديان لأنه حق من كل وجه والأمة متحدة فيه.
والتاريخ يؤيد ما نطق به الكتاب في ذلك بقوله: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) وقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) ولكن هذا النصر خاص بالمؤمنين حقيقةً لا ادعاءً أو جنسيةً كما
قال في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
* وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد: 7-8) وقال عز وجل:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
…
} (النور: 55) - إلى قوله: {
…
وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الفَاسِقُون} (النور: 55) وقد فسروا الكفر هنا بكفر النعمة كالظلم والبغي
والإفساد في الأرض.
ونقول: إن عمل الصالحات - الذي قيد الوعد بالنصر - يشتمل مثل قوله تعالى
في وصف المؤمنين من سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ
يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الشورى: 38-43)، ومثل قوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) وقوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:
8) فهو يأمرهم بالقيام بالقسط دائمًا وهو العدل وبالشهادة لله بلا محاباة قريب ولا
غني ولا رحمة فقير مبطل ويأمرهم أن لا يحملنَّهم شنآن قوم أي عداوتهم على ترك
العدل فيهم بل يحتم عليهم العدل حتى مع الذين يعادونهم.
وقد أخبر تعالى في آيات كثيرة بأنه إنما ينصر رسله وعباده المؤمنين الذين
يصلحون في الأرض ولا يفسدون على الظالمين كقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (إبراهيم: 13-14) والآيات في هذا المعنى وهو نصر المصلحين في الأرض
وإهلاك الظالمين والمفسدين - كثيرة جدًّا.
لا يوجد في مقابل هذه الآيات آية واحدة تدل على أن الله ينصر الذين
ينتسبون إلى الإسلام وإن لم يقوموا بالقسط والإصلاح وينهوا عن الظلم والفساد فهل
يجيز هذا الكتاب الحكيم لمدعي الانتماء إليه بالقول دون العمل إذا رأى استيلاء
الأوربيين على بلاد المسلمين والافتيات على حكامهم في سائر بلادهم التى لم يتم
لهم الاستيلاء عليها - أن يقول: إن هؤلاء الأوربيين منهم الملحد ومنهم من يقول
بالتثليت فكيف سادوا بقوتهم على المسلمين، وأهل التوحيد وهو حق اليقين؟ ، كلا
إنه لا يجيز لهم هذا القول بعد ما بيَّن لهم أنه لا يهلك الأمم بالشرك إذا كانوا
مصلحين في الأرض بالعدل وسائرين على سنن الله في العمران ولكنه يهلك الأمم
الظالمة مهما كان اعتقادها كما علمت من الآيات التى أوردناها آنفًا ومثلها كثير.
وأعظم عبرة للمسلم انكسار الصحابة مع داعي الحق الأعظم صلى الله عليه
وسلم في وقعة أُحُد لما خالفوا سنن الاجتماع في الحرب فخالفوا القائد وتركوا حماية
ظهر الجيش وفيها نزل: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ
هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165) فكل من خالف سنن الله الحق يغلب
على أمره بحق حتى يرجع وما أسرع رجوع المؤمن إلى الحق إذا زلّ عنه.
لهذا أقول: إن الوصول إلى الحق اليقين في التوحيد ينافي الإصرار على
الظلم، والتمادي في الفساد والبغي، كما نطق القرآن وشهد العقل، فلو لم يجعل
الإسلام الأعمال الصالحة بعد ترك المفاسد سياجًا للإيمان وعنوانًا له ودليلاً عليه
وشرطًا لاجتناء ثمراته في الدنيا والآخرة لكان العقل وحده كافيًا في الدلالة على أن
الموقن بعقله المذعن بقلبه لعقيدة التوحيد الخالص لا يؤثر هواه ولا هوى الرؤساء
والحكام على رضوان هذا الإله العظيم الحكيم القوي العزيز وإنما رضوانه بالتماس
فضله من سننه في خلقه، والوقوف عند ما حدده من الشكر والعدل في شرعه، فهو
يمضي في تعرّف السنن والأحكام والعمل بها لا يخاف في ذلك وَثْبَات الظالمين
لقوله عز وجل: {فَلَا تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175)
وقوله بعد ذكر سنته في الأيام: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) ،
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139) فهل
تنطبق هذه الآيات على قوم يخافون الظالم أن ينهوه عن ظلمه، ولا يخافون الله
تعالى أن يخرجوا عن حكمه، وقد جعلوا دينه جنسية، لا هداية حقيقية، فهم
يرجون سعادة الدنيا والآخرة بالانتساب إليه، أو بالتوسل والدعاء لأشخاص ماتوا
عليه، وهم مختلفون متفرقون، متنازعون متواكلون، جاهلون متكاسلون، لا
يبذلون ولا يتعاونون، ولا ينظرون ولا يتفكرون، {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُم
مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 105-106) ، {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .
هؤلاء الصادقون هم الموعودون بنصر الله وتأييده: {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَه} (الحج: 47) فلو صدق المسلمون اليوم ما عاهدوا الله عليه باتخاذ الإسلام دينًا
من العمل بكتابه والاهتداء بسننه في خلقه لما غلبهم أحد على أمرهم فلقد صدقهم
وعده بصدقهم فيما سلف حتى إذا ما فشلوا وتنازعوا في الأمر وعصوه من بعد ما
أرى سلفهم ما يحبون أخذهم بعدله وسلط عليهم من هم أقرب إلى الأخذ بسننه منهم
كما توعدهم بقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) (راجع بحث الاختلاف
والتنازع في باب التفسير من هذا الجزء) .
طال المقام، والمبحث يطلب زيادة بيان لا يمكن الإتيان عليه إلا في مؤلَّف
خاص به؛ لأن المسألة من أبكار المسائل التى لم يخترعها أحد من الكتاب فيما نعلم
والشبهات فيها كثيرة وإنما اهتدينا فيها بهداية القرآن وآياته.
وخلاصة ما أقول في شأن المسلمين مع غيرهم في هذه الأزمنة أن من
يستخرج من القرآن الآيات الناطقة بسنن الله تعالى في أهل السيادة والعزة من
صفاتهم وأعمالهم، والآيات المبينة لسننه في الأمم المستحقة للإهلاك والإذلال،
ويعرض كل ذلك على الأمم الغالبة السائدة والأمم المغلوبة المقهورة يتجلى له صدق
قوله تعالى في سيادة الحق وغلبته وإزهاقه للباطل في كل أمة. وهذا النوع من
أنواع علوم القرآن ينهض وحده حجة على أن ذلك النبي الأمي الذى بعث في تلك
الجاهلية العمياء كان ينطق بوحي من الله ولم يعلِّمه بشر بل خفيت هذه المعارف
العلية عن أفهام أكثر البشر حتى بعد مجيء القرآن بها وإنما صدقها آنًا بعد آن
برؤية آياته تعالى في الآفاق وفي ترقي البشر في أنفسهم كما قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ} (فصلت: 53) .
فعلى المسلمين أن يعلموا أنهم أُخذوا بذنوبهم، لا بقوةٍ غلبتهم على حقهم،
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) وأن معظم هذه
الذنوب على عواتق رؤسائهم وكبرائهم، فلا يعذرون باستبدادهم واستعلائهم، وعلى
العقلاء وأهل البصيرة منهم وهم محل الرجاء في كل أمة استعدت للحياة - أن
يعلموا أن ليس لهم إمام يدعون إليه، ويجمعون الكلمة عليه، إلا هذا القرآن الذى لا
يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه، فعليهم أن يجتمعوا لهذه الدعوة وأن
يتناصروا في سبيلها وأن لا ينتظروا نصر الحق من المبطلين، ولا يتوانوا فيها
خوفًا فإن هذا الأمر إذا خرج من أيديهم يوشك أن لا يعود إليهم.
إن الإسلام لا يُنصر في الدنيا بالأماني والأحلام، ولا ينجي في الآخرة
بالخرافات والأوهام، إن أهل الحق لا يُظلمون، إن الظالمين لا يسودون، {فَإِذَا
جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} (غافر: 78) ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (الأحقاف: 35) ، {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام: 47) ، وهذه نُذُره تعالى لقوم لا يعدلون، بل هم
بربهم يعدلون، فبادروا أيها المؤمنون الصادقون {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا
وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 21) ، ولا تغتروا بدينكم الذي إليه تنتسبون،
ولكنكم به لا تعملون، فلقد أنزل الذكر على مَن قبلكم فسادوا وهم عاملون، {فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم
بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: 44-45) وقد أنذركم ما حل بهم لعلكم تعتبرون: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً
فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً
آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلىَ مَا
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 10-13) ، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا
كُنَّا ظَالِمِينَ} (الأنبياء: 14) ، {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً
خَامِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً
لَاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ
وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 15-18) .
_________
الكاتب: أديب متنكر
إجابة سُؤْل
أو
نقد شرح ديوان أبي تَمَّام
لأديب متنكِّر
(تأخرت عدة أشهر)
للنقد على العلم فضل يُذكر، ومِنَّة لا تُنكر، فهو الذي يجلو حقائقه، ويميط
عنه شوائبه، بل هو روحه التي تنميه، وتدني قطوفه من يد مجتنيه، وإذا أبيح
النقد في أمة واستحبه أبناؤها، وعُرضت عليه آثار كُتَّابها، كان ذلك قائدًا لها إلى
بحابح المدنية ، وآية على حياة العلم فيها، الحياة الطيبة التي تتبعها حياة الاجتماع
وسائر مقومات الحضارة والعمران. وقد بدأ مؤلفو العربية وكتابها يشعرون بفوائد
النقد وما يعود عليهم من ثمراته الشهية فأخذوا يعرضون آثارهم على النقّاد ويطلبون
منهم تمحيصها وبيان صحيحها من فاسدها.
وبالأمس اطَّلعت على ديوان أبي تمام المطبوع حديثًا في بيروت فوجدت
شارحه الفاضل قد اقترح على المشتغلين باللغة نقد ما علَّقه عليه من تفسير غريبه
وحل رموزه ، وأبدى من الرغبة في ذلك بحيث عين جائزة لمن عثر فيه على
عشرة أغلاط فأكثر. فأكبرت صنيعه، واستدللت منه على كِبَرِ نفسه، وعلو همته،
وشدة شغفه بخدمة العلم وتقرير الحقيقة، وها أنذا قد أجبت سُؤْله ، ووافيت
رغبته في الإشراف على ذلك الشرح ثم نقد ما تبين لي أنه رمى في تفسيره إلى
غير معناه، وحمله على غير ما أراده قائله منه، قال:
(ص2) :
قد كان خطب عاثر فأقاله
…
رأي الخليفة كوكب الخلفاء
(العاثر: الساقط ، والإقالة: الأخذ باليد) .
حقيقة العثار أن يعثر الرجل بحجر أو بذيله مثلاً فيسقط ، وإذا عثر قيل له:
لعًا لك ، أي انتعاشًا ونهوضًا. قال في الأساس: ومن المجاز عثر في كلامه
وعثر الزمان به وجدّ عثور اهـ ، وعثار زمان المرء وعثار جدّه: كناية عن
تحول حاله ومفاجأة النوائب له. وحقيقة الإقالة فسخ البيع وإبطاله ، قال في
الأساس: ومن المجاز أقلته العثرة صفحت عنه. ومجاز الإقالة يستعمل مع مجاز
العثار. فقول شاعرنا: خطب عاثر فأقاله.. إلخ هو من المجاز في الكلمتين ، وكما
يقال: زمان عاثر أي سيء يقال: خطب عاثر أي سيء فظيع منكر. ثم قال: إن
رأي الخليفة أقال ذلك الخطب العاثر أي أبطله وفلّ غربه وأزال ضرره عن الناس ،
فالعاثر في البيت ليس المراد منه حقيقته وهي الساقط كما قال الشارح ، وإنما
المراد مجازه ، كما أن المراد بالإقالة مجازها وتفسير الشارح لها بالأخذ باليد ليس
من حقيقتها ولا مجازها، على أن ذلك التفسير يأتي على البيت من قواعده لأن
الخطب إذا عثر وأخذ الخليفة بيده فقد أنعشه ونشطه ، والشاعر يرمي إلى غير هذا.
وقد فسر الشارح الإقالة أيضًا في الصفحة 19 برفع العاثر من سقوطه وهو غير
وجيه لما سمعت.
(ص32)
فسيحوا بأطراف البلاد وارتعوا
…
فنا خالد من غير درب لكم درب
(الفناء: عتبة الدار) الفناء: الفسحة تكون أمام الدار أو حواليها أما العتبة
فهي أسكفة الباب السفلى أو العليا. والوصيد: الفناء والعتبة ، فإذا قيل: الفناء
هو الوصيد؛ أريد من الوصيد أحد معنييه وهو فسحة الدار لا المعنى الآخر وهو
عتبة بابها.
(ص 59)
نسائلها أي المواطن حلت
…
وأيّ بلاد أوطنتها وأيَّت
(أيَّت: أقامت) أيَّت: تأنيث أي الاستفهامية كأنه يقول: وأية بقعة تبوَّأتها
وتكرارها هنا كتكرارها في قول الشاعر * بأي كتاب أم بأية سنة * وورود تأيَّا
بمعنى توقف وتمكث ، لا يجيز لنا استعمال أي بمعنى أقام كما لا يجوز لنا أن نقول:
باء بالمكان بمعنى تبوأه ، وإنما رسمت تاء أيت هنا مفتوحة مع أن الأصل كتابتها
مربوطة ابتغاء مشاكلة القوافي في مثل (النجات) في قوله:
(وآله وصحبه الثقات
…
السالكين سبل النجات)
(ص61)
وأحيا سبيل العدل بعدد ثوره
…
وأنهج سبل الجود حين تعفت
(أنهج: قوَّم) أنهج السبيل: أوضحها وأظهرها بعد عفائها واضمحلالها.
وقوَّمها: عدلها بعد اعوجاجها والتوائها.
(ص 61)
به انكشفت عنا الغيابة وانفرت
…
جلابيب جور عمَّنا واضمحلت
(انفرت: انقطعت) الفري: القطع ، يقال: فريت الأديم أي قطعته ،
وانفرى الأديم: انشق ، وإذا أسند إلى مثل الجلابيب فسر بالانكشاف والانحسار
مثلاً. ومثله تفرَّى الليل عن بياض النهار أي انكشف ، ومن هذا القبيل جاب
ومعناه قطع كقوله تعالى: {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (الفجر: 9) فإذا قيل:
انجابت الظلمة ، أو انجاب الظل فُسّرا بانكشفت وتقلص مثلاً.
(ص 64)
إن الهموم الطارقات موهنًا
…
منعت جفونك أن تذوق حثاثا
(موهنًا: ضعيفًا) الوهن له معنيان: (1) الضعف (2) بعد ساعة من
الليل أو نحو نصفه ، أما الموهن فمعناه الثاني منهما. فإذا قالوا: الموهن الوهن
عنوا بعد ساعة من الليل أو نحو نصفه لا الضعف. والطارقات الملمات ليلاً ،
فالموهن في البيت بالمعنى الثاني.
(ص 66)
من كل رعبوبة تردَّى
…
بثوب فينانها الأثيث
(فينانها: المتفنن في نسجه) يطلق الفينان على الرجل الكثير الشعر ،
ويطلق أيضًا على نفس الشعر الكثير الكثيف تشبيهًا له بأفنان الشجرة إذا التفت
وتكاثفت ، فالفينان من الفنن وهو الغصن ، والشاعر يقول: إن تلك الرعبوبة لبِست
ثوبًا من شعرها الكثيف.
(ص72)
أشلى الزمان عليها كل حادثة
…
وفرقة تظلم الدنيا لنازحها
(أشلى: دعا) أشلى إذا عدي إلى مفعول واحد كان بمعنى دعا ، وإذا عُدي
إلى مفعولين ثانيهما بحرف الجر (على) كان بمعنى أغرى ، فإذا قلت: أشليت
الناقة والكلب أردت دعوتهما ، وإذا قلت: أشليت الكلب على الصيد؛ أردت
أغريته عليه. فأشلى في البيت بمعنى أغرى.
(ص100)
في كل يوم فتوح منك واردة
…
تكاد تفهمها من حسنها البرد
(البرد: المتبادر أنه جمع بريد وهو ما بين المنزلين) قال في شفاء الغليل
نقلاً عن الفائق: البريد في الأصل البغل ، وهي كلمة فارسية وأصلها (بريده دم)
أي محذوف الذنب؛ لأنه يقال: إن دابة البريد كانت كذلك اهـ فعرّبوا (بريده دم)
وخففوها إلى بريد فالبريد كلمة معربة معناها في الأصل: البغل الذي يحمل
الرسائل بين البلاد ، وكانوا يقطعون ذنبه ليكون ذلك كالعلامة له ، ثم سمي الرسول
الذي يركب البريد بريدًا ، ومنه قول بعض العرب: الحُمى بريد الموت والحديث:
(إذا أبردتم إليَّ بريدًا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم) وسميت أيضًا المسافة التي
يقطعها البريد بالبريد ومنه قولهم * إن البريد من الفراسخ أربع *.. الأبيات ، وقد
أراد الشاعر أن الدواب التي تحمل أخبار انتصار الممدوح في غزواته تكاد تفهم ما
حملته وتشعر بحسن وقْعه في النفوس.
(ص101)
حلفت برب البيض تدمى متونها
…
ورب القنا المنآد والمتقصّد
(المنآد: المتحرك) أَوِد العود: اعوجَّ ، وآوَّده وأوده: حناه وعطفه فتأود ،
وانآد: انحنى وانعطف ، والمنآد المنحني والمعوج ، فالشاعر يحلف بالرماح
التي بوشر الطعن بها فمنها ما تكسر ومنها ما اعوج وانحنى من شدة الطعن.
(ص101)
إذا ما دعوناه بأجلح أيمن
…
دعاه ولم يظلم بأجلح أنكد
(أجلح: شديد مقدام) يقولون: يوم أجلح وأصلع أي شديد ، وقالوا: جلّح
على الشيء من باب فرّح أي أقدم عليه إقدامًا شديدًا ، وهو ليس بالثلاثي فلا يأتي
منه التفضيل على أفعل. وعليه فأجلح في البيت وصف من الجلح وهو انحسار
الشعر عن مقدم الرأس كالصلع أو أخف منه ، يريد الشاعر أن الممدوح الذي فتك
ببابك إن كانت جلحته مباركة علينا ودعوناه لأجل ذلك بأجلح أيمن؛ فهي مشئومة
على بابك ، وهو جدير أن يدعوه بأجلح أنكد. ونسبة اليمن والنكد إلى الصلعة
معهود كنسبتهما إلى الوجه والطلعة.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(الحصون الحميدية لمحافظة العقائد الإسلامية)
طبع في هذه السنة كتاب مسمى بهذا الاسم من تأليف الشيخ حسين الجسر
الشهير صاحب الرسالة الحميدية. وطريقة المؤلف في باب الإلهيات هي طريقة
السنوسي التي جرى عليها المتأخرون الذين كتبوا على عقيدة السنوسي الصغرى
وعلى الجوهرة وآخرهم الباجوري فهو يذكر من صفات الله تعالى ما هو سلبي
كالقِدَم والبقاء ومخالفة الحوادث ، وما هو وجودي ، وما هو في عرفهم واسطة بين
الموجود والمعدوم وهو الوجود. ويعرف الصفات بما عرفوها به ، ويذكر لصفات
المعاني من التعلق ما ذكروا حتى قولهم: إن السمع والبصر يتعلقان بجميع
الموجودات.
ولكنه أطال في باب النبوات أكثر مما أطالوا ، فذكر أشهر معجزات الأنبياء
واستدل على كل واحدة منها بالدليل المعروف ، وهو أنها جائزة عقلاً إذ لا يترتب
على فرض وجودها محال ، وكل جائز في العقل فقدرة الله صالحة للتعلق بإيجاده ،
وقد أخبر الصادق أن ذلك وقع فوجب التصديق به ، وزاد عليه إيضاحًا وردًا لشُبه
أهل العصر.
ثم إنه يذكر من هذه المعجزات ما جاء به القرآن ، وما روي في أحاديث
الآحاد حتى ما لا يرتقي منها إلى درجة الصحة كحديث حبس الشمس أو ردّها
بدعوة نبينا صلى الله عليه وسلم وبدعوة يوشع بن نون عليه السلام. قال: إن
الإيمان بذلك هو الموافق لشأن المسلمين والأسلم لهم في دينهم فنحن نؤمن به
ونصدق.
أقول: إن مسألة رد الشمس له صلى الله عليه وسلم قد ورد في رواية ضعيفة
من أحاديث المعراج ، وورد في رواية أقوى منها في مناقب علي كرم الله وجهه ،
وهذه الرواية وثقها الطحاوي في مشكل الآثار ، وتبعه القاضي عِيَاض في الشفاء ،
وقد تكلم فيها بعض الحفاظ بل أوردها ابن الجوزي في الموضوعات ، وتعقبه في
اللآلئ ، وهذا نص الرواية من حديث أسماء بنت عميس: كان رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم يوحى إليه ، ورأسه في حجر علي فلم يصلِّ علي العصر حتى
غربت الشمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: صليت؟ قال: لا،قال:
(اللهم إن كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس) قالت أسماء:
فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت، رواه الجوزقاني عنها وقال: إنه
حديث مضطرب منكر ، وقال ابن الجوزي: موضوع وفضيل بن مرزوق
المذكور في إسناده قال ابن حبان: يروي الموضوعات ، ورواه ابن شاهين من غير
طريقه ، وفى إسناده أحمد بن محمد بن عقدة رافضي رمي بالكذب، ورواه ابن
مردويه عن أبي هريرة مرفوعًا وفي إسناده داود بن فراهيج مختلف فيه وقد وثقه
قوم.
أقول: وما ورد في حبس الشمس ليوشع ضعيف أيضًا ، وهو معارض لهذا ،
فإنه ورد بصيغة الحصر ، ولعل غرض شيخنا صاحب الحصون الحميدية من
اختيار التسليم بكل ما ورد من الخوارق للأنبياء وغيرهم وإن لم يتواتر بل وإن لم
يصح سنده في الآحاد عدم فتح باب إنكار الجزئيات لئلا يفضي بقوم إلى إنكار أصل
الخوارق من المعجزات والكرامات. فهو يقول: ما دمنا نؤمن بقدرة الله تعالى على
كل شيء فلا ينبغي لنا أن ننكر شيئًا يُؤْثر عن أصفياء الله تعالى ، وإن كان مخالفًا
لسننه فهو واضعها وهو الذي يغيرها إن شاء الله متى شاء على يد من شاء. هذا
رأيه ، وإننا نورد عبارته في بيان دفع ما يرد على هذه الخارقة بعد التصريح
بإمكانها قال (ص97) :
(وإن قيل: على فرض تسليم القول بالهيئة الجديدة ، وأن الأرض هي التي
تدور؛ لو وقفت الأرض عن حركتها أو انعكست حركتها يلزم أن يبقى ماء البحر
آخذًا بحركة الاستمرار فكان يفيض على اليابسة ويغرق أهلها - قلنا: إن القادر
على إيقاف الأرض أو عكس حركتها هو قادر على سلب حركة الاستمرار من ماء
البحر وجعله تابعًا للأرض في وقوفها وعكس حركتها فلا يفيض حينئذ على اليابسة ،
ولا يلتفت إلى قول بعض الملحدين: إنه ليس من حكمة الخالق تعالى أن يوقف
ذلك الجسم الكبير المبني حركته على ناموس عظيم في الكون وهو ناموس الجاذبية
كما يقول أهل الهيئة الجديدة لأجل غرض واحد من البشر (وهو محمد أو يوشع)
عليهما السلام؛ لأنا نقول: لم يكن ذلك الصنع منه تعالى لأجل مجرد غرض واحد
من البشر، وإنما هو لحكمة بالغة وهي إظهار المعجزة الخارقة للعادة التي ينشأ
عنها اهتداء ألوف من الخلق ، ويرجعون بذلك من الكفر الذي يهلك نفوسهم إلى
الإيمان الذي يحييها الحياة الأبدية ، وينشأ عنها تثبيت ألوف وتمكينهم بالإيمان ممن
آمنوا قبل ذلك ، ويبقى ذكرها ونقلها بين الخلق يتحدث بها الجيل بعد الجيل ،
وينتفع بنقلها من أراد الله تعالى هداه ويتصور بها عظمة قدرته تعالى وعجيب
أعماله. فهذه الحكمة العظيمة توازي في العظمة حصول تلك الخارقة وتفوقها ،
ويليق بها أن تحصل تلك الخارقة لأجلها. على أن ذلك الملحد نظر إلى مجرد
عظمة تلك الخارقة ، ولو قابلها بعظمة قدرة الله تعالى لما وجدها شيئًا يُذكر ، وهذه
الخارقة وغرض واحد من البشر عند الباري تعالى على حد سواء في أن كلاً منهما
تحت تصرفه ومشيئته ، ولا يعظم شيء منهما لدى عظمته ، وإن كان في نظرنا
القاصر أننا نجد الفرق بينهما عظيمًا وهما عند الله سيان في الجواز والإمكان.
ثم إنه في بعض الروايات التي نقلت تلك المعجزة ما يفيد أن الرسول طلب
وقوف الشمس أو إعادتها فلا يقال: على فرض تسليم رأي الهيئة الجديدة بدوران
الأرض أنه كان الصواب في حق ذلك الرسول أن يطلب وقوف الأرض أو عكس
حركتها عوضًا عن طلب ذلك في الشمس؛ لأنا نقول على فرض تسليم ذلك فلا
مانع من أن يكون الرسول يعلم حقيقة الأمر ، ولكنه طلب ذلك في الشمس بناءً على
الظاهر والجاري في رأي الشعب والمألوف بينهم في الاستعمال والله سبحانه يعلم
المقصود من طلبه ، ولا يكون ذلك غلطًا من الرسول ، وهكذا نرى أهل الهيئة
الجديدة يجرون في كلامهم على ظاهر ما يبدو لأهل لغتهم ويجري في استعمالهم
فيقولون: طلعت الشمس وغربت وهم يعتقدون وقوفها وحركة الأرض ، ولم
نسمعهم يقولون: طلعت الأرض أو وصلت الأرض لمقابلة نور الشمس أو فارقته ،
وكل ذلك منهم على حسب الشائع في الاستعمال ، وظاهر ما تعطيه المشاهدة إذا
علمت ما قررناه ، واندفعت عنك تلك الشبه بما حررناه ، فاعلم أننا معشر المسلمين
آمنا بهذه المعجزة إذ لا مانع يمنع من وقوعها والله قادر على إيجادها معجزة مؤيدة
لرسله الكرام يهدي ويثبت بها الألوف من الأنام) اهـ بحروفه.
ولا يحسبن القارئ أن الأستاذ المؤلف يحكم بأن من أنكر هذه المعجزة كأولئك
الحفاظ الأعلام يعد ملحدًا لتعبيره عن المعترض بلفظ الملحد ، فإنه لم يقل أحد من
المسلمين بكفر من ينكر أي حديث من أحاديث الآحاد وإن صح سنده ، فكيف
يكفرون من ينكر حديثًا ضعيفًا أو منكرًا باعتراف حفاظ الحديث أنفسهم. وإنما
يكون المنكر ملحدًا إذا كان ينكر قدرة الله تعالى على فعل تلك الخارقة أو أي ممكن
من الممكنات. والمؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعتقد بشيء ثبت
عنه عنده ثم ينكره لعظمته ، وإنما أنكر الأئمة كثيرًا من الأحاديث لعلة في رواتها
أو روايتها أو متنها ككونه لا يتفق مع الثابت القطعي فمن أنكر حبس الشمس أو
رجوعها لعلة من ذلك لا يعد ملحدًا ولا مبتدعًا ولا عاصيًا ولا منحرفًا عن سبيل
المسلمين لا سيما إذا لاحظ مع ضعف الرواية أن مثلها مما يشتهر وتتوفر الدواعي
على نقله ، فلما لم يروها أهل النقد من المحدثين كالشيخين وأصحاب السنن ومثل
مالك وأحمد ترجح عنده أن من جرح رواتها ولم يقبلها من المحدثين هو المصيب
دون من قبِلها.
ثم إن ما ذكره الأستاذ مؤلف الحصون الحميدية من الحكمة في وقوع هذه
الخارقة لم تؤيده رواية الحديث فيها إذ لم يرد أن كافرًا آمن لأجلها أو ضعيف إيمان
ثبت برؤيتها. ولا شك أن هذه الخارقة هي أعظم الخوارق الكونية التي نُقلت لأنها
إبطال لسنة الله في نظام العالم العلوي والسفلي فهي أعظم من إحياء الميت ومن
انقلاب العصا حية ونحو ذلك، فلو تحدى بها لرجي أن يظهر ما قاله من الحكمة
ولكن لم ينقل راوتها أنه وقع بها التحدي، نعم إن واضع السنن لنظام الكون
باختياره قادر على تبديلها أو تحويلها أو إزالتها إذا وافق ذلك حكمته، ولكن النظام
الثابت بالمشاهدة اليقينية وبالنقل اليقيني الناطق بأن سنن الله لا تتبدل ولا تتحول
وأن الشمس والقمر بحسبان، وأن لا تفاوت في خلق الرحمن، لا يصدق في دعوى
تغييره وتبديله قول فلان عن فلان، في رواية مطعون فيها من المحدثين، فهي لا
تفيد الظن فضلاً عن اليقين.
وإننا نعيد القول بأن مؤلف الحصون الحميدية لم يقصد بفتح باب التوجيه لكل
ما ورد من الخوارق ومن أمور الغيب التي ذكرها في باب السمعيات - وإن لم
يرتقِ الوارد فيها إلى درجة الصحة بل وإن كان قولاً مشهورًا لبعض العلماء لم يرد
فيه شيء عن المعصوم - إلا لأجل حماية القطعي الثابت من آيات الله ومن خبر
الوحي الثابت عن عالم الغيب؛ لئلا ينتقل العاصي ومن أمثاله ممن لا علم لهم
بحقائق الدين من إنكار ما لم يثبت باليقين إلى إنكار ما ثبت به وصار معلومًا من
الدين بالضرورة فيكفر؛ إذ الذي قطع به علماء العقائد أن المؤمن لا يحكم بكفره إلا
إذا جحد شيئًا مجمعًا عليه معلومًا من الدين بالضرورة. والدليل على هذا الجحد إما
القول وإما الفعل الذي ينافيه كالسجود للصنم اختيارًا.
والكتاب يُطلب من المكتبة الأزهرية وثمن النسخة منه أربعة قروش صحيحة.
* * *
(البائنة أو بحث في الدوطة)
الدوطة كلمة إفرنجية مشهورة معروفة المعنى وهي ما يأخذه الرجل من المرأة
التي يتزوجها كما هي عادة الإفرنج ومقلديهم! وقد وضع سليم أفندي عواد رسالة
في هذه المسألة بيَّن فيها أن لفظ (البائنة) العربي يؤدي معنى الكلمة عند الإفرنج،
ثم عرف الدوطة وبين سببها وذكر تاريخها عند اليونان والروم وأحكامها في
قوانين الإفرنج وكيف تملك وتورث، والرسالة تطلب من المؤلف في الإسكندرية.
* * *
(الروايات الشهرية)
هذا اسم لقصص يصدرها يعقوب أفندي الجمال كالمجلات الشهرية، وقيمة
الاشتراك السنوى فيها 50 قرشًا في القطر المصري و20 فرنكًا في غيره. والقصة
تناهز مائة صفحة من الشكل الثالث ونعني بالشكل الثالث ما كان دون المنار وهو
الشكل الثاني. وثمن النسخة الواحدة منها ستة غروش. وهي تطلب من صاحبها
في عزبة الزيتون بضواحي مصر.
* * *
(رواية الملك كورش الفارسي)
قصة أدبية غرامية تاريخية للكاتبة العربية المشهورة (زينب فواز) طبعت
على نفقة أمين أفندي هندية وتطلب منه.
* * *
(الطبيب المصري)
قصة أدبية أخلاقية تاريخية ألفها محمد أفندي الهراوي من عمال نظارة
المعارف، ولم نتمكن من قراءتها ولا قراءة سابقتيها لنبدي فيها رأيًا فاكتفينا
بالتعريف بفضل الكاتبين والمؤلفين والناشرين. وثمن النسخة من هذه القصة ثلاثة
قروش.
* * *
(مجلة المجلات)
عادت مجلة المجلات الشهيرة إلى السفور بعد احتجاب طويل شق على
عاشقي فوائدها، وقد صدر العدد الأول من سنتها الحاضرة (وهي السادسة) في
أول يناير من هذا العام الميلادي مفتتحة برسم الأستاذ الإمام وبترجمة له بعد خطبة
السنة، وفيه كثير من الفوائد العلمية والأدبية والصور فنرجو لها العمر الطويل،
ونثني على صاحبها (محمود بك حسيب) الثناء الجميل والمجلة شهرية يتألف
العدد منها من 64 صفحة وقيمة الاشتراك فيها 80 قرشًا في مصر و25 فرنكًا في
غيرها.
* * *
(الإخاء)
مجلة عمومية أدبية لصاحبها محمود أفندي الكاشف وكانت من قبل جريدة،
وهي مؤلفة من 16 صفحة، وقيمة الاشتراك فيها 50 قرشًا في مصر، و25 فرنكًا
في خارجها فنتمنى لها الثبات ودوام الانتشار والارتقاء.
* * *
(الصالح)
جريدة أسبوعية يصدرها في القاهرة محمد علي بك نصوحي الصيدلي وهي
معتدلة كصاحبها فنتمنى لها الرواج ونرجو لها الثبات.
* * *
(الإرشاد)
جريدة أسبوعية يصدرها في القاهرة الشيخ علي الجرجاوي وقد اشتهرت
بالمدافعة عن الأوقاف فنتمنى لها العمر الطويل والخدمة النافعة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(دعوة الإسلام في اليابان)
كان لما كتبناه في مسألة دعوة اليابان إلى الإسلام تأثير في جميع الأقطار
الإسلامية فقد نقلت ما كتبناه الجرائد الهندية وأضافت إليه ما أضافت.
وكتب إلينا بعض أهل الغيرة من مسلمي الآفاق بالاستحسان والاستعداد لإسعاد
الدعوة إن وجدت، ومن ذلك ما كتب إلينا بعض الفضلاء من سنغافورة وهو:
(قد أسرني ما رأيت بالمنار من ذكر الدعوة إلى الله بالجابان وباطلاعنا على
ما ذكرتم كتبنا لأحد المسلمين في شنغاي (بالصين) ليفيدنا عن الشيخ حسان ،
وأحببنا أن نكاتبه ونمن بما نقدر عليه، فوصلنا منه ما ترونه ضمن هذا بعد
الاطلاع عليه أرجعوه إلينا إن شئتم، وقد أجبناه عسى أن يؤلف لجنة لجمع إعانة
لهذه الغاية فعسى ولعل. ويقال: إن أهل الهند جهزوا عالمًا بخمسة آلاف روبية
ليذهب إلى جابان للدعوة. وقد أطربنا ما ذكرتم في المنار بالعدد الأخير (يعني ج
22) من دعوتكم العلماء للذهاب والأغنياء للمعاونة بالمال، وقبلنا تلك السطور
نيابة عن أنامل سطرتها ولكنا لا نوافقكم في أن (سروات) مصر لا يكتتبون
بالمبالغ الكبيرة، ودليلنا أن القوم يكتتبون سنويًّا لعيد الجلوس ونحوه من الأعياد
الفارغة بمبالغ غير حقيرة مع أن الأمير لا يقرأ تلك القوائم ولو قرأها لم تعلق بذهنه
فضلاً عن أن يثيب على ذلك فمن لا يبخل بالترهات كيف لا يبذل المال في نصرة
الدين، وإقراض أحكم الحاكمين؟ ! فلا نزيدكم توصية بالتكرار. وهنا قد أحب
بعض قراء المنار المشاركة وسيقدمون ما يجتمع وهو وإن كان زهيدًا فأول الغيث
قطر) اهـ. بنصه.
وهذا ما كتب إليه من شنغاي بعبارته، قال الكاتب بعد رسوم الخطاب:
(إحاطة علمكم ما هو محرر بمجلة المنار الإسلامي عن أن رجلاً من الصين
اسمه حسان قد قام بكتابة بعض عبارات في مجلة شوكيما الجبانية يدعو القوم إلى
الديانة الإسلامية (وتطلبوا) الإفادة عن (أدريسه) فلآخر شرحكم فهمناه كما
اطلعنا عليه بالمجلة المذكورة ونشكر غيرتكم الحمية عليه. غير أنه قد تعجبنا من
ذلك لعلمنا بعدم وجود (هكذا) شخص بالصين أهلاً لذلك، ونأسف كما يأسف كل
مسلم غيور بأن تكون أهالي الصين المسلمين محرومين من هكذا رجل وهو أحوج
الناس إليه، ولدى الاستعلام عن الشخص المذكور فهمنا بأنه قد حضر من بضعة
أشهر من بلدة (دلهي) بالهند رجل عالم اسمه بالإنكليزي (سفراي حسين) ولعله
هذا الشخص الذي يعني عنه المنار (حسان) من طرف جمعية إسلامية بالهند لهذه
الغاية إلى الجبان من بعد أن أقام كام يوم هنا طرف أحد الإخوان. وقد فهمنا أنه
توجه إلى الجبان إلى أوزاكا ومنها إلى ناكازاكي حيث أقام بتحرير جملة مقالات في
بعض جرائد الجبان وإلقاء بعض خطب بهذا المعنى، والآن نجهل محل إقامته كما
نجهل (أدريسه) إلا أنه يمكن يحرر له بالاسم المشروح أعلاه بالإنكليزي إلى
يوكاهاما أم ناكازاكي، وغدًا إن شاء الله سنحرر إلى أحد الأصحاب بتلك الأطراف
للاستعلام عن ذلك وإليكم الحقيقة بعد هذا.
أما حالة الجبان الدينية فهي كما كتب محرر المجلة المذكورة ولم يزالوا تائهين
حائرين على دين يعتقدوه (وإن يكن منهم صار الحظ الأوفر مسيحية) ونعرف
منهم اثنين قد اعتنقوا الدين الإسلامي ولا قدروا يفهموا منه إلا أسماءهم حيث قد
صاروا بأسماء جديدة أحدهم إبراهيم والثاني إسماعيل. ونعهد أن منهم جملة قد
صاروا يهودًا. والحقيقة الآن فرصة ثمينة جدًّا وثواب عظيم. ولكن يحتاج هذا
لرجل عظيم فيلسوف غيور مستعد ليس بعلم الفقه فقط.. على مذهب الشافعي..
وحضرتكم أعلم.
أما حالة الصين فلا ننكر وجود جملة إسلام يعد بالملايين ومنهم العلماء
الأعلام، ويوجد عندهم المدارس العالية الداخلية حيث يوجد بهم ألوف من طلبة
العلم أخصه في البلاد الداخلية حيث أعلم الإسلام بهم نظير كيانسو شانسي.
وهونان ولكن من الصعب وجود شخص بالاستعداد الكافي والغيرة لما ذكر.
ربنا اهدنا ووفق وألِّف بين قلوبنا إنك سميع مجيب.. اهـ. بحروفه ونقطه
إلا اسم العالم الهندي فقد رسمناه بحروف عربية وظاهر أنه يريد بالجبان اليابان
وبالأدريس (العنوان) .
وكنا قبل هذا قرأنا في جريدة (وكيل) الهندية الغراء ما ترجمته:
(حضر من أعيان الهند وعلمائها الأعلام (سرفواز حسين) إلى مدينة نجاساكي
اليابانية في 11 ديسمبر 1905 وفي 18 منه دخل إلى أحد معابدها المسمى
(جوسوجي) وألقى خطبة شائقة باللغة الإنكليزية موضوعها (التوحيد الإسلامي
ونبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان عدد الحاضرين يبلغ زهاء أربع
مائة من يابانيين وأوربيين، ودام في خطبته ساعتين، وكان من الحاضرين اللادي
مس ريندلف كود الأمريكانية، وكانوا يسمعون بكل انتباه وإصغاء. وفي اليوم
التالي ليوم إلقاء الخطبة كتبت عنها الجرائد الإنكليزية واليابانية مقرظة إياها أحسن
تقريظ وقد جاء كثيرون ليسألوا العالم الهندي بارتياح ومسرة عن التوحيد والنبوة
وبعد عشرة أيام برحها إلى مدينة كوبي ومنها إلى طوكيو) اهـ.
(المنار)
نقول: إن مصدر خبر الشيخ حسان الصيني هو الجرائد العثمانية ولا ندري
من أين أخذته. ولا فرق عندنا بين أن يكون الداعي للإسلام هنالك صينيًّا أو هنديًّا
لأن الملة واحدة، ولكن نرجو أن يكون هنديًّا لأن أهل الهند أعلم بها من أهل
الصين ومَن لنا بمَن يترجم لنا خطبة أخينا سرفواز حسين لعلنا نجد فيها ما يطمئن
له القلب من ناحية هذا الداعي الأول للإسلام في تلك البلاد. ولا يشك عاقل في أن
هذا العمل الجليل لا يكفي للقيام به عالم واحد مهما اتسعت دائرة علمه، ونفذت
أشعة عقله وفهمه، فلا بد للمسلمين من جمعية للدعاة يكون لها مدرسة لتربيتهم
وتعليمهم وصندوق غني للنفقة عليهم. ولكن هل بلغ استعداد المسلمين الديني
والاجتماعي في جميع الممالك إلى أن ينهضوا بجمعية واحدة كأصغر جمعية من
جمعيات المبشرين عند النصارى؟ ! .
يظن صاحبنا الذي كتب إلينا من سنغافورة أن المصريين وحدهم يضطلعون
بهذا العمل وهو قليل على كرمهم، ولكنه أيد ظنه بقياس الجد على الهزل ولا أزيد
على هذا شيئًا في الكلام على قياسه وأقول له: إن لي في المصريين لأملاً ما،
ولكني أعتقد أن هذا العمل لا يتم إلا إذا تضافر المسلمون في كل الأقطار عليه.
ويرجى بعد أن تبدو ثمراته بسعي أصحاب الهمم العالية والغيرة الصادقة أن تصير
الثقة به عامة وأن توقف عليه الأوقاف العظيمة فإن حب الخير وبذل المال في
سبيل الله لم يُمْحَ من نفوس المسلمين، ولكن الأغنياء منهم صاروا طبقات فمنهم مَن
عبد المال من دون الله لا يسمح بقليل منه ولا كثير وهؤلاء قد فسدت فطرتهم فلا
رجاء فيهم! ، ومنهم من لا هَم له إلا الإسراف والتبذير في سبل الشهوات واللذات
والفخفخة والزهو والخيلاء وأكثر هؤلاء من عبيد الشهوات الذين لم يبقَ للدين
بصيص من النور في قلوبهم. وقد يوجد فيهم من تُرجى أوبته، وتحسن خاتمته،
ومنهم من يحب عمل الخير ولكن يضعه في غير موضعه لجهله بما يُرضي الله
وينفع الناس فيبني مسجدًا حيث تكثر المساجد فيزيد المسلمين تفريقًا أو يوقف وقفًا
على ضريح بعض المشهورين بالصلاح، ومنهم من يميز بين الضار والنافع ولكنه
ضعيف لا يقدر على العمل بنفسه ولا يثق بالعاملين وإن كانوا قادرين، وإنما
الرجاء بمثل هذا بعد ظهور ثمرة العمل. وأما الغني السخي العاقل الشجاع الذي
يرجى للشروع في الأعمال العظيمة فقليل، وهو المرجو لهذا المشروع الجليل.
* * *
(منار السنة التاسعة - تنبيهات)
(1)
إننا سنزيد مادة التفسير في الأجزاء الآتية ، ويرى القراء أننا نراعي
في كتابة الآيات الكريمة المشكولة رسم المصحف العثماني اتباعًا لسلفنا وحفظًا لما
كانوا عليه في صدر الإسلام. ولكننا عندما نذكر هذه الآيات في أثناء التفسير نوافق
جميع كتب التفسير المطبوعة في جعْلها على قواعد الرسم المتبعة لأنها تكتب غير
مشكولة فيخشى أن يحرف قراءتها غير الماهر في التلاوة ، وقد نبهنا في هامش
الصفحة الأولى من التفسير على اكتفائنا بعدّ المصحف المطبوع في الأستانة للآيات
الكريمة. وقد تحرينا في هذه السنة الإشارة إلى السور وعدد الآيات في جميع ما
يذكر في المنار من القرآن المجيد ، ونفصل بين عدد السور وعدد الآية بنقطتين
هكذا (9: 25) والمراد بهذا المثال السورة التاسعة والآية الخامسة والعشرون منها
ومن كان عنده المصحف الذي طبعه فلوجل الألماني وراجع عدد الآية فرأى غيرها
فلينظر قبلها أو بعدها بآيات قليلة يجدها لأن الفرق في مواضع الاختلاف قليل.
(2)
قد جعلنا باب المقالات في هذا الجزء بعد باب الفتاوى ، ولكننا
سنجعله في الأجزاء الآتية بعده.
(3)
لا يقبل الاشتراك في المنار إلا من أول السنة الهجرية أو من أول
رجب منها ، ومَن قبِل الجزء الأول عُد مشتركًا إلى آخر السنة ولزمه أداء قيمتها
كاملة. وهذا الشرط يلتزمه من يفي بالعقود والشروط التي رضي بها وإن كان لا
يبالي بها من لا قيمة لنفسه عنده ، وحسبنا أننا نعامل أهل الفضل والشرف ومن شذ
فأخلف ظننا فحسبه أن يكون حسن الظن فيه كاذبًا.
(4)
نرجو من أهل الوفاء والفضل الذين لم يوفوا إلى الآن أن يرسلوا إلينا
القيمة المتأخرة عندهم حوالة على مكتب البريد في مصر القاهرة أو على بعض
التجار أو المصارف (البنوك) ونُعلم مشتركي سنغافوره وجاوه والهند أن قيمة
الروبية الورق (بنك نوط) في مصر ستة قروش مصرية ، فالعشر الروبيات
تنقص عن قيمة الاشتراك زيادة عن فرنكين ، فلعلهم يكفون عن إرسال هذه الأوراق.
(5)
إننا نريد أن نطبع عنوانات المشتركين في القطر التونسي وسائر
الأقطار ، فمن كان في عنوانه غلط فليصححه لنا لنطبعه على الصواب ، ونرجو
المبادرة إلى ذلك. وقد حظرنا على التونسيين في الجزء الماضي أن يدفعوا شيئًا
من قيمة الاشتراك بعد وصوله إليهم إلى المحصِّل الذي أقامه وكيل المنار في تونس
واسم هذا المحصل (أحمد أبو خطيوه) فقد كتبنا إليه نسأله عن التحصيل وعن
الوكيل الفاضل النبيل فلم يحر جوابًا ولعل له عذراً يظهر عن قريب. فنرجو من
فضلهم إرسال القيمة حوالة على البريد بمصر.
(6)
عزمنا على أن ننشر في الأجزاء الآتية نبذًا من المباحث الأدبية
منظومها ومنثورها ، ونذكر في الجزء الآتي كلامًا في المغرب الأقصى ومسألة
العقبة وما شاع من سلطان الجن والشياطين على بعض علماء الأزهر وغير ذلك
من العبر.
(7)
كنا نرسل المنار إلى كل طالب ونحسن الظن فيه فخاب ظننا بكثير
حتى من أصحاب الألقاب الضخمة ، وقد بدا لنا في ذلك فلا نرسل المنار في هذا
العام إلا لمن يرسل قيمة الاشتراك مع الطلب إلا أن يكون الطالب لنفسه أو لغيره
من أصدقائنا الموثوق بهم.
* * *
(عمال المطابع وأخلاق العامة)
أفادنا علم الأخلاق أن العمدة في ردع الناس عن الشر وتوجيههم إلى الخير
هو الوازع النفسي ، ويقول فلاسفة هذا العلم: إن هذا الوازع يتمكن في النفس
بالاعتقاد الديني وبتربية وجدان الشرف في النفس في أمة تعرف الشرف الحقيقي
وتحتقر من يتلوث بالخسة والدناءة. وأما عقوبة الأحكام فقد وضعت لأهل الشذوذ
لا لتربية العامة. فمن عرف هذا وعرف حال التربية في مثل هذه البلاد لم يتعجب
من تألم الناس هنا من الصناع والخدم وتجاوبهم بالشكوى منهم فإنهم محرومون من
آداب الدين ومن شعور الشرف إلا من شذ ، وإن أكبر خدمة تقوم بها الجمعية
الخيرية الإسلامية لهذه البلاد هي تربية أولاد الفقراء تربية دينية يرجى بها أن
يكونوا صناعًا وأجراء صالحين يوثق بهم ويؤمَنون على الأموال والأعمال.
كنا ظننا أن اللين والوفاء للصناع يقربهم من حسن الخدمة والاستقامة فإذا
بالقوم لا يفرقون بين الإحسان والإساءة ، وكم من عامل ترك العمل لأن رجلاً قال
له في الطريق: اترك هذه المطبعة واذهب معي إلى مطبعة كذا فذهب وليس له
عندنا قرش واحد ، على أن أكثر أصحاب المطابع يمسكون من أجور العمال شيئًا
بمثابة الرهن فمن ترك العمل ضاع عليه وكان عوضًا لصاحب المطبعة عما يخسره
بإهمال العمل إلى أن يجد عاملاً بديلاً منه. وقد تبلغ البلادة والحماقة ببعضهم أن
يترك العمل عدة أيام ليغيظ صاحب المطبعة وهو أحوج إلى أجر هذه الأيام من
صاحب المطبعة إلى عمله بل إلى المطبعة نفسها. ويعسر على أذكى الأذكياء
وأفصح البلغاء أن يقنع الكثيرين منهم بأن هذا العمل ضار به وهذا نافع له كأن
أقحافهم المحيطة بأدمغتهم أفلاك هيئة اليونان لا تقبل الخرق والالتئام. فتبًّا
للمتفرنجين المجاهرين بالفسق ، ولأهل الخرافات الذين أزالوا حرمة سلطان الدين
من نفوس هؤلاء العوام. حتى لم يبق لهم زمام ولا لجام، فاستحل أكثرهم الحرام،
وخزيت بهم الأنام، هذا وإن تأخير هذا الجزء عن موعده كان لامتناع بعض العمال
عن العمل أيامًا وسيتأخر الثاني ولا تأخير بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسألة القدر وفعل العبد بقدرته
جاء في شرح عقيدة السفاريني بعد إبطال مذهب القدرية والجبرية وهم
الضالون في الإفراط والتفريط ما نصه:
وأما المتوسطون فهم أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا تفريط القدرية النفاة،
ولم يفرطوا إفراط الجبرية المحتجين بالقدر على معاصي الله، وهؤلاء على مذهبين:
مذهب الأشعري ومن وافقه من الخلف، ومذهب سلف الأمة وأئمة السنة فمذهب
أهل السنة كافة أن جميع أنواع الطاعات والمعاصي ، والكفر والفساد واقعة بقضاء
الله وقدره لا خالق سواه فأفعال العباد مخلوقة لله تعالى خيرها وشرها وحسنها
وقبيحها والعبد غير مجبور على أفعاله بل هو قادر عليها ، هذا القدر باتفاق أهل
السنة ، ثم إن الأشعري ومن وافقه منهم أثبت للعبد كسبًا ومعناه أنه قادر على فعله ،
وإن كانت قدرته لا تأثير لها في ذلك كما مر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس
الله روحه -: هذا قول الأشعري ومن وافقه من المثبتة للقدر من الفقهاء وطوائف
من أهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد حيث لا يثبتون في المخلوقات
قوى ولا طبائع ، ويقولون: إن الله تعالى فعل عندها لا بها ، ويقولون: إن قدرة
العبد لا تأثير لها في الفعل ، ويقول الأشعري: إن الله فاعل فعل العبد ، وإن عمل
العبد ليس فعلاً للعبد بل كسبًا له؛ قال شيخ الإسلام: وهذا قول من ينكر الأسباب
والقوى التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة التي للعبد التي يكون بها الفعل ويقول:
إنه لا أثر لقدرة العبد أصلاً في فعله ، لكن الأشعري يثبت للعبد قدرة محدثة
واختيارًا ، ويقول: إن الفعل كسب للعبد ، لكنه يقول: لا تأثير لقدرة العبد في
إيجاد المقدور ، وهو مقام دقيق حتى قال بعضهم: إن هذا الكسب الذي أثبته
الأشعري غير معقول - قال -: حتى قال جمهور العقلاء: ثلاثة أشياء لا حقيقة
لها: طفرة النَّظَّام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري وذلك أنه يلزم أن لا يكون
فرق بين القادر والعاجز؛ إذ مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة ، فإن فعل
العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلا
مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها ، ومن هذه الطائفة من يقول: إن قدرة
العبد مؤثرة في صفة الفعل لا في أصله كما يقوله القاضي أبو بكر الباقلاني من أئمة
متكلمة الأشعرية ومن وافقه فإنه أثبت تأثيرًا بدون خلق الرب أن يكون بعض
الحوادث لم يخلقه الله ، وإن جعل ذلك معلقًا بخلق الرب فلا فرق بين الأصل
والصفة ، قيل: ومذهب الأشعري يقرب في هذه المسألة من مذهب الجبرية
الجهمية فإنه يُحكى عن الجهم بن صفوان وغلاة أتباعه أنهم سلبوا العبد قدرته
واختياره حتى قال بعضهم: إن حركته كحركة الأشجار بالرياح كما تقدم. قال شيخ
الإسلام ابن تيمية: إن الجَهْم كان يقول: لا أثر لحركة العبد أصلاً في فعله، وكان
يثبت مشيئة الله تعالى وينكر أن يكون له حكمة ورحمة، وينكر أن يكون للعبد فعل
أو قدرة مؤثرة! ! ! قال: وقد حكي عنه أنه كان يخرج إلى الجذمى ويقول:
أرحم الراحمين يفعل هذا؟ ! إنكارًا لأن يكون له تعالى رحمة يتصف بها سبحانه
زعمًا منه أنه ليس إلا مشيئة محضة لا اختصاص لها بحكمة بل يرجح أحد
المتماثلين بلا مرجح.
ومذهب سلف الأمة وأئمتها وجمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع
الطوائف يقولون: إن العبد فاعل لفعله حقيقة، وإن له قدرة حقيقة واستطاعة حقيقة
ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن
الله تعالى يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء بالسحاب، وينبت النبات بالماء،
ولا يقولون: القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون بأن لها
أثرًا لفظًا ومعنًى لكن يقولون: هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها، والله
تعالى خالق السبب والمسبب، ومع أنه خالق السبب فلا بد للسبب من سبب آخر
يشاركه، ولا بد له من معارض يمانعه فلا يتم أثره إلا مع خلق الله له بأن يخلق الله
السبب الآخر ويزيل الموانع، وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: الأعمال
والأقوال والطاعات والمعاصي هي من العبد بمعنى أنها قائمة به وحاصلة بمشيئته
وقدرته، وهو المتصف بها والمتحرك بها الذي يعود حكمها عليه وهي من الله
بمعنى أنه خلقها قائمة بالعبد وجعلها عملاً له وكسبًا كما يخلق المسببات بأسبابها،
فهي من الله مخلوقه له ومن العبد صفة قائمة به واقعة بقدرته وكسبه كما إذا قلنا:
هذه الثمرة من الشجرة وهذا الزرع من الأرض بمعنى أنه حدث منها ومن الله
بمعنى أنه خلقه منها لم يكن بينهما تناقض قال: فالحوادث تضاف إلى خالقها
باعتبار وإلى أسبابها باعتبار كما قال تعالى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان} (القصص: 15) وقال: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَاّ الشَّيْطَانُ} (الكهف: 63) مع قوله:
{كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) وأخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون
ويؤمنون ويكفرون ويفسقون ويتقون ويصدقون ويكذبون، وقال في موضع آخر: إن
أئمة أهل السنة يقولون: إن الله خالق أفعال العباد كما أن الله خالق كل شيء، وأنه
تعالى خالق الأشياء بالأسباب، وأنه تعالى خلق للعبد قدرة بها يكون فعله، وأن
العبد فاعل لفعله حقيقة فقولهم في خلق العبد بإرداته وقدرته كقولهم في خلق سائر
الحوادث بأسبابها، وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه، وفعل
العبد من جملة الحوادث وكل ممكن يقبل الوجود والعدم فإن شاء الله كان وإن لم يشأ
لم يكن، وفعل العبد من جملة الممكنات قال: وجمهور المسلمين وجمهور طوائفهم
على هذا القول الوسط الذي ليس هو قول المعتزلة ولا قول جهم بن صفوان وأتباعه
الجبرية، فمن قال: إن شيئًا من الحوادث أفعال الملائكة والجن والإنس لم يخلقها
الله تعالى فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف والأدلة العقلية، ولهذا قال بعض
السلف: من قال: إن كلام الآدميين وأفعال العباد غير مخلوقة فهو بمنزلة من يقول:
إن سماء الله وأرضه غير مخلوقة، والحاصل أن مذهب السلف ومحققي أهل
السنة أن الله تعالى خلق قدرة العبد وإرادته وفعله، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة
ومحدث لفعله والله سبحانه جعله فاعلاً له محدثًا له قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ
أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان: 30) فأثبت مشيئة العبد وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة
الله تعالى، وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد وأنها لا تكون إلا
بمشيئة الرب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية روح الله روحه: وهذا قول جمهور أهل
السنة من جميع الطوائف وهو قول كثير من أصحاب الأشعري كأبي إسحاق
الإسفرايني وإمام الحرمين وغيرهما فيقولون: العبد فاعل لفعله حقيقة وله قدرة
واختيار وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع والأسباب كما دل على
ذلك الشرع والعقل قال تعالى: {فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (الأعراف: 57) وقال: {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (البقرة: 164) وقال:
{وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} (البقرة: 26) وهذا كثير في الكتاب والسنة، يخبر تعالى
أنه يحدث الحوادث بالأسباب، وكذلك دل الكتاب والسنة على إثبات القوى والطبائع
للحيوان وغيره كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) وقال:
{هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (فصلت: 15) وقال في الجمادات: {وَأَخْرَجَتِ
الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة: 2) وقال: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ} (الحج: 5) وقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (الأحقاف: 25)
وقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِح} (الحجر: 22) ، {وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ
مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (البقرة: 74) ، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ
وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيّ} (هود: 44) وقال تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِه} (الفتح: 29) وهذا في القرآن كثير
جدًا.
وقال السعد التفتازاني في شرح المقاصد بعد ما نقل الخلاف ملخصًا ما نصه:
ثم المشهور فيما بين القوم المذكور في كتبهم أن مذهب إمام الحرمين أن فعل العبد
واقع بقدرته وإرادته إيجابًا كما هو رأي الحكماء مع قول الإمام في الإرشاد: اتفق
أئمة السلف قبل ظهور البدع والأهواء على أن الخالق هو الله ولا خالق سواه، وأن
الحوادث كلها حدثت بقدرة الله من غير فرق بين ما يتعلق قدرة العبد به وبين ما لا
يتعلق، قال العلامة إبراهيم الكوراني في شرح منظومة شيخه الشيخ محمد المقدسي
القشاشي ما نصه: مذهب الشيخ إمام الحرمين الذي تفرد به فيما قيل عن الأصحاب
يعني الأشعرية من أن أصل فعل العبد واقع منه بتأثير قدرته بإذن الله قال: وهو
مذكور في غير الإرشاد وهو آخر قوليه كما نقله عنه البقي فلا يقدح مخالفته ما في
الإرشاد وبقية كتبه التي وصلت إلى التفتازاني وغيره لما هو المنقول عنه في غير
الإرشاد وبقية كتبه في هذا الفن المرجوع عنها في هذه المسألة. قال الكوراني:
وهذا الكتاب الذي ذكر فيه آخر قوليه هو كتابه المترجم بالنظامية فيما وقفت على
كلامه منقولاً عنه بلفظه في كتاب (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة
والتعليل) للعلامة شمس الدين ابن القيم في الباب السابع عشر منه ولفظه:
اضطربت آراء أتباع الأشعري في الكسب اضطرابًا عظيمًا، واختلفت عباراتهم فيه
اختلافًا كثيرًا، وقد ذكر ذلك كله أبو القاسم سلمان بن ناصر الأنصاري في شرح
الإرشاد، ثم ساق عن تلميذ إمام الحرمين شارح الإرشاد هذا الأنصاري كلامًا فيه
أن إمام الحرمين ذكر لنفسه مذهبًا ذكره في الكتاب المترجم بالنظامية وانفرد به عن
الأصحاب، ثم قال صاحب كتاب شفاء العليل في آخر كلام شارح كتاب الإرشاد
المذكور.
قلت: الذي قاله الإمام في النظامية أقرب إلى الحق مما قاله الأشعري وابن
الباقلاني ومن تابعهما ونحن نذكر كلامه بلفظه قال - يعني إمام الحرمين -: قد
تقرر عند كل حاظ بعقله مترقّ عن مراتب التقليد في قواعد التوحيد أن الرب
سبحانه وتعالى مطالِب عبادَه بأعمالهم وداعيهم إليها ومثيبهم ومعاقبهم عليها، وتبين
بالنصوص التي لا تتعرض بالتأويلات أنه أقدرهم على الوفاء بما طالبهم، ومكنهم
من التوصل إلى امتثال الأمر والانكفاف عن مواقع الزجر، ولو ذهبت أتلو الآي
المتضمنة لهذه المعاني لطال المرام ولا حاجة إلى ذلك مع قطع اللبيب المنصف به،
ومن نظر في كليات الشرائع وما فيها من الاستحثاث والزواجر عن المعاصي
الموبقات، وما نِيط ببعضها من الحدود والعقوبات، ثم تلفت على الوعد والوعيد
وما يجب عقده من تصديق المرسلين في الأنباء وقول الله لهم: لِمَ تعديتم وعصيتم
وأبيتم وقد أرخيت لكم الطول وفسحت لكم المهل وأرسلت الرسل وأوضحت المحجة
لئلا يكون للناس على الله حجة، وأحاط بذلك كله ثم استراب في أن أفعال العباد
واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم فهو مصاب في عقله أو مستقر على
تقليده مصمم على جهله ففي المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله؛ قطع
طلبات الشرائع والتكذيب بما جاء به المرسلون، فإن زعم من لم يوفق لمنهج
الرشاد أنه لا أثر لقدرة العبد في مقدوره أصلاً، وإذا طُولب بمتعلق طلب الله بفعل
العبد تحريمًا وفرضًا ذهب في الجواب طولاً وعرضًا وقال: لله أن يفعل ما يشاء
ولا يتعرض للاعتراض عليه المتعرضون {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) قيل له: ليس لما جئت به حاصل، كلمة حق أريد بها باطل، نعم
يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ولكن يتقدس عن الخلف ونقيض الصدق، وقد
فهمنا بضرورات المعقول من الشرع المنقول أنه - عزت قدرته - طالبَ عبادَه بما
أخبر أنهم ممكنون من الوفاء به فلم يكلفهم إلا مبلغ الطاقة والوسع في موارد الشرع،
ومن زعم أنه لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه فوجه
مطالبة العبد بأفعاله عنده كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانًا وإدراكات، وهذا
خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرائع ورد ما
جاء به النبيون عليهم الصلاة والسلام، فإذا لزم المصير إلى القول بأن العبد خالق
أعماله فإنه فيه الخروج عما درج عليه السلف الأئمة واقتحام ورطات الضلال ولا
سبيل إلى المصير إلى الوقوع في أن العبد بقدرته الحادثة والقدرة القديمة فإن الفعل
الواحد يستحيل حدوثه بقادرين؛ إذ الواحد لا ينقسم فإن وقع بقدرة الله استقل بها
ويسقط أثر القدرة الحادثة، ويستحيل أن يقع بعضه بقدرة الله فإن الفعل الواحد لا
بعض له وهذه مهواة لا يسلم من غوائلها إلا مرشد موفق إذ المرء بين أن يدعي
الاستبداد وبين أن يخرج نفسه عن كونه مطالَبًا بالشرائع وفيه إبطال دعوة المرسلين،
وبين أن يثبت نفسه شريكًا لله في إيجاد الفعل الواحد، وهذه الأقسام بجملتها باطلة
ولا ينجي من هذا الملتطم ذكر اسم محض ولقب مجرد من غير تحصيل معنى وذلك
أن قائلاً لو قال: إن العبد يكتسب وأثر قدرته الاكتساب، والرب تعالى مخترع
خالق لما العبد مكتسب له؛ قيل له: فما الكسب وما معناه؟ وأديرت الأقسام
المذكورة على هذا القائل فلا يجد عنه مهربًا، ثم قال - يعني إمام الحرمين -:
فنقول: قدرة العبد مخلوقة لله تعالى باتفاق القائلين بالصانع، والفعل المقدور بالقدرة
الحادثة واقع بها قطعًا لكنه يضاف إلى الله سبحانه تقديرًا وخلقًا فإنه وقع بفعل الله
وهو القدرة، وليست القدرة فعلاً للعبد وإنما هي صفة له وهي ملك له تعالى وخلق
له، فإذا كان موقع الفعل خلقًا لله فالواقع به مضاف خلقًا إلى الله تعالى وتقديرًا وقد
ملّك الله العبد اختيارًا يصرف به القدرة فإذا أوقع بالقدرة شيئًا آل الواقع إلى حكم الله
من حيث إنه وقع بفعل الله، ولو اهتدت إلى هذا الفرقة الضالة لم يكن بيننا وبينهم
خلاف، ولكنهم ادعوا استبدادًا بالاختراع وانفرادًا بالخلق والابتداع فضلوا وأضلوا
(قال) : ونبين تميُّزنا عنهم بتفريع المذهبين؛ فإنا لما أضفنا فعل العبد إلى تقدير
الإله قلنا: أحدث الله القدرة في العبد على أقدار أحاط بها علمه، وهيأ أسباب الفعل
وسلب العبد العلم بالتفاصيل، وأراد من العبد أن يفعل فأحدث فيه دواعي مستحثة
وخيرة وإرادة، وعلم أن الأفعال ستقع على قدر معلوم فوقعت بالقدرة التي اخترعها
للعبد على ما علم وأراد فاختيارهم واتصافهم بالأقدار والقدرة خلق الله ابتداءً
ومقدورها مضاف إليه مشيئةً وعلمًا وقضاءً وخلقًا وفعلاً من حيث إنه نتيجة ما
انفرد بخلقه وهو القدرة ، ولو لم يرد وقوع مقدورها لما أقدره عليه ، ولما هيأ
أسباب وقوعه ، ومن هُدي لهذا استمر له الحق المبين فالعبد فاعل مختار مطالَب
مأمور منهي ، وفِعله تقدير لله مراد له خلق مقضي (قال) : ونحن نضرب في ذلك
مثلاً شرعيًّا يستروح إليه الناظر في ذلك فنقول: العبد لا يملك أن يتصرف في مال
سيده ، ولو استبد بالتصرف فيه لم ينفذ تصرفه ، فإن أذنه في بيع ماله فباعه نفذ ،
والبيع في التحقيق معزوّ إلى السيد من حيث إن سببه إذنه ، ولولا إذنه لم ينفذ
التصرف ، ولكن العبد يؤمر بالتصرف وينهى ويوبخ على المخالفة ويعاقب ، فهذا
والله الحق الذي لا غطاء دونه ولا مراء فيه لمن وعاه وعيه.
(وأما الفرقة الضالة) فإنهم اعتقدوا انفراد العبد بالخلق ثم صاروا إذا إنه
عصى فقد انفرد بخلق فعله والرب كاره أفكان العبد على هذا الرأي الفاسد مزاحمًا
لربه في التدبير مُوقِعًا ما أراد إيقاعه شاء الرب أو كره؟ ! .
إلى هنا كلام إمام الحرمين في النظامية بلفظه فيما نقله عنه كذلك الإمام
المحقق ابن القيم في شفاء العليل ونقله العلامة إبراهيم الكوراني الأشعري في شرح
منظومة شيخه القشاشي ، ولا يخفى على من نظر في كلامه تصريحه في غير
موضع بأن العبد له تأثير في فعله بالاختيار ، ومراده أن العبد ليس مستقلاًّ في إيقاع
أفعاله بمجرد مشيئته وإن لم توافق مشيئة الحق بل إنما تؤثر قدرته إذا شاء الله ذلك
ومكنه منه ، وهو المعبر عنه بالإذن ، قال الكوراني: اختار هذا شيخنا وألف فيه
سابقًا رسالة سماها (الانتصار لإمام الحرمين فيما شنع فيه عليه بعض النظار) ثم
اختصرها وزاد فيها نقولاً وقف عليها فيما بعد وسماه (اختصار الانتصار) ثم وقفنا
على كتاب شفاء العليل لابن القيم المنقول فيه كلام إمام الحرمين في النظامية
فأعجبه ذلك وأمر بإلحاقه بآخر اختصار الانتصار ليعلم الواقف عليه أن النقل عنه
بالتأثير بالإذن صحيح خلافًا لمن أنكر ثبوته عنه من المتأخرين قال الكوراني:
وقال شيخنا في شرح المواهب اللدنية على قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) من غزوة بدر ، واعتقاد جماعة أن المراد بالآية
سلب فعل النبي صلى الله عليه وسلم عنه وإضافته إلى الله، وجعلهم ذلك أصلاً في
الجبر وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد فبسط الكلام في إثبات الكسب على طريقة
إمام الحرمين وتأييده بدلائل الكتاب والسنة إلى أن نقل عنه كلامه المذكور في
النظامية، ثم قال: وفي شفاء العليل قال الأشعري رحمه الله وابن الباقلاني:
الواقع بالقدرة الحادثة هو كون الفعل كسبًا دون كونه موجودًا أو محدثًا، فكونه كسبًا
وصف للوجود بمثابة كونه معلومًا.. انتهى. وفهموا من ذلك أن لا تأثير لقدرة
العبد يعني عند الأشعري في مقدوره كما لا تأثير للعلم في معلومه فقالوا في قدرة
العبد: إنها مصاحبة غير مؤثرة قصدًا إلى التوسط قال: وتفسير كلام الأشعري
بهذا ميل عن التوسط الذي هو الحق ، وإنما التوسط المحصل للكسب النافي لطرفي
الإفراط والتفريط من الاستقلال، والجبر هو القول بأن لقدرة العبد تأثيرًا ولكن بإذن
الله لا على الاستقلال ، فاللائق أن يفسر كلام الأشعري بما يتنزل على هذا التوسط
وكلامه قابل للتأويل لأنه ليس نصًا في عدم التأثير فإن أوله يدل على أن الكسب
واقع بالقدرة الحادثة والوقوع فرع التأثير، نعم آخر كلامه يعطي أن لا تأثير لها
حيث شبهه بتعلق العلم بالمعلوم على أن الأشعري نص في عامة كتبه على ما يدل
على التأثير على ما نقله عنه صاحب شفاء العليل ثم حط القشاشي كلامه على أن
الكسب عند الأشعري تحصيل العبد بقدرته المؤثرة بإذن الله ما تعلقت به مشيئته
الموافقة لمشيئة الله ، وتقرير كلامه على هذا الوجه موافق لما قال إمام الحرمين من
التوسط الذي يتحصل به مؤدى الأمر والنهي من المكلف بلا تكلف قال الكوراني:
ثم رأيت من نصوص الشيخ الأشعري رحمه الله في كتابه (الإبانة) الذي هو آخر
تصانيفه - كما ذكره الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أي كتاب (الإبانة) المعول
عليه في المعتقد من بين كتبه كما دل عليه كلام الحافظ ابن عساكر - ما يدل على
أنه أي الأشعري إنما نفى الاستقلال لا أصل التأثير بإذن الله وتمكينه وحينئذ يكون
إمام الحرمين موافقًا للأشعري في التحقيق المعتمد عنده في (الإبانة) ثم قال
الكوراني: وهذا قول أبي إسحق الإسفرايني قال: وهو الموافق لظاهر الكتاب
والسنة قال: وقول أبي إسحق الإسفرايني وإمام الحرمين هو الذي اختاره حجة
الإسلام الغزالي فإنه قال في كتاب الشكر من الإحياء: لا قادر إلا الملك الجبار، وقال
في جواهر القرآن في باب المحبة: لا قدس ولا قدرة ولا علم إلا للواحد الحق وإنما
لغيره القدرة التي أعطاه.. إلخ وقال في الإحياء: وما هو قادر عليه يعني الإنسان
من نفسه أو غيره فليست قدرته من نفسه وبنفسه بل الله خالقه وخالق قدرته وأسبابه
والممكن له من ذلك ولو سلط بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص من الحيوانات
لأهلكه؛ فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه قال الكوارني: فهو قائل: إن للعبد قدرة
مؤثرة بتمكين الله لا مستقلاً وهذا التمكين هو المعبر عنه بالإذن في قوله تعالى:
{وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 102) . انتهى ملخصًا.
وإنما ذكرت لك أقاويل هؤلاء مع أن عمدة المعتقد عندنا الغير المنتقد في
عقدنا مذهب السلف المقرر على الوجه المرضي المحرر لتعلم أن محققي الأشاعرة
لهم موافقة على حقيقة مذهب السلف والإغضاء عما ينمّقه الخلف وبالله التوفيق.
اهـ.
(المنار)
أوردنا هذا الكلام هنا للذين لا يعرفون من كتب العقائد إلا كتب متأخري
الأشعرية القائلة بأن لا تأثير للأسباب في مسبباتها، ولا قدرة لإنسان في عمله وأن
الله يخلق المسبب عند السبب لا به وأن العبد كاسب لعمله في الظاهر مجبور عليه
في الحقيقة وتعزو هذا إلى الأشعري وكبار أنصاره ليعلموا أن كلام الأشعري ليس
نصًّا في ذلك وأن أكبر أنصار مذهبه - وهم إمام الحرمين والإسفرايني والغزالي -
قالوا بخلاف ذلك فلم يبقَ إلا الباقلاني عليه فهل نحصر السنة فيه دون السلف
وسائر أئمة الأشعرية؟ ! .
_________
الكاتب: محمد توفيق صدقي
الناسخ والمنسوخ
للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي الطبيب بسجن طره
أجملت الكلام في هذا الموضوع حينما كتبت مقالات (الدين في نظر العقل
الصحيح) لضيق الوقت وكثرة الأشغال، وقد رأيت الآن أن أعود إليه بإيضاح
يزيل ما هذر به السفهاء من الناس الطاعنين في الإسلام. الذين يعدون النسخ في
القرآن دليلاً على كونه من عند غير الله وكونه لم يحفظ كاملاً كما نعتقد، وليعلم
هؤلاء المساكين أن ما يقذفونه به ليس إلا حصى لا تزحزح طودًا من مكانه. ولولا
غفلة المنتمين إلى هذا الدين لما وجد القوم حصاة واحدة يرمونه بها ظنًّا منهم أنها
تؤلمه.
القول بالنسخ في القرآن ليس من عقائد الإسلام ألبتة، وإنما هو مذهب في
التفسير نشأ غالبًا في العصر الأول إن صحت الروايات الآحادية الواردة في هذا
الباب. والذين قالوا به منهم إنما أخذوه من ظاهر قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) الآية، فكان إذا عرض لواحد منهم اشتباه في فهم
بعض آيات القرآن التى بينها شبه خلاف تمسك بهذا القول لرفْع ما عرض له.
وليس فهم بعض الصحابة حجة في التفسير، وإلا لما خالف جمهور المفسرين ابن
عباس - وهو أعلمهم بالتفسير - في كثير من المسائل ولما خالف بعضهم بعضًا في
نفس هذه المسألة حتى كان بعضهم كأُبَيّ مثلاً يقول: إنى لا أدَع شيئًا سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد بذلك أنه لا يترك حكمًا ما بدعوى أنه
منسوخ، وكان عمر ينكر عليه ذلك كما ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس أن
عمر قال: أقرؤنا أُبي ، وأقضانا علي وإنَّا لندع من قول أبي وذاك أن أبيًا يقول:
لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى: {مَا
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) .
ولو كانت هذه المسألة من العقائد الإسلامية الواجبة لما أنكرها بعض أئمة
المسلمين المتقدمين والمتأخرين كأبي مسلم الأصفهاني وغيره. على أن المتمسكين
بها ليس عندهم دليل يعتد به على صحة مذهبهم ، وسنفسر إن شاء الله الآيات التي
توهموا أنها تفيدهم في تأييد رأيهم ، وحسبنا أن القرآن لم يقل في موضع ما إن هذه
الآية ناسخة أو منسوخة بأخرى. ولا يحل لنا أن نترك العمل بشيء من كتاب الله
تعالى لفهم فاهم أو لوهم واهم ، وأيضًا فليس عندهم دليل قطعي على تقدم المنسوخ
وتأخر الناسخ في كثير من المواضع ، بل إن بعض الآيات التى ادعوا أنها منسوخة
تجدها في القرآن متأخرة عن الناسخة كآية العدة في سورة البقرة مثلاً ، ولما وجدوا
ذلك زعموا ولا دليل لهم أن الآية المشار إليها نزلت أولاً ولم يبالوا بأن ذلك ينافي
حسن ترتيب الآيات في سورها وإن كان هذا الترتيب توقيفيًا بالإجماع. إننا لا
ندري لِمَ كانت بعض الآيات منسوخة عندهم ولم تكن ناسخة أي كيف يمكنهم تمييز
ما يجب العمل به وما يجب تركه مع أنه لم يرد في الكتاب ما يرشدهم إلى ذلك.
وهل يعقل أن الله يترك عباده يتخبطون في أمور دينهم مع أنه يقول في شأن القرآن:
{جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52) فإذا كان مذهب
النسخ صحيحًا أفليس من الإبهام وعدم البيان أن يكون القرآن خاليًا من التنبيه على
ما نُسخ وعلى ما لم يُنسخ؟ أو ليس من أعجب العجب أن لا يوجد عند القائلين به
حديث واحد متفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر نصًّا صريحًا
على أن الآية أو الآيات الفلانية نُسخت بالآيات الفلانية؟ ! وما بالهم لم يتفقوا على
عدد مخصوص من الآيات؟ ولِمَ يتركون دعواهم النسخ في آية إذا تحققوا أن لا
تعارض بينها وبين غيرها؟ ! .
غلا الناس في هذه المسألة غُلُوًّا حتى إنهم أرادوا أن يجعلوها فنًّا من الفنون
التى تؤلف فيها الكتب ، ولأجل أن يجعلوا أبواب هذا الفن كاملة زعموا أن النسخ
على ثلاثة أضرب:
(1)
ما نُسخ لفظه وحكمه معًا.
(2)
ما نسخ لفظه فقط.
(3)
ما نسخ حكمه فقط.
ثم التمسوا لكل ضرب شواهد ولو بالتمحُّل البعيد والخروج عن أساليب
البلاغة بل اللغة حتى لَيخيَّل للناظر إليها أن القرآن ضاع منه شيء ففتح باب واسع
لكل شيطان يريد أن يؤيد دعوى باطلة له لا يوافقه عليها القرآن فيختلق ما شاء أن
يختلق ويزعم أنه كان قرآنًا ونسخ ، ثم يلبَس لباس الصالحين والرواة الثقاة ليقبل
المحدثون روايته. وقد اعترف بعض من تاب بذلك ولولا اعترافه ما عرف.
فما يدرينا أن بعض الملحدين أو بعض الفرق الغلاة ظهر بالمظهر الذي غر
الناس حتى صدقوه في دعاويه. فهل بعد ذلك نثق بأي رواية لم تتواتر في مثل هذه
المسائل حتى يجرنا ذلك إلى الطعن في المتواتر نفسه. فالخطة المثلى في تحقيق
الحق وإزهاق الباطل عند العقلاء أن لا يعتمدوا إلا على ما تواتر ، ويرفضوا كل ما
خالفه ، وإلا لفقدوا التمييز ، ولما أمكنهم التصديق بشيء ما إلا إذا أدركوه بحواسهم
مع أننا مضطرون للتصديق بأشياء كثيرة لم نحسها.
اضطرب مبدأ القائلين بالنسخ كثيرًا. فبعد أن قالوا: لا نسخ إلا في الأمر
والنهي تجدهم يسلمون بالروايات الدالة على نسخ اللفظ مع أن جُلها ليس إلا أخبارًا
كما في رواية: (لو كان لابن آدم واديًا لأحَبّ أن يكون له الثاني) .. إلى آخره.
ولو عقل هؤلاء القوم لوجدوا أن لا مناسبة بين أسلوبها وأسلوب القرآن مطلقًا بحيث
لو عرضت والقرآن على ذي ذوق وهو أجنبي عن المسلمين - لَحَكَمَ أن قائلهما لا
يمكن أن يكون واحدًا بدون تردد اللهم إلا فيما كان مسروقًا منه كرواية (إن الذين
آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون)
على أنها لا تخلو من تكلف وتنافر بين الجملتين يدل على أن التأليف مصنوع.
لهذا كله ذهب جميع المحققين من أئمة المسلمين إلى أن أمثال هذه الروايات
الآحادية لا يثبت بها قرآن ولا ينفى بها ، ولذلك لا يعتد أحد بالروايات الدالة على
أن الفاتحة والمعوذتين ليست من كتاب الله ، ولو سلمنا جدلاً أن أحد الصحابة
أنكرها فلا يعتد بشذوذه ومخالفته جميع من عداه منهم.
نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فبلغه للناس وحفظوه عنه ، وأمر
بكتابته دون سواه فكتبه له كتبة الوحي ، وكتبه غيرهم لأنفسهم على ما تيسر لهم في
ذلك الوقت من جلد أو ورق أو عظم أو جريد أو خشب إلى غير ذلك مما أمكنهم
الحصول عليه. ولم يمُت عليه السلام إلا بعد أن كانت جميع السور مرتبة الآيات
محفوظة في صدور الجماهير مكتوبة في السطور وبعد أن سمعوها منه مرات عديدة
في الصلوات والخطب وغيرها وسمعها هو أيضًا منهم ، وارتقت الأحوال بعد وفاته
وتيسر لهم كتابة جميعه على الورق ففعلوا ذلك ونسخوا منه مصاحف بلهجات
العرب المختلفة. ولما ولي عثمان الخلافة أمر بالاقتصار على لغة قريش خوفًا من
وقوع الاختلاف في القرآن فكتبت المصاحف بهذه اللغة الواحدة بعد التحري والتدقيق
فيما كتب قبل ذلك وبعد السماع من الحفاظ ، وكان ذلك بعد وفاة النبي بسنين
قليلة ، ثم أرسلت المصاحف إلى الآفاق التي استعمرتها الصحابة رضوان الله عليهم
وفيهم الحافظون للقرآن في صدورهم وفي صحفهم فوافقوا جميعًا على استعمال
هذه المصاحف.
هذا، ومَن عرف طباع العرب وشدتها تحقق أنه لو وجد في مصاحف عثمان
عيب لرفضوها ولأُثِيرَتْ حروب وأُهرقت دماء ولقُتل عثمان لهذا السبب ،
ولوجدت مصاحف مختلفة بين المسلمين اليوم ولكن لم يحصل شيء من ذلك مطلقًا.
فدل ذلك على أن هذه المصاحف هي عين ما تلقَّوْهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم
ثم أخذت طرق كتابتها تتحسن شيئًا فشيئًا حتى وصلت إلى الحالة الحاضرة من
النقط والشكل ، ولا يوجد بينهما اختلاف مطلقًا قديمها وحديثها، شرقيها وغربيها إلا
ما كان خطأً مطبعيًا أو سهو ناسخ. ويهيمن على هذه المصاحف آلاف الألوف من
الحفظة في جميع الأقطار وفي جميع الأزمنة.
هذا هو تاريخ القرآن كما تواترت به الأخبار ، وما خالف ذلك من الأخبار
الآحادية يجب رفضه ولا يُعبأ به. وهذا هو الكتاب الذي نؤمن به ونعتقد أنه لا
ناسخ فيه ولا منسوخ بل جميع آياته محكمة يجب العمل بها جميعًا، ومن شاء أن
يعارض في ذلك فعليه بالدليل. فليس هو ككتب الأديان الأخرى حرمت قراءتها
على العامة ولم يحفظها الخاصة في صدورهم فلعبت بها الأهواء، وتعددت في
شأنها الآراء.
لو كان الاسلام دين عجائب وغرائب كغيره مما بني على حكايات رويت
بالروايات اللسانية ولم تكتب إلا بعد زمن وقوعها بمدة تكفي لضياعها أو الخلط فيها
أو إدخال الدخلاء فيها ما ليس منها ، ولما كتبت لم يكن عند أهلها فن تحقيق
الأسانيد وتحريها الذى لم يعرف إلا عند المسلمين - لو كان الإسلام كهذه
الأديان لحقَّ لأهله الخوف من الطعن في أمثال هذه الروايات. ولكن الإسلام - ولله
الحمد - دين عقل وعلم أُسس على كتاب كتب في عهد نبيه وحفظ في الصدور.
فما بال أهله قلدوا غيرهم وخافوا من رفض أمثال هذه الأحاديث الآحادية مع أنه لو
رُفضت جميعها بما فيها الأحاديث الدالة على صحة الإسلام كأحاديث المعجزات
الكثيرة وغيرها لا الموجبة للطعن فيه فقط لما ضرنا ذلك شيئًا؟ ! . فما بالنا اليوم
أخذنا نسبّ كل مَن فتح هذا الباب ونكفره مع أنه لم ينكر أصلاً من أصول الدين! .
فليتق الله عقلاء المسلمين.
كم من دخيل دخل في رواة أحاديث جميع الأديان والملل؟ كم من حق ضاع بين
باطل؟ كم من موضوعات رفضها المحققون؟ ألم يخرج البخاري رضي
الله عنه أحاديثه وهي أربعة آلاف من ستمائة ألف حديث؟ وهو شخص واحد يجوز
عليه الخطأ لأنه ليس معصومًا. فما هذا الجمود يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم
ودينكم أرقى من ذلك؟ ! . ولولا أنتم لما وَجد سفيه قشًّا يضربنا به.
فلنرجع إلى تتميم موضوعنا فنقول: أما ما تمسك به هؤلاء الجامدون من
القرآن الشريف على صحة مذهبهم فهو لا يفيدهم شيئًا ، ولذلك أذكر هنا أشهر
الآيات التى تمسكوا بها وأتكلم عنها واحدة فواحدة بما يشفي العليل ويروي الغليل:
(الآية الأولى) آية السيف: وهى في سورة التوبة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ
الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة: 5) الآية، فقالوا: إنها
نسخت جميع الآيات الآمرة بالعفو والصبر والصفح ، ولو تأملوا قليلاً لوجدوا أن
أكثر هذه الآيات مشعرًا بالتوقيت والغاية إلى أجل كقوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (البقرة: 109) . {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} (الصافات:
174) . {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} (يونس: 109) . {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ
سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 89)
…
إلى غير ذلك من الآيات التى تشعر
بأن ترك المدافعة والمقاتلة كان مؤقتًا. ومن القواعد الأصولية المعروفة أنه إذا ورد
حكم مطلق وآخر مقيد في موضوع واحد حُمل المطلق على المقيد.
وعليه فالآيات المطلقة الواردة في هذا الموضوع يجب أن تقيد بالتوقيت مثلاً قوله
تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (الحجر: 85) . وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: 94) كل منهما مؤقت أي أن الأمر بالصفح
والإعراض لا إلى غير أجل ولم يكن دائمًا ، فلما تحقق المسلمون بعد طول الاختبار
أن الصفح والإحسان لا يجدي مع العدو نفعًا ولا يزيده إلا طغيانًا واسترسالاً في
الأذى إلى درجة أن يسفك دماءهم ويغتصب أموالهم وأعراضهم ولا يخرجهم من
ديارهم ولا يراعي لهم عهدًا ، ولا يرقب فيهم إِلاًّ ولا ذمة؛ لما تحققوا ذلك وقووا
أُمروا أن يردوه عن غيه ويكسروا شوكته وينتقموا منه مع مراعاة العدل في كل ذلك.
والخلاصة أن الصبر على الأذى والإحسان إلى المسيء مأمور بهما في
القرآن كثيرًا ولكن لا في كل وقت ولا إلى غير حد ، ويفضَّلان على الأخذ بالمِثْل
إلا إذا جرَّا إلى الوبال وسوء الحال. ومن فهم ذلك علم أن لا تعارض بين آيات
القرآن في هذا الشأن فإن لكل مقام مقالاً. وعليه فلا معنى للقول بالناسخ والمنسوخ
هنا لاختلاف الحالين ، وقد أدرك ذلك كثير من علماء المسلمين كالسيوطي وغيره.
هذا، ولما كان الواجب علينا اقتفاء أثر النبي في كل شيء؛ وجب علينا أن تكون
خطته خطتنا فنجرب أولاً اللين فإن لم ينجع فالشدة إلا إذا خفنا أن يضيع اللين
مركزنا ويمكِّن العدو منا. فقد وصانا الله تعالى بالخوف من العدو كثيرًا فقال: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: 71) وقال: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَيْلَةً
وَاحِدَةً} (النساء: 102) ؛ ولذلك لم يهمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه
الراشدون أحدًا ممن ناصبهم العداوة وتربص بهم الفرص حتى يسلبهم ماحصلوا
عليه من القوة ويتمكن من الفتك بهم.
(الثانية) مسألة القبلة: لا يخفى على ناظر في الكتاب العزيز أن هذه
المسألة ليس فيها نسخ للقرآن ، وإنما هي نسخ لحكم لا ندري هل فعله النبي عليه
السلام باجتهاده أم بأمر من الله تعالى غير القرآن فإن الوحي غير محصور في
القرآن؛ فقد قال الله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النجم: 10) : أي
في ليلة المعراج ولا ندري جميع ما أوحاه الله إليه في تلك الليلة سوى ما بلغنا إياه
من أمر فرض الصلوات الخمس ، وأيضًا فقد يوحى إليه بشيء في منامه كرؤياه
دخول المسجد الحرام المذكورة في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا
بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (الفتح: 27) الآية، فقد كانت هذه الرؤيا وحيًا
إليه قبل أن ينزل فيها القرآن وهى تشبه رؤيا إبراهيم أن يذبح ابنه فقد كانت وحيًا
له أيضًا في منامه؛ إذ ليس كل وحي قرآنًا، وإنما القرآن ما يمكن تشبيهه بما
يسمى عندنا الآن بالأوامر الرسمية التحريرية وغيره بالشفهية غير الرسمية، وبناءً
على ذلك لم يحصل في القرآن نسخ في هذه المسألة مطلقًا.
(الثالثة) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن
مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 65-66) .
قال أهل النسخ: إن الآية الثانية ناسخة للأولى ، وفاتهم أن ذلك يوجب القول
بأن الحكمين الواردين في سياق واحد متناقضان ولا مخلص لهما من ذلك بدعوى
أنهما نزلا في وقتين مختلفين؛ لأن القرآن لم يقل ذلك ولم يفصل بينهما وأيضًا يلزم
على قولهم أن المسلمين في أول أمرهم كانوا أقوياء جدًّا حتى إن الواحد منهم يغلب
عشرة ، ولما كثروا وانتصروا مرات عديدة ضعفوا وصار الواحد منهم باثنين فقط
فواعجبًا ما هذا القلب؟ . ويلزم أيضًا أن الله على قولهم لم يكن يعلم أن الواحد منهم
لا يمكنه أن يغلب العشرة إلا بعد أن جرب ذلك ، ولما تحقق أبطل هذا الحكم وأبدله
بالآخر! ، وجوابهم عن هذه المسألة ركيك.
واعلم أن المعنى الصحيح هو أن الآية الأولى وعد من الله لهم بنصر الواحد
على العشرة ، ولما كان هذا الوعد يتضمن الأمر بالثبات أمام العدو ولو بلغ عدده
عشرة أمثالهم فكأن واحدًا منهم شق عليه ذلك فسأل: هل نمتثل هذا الأمر الآن؟
فأجاب تعالى على سبيل الاستئناف البياني: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} (الأنفال:
66) . أي لم يرد الآن أن يوجب عليكم امتثاله ثم قال: {
…
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} (الأنفال: 66) وهذا كالتعليل لعدم إيجاب الثبات المذكور في الوقت الحاضر
لعلمه أنكم ضعفاء لا تقوون عليه ، ثم أمرهم بالثبات أمام مثلَيْهم فقط موقتًا إلى أن
يقووا، فكأنه قال: يعدكم الله بالنصر على عدوكم الآن وإن كان مثلكم مرتين
ويعدكم بالنصر في الاستقبال ولو كان عدده عشرة أمثالكم ، وإنما قدم الوعد الأخير
على الأول؛ لأنه أبلغ في الحض على القتال فأتى به بعد قوله: {حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِين} (الأنفال: 65) وقدم لفظ] الآن [للدلالة على القصر فكأنه قال:
(الآن فقط) يتساهل معكم ولا يوجب هذا الأمر الشاق عليكم ، ولكنه في المستقبل
يحتم عليكم الاستماتة في القتال.
(الرابعة) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ
أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المجادلة: 12-13) .
والمعنى أن الله ندبهم إلى تقديم الصدقات للفقراء قبل مناجاة الرسول في شأن
من شئونهم والدليل على أن ذلك ندب قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} (المجادلة:
12) وكذا ما سيأتي بعد ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المجادلة:
12) أي: أن مَن كان هذا شأنهم لا يؤاخذهم على ترك هذا الأمر إذا لم يجدوا ما
يتصدقون به أما من تركه بلا عذر فالله يلومه ويوبخه ثم قال: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} (المجادلة: 13) أي: أَخِفتُم وهو استفهام بمعنى النهي
كقوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} (التوبة: 13) أي: لا تخافوا الفقر من
تقديم الصدقات فإن الله يخلفها ويجازيكم عليها بالخير في الآخرة: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا
وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (المجادلة: 13) أي: إن تهاونتم ولم تفعلوها ،
والحال أن الله تاب عليكم بأن لم يجعلها أمرًا محتمًا واجبًا يعاقبكم عليه إن تركتموه
- فلا تتهاونوا في الواجبات كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله والرسول فإن
الله لن يسامحكم في ذلك، وأيضًا فإن قيامكم بهذه الواجبات يكفر عنكم تهاونكم في
المندوبات فلا يلومكم الله على تركها على حد قوله في آية أخرى: {إِن تَجْتَنِبُوا
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (النساء: 31) .
(الخامسة) قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ
كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (البقرة
: 106-108) .
الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم والمعنى:
ما ننسخ من آية نقيمها دليلاً على نبوة نبي من الأنبياء أي نزيلها ونترك تأييد نبي
آخر بها أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها فإننا بما لنا من القدرة الكاملة
والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك.
ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع
أنبيائه وهو رد على من يقترح معجزات مخصوصة. وهذا التفسير هو المناسب
لقوله: {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106) إلى قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ
أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} (البقرة: 108) .
(الآية السادسة) قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ
لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 101-102) .
والمعنى: إننا إذا بدلنا حكم آية من آيات كتب الله السابقة بحكم آخر والله أعلم
بما يفعل وبما له من الحِكَم العظيمة - قالوا: إنما أنت كذاب لأن الله لا ينسخ
شرائعنا وذلك لجهلهم ما يترتب عليه من المنافع {
…
قُلْ نَزَّلَهُ} (النحل:
102) أي القرآن، {
…
رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} (النحل: 102) بتبيين حكم ما نسخ من الشرائع السابقة {
…
وَهُدًى
…
} (النحل: 102) لهم في أعمالهم {
…
وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 102) بأنهم
على الحق الثابت وأنهم مقيمون شرائع الله وحملة دينه للخلق جميعًا. وقد سميت
شرائع التوراة في القرآن بالآيات في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ
…
} (المائدة:
44) إلى قوله: {.. وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة: 44) والذى يدلك على صحة تفسيرنا ورود
بعض الأحكام الموسوية وبيان أنها منسوخة بعد الآية التى نحن بصدد تفسيرها
بقليل حيث قال: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا
قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 114-
118) إلى أن قال: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النحل: 124) .
هذا وإذا سلمنا أن المراد بقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ
…
} (النحل:
101) آيات القرآن نفسه فلِمَ لا يكون المراد: أننا إذا بدلنا آية في موضوع ما بآية
أخرى عند تكرر هذا الموضوع في سور مختلفة كقصص القرآن ومحاجته للعرب
وغيرهم - توهموا أن فيها تناقضًا وتضاربًا ، وقالوا: إنما أنت مفتر كذاب وإلا لما
خالفت نفسك في عباراتك مرات عديدة؟ ! وذلك ناشئ عن جهلهم وعدم تدبرهم
في آياته {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقّ} (النحل: 102) فلا تناقض
فيه ولا اختلاف {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا
…
} (النحل: 102) بما فيه من العبر
والحكم التي إن كررت واختلفت عباراتها فلا اختلاف في معانيها وهذا يشبه قوله
تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود: 120) ،
ثم قال: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 102) أي: هدى لهم بإرشاداته
المتضمنة في عباراته المختلفة وبشرى لهم بأن الله سينصرهم على عدوهم كما
نصر أهل الحق من الأمم السابقة. فعلى هذين التفسيرين السابقين لا يبقى لمدعي
النسخ حجة ما في القرآن.
ومن تأمل في هذه الآية وجد أنها لا تنطبق على رأيهم. فما معنى قوله:
{لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 102) فهل في النسخ الذى
يدعونه تثبيت أم زعزعة؟ وفي أي مواضع من القرآن نص على ما نسخ وبيّن
حكمته؟ وما معنى الهداية والبشرى للمسلمين هنا مع أن دعواهم توجب الحيرة
والضلال كما قلنا وليس فيها شيء من البشرى لنا وما مناسبة هذا الكلام هنا؟ ! .
فهذه أعظم حجج القائلين بالنسخ وقد علمت مما كتبناه أنه لم ينهض لهم شيء
منها فبأي شيء بعد ذلك يتمسكون؟ فيا قوم كفاكم كفاكم ما حمّلتم هذا الدين المتين؛
فقد نفرتم الناس منه وصرتم أكبر الصادين عنه. وهداكم الله سواء الصراط.
انتهى.
(المنار)
إن مسألة النسخ مثار لشبهات كثيرة يوردها قسوس النصارى ومجادلوهم على
القرآن ، وقد أطال اللغو فيها مؤلف كتاب الهداية طعنًا في الإسلام، والغرض الأول
للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي من هذه المقالة رد هذه الشبهات. على أنه يعتقد
صحة ما ذهب إليه مانعو النسخ في القرآن كأبي مسلم المفسر الشهير. وإن لنا
كلامًا آخر في هذه المسألة سننشره في جزء آخر ، وإنه ليسرنا أن نرى من
المتخرجين في المدارس العالية من يبحث في أصول الدين ويُعْنَى بفهم القرآن
والاهتداء به وإن خالف جمهور الفقهاء والأصوليين في المسائل التي لا يعد أحد من
المتخالفين فيها كافرًا ونعتقد اعتقادًا مؤيدًا بالاختبار أن إقناع المتخرجين في تلك
المدارس بالدين لا يكون إلا بهذه الطريقة؛ لذلك نقبل منهم مباحثهم وأسئلتهم مع
الاغتباط والسرور. ولله عاقبة الأمور.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تطور الأمم وانتقالها من حال إلى حال
إن للأجسام الحية خلايا تتغذى وتزدوج وتلد وتموت فيخلفها نسلها فيكون بها
الجسم حافظًا لحياته فإذا ضعفت الحياة في الجسم قل توالد الخلايا وكثر فيها
الموت حتى يهلك الجسم فتتصل أجزاؤه بجسم آخر قوي الحياة فتكون غذاءً له كما
ترى في النبات والحيوان.
إن الحياة مصدر النظام فهي بعمل خلايا الجسم الجزئية تكون خلقًا كليًّا منتظمًا،
وإن كان لا شعور لكل خلية في ازدواجها بمثله وإنتاجها بأن عملها ينضم إلى
عمل أمثالها فيكون خلقًا كبيرًا له في الوجود مظهر عظيم وعمل حيوي منتظم.
إن مدار حياة الأحياء الصغرى كالخلايا والكبرى كالشجر والبقر على الخليقة
وما فيها من سنن النظام ، وقلما يحتاج شيء منها إلى عناية مدبر مختار من جنسها
إلا الإنسان فإنه في أفراده وجمعياته لا يستغني بالطبيعة عن تعاهد بعض أفراده
لبعض بالعناية والتربية الشخصية والاجتماعية.
إن لهذه الأحياء الصغرى التى تتكون منها العوالم الكبرى أمراضها ، ولهذه
العوالم نفسها أمراضًا وإن لكل مرض علاجًا ودواءً ، وإن العلاج إذا صح يحول
دون إنهاكه لقوة الحياة أو الذهاب بها ما دام الجسم الحي مستعدًا للحياة أي ما بقي
من عمره الطبيعي بقية.
إن معالجة مرضٍ ما تتوقف على العلم بحال ما عرض له المرض من حيث
هو حي له مزاج يصح باعتداله الفطري ويمرض بأعراض تخرجه عن الاعتدال
والعلم بما سبق عروضه له قبل المرض الأخير الذي يحاول علاجه وبحقيقة هذا
المرض وأسبابه والعلم بالدواء وبالطريقة المثلى في المعالجة.
إن الإنسان أغرب الأحياء على هذه الأرض والعوارض التي تعرض لحياة
أفراده فتمرضهم أو تقتلهم هي أخفى مما يعرض لغيره من الأحياء النباتية
والحيوانية على كثرة بحثه عنها وعنايته بمعالجتها ، ولذلك يقل في الناس من يصل
إلى نهاية العمر الطبيعي ، ويقل فيهم من يعيش سليمًا من الأمراض والأسقام
كالشجر والحيوان الأعجم.
إن لحياة الإنسان الاجتماعية أمراضًا وإن معالجة الأمراض الاجتماعية أعسر،
والتحقق بشروطها أندر، ففي كل جيل من الأجيال ينبغ في الأمم المشتغلة بالعلوم
والفنون كثير من العلماء الأخصائيين، والصناع الماهرين، وقد تمر قرون وتنطوي
أجيال، تخلق فيها أحوال وتتجدد أحوال، ولا يبعث طبيب اجتماعي في الأمة،
يرفعها من الحضيض إلى القمة.
إن حياة الأمة التي ليس فيها أطباء اجتماعيون، وهداة روحانيون تكون دون
حياة الخلايا في الروح، وحياة النجم والشجر في الروض؛ لأن حياة النبات قلما
يعوزها شيء وراء الطبيعة وسننها في بلوغها غاية ما أعدتها حكمة التكوين له من
النظام والكمال الشخصي والنوعي ، وحياة الإنسان لا بد فيها من المربي لتصل إلى
كماليها فإذا فقد المربي؛ كان الناس فوضى لا يصلح لهم شأن ولا يستقيم لهم أمر.
وأفراده حينئذ يشبهون خلايا الأجسام من حيث جهل كل واحد منهم بنسبة حياته إلى
حياة غيره وتأثيرها في الاجتماع وغايتها في الوجود على أن أفراد الإنسان تشعر
بعملها الجزئي ، ولكن يقل فيهم من يشعر بتأثير عمله في الأمة فيتحرى فيها
مصلحته ويعرف اندماج مصلحته فيها.
إذا تمهد هذا فاسمع ما ألقيه عليك بشأن الأمة الإسلامية في حياتهم الاجتماعية.
إشارة إلى بدايتها وعبارة عما صارت عليه في هذا العصر يكون مثالاً لانتقال
الأمم من طور إلى طور من غير تصور ولا شعور.
أطوار الأمة الإسلامية:
كانت هذه الأمة في نشأتها الأولى تُنْفذ الرجل من أبناءها إلى المملكة فاتحًا
فيكون خير قائد في إبان الحرب، وخير حاكم في زمان السلم، يقيم العدل، ويعمر
الأرض، ويؤمِّن الرعية، ويستبدل الحرية بالعبودية، فيرى أقل رعيته ولو من
غير أهل دينه وجنسه أنه مساوٍ له في الحقوق والحرية بحيث لو نال منه نيلاً فشكاه
إلى الخليفة الذي أنفذه لأقاده منه كما حاول عمر أن يقيد ذلك الصعلوك من جبلة بن
الأيهم ملك غسان لولا أنه فر هاربًا.
بهذا اتسع ملك الأمة وانبثت حياتها العالية في أمم كثيرة فأحيتها، وجددت
للناس مدنية لم يسبق لهم عهد بمثلها بل لم يكتحل ناظر الزمان بنظيرها حتى هذا
اليوم الذي نرى فيه من آثار العلم والاجتماع ما لم نرَ من قبل فإن إنكلترا وهي
أعدل دول أوربا لا تساوي بين آحاد أبنائها وبين أمراء الهند، فضلاً عن أن تساوي
بين لورداتها وسلائل ملوكها وبين صعاليك مستعمراتها، وإن الخلفاء الراشدين ما
كانوا يجيزون لأبنائهم أن ينفقوا ألوف الألوف من بيت المال في سياحتهم لأجل أن
ينفخوا في الرعية روح عظمتهم ويشعروا سكان مستعمراتهم بمكان بأسهم وقهرهم
كما أجازت بريطانيا العظمى للبرنس أوف ويلس وليّ عهدها في سياحته الأخيرة،
فمثل هذا العمل تقرير لاستعلاء المالكين واستذلال المحكومين، فهو جناية على
البشر الذين لا يصلون إلى الكمال الاجتماعي إلا بكمال المساواة التي لا يفضل فيها
أحد أحدًا إلا بفضائله وأعماله كما قرر الإسلام.
هذا الروح الذي نفخه الإسلام في المعتصمين به حتى كان الرجل الأمي أو
شبه الأمي منهم يعمل في سياسة الممالك ما يعجز عنه الفلاسفة والحكماء قد كان من
شأنه أن يستولي على العالم كله فيصلحه لولا أن الملوك الظالمين وأعوانهم من
الفقهاء الجامدين قد أفسدوا جسم هذه الأمة فلم يعد مستعدًّا لحمل هذا الروح والحياة
به. فإذا كان عمرو بن العاص قد فتح مصر بجيش صغير فأحياها بالعدل وحسن
الإدارة حتى وصل النيل بالبحر الأحمر وآخى بين هذا القطر وبين الحجاز (وهو
ممن لم يدخل المدرسة الحربية ولا مدرسة الحقوق ولا مدرسة المهندسخانه) فقد
صار القطر الإسلامي العظيم يستعبده عدد قليل من الأجانب وصار المسلم المتعلم
الحامل للشهادات العالية التي يظن أنه يفضل بها عظماء سلفه كعمرو وعمر ينفذ
إلى قطر إسلامي كاليمن اليوم وكالسودان بالأمس فيبغي في الأرض، ويجني على
العَرَض والعِرض، فيترك الأرض موظوبة، والأموال مسلوبة، والدماء مسفوكة،
والأعراض مهتوكة، حتى أنّت الأرض من حكم كل مسلم عليها، واستغاثت السماء
من سلطة كل مسلم تحتها، وسمع رب العزة أنين المظلومين وبكاء الباكين،
{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم: 13) بما جاءهم على لسان
النبيين.
عم الظلم فأفسد الأخلاق وأضعف النفوس وطبع على قلوب الأمة بطابع القهر
والعبودية حتى لا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولا تعاون على بر ولا
تناصر على رفع ضر، فذهبت ريح الدولة وقوة الأمة، واستعد الفريقان بعملهم
لنقمة الله تعالى بدلاً من سابق نعمته، فكان تقلص ظل الحاكمين الظالمين على
رءوس المظلومين الخاضعين بأيدي الأجانب لا بأيدي الأمة وبهذا كان الانتقام عامًّا،
ولو كانت الأمة هي التي هبت لإزالة الظلم بأيديها وأخذ صولجان الحكم بيدها
لكان الانتقام خاصًّا بالظالمين، ولبقي للأمة عزها ومجدها.
دب الفساد الاجتماعي في جسم الأمة فلم تشعر به فتعالجه، فكان أفرادها
بفقدهم الشعور بما يحل بهم وبما يكون من عاقبته في مجموعهم كخلايا الشجرة أو
الثمرة يعرض الفساد بجانب منها ولا تدري حتى تفسد جميعها؛ ذلك أن الظالمين
بدأوا بإزهاق روح التكافل الذي يربط بعض الأفراد ببعض فيكون سببًا لسريان
شعور المجموع بما يطرأ على الأفراد وانفعال المزاج الكلي بذلك، واندفاعه إلى
دفع العرض الطارئ قبل سريانه واستشرائه؛ فإن من طبيعة الجسم الحي أن ينفعل
مزاجه بما يعرض لأي عضو من أعضائه فيوجه قوته لدفع العرض بإعانة ذلك
العضو عليه، ألا ترى أن الدم يكثر وروده على الدماغ عند انهماكه في الفكر وإلى
المعدة عند اشتغالها بالهضم وإلى نحو اليد يصيبها برد أو ضرب. والأمة الحية
كالجسم الحي توجه قوتها إلى إعانة كل فرد من أفرادها يصيبه ضرر أو يرهقه ظلم
حتى تدفعه عنه أو تعجز فتكون من الهالكين كما إذا عجز المزاج الصحيح في جسم
الحيوان عن دفع عوارض الفساد بنفسه أو بمساعدة الطبيب فإن الفساد يغلب حينئذ
على الجسم فيفسده.
كيف أزهق الرؤساء المفسدون روح التكافل في جسم هذه الأمة؟ حولوا
السلطة من الشورى الشرعية إلى الأثرة الاستبدادية، وفرقوا بين المسلمين في
الجنسية، فقالوا: عربي وعجمي، وفارسي وتركي، وفي اللغة، فقالوا: لغة
رسمية ولغة دينية، وفي المذاهب فقالوا: سني وشيعي، وحنفي وشافعي، وفي
الوطن فقالوا: مصري وشامي، ومغربي وحجازي، وإذا كنت تظن أن هذا
الضرب الأخير من التفريق أهون ضروبه شرًّا؛ فأنا أذكر لك كلمتين لرئيس ديني
ورئيس دنيوي تعرف بهما مبلغ تسمم جسم الأمة الإسلامية بسم الوطنية. رأى عالم
من علماء الدرجة الأولى بل شيخ من مشايخ الأزهر السابقين يلقب بشيخ الإسلام
خطيبًا شاميًّا في جامع بمصر فقال: إن هذا الجامع حسن وموقعه عظيم، ولكن من
الأسف حشوه بالشوام! وقال رئيس كبير من رؤساء الدنيا في معهد من معاهد العلم
الديني - وقد رأى فيه حجرات كثيرة للطلاب من قطر غير قطره -: ماذا فعل لنا
هؤلاء.. حتى نعطيهم كل هذه الحجرات وأهل البلد أحق بها منهم؟ ! ، أو ما هذا
معناه على أنه لم يكن هو الذي أعطاهم وإنما تلك أماكن وقفها عليهم أناس آخرون
من غير قوم القائل ومن غير وطنه.
هنالك إفساد آخر هو أشد من كل إفساد وهو الحيلولة بين المسلمين وبين
هداية القرآن الذي جعل أمر المسلمين شورى بينهم لا في أيدي أفراد يستبدون فيهم
وفرض عليهم مقاومة الظلم والإفساد في الأرض بقوة الأمة وغير ذلك مما يحفظ
حياة الأمم بل ينميها حتى تبلغ كمالها ولولا هذا الإفساد لما تم لظالم ولا لمفسد ما
أراد.
سرت كل هذه الأمراض في جسم الأمة الإسلامية من حيث لا يدري الأفراد
ولا يشعرون كما علمت من التمثيل السابق، وكان من عواقبها أن أكثر الممالك
الإسلامية خرجت من أيدي المسلمين وما بقي لهم فهو في طور النزع ولكن هذا
العصر يمتاز على ما قبله بشعور كثير من أفراده بأن الأمة في مرض، ودولها في
حرب، فإذا لم تبادر بالعلاج تم فساد المزاج، وأجهز عليها الظالم، فهلك المحكوم
في أثر الحاكم، بهؤلاء الأفراد على قلتهم وضعفهم أنشأ المسلمون يستعدون لاستعادة
ما فقدوا من مزايا الإنسانية ولكن المسلمين لم يغفلوا عن مراقبتهم، فهم يجتهدون
في إماتة شعورهم بالضغط والاضطهاد تارة وبالرتب والرواتب تارة أخرى، ومن
ثبت على نار الفتنتين اضطر إلى الفرار من ديارهم إلى ديار أخرى يأمن فيها على
نفسه أن تغتال، ويجد فيها لحرية فكره ولو بعض المجال، وإلا نفوه إلى بلد قفر،
أو جزيرة في البحر، حتى لا ينتشر له فكر، ولا يسمع له ذكر.
وجملة القول: إن المسلمين كانوا أحياءً بالإسلام نفسه على بصيرة وبينة،
ولما عرض لهم حلم الفساد اضطرب مزاجهم؛ فتداعوا إلى إزالته فحال دون ذلك
تحول السلطة الإسلامية عن صراطها، ثم ضعف الشعور بفعل هذا الحلم بجسم
الأمة لقوة مزاجها وضعف سائر الأمم دونها ثم خدر المرض أعصابها فكان الحلم
يفعل فعله وهي لا تشعر حتى عم الفساد كل عضو من أعضائها، ونعني بالأعضاء
الشعوب والفرق التي انقسمت إليها وحدة الأمة، فلا يوجد شعب إسلامي حي ولا
حكومة إسلامية إلا وهي تعفو ما بقي من رسوم الإسلام وتجد في إبسال أهله إلا ما
يقال عن حكومة الأفغان من عنايتها بحفظ استقلالها بالقوة العسكرية الحديثة، وهذا
ضروري ولكنه غير كافٍ كما نرى في تركيا، فلا بد من نشر علم الكون في الأمة
وإعدادها للحكومة المقيدة بالشورى وإلا كانت من الهالكين. أما ذلك الشعور الذي
تجدد لأفراد من المسلمين وهو لا عمل له في مملكة من ممالكهم إلا إعدادًا بطيئًا
للانتقال إلى طور آخر مجهول لعامتهم، ومشكوك فيه عند خاصتهم، لا يدرون
أيكون مرضًا مضنيًا، أم موتًا مرديًا، أم يكون حياة سعيدة ، وسيادة جديدة، أساسها
العلم والعدل، وغايتها العمران والفضل، فمنهم اليائس يزيد في الإفساد، ومنهم
الراجي يدعو إلى سبيل الرشاد، وهكذا شأن الأمم في طور الانتقال، لا تستقر من
الاضطراب على حال.
من أسباب يأس اليائسين أن المسلمين قد خرجوا بتقسيم رؤسائهم إياهم إلى
شعوب وأجناس ومذاهب عن كونهم أمة واحدة فلا فائدة من كثرتهم ولا رجاء في
وحدتهم، وإنما يجب الحكم عليهم بحسب حكوماتهم سواء كانت منهم أو من غيرهم
فقد أعدهم الظلم والاستبداد لأن يكونوا عبيدًا لمن يحكمهم.
وإذا نظرنا في حال حكوماتهم وجدنا الإسلامية منها أسرع في الإجهاز عليهم
من الأجنبية (ونعني بالإسلامية المنسوبة إلى المسلمين لما كانت على قواعد
الإسلام فإن هذه لا وجود لها في الأرض) فإذا كان من الغرور أن نرجو حياة
الشعب الجاوي تحت سلطة هولندا والمغربي تحت سلطة فرنسا مثلاً فمن الجنون أن
نرجو حياة الشعوب العثمانية المتمزقة تحت سلطة تركيا والشعب الفارسي تحت
سلطة حكامه ومجتهديه؛ ذلك بأن حكومات الأجانب على منعها النور الحقيقي أن
ينفذ إلى عقول المسلمين فيحييهم بحرارته وهدايته لا سلطة لها إلا بقوتها الحسية
على الأجسام، وأما الحكام المسلمون فإن لهم سلطتين - القوة الحسية على الأجسام
والقوة المعنوية في الأرواح - لأن المسلمين توارثوا الاعتقاد بوجوب الخضوع لهم
على أنه من الدين وقلما يوجد فيهم من يعلم أن من أعظم قواعد الدين أنه لا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق، ولا حكم إلا لله ومن استحل الحكم بما يخالف القواعد
الشرعية المنصوصة كان مارقًا من الإسلام {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) وهؤلاء العارفون على قلتهم لا يسمح لهم الاستبداد
بنشر علمهم في الأمة لئلا تنبعث لإقامة الشريعة على أساس الشورى فتبطل سلطتهم
الاستبدادية التي تنطوي في باطنها نزعة الألوهية.
ويقول هؤلاء اليائسون أيضًا: إن الأوربيين الذين استولوا على أكثر بلاد
المسلمين يتربصون بباقيها الدوائر وحكامها يمهدون لهم السبل بالظلم والقضاء
بالجهل على العلم وباقتراض الأموال منهم ومنحهم (الامتيازات) في بلادهم وهم
يجتهدون دائمًا في الاتفاق على قسمتها بينهم فلا يمر عقد من السنين إلا ونراهم قد
اكتسبوا حقًا جديدًا فيها أو قلصوا ظل نفوذنا عن ولاية منها ثم هم أقدر البشر على
سياسة الأمم والتصرف في الشعوب فإذا دخلوا ولاية قبض أفراد منهم على قواها
المالية والعسكرية والعلمية والأدبية وذللوا الأمة لسلطانهم فهم يسخروننا لخدمتهم
بقوتنا حتى لا يدَعوا لنا سبيلاً إلى استعمالها في منفعتنا، وأعظم مظهر لسياستهم
العليا فينا أن سلطتهم تكون أقوى وأرسخ وربحهم يكون أكثر وأسهل في البلاد التي
يبقون فيها لنا اسم السلطة ويرضون بمعناها لأنفسهم، فهم يستعبدوننا بواسطة
استعبادهم لحكامنا الذين أنسنا بالعبودية لهم. فأين موضع الرجاء لهذه الشعوب
الجاهلة المتفرقة المستعبدة مع هذه الأمم العالمة المستقلة المتحدة؟ ! .
هذا مجمل احتجاج اليائسين من أهل الشعور بما ينذر المسلمين من الخطر
فرأيهم أن طور الانتقال الذي هم فيه سينتهي بطور دخولهم تحت سلطة الأجانب
وزوال استقلالهم من الوجود زوالاً أبديًا كما زال استقلال بني إسرائيل إلا أن يحدث
في العمران انقلاب كبير لا دليل عليه الآن.
وأما أهل الرجاء - ونحن منهم - فإنهم يعرفون ما يحتج به أهل اليأس ولا
ينكرونه ولهم نظر آخر أبعد، ورأي أسدّ - إن شاء الله - وأرشد، يؤيدونه بآيات
الوحي ويستدلون عليه بطبيعة العمران وشئون الاجتماع، ولا يتسع هذا المقال
لشرح ما يجوز نشره منه، وإننا نوجز القول فيما لا مندوحة عنه.
إن المسلمين - وإن اختلفوا في اللغات والمذاهب والأوطان والحكومات -
يتفقون في أمر واحد تتبعه أمور جوهرية من ناحيتها يدعون إلى ما يحييهم ويجعلهم
أمة عزيزة تشعرها وحدة الاعتقاد بأن لها مصلحة واحدة يجب على شعوبها الاتحاد
والتكافل في سبيلها وإن ظلوا على اختلافهم في تلك الأمور العظيمة حتى إذا ما
انتشرت الدعوة إلى الأمر المتفق عليه (وهو القرآن) استتبعت الوحدة في اللغة
والوحدة في المذهب أو انتفى الافتراق في المذاهب ، وصار كل شعب من شعوب
المسلمين قوة للآخر وعونًا له وظهيرًا على بعد الدار وقربها واختلاف الحكومات
والأجناس ولا تسألني عما يكون بعد ذلك وأنت لمَّا تعلم ما يكون قبله.
الدعوة إلى القرآن تستتبع الدعوة به إلى جميع العلوم الكونية من طبيعية
واجتماعية لأجل تكميل النفس بعرفان حكم الله في صنعه وإبداعه ، ولأجل تعزيز
دينه بآثار تلك العلوم ، وتستتبع طلب المزيد من نعم الله ومساهمة الأغنياء والأقوياء
للفقراء والضعفاء في هذه النعم بأداء الزكاة وغيرها من الصدقات التي تقوم بها
المصالح العامة والخاصة وتستتبع حكم الشورى وإقامة العدل وغير ذلك من أركان
السعادة. فإذا وفق الدعاة لإقناعهم بهذا وحملوهم عليه فقل: قد نفخت فيهم روح
الحياة التي لا موت بعدها. نعم إن هذا الإجمال لا يقنع القارئ بهذه الدعوى ، وإن
التفصيل مع بيان الدليل لا محل له هنا على أن شرح ذلك إنما يفيد أهله الذين
استعدوا للقيام به دون من يقرأ لأجل التسلي أو الانتقاد كما هو شأن أكثر الناس.
بينا في مقالة الحياة الملّية من المجلد الثامن شيئًا من حقيقة هذه الحياة التي
هي محل رجائنا ، وذكرنا هناك العلوم التي نحتاج إليها وكيفية تمهيد العقبات التي
تعترض في سبيلها ، ونحن الآن في حاجة إلى بيان أن المسلمين في طور انتقال
من حال إلى حال وأن هذا الطور شبيه بطور النقه من مرض تخشى عاقبته، ولا
تؤمن نكسته، وأنهم محتاجون فيه إلى الأطباء الروحانيين العالمين بأدواء الاجتماع
وطرق معالجتها وإلا سبقهم الأجانب لتحويل الأمة في هذا الطور إلى حياة مذبذبة
ينقطع كل رجاء للإسلام فيها.
ثبت بالتجربة والاختبار أن المتعلمين للعلوم الكونية هم الذين يسودون أمتهم
كما أن الأمم السابقة في مضمار هذه العلوم تسود المتخلفة فيه فالناس تبع لهؤلاء
المتعلمين صلحوا أم فسدوا ، فهم التيار الجديد الذي يحول الأمة من حال إلى حال
وعقول هؤلاء المتعلمين وقلوبهم بين أيدي الأجانب فهم الذين يودعون فيها وينقشون
في ألواحها المستعدة ما يريدون على علم منهم بغايته وأثره. ومما نشاهد من أثره
أن أكثر المتعلمين لا قيمة للدين الذي هو الرابطة العامة للمسلمين - في نفوس
أكثرهم فهم لا يصلون ولا يصومون ، ولا يحلون ولا يحرمون وإنما هَمُّ أكثرهم
التمتع باللذات الحسية ولو بذلوا في سبيلها جميع المصالح العامة. ثم هم مع هذا
مغرورون بأنفسهم يحسبون أنهم أرقى من سلفهم الصالح عقولاً وأرجح أحلامًا
وأوسع علومًا وأفضل آدابًا وأقدر على الأعمال الاجتماعية فلا الدين عرفوا ولا حب
الأمة أشربوا ، وكيف وهم على جهلهم بشريعتها يجهلون تاريخها الذي لم يتفضل
عليهم ساداتهم الأجانب بشيء حقيقي منه إلا بعض المسائل المنتقدة التي صوروها
بغير صورتها ، وألبسوها غير لباسها ، واستنبطوا منها ما لا تدل عليه من العيوب
والمساوئ ، وغفل متعلمونا الأذكياء عما اعترف به المنصفون من فلاسفة أساتذتهم
المتصرفين في عقولهم وقلوبهم من حيث لا يشعرون من تعظيم شأن مدنية المسلمين
الأولين الذي أقاموا ميزان العدل بعد ميله ، وأحيوا موات العلم بعد موته كما غفلوا
عن أنفسهم التي لم يوجد لها في الأرض أثرًا يحمد فلا رفعوا أمة من سقطتها ولا
أحيوا دولة بعد موتتها وما لي لا أذكرهم بتعصب أساتذتهم لدينهم والسعي في نشره
بما يبذلون من الملايين في جمعيات الرهبان والقسيسين.
كلا، إن القصد إلى بيان حال المتعلمين في مثل مصر والآستانة ، وأنهم
كالعلامة في جهلهم بعاقبة علمهم وعملهم في الأمة فكل واحد منهم يفكر في خويصة
نفسه ، فهو يتعلم لغاية يجعلها نصب عينيه وهي رزق مضمون يتمتع به كما يتمتع
خواص قومه. يعذر التلميذ في هذا ولا يعاب لأنه لا يتوجه إلا حيث يوجهه معلمه
ومربيه فمن لم يكن له أم ولا أب ولا معلم ينفخ فيه روح حب الأمة والملة لا يرجى
أن يهتم بجعل حياته الشخصية ركنًا من أركان حياة أمته الملية لبذل شيء من وقته
وشيء من فضل ماله في خدمتها وإعلاء شأنها.
إذا كان الكمال الشخصي يتوقف على حسن تربية الشخص البدنية والنفسية
فهل يمكن أن يكون الكمال الاجتماعي بالمصادفة والاتفاق أو لترك معظم نشء الأمة
فوضى والقذف بمن يراد تعليمهم من الذكران والإناث إلى الأجانب حتى الجزويت
والفرير ينقشون ألواح نفوسهم بما يشاءون؟
هذه الحال التي نرى عليها أكثر الذين تعلموا العلوم العصرية والتي يظن أن
سيكون عليها أو على ما هو دونها من يتعلمون الآن تصلح أن تكون حججًا لليائسين
من إصلاح حال المسلمين ، ولكن أهل الرجاء يرون في أثناء هذه الظلمات المتكاثفة
بصيصًا من النور يوشك أن يتألق فيقشع كل ظلمة ويظهر صراط الحق للسارين.
يرى البصير في مصر والهند نابتة على شيء من استقلال الفكر ويرى في روسيا
نابتة لم يعمل في أرواحها سم الأجانب عمله في غيرها وهي مع ذلك تتطلب العلوم
والتربية لأجل الحياة، ويرى في الآستانة نفسها على شدة الهيمنة فيها على الأفكار
والمراقبة على العلم نابتة تلتهب غيرة وتشعر من معنى الاستقلال بما لا يشعر به
سائر المسلمين ، ويرى في إيران هزة جديدة، وحركة يرجى أن تكون مفيدة،
ويرى في تونس حركة أخرى حيوية، تعوزها نفحة من نفحات الحرية، وليس
استقلال الفكر هو كل ما استفادت نابتتنا من الأجانب بل أصابتهم نفحة من نفحات
الحياة الاجتماعية. فهذا الخير يتنازع مع تلك الشرور في هذه النفوس الضعيفة ،
ولا يعوز الأمة الآن إلا الأطباء الروحانيون والزعماء الاجتماعيون الذين يشرفون
على الأودية والترع والسواقي التي تجري فيها سيول الحوادث الجديدة بالأمة
ويقدرون على تحويلها إلى حيث تكون محيية لأرض الأمة. ما رأيت لكاتب في
هذه البلاد كتابة ، ولا علمت لعامل عملاً ينبئ بمراقبته للتغيير الاجتماعي الذي ينتقل
بالأمة المصرية من حال إلى حال (وحاشا من فقدنا بالأمس) إلا ما يكتبه اللورد
كرومر في تقاريره السنوية، وما يدبر به أمور الحكومة الكلية، هو الذي ينظر في
عاقبة الأعمال المالية الكبرى ويسيرها كما يرى، وهو الذي قال في المحاكم
الشرعية: إنها ستمد إليها يد لا تعرف للقديم حرمة، وهو الذي توقع من زيادة
الإقبال على تعليم البنات ما توقع ، وأشار بالنظر في مغبته، هو الذي فهم ما يرمي
إليه اعتصاب تلاميذ المدارس فاهتم به اهتمامًا لم يفهم سره إلا الأقلون فمن لنا
بمرشدين ينظرون في أمورنا الكلية بتلك العين، ويرجحون سير نابتتنا خير
النجدين؟ .
هذا ما نحن في أشد الحاجة إليه لإصلاح شئوننا في هذا الطور الذي نحن فيه
فالزعماء المصلحون هم الذين يحولون مجاري الحوادث التي تعمل في استعداد
الأمة وتغيرها على ما فيه خيرها وسنفرد لهم مقالاً خاصًّا بهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة من سنغافوره
ورأي عالم في المنار والمسلمين
(س 6-9) من خ. م. س. في سنغافوره
تشرفت بلقاء بعض الفضلاء من علماء المسلمين فانجر بنا الحديث إلى ذكر
الأحوال الحاضرة فيما للإسلام والمسلمين فيه وعليه ، فجرى ذكر المنار المنير
فأثنى عليه بما هو أهله ثم شافهني بقوله: تنبه كثير من المسلمين بدعاء المنار إلى
الله تعالى وتمحيصه للحقائق ، وإني أرفع إليك هذا لترفعه إلى المنار الأغر لينشره
على صفحاته مؤملاً منه أن يبسط لنا في الجواب على ما سألناه وما ضالتنا
المنشودة إلا الإرشاد إلى الحق (وهذا ما قاله ذلك الحكيم) :
ضرب الجهل أطناب خيامه في بعض البلاد الإسلامية التي كان لسلفها القدح
المعلى في العلوم والمعارف والأعمال حتى صارت الآن خلوًا من كل ما يطلق عليه
اسم (مجد) بل لا يبعد إن قلنا: إن من فيها من الخلف ضد لسلفهم ، وقد أهملوا
كل شيء من المجد اتكالاً على مجد من سلف حتى إذا ما عرا حادث اتكلوا في دفعه
على سكان الأضرحة فتراهم يعتقدون في صالحي أمواتهم أنهم مطلعون على أي
حادث عرا وأنهم إن شاءوا دفعه عنهم دفعوه ، وإن رأوا في إبقائه صالحًا أبقوه
وتراهم يقدسون تلك البقاع التي لم يرد في الشرع تقديسها ، ويرون في مطلق
الإقامة بها شرفًا وفضلاً وإن كان المقيم بها خلوًا عن كل فضل وشرف.
فهل أنزل الله بهذا من سلطان؟ وهل فيما يعتقدونه شيء ورد به الكتاب
والسنة؟ وهل فيما إذا ورد عن سلفهم شيء ولم نجد له دليلاً من الكتاب والسنة
فعلى ماذا يكون حمله؟ وهل يجب على أحد التصديق بالولاية لشخص معين؟
وماذا يكون حكم من رد شيئًا من كلامهم في نحو ما ذكر أعلاه ولم يعترف بولاية
أحد معين؟ وقد جاء من نحو هذا في بعض أعداد المنار السالفة ما جاء ، والأمل
في حضرة الأستاذ الرشيد المرشد أن لا يحيلنا على ما سبق ويبسط لنا في جوابه
على ما ذكرناه فضلاً ، وليكن في معلومكم سيدي أن هذا الداء قد أزمن في كثير من
بلدان المسلمين فيحتاج إلى معالجته بدواء فيه قوة لاستئصاله - فلعل أن يكون دعاء
المنار إلى الحق بالحق مقبولاً عند أولئك ، كما أنه قبل دعاء المنار كثير ممن ضلوا
فأضلوا ثم اهتدوا فهدوا -.
(المنار)
ترجع هذه الأسئلة إلى أربع مسائل:
(1)
الدليل على دعاء الموتى أي التماس دفع الشر وجلب الخير منهم.
(2)
ما يرد عن العلماء ولا يعلم له دليل.
(3)
حكم من رد كلام العلماء الذي لا دليل عليه.
(4)
الاعتقاد بولاية شخص معين من الناس أي أن له مكانة عند الله خاصة
به في الدنيا والآخرة.
وإن كثيرًا من قراء المنار قد سئموا كثرة الكلام في مسألة التوسل بالموتى إلى
قضاء الحاجات ، ولكن فتنة الناس بها وتجدد قراء كثيرين للمنار في كل عام لم
يطلعوا على ما سبق نشره في ذلك مع حاجتهم إليه يوجب علينا مع تجدد السؤال
عنها أن نبين الحق فيها فنقول:
مسألة دعاء الموتى والتوسل بهم
(ج 6) لو كان الكلام مع أناس من أهل العلم والبصيرة لكان يكفينا في بيان
بدعتهم في ذلك أن نقول: إن ما تأتونه لم يأذن به الله في كتابه ولا على لسان
رسوله ، ولم يأتِ بمثله صالح المؤمنين من الصحابة والتابعين وهو أمر ديني
محض لا مجال للرأي فيه فمن يقول به يكون منازعًا لله تعالى في شرع الدين كما
قال تعالى في سورة الشورى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ} (الشورى: 21) .. الآية. فإن ادعوا أن أحدًا من السلف دعا ميتًا أو طلب
منه حاجة أو صلى عند قبره أو تمسح به أو قصده للدعاء أو قال: إن الدعاء عنده
أرجى للإجابة- طالبناه بالنقل ولن يجده وإنما قصارى احتجاجهم أن بعض مشايخ
التصوف الذين اشتهروا بالصلاح كانوا يتبركون بالقبور. والجواب عنه سهل لمن
يعرف ما هو الإسلام، فإن علماء أصول الدين حصروا الحجج الشرعية في الكتاب
والسنة والإجماع والقياس. ولا ينهض شيء من ذلك هنا، أما الكتاب والسنة
والإجماع فإن طريقها النقل ولم ينقل ذلك أحد؛ وأما القياس فإنه لا يأتي في الأمور
التعبدية ولا فيما يتعلق بشأن عالم الغيب ، والمسألة من هذا القبيل لأن المفتونين بها
فريقان: غلاة يزعمون أن الموتى يقضون حاجاتهم بأنفسهم لأن أرواحهم مأذونة
بذلك ، وقال بعضهم: بل هي تعود إلى أجسادها التي لا تفنى وتقضي الحاجة كما
كان شأنها في الحياة الدنيا، وأنت ترى أن هذا نبأ عن عالَم الغيب وهو لا يعرف
إلا بالوحي كما قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ
ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) .. الآيات وفيها أن الرسول يطلعه الله
تعالى على ما يريد أن يبلغه عنه من أمر عالم الغيب كالجنة والنار والملائكة والجن.
وأما الآخرون فيقولون: إن الله تعالى يقضي حاجة من يدعوهم كرامة لهم.
وهذا حكم على الله تعالى وهو أعلى أحكام عالم الغيب ، ولا قياس فيه فهو يتوقف
على نص من الوحي وإلا كان من القول على الله بدون علم وهو من كبائر الإثم
المقرونة بالكفر وهي أصول المحرمات في كل دين شرعه الله كما بينه تعالى في
قوله في سورة الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .
على أن هذه المسألة - مسألة التماس دفع الضر أو جلب النفع من غير الله
استقلالاً أو بالوساطة والشفاعة - لم تكن لتترك فلا يبين حكمها في القرآن وهي
أصل الوثنية وأساسها في جميع الأمم ، ولذلك فتن بها أهل الكتاب فاتخذوا وسطاء
وشفعاء بينهم وبين الله تعالى غير وسطاء أجدادهم أو خلطائهم من الوثنيين فهم لا
يخالفون الوثنيين في أصل هذه العقيدة وحقيقتها، وإنما خالفوهم في مظهرها
وصورتها، إذ اعتقدوا الوساطة والشفاعة مثلهم وجعلوا لهم شفعاء ووسطاء من
أنفسهم غير وسطاء أولئك وشفعائهم. أفرأيت دين التوحيد الخالص يسكت عن هذه
المسألة ويدعها للفقهاء يحكمون فيها بقياسهم وهي تتعلق بأساس الدين وركنه الركين
وهو التوحيد؟ ! .
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) أي أنهم باتخاذ الشفعاء يعبدون غير الله
لأن هذا عين العبادة ، ولكنهم يقولون: إن هذه شفاعة عنده فهي لا تخل بتعظيمه
بل هي تعظيم لهم كما تعظم الملوك إذ لا يتجرأ الحقير على دعائهم إلا بواسطة
المقربين عنده. وقد نفى سبحانه هذه الشفاعة في آيات كثيرة قال تعالى في سورة
البقرة: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة} (البقرة: 48)، {وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: 123) ، {وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَة} (البقرة: 254) وقال في سورة المدثر:
{فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر: 48) وقال في سورة الأنعام: {وَأَنذِرْ بِهِ
الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأنعام: 51) ، {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ
بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} (الأنعام:
70) .. الآية ومعنى (تبسل) تسلم إلى الهلاك أي أن الذين تدفعهم أعمالهم إلى
الهلاك لا تنجيهم من عاقبتها شفاعة أحد ، والآيات في هذا كثيرة وارجع إلى
التفسير من هذا الجزء تجد الكلام في معناها مفصلاً.
وكانوا يطلقون على هؤلاء الشفعاء لقب الأولياء كما تلوت في آيتي الأنعام
آنفًا ومثلهما آية (الم) السجدة: {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (السجدة: 4) وقال تعالى في سورة الزمر: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ
لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لَاّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ} (الزمر: 3-4) فدلت الآية الثانية على أن من
جملة هؤلاء الأولياء المسيح عليه الصلاة والسلام والملائكة أي أن الناس
يتقربون بأشخاصهم وذواتهم إلى الله تعالى زلفى ، وهذا باطل إذ لا يتقرب أحد إلى
الله تعالى بأحد إنما يُتقرب إليه تعالى بالعمل الصالح وإخلاص القلب مع الإيمان
الصحيح. وأنت تعلم أن كل ما يعتقده المبتدعون في أصحاب القبور الصالحين هو
من هذا القبيل أي أن التوسل بأشخاصهم يقرب من الله تعالى ويكون وسيلة لقضائه
سبحانه وتعالى حاجة من يدعوهم ويتقرب بهم. ولذلك قال تعالى في سورة الإسراء:
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً *
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: 56-57) أي أن أولئك الأولياء
الذين يدعونهم لكشف الضر عنهم أو تحويله توسلاً بهم كالمسيح - هم أنفسهم
يطلبون الوسيلة إلى الله تعالى بعبادته ويرجون رحمته باتباع سنته والعمل بشريعته
ويخافون عذابه إذا قصروا، حتى إن أقربهم من مرضاته هو أخوفهم منه وأرجاهم
له. ذلك بأن عذاب الله في الدنيا والآخرة مخوف ومحذور في نفسه لأن لله فيه سننًا
لا تتبدل يوشك أن يخالفها المرء من حيث يدري أو من حيث لا يدري وأن القلوب
تتقلب وأنه لا يجب لأحد من خلقه عليه شيء ولذلك قال: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ
شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة:
17) فبمثل هذه الآية يهدينا سبحانه إلى أن ملائكته وأنبياءه وأولياءه ما كانوا
ليرجون رحمته إلا بفضله عليهم إذ جعلهم محلاً لطاعته وإرشاد عباده فلا نغلو في
تعظيمهم حتى ننسى كونهم عبيدًا له إن شاء أن يهلكهم فعل؛ لئلا نطلب منهم نفعًا
أو ضرًا. ومن ثم قرن الله خشيته بالعلم وجعله من أسبابها كما قال: {إِنَّمَا يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) وفي حديث الصحيحين عن عائشة قالت:
(صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فرخص فيه ، فتنزه عنه قوم فبلغه ذلك ،
فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون من الشيء أصنعه
فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) .
ثم إن ما يطلب من أصحاب القبور وغيرهم يعبر عنه بالدعاء كما قال في
الآية السابقة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ..} (الإسراء: 57) .. إلخ ، وقد احتج
القرآن على بطلان هذا الدعاء بقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن
قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوَهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ
يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 13-14) ومثلها آيات كثيرة.
وقوله في نهي المؤمنين أن يكونوا مثل هؤلاء الوثنيين في طلب شيء أعوزهم نيله
بسببه من غير الله تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:
18) .
هذا ولما كان أكثر الوثنيين قد فتنوا برجال من صالحيهم حتى اعتقدوا أنهم
بعد موتهم ينفعون ويضرون وكانت هذه الفتنة قد سرت إلى أهل الكتاب فاتخذوا
أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ، وصاروا يبنون عليهم الكنائس أو ينسبونها
إليهم ويتوسلون بهم إلى الله تعالى ، ويعتقدون أن الله يقضي حاجاتهم بجاههم أو أنه
أعطاهم قوة قضائها بأنفسهم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد على
القبور وعن عمارة القبور نفسها وعن وضع السرج عليها ، بل ونهى عن زيارتها
في أول الإسلام ولما تمكن التوحيد رخص في زيارتها بقصد الاعتبار بالموت
وتذكر الآخرة ففعل المسلمون في هذه الأزمنة كل ما نهى عنه ولعن فاعله ومن
ذكَّرهم ونهاهم عن هذه البدع أنكروا عليه بأنه هو المبتدع لأنه منكر لزيارة القبور
كأن زيارة القبور تحمي كل تلك البدع التي هي شعار الوثنيين مع أن الصحيح في
الأصول عند الجمهور أن الأمر بالشيء بعد النهي عنه إنما يدل على إباحته لا
وجوبه أو ندبه ، وهبْ أن الأمر بالزيارة بعد حظرها للندب أو الاستحباب أليس قد
عللت بعلة تذكر الآخرة فإذا فعلت لعلة أخرى كدعاء الميت وطلب الاستفادة منه أو
به تكون قد خرجت عن دائرة الإذن ودخلت في باب المحظور الذي لم يأذن به الله؟.
ومن عجائب تلاعب الأهواء بالمبتدعين أن كل ما ورد من التشديد في بناء
القبور وتشريفها والبناء عليها ووضع السرج عندها واتخاذها مواسم وأعيادًا لم
يقصد به إلا سد باب الاعتقاد بأن صالحي الموتى ينفعون الأحياء ويضرونهم كما أن
النهي عن التصوير وعن اتخاذ الصور بصفة تشعر بالتعظيم لم يقصد به إلا المنع
من تصوير من يعظمون تعظيمًا دينيًا كما هو شأن الوثنيين ومن تبعهم من أهل
الكتاب. الأمران من باب واحد ولكن علماء المسلمين سكتوا للعوام على ضلالهم في
القبور حتى لا تكاد ترى في مثل هذه البلاد مسجدًا ليس فيه قبر مبني مشرف يقصد
للتوسل به وطلب دفع الضر وجلب الخير منه ولكنهم يشددون في التصوير واتخاذ
الصور وإن لم تكن فيها شائبة الدين ولا الشبهة على الاعتقاد أو التعظيم وإننا نختم
هذا الجواب بشيء مما ورد في القبور.
قال صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر
ما فعلوا) رواه أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي هريرة زاد مسلم:
والنصارى ، قالت عائشة: ولولا هذا لأبرز قبره. فالسبب في حجب قبره صلى
الله عليه وسلم عن أعين الناس منعهم من تعظيمه أو التماس المنفعة منه مع أنه هو
الذي خاطبه الله تعالى بقوله: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَراًّ إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ
وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) ومثلها آيات. وفي صحيح مسلم أنه قال قبل أن
يموت بخمس: (إن من قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) .
وفي الصحيحين أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وذكر من حسنها وتصاوير فيها
فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك
الصور أولئك هم شرار الخلق عند الله يوم القيامة) وفي مسند أحمد وصحيح أبي
حاتم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة
وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد) وفي سنن أبي داود وغيره عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا) وفي موطأ مالك عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا
قبور أنبيائهم مساجد) وما عبادة القبر إلا تعظيمه وطلب الحوائج ممن دفن فيه ،
ومن التعظيم الذي هو عبادة الطواف به كما يطاف بالكعبة والتمسح بها التماسًا
للبركة وللشفاء وتقبيله. فإن من نهى صلى الله عليه وسلم عن مثل فعلهم كانوا
يفعلون ذلك. وفي مسند أحمد وسنن أبي دواد والترمذي والنسائي عن ابن عباس
أنه قال: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) وفى إسناده
أبو صالح باذام تكلم فيه ويعضده ما تقدم.
وأما آثار الصحابة في ذلك فكثيرة. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير
سورة الإخلاص وغيره أنه ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في
سفر فرأى قومًا ينتابون مكانًا للصلاة فسأل عن ذلك فقالوا: هذا مكان صلى فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا إنهم اتخذوا آثار
أنبيائهم مساجد، من أدركته الصلاة فليصلِّ وإلا فليمضِ، وبلغه أن قومًا يذهبون
إلى الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها فأمر بقطعها.
وأرسل إليه أبو موسى يذكر له أنه ظهر بتُسْتَر قبر دانيال وعنده مصحف (أي
كتاب) فيه أخبار ما سيكون وأنهم إذا أجدبوا كشفوا عن القبر فمطروا ، فأرسل إليه
عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا يدفنه بالليل في واحد منها لئلا يعرفه
الناس لئلا يُفتنوا به.
(قال شيخ الإسلام) : فاتخاذ القبور مساجد مما حرمه الله ورسوله وإن لم
يبن عليها مسجدًا ولكن بناء المساجد عليها أعظم. وكذلك قال العلماء: يحرم بناء
المساجد على القبور ، ويجب هدم كل مسجد بني على قبر ، وإن كان الميت قد قبر
في مسجد وقد طال مكثه سُوي القبر حتى لا تظهر صورته فإن الشرك إنما يظهر
إذا ظهرت صورته ، واستدل على هذا الأخير بأن المسجد النبوي كان مقبرة فنبشت
وسويت ، وما ذكره في هدم المسجد المبني على قبر، نقل نحوه ابن حجر في
الزواجر ، وقد نقلنا عبارته في المنار من قبل.
وجملة القول: إن الله تعالى لم يأذن بأن يُدعى غيره لدفع ضر أو جلب نفع
لا على أنه مستقل بذلك ولا على أنه واسطة بينه وبين عباده في الخلق والتقدير ،
وإنما حصر الواسطة بينه وبين عباده بتبليغ دينه وشرعه إليهم على لسان رسوله
وقد حصر خصوصيتهم بهذا التبليغ في آيات كثيرة وبين أنهم لا يمتازون عن سائر
الناس بشيء وراء الوحي وما يستلزمه من الصفات كالصدق والأمانة وأنهم لا
يقدرون على نفع أحد ولا ضره بالفعل حتى بالهداية والرشد ، ومن حكمته أن كان
بعض آبائهم وأبنائهم وأقاربهم كفارًا ليعلم الناس أنه لو كان لهم من الأمر شيء
لهدوا جميع أقاربهم وأنقذوهم من عذاب الدنيا والآخرة. أفبعد هذا كله يكون لمدعي
الإسلام وجه ما لدعوى أن الأموات الصالحين يملكون كشف الضر أو تحويله عن
الناس وجلب المنافع لهم وذلك من الوثنية الصريحة {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ *
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ} (النور: 16-18)[1] .
***
أقوال العلماء بغير دليل
(ج 7) لا حجة في قول أحد بالدين دون قول الشارع ، ويجب رد كل قول
لم يؤيد بدليل بالحديث المتفق عليه: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
أي مردود ، وبذلك صرح الأئمة المشهورون ، قال أبو الليث السمرقندي: حدثنا
إبراهيم بن يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: (لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم
من أين قلنا) وروي عن أصحابه مثل ذلك ، وفى رواية:(ما لم يعرف دليلنا)
وممن نقل عنهم ذلك الشعراني وولي الله الدهلوي. وفي روضة العلماء من كتبهم:
(قيل لأبي حنيفة: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لكتاب
الله. فقيل: إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه قال:
اتركوا قولي لقول الصحابة) .
وروى الحافظ ابن عبد البر بسنده إلى معن بن عيسى قال: سمعت مالك بن
أنس يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب
والسنة فخذوه ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه، ورواه غيره أيضًا. ومن
المشهور عن مالك أنه كان يقول عند التحديث في الحرم النبوي الشريف: كل أحد
يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى الروضة الشريفة
وقال الإمام الشافعي في كتابه الأم في أثناء كلام: (وهذا يدل على أنه ليس لأحد
دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال) وله أقوال في هذا
المعنى كثيرة يكفينا منها هذا النص الصريح فيما نحن فيه ، وأتباعه من أكثر الناس
أقوالاً في ذلك ، وكذلك الحنابلة ولذلك كثر المجتهدون ممن تفقه في هذين المذهبين؛
أما الإمام أحمد فهو أشد الناس براءة من القول بغير دليل ، وقد سأله أبو داود عن
الأوزاعي ومالك أيهما أتبع؟ فقال: (لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن
النبي وأصحابه فخذه، وقال: لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي
ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا) أي من الدليل. وما قاله هؤلاء الأئمة المهتدون
هو ما أجمع عليه السلف ، ولكن الغلو في تعظيم الإنسان لشيوخه وشيوخهم وثقته
بهم من أسباب ترك الدليل إلى أقوالهم بل من أسباب اتباعهم في أقوالهم وأفعالهم ،
وكم من رجل جهول قلده الجاهلون لأنهم اعتقدوا صلاحه فقالوا ما كان لمثله في
تقواه وورعه أن يقول أو يعمل إلا ما يعلم أنه حق، وهذا قول مردود بلا نزاع
فالصالح غير معصوم فقد يخطئ جهلاً وقد يخطئ سهوًا وعمدًا.
***
حكم من رد كلام العلماء الذي لا دليل عليه
(ج 8) حكم من رد كلام العلماء لأنه لا دليل عليه أنه اتبع الحق واهتدى
بالقرآن وسار على طريقة السلف الصالحين والأئمة المرضيين - كما علمت.
***
الاعتقاد بولاية شخص معين
(ج 9) إن ما يعتقده عوام المسلمين في الولاية والأولياء في هذه الأزمنة لم
يكن معروفًا في صدر الإسلام بالمرة ، فلم يكن الصحابة يدعون بعض عبادهم
بالأولياء. والولي في اللغة: الناصر والصديق ومتولي الأمر ، وجاء في القرآن أن
لله أولياء وللشيطان أولياء ، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكفار والمنافقين
بعضهم أولياء بعض. فولي الله من ينصر دينه ويقيم سننه وشريعته وولاية
المؤمنين بعضهم لبعض عبارة عن تناصرهم في إعلاء كلمته وإقامة دينه وشريعته.
والله ولي الذين آمنوا بمعنى أنه هو الذي يتولى أمورهم ، وليس لهم من دونه ولي
ولا نصير؛ فمن اتخذ وليًا يعتقد أنه يتولى بعض أموره في غير ما يتعاون به
الناس بعضهم مع بعض فقد اتخذه شريكًا كما علمت من آية الزمر التي مرت في
جواب السؤال السادس ومثلها آيات كثيرة.
ليس لمؤمن أن يعتقد جزمًا أن أحدًا من الناس بعينه قد مات وهو ولي لله
تعالى مرضي عنه له في دار رضوانه ما وعد به أولياءه، لأن ذلك تعدٍّ على علم
الغيب ، وقول على الله بغير علم ، وقد أجمع العلماء على أن الخاتمة مجهولة وأنه
لا يقطع لأحد بالموت على الإيمان وبكرامة الله له بالجنة إلا بخبر عن الشارع ،
وإنما نحسن الظن بجميع المؤمنين ، ومن عرفنا استقامته على الشرع كان ظننا فيه
أحسن ورجاؤنا له بفضل الله أكبر. أخرج البخاري في صحيحه عن أم العلاء -
امرأة من الأنصار - أنهم اقتسموا المهاجرين أول ما قدموا عليهم بالقرعة ، قالت:
فطار لنا - أي وقع في سهمنا - عثمان بن مظعون من أفضل المهاجرين وأكابرهم
ومتعبديهم وممن شهد بدرًا فاشتكى فمرضناه حتى إذا توفي وجعلناه في ثيابه دخل
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي
عليك لقد أكرمك الله تعالى. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك
أن الله أكرمه؟) فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (أما عثمان فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير. ما
أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي) ، قالت: فوالله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا. فهذا
الحديث الصحيح يكفي في قطع ألسنة المفتاتين على الله الذين يجزمون بأن فلانًا
وفلانًا ممن يعرف وممن لا يعرف من أولياء الله المكرمين عنده قطعًا، وأن لهم
فوق ذلك السلطان في عالم الغيب وعالم الشهادة ، وما أجهلهم بالله وكتابه وبهدي
رسوله وسيرة سلف الأمة الذين نقل عنهم في الخوف وعدم الجزم بأمر الآخرة - ما
فيه عبرة للجاهلين لو كانوا يوعظون به حتى أن المبشرين بالجنة من الصحابة ما
كانوا يأمنون مكر الله وكانوا يقولون: ما يدرينا أن النبي صلى الله عليه وسلم
بشرنا بشرط الاستقامة على ما كنا عليه معه وأننا فُتنّا من حيث لا ندري.
***
خلق آدم وعيسى
لم يكتفِ الشيخ قاسم محمد أبو غدير بما ذكرنا في هذه المسألة التي سأل عنها ،
فكتب إلينا في 14 المحرم يطلب نشر أسئلته التي كان أرسلها إلينا بنصها
والجواب عنها بالتفصيل في أول جزء يصدر بعد كتابته هذه (لأهمية الموضوع) ،
وإننا لا نرى الموضوع بالعين التي رآها به ، وإنما يصح أن يعتنى به هذا
الاعتناء إذا ثبت مذهب دارون بطريق القطع الذي لا يحتمل الشك والارتياب فعند
ذلك يجب علينا نحن المسلمين أن نبذل جهدنا في تأويل الآيات الواردة في خلق آدم
بمثل ما تقدم الإشارة إليه أو بغيره فإن لم نقدر انتصر دارون على القرآن ويثبت
بطلانه (حاش لله) أما الآن فإننا نعتقد في المسألة ما يدل عليه ظاهر الآيات من
غير تأويل. وأما ما ذكره الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي من التأويل فهو في
باب دفع الشبهات والرد على المعترضين ، ولا يكلف السائل ولا غيره أن يتخذه
عقيدة له.
لهذا نرى أن لا حاجة إلى التطويل الذي يطلبه إذ لا فائدة له ، فالمسلم لا
يترك الظاهر ويلجأ إلى التأويل إلا إذا عرضت له الشبهة أو أوردت عليه ، وما
كان لنا أن نجتهد في إبطال تأويل يراد به تثبيت عقيدة مشتبهة أو رد شبهة
معترض فليتدبر.
هذا وإن أسئلته قد جعلت في اللقا من الورق بعد ذلك الجواب المجمل ، وقد
أردنا مراجعتها عند كتابة هذه الكلمات فلم نظفر بها.
_________
(1)
لا نلتزم بيان عدد الآيات التي تذكر بطريق الاقتباس لا لبيان معناها في الأصل ولا للاحتجاج بها كهذه الايات.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تتمة أجوبة الأسئلة الجاوية في السماع
(تنبيه) رأى بعض فضلاء المصريين أننا أطلنا في هذه المسألة أكثر مما
تستحق وذلك أنه يندر أن يوجد في مصر من يتحامى السماع ولكن الجمود في كثير
من البلاد على تقليد المعسِّرين لا يلين إلا بأكثر من هذا ، والمنار ليس خاصًّا
بالمصريين.
البحث في السماع من جهة القياس الفكري
يرى القارئ المنصف أن ما قاله الشوكاني (ونشرناه في الجزء الماضي هو
صفوة التحقيق إلا أن في إدخاله السماع على الإطلاق باب الشبهات نظرًا؛ فإن ما
ثبت في الصحيح من سماع النبي صلى الله عليه وسلم وأكابر أصحابه يدفعه ، فإنهم
أبعد الناس عن الشبهات ، وقد سمعوا مع تسميتهم ذلك بمزمار الشيطان وباللهو.
والذي يظهر من أحاديث الإباحة التي تقدمت أن قول من قال باستحباب السماع أو
ندبه ينبغي أن يحمل على ما يكون في الأوقات والحالات التي يستحب فيها تحري
السرور كالعرس والعيد وقدوم الغائب. فإن السماع فيما عدا هذه الأوقات والحالات
مباح لذاته بشرط عدم الإسراف فيه ، فإن الإسراف ضار بالأخلاق مسقط للمروءة ،
وهذا هو مراد الإمام الشافعي رضي الله عنه بقوله في الأم: إن الغناء لهو مكروه
يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته ، وقوله: إن صاحب الجارية
إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته، وقد يقال: إنه يقرب أن يكون ديوثًا
لأنه إذ لم يغَرْ على جاريته أن تطرب الناس بصوتها فربما كان لا يغار عليها مطلقًا.
وقولنا: مباح لذاته، يتفق مع قول الغزالي ومن وافقه بمنع ما كان فيه تشبه
بأهل الفسق في شعارهم الخاص بهم قال في الإحياء: (ولهذه العلة نقول: لو
اجتمع جماعة وزينوا مجلسًا ، وأحضروا آلات الشرب وأقداحه وصبوا فيها
السكنجبين ، ونصبوا ساقيًا يدور عليهم ويسقيهم فيأخذون من الساقي ويشربون
ويحيي بعضهم بعضًا بكلماتهم المعتادة بينهم؛ حرم ذلك عليهم وإن كان المشروب
مباحًا في نفسه لأن في هذا تشبهًا بأهل الفساد ، بل لهذا ينهى عن لبس القباء وعن
ترك الشعر قزعًا على الرأس في بلاد صار القباء فيها من لباس أهل الفساد ولا
ينهى عن ذلك فيما وراء أهل النهر لاعتياد أهل الصلاح ذلك فيهم. فلهذه المعاني
حرم المزمار العراقي والأوتار كلها كالعود والصنج والرباب والبربط وغيرها وما
عدا ذلك فليس في معناها كشاهين الرعاة والحجيج وشاهين الطبالين وكالطبل
والقضيب وكل آلة يستخرج منها صوت مستطاب موزون سوى ما يعتاده أهل
الشرب؛ لأن كل ذلك لا يتعلق بالخمر ولا يذكر بها ولا يشوق إليها ولا يوجب
التشبه بأربابها فلم يكن في معناها فبقي على أصل الإباحة قياسًا على أصوات
الطيور وغيرها. بل أقول: سماع الأوتار ممن يضربها على غير وزن متناسب
مستلذ حرام أيضًا. وبهذا تبين أنه ليست العلة في تحريمها مجرد اللذة الطيبة ، بل
القياس تحليل الطيبات كلها إلا ما في تحليله فساد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) فهذه
الأصوات لا تحرم من حيث هي أصوات موزونة وإنما تحرم بعارض آخر. اهـ
كلام الغزالي وتكلم في مكان آخر عن العوارض.
فهذا القول هو أحسن ما قيل في القياس كما أن القول السابق هو أحسن ما قيل
في السنة وأجمعه. وأنت تعلم أن التشبه بأهل السكر والخلاعة إنما حرم لما فيه من
مهانة المؤمن وضعته ، فإذا سمع المؤمن الأوتار في مجلس لا يعد فيه متشبهًا بأهل
السكر والفسق كأن يسمعه في بيته أو بيت آخر بصفة لا تشبه فيها فلا مجال للقول
بالتحريم ، فالأمر في الأوتار كالأمر في لبس القباء (هو القفطان في عرف
المصريين والغنباز في عرف الشاميين) فقد حرمه الغزالي في بلاد وأباحه في
أخرى لعلة التشبه وعدمها ، وما قاله في إباحة سائر الآلات يدخل فيه آلات
الموسيقى العسكرية وأمثالها فتبين بهذا أنه لا وجه في القياس الصحيح لتحريم سماع
المعازف على الإطلاق كما أنه لا وجه لها في كتاب ولا سنة بل الوجه ما تقدم.
ومن العوارض التي لا بد من التنبيه إليها كون السماع يهيج السامع فيدفعه إلى
المعاصي؛ فمن علم من نفسه ذلك حرم عليه، هذا ما يليق بدين الفطرة الذي جمع
لمتبعيه بين سعادة الدنيا والآخرة والله أعلم وأحكم.
الكلام على عبارات الأسئلة
أما قول السائل في السؤال الأول: إن الغزالي حرم ما هو شعار أهل الشرب
إلخ فيقال فيه: إن ما صرح به الغزالي هو أن الأصل في سماع الغناء
والمعازف الحل كما تقدم ، وتحريم سماع الأوتار لعلة التشبه بالفساق يزول بزوال
هذه العلة كما قال في لبس القباء. وما ذكره فيه عن ابن حجر من العلة الأخرى
وهي كون اللذة بالسماع تدعو إلى الفساد فهو محل نظر ، إذ السماع - كما قال
بعض العلماء - إنما يحرك الساكن ويستخرج الكامن فمن لم يكن من أهل الفساد لا
يدعوه إلى الفساد ، وأشد السماع تأثيرًا في النفس سماع ألحان النساء وقد سمعها
الشارع وكبار أصحابه ، وقد أطال الغزالي في بيان اختلاف الحكم باختلاف أحوال
الأشخاص وأن ذلك لا يمنع أن الأصل فيه وفي جميع اللذات الإباحة. والحديث
الذي أورده فيه عن كتاب النصائح وهو (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل
بها البلاء..) وذكر منها اتخاذ القينات والمعازف وفسرها بالملاهي من الأوتار
والمزامير لم نذكره في أحاديث الحظر لشدة ضعفه ولأجل الكلام عليه هنا. فنقول:
قد رواه الترمذي عن صالح بن عبد الله عن الفرج بن فضالة الشامي عن يحيى بن
سعيد عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب مرفوعًا: (إذا فعلت أمتي خمس
عشرة خصلة حل بها البلاء) قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: (إذا كان المغنم
دولاً ، والأمانة مغنمًا ، والزكاة مغرمًا ، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه ، وبر
صديقه وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد ، وكان زعيم القوم أرذلهم ،
وأُكرِمَ الرجل مخافة شره ، وشُربت الخمور ، ولُبس الحرير ، واتُّخِذَتْ القيان
والمعازف ، ولعن آخر هذه الامة أولها؛ فارتقبوا حين ذلك ريحًا حمراء وخسفًا أو
مسخًا) والفرج بن فضالة قد تكلم فيه، سئل الدارقطني عنه فقال: ضعيف فقيل له:
نكتب عنه حديثه عن يحيى بن سعيد (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة..) ..
إلخ؟ فقال: هذا باطل، فقيل من جهة الفرج قال: نعم. وقال أبو داود: سمعت
أحمد يقول: إذا حدث عن الشاميين فليس به بأس ولكنه عن يحيى بن سعيد عنده
مناكير، وقال أبو حاتم: لا يحل الاحتجاج به ، وقال مسلم: إنه منكر الحديث، ثم
إن الحديث لا يدل على تحريم سماع الأوتار؛ لأن الخصال التي ذكرت فيه منها ما
هو فضيلة كبرِّ الصديق ولكن مجموعها سبب للهلاك ، وإن لم يصح الحديث لأنها
من السرف في الترف وفساد الأخلاق وإضاعة المصالح العامة والخاصة.
ابن حزم وابن طاهر الحافظان
وأما ما ذكر في السؤال الثاني عن ابن حجر الهيتمي من الطعن في ابن حزم
وفي ابن طاهر فهو مما اعتاد ابن حجر مثله ، وهو معدود عليه من غلوه في
التعصب لأقوال علماء مذهبه ، وابن حجر ليس من طبقة ابن حزم الحافظ الإمام
المجتهد ولا من طبقة ابن طاهر ، وإنما يعرف قدر ابن حزم الحافظ ابن حجر
العسقلاني إمام المحدثين في زمنه وبعد زمنه. وقد ذكر له ترجمة طويلة في طبقات
الحفاظ قال فيها: وكان إليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم ،
وكان شافعيًّا ثم انتقل إلى القول بالظاهر ، ونفى القول بالقياس وتمسك بالعموم
والبراءة الأصلية ، وكان صاحب فنون فيه دين وتورع وتزهد وتحرٍّ للصدق ، ثم
قال: وقال صاعد بن أحمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام
وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر ومعرفته
بالسنن والآثار. أخبرني ولده الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه أبي محمد من
تواليفه أربع مائة مجلد تحتوي على نحو من ثمانين ألف ورقة. قال الحميدي: كان
أبو محمد حافظًا للحديث وفقهه مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة متقنًا في علوم
جمة عاملاً بعلمه ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس
والتدين، وكان له في الأدب والشعر نفس واسع وباع طويل ما رأيت من يقول
الشعر على البديهة أسرع منه.. إلخ، ثم نقل الحافظ ابن حجر عن شيخ الإسلام
العز بن عبد السلام إمام الشافعية في عصره أنه قال: ما رأيت في كتب الإسلام في
العلم مثل المُحَلَّى لابن حزم والمُغني للشيخ الموفق، ثم قال الحافظ في أواخر
ترجمته: قلت: ابن حزم رجل من العلماء الكبار فيه أدوات الاجتهاد كاملة.. إلخ.
وأما ابن طاهر فقد ذكره في طبقات الحفاظ أيضًا وبيَّن أصل هذه الكلمة
(إباحي) التي قالها فيه ابن حجر الهيتمي الفقيه مع ألفاظ أخرى تعد من السباب لم
يقل بمثلها أحد. قال الحافظ في ترجمته: وقد ذكره الدقاق في رسالة فحط عليه
وقال: كان صوفيًا ملامتيًا سكن الري ثم همذان ، له كتاب صفوة التصوف وله
أدنى معرفة بالحديث، قلت: هو أحفظ منك بكثير يا هذا! . ثم قال: ذكر عنه
الإباحة قلت: بل الرجل مسلم معظم للآثار وإنما كان يرى إباحة السماع لا الإباحة
المطلقة التي هي ضرب من الزندقة. اهـ. فهل يُسَلِّم مسلم بعد قول الحافظ ابن
حجر العسقلاني صاحب القول الفصل والحكم العدل في الرجال ما قاله ابن حجر
الفقيه الهيتمي من أنه مجازف إباحي كذاب رجس العقيدة نجسها؟ اللهم ألهم
هؤلاء الأئمة الذين يسبهم ابن حجر الهيتمي المتعصب لتقليده العفو عنه يوم الدين.
وأما حكاية الحافظ ابن طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي إباحته العود
فإذا لم تصح عنه فقد صحت عمن هم أعظم منه. قال الزبيدي في شرح الإحياء
بعد نقل تحريمه عن المذاهب الأربعة: وذهبت طائفة إلى جوازه وحكي سماعه عن
عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومعاوية بن أبي سفيان
وعمرو بن العاص وحسان بن ثابت رضي الله عنهم وعن عبد الرحمن بن حسان
وخارجة بن زيد ونقله الأستاذ أبو منصور عن الزهري وسعيد بن المسيب وعطاء
بن أبي رباح والشعبي وعبد الله بن أبي عبيد وأكثر فقهاء المدينة. وحكاه الخليلي
عن عبد العزيز بن الماجشون وقدمنا ذلك عن إبراهيم وابنه سعد وحكاه الأستاذ
أبو منصور أيضًا عن مالك وكذلك حكاه الفوراني في كتابه الغمد. وحكى الروياني
عن القفال أنه حُكيَ عن مالك أنه يبيح الغناء على المعازف، وحكاه الماوردي
في الحاوي عن بعض الشافعية ومال إليه الأستاذ أبو منصور. ونقل الحافظ ابن
طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان مذهبه وأنه كان مشهورًا عنه وأنه لم
ينكره عليه أحد من علماء عصره. وابن طاهر عاصر الشيخ واجتمع به وهو ثقه
وحكاه عن أهل المدينة وادعى أنه لا خلاف فيه بينهم وإليه ذهب الظاهرية حكاه
ابن حزم وغيره. قال صاحب الإمتاع: ولم أَرَ من تعرض لكراهة ولا لغيرها إلا ما
أطلقه الشافعي في الأم حيث قال: وأكره اللعب بالنرد للخبر أكثر ما أكره اللعب
بشيء من الملاهي، فإطلاقه يشمل الملاهي كلها ويندرج فيه العود وغيره ، وقد
تمسك بهذا النص من أتباعه من جعل النرد مكروهًا غير محرم، وما حكاه المازري
في شرح التلقين عن ابن عبد الحكم أنه قال: إنه مكروه، ونقل عن العز بن عبد
السلام أنه سئل عنه فقال: إنه مباح ، وهذا هو الذي يقتضيه سياق المصنف هنا
(يعني الغزالي في الإحياء) اهـ. كلام الزبيدي ومنه ومما سبق عن نيل
الأوطار يعلم أن النقل عن الصحابة والتابعين وغيرهم من العلماء لم ينفرد به ابن
حزم وابن طاهر ، ولو انفردا لاحتج بنقلهما الأثبات وهما من الأثبات ما لا يحتج
بنفي ابن حجر الهيتمي وهو ليس من الحفاظ ، ولم يطعن في أسانيدهما لينظر في
طعنه. وسقط بهذه النقول ما جاء في الأسئلة من ذكر الاتفاق على تحريم العود
ونحوه وتفسيق من يسمعه.
وأما سؤاله عن جواز نسبة ذلك إلى العلويين الأتقياء؛ فجوابه أن النقل لا
يكون بالرأي فإن نقل ذلك ثقة صدقناه وحملنا سماعهم على اعتقادهم الحل كما نقل
ذلك عمن هم خير منهم وإن كان غير ثقة لم نصدقه.
وأما سؤاله عن بعض علماء الرسوم: هل يقتدى بهم إذا سمعوا العود؟ فنقول:
إنهم لا يقتدى بفعلهم في شيء مطلقًا ، وإنما يؤخذ بنقلهم وروايتهم في بيان حكم
الله إن كانوا ثقات صادقين. كذلك يقال في الصوفية الذين ذكرهم في السؤال
الخامس: من عرفت استقامته وتقواه منهم فلا يجوز الطعن في دينه لسماعه العود
من غير أن يتشبه بأهل الفسق فيما هو من شئون فسقهم بحيث يظن أنه منهم فمن
فعل هذا فقد جنى على نفسه وأهانها فلا يلومنَّ من أساء الظن به.
خلاصة القول في السماع
(1)
لم يرد نص في الكتاب ولا في السنة في تحريم سماع الغناء أو آلات
اللهو يحتج به.
(2)
ورد في الصحيح أن الشارع وكبار أصحابه سمعوا أصوات الجواري
والدفوف بلا نكير.
(3)
أن الأصل في الأشياء الإباحة.
(4)
ورد نص القرآن بإحلال الطيبات والزينة وتحريم الخبائث.
(5)
لم يرد نص عن الأئمة الأربعة في تحريم سماع الآلات.
(6)
كل ضار في الدين أو العقل أو النفس أو المال أو العرض فهو من
المحرم ولا محرم غير ضار.
(7)
من يعلم أو يظن أن السماع يغريه بمحرم حرم عليه.
(8)
أن الله يحب أن تُؤتَى رخَصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
(9)
أن تتبع الرخص والإسراف فيها مذموم شرعًا وعقلاً.
(10)
إذا وصل الإسراف في اللهو المباح إلى حد التشبه بالفساق كان
مكروهًا أو محرمًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: أديب متنكر
نقد شرح ديوان أبي تمام
تابع لما في الجزء الأول
(ص104)
أظن دموعها سنن الفريد
…
وهي سلكاه من نحر وجِيد
(سنن الفريد: وجه العقد) يقال: امضِ على سننك أي على وجهك ، وتنحَّ
عن سنن الجبل أي وجهه ، ولا يقصد الشاعر إلى هذا هنا ، وإنما قصد إلى
تشبيه قطرات الدموع بحبات العقد الفريد التي عبر عنها بالسنن وهي جمع سنة
كحبر جمع حبرة. والسنة: الحبة من رأس الثوم وهي بيضاء مدملكة ملساء
فيحسن تشبيه حبات العقد بها وإطلاق اسمها عليها. ولا يضر التشبيه خبث رائحة
السنن لأنه لا يلاحظ فيه جميع عوارض المشبه به ، وهذا طلع النخل تشبه به
الثنايا ورائحته رائحته.
(ص104)
رآنا مشعري أرق وحزن
…
وبغيته لدى الركب الهجود.
(الهجود: من هجد إذا أناخ) : هجد: نام، والركب الهجود النائم ، وهو
ما أراده الشاعر فهو يقول: إن الطيف تحامى زيارته لكونه حليف أرق وحزن
والطيف إنما يأوي إلى الركب النائم. وقد ينيخ الركب ولا ينام.
(ص109)
أخو الحرب العوان اذا أدارت
…
رحاها بالجنود على الجنود
(العوان: التي قوتل فيها مرة) صوابه: مرتين أي مرة بعد أخرى ، وفسر
الشارح العوان أيضًا في ص143 كما فسرها به هنا.
(ص 105)
بنصر ابن منصور بن بسام انفرى
…
لنا شظف الأيام في عيشة رغد
(انفرى: انصلح) انفرى هنا بمعنى انكشف وتقلص واضمحل وزال.
راجع ما قلناه عن هذه الكلمة في قول الشاعر:
به انكشف عنا الغيابة.. إلخ.
(ص138)
فعلوت هامته فطار فراشها
…
بشهاب موت في اليدين مجرد
(الفراش: موقع اللسان في قعر الفم) أراد الشارح أن الفِراش مفرد على
وزان كتاب وأن معناه ما ذكره ، وليس كذلك فإن شاعرنا أراد بقوله ما يريده أهل
اللغة في قولهم: أطار فَراش رأسه ، وفَراش الرأس بفتح الفاء جمع فراشة بفتحها
أيضًا عظام رقيقة تبلغ القحف ويقال لها: فراش الدماغ ، والفراش أيضًا كل رقيق
من عظم أو حديد.
(ص 139)
نفسوك فالتمسوا مداك فحاولوا
…
جبلاً يزل صفيحه بالمصعد
(بالمصعد: أي وقت الطلوع) لا معنى لكون وجه الجبل وسطحه يزلق
بوقت الطلوع ، وإنما المعنى أن من أراد بلوغ المنزلة التي بلغها الممدوح كان كمن
يحاول الرُّقِيّ في جبل يزلق سطحه بالمصعد فيه فهو لا يزال في عناء وخيبة
فالمصعد اسم فاعل من أصعد إذا استقبل أرضًا أرفع من الأخرى ، ونظير قول
شاعرنا قول الآخر: (كما زالت الصفواء بالمتنزه) أي كما يزل النازل على
الصخرة الملساء.
(ص145)
حتى التوى من نقع قسطلها على
…
حيطان قسطنطينة إعصار
(النقع: رفع الصوت) القسطل ليس له صوت مرتفع ، وإنما المراد بالنقع
هنا الغبار وتكون إضافة النقع إلى القسطل الذي معناه الغبار أيضًا من قبيل الإضافة
البيانية.
(ص 148)
وإذا القسي العوج طارت نبلها
…
سوم الجراد يشيح حين يطار
(السوم: العلامة) السوم هنا مصدر سامت الطير على الشيء سومًا: حامت ،
وهو مفعول مطلق لطارت من غير لفظه يقول: إذا انتثرت النبال وأشبه انتثارها
حومان رجل الجراد الذي هيج فجد في الطيران. وجواب الشطر البيت بعده.
…
(ص 151)
لولا أحاديث أبقتها أوائلنا
…
من السدى والندى لم يعرف السمر
(السدى: ندى الليل) كما يطلق كل من السدى والندى على ما يسقط في
الليل يطلق أيضًا على المعروف والجود ، ومنه: أسدى إليه أحسن إليه ، والمراد
منهما هنا المعنيان الآخران قطعًا ولا يمكن أن يراد بالسدى ندى الليل.
(ص158)
مصفرة محمرة فكأنها
…
عصب تيمن في الوغى وتمضر
(العصب: صبغ ينبت في اليمن) العصب: ضرب من برود اليمن ذو
وشي ونقوش ، وقد أراد الشاعر أن الربيع أفرغ على الأرض من أزاهيره حللاً
ملونة تحاكي تلك البرود اليمنية المسماة بالعصب لا أنها تحاكي الصبغ نفسه.
(ص 158)
بالثامن المتخلف اتسق الهدى
…
حتى تخير رشده المتحير
(اتسق: سار على طريقة نظام عام) اتسق واستوسق الأمر أو الهدى مثلاً
اجتمع وانتظم واستوى ، واتساق القمر اكتماله واستواؤه. وقولهم: وسق البعير أي
ساقه لا يقتضي جواز مجيء اتسق بمعنى سار مطاوعًا له.
(ص168)
للمجد مستشرف وللأدب المجفوّ
…
ترب وللندى حلس
(الحلس: الكبير من الناس) نعم هو من جملة معانيه لكن أريد به هنا معنى
آخر. أصل الحلس مسح يبسط في البيت وتجلل به الدابة أو يكون تحت رحلها ثم
استعير لمن يلازم الشيء ويعود نفسه عليه وفي الحديث: كن حلس بيتك أي
ملازمًا له وهم من أحلاس خيل أي من أصحابها الآلِفِين لركوبها وفلان ليس من
أحلاسها، فاستعملت استعمال حلف وترب في مثل قولهم زيد حلف فقر وعمرو
ترب أدب ، وقرنها بترب يؤيد كون المراد بها ما ذكرناه.
(ص 169)
قالت وعيُّ النساء كالخرس
…
وقد يصبن الفصوص في الخلس
(الفصوص: أحداق العيون) نعم، لكن ليس المراد بها هنا هذا المعنى.
أصل الفص حجر الخاتم وتجوزوا فيه فقالوا: أنا آتيك بالأمر من فصه أي أصله
وحقيقته ومخرجه الذي خرج منه ، وقالوا أيضًا: فلان حزاز الفصوص إذا كان
مصيبًا في رأيه وجوابه. وهذا المعنى هو الذي قصد إليه الشاعر. يقول: إن
النساء على عيهن قد يقعن على الصواب ويصبن الرأي عرضًا ثم استشهد على
قوله بما قالته المرأة له. فالفصوص في البيت بالنصب مفعول به.
(ص181)
وأقاح منور في بطاح
…
هذه في الصباح روض أريض
(البطاح: الصحاري) البطاح جمع بطحاء وهي مسيل واسع فيه دقاق
الحصى كالأبطح والبطحية ، والبطاح غير الصحاري فإن الصحراء الأرض
المستوية الواسعة وزاد بعضهم: لا نبات فيها.
(ص183)
لا تكن لي ولن تكون كقوم
…
عودهم حين يعجمون رضيض
(يعجمون: يعصرون) العجم أن تعض العود بسنك لتعرف صلابته ، ثم
قالوا: عجمت عود فلان أي بلوت أمره وخبرت حاله ، وفلان عوده صليب لا
تحيك فيه العواجم أي لا تؤثر فيه الأسنان ، وقالوا في ضده: فلان عوده رضيض
فالعجم في البيت متجوز فيه عن الامتحان والاختبار.
(ص214)
يئوب إلى شمائل منه ميث
…
قليلات الأماعز والبراق
(الأماعز: الغزلان ، والبراق: الحملان من الضأن) فاعل يئوب يرجع
إلى السلام الذي أرسله الشاعر إلى الممدوح يعني أن سلامه يرجع الى شمائل
ممدوحه التي وصفها بقوله: ميث أي لينة ، وأصل الميث وصف للأرض يقال:
أرض ميثاء وأراضٍ ميث. ولما وصف الشاعر شمائل ممدوحه بصفة الأرض
الحسنة ناسب أن ينفي عنها صفة الأرض الرديئة فقال: قليلات الأماعز والبراق.
الأول جمع أمعز وهي الأرض الصلبة الكثيرة الحصى ، والثاني جمع برقة وهي
الأرض الغليظة ذات الحجارة والطين والرمل ومعنى القلة هنا العدم كما لا يخفى
فهو يقول: إن شمائل الممدوح وطباعه لينة وليست بخشنة ولا جافية.
(ص214)
وتخط بزته فربت خلة
…
في درج ثوب اللابس المتنوق
(الخلة: الشق) الخلة هنا الحاجة والفقر والخصاصة أي يتنوق المرء في
لباسه ويبالغ في تزيينها ويكون تحتها حاجة وعدم ولا كذلك الممدوح.
(ص228)
ضنك إذا خرست أبطاله نطقت
…
فيه الصوارم والخطية الذبُل
(الذبل: الصلبة) مادة الذبول تفيد معنى الدقة والضمور كقولهم: ذبل
الفرس: ضمر وهزل بل ربما كان من معناها أيضًا اللين والفتور كقولهم: ذبل
النبات ذوى ولان ، وتذبل في مشيه تفتر فيه ، ثم أجروا المادة على الرماح تجوزًا
فقالوا: قَنًا ذابل: أي دقيق لاصق بالليط ، والليط جمع ليطة القشرة التي تكون
على القصب ، وربما كان اللين مرادًا أيضًا في ذلك الاستعمال المجازي لأن الرمح
إذا لم يكن لينًا لدنًا تقصف ولم يصلح للطعن فالدقة واللين هما المفهومان من تلك
المادة والمقصودان من ذبول الرماح. وإذا أريد وصف الرماح بالصلابة قيل كما
قال الحماسي:
ولنا قناة من ردينة صدقة
…
زوراء حاملها كذلك أزور
فقوله: صدقة أي صلبة مستوية لا خائرة هشة.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سماع لبعض كبار التابعين من باب الأدبيات
قال شارح الإحياء عند نقل الغَزالي السماع عن جماعة من الصحابة والتابعين:
وحسبك منهم سعيد بن المسيب وبه يضرب المثل فى الورع وهو أفضل التابعين
بعد أويس وأحد الفقهاء السبعة وقد سمع الغناء واستلذ سماعه! ثم ذكر عن ابن عبد
البر بسنده أن سعيدًا مر ببعض أزقة مكة فسمع الأخضر يغني فى دار العاص بن
وائل وهو يقول:
تضوع مسكًا بطن نعمان إذ مشت
…
به زينب فى نسوة خفرات
فضرب سعيد برجله الأرض فقال: هذا والله مما يلذ استماعه ثم قال سعيد:
وليست كأخرى أوسعت جيب درعها
…
وأبدت بنان الكف فى الجمرات
وعلت بنان المسك وصفًا مرجلاً
…
على مثل بدر لاح فى ظلمات
وفاضت تراءى يوم جمع فأفتنت
…
برؤيتها من راح من عرفات
وأثبت الحافظ ابن عبد البر أن هذه الأبيات لسعيد لا للنميرى. أقول:
وقابلْ ما عاب سعيد من توسيع جيوب النساء وإبداء بنانهن بحال نسائنا اليوم، ويوم
جمع: يوم عرفة ثم ذكر شارح الإحياء عن الحافظ ابن طاهر بسنده أن عبد العزيز
بن عبد المطلب قاضي المدينة كان يتغنى بهذه الابيات فى مسجد الأحزاب:
فما روضة بالحزن طيبة الثرى
…
يمج الندى جثجاثها وعرارها [1]
بأطيب من أردان عزة موهنا
…
وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها [2]
من الخفرات البيض لم تلقَ شقرة
…
بالحسب المكنون صاف نجارها
فإن برزت كانت لعينك قرة
…
وإن غبت عنها لم يغمك عارها
فقيل له: أصلحك الله أتغني بهذه الأبيات فى جلالك وشرفك؟ ! أما والله
لأحدثن بها ركبان نجد. قال الراوي: فوالله ما اكترث بي ، وعاد يتغنى بهذه الأبيات:
فما ظبية أدماء حفافة الحشا
…
تجوب بظلفيها بطون الخمائل [3]
بأحسن منها إذ تقول تدللاً
…
وأدمعها تذرين حشوا لمكاحل
تمتع بذا اليوم القصير فإنه
…
رهين بأيام الشهور الأطاول
قال: فندمت على قولي له وقلت أصلحك الله أتحدثني في هذا بشيء؟ فقال:
نعم حدثني أبي قال دخلت على سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم
وأشعب يغنيه بهذا الشعر:
مغيرية كالبدر سنة وجهها
…
مطهر الأثواب والعرض وافر
لها حسب ذاكٍ وعرض مهذب
…
وعن كل مكروه من الأمر زاجر
من الخفرات البيض لم تلقَ ريبة
…
ولم يستملها عن تقى الله شاعر
فقال له سالم زدني، فقال:
ألمت بنا والليل داج كأنه
…
جناح غراب عنه قد نفض القطرا
فقلت أعطار ثوى فى رحالنا
…
وما احتملت ليلى سوى ريحها عطرا
فقلت سالم أما والله لولا أن تداوله الرواة لأجزلت جائزتك فلك من هذا الأمر
مكان. اهـ.
_________
(1)
الجثجاث: نبت واللفظ ثقيل والعرار: بهار أصفر قيل هو النرجس البري.
(2)
موهنا: وقت وهن الليل وهو حين يدبر أو ما بعد نصفه أو بعد ساعة منه.
(3)
حفافة الحشا: لينته، والحفاف: اللحم اللين تحت اللهاة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقاريظ
(رسالتان في قراءة الفونغراف والسكورتاه)
اطلعنا على هاتين الرسالتين اللتين كتبهما وطبعهما في هذه الأيام الشيخ محمد
بخيت الأزهري المشهور بمصر وقال: إنه استنبطهما استنباطًا ، وقد رأينا فيهما
الغريب من العلم في الكلام والطبيعة وتقويم البلدان والحديث والفقه. ذكر في الكلام
من أمشاج المسائل ما لا محل لذكره ووصف الفونغراف وصف من لم يره ولم
يعرف شيئًا من علم مخترعيه. وقال في أول الرسالة الثانية ما نصه: (وقد ورد
علينا خطاب من بعض العلماء بالأناضول بالروملي الشرقي بولاية سلانيك يتضمن
السؤال عما يأتي ويطلب الإجابة عنه ، فأجبناه لطلبه ، وقلت وبالله التوفيق) اهـ.
ويا ليت الأستاذ أطلع أحد أولاده الذين يتعلمون في المدارس على استنباطه قبل
الطبع لعله ينبهه إلى أن استنباط سائل مقيم في الأناضول وهو عدة ولايات في آسيا
- في الروملي الشرقية من ولايات أوربا التي دخلت في إمارة بلغاريا - في ولاية
سلانيك من مقدونيا - استنباط يرده كل من يعلم أن إقامة الرجل في ولايات مختلفة
في قارتين مختلفتين ضرب من المحال ، ويتهم الشيخ المستنبط بأنه أراد استنباط
حيلة تدل على أنه مشهور في البلاد بالعلم مقصود بالاستفتاء فلم ينجح لعدم إلمامه
بالجغرافيا التي ما برح يذمها وينفر عنها حتى انتقمت منه لنفسها ، وعلمته أن
الاجتهاد لا يتم اليوم بدونها.
ومن غريب العلم بالحديث والفقه في الرسالة الثانية قول المستنبط: إن
الإمامة الكبرى يجوز أن يكون فيها الإمام كافرًا أي يجوز أن يكون خليفة المسلمين
الذى يقلد القضاء ويؤذن بصلاة الجمعة كافرًا ، واستدل على ذلك بحديث جابر بن
عبد الله عند ابن ماجه: (ألا لا يؤمنَّ امرأة رجلاً ولا يؤم أعرابي مهاجرًا ولا يؤم
فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه) تقول الرواية هكذا: (لا
تؤمّنَّ امرأة رجلاً ولا أعرابي مهاجرًا ولا يؤمن فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره بسلطان
يخاف سيفه أو سوطه) والحديث منكر أو موضوع فإن في إسناده عبد الله بن محمد
التميمي ، قال البخاري: منكر الحديث ، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به ،
وقال وكيع: يضع الحديث ، وقد تابعه عبد الملك بن حبيب في الواضحة وهو متهم
بسرقة الحديث وتخليط الأسانيد ، وقال الحافظ ابن عبد البر: إنه أفسد إسناد هذا
الحديث. وفيه أيضًا علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
وكما لا يصح الاحتجاج به والاستنباط منه لفساد سنده لا يصح من جهة معناه؛
فإنه وارد في إمامة الصلاة لا في الإمامة الكبرى وهي الخلافة كما زعم المستنبط
الجديد ، فإن المرأة والأعرابي المقيم في البادية وراء أنعامه ليسا مظنة لتقلد الإمامة
الكبرى فينهى عن تقليدهما ، والمراد بالفاجر العاصي الفاسق لا الكافر ، ولذلك تكلم
السلف في الصلاة وراء الظالمين كالحجاج وغيره ولا محل لبسط ذلك الآن.
وقد سرنا أن الشيخ سمى رأيه استنباطًا ، وقال في أول الرسالة الثانية:
(الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده لاستنباط الأحكام من صحيح الأدلة، ولم
يخص ذلك بزمان دون زمان بل جعل ذلك دائمًا مستمرًّا باستمرار الأهلة) فقد أثبت
أن الاجتهاد جائز في هذا الزمان خلافًا لما في كتب مذهبه من القول بإقفال بابه،
وانقراض أربابه. وظاهر أنه لا يعني الاجتهاد في المذهب والاستنباط منه ، فقد
استنبط هو ما علمت من الحديث ولكنه أخطأ إذ لم يبذل شيئًا من جهده في معرفة
سنده ولا في فهمه ، وقد علمت أنه منكر أو موضوع وأنه لا يدل على ما قال ،
فعسى أن يتروى في مثل ذلك عند محاولة استنباط آخر. وربما عدنا إلى انتقاد
الرسالتين.
***
(مجلة جمعية الملاجئ العباسية ومكارم الأخلاق الإسلامية)
كان لمجلة مكارم الأخلاق الإسلامية عند ابتداء ظهورها رواج عظيم وشهرة
أكبر منها حتى كان يطبع منها في السنة الأولى والثانية بضعة آلاف ، ثم لم يلبث
الناس أن انفضوا من حولها وأعرضوا عن قراءتها حتى خفت صوتها وكاد يخفى
ذكرها لولا أن بادرت جمعية المكارم في الإسكندرية إلى كفالتها ، ولكن عنايتها بها
كانت ضعيفة حتى اتحدت بجمعية الملاجئ العباسية. ففي فاتحة هذا العام صدرت
المجلة بالاسم الذي رأيت في العنوان مطبوعة طبعًا متقنًا على ورق جيد ، وقد
تنوعت مباحثها ومسائلها المفيدة بعد أن كان أكثر ما ينشر فيها منقولاً من الكتب
والجرائد ، وجعلت هدية للمشتركين في جمعية الملاجئ العباسية ، وأما قيمة
الاشتراك السنوي لغيرهم فثلاثون قرشًا في مصر و10 فرنكات في سائر الأقطار.
ويقبل من طلاب العلم نصف القيمة. وكل ما يأتي من ربح المجلة - إن وجد
بأريحية محبي الخير - فهو لمساعدة الأيتام والفقراء والعجزة في تلك الملاجئ ،
فعسى أن تصادف من الإقبال في حياتها الجديدة ما يبشر أعضاء الجمعية الفضلاء
بأن داعية الخير والبر في المسلمين تقوى وتنمو عامًا بعد عام بل يومًا بعد يوم.
ومكتبات المجلة والجمعية تكون مع صاحب السعادة خليل حمدي باشا حمادة رئيس
الجمعية في الإسكندرية.
***
(مجلة الشتاء)
صدر الجزء الرابع من هذه المجلة قبل صدور هذا الجزء من المنار ، وبه
تمت سنتها الأولى مؤلفة صفحاتها من 240 صفحة. وفي هذا الجزء من المقالات
والمباحث الأدبية والمقاطيع الشعرية والنكات الفكاهية ما يكون لقراء المجلة في
هجير الصيف الذي تحتجب فيه كبرد الشتاء في مصر بردًا وسلامًا يتنعمون به فلا
ينسون لذته حتى تسفر عليهم حين تحتجب الشمس في أول الشتاء الآتي ، أطال الله
خدمة منشئها لفنون الآداب ولقي ما هو أهله من تعضيد أولي الألباب.
***
(لفظ الملاحظة وانتقاد المنار تقرير الشيخ شاكر)
ذكرنا في انتقادنا عبارة تقرير مشيخة الإسكندرية أن لفظ (لاحظ) لا يتعدى
بعلى ، وصاحب التقرير يكثر من قول (لاحظ عليه) فهو خطأ، كذا قلنا ، ففهم
بعض الأدباء أن انتقادنا هذا خاص بقوله: (وقد يلاحظ المطلع على إحصائية العام
المقبل) لأن هذه العبارة هي التي ذكرت في المنار عند الانتقاد فقال هذا الأديب:
إن (على) في هذه العبارة متعلق بلفظ المطلع وهو صحيح.
وأقول: إن عبارة المنار المشار إليها كانت موجهة بالمناسبة إلى ما قلنا إنه
يكثر في كلامه ولكن سقط من الأصل شيء عند الطبع وأصل العبارة هكذا:
(ولاحظ مفاعلة من لحظ للمشاركة وهو النظر بمؤخر العين. وتستعمل الملاحظة
مجازًا بمعنى المراعاة ولا يظهر هنا المعنى الحقيقي ولا المجازي. ولاحظ لا
يتعدى بعلى
…
) إلخ فسقط ما بين لاحظ الأولى والثانية ، ومنه يعلم أن الانتقاد
على تعدية لاحظ بعلى ذكر في السياق ، ولم يكن هو المقصود بالذات فينبغي
تصحيح العبارة وموضعها: س 21، ص 918، م9.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(مملكة مراكش ومؤتمر الجزيرة)
كتبنا في العدد الخامس عشر من سنة المنار الأولى الذي صدر في 9 صفر
سنة 1316 أي منذ ثمان سنين كاملة إنذارًا لسلطان مراكش بأن طوفان أوربا لا بد
أن يفيض على بلاده فيغمرها إذا هو لم يبادر إلى إصلاح شأنها بالتربية والتعليم
اللذين تقتضيهما حالة العصر لا سيما تعليم الفنون العسكرية والمدنية والاقتصادية ،
ونصحنا له بأن يستعين على ذلك بسلطان الدولة العثمانية. ثم أعدنا النُّذُر والنصائح
ولكن القوم في غمرة ساهون، لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، وإنما يعتمدون على أهل
القبور في دفع الضر أو تحويله عنهم. كما علمت من التجائهم إلى قبر سيدي
إدريس عندما أرادت فرنسا الافتيات عليهم وجؤارهم عنده بكلمة: (يا لطيف)
مائة ألف مرة! . وقد كان من أسباب استدراجهم في اعتقادهم ما كان من عاهل
الألمان يومئذ وإيعازه إلى السلطان عبد العزيز بطلب عرض إصلاح مراكش على
مؤتمر أوربي فانعقد المؤتمر في الجزيرة من حواضر أسبانيا فاتفق أعضاؤه على
وجوب إنشاء مصرف (بنك) لتلك المملكة وإنشاء شرطة (بوليس) يدير أمرها
ضباط أوربيون. أما المصرف فلابتلاع أموال الحكومة وأما الشرطة فلتأمين تجارة
أوربا التي يبتلعون بها أموال الأهالي ويتمكنون بها من إدارة البلاد ولهم أعمال من
دون ذلك هم لها عاملون.
وقد طال التنازع بين فرنسا وألمانيا في شأن حصص كل دولة في المصرف
وفي كون ضباط الشرطة من الفرنسيس والأسبانيين أم من سائر الدول وفي رئيس
هؤلاء الضباط ونحو ذلك مما لا غرض لنا في بيان جزئياته لأننا لا نكتب لأجل
إحصاء وقائع التاريخ ولا لأجل تفكيه القراء ، إن نكتب إلا لأجل بيان طرق العبرة
للمسلمين.
مهما اختلف القوم وتنازعوا فهم أقرب إلى الاتفاق على التوفيق بين مصالحهم
المتعارضة منا على مصالحنا المتحدة. وكل ما يتفقون عليه فهو إضعاف لسلطتنا
بل تقليص لظلها عن بلادنا ولو بالتدريج الذي هو خير لهم إذ لا يحتاجون فيه إلى
بذل دمائهم وأموالهم. ومن غريب جهلنا أن نعد أنفسنا ظافرين كما طلبوا منا تجديد
نفوذ لهم في بلادنا وإزالة نفوذ لنا منها فنالوا بعضه كما جرى لنا في مسألتي كريت
ومكدونية ، وكما سيجري في مراكش بعد هذا المؤتمر الذي يجعل لهم حقًا رسميًا
في القبض على إدارة البلاد وأموالها.
إذا أرجعت المسببات إلى أسبابها تبين أن الذي حال بين أهل مراكش وبين
الانتفاع بما ذكرناهم وذكرهم به غيرنا هو الجمود على التقاليد والاتكال على
أصحاب القبور فهاتان العلتان هما المانعتان من فهم الحق ومن كل تغيير يدعى إليه
المقلد للآباء، المفوض أموره إلى من اتخذهم أولياء.
***
(مسألة العقبة)
كان أهل الرأي في الدولة وأصحاب النفوذ في المابين يرون منذ شرع في
سكة الحجاز الحديدية أن من الضروري إحداث ناشط لها ينتهي بفرضة العقبة في
البحر الأحمر وقال بعضهم: إذا عجزنا عن إيصال السكة إلى الحرمين فإن ربحنا
من السكة لا يكون قليلاً إذا استعضنا على ذلك بإيصالها إلى العقبة. وقد اجتهد
الصدر الأعظم ومختار باشا الغازي وعزت باشا العابد وصادق باشا العظم اجتهادًا
عظيمًا في إقناع السلطان بوجوب إنشاء هذا الناشط منذ سنين فكان يأبى ذلك
ويحتج بأن هذا يكون وسيلة لتداخل الإنكليز في بلاد العرب ، فلما أعياه أمر ثورة
اليمن اقتنع بأن إخضاع تلك الولاية وتمكين السلطة فيها من بعض فوائد ناشط
العقبة من سكة الحديد فأمر به وأرسلت الجنود العثمانية إلى العقبة لتمهيد العمل.
فلما رأت إنكلترا ذلك خافت من الدولة على مصر أضعاف ما كان يخاف منها
السلطان على بلاد العرب. واعتقدت أنه ما دفع السلطان على هذا العمل إلا ألمانيا
الدائبة في مناهضة إنكلترا وأنه لا يبعد أن يتفق السلطان مع عاهل الألمان على
الزحف على مصر بعد وصول الناشط إلى العقبة فأرادت بناء معاقل عسكرية هناك
باسم مصر فكانت الدولة بالمرصاد ، فمنعت الجنود المصرية من البناء بالتهديد ،
فأنشأت إنكلترا تعارض الدولة بأن جنودها احتلت نقطة مما كانت سمحت به لمصر
من أرض سيناء واشتدت في ذلك بلسانها وبلسان الحكومة الخديوية التي تنطق
بوحيها. على أن إنكلترا قد غيرت حدود مصر في شبه جزيرة سيناء في الخرائط
الجغرافية التي جددتها للمدارس المصرية منذ بضع سنين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سلطان الشياطين على عالم أزهري
ومخادعة دجال غوي
نشر في مصر (إعلان) مطبوع عنوانه (أشهر الحوادث وأعظم الرجال..
حادثة في الأزهر) يريد ناشره أن يشهر به نفسه بالولاية والقدرة على إخراج
الشياطين من الأجسام والبيوت ، ورأى أن إعلانه لا يُقرأ إلا إذا افتتحه بذكر الأستاذ
الإمام رضي الله عنه ولو بالكذب عليه لعلمه بأن الأمة تقرأ كل ما يكتب عنه ، ومن
العجائب أن بعض الجرائد نشرت هذا الإعلان الضار وأقرته.
وإننا ننشره وننكره وهو باختصار:
(لا ريب أن الجامعة المصرية قد حضرت دروس حكيم الشرق وفيلسوف
الإسلام الشيخ محمد عبده إذ كان يتخذ (أدحية) في الأزهر ويقرأ فيها جهارًا
والناس من حوله من ترك وعرب وعجم فضلاً عما يخالط ذلك من دانٍ وشاسع ،
وكان إذ ذاك يصيح بأعلى صوته بأن لا وجود للجن ، وكثيرًا ما جاهر بهذا الإنكار
على رءوس الأشهاد والعلماء يحاجونه بالكتب المنزلة فما استطاعوا له ردًّا ، وكان
ينسب ذلك إلى الخيال والتصورات والأوهام وضرب لذلك جملة أمثال ، ولكن لكلٍّ
شِرْب وله شرب معلوم ، وكثير ما كان صاحب المؤيد واللواء والظاهر خاضوا معه
في هذا الموضوع ، وأكثر الناس وافقه على هذا الأمر على أنه يوجد أكبر شاهد على
وجود الجن وهو من خيرة العلماء الأفاضل وعضو في إدارة الأزهر ومن رجال
التشريفة وأمين الكتبخانة وهو الشيخ محمد حسنين ، وتحرير الخبر أن هذا الشيخ
اشترى من منذ سنتين منزلاً بأم الغلام بجوار سيدنا الحسين فأعجبه ، ولكن رأى
فيه في هذه الأيام رجم أحجار فظن أنه من الجيران فصنع صورًا من خشب على
السطوح فزاد الحال وعظم حتى ظهرت الجن في شكل قردة وخنازير وكلاب
وقطط ، وصاروا ينقلون الكتب والملابس والفرش والمفاتيح من جيبه ويلقونها في
الشارع. على أن هذا الشيخ ترك أشغاله واشتغل بهذا الحادث حتى كان لا ينام من
الليل دقيقة فشاع الخبر وذاع في مصر وضواحيها ، وأرسلت إليه جميع الإخوان
جوابات بفوائد ووصفات، وكثير من أعاظم مصر أرسل عدة رجال مهمين يدعون
المعرفة فاجتهد الشيخ إبراهيم الطوبي الكتبي واستحضر جملة المغاربة والسودانية
فلم تحصل فائدة ، وكذلك حضر الشيخ محمد الرفاعي وقرأ وكتب ولكن ما أفادوا كذلك
المغربي الذي في الخرنفش؛ فلم تحصل فائدة حتى يئس حضرة الأستاذ وصمم
على بيع المنزل أو هجره حتى يحكم الله. وأخيرًا حضر بعض الأعيان وأخبر
الأستاذ بأنه يوجد رجل.. ساح في الأرض وفي بلاد الهند والسودان وصاحب
علوم وأسرار بل هو الولي في هذا الزمان ، واسم هذا الشخص
…
فتقابل معه
الشيخ وقص عليه ما وقع ، فتوجه إلى منزل الشيخ ، وطلب سجادة وكان موجودًا
وقت ذلك 300 نفر ، وفرشها وسط المنزل وطلب طشت نحاس وكتب عليه وقرأ
وقال: احضر يا من هو موكل بالأذى ، وبعد ساعة رفعت الناس الطشت فخرج من
تحته طيرة تشبه النسر سوداء وصوتت بصوت رفيع ، وتكلم معها وأشار إليها
فطارت ، والناس تنظر إليها وكل ذلك العمل كان بعد العصر ، ولما جاء الليل أحضر
جماعة من الجن وكل من حضر سمع كلامهم بالحرف الواحد وأخيرًا همَّ
…
بصرف
الأذى عن المنزل فانصرف ، وكانت فقدت أشياء من المنزل ذات قيمة فردتها الجن
كما كانت ، وأخيرًا سئل.. عن هذا الأذى فقال معناه أن هذا الأمر يجب عليَّ أن
أضع له سور من حديد على أنه لا يمكنني أن أطلع أحدًا عليه مهما كان ميله إليَّ
وقربه من فؤادي) .
اهـ المراد منه وليس بعدما ذكرنا إلا الغلو في شهرة صاحب الاسم المراد
إشهاره بالكذب لمخادعة النساء والعوام بدعوى أن بيته مكتظ بالأمراء والإفرنج..
قد ادعى هذا الدجال عدة دعاوي باطلة يعلم بها أنه يتعمد الكذب:
(أولاها) أن الأستاذ الإمام اتخذ لنفسه أدحية في الأزهر كان يقرأ فيها
دروسه يعني مكانًا صغيرًا كأفحوص القطاة ، والناس يعلمون أنه كان يقرأ في أعظم
رواق في الأزهر.
(ثانيها) أنه أنكر وجود الجن في دروسه جهرًا. وهذا كذب وبهتان بل
اعترف في دروسه وكتبه بوجود الجن كما يعلم من حضر دروسه معنا ومن قرأ
تفسير جزء عم من تأليفه أو تفسير المنار الذي نقتبس فيه دروسه التي كان يلقيها
في الأزهر.
(ثالثها) أن العلماء حاجوه في ذلك.
(رابعها) أن المؤيد واللواء والظاهر خاضت معه في هذا الموضوع وكل
ذلك كذب مبني على كذب.
(خامسها) أن أكثر الناس وافقوه على إنكار الجن وهذا طعن بأكثر المسلمين
وقذف لهم بالكفر والردة.
وقد بلغنا عن الشيخ محمد حسنين أنه يقول: إن للحكاية أصلاً ، ولكن ما نشر
في الإعلان كله كذب وبهتان.
صرح الأستاذ الإمام في تفسير سورة الناس بأن الجن خلق خفي ، وقد قال الله
تعالى في أبيهم إبليس: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُم} (الأعراف:
27) وما ورد من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن كما في حديث ابن مسعود
في استماعهم القرآن قالوا: إنه لا يعارض الآية؛ لأنه من الخوارق وهي تأتي على
خلاف سنة الله تعالى فهي من قبيل ما يسميه الحكام بالاستثناء. وروي عن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يَرَ الجن عندما استمعوا القرآن
لأنه تعالى يقول له في أول سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) ، فقد علم ذلك بالوحي لا بالرؤية. ولكن ما اختلف فيه عالمان من
أعلم الصحابة - ابن مسعود وابن عباس - هل كان معجزة للنبي صلى الله عليه
وسلم أم لا، قد صار عند أولياء الشيطان من الأمور المعتادة بزعمهم ، فهم يرون
الجن ويتصرفون فيهم كما شاءوا متى شاءوا، وما كانوا إلا خادعين وما كان
الأستاذ الإمام إلا منكرًا دجلهم تأييدًا للقرآن ونصحًا للعوام.
استدل الجاهل ناشر (الإعلان) على وجود الجن بحكاية الشيخ محمد حسنين ،
وما هذه الحكاية إلا كأمثالها من الحكايات التي لا تحصى عند أهل الخرافات
وعبدة الأوهام ، فكم من بيت كاد له شياطين الإنس من أهله أو من غير أهله فعبثوا
وعاثوا في حنادس الظلمات أو من وراء الحجب والأستار ، فتوهم السخفاء أن
عيثهم من عمل الجن. وبلغوا من الكيد لمن أرادوا ما أرادوا.
وقد اكتشف بعض أصحاب الذكاء والدهاء كثيرًا من هذه الحيل الشيطانية فعلم
أن منها ما كان من الجيران لسبب غرامي أو لسبب مالي وهو الطمع في شراء
البيت رخيصًا إذا خاف الناس من عفاريته ، ومنها ما كان من بعض نساء الدار
وخوادمها ابتغاء تركها وسكنى غيرها أو احتيالاً على الرجل الشرود ليأوي إليها.
وقد كان من علماء الأزهر من يُحكى عنهم إخضاع الجن أو جعلهم تلاميذ لهم فهل
صار للعفاريت والشياطين من السلطان على علماء الأزهر أن يسلبوا راحتهم في
بيوتهم في زمن قل فيه ظهور العفاريت لتحوت العوام، إذ قلت الخرافات والأوهام؟
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
العقل والقلب والدين
كانت العرب تطلق لفظ القلب على قوة الشعور ووجدان اللذة والألم وقوة الفكر
والعقل الذي يميز المرء به بين النافع والضار؛ لأن قلب الشيء عندها لبه ومحضه
وخالصه ، ومن الأول قوله تعالى:{وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ} (آل عمران:
159) ومن الثاني: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (ق: 37) وقوله:
{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (الحج: 46) وقد جرى عرف بعض الأمم على
إطلاق لفظ القلب على المعنى الأول خاصة ، وجعلوا سلطانه على الأمور الأدبية ،
واكتفوا بالتعبير عن الثاني بلفظ العقل وجعلوا سلطانه في الأمور العلمية ، وهو
اصطلاح لا تأباه لغتنا التي تجيز تخصيص اللفظ بأحد معانيه وهو ما نجري عليه
في هذه المقالة.
ثم إن أهل هذا الاصطلاح جعلوا الدين من قبيل الأول حتى صاروا يقابلون
العلم بالدين كما يقابلون بين العقل والقلب ، وذهب الكثيرون إلى أن هذه المقابلة
مقابلة تضاد فجعلوا العقل خصيمًا للقلب والعلم عدوًّا للدين! ورأى آخرون منهم
أنها مقابلة تباين فجعلوا للقلب حكمه وللعقل حكمه ومنعوا أن يعدو أحدهما طوره
ويحكم غيره.
حجة القائلين بالتضاد أن القلب موضع الشعور الوهمي الذي لا حقيقة له فهو
يخاف مما لا يُخَاف أو لا يخيف ، ويرجو ما لا يُرجَى ، ويتقحم به الوجدان مواقع
الهلكة فيبذل النفس والنفيس فيما لا فائدة فيه فهو سلطان أخرق جائر لا يدين له إلا
النساء والأطفال ومن ضعف عقله من الرجال، وأعوانه رجال الدين الذين عرفوا
في كل زمان ومكان بإقامة هياكل الوهم، ومعاداة العقل والعلم، وجعل وجدان الدين
آلة القهر في أيدي الرؤساء المستبدين، فإذا كان الشعور بأن في الكون سلطة غيبية
يجب لها الخضوع والعبودية - هو أعلى وجدان للقلب وأنفذه حكمًا على الجوارح،
وإذا كان سائر أنواع شعوره ووجدانه كالخوف والرجاء والبغض والحب والقسوة
والرحمة تخدم هذا الوجدان وتؤيده، وإذا كانت تلك السلطة العليا قد تمثلت للوهم
الإنساني في الجماد وقوى الطبيعة وفي الحيوان فعبدها الإنسان ، ثم تمثلت له في
أفراد منه فعبدهم وعدّ نفسه قد ارتقى بذلك ارتقاءً مبينًا، وإذا كان العقل قد كشف
لقوم بطلان الوهم في أكثر تلك المظاهر للسلطة الغيبية ولآخرين بطلانه في جميعها
حتى صار المرتقون من البشر فريقين: فريقًا لا يزال ينقاد لذلك الوجدان ولكنه
ينزهه عن التقيد بأي مظهر من مظاهر الطبيعة ويفند أكثر ما وصفته الأديان به ،
وفريقًا يحكم بأن ذلك الوجدان وهم لا حقيقة له، وإذا كان هؤلاء المرتقون أقرب
الناس من السعادة في معيشتهم ومن النفع للناس وأبعدهم عن الشقاء الذي تثيره
الأوهام التعبدية، وتمده سائر الوجدانات الدينية، وإذا كان الحس الظاهر الذي هو
أقوى من وجدان القلب وفكر العقل يخذل الأول بما ظهر من مخالفة كثير من
النصوص الدينية للأمور المحسوسة وينصر الثاني ويؤيده؛ أفلا يكون القلب والعقل
ضدين في ذاتهما وفي أثرهما في الناس ، ويكون من الصواب أن نجعل العقل هو
الحاكم والقلب هو المحكوم وأن نؤدب الوجدان بسوط الفكر والبرهان، وندع لحكم
العقل والحس جميع أحكام الأديان؟
وأما حجة الذاهبين إلى أن لكل من القلب والعقل سلطانًا مستقلاًّ يباين الآخر
ولا يناقضه ، وأنه يجب أن لا يعدو واحد منهما طوره ويخرج عن حدوده فهي أنه
لا ينكر عاقل أن الوجدان أمر وجودي ثابت متحقق في نفسه كما أن الفكر أمر
وجودي ثابت متحقق في نفسه وأن لكل واحد منهما أثرًا منه الضار والنافع ،
وأحكامًا منها الخطأ ومنها الصواب وأن الإنسان في حاجة إلى كل واحد منهما فلم
يخلق له أحدهما عبثًا ، وأنه لا بد لكل منهما من قانون تعليمي تكون الغاية جعل
أحكامه وآثاره نافعة للإنسان ، وأن قانون القلب هو الدين الذي يوجه جميع عوامل
شعوره ووجدانه إلى الخير والفضيلة ، ويصرفها عن الشر والرذيلة. وقانون العقل
هو العلم بالأكوان الذي يجلي للإنسان حقائقها ويمكنه من الانتفاع بها فإذا كان خطأ
العقل في بعض المسائل لا يقضي ببطلان الثقة به ولا يقتضي إزالة سلطانه وعدم
الثقة بسائر أحكامه فكذلك نقول في خطأ القلب ، وإذا بحثنا في تاريخ الإنسان نرى
أن علماء القلوب الذين جاءوا بقوانين الأديان كانوا أنفع للبشر من علماء الكون
الذين وضعوا قوانين العلوم المادية والنظرية ، فلو فرضنا أن الإنسان يستغني
بأحد الفريقين عن الآخر لكان يجب أن يستغني عن الفلاسفة وعلماء المادة دون
النبيين والمرسلين لأنه قد يكتفي في حياته المادية بتجاربه التي يسوقه إليها
الإحساس الفطري عن توسيع دائرة البحث في الجماد والنبات والحيوان وتكثير
الصنائع التي يشقى بها الملايين من الناس ليسعد المئات والألوف بشقائهم ، ولكنه
لا يكتفي قط بترك حبل شعوره ووجدانه على غاربه ، فإن حكم وجدان اللذة والألم
أقوى على النفس من كل حكم وهو عرضة للبغي والعدوان إذا لم يكن له مؤدب من
جنسه يضع له حدودًا لا يتعداها. وهذا المؤدب هو وجدان الدين.
لا ينكر علينا علماء المادة أنه لا يوجد في الخليقة شيء من العبث وأن كل
شيء خلق كاملاً أو كمل بعمل الطبيعة فيه إلا الإنسان فإنه خلق أشد الكائنات
المعروفة نقصًا وأشدها استعدادًا للكمال ، وأن كماله يكون بعلمه وكسبه وأن كل قوة
من قواه الحسية والمعنوية والنفسية والجسدية التي فطر عليها هي آلة من آلات
استعداده للكمال بكسبه التدريجي ، فقوة العقل التي أودعت في الإنسان لأجل التمييز
بين المعقولات الصحيحة والباطلة ووجدان الدين العام وهو الشعور بالسلطة الغيبية
الذي أودع في الفطرة لأجل تأديب سائر الوجدانات بما يزعها عن الشر ويصرفها
إلى الخير، كل منهما قد وجد لحكمة ظهر أثرها في ارتقاء البشر بالتدريج كما هي
السنة في جميع قواهم وآثارها. فقول الماديين بالنشوء والارتقاء ظاهر في شئونهم
الدينية والمدنية أو القلبية والعقلية؛ فلماذا نعد خطأ البشر في استعمال الوجدان
الديني في أطوار الانحطاط موجبًا للقول ببطلان هذا الوجدان وضرره ، والحكم
بإعفاء أثره ، ولا نعد خطأ العقل في تلك الأطوار موجبًا للحكم ببطلان أحكامه
وإزالة سلطانه؟ ! .
تقولون: إن رجال الدين قد عاثوا بسلطتهم الدينية فسادًا في الدين ، وخادعوا
الناس بالأوهام حتى استعبدوهم ، ونقول: إننا نرى في كل من رجال الدين ورجال
العلم المفسد والمصلح فكم من عالم ببعض خواص الأشياء الطبيعية قد غش الناس
بعلمه ، وكم من مدعٍ للعلم بها قد أضرهم بجهله ، وهذه العلوم المادية في هذا
العصر الذي هو أرقى عصورها قد اتخذت آلات لإهلاك العباد وتدمير البلاد ، وما
السحر الذي تعترفون بأنه من أشد الأمور إفسادًا لعقول البشر وضررًا في مجتمعهم
إلا من خداع العلم فإن كان قد استفاد منه كهنة الوثنية فقد أبطله جميع الأنبياء ،
وكان أقوى الشُّبَه للضعفاء على نبوتهم فهو ضد الدين.
ويقول أهل هذا المذهب لخصمهم من الماديين: إننا نعلم أن أقوى شُبهكم على
الدين أمران:
(أحدهما) ما جاء في كتب الوحي مما قام الدليل الحسي أو العقلي على
خلافه كإثبات التوراة أن الله حكم على الحية بأن تأكل التراب كل أيام حياتها وإثبات
العهد الجديد للتثليث.
(وثانيهما) ما فيه من الأخبار الغيبية التي لا دليل عليها كوجود الملائكة
والشياطين.
والمخرج منهما سهل.
أما الأول فإذا لم تسلموا بتأويل علماء الدين لهذه المشكلات وجزمهم بأن الخطأ
واقع؛ فلنا أن نقول: إن بعض ما في تلك الكتب مدرج من النساخ ، وأن ما قاله
الأنبياء في أمور الدنيا لم يقصدوا به بيان حقائق الموجودات ، وإنما قصدوا
استخراج العبرة والموعظة وتمثيلها للناس بحسب ما عرفوا من الكون ، وإن كانت
معرفتهم ناقصة أو مخالفة للحقيقة ، ولو أرادوا أن يبينوا حقائق الأكوان مع إصلاح
النفوس بقضايا الأديان لما تيسر لهم ذلك ، ولكان تصديهم له خروجًا عن حدود
وظيفتهم المتعلقة بالقلوب والأرواح وإثارة للشبه والشكوك فيها ، فإن المسائل
الحسية والوجودية تعرف بالنظر والتجربة والاختبار لا بالتبليغ عن الخالق. ذلك
أن الإنسان مستعد بفطرته للارتقاء الحسي والعقلي بدون تأييده بالوحي وأما الارتقاء
القلبي أو الوجداني فهو محتاج فيه إلى الوحي لأن منه ما يتعلق بالسلطة العليا
المدبرة لجميع الكائنات وما يتعلق بحياة بعد هذه الحياة ، وهذان الشعوران لم يودعا
في نفس الإنسان سدى كما تقدم بل هما المبدأ لغاية كماله الروحاني والوسيلة لتهذيب
جميع أنواع وجدانه وشعوره ، وبذلك تحسن أعماله وتصلح أحواله فيكون سعيدًا
بقدر تمسكه به.
وخلاصة هذا الجواب أن وظيفة الوحي إصلاح القلوب والأخلاق فما يذكر فيه
من أمور العالم يراعى فيه معارف المخاطَبين ولا يقصد لذاته فلا يضر الخطأ فيه
عندهم.
وأما الثاني وهو إخبار الوحي بما لا دليل عليه من الحس ولا من العقل
فالمخرج منه أن هذا لا يقال إلا إذا كان علم الأنبياء الخاص بهم مستمدًّا من الحس
والعقل ولكنه وحي من الله ، فإذا كان لكم طريق إلى الحكم في كلامهم المتعلق
بالمادة المحسوسة فلا طريق لكم إلى الحكم في كلامهم المتعلق بالإيمان بالله وبعالم
الغيب لأنه ليس من المادة ولا مما يجري على سننها، ولا المتعلق بالعبادة والحث
على الفضائل وبالتنفير عن المعاصي والرذائل لأنه من باب الإنشاء الذي لا يتأتَّى
فيه الصدق والكذب ، وإنما يعرف حسن مثله وقبيحه بأثره ، وقد ثبت بالتجربة أن
البشر يكونون على خير وصلاح بقدر تمسكهم به وعلى شر وفساد بقدر إعراضهم
عنه. ومما يدل على أنهم يستمدون هذه الأنواع من العرفان من خالق الكون ومدبره
أن علماء الحس والعقل يعجزون على استمداد بعضهم من بعض عن إصلاح نفوس
البشر وصرف شعورهم ووجدانهم إلى الخير من غير استعانة بشيء مما جاء به
الأنبياء الذين لا يمكن إقامة برهان على أنهم استمدوا عرفانهم من الناس. وهب
أنهم استفادوا شيئًا من عرفانهم بالكسب والنظر ، فما تقول في تلك الآيات وذلك
السلطان الذي أعطوه على الأرواح؟ يقول كثير من علماء المادة وأدباء الملاحدة:
إننا نقدر على كتابة في الآداب والوعظ لا تعد هذه الأناجيل في جانبها شيئًا مذكورًا
وفاتهم أن في مواعظ الإنجيل من السلطان على الأرواح ما يعجز أكبر الفلاسفة عن
عشر معشار تأثيره في حكمه وفلسفته.
هذا ملخص ما يذهب إليه كثير من علماء الإفرنج وفلاسفتهم في وظائف العقل
والقلب ، فهم يوجبون صرف العقل والحواس التي هي آلاته إلى العلوم الكونية
وصرف القلب وشعوره إلى الأمور الدينية ، ولا يجيزون لأحدها أن يتحكم في
الآخر. فإذا ظهر لهما أن في العلم والتاريخ ما يخالف بعض مسائل ذكرت في كتب
الدين ، أو في الدين مسائل تعارض شيئًا من العلم أو التاريخ فإنهم لا يرون ذلك
مجوزًا لإبطال أحدهما للآخر أو مسوغًا لتركه؛ لأن صلاح البشر متوقف على
صرف كل من العقل والقلب إلى ما هو مستعد له لم يوجد واحد منهما عبثًا ولا
يترك سدى. وبهذا الرأي كان كثير من أساطينهم متدينًا كبسمارك أشهر زعماء
السياسة وعلماء الاجتماع وباستور من كبار علماء المادة والحياة وتولستوي من
عظماء الفلاسفة في العقليات والأدبيات. ويعترف هؤلاء العلماء أن في دينهم كثيرًا
من المسائل التي تخالف العقل والعلم والتاريخ ، وأن في كتبها ما هو بشري غير
موحى به من الله ، ويقولون: إن هذا نقص في بنية الدين وجسمه لا في جوهره
وروحه ، فهو يغفر ويتسامح به لشدة الحاجة إلى روح الدين التي لا غنى للبشر
عنها.
وتجد في هؤلاء العظماء المتحمس في الدين الملتهب غيرة عليه كعظيم
الشعوب الجرمانية (غليوم الثاني) الذي قال: إنه لولا الوحي الديني الروحاني
لقضي على النوع البشري ، وقال في المسيح: إنه يملؤنا حماسة وإننا لنشعر بناره
تأجج في أحشائنا ، وقال: إن الاعتقاد بأن التوارة ربما كانت مأخوذة من شرائع
حمورابي لا يمنع من الاعتقاد بوحي الله لموسى وظهوره لبني إسرائيل بواسطته
يعني أن استفادة موسى من معارف البشر ، ووقوع بعض الخطأ العلمي والتاريخي
في كتابه لا ينافي الإيمان بأنه كان مؤيدًا بروح الله ومظهرًا لعنايته وعظمته ، ولا
كون كتابه أعظم صلة بين البشر وبين الله كما نطق به العاهل العظيم في كلمة
أخرى ، فهو يكتفي بأن يكون النبي الموحى إليه مؤيدًا من الله بما يتمكن به من
هداية الناس وتوجيههم إلى عبادة الله تعالى ، ولا يشترط أن يكون كل ما يقوله
موحًى به من الله وكل ما يفعله مؤيدًا به من الله.
إن أصحاب هذا المذهب على اعتقادهم في الوحي والأنبياء بما لا يرضاه
المسلمون، بل ولا عامة المعتقدين بالنصرانية - هم أسلم فطرة وأهدى قلبًا وأكمل
عقلاً من عبيد المادة وأسرى الحواس الذين زعموا أن الدين من شعور القلب
ووجدانه الوهمي ، وأنه يجب على الإنسان أن ينسلخ من كل وجدان، ويعيش حسيًا
كسائر أنواع الحيوان، استحوذ عليهم حب الشهوات الحسية فانصرفوا إليها
وأسرفوا فيها، وما أحبوا الانسلاخ من المزايا الإنسانية والهداية الدينية إلا لأنها
تنعى عليهم إسرافهم فيها، وتطالبهم بما هو أرقى منها، وقد كثر في متفرنجي
المسلمين من يقلدهم فيها. وإن لأولئك المتبوعين من علماء الإفرنج من العذر ما
ليس لهؤلاء الأتباع المقلدين لهم على غير هدى؛ لأن في الدين الذي نشأ بين أهله
أولئك المتبوعون من عداوة العقل والحس وعلومهما ما ليس في دين هؤلاء ، ولأن
أولئك قد أوغلوا في العلوم الكونية فشغلتهم عن غيرها كعلوم القلب والروح فلم
يعرفوا حقيقته، على أنهم استعبدوا لأحقر وجدان القلب وهو اللذة الحسية ، وهؤلاء
لم يتقنوا علمًا ولم يحسنوا عملاً بل نزلوا على حكم قول الشاعر:
عمي القلوب عموا عن كل فائدة
…
لأنهم كفروا بالله تقليدا
هذا وإن للمسلمين في العقل والقلب والدين منزعًا آخر وهاك بيانه: يسعد
الإنسان بعمله ويشقى بعمله ،وعمله تابع لدعوة وجدانه وفكره: يتفقان فيمضي فيه
ويختلفان فيجيب دعوة أقواهما سلطانًا على النفس وتسخيرًا للحس، والوجدان هو
السلطان القاهر والحاكم المطاع ، وما الفكر إلا وزير يستشار فيدهن للوجدان تارة ،
وينصح له تارة فأكثر الناس يعملون بدعوة شعورهم ووجدانهم لا يعارضهم في ذلك
فكر ولا رأي لأن أفكارهم مسخرة مستعبدة لشعورهم ، ومنهم من يعارض فكره
شعوره في بعض ما يدعو إليه فيطيعه تارة ويعصيه أخرى؛ يطيعه إذا كانت داعية
الوجدان ضعيفة ويعصيه إذا كانت قوية.
إذا كان كل من الوجدان والفكر مدعاة للعمل الذي به يسعد الإنسان ويشقى
وكان قد يقع النزاع بينهما؛ وكان لكل منهما شِرَّة وفترة يطغى في شرته فيسرف،
ويتراخى في فترته فيغفل، فلا جرم أنهما في حاجة إلى مرشد حكيم، ذي سلطان
مكين، مطاع ثم أَمين، يرضيان بحكومته، ويقفان عند نصيحته، مهما ظهرت
لهما آيته، ورفعت فوقهما رايته، وما أراك إلا قد عرفت أن هذا المرشد هو الدين
وأن ظهور آياته للنفس يؤتيها الإذعان، الذي يحيط بالفكر والوجدان، فتخضع له
في عامة شؤونها طوعًا، وتطيعه بالاختيار سرًّا وجهرًا، وإن ارتفاع رايته يمثل
لها القوة والسلطان، مؤدبًا لأهل البغي والعدوان الذين يشذون عن حكم الإذعان،
وبذلك يكون الاعتدال، واستعداد الإنسان للكمال، فالدين هو الأستاذ المؤدب
للوجدان والفكر معًا.
الوجدان حق، وقد يطغى فيعرض له الوهم، والعقل حق وقد يمرض
فيعرض له الجهل، والحواس الظاهرة حق وقد تَعْتَلُّ فتدرك الشيء على غير
حقيقته بل كثيرًا ما تخطئ، وهي صحيحة سليمة. ولا غنى للنفس عن الوجدان
كما لا غنى لها عن العقل والحواس الظاهرة، بل أقول: إنه لا خطأ ولا غلط في
الوجدان الصحيح أو في حكم القلب لذاته، وإنما يعرض له الوهم من الفكر الذي
هو حكم العقل ، أو من خطأ الحس الذي هو حكم المشاعر الظاهرة، وكل من العقل
والمشاعر الظاهرة يخطئ فيجني بخطئه على القلب وينحرف بالوجدان عن القصد.
القلب يحب الجمال الحسي والجمال المعنوي وهو الجاه والشرف ويبغض
القبح الحسي والمعنوي - يتلذذ بنيل ما يحب وبرجاء نيله ويتألم بما يكره - يحزن
لوقوعه ويخاف ما يتوقع منه ، فإذا رجا ما لا يرجى أو ما لا يخاف أو أحب ما لا
يحب أو يكره ما لا يكره إنما يكون في ذلك تابعًا لحكم غيره؛ إذ ليس من شأنه هو
أن يحكم بأن هذا جميل أو قبيح أو ضار أو نافع، وإنما الحس هو الذي يحكم في
الجمال والقبح الحسيين والعقل هو الذي يحكم في الجمال والقبح المعنويين. ومهما
جزم العقل بأن هذا الشيء يرجى خيره ، وذلك الشيء مما يُخشى ضيره ، قَبِلَ
القلب حكمه ، وسخَّر الجوارح للعمل بنصحه ، وقلما يطغى الوجدان في شيء إلا
ويكون الفكر هو المُمِدُّ له في طغيانه ، فكلما أوغل العقل في التصوير والتفكير
يوغل القلب في الانفعال والتأثر ، فالذنب للعقل والفكر في طغيان وجدان القلب
وتعسفه في مجاهيل الأوهام.
لو فقد الإنسان الوجدان فأمسى لا يحب ولا يكره ولا يخاف ولا يرجو ولا
يرحم ولا يقسو لهلك بترك العمل والسعي في جلب المحبوب ودفع المكروه وإبقاء
الخطر، وانتظار الظفر، ومواساة البائسين، ومؤاخذة المجرمين، ولم تكن
تصورات العقل وأقيسة الفكر لتغني عنه شيئًا. فإذا كان أدرك الوجدان في نفسه
حقًا وكان لا بد منه لبقاء الإنسان وكان العقل مرشدًا يخطئ ويصيب فينصح بعلم
أو يغش بجهل، فهل يصح أن يقال: إنهما ضدان ، أو نطلب على حقية الأول
منهما البرهان ، كيف وهو أقوى الضروريات ، التي هي مقدمات البرهان اليقينيات.
على هذه الطريقة أساء العقل التصرف في وجدان مبدأ الدين في الإنسان فقد
امتاز الإنسان على سائر الحيوان بوجدان كان هو الأصل في ارتقائه التدريجي
وحسب استعداده، وهو الشعور بأن في الوجود سلطة غيبية متصرفة في العالم.
هذا هو مبدأ الدين في البشر، وقد كان العقل في طفوليته يبحث عن علل
الأشياء وأسبابها فكلما عجز عن إدراك شيء منها حكم بأنه هو صاحب تلك السلطة
وتبعه الوجدان في الإذعان له والعبادة، وكان إذا ما ارتقى العقل في شعب من
الشعوب أي استعد أفراد منه للارتقاء عن التعبد للأشياء المحدثة بعث الله تعالى فيهم
من يدعو العقل إلى أعلى مقام في العرفان؛ ليتبعه القلب في العبادة والإذعان يدعوه
إلى التوحيد الذي هو عبارة عن الجزم بأن كل ما يدركه الحس ويتصرف فيه الفكر
فهو من المحدثات إلى تدبرها تلك السلطة الغيبية العليا المطلقة التي لا تتقيد بشيء
ولا تحل فيه ليعلم العقل أن تصديه لعلم حقيقة مصدر تلك السلطة التي يجدها القلب
كما تدرك الحواس المحسوسات ضرب من المحال ولذلك سميت إلهًا؛ لأن العقل
يوله ويتحير في البحث عن حقيقتها ، فلسان أولئك الدعاة الكرام عليهم الصلاة
والسلام يقول للعقل الصحيح: إنك تجد في القلب حبًا وكرهًا ورجاءً وخوفًا؛ فلا
تبحث عن حقيقة هذه الوجدانات ، ولا تحاول الاستدلال عليها لأنها قطعية في نفسها ،
وإنما وظيفتك إرشاد القلب إلى الإحسان في استخدام الجوارح لها فأولى لك ثم
أولى أن لا تبحث عن حقيقة وجدان الدين وكنهه فضلاً عن مصدره ، وإنما عليك
أن تستعين به على تدبير مملكة القلب، على أننا لا نمنعك الاستدلال على مصدر
تلك السلطة الراسخة في الواجدان لحكمة امتاز بها الإنسان، وإنما ندعوك إلى
النظر في وحدة نظام الأكوان، والتأمل فيما أودعته من الحكمة والإتقان، لتوقن
أنها لم تكن كذلك إلا لوحدة مصدرها، وعموم سلطان مدبرها، فتجله عن الظهور
في حجر أو شجر أو حيوان، وعن الحلول في كوكب أو إنسان، وإلى هذا الارتقاء
الديني الإشارة بقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ..} (البقرة: 213) إلخ وبه ارتقى العلم نفسه.
ألم تر أن العلم كان يسير مع الدين، والتهذيب كان محصورًا في الكهنة
والأحبار والقسيسين، نعم إن هؤلاء الزعماء للدين كانوا يقودون الشعوب بوجدانها ،
ويحظرون على عقولها حرية التصرف ولهم العذر في هذه السياسة لو لم يسرفوا
فيها فإنه لم يكن لضبط شئون العامة من سبيل إلا وجدان الدين مع أن فكر الأكثرين
لم يرتقِ إلى الاستعداد للاستقلال التام والاستغناء عن سيطرة الرؤساء ، فلما استعد
لذلك آتاه الله الدين الأخير الذي هو منتهى النشوء والارتقاء ، وهو الإسلام الذي
وفق بين الحس والوجدان والفكر ، وآخى بين العقل والقلب فكان هو الهداية التي تم
بها الاستقلال، واستعد بها البشر لنهاية الكمال.
كان زعماء الدين قد أساءوا التصرف في وجدانات القلب فساموها الإفراط
والتفريط ، وشددوا الحجر على العقل فلم يجعلوا له رأيًا في آداب النفس ولا في فهم
العبادة بل ولا في مصالح المعاش ففصلوا بين القلب والعقل ، وجعلوا العلم عدوًا
للدين ، وأقاموا أنفسهم مسيطرين على كل شيء ومكنهم الدين من ذلك ببنائه على
أساس التقليد. فلما جاء الإسلام كان من أول عمله نسف هذا الأساس وإبطال تلك
الزعامة حتى أنه لم يجعل للنبي نفسه شيئًا منها: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْء} (آل عمران: 128) ، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية
: 21-22) حتى كان يرجع عن رأيه إلى أصحابه ، ثم إنه بيَّن العقائد بالبراهين
العقلية، وقرن الآداب والأخلاق بذكر فوائدها الروحية والجسدية، وعلل الأحكام
بالمصالح والمنافع الاجتماعية، وأمر بالعلم الكوني وجعله أقوى دعائم اليقين،
وأرشد إلى سنن الكون والاجتماع وجعلها معراج الرقي في الدنيا والدين، فجعل
الحواس والقلب والعقل شركاء في هدايته وإرشاده لتكون جميع قوى الإنسان متحدة
في إبلاغه غاية كماله، وكان كتابه حجة عقلية على حقيته بما فيه من أرقى العلوم
والعرفان، وأعظم السلطان على العقل والوجدان، مع عصمته من الاختلاف
والتناقض وحفظه من التغيير والضياع، وغير ذلك مما لا محل لشرحه هنا.
أفيليق بمن عرف هذا الدين أن يقول فيه بنقيض ما جاء به اتباعًا لمن فرقوا بين
عقل المرء وقلبه، وبين علمه بالكون وعلمه بنفسه وبربه، أم يليق أن يترك هداية
هذا الدين، ويتبع وسوسة الماديين؟ ! .
كلا، إن من عرف هذا الدين لا يمكن أن يتركه ، ولكن الذين ضلوا وأضلوا
عن هَدي القرآن المجيد بما وضعوا في أعناق المسلمين من وهق التقليد قد حجبوهم
عن محاسن هذا الدين، وأبرزوا لهم في مكانها جميع مساوي المتقدمين، فصدق
عليهم حديث الصحيحين: (لتركبنَّ سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى
لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) فهم العلة لكفر من كفر، وفجور من فجر، فعسى
أن يهيئ الله للمسلمين من أهل الإصلاح من يخرجهم من جحر الضب الذي دخلوه،
ويعيد إليهم هدي القرآن الذي تركوه، أو يهدي غيرهم إلى هذه الحقيقة، ويقيمهم
على هذه الطريقة، فيتآخى بهم العلم والدين، ويكونون هم الأئمة الوارثين، وإن
ذلك لواقع ولو بعد حين، والعاقبة للمتقين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإيمان يزيد وينقص
جاء في شرح عقيدة السفاريني أن سلف الأمة على القول بأن الإيمان يزيد
وينقص ، ونقل بعض الروايات والآيات في ذلك ثم أورد عن شيخ الإسلام تفصيلاً
لوجوه الزيادة ولأصل الخلاف في المسألة ، وإننا نورد من ذلك ماعدا الروايات عن
السلف في المسألة ، ثم نبين وجه العبرة في ذلك لطلاب علوم الدين قال - والظاهر
أنه من كلام شيخ الإسلام -:
(والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات كقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) قال شيخ الإسلام: وهذا أمر يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات
ازداد قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانيه من علم الإيمان ما لم يكن حتى كأنه لم يسمع
الآية إلا حينئذ ، ويحصل في قلبه من الرغبة في الخير والرهبة من الشر ما لم يكن
فيزداد علمه بالله ومحبته لطاعته ، وهذا زيادة الإيمان وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173) ، فهذه الزيادة عند تخويفهم بالعدو لم يكن عند آية نزلت
فازدادوا يقينًا وتوكلاً على الله وثباتًا على الجهاد وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ
سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانا} (التوبة: 124) ، وهذه الزيادة
ليست مجرد التصديق بأن الله أنزلها بل زادتهم بحسب مقتضاها ، فإن كانت أمرًا
بالجهاد أو غيره ازدادوا رغبة فيه ، وإن كانت نهيًا عن شيء انتهوا عنه فكرهوه؛
ولهذا قال: {
…
وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (التوبة: 124) والاستبشار غير مجرد
التصديق وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَاّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَاّ
فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا} (المدثر:
31) وهذه نزلت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية وأصحابه فجعل
السكينة موجبة لزيادة الإيمان ، والسكينة هي طمأنينة في القلب وقوله تعالى:
{يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11) هداه لقلبه زيادة في إيمانه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (محمد: 17)، وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا
بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (الكهف: 13) .
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: زيادة الإيمان الذي أمر الله به والذي يكون
من عباده المؤمنين من وجوه:
(أحدها) الإجمال والتفصيل فيما أُمروا به فإنه وإن وجب على جميع الخلق
الإيمان بالله ورسوله ، ووجب على كل أمة التزام ما يأمر به رسولهم مجملاً؛
فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله ، ولا يجب على
كل عبد من الإيمان المفصل بما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره ،
فمن عرف القرآن والسنن ومعانيها لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لم يلزم غيره
ولو آمن الرجل بالله وبالرسول باطنًا وظاهرًا ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين
مات مؤمنًا بما وجب عليه من الإيمان ، وليس ما وجب عليه ولا ما وقع منه مثل
إيمان من عرف الشرائع فآمن بها وعمل بها بل إيمان هذا أكمل وجوبًا ووقوعًا ،
فإن ما وجب عليه من الإيمان أكمل وما وقع منه أكمل ، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
…
} (المائدة: 3) أي في التشريع بالأمر والنهي؛ لأن كل
واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة ، وأنه فعل ذلك بل الناس
متفاضلون في الإيمان أعظم تفاضل! .
(الثاني)
الإجمال والتفصيل في ما وقع منهم فمن طلب علم التفصيل وعمل به فإيمانه
أكمل ممن عرف ما يجب عليه والتزمه وأقر به ولم يعمل بذلك كله ، وهذا المقر
المقصر في العمل إن اعترف بذنبه وكان خائفًا من عقوبة ربه على ترك العمل
أكمل إيمانًا ممن لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن
يعاقب بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول مع أنه مقر بنبوته باطنًا
وظاهرًا فكلما عمل القلب بما أخبر به الرسول فصدقه وما أمر به فالتزمه؛ كان
ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك وإن كان معه إقرار عام وإلزام ،
وكذلك من عرف أسماء الله ومعانيها فآمن بها كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك
الأسماء بل آمن بها إيمانًا مجملاً أو عرف بعضها ، وكلما ازداد الإنسان معرفة
بأسماء الله تعالى وصفاته وآياته كان إيمانه أكمل.
(الثالث)
أن العلم والتصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت وأبعد عن الشك
والريب ، وهذا أمر يشهده كل واحد من نفسه كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد
مثل رؤية الناس الهلال وإن اشتركوا فيها فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض ،
وكذلك سماع الصوت وشم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام. فكذلك
معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعددة للمعاني التي يؤمن
بها من معاني أسماء الله تعالى وكلامه يتفاضل الناس في معرفتها أعظم من تفاضلهم
في معرفة غيرها.
(الرابع)
أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله
فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به ، وإذا كان شخصان
يعلمان أن الله حق والرسول حق والجنة حق والنار حق وهذا علمه أوجب له محبة
الله وخشيته والرغبة في الجنة والهرب من النار والآخر علمه لم يوجب له ذلك؛
فعلم الأول أكمل ، فإن قوة المسبب تدل على قوة السبب ، وقد نشأت هذه الأمور
عن العلم فالعلم بالمحبوب يستلزم طلبه ، والعلم بالمخوف يستلزم الهرب منه ، فإذا
لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(ليس الخبر كالمعاينة) فإن موسى عليه السلام لما أخبره ربه أن قومه عبدوا العجل
لم يلقِ الألواح ، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها ، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله
لكن المخبَر وإن جزم بصدق المخبِر فقد لا يتصور المخبَر به في نفسه كما يتصوره
إذا عاينه ، بل قد يكون قلبه مشغولاً عن تصور المخبر به وإن كان مصدقًا به ،
ومعلوم أنه عند المعاينة يحصل له من تصور المخبر ما لم يكن عند الخبر فهذا
التصديق أكمل من ذلك التصديق.
(الخامس)
أن أعمال القلوب مثل محبة الله ورسوله وخشية الله تعالى ورجائه ونحو ذلك
هي كلها من الإيمان كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق السلف ، وهذه
يتفاضل الناس فيها تفاضلاً ظاهرًا.
(السادس)
الأعمال الظاهرة مع الباطنة هي أيضًا من الإيمان والناس يتفاضلون فيها.
(السابع)
ذكر الإنسان بقلبه ما أُمر به واستحضاره بحيث لا يكون غافلاً عنه أكمل
ممن صدق به وغفل عنه فإن الغفلة تنقصه ، وكمال العلم والتصديق والذكر
والاستحضار يكمل العلم واليقين ، ولهذا قال عمير بن حبيب رضي الله عنه: (إذا
ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته ، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فتلك نقصانه) .
(الثامن)
قد يكون الإنسان مكذبًا ومنكرًا لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها ولو علم
ذلك لم يكذب ولم ينكر ، بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق ولا يأمر إلا بحق ثم
يسمع الآية والحديث أو يتدبر ذلك أو يفسر له معناه أو يظهر له ذلك بوجه من
الوجوه فيصدق بما كان مكذبًا به ويعرف ما كان منكرًا له ، وهذا تصديق جديد
وإيمان جديد ازداد به إيمانه ولم يكن قبل ذلك كافرًا بل جاهلاً وهذا وإن أشبه
المجمل والمفصل لكن صاحب المجمل قد يكون قلبه سليمًا عن تكذيب وتصديق
شيء من التفاصيل وعن معرفة وإنكار شيء من ذلك فيأتيه التفصيل بعد الإجمال
على قلب ساذج ، وأما كثير من الناس بل من أهل العلم والعبادة فيقوم بقلوبهم من
التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول وهم لا يعرفون أنها تخالف ، فإذا
عرفوا رجعوا ، وكل من ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول أو
عمل عملاً أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول أو عرف ما قاله وآمن به لم يعدل عنه
هو من هذا الباب ، وكل مبتدع قصده متابعة الرسول فهو من هذا الباب ، فمن علم
ما جاء به الرسول وعمل به أكمل ممن أخطأ ذلك ، ومن علم الصواب بعد الخطأ
وعمل به فهو أكمل ممن لم يكن كذلك.
إذا علمت هذا فاعلم أن مذهب سلف الأمة وجُل الأئمة أن الإيمان قول وعمل
ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، قال الإمام ابن عبد البر في التمهيد: أجمع
أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية ، قال: والإيمان
عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن
أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانًا قالوا: إنما الإيمان
التصديق والإقرار ، ومنهم من زاد المعرفة وذكروا من احتجوا به إلى أن قال:
وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم
مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن
حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلَاّم وداود بن علي والطبري
ومن سلك سبيلهم قالوا: الإيمان قول وعمل؛ قول باللسان وهو الإقرار ، واعتقاد
بالقلب وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة ، وقالوا: كل ما يطاع الله به
من فريضة ونافلة فهو من الإيمان ، والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي قال:
وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم ، وإنما
صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا
يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث يريد مستكمل الإيمان ، ولم يُرد به نفي
جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق
وشارب الخمر إذا صلوا إلى القبلة ، وانتحلوا دعوة المسلمين من قراباتهم المؤمنين
الذين ليسوا بتلك الأحوال، ثم قال: وعلى أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة
وينقص بالمعصية - جماعة أهل الآثار والفقهاء أهل الفتيا في الأمصار ، وهذا
مذهب الجماعة من أهل الحديث والحمد لله.
ثم رد على المرجئة وعلى الخوارج والمعتزلة بالموارثة ، وبحديث عبادة بن
الصامت: (من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة) وقال:
الإيمان مراتب بعضها فوق بعض فليس ناقص الإيمان ككامله قال الله تعالى:
{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) إلى قوله: {.. حَقًّا..} (الأنفال: 4)
أي هم المؤمنون حقًّا ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث:
(أكمل المؤمنين إيمانًا..) ، ومعلوم أن هذا لا يكون أكمل حتى يكون غيره أنقص ،
وقوله: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله) وقوله: (لا إيمان لمَن لا أمانة له)
يدل على أن بعض الإيمان أوثق وأكمل من بعض ، وكذلك ذكر أبو عمر الطلمنكي
إجماع أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل ونية. قال الإمام شيخ الإسلام ابن
تيمية قدس الله روحه: لما صنف الفخر الرازي مناقب الإمام الشافعي رضي الله
عنه ذكر قوله في الإيمان: إنه قول باللسان وعقد بالجَنَان وعمل بالأركان كقول
الصحابة والتابعين ، وقد ذكر الإمام الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين ومن
لقيه. استشكل الرازي قول الإمام الشافعي جدًا لأنه كان انعقد في نفسه شبهة أهل
البدع في الإيمان من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكَرَّامية وسائر المرجئة وهو
أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله ، لكن هو لم يذكر إلا ظاهر
شبهتهم ، قال شيخ الإسلام: والجواب عما ذكره سهل فإنه يسلم له أن الهيئة
الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر
الأجزاء يعني كبدن الإنسان إذا ذهب من أصبع أو يد أو رجل ونحوه لم يخرج عن
كونه إنسانًا بالاتفاق ، وإنما يقال له: إنسان ناقص ، والشافعي مع الصحابة
والتابعين وسائر السلف يقولون: إن الذنب يقدح في كمال الإيمان ، ولهذا نفى
الشارع الإيمان عن هؤلاء يعني عن الزاني والسارق وشارب الخمر ونحوهم ،
فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعًا مع الذنوب لكن يقولون: بقي
بعضه إما أصله وإما أكثره وإما غير ذلك فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى
بعضه ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة
لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إن كان متبعضًا متعددًا عند من يقول بذلك وهم
الخوارج والمعتزلة ، وأما الجهمية فهو واحد عندهم لا يقبل التعدد فيثبتون واحدًا لا
حقيقة له كما قالوا مثل ذلك في وحدانية الرب عز وجل ووحدانية صفاته عند من
أثبتها منهم.
قال شيخ الإسلام روَّح الله روحه: ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في
هذا اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر أو ما هو إيمان وما
هو كفر ، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين كما ذكر أبو الحسن الأشعري
وغيره ، ولأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا في ما هو مخالف للإجماع الحقيقي
إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة ، بل وصرح غير واحد بكفر من قال
بقول جهم في الإيمان ، ولهذا نظائر متعددة يقول الإنسان قولاً مخالفًا للنص
والإجماع القديم حقيقة ، ويكون معتقدًا أنه متمسك بالنص والإجماع ، وهذا إذا كان
مبلغ علمه واجتهاده فالله يثيبه على ما أطاع الله فيه من اجتهاده ويغفر له ما عجز
عن معرفته من الصواب الباطن. (قال شيخ الإسلام) : وقد قال لي بعضهم مرة:
الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان فقلت له: قولك من حيث هو
كقولك من حيث هو إنسان ومن حيث هو حيوان ومن حيث هو وجود فتثبت لهذه
المسميات وجودًا مطلقًا مجردًا عن جميع القيود والصفات ، وهذا لا حقيقة له في
الخارج وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه كما يقدر موجودًا لا قديمًا ولا حادثًا
ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره ، والماهيات من حيث هي هي شيء يقدر في الأذهان لا
في الأعيان ، وهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن بل هو مجرد عن كل قيد بل ما
ثَم إيمان في الخارج إلا مع المؤمنين كما ثَم إنسانية في الخارج إلا ما اتصف بها
الإنسان ، فكل إنسان له إنسانية تخصه ، وكل مؤمن له إيمان يخصه فإنسانية زيد
تشبه إنسانية عمرو وليست هي هي والاشتراك إنما هو في أمر كلي مطلق يكون
في الذهن ولا وجود له في الخارج إلا في ضمن أفراده ، فإذا قيل إيمان زيد مثل
إيمان عمرو فإيمان كل واحد يخصه معين وذلك الإيمان يقبل الزيادة والنقصان ،
ومن نفى التفاضل إنما يتصور في نفسه إيمانًا مطلقًا كما يتصور إنسانًا مطلقًا عن
جميع الصفات المعينة له ، ثم يظن أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس ، وذلك لا
يقبل التفاضل بل لا يقبل في نفسه التعدد إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره ،
ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة في
الشخص والعين حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علمًا وعبادةً إلى أن جعلوا
الوجود كذلك فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود ، وتصوروا هذا
في أنفسهم فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم ثم ظنوا أنه الله - تعالى الله عما
يقول الظالمون علوًا كبيرًا - فجعلوا رب العالمين هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط
إلا في نفس متصوره لا يكون في الخارج أبدًا ، وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا
أندادًا مجردة وحقائق مجردة ويسمونها المثل الأفلاطونية ، وزمانًا مجردًا عن
الحركة والمتحرك ، وبعدًا مجردًا عن الأجسام وصفاتها ثم ظنوا وجود ذلك في
الخارج ، وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان وتولد من هذا
بدع ومفاسد كثيرة والله المستعان.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد
وينقص ، وأنكر ذلك أكثر المتكلمين. قال الإمام النووي: والأظهر المختار أن
التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة ولهذا كان إيمان الصدّيق أقوى
من إيمان غيره بحيث لا تعتريه الشبهة ، وقال: ويزيده أن كل واحد يعلم أن ما في
قلبه يتفاضل حتى أنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلاً منه في
بعضها ، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها ، وما نقل
عن السلف يعني أن الإيمان يزيد وينقص صرح به عبد الرزَّاق في مصنفه عن
سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم وهؤلاء
فقهاء الأمصار في عصرهم ، وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن
الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة ،
ويروى بسند صحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء
بالأمصار فما رأيت أحدًا منهم يختلف أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ،
وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة
والتابعين وكل من يدور عليه الإجماع من الأئمة ، وحكاه فضيل بن عياض ووكيع
عن أهل السنة ، وقال الحاكم في مناقب الإمام الشافعي: ثنا أبو العباس الأصم أن
الربيع قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: الإيمان قول وعمل ويزيد
وينقص ، وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من الحلية من وجه آخر عن الربيع
وزاد: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وتلا: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا} (المدثر: 31)
…
الآية) انتهى ، وقد روى الإمام أحمد في المسند من حديث معاذ
بن جبل رضي الله عنه مرفوعًا: (الإيمان يزيد وينقص) وأخرجه الديلمي في
مسند الفردوس من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا أيضًا والآثار عن
الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين من أهل السنة والجماعة المعتبرين وأئمة
أهل الحديث وأعلام علماء الصوفية أكثر من أن تُذكر بأن الإيمان قول باللسان
وعقد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة ويضعف بالعصيان ، وقد ذكرنا من ذلك
ما لعله يحصل به المقصود، والله ولي الإحسان) .
(المنار)
مَنِ اطلع على مثل هذا البيان في المسألة يعلم أن الحق هو ما كان عليه
السلف ، وأن من يتصيد المسائل الدينية من الألفاظ من غير اطلاع على السنة
النبوية التي سار عليها أهل الصدر الأول فهو عرضة للبدع والأهواء ، وأن رواج
شبهة المرجئة والجهمية وغيرهم من المبتدعة في هذه المسألة عند بعض أهل السنة
من جهة النظر والفهم قد كان من أسباب هلاك المسلمين بإعراضهم عن هدي الدين.
ذلك أن الاعتقاد بأن الإيمان الذي هو سبب النجاة والسعادة في الآخرة - هو
التصديق القلبي بأن جميع ما جاء به النبي حق دون العمل ، وأن المؤمنين فيه
سواء قد جرَّأ الناس على الفسوق والعصيان، ثم حملهم على التحريف المعنوي
للقرآن إذ القرآن يصرح بأن النجاة والسعادة بالإيمان والعمل الصالح معًا كما أن
الهلاك بالكفر والاسترسال في المظالم والمعاصي وآياته في ذلك لا تحصى إلا بجهد
وعناء ، وترى أهل هذا المذهب يلتزمون تأويلها حتى صرت ترى الدهماء من
المسلمين يعتقدون بأن العمل ليس له شأن عظيم في النجاة من عذاب الدنيا والآخرة
والتمتع بسعادتهما ، وإنما يكفي في ذلك التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه
وسلم ولو إجمالاً ، ويحملون أكثر نُذُر القرآن على الكفار ويجعلونها خاصة بهم كأن
سنته تعالى في هذه الأمة مخالفة لسنته في أمم الأنبياء قبلهم ، وكأن اليقين والإذعان
يمكن أن يحصل بدون تأثيره الطبيعي في العمل وذلك محال.
وقد نزل بهم من عذاب الله في الدنيا ما حقق نذر كتابه ، وصدق وعده فيمن
نقض ميثاقه وهم لا يتوبون ولا يذكرون ، وإنما ميثاقه السمع والطاعة بالفعل ، وقد
قال فيمن قبلهم: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ
…
} (المائدة: 13) الآية ،
وفسر ابن عباس اللعن فيها بالجزية أي بفقد الاستقلال ، ولا يعتبر أكثر المسلمين
بذلك وقد فقدوا استقلالهم وصارت الأمم تأخذ الجزية منهم ، والباقون على استقلال
ما عرضة للخطر. ثم إن كثيرًا من كُتابهم يثرثرون في دائهم ودوائهم ويحاولون أن
يكونوا من أطبائهم، وهم يجهلون الداء والدواء لجهلهم بالقرآن الذي هو الشفاء
والرحمة لمَن اعتصم به، فليعتبر بهذا أهل العلم والبصيرة لعلهم يكونون من
الهادين المهتدين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأسئلة والأجوبة
الإنفاق على التعليم الإسلامي من مال الحكومة الروسية
(س 10) من الشيخ أبي علي محمد نجيب بن شمس الدين التونتاري
المدرس بتونتار (روسيا) :
حدثت واقعة بين علمائنا جديرة بالاستفتاء من علمكم وهي أن جمعًا من
العلماء المتبصرين ذوي الحمية الدينية هموا بتأسيس المكاتب الابتدائية في القرى
بمال محفوظ في الخزانة الملكية التي يسمونها بالروسية (زيمسكي صوما) ذلك أنه
يجمع في كل سنة نقود مقدرة من أهل الزراعة من مسلم وغير مسلم ، وتوضع في
هذه الخزانة مختلطة إلا أن مقدار ما يجمع من كل جنس معلوم ومضبوط في الدفاتر ،
ويصرف من هذه النقود ما يصرف من وظائف المأمورين الملكيين وسائر مصالح
الأمة الروسية كتأسيس المكاتب والمستشفيات ودور العجزة ونحوها ، ويحفظ الباقي
في الخزانة. وقد كان المسلمون محرومين من الانتفاع بهذه النقود - لا لمنع
الحكومة بل لعدم سؤالهم ذلك للأوهام التي يطول شرحها - على اشتراكهم في دفع
ما عليهم منها وشدة حاجتهم إليها ، فإن كثيرًا من القرى الإسلامية ليس فيها مكاتب
دينية لفقر الأهالي وفقد التعاون العمومي وعدم كفاية الإعانة الخصوصية للجميع فعم
الجهل بالدين أكثر الطبقة السفلى. فهذه الحالة المؤسفة أزعجت القلوب المملوءة
بالحمية وألجأت إلى التشاور في هذه المصلحة المهمة فتشاوروا وتفكروا في الوسائل
اللازمة لتعميم التعليم الديني بين السواد الأعظم من الأمة ، فما وجدوا سبيلاً إلى
هذه السبيل (أي الاستعانة بمالهم في تلك الخزانة) فسعوا فيها وكتبوا عرائض إلى
أولي الأمر يقولون فيها ما محصله: إن من مقتضى العدالة تأسيس المكاتب الملكية
الابتدائية في القرى الإسلامية التي لا توجد فيها مكاتب كما هو الشأن في القرى
الروسية ، ويتوقف ذلك على تخصيص مبلغ من حصة المسلمين في النقود الأميرية
يكفي لتأسيسها والنفقة عليها. إذ الغرض من وضع تلك الخزانة هو انتفاع
المشتركين فيها على السواء ، وليس من العدالة تخصيص جنس دون جنس
بالانتفاع بها مع المساواة في الدفع.. إلخ ، وسمعت أن المحكمة الملكية (زيمسكي
أوبرافا) أجابت على تلك العرائض بالقبول ، وعند ذلك قامت الفرقة المتعصبة
تنازع في هذا الخير وتصد عنه صدًّا يشوش أذهان العوام قائلين: إن أخذ تلك
النقود وصرفها في تلك الوجوه غير جائز في الشرع متعللين تارة بأنها مال الفقراء!!
ولا أدري أي فقير يرضى بصرف ماله المتروك في الخزانة في حوائج غير جنسه
ولا يرضى بصرفه في مصالح جنسه ونفسه؟ وتارة بأنها مخلوطة بنقود غير
المسلمين! وظني أنه لا ضرر فيه بعدما كان مقدار كل واحد منهم معلومًا ، وما
يؤخذ منها لمصالحنا إنما هو من نقود المسلمين المتعينة نوعيًّا ، وبعضهم يتعلل بأن
فيها مال الأيتام ، وهم لا ينظرون إلى الشرع هل يرخص بترك هذا المال في
الإدارة الملكية تتصرف فيه كيف تشاء مع عدم التمكن من استرداده أم يسوغ أخذه
وبذله في مصالحنا؟ فإن هذا المال على كل حال لا يرد إلى صاحبه والله أعلم.
هذا ما دار في فكري الفاتر فأرجوكم أيها الأستاذ بيان حكم هذه المسألة شرعًا
في المنار والله لا يضيع أجر المحسنين.
(ج) إن هذه الواقعة هي أظهر مثال لقول أمير المؤمنين علي كرم الله
وجهه: إن المسلمين لَبِسوا الدين كما يُلبَس الفرو مقلوبًا ، بل هي أوضح حجة على
أن المسلمين قد جُنوا بدينهم جنونًا مفردًا لم يشاركهم فيه أحد على أنهم قد شاركوا
من قبلهم من جميع فنون جنونهم في الدين ، وكأني بكل مسلم غيور قد استعبر
لسماع هذه المسألة وبكى، وبكل عدو للمسلمين قد أغرب لسماعها ضحكًا.
حقيقة المسألة أخذ مال من حاكم غير مسلم برضاه لصرفه في مصلحة
المسلمين فهل يشترط لجواز انتفاع المسلمين به أن يكون ذلك الحاكم قد أخذه من
رعيته المسلمين وغيرهم بوجه شرعي بحيث يحكم الشرع بأنه ليس له مالك غير
هذا الحاكم أو يحكم بأن له صرفه في المصالح العامة؟ لا محل لهذا السؤال ولا لهذا
الاشتراط لأن الحاكم غير المسلم لا يكلف العمل بفروع الشريعة قبل الإسلام ، فهذا
المال الذي أخذه من رعيته ماله لأنه صاحب اليد عليه والتصرف فيه بلا منازع
وإرجاعه إلى من أخذه منه متعذر ، فإذا أعطانا شيئًا منه لننفقه في مصالحنا جاز لنا
أخذه حتمًا ، بل قالوا: إن جميع أموال غير المسلمين في غير دارهم مباحة لهم إذا
أخذوها برضى أصحابها من غير غدر ولا خيانة لا يشترط فيه غير هذا ، ولو كان
وجود بعض أموال اليتامى فيه غير متميز مانعًا من الانتفاع به لكان وضع درهم
ليتيم في ألف ألف درهم بغيره مانعًا لهذا من التصرف في ماله كما قال الغزالي في
شبه هذه المسألة وذلك بديهي البطلان. على أنه لا سبيل إلى العلم بأن عين المال
الذي أخذناه من الحاكم لا يخلو مما أخذه من اليتامى إلا إذا كان ما يؤخذ منهم كثيرًا
جدًا بحيث يعلم أو يظن أنه لا تخلو طائفة من ماله من ذلك وليس الأمر كذلك.
وهنالك وجه آخر لجواز الأخذ وهو أن المال الحرام الذي لا يعرف له مالك معين
يجب صرفه في الصدقات أو المصالح والمنافع العامة ، ويرجح جانب المصالح في
بلاد ليس لها فيها مصرف غيره كبلادكم. وما عارضتم به شبههم في محله إلا
تعليل عدم الضرر بكون ما يؤخذ من مال المسلمين فإن ما يؤخذ من مالهم برضاهم
جائز أيضًا لا وجه لمنعه ، والله أعلم.
***
الوصية النبوية المنامية
(س11) م. ر. بالسويس.
(ج) راجعوا ص 614 من مجلد المنار السابع ترون الكلام على هذه
الوصية التي تنشر في كل بضع سنين مرة عن لسان رجل اسمه الشيخ أحمد خادم
الحجرة النبوية. ومنه تعلمون الحق في ذلك ، وتعذروننا إذ لم ننشر نسخة الوصية
التي أرسلتموها مع سؤالكم عنها.
***
اللذات الحسية في الجنة وجنة آدم
(س12) محمد أفندي السيد قاسم في منشاة حلفه (الفيوم) :
تقابلت مع أحد المتخرجين من دار العلوم فذكرت الجنة وما فيها من النعيم
الدائم والتلذذ بالمأكل والمشرب والمنكح ، وأن تلك هي التي أُهبط منها آدم وحواء
حين أكلا من الشجرة ، فأخبرني أن الجنة ليس فيها أكل ولا شرب ولا نكاح كالدنيا
وإنما تحصل لأهل الجنة لذة الأكل والشرب والجماع عند اشتهاء أنفسهم ذلك بدون
فعل كالنائم يرى أنه أكل كذا فيتلذذ بذلك والحال أنه لم يفعل ذلك حقيقيًّا، فقلت له:
إن في القرآن الحكيم ما يدل على ذلك نحو قوله تعالى: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَتِي
أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} (الزخرف:
72-
73) وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الطور:
19) وقوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} (الطور: 20) وغير ذلك من
الآيات فقال: إن الله تعالى وعد المؤمنين بالتنعم في الجنة بالأكل والشرب والنكاح
المعلومة لذته لهم تقريبًا لأفهامهم وتشبيهًا إذ لو وصف لهم التنعم بغير ما هو معلوم
لهم لما كان له موقع في أنفسهم ولما فهموا معنى التنعم! . وتلك الجنة ليست هي
التي أهبط منها آدم وحواء، ولقصوري عن إقناعه حررت هذا لسيادتكم راجيًا
الإجابة عن ذلك على صفحات المنار بما يشفي الغليل ملتمسًا الإعادة إذا كان سبق
توضيح ذلك في مجلد مضى من المنار؛ لأن ابتداء اشتراكي في المجلد الثامن ، ولا
زلتم في عز وجاه، والسلام عليكم ورحمة الله.
(ج) لا خلاف بين المسلمين في أن الإنسان يبعث في الآخرة كما كان في
الدنيا أي أن حقيقته لا تتبدل فتخرج عن الإنسانية إلى حقيقة أخرى ، بيد أنه يكون
في الجنة أرقى مما كان في الدنيا فتكون حياته دائمة سليمة من العلل ، ومتى كان
الإنسان إنسانًا فلا وجه لاستنكار أكله وشربه وغشيان أحد زوجيه للآخر حقيقة ،
وقد جاءت الآيات صريحة في ذلك فلا وجه لإخراجها عن ظاهرها وتحريفها عن
معانيها اتباعًا للهوى والرأي. نعم، قد دلت النصوص المأثورة من الآيات والأخبار
والآثار أن جميع ما في الجنة من النعيم هو أرقى مما في الدنيا وأن حقيقته غيبية،
ما رأت مثلها عين ولا سمعت بمثلها أذن ولا خطرت على قلب بشر ، ولكن ذلك لا
يمنع أن تكون حقيقة جامعة بين اللذة البدنية واللذة الروحية؛ لأن الإنسان بدن
وروح. وإنني لا أعرف سببًا لسريان شبهة فلاسفة اليونان والنصارى إلى نفوس
بعض المسلمين في هذه المسألة إلا توهمهم أن اللذة الحسية نقص في الخلقة لا يليق
بالعالم الآخر! . ولو عقلوا وحققوا لعلموا أنه ليس في الفطرة نقص ، فداعية اللذة
والتمتع بها من كمال الخلقة ، ولكن لما كان الإنسان قد يسرف في تمتعه وقد يسوقه
كسبه واختياره إلى الاعتداء على حق غيره ليتمتع به وكان ذلك ضارًا بنفسه وبمن
يعيش معهم؛ كان الإسراف والاعتداء مما نهت عنه الشرائع تأديبًا للإنسان وإيقافًا
لقواه عند حدود الاعتدال حتى لا يبغي بعضها على بعض ولا يبغي بعض أصحابها
على بعض ، وعدّ الإسراف والعدوان من النقص لأنه يعوق الإنسان في أفراده
ومجتمعه عن بلوغ الكمال الذي خلق مستعدًا له ، وإنما يناله إذا اعتدل في استعمال
جميع قواه مع مراعاة كل فرد لحقوق سواه.
أما قولكم: إن الجنة التي وُعد المتقون في الآخرة هي الجنة التي سكنها آدم
في أول نشأته فلا دليل عليه ، والراجح المختار من القولين في ذلك أنها بستان من
بساتين الدنيا إذا لم تكن القصة تمثيلاً لأطوار الإنسان في هذه الحياة. وإذا أردت
مزيد البيان فراجع تفسير الآيات في ذلك ولو في غير المنار.
***
حكم أواني الفضة وزكاتها
(س12و14) علي أفندي مهيب بتفتيش التلغرافات بمصر:
أرجو التفضل ببيان حكم الأواني الفضية في الشرع من حيث استعمالها هل
هو محظور أو مباح؟ وهل تجب الزكاة عنها؟ وما هو نصابها الكامل؟ وما مقدار
الواجب عنه؟ .
(ج) أما الاستعمال فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة النهي عن الأكل
والشرب في آنيتها ، فحمل ذلك بعض العلماء على الكراهة وجماهيرهم على
التحريم ، وخصه أهل الظاهر بمورد النهي ، وقاس عليه غيرهم سائر أنواع
الاستعمال (راجع ص 421 و422، م7) والذي أعتقده الوقوف عند النص.
وأما الزكاة عن آنية الفضة ومثلها الذهب فقد قال بها الجماهير ، وإن كانت
الزكاة المعهودة فيما يزكو وينمو بالعمل كالنقدين والأنعام السائمة وغلة الأرض ،
ولعل الأصل في ذلك ما رووه في الحلي وأخذ به الحنفية مطلقًا ، وقال الشافعية:
إنما الزكاة فيما حرم استعماله من الحلي وأعل البيهقي ما روي في زكاة الحلي بما
لا محل لذكره ولا لما قيل في الجواب عنه ، والمعتمد عندي ما قاله الترمذي من أنه
لم يصح في هذا الباب شيء.
وفي نص القرآن أن الزكاة فيما يكنز من الذهب والفضة ، وهو ما يجمع
بعضه فوق بعض ، زاد بعضهم: وكان مخزونًا ، هذا معناه في اللغة وهو بمعنى
الفاضل عن النفقة ، واصطلح أكثر الفقهاء على جعله بمعنى ما وجبت فيه الزكاة فلم
تؤدَّ. والمتبادر أن المراد به النقود المضروبة لأنها هي التي تكنز وتنفق دون الحلي
والأواني. وفي حديث علي مرفوعًا: (قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق
فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهمًا وليس في تسعين ومائه شيء ، فإذا بلغت
مائتين ففيها خمسة دراهم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وذكر الترمذي أنه
روي من طريق عاصم بن ضمرة وطريق الحارث الأعور عنه وقال: سألت محمدًا
- يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: كلاهما عندي صحيح. والرقة: هي
الدراهم المضروبة. وقد أيد القائلون: ليس في الحلي المباح زكاة قولهم بالقياس،
قال في حاشية المقنع: وقد تكلم عن روايتين في المذهب: ووجه الأولى ما روى
جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس في الحلي صدقة) ولأنه مرصد
لاستعمال مباح فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل من البقر وثياب القنية ، والأحاديث
التي احتجوا بها لا تتناول محل النزاع لأن الرقة هي الدراهم المضروبة اهـ. وما
ذكره من القياس على العوامل من البقر والثياب ظاهر جدًا.
وقد علم السائل أن الذي أعتقده في المسألة أن المحظور من استعمال الذهب
والفضة هو ما جاء به النص ، وأن ما تجب فيه الزكاة هو ما ورد به النص ، وقال
بعض العلماء: إن الاحتياط أن يزكى الحلي أي والآنية. وهو ما يوجبه الأكثرون.
وعلم أيضًا أن نصاب الفضة مائتا درهم وأن فيه ربع العشر ، والله أعلم وأحكم.
***
بيع أنقاض المسجد وتجديد بنائه بثمنها
(س15) أ. ب في بيتنزورغ (جاوه) :
ما قولكم رضي الله عنكم في أنقاض مسجد موقوف خرب وأرادوا بناءه؛ فهل
يجوز بيع تلك الأنقاض التي لا تصلح للبناء وهي من خشب وقراميد ، واستعمال
ثمنها في بناء ذلك المسجد أم لا؟ أفتونا مأجورين.
(ج) يستأذن القاضي الشرعي في ذلك وهو يأذن ببيع ما لا يستفاد منه إلا
ببيعه ، وإنما يناط مثل هذا بأمر القاضي للمصلحة إذ ليس كل ناظر وقف يقف عند
حدود الشرع ، فلو وكل الأمر إلى الناظر لباع بعضهم أوقافًا بدعوى تعذر الانتفاع
بها كذبًا وعدوانًا ، ولا حاجة إلى بيان أننا لا نكلف حفظ هذه الأنقاض بغير فائدة
تدينًا وتعبدًا. ومن البديهي أن تجديد بناء المسجد في مكانه الموقوف يتعذر مع
وجود تلك الأنقاض ، والأمر دائر بين بيع ما لا ينتفع به في بنائه وبين نقله إلى
مكان آخر يحفظ فيه ، وهذا النقل والحفظ إنما يكونان بنفقة كأجرة الناقلين وأجرة
المكان الذي تحفظ فيه فأي كتاب أم أية سنة تعبدتنا بأن ننفق المال سدى لنحفظ ما
لا فائدة فيه للوقف؟ ! .
وإننا نرى الناس في مصر يبيعون أعيان الوقف ليستبدلوا بها أعيانًا أخرى
أكثر ريعًا والقاضي يأذن بذلك.
***
امتياز رجال الجنة على نسائها بالحور العين
(س16) محمد أفندي مهدي سليمان بميت القرشي:
تعلمون أن أهل الجنة يدخلونها بفضل الله ويتقاسمونها بالأعمال ، فما بال
الرجل من أهلها يمتاز على المرأة بالحور العين الحسان يتمتع بهن وينعم بقربهن
فهل في ذلك من حكمة؟ .
(ج) الحور العين هم نساء الجنة ، وما من امرأة تدخل الجنة إلا ويكون لها
فيها زوج فالتمتع بلذة الزوجية مشترك؛ إذ لا زوجية إلا بين ذكر وأنثى ، ولعل
سبب السؤال هو توهم أن وصف الحور العين خاص بنساء يُخلَقن في الجنة وأن
نساء الدنيا لا يكنَّ حورًا عينًا في الجنة ولا دليل على ذلك.
***
أسئلة من سنغافوره
من الشيخ محمد بن عوض بن عبده، قال: إنه عرض ما يأتي من الأسئلة
على كثير من العلماء والفضلاء فأجابوه بأن أرسلها إلى السيد محمد رشيد وهي هذه
نذكرها ببعض تصرف حيث تكون عبارتها سقيمة:
(أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم
(س17) مَن أفضل هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالنص لا
بالمزايا كالصلاة بالصحابة، وتسلسل الخلافة؟ وقال السائل: إنه يعرف وجه
التفضيل بهذه المزايا منذ كان ابن عشر؟ ! .
(ج) لا يوجد نص قطعي في القرآن أو حديث متواتر يدل على أن فلانًا
أفضل الناس بعد النبيين ، وإنما هناك أحاديث آحاد مشتركة ، ولا يصح منها شيء
قطعي الدلالة فحديث أبي الدرداء مرفوعًا: (ما طلعت شمس ولا غربت على أحد
بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر) ضعيف أخرجه أبو نعيم في الحلية وفي
فضائل الصحابة وابن النجار وكذا ابن عساكر بالمعنى ، وكذلك حديث علي والزبير
عند ابن عساكر: (خير أمتي بعدي أبو بكر وعمر) وحديث جابر عند
الخطيب: (علي خير البشر فمن أبى فقد كفر) قال: إنه حديث منكر ، وهناك
أحاديث أخرى صحيحة أو حسنة الأسانيد لكنها ليست نصًا في التفضيل كحديث:
(أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) قاله لعلي في صحيح مسلم
وغيره في الصحيحين بلفظ آخر وهو بمعنى حديث: (أنت أخي في الدنيا والآخرة)
رواه الترمذي والحاكم من حديث عمر. وكحديث: (لو كان بعدي نبي لكان
عمر بن الخطاب) رواه أحمد والترمذي عن عقبة بن عامر وغيرهما. وكل هذا
من المزايا. وخير للمسلمين أن يفوضوا أمر التفضيل إلى الله تعالى ولا يبحثوا فيه.
***
(خروج معاوية على عليّ)
(س18) ومنه: أفدنا عن معاوية بن أبي سفيان هل هو محق فيما ادعى
به على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في طلب الخلافة أو مخطئ أو فاسق
كما قال ابن حجر في الصواعق المحرقة أو عاصٍ؟ ! . نرجو الجواب الشافي ولا
نرضى بقولهم: المجتهد المصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد! .
(ج) إن سيرة معاوية تفيد بجملتها وتفصيلها أنه كان طالبًا للملك ومحبًّا
للرياسة ، وإني لأعتقد أنه قد وثب على هذا الأمر مفتاتًا وأنه لم يكن له أن يحجم
عن مبايعة علي بعد أن بايعه أولو الأمر أهل الحل والعقد ، وإن كان يعتقد أنه قادر
على القيام بأعباء الأمة كما يقولون فما كل معتقد بأهليته لشيء يجوز له أن ينازع
فيه ، وقد كان علي يعتقد أنه أحق بالخلافة ولما بايع الناس مَن قبله بايع لئلا يفرق
كلمة المسلمين ويشق عصاهم ، ومعاوية لم يراعِ ذلك. وأنه هو الذي أحرج
المسلمين حتى تفرقوا واقتتلوا وبه صارت الخلافة ملكًا عَضوضًا ، ثم إنه جعلها
وراثة في قومه الذين حولوا أمر المسلمين عن القرآن بإضعاف الشورى بل بإبطالها
واستبدال الاستبداد بها حتى قال قائلهم على المنبر: (مَن قال لي: اتق الله ضربت
عنقه) ! بعد ما كان أبو بكر يقول على المنبر: (وليت عليكم ولست بخيركم فإذا
استقمت فأعينوني وإذا زغت فقوِّموني) وكان عمر يقول: (مَن رأى منكم فيَّ
اعوجاجًا فليقومه) ، وإنني على اعتقادي هذا لا أرى للمسلمين خيرًا في الطعن في
الأشخاص والنبز بالألقاب واللعن والسباب، وإنما عليهم أن يبحثوا عن الحقائق
ليعلموا من أين جاءهم البلاء فيسعوا في تلافيه مع الاتحاد والاعتصام والاقتداء
بالسلف الصالح في حسن الأدب لا سيما مع الصحابة الكرام.
***
(قبر هود عليه السلام
(س19) أفيدوني عن قبر نبي الله هود، هل هو في حضرموت كما يزعم
بعض الحضارمة أم لا؟ .
(ج) من خصوصيات نبينا عليه الصلاة والسلام أن قبره معروف بطريق
القطع واليقين ، ولا يعرف قبر لنبي آخر ولا بالظن الراجح وإنما هي شبهات
وأوهام.
وأما السؤال الرابع فهو عن نبي اسمه (عياد) إلا أن تكون قراءة العبارة قد
تعذرت عليَّ ولا أعرف في الأنبياء مَن اسمه عياد.
_________
الكاتب: أبو زبيد الطائي
وصف الأسد
لأبي زبيد الطائي
دخل أبو زبيد الطائي على عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته فقال له
(أي عثمان) : بلغني أنك تجيد وصف الأسد ، فقال له: لقد رأيت منه منظرًا،
وشهدت منه مخبرًا لا يزال ذكره يتجدد على قلبي. قال: هاتِ ما مر على رأسك
منه. قال: خرجت يا أمير المؤمنين في صيَّابة من أفناء قبائل العرب [1] ذوي
شارة حسنة ترتمي بنا المهاري بأكسائها القزوانيات [2] ، ومعنا البغال عليها العبيد
يقودون عتاق الخيل نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام ، فاخروَّط [3] بنا
المسير في حمارة القيظ [4] حتى إذا عصبت [5] الأفواه، وذبلت الشفاه، وشالت [6]
المياه، وأذكت الجوزاء المعزاء [7] وذاب الصيخد [8] وصرَّ الجِنْدَب [9] وضايقت
العصفور الضب في وجاره [10] قال قائلنا: أيها الركب غوروا بنا في ضوح [11]
هذا الوادي؛ فإذا وادٍ كثير الدغل [12] دائم الغلل [13] شجراؤه مغنة وأطياره مرنة،
فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات [14] فأصبنا من فضلات المزاود [15]
وأتبعناها بالماء البارد، فإنا لنصف حر يومنا ومماطلته ومطاولته إذ صرّ [16]
أقصى الخيل أذنيه، وفحص الأرض بيديه، ثم ما لبث أن جال فحمحم [17] وبال
فهمهم [18] ثم فعل فعله الذي يليه واحد بعد واحد فتضعضعت الخيل، وتكعكعت
[19]
الإبل، وتقهقرت البغال. فمِن نافرٍ بشكاله [20] وناهضٍ بعقاله [21] فعلمنا أن
قد أُتينا وأنه السبع لا شك فيه، ففزع كل امرئ منا إلى سيفه واستله من جربانه
[22]
ثم وقفنا له زردقًا [23] ، فأقبل يتظالع [24] في مشيته كأنه مجنوب أو في هجار
[25]
لصدره نحيط [26] ولبلاعيمه [27] غطيط، ولطرفه وميض [28] ولأرساغه
نقيض [29] كأنما يخبط هشيمًا [30] أو يطأ صريمًا [31] وإذا هامة كالمجن، وخدّ
كالمسن، وعينان سجراوان [32] كأنهما سراجان يقدان [33] ، وقصرة ربلة [34]
ولهزمة رهلة [35] وكتد مغبط [36] وزور مفرط [37] وساعد مجدول وعضد مفتول
وكف شثنة البراثن [38] إلى مخالب كالمحاجن [39] ، ثم ضرب بذنبه فأرهج [40]
وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول [41] ، مصقولة، غير مفلولة، [42] وفم أشدق،
[43]
كالغار الأخرق، ثم تمطَّى [44] فأسرع بيديه، وحفز [45] وركيه برجليه، حتى
صار ظله مثليه، ثم أقعى فاقشعرّ [46] ثم مثل فاكفهرّ [47] ثم تجهم فازبأر [48] . فلا
والذي بيته في السماء ما اتقيناه بأول من أخ لنا من بني فزارة، كان ضخم الجزارة
[49]
فوهصه [50] ثم أقعصه [51] فقضقض متنه [52] وبقر بطنه، فجعل يالغ [53]
في دمه. فذمرت [54] أصحابى فبعد لأي [55] ما استقدموا ، فكر مقشعر الزبرة [56]
كأن به شيهمًا حوليا [57] فاختلج [58] من دوني رجلاً أعجر ذا حوايا [59] فنفضه
نفضة فتزايلت أوصاله [60] وانقطعت أوداجه [61] ، ثم نهم [62] فقرقر، ثم زفر
فبربر [63] ثم زأر فجرجر [64] ثم لحظ، فواللهِ لخِلت البرق يتطاير من تحت جفونه،
عن شماله ويمينه، فارتعشت الأيدي واصطكَّت [65] الأرجل وأطَّت [66] الأضلاع،
وارتجت الأسماع، وحمجت [67] العيون وانخزلت المتون [68] ولحقت الظهور
بالبطون ثم ساءت الظنون:
عَبوس شموس مصلخدّ خنابس [69]
…
جريء على الأرواح للقرن قاهر
منيع ويحمي كل وادٍ يريده
…
شديد أصول الماضغين مكابر
براثنه شثن وعيناه في الدجى
…
كجمر الغضا في وجهه الشر ظاهر
يدل بأنياب حداد كأنها
…
إذا قلص الأشداق عنها خناجر [70]
فقال عثمان رضي الله عنه: اكفف لا أُمَّ لك؛ فلقد أرعبت قلوب المسلمين
ولقد وصفته حتى كأني أنظر إليه يريد يواثبني! .
_________
(1)
الصيابة بالتشديد: من الناس جماعتهم ولبابهم ، وأفناء الناس: نُزَّاعهم من هنا وهنا.
(2)
المهاري: جمع مهرية الإبل المنسوبة إلى مهرة وهي تسبق الخيل.
(3)
اخروط المسير: طال وامتد.
(4)
حمَّارة القيظ: شدة الحر.
(5)
عصبت الأفواه: جف ريقها.
(6)
يريد بشالت: قلت أو نفدت وهو من شالت الناقة: إذا قل لبنها ، وأصله شول ذنبها للقاح وهو يكون عند قلة اللبن أو جفافه ، وقالوا: شوّلت القربة والمزادة قال في التاج: ولا يقال شالت.
(7)
المعزاء: الأرض الحزنة ذات الحجارة الصلبة ، والجوزاء: برج تكون الشمس فيه صيفًا يريد أن شمس الجوزاء أشعلت الأرض.
(8)
الصيخد: عين الشمس وقوله: ذاب مبالغة بأن الحر قد بلغ نهايته.
(9)
صرَّ: صوَّت والجِندب (كدرهم) : صغير الجراد يلازم أشجار الزيتون والكَرْم في حر الصيف وهو لا يصر إلا عند ما يُحْمَى وطيس الحر.
(10)
وجار الضب: جُحره وإذا اشتد لجأت العصافير إلى الظل ولو في الأوْجِرَة.
(11)
قال في الأساس: أخذ في ضوح الوادي وأضواح الأودية: وهي محانيها ومكاسرها، أي حيث الظل وفي نسخة الأساس المطبوعة ضوج بالجيم وهو موافق لما في القاموس ولكن شارحه استدرك عليه الضوح في باب الحاء ناقلاً عن الأساس.
(12)
الدغل: الشجر الكثيف الملتف والنبت الكثير المشتبك.
(13)
الغلل: الماء الذي يجري بين الأشجار.
(14)
الدوحة: الشجرة العظيمة، جمعه: دوح ودوحات وشجر كَنَهْبَل كسَفَرْجلَ: عظيم فهو وصف مؤكد.
(15)
المزاود: أوعية طعام المسافرين.
(16)
صر أذنيه: نصبهما للسماع.
(17)
حمحم: صهل بقلق.
(18)
همهم: ردد صوته من شدة الخوف.
(19)
تكعكعت: أحجمت وتأخرت إلى الوراء.
(20)
الشكال: حبل تشد به قوائم الدابة وهو خاص بالدواب.
(21)
العقال: حبل يعقل به البعير في وسط ذراعه وهو خاص بالأباعر.
(22)
جربان السيف: غمده.
(23)
زردق كجعفر بزاي فراء، وبراء فزاي: الصف القيام من الناس، قال أبو الطيب - يصف فتك سيوف جيش ممدوحه بعدوهم -: لقد وردوا ورد القَطَا شفراتها / ومروا عليها رزدقًا بعد رزدق.
(24)
يتظالع: يتغامز من الظلع وهو عرج قليل ، والمجنوب: المصاب بذات الجنب.
(25)
الهجار: حبل يشد في رسغ البعير إلى حقوه.
(26)
النحيط: الزفير.
(27)
البلاعيم: مجاري الطعام في الحلق.
(28)
الوميض: لمعان البرق الخفيف.
(29)
الرسغ: كقفل وبضمتين: الموضع المستدق بين الحافر وموصل الوظيف من اليد والرجل ومفصل ما بين الساعد والكف، والساق والقدم ومثل ذلك من كل دابة والنقيض: صوت المفاصل ومنها الأرساغ وكذا صوت الأصابع والأضلاع والرحال وما في معناها.
(30)
الهشيم: النبات اليابس.
(31)
للصريم معانٍ كثيرة أوجهها هنا: الأرض المحصود زرعها فهو يشبه صوت أرساغه بصوت خابط الهشيم وواطئ الصريم ، والخبط: الوطء الشديد ، والمجن: الترس ، والمسن: ما يسن عليه يعني أن وجهه لا لحم عليه.
(32)
سجراوان: مشوب بياضهما بحمرة.
(33)
القصرة كبقرة: أصل العنق إذا غلظت.
(34)
الربلة: الكثيرة اللحم.
(35)
اللِّهْزِمة (كعكرمة) بالكسر: عظم ناتئ في اللحي تحت الأذن أو مجتمع اللحم بين الماضغ والأذن، ورهلة: مسترخية.
(36)
الكتد: الكاهل أو مجتمع الكتفين ومغبط: محبوك أو مرتفع.
(37)
الزور: وسط الصدر، ومفرط: ممتلئ وهو مجاز والأصل فيه أن يستعمل للغدير ونحوه فيقال: غدير مفرط أي ملآن ماءً.
(38)
كف شثنة: غليظة، والبراثن جمع برثن كقنفد: هي من السباع كالأصابع من الإنسان.
(39)
مخالب الأسد: أظافره، والمحاجن جمع مِحجن كمنبر: وهو العصا المنعطفة الرأس قوله ثم ضرب إلخ عطف على قوله فأقبل يتظالع إلخ.
(40)
أرهج: أثار الغبار.
(41)
المعاول: الفئوس العظيمة.
(42)
مفلولة: مثلمة.
(43)
أشدق: عظيم الشدقين.
(44)
تمطى: تمدد وتبختر.
(45)
حفز وركيه برجليه: دفعهما بهما وهو مُثنى ورك ككتف: هي ما فوق الفخذ.
(46)
أقعى: جلس على أليتيه، ونصب فخذيه، واقشعر: ارتعد.
(47)
اكفهر: كلح وعبس.
(48)
الجهم الوجه: الغليظ السمج وتجهمه: قابله بوجه جهم، وازبأر: تنفش وتهيأ للشر.
(49)
الجزارة كنخالة: أطراف الجزور وهي اليدان والرجلان والرأس.
(50)
وهصه: رماه وضرب به الأرض.
(51)
أقعصه: قتله مكانه وأجهز عليه.
(52)
قضقض متنه: كسر ظهره وبقر بطنه: شقَّه.
(53)
يالغ: يشرب بطرف لسانه.
(54)
ذمره على الشيء: حثَّه عليه لائمًا أو معنِّفًا ليجد فيه.
(55)
لأي: بطء.
(56)
مقشعر الزبرة: منتصب شعر ما بين الكتفين وهي لبدته.
(57)
الشيهم كبيرق: القنفذ العظيم، والحولي: الذي مر عليه الحول.
(58)
اختلج: انتزع واجتذب.
(59)
الأعجر: الممتلئ جدًا أو عظيم البطن ، والحوايا: الأمعاء.
(60)
تزايلت: تباينت وانفصلت ، وأوصاله جمع وصل كنسر: وهي المفاصل أو مجتمع العظام.
(61)
الأوداج: العروق التي تقطع بالذبح.
(62)
نهم بمعنى نحم: أي تنحنح ، وقرقر: هدر وزأر.
(63)
زفر: أخرج صوته يمده بصوت ، وبربر: صوت.
(64)
زأر: صات من صدره ، وجرجر: ردد صوته في حنجرته.
(65)
اصطكت: اضطربت.
(66)
الأطيط: صوت الرحل الجديد وما يشبهه وصوت الظهر والجوف عند الجوع ، وأطَّت الإبل: أنَّت من التعب أو الحنين.
(67)
التحميج: هو نظر الفَزِع المذعور والمتحير المبهوت، فالأول يكون بدوران الحدقة ، والثاني يكون بإدامة النظر مع فتح العينين، وكلاهما يصح هنا.
(68)
انخزلت المتون: أي انكسرت الظهور.
(69)
المصلخدّ: المنتصب قائمًا، الشموس: الممتنع لا يمكِّن منه أحدًا، الخنابس: الكريه المنظر والقوي الشديد الثابت، وهو من أسماء الأسد.
(70)
يدل بالشيء: يجترئ بسببه، يقال: أدلّ بقوته وسلطانه، وأدلت بحسنها وجمالها،
والأشداق: نواحي الفم، وقلصها: فرجها وزواها بنحو التكشير.
الكاتب: أديب متنكر
نقد شرح ديوان أبي تمام
تابع لما في الجزء الثاني
(ص233)
شاكي الجوانح من خلائق ظالم
…
شاكي السلاح على المحب الأعزل
(شاكي السلاح: تام السلاح) قولهم: شاكي السلاح إما أن يكون من
الشوكة فيكون أصله شائك ومعناه حديد السلاح ماضيه ، وإما أن يكون من الشك
ويكون أصله شاكك ومعناه حامل السلاح. فالتمام ليس من معنى شاكي كما هو
ظاهر.
(ص254)
رأيتك للسفْر المطرَّد غاية
…
يؤمونها حتى كأنك منهل
(السفْر: السفَر سكنت الفاء ضرورة والمطرد: الطويل) السفر هنا ليس
أصله مفتوح الفاء فسكنه وإن مصدر، كما يفهم من قول الشارح وإنما هو بسكون
الفاء من الأصل؛ لأنه جمع سافر كصحْب جمع صاحب يقال: نحن قوم سفْر أي
مسافرون، والمطرد اسم مفعول لطرده عن البلد بمعنى أبعد يقال: فلان مشرد مطرد
وهو نعت لسفر باعتبار لفظه كما أن يؤمون عاد إليه باعتبار معناه. والمطرد إنما
يكون بمعنى الطويل إذا أجري على اليوم نعتًا يقال: يوم مطرد أي طويل كامل تام
يقول الشاعر: إن المسافرين الذين شردهم عن أوطانهم البؤس والشقاء يؤمونك كما
يؤم العطاش المناهل.
(ص254)
وإلا تكن تلك الأماني غضة
…
ترفّ فحسبي أن تصادف ذبلا
(ذبلاً: يابسة) يقول الشاعر: إذا لم أصادف أماني غضة طرية فإني
راضٍ أن تكون ذابلة لا غضة ولا يابسة ، وقد بينا معنى الذبول في الكلام على
بيت صحيفة 228 وتفسير الذبول هنا باليبس فضلاً عن كونه لا يصح لغة لا
ينطبق على قصد الشاعر ولا يلائم غرضه، فإن ما يريد الإنسان ويتطلبه لا يسميه
أمنية ما لم يكن فيها شيء من الفائدة والنفع ولو قليلاً ، وتلك القلة كنَّى عنها الشاعر
بالذبول فلو أراد بالذبول اليبس كان كناية عن خيبته وعدم نيله لأمانيه وقوله
(حسبي) ينافي هذا كما لا يخفى.
(ص269)
قُدعتم فمشيتم مشية أممًا
…
كذاك يحسن مشي الخيل باللجم
(قدعتم: لجمتم) لعل صوابه: ألجمتم لأنه يقال: ألجمت الفرس لا لجمته.
ثم إن تفسير القدع بالإلجام لا أراه صحيحًا ، وإرادة معناه الموضوع له نهاية في
الحسن. القدع: الكف قدعه فانقدع وقدعت الفرس إذا كففته بلجامه لتنهنه من حدة
جريه فالشاعر يقول: ردعتم عن مرامكم وكففتم عن غيكم كما تكف الخيل بلجمها
فتمشي مشيتها المعهودة.
(ص271)
أرض مصرّدة وأخرى تثجم
…
تلك التي رزقت وأخرى تحرم
(مصردة: لا شجر بها) الأرض التي لا شجر بها يقال لها: مِصراد
كمفتاح لا مصردة ، أما المصردة هنا فمن التصريد ومعناه التقليل ، وصرد له
العطاء قلله ، وصرد السقي قطعه دون الري وشراب مصرد مقلل.
قال النابغة:
وتسقي إذا ما شئت غير مصرد
…
بصهباء في حافاتها المسك كارع
وقرن الإثجام بالتصريد هنا مثل قرن الوابل بالطل في الآية الكريمة.
(ص294)
وبالخدلة الساق المخدّمة الشوى
…
قلائص يتبعن العبنَّى المخدّما
(المخدمة: المستديرة التحجيل فوق الأشاعر) ما ذكره لا يصلح هنا لا في
تفسير الكلمة الأولى (المخدمة) ولا في تفسير كلمة القافية (المخدما) لأن ما ذكره
من صفات التحجيل وهو للخيل. وكلمة القافية جارية على العبنى وهو العظيم من
الجِمال كما قال الشارح وهي من الخَدَمَة (محركة) سير غليظ يشد في رسغ البعير ،
أما المخدمة الواقعة في الشطر الأول ، وفسرها الشارح بما فسر فهي وصف
للغادة التي وصفها بامتلاء الساق ثم قال: إن شواها أي يديها ورجليها مخدمة أي
مخلخلة؛ لأن الخدمة أيضًا تأتي بمعنى الخلخال كما تأتي بمعنى السير المذكور ،
ومعنى البيت أن المنزل تبدل قطينه فبعد أن كانت تمرح فيه الغواني ذات الخلاخيل
صارت ترتع فيه النياق اللائذة بفحلها المشدود الرسغ بالسير.
(ص303)
قد قلصت شفتاه من حفيظته
…
فخيل من شدة التعنيس مبتسما
(قلصت: كمدت) الكمد والكمدة تغير اللون وذهاب صفائه ، وليس هذا
المعنى من التقليص في شيء. والتقليص له معان وإذا أسند إلى الشَّفَة فقيل:
تقلصت شفته أو قلصت - كان بمعنى انزوت وتشمرت علوًا ، وهذا ما أراده
الشاعر.
(ص323)
ويوم المصدفية حين ساموا
…
أنو شروان خطبًا غير هين
(ساموا: أذاقوا) سام فلانًا الأمر كلفه إياه وسامه خسفًا أولاه إياه وأراده
عليه ، وهذا المعنى في السوم مجاز كما في الأساس ، وأصله أن يحاول صاحب
السلعة بيعها بثمن ويريده مشتريها على أقل منه. فقول شاعرنا هنا من قبيل السوم
المجازي أي أرادوا أنو شروان على التوسط في خطب اعتدوه له ، وهو يحاول
التفصي منه لأنهم أذاقوه إياه ، وإذا فسرنا الكلمة هنا بالإذاقة نكون حمَّلناها ما لا
طاقة لها به لا حقيقةً ولا مجازًا.
(ص324)
تآمرت نكبات الدهر ترشقني
…
بكل صائبة عن قوس غضبان
(تآمرت: اتفقت) تآمروا تشاوروا كأتمروا ، وإسناد التآمر إلى النكبات
إسناد مجازي لطيف. وتفسير التآمر بالاتفاق عدول بالكلمة عن معناها المستعملة
فيه واللائق بها هنا. وإذا قيل: إن التشاور على الرشق لا يقتضي الرشق بالفعل
قلنا: والاتفاق عليه لا يقتضيه أيضًا وإنما هو شيء يفهم من المقام.
(ص344)
أميلوا العِيس تنفخ في بُراها
…
إلى قمر الندامى والنديّ
(البُرى: التراب) البرى بضم الباء جمع برة وهي حلقة تجعل في أنف
البعير تكون من صفر ونحوه ومنه قول المقصورة (يرعفن بالأمشاج من جذب
البرى) ، والعيس إذا أوضعت في السير تجعل تنفخ ونفخها يمر على تلك الحلقات
المعلقة في أنوفها لا التراب الذي على الأرض على أنه لا معنى لإضافة التراب إلى
العيس.
(ص413)
كالليل أو كاللوب أو كالنوب
…
منقادة لقادر غربيب
(اللوب: الإبل السود) اللابة: الإبل المجتمعة السود على أنه لا يمكن أن
تراد الإبل السود هنا قط لئلا يكون من قبيل تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن الشاعر إنما
يصف الإبل ويظهر من تشبيهه لها بالليل والزنج أنها كانت سوداء فكيف يشبهها
وهي سود بالإبل السود. وإنما اللوب هنا جمع لوبة وهي الحَرة ، والحرة بفتح
الفاء أرض ذات حجارة سوداء ومنه قولهم: أسود لوبي نسبة إليها وتسمى الحرة
أيضًا لابة ومنه لابتا المدينة.
هذا ما أردت محادثة الشارح فيه أو مؤاخذته عليه مما سبق من الخاطر الكليل
لأول وهلة ، ويخيل لي أنه لو بالغ منتقد في انتقاده لعثر على أكثر مما عددته عليه
وقد أضربت عن كثير مما غلب على ظني تحريفه أو تصحيفه كقول الشاعر
(ص 27) :
فضربت الشتاء في أخدعيه
…
ضربة غادرته قودًا ركوبًا
فقال الشارح: (القود: البعير المسن) والصحيح أن القود بالقاف: الخيل، أما
البعير المسن فيقال له: العود بالعين المهملة. وأظهر من ذلك قول الشاعر في
(ص449) :
قضيب من الريحان في غير لونه
…
وأم رشا في غير أكراعها الخمش
فقال الشارح: (الخمش: المخدشة) والصواب أن الكلمة في البيت مصحفة
عن الحمش بالحاء المهملة وهي جمع أحمش الدقيق الساقين أي ضئيلهما ، وقد
حمشت ساقه وهو حمش الساقين ، ومنه قول الحماسي يهجو امرأة:
وساق مخلخلها حمشة
…
كساق الجرادة أو أحمش
ومثله ما في (ص35) :
كالأجدل الغطريف لاح لعينه
…
خزر وأنت عليه مثل الأجدل
فقال الشارح: (الخزر: الحساء الدسم) مع أن الأجدل - الذي هو الصقر -
لا يأكل الأطعمة الدسمة ولا ينقض عليها وإنما الكلمة خزر كصرد ولامها زاي لا
راء ومعناها ذكر الأرانب ، وهو من طعام الأجادل يقول: إن الشاعر على صهوة
فرسه كالصقر يعلو صقرًا رأى أرنبًا فجدَّ في أثره.
ونظيره أيضًا ما في (ص256) :
أبا جعفر إن الجهالة أمها
…
ولودٌ وأم العلم جذاء حائل
فقال الشارح: (جذاء: بلا ثدي) فسرها على كونها من الجذ بالذال المعجمة
وهو القطع ، وإنما هي جداء بالدال المهملة وهي المرأة الصغيرة الثدي والذاهبة
اللبن لعيب خلقي في ثديها وقوله (حائل) يؤيد هذا المعنى.
على أن الشارح حفظه الله تساهل في تفسير كثير من الكلمات تساهلاً ربما لم
يرضِ نقاد اللغة ولم يستجيزوه من مثله مثل قوله (منى) جمع أمنية، (جيش
أزب) متجمع، (السنان) الرمح، (الأيكة) الشجرة، (أحرج) أجبر،
(الحديث سرار) سر، (الصبر) الدواء المر، (الفرند) السيف، (الصفاة)
الصوانة، (تهفو خلائقه) تضطرب، (يجم) يترك، (الطوَل) الحبل الطويل،
(سيديل) سينتقم، (المعرس) المنزل، (الاصطلاء) الالتهاب، (الوابل)
المطر، (البنان) الأصابع، (لاحب) طريق مُزجاة كاسدة، (النكال) المصيبة،
(الهنات) الأمور، (شكائم) انتصارات، (اقتضى) طلب القرض، (يخترمن)
يخترقن - في نظائر ذلك مما كان من باب التفسير بالأعم أو بالأخص أو باللازم ،
وهو ما يأباه المدققون في اللغة ويرون التسامح فيه غلطًا فاحشًا وجريمة لا تُغتفر.
بقي لي كلمة لا أحب أن أبلغ بالكلام آخره ما لم أحدث بها حضرة الشارح
وهي أني عددت عليه كلمات هي من قبيل المشترك وقد فسرها بمعناها غير المراد
للشاعر كتفسيره للبرى بأحد معنييه وهو التراب مع أن المراد معناه الآخر كما مر
آنفًا ، فإن ذهب حضرة الشارح إلى أن تفسيره للمشترك بغير المراد منه غير
موضع للانتقاد لكونه لم يخالف فيه أصل وضع اللغة وأنه في ذلك لم يخرج عن
كونه شارحًا لديوان أبي تمام وعدَّ مؤاخذتي له على تلك الكلمات مؤاخذة في غير
محلها وعلى غير الوجه الذي أعلنه في طلب الانتقاد - إن زعم ذلك كان من يفسر
قوله تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} (الغاشية: 12) بقوله: العين: الباصرة،
والجارية: الفتاة! - يصح أن يسمى مفسرًا للقرآن وشارحًا لكلام الله تعالى،
وكنت إذ ذاك جديرًا بسحب الكلام وطلب العفو والسلام. اهـ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(كتاب الجواب الصحيح لمَن بدَّل دين المسيح)
طُبع منذ سنة أو أكثر هذا الكتاب النفيس لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه
الله تعالى وهو أربعة أجزاء ، وقد كتبه ردًّا على كتاب أذاعه النصارى في عصره؛
فعلمنا أن القوم هم الذين كانوا يعتدون في الماضي كما يعتدون في هذا العصر وما
كانوا إلا محجوجين في كل زمان.
ذكر المؤلف في مقدمة كتابه أن ذلك الكتاب ورد عليهم من قبرص وأنه مؤلف
من ستة فصول:
(1)
في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يُبعث إليهم بل إلى الجاهلية من
العرب.
(2)
أنه أثنى في القرآن على دينهم بما أوجب أن يثبُتوا عليه.
(3)
أن نبوات الأنبياء المتقدمين تشهد لدينهم الذي هم عليه فوجب ثباتهم
عليه.
(4)
أن ما هم عليه من التثليث ثابت بالعقل والنقل.
(5)
أنهم موحدون!
(6)
أن المسيح جاء بعد موسى بغاية الكمال فلا حاجة بعده إلى شرع.
وقد أورد كلامهم في كل فصل وردّ عليه بالعقل والنقل من كتبهم فدل على أنه
كان مطّلعًا عليها أتم الاطلاع ، وأيد بيان الحق في جميع المسائل بآيات الكتاب
العزيز والأحاديث النبوية بما يعهد في كلامه من البسط والإيضاح. وفي هذا
الكتاب من الفوائد النادرة في العلم والتاريخ وإيضاح المشكلات الغامضة في الدين
وغيره ما لا يوجد في كتاب سواه ، ومن أعظم مواضع العبر في الكتاب ذلك الفصل
الذي عقده في الجزء الرابع لبيان وجوه العدل ومقصود العبادات وتفضيل هذه في
الأمة على أهل الكتاب بالعلم والعمل.
قال: (فأما العلوم فهم - يعني المسلمين - أحذق في جميع العلوم من جميع
الأمم حتى العلوم التي ليست بنبوية ولا أخروية كعلم الطب مثلاً والحساب ونحو
ذلك (أي من العلوم الكونية، طبيعية ورياضية) هم أحذق فيها من الأمتين
ومصنفاتهم فيها أكمل بل هم أحسن علمًا وبيانًا لها من الأوائل الذين كانت غاية
علمهم. وقد يكون الحاذق فيها مَن هو عند المسلمين منبوذ بنفاق وإلحاد ولا قدر له
عندهم ، لكن يحصل له بما يعلمه من المسلمين من العقل والبيان ما أعانه على
الحذق في تلك العلوم فصار حثالة المسلمين أحسن معرفة وبيانًا لهذه العلوم من
المتقدمين) ! .
ثم ذكر براعة المسلمين في العلوم الإلهية والأخلاق والسياسة الملكية والمدنية
وانتقل من هنا إلى بيان المقصود من العبادة عند المتفلسفة وغيرهم، ولا شك أن
المسلمين كانوا إلى عهده أكمل الأمم في علوم الدين والدنيا. فماذا عساه يقول لو
خرج من قبره ورأى حالة المسلمين اليوم في العلم وكيف وصلوا إلى درجة صاروا
يحاربون فيها العلوم باسم الدين وصارت حثالة أهل الكتاب أعلم من أشهر علمائهم
في هذه العلوم التي كانت حثالة المسلمين أعلم بها وأحسن بيانًا من علمائهم؟ ! .
هل انقلبت الحال واستحالت طبيعة الإسلام أم المسلمون اليوم أوسع علمًا
وأشد اعتصامًا بالدين من سلفهم منذ اشتغلوا بعلوم الدين في القرون الأولى إلى زمن
ابن تيمية المتوفى سنة 728 ولذلك ظهر لهم ما لم يظهر لسلفهم من منافاة الاشتغال
بالعلوم الدينية لتحصيل العلوم الكونية؟ ! .
لا يتجرّأ أحد منهم على هذه الدعوى فليعتبر المسلمون بماضيهم وحاضرهم
وبمخالفة خلفهم الطالح لسلفهم الصالح.
هذا وإن الكتاب يباع عند أحد طابعيه الشيخ مصطفى القباني بخان الخليلي
وفي مكتبة المنار ، وثمن النسخة منه مجلدة اثنان وعشرون قرشًا صحيحًا.
***
(ضوء الصبح المسفر)
أَحَسِبَ الناس أن المسلمين لم يصنفوا فيما يسمى عند أهل الغرب بعلم أدب
اللغة وتاريخ اللغة؟ ! ولو اطَّلعوا على ما أبقت عليه حوادث الزمان من كتب سلفنا
في دارنا وما جذبته مغناطيسية العلم والعمران منها إلى ديار أوربا؛ لعلموا أن القوم
ما غادروا متردّما فقد أوفوا على الكمال في بعض العلوم والفنون أو قاربوا ،
ووضعوا لبعضها الأسس لنبني أو بنوا لنُتم ونكمل فنقصنا ما كملوا وهدمنا ما بنوا
وعفونا تلك الأسس حتى جهلنا مكانها!
هذا كتاب (صبح الأعشى في كتابة الإنشا) من أنفس الكتب المطولة في
أدب اللغة وتاريخها وضعه الشيخ أحمد بن علي القلقشندي المصري المتوفى سنة 821 ، وهو يدخل في سبعة أسفار عظيمة عني ناظر دار الكتب المصرية
(الكتبخانة الخديوية) بطبعها على نفقتها ولكنه لا يطبع منه إلا نسخًا قليلة يريد حفظ
بعضها في دار الكتب وتوزيع باقيها على دور الكتب في أوربا.
وللكتاب مختصر للمؤلف سماه (ضوء الصبح المسفر) أودعه صفوة مسائله
وخلاصة مباحثه فكان سفرين عظيمين نشده محمود أفندي سلامة فوجد جزءًا منه
فطبعه طبعًا حسنًا بحرف مثل حرف المنار على ورق أنظف من ورقه ، وقد
ناهزت صفحاته نصف الألف وهو مشتمل على مقدمة وعشرة أبواب وخاتمة. وفي
الأبواب فصول.
أما المقدمة ففي مبادئ يجب تقديمها على الخوض في كتابة الإنشاء. وفيها
خمسة أبواب أربعة منها في التعريف بحقيقة ديوان الإنشاء وأصل وضعه في
الإسلام واستقراره بدار الخلافة وتفرقه بعد ذلك في الممالك وفيه فصلان ، والخامس
في قوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله ورتبة صاحب الديوان وصفاته الواجبة فيه
وآدابه وأرباب وظائفه من الكُتاب وغيرهم في القديم والحديث وفيه أربعة فصول.
وأما المقالة الأولى ففي ما يحتاج إليه الكاتب وتدعو إليه ضروراته وفيها بابان.
وأما الثانية ففي ما يحتاج إليه من معرفة أحوال الأرض وجهاتها ورياحها وفيه ثلاثة
أبواب. ولو أردت أن أسرد للقارئ ملخص فهرس هذا الجزء على هذا النحو لقال:
إنه لم يترك شيئًا يشتاقه طالب الأدب والتاريخ في هذا الموضوع إلا وخاض فيه
لا سيما الأمور الرسمية كالأسماء والكُنَى والألقاب والنعوت ورقاع كاتب السر
وقوائم الوزارة ومربعات الجيش والمناشير والإقطاعات والمستندات والبيعة والعهود
والتقاليد والتعاويض والمراسيم والتواقيع وما يتعلق بالحرب والهدن والصلح والأمان
من الاصطلاحات وغير ذلك من الأمور الرسمية وغير الرسمية كمكاتبات الإخوان
والتهاني والتعازي والبشارات والشفاعات وكالأدوات الفنية ومنها: آلات الدواة
وهي خمس عشرة ، ومنها الكلام في الورق وأشكاله. وجملة القول إنه لا يستغني
أديب ولا مؤرخ عن هذا الكتاب.
وهو يطلب من ناشره في مطبعة الواعظ بدرب الجماميز ، وثمن النسخة منه
ثلاثون قرشًا صحيحًا وانتقدنا على ناشره أن نشره بغير جدول للفهرس فوعد بجمع
الفهرس وطبعه.
***
(تربية المرأة والحجاب)
قد صادف هذا الكتاب من الرواج ما أنفد نسخ الطبعة الأولى منه فأعاد مؤلفه
(محمد طلعت بك حرب) طبعه على نفقته إجابة لكثرة الطالبين له ، وقد افتتح
الطبعة الثانية بمقدمة أودعها ما كتبناه في المنار تفسيرًا لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228) مقتبسًا من دروس الأستاذ رحمه الله
تعالى وختمها بعلاوة هي عدة مقالات من مقالاتنا التي نشرناها في المنار تحت
عنوان (الحياة الزوجية) فكانت زيادة هذه الطبعة على الأول بنحو ربع الكتاب
فصارت صفحات الكتاب مائتي صفحة كصفحات المنار ولم يزد مع ذلك في ثمنه
شيئًا ، فثمن النسخة من الطبعة الجديدة ستة قروش صحيحة ، وأجرة البريد قرش
ونصف ويباع بمكتبة المنار.
هذا وإننا نذكر ما قاله في أول مقدمة هذه الطبعة تعريفًا بالغرض من هذا
الكتاب. قال - بعد البسملة والحمد والتصلية -:
(وبعد: فقد كان من فضل الله علينا وعلى الناس أن وفقنا لجمع هذا
الكتاب، الذي تلقاه بالقبول أولو الألباب لدعوته إلى تربية المرأة على أصول
الديانة الإسلامية، مع مراعاة حال العصر والتوقي من شرور المدنية الغربية، تلك
المدنية التي أصلحت في الأقطار الغربية وأفسدت، ولكنها أفسدت في البلاد الشرقية
وما أصلحت؛ إذ فُتن الناس بشر ما جاءت به، وطفقوا يتركون لأجلها خير ما كانوا
عليه! .. لما رأينا كتابنا هذا (تربية المرأة) قد انتشر في الأمصار، وتنقل
في الأقطار، حتى نفدت نسخ طبعته الأولى، وتوجهت الرغبة إلى طبعه مرة
أخرى، رأيت أن أزيد في فوائده ومسائله، وأضم إليه شيئًا من أحاسن الكلام
وعقائله، وكنت قرأت في مجلة (المنار) الإسلامية مقالات في (الحياة الزوجية) ،
لمنشئها الذي نعترف - مع حضرة قاسم بك أمين - بأن جميع الناس يعرفون مكانه
من العلم والدين فاخترت أن أجعلها خاتمة للكتاب؛ لأنها في الموضوع لب اللباب.
ثم قرأت في باب التفسير من المنار كلامًا عاليًّا، وهديًا سماويًّا ساميًّا، في
تفسير قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
…
} (البقرة: 228) الآية. وهو
مما كان اقتبسه صاحب (المنار) من دروس الأستاذ الإمام، حكيم الشرق وحجة
الإسلام، الشيخ محمد عبده عليه الرحمة والسلام ، فاخترت أن أقتبسه في فاتحة
هذه الطبعة ، وهاكه نقلاً عن الجزء العاشر من مجلد المنار الثامن (الصادر في 16
جمادى الأولى سنة 1323) . اهـ) وذكره.
فغرض المؤلف أن تُربَّى البنات تربية دينية ويعلمن ما تحتاج إليه البيوت مع
الاحتراس من غوائل المدنية الغربية، ويا نعم الغرض!
***
(بحر الآداب)
هو كتاب في الآداب العربية لأحد جمعية الإخوة (الفرير) المعروف (بالأخ
بلاج) مفتش اللغة العربية في مدارس الجمعية ، وقد أهدى إلينا القسم الأول من
الجزء الخامس مطبوعًا فإذا هو مفتتح بتمهيد يليه فصول في طريقة تعليم الإنشاء
وتعلمه وأركانه وآدابه ، ويلي ذلك أبواب ومباحث في المادة التي تعين على ذلك
كالكلام في العلم والعقل ومختارات من نثر الأولين وشعرهم في الجاهلية والإسلام ،
وإذا هو مختتم بمباحث في حال اللغة على عهد الدولة الأموية والعباسية. ويدل
الكتاب على أن المؤلف ذو ذوق في حسن الاختيار وحذق في كيفية التأليف فكتابه
هذا نافع لطالبي آداب هذه اللغة إن شاء الله تعالى.
***
(تحرير مصر)
كتاب إنكليزي لا يُعرف مؤلفه ، ترجمه بالعربية وطبعه في هذا العام محمد
لطفي أفندي جمعة المحرر بجريدة الظاهر ، وهو مؤلَّف من مقدمة يبين المؤلف فيها
حال مصر في القرن التاسع عشر وسياسة فرنسا وإنكلترا فيها ، ومن أربعة فصول
اثنان منهما في علاقة الدول بمصر والثالث في سياسة بريطانيا الاستعمارية في
مصر وغيرها والرابع في (المركز الكاذب لبريطانيا العظمى في مصر) وفيه
مبحث استقلال مصر لأنها مملكة حية وبلوغها سن الرشد ومنحها الحرية
والاستقلال. ويليه الخاتمة في بيان أن أنفع حل للمسألة المصرية هو منح مصر
الحرية؛ لأن مستقبل أفريقية متعلق بتحريرها ورأي جريدة الطان في ذلك.
هذا ملخص التعريف بالكتاب ، ومنه يعلم أنه لا غنى لقارئ مصري عن
الاطلاع عليه ليعرفوا رأي القوم فيهم ، ولعل مؤلف هذا الكتاب هو أحسن
الأوربيين انتصارًا لهم ، وقد كتم اسمه لتعرف قيمة كتابه لذاته فكان أقرب إلى
الإخلاص من بعض أحداث المصريين الذين لا يقولون ولا يكتبون كلمة في ذلك إلا
ويقولون ألوفًا من الكلم والافتخار والتبجح بها! .
افتتح المؤلف مقدمة كتابه بقوله: لقد صدق اللورد ملنر في قوله: (إن مصر
بلد التناقض والتخالف ، فإنه لا يوجد في العالم بلد فيه ما في مصر من الحقائق
والأفكار المتناقضة المتباينة ، وقد يصل هذا التناقض إلى حد مدهش فيصير
مضحكًا!) فيليق إذن بمن يرقب أمور هذه البلاد ويشاهد أحوالها أن يكون متنبهًا
أبدًا متوقّيًا لئلا يلقيه حسن الظن والإسراع في الحكم في الخطأ والندم. اهـ المراد
منه.
وما أظن أن المؤلف على حذره وتوقيه قد سلم في الخطأ في بعض أحكامه.
وقد أحسن مترجم الكتاب؛ إذ قال في مقدمة الترجمة: ويعز علينا أن نقول: إن
هذا الكتاب ليس إلا (كأس ملام) يسقيه الأجنبي لأفاضل مصر وعلمائها الذين
أسكتهم الكسل وقبض الخمول على أقلامهم بيد من حديد. اهـ. وأحسن من هذا
أن تسقي الكأس من أقعدهم الكسل والخمول عن العمل لا من أسكتهم عن القول فإن
العمل قد ينفع بلا قول ولا ينفع قول بغير عمل. والعمدة في تحرير مصر على
حياتها بنفسها حتى تكون بنية صحيحة قوية فقد قال حكيمنا السيد جمال الدين:
(العاقل لا يظلم لا سيما إذا كانت أمة) .
وجملة القول: أنه ينبغي لكل مصري قراءة هذا الكتاب والاعتبار به مع
العلم أنه لا ينفعنا شيء إلا التربية الاستقلالية الملية والعلم والاقتصاد وأن لا حياة
لقوم لا همّ للأكثرين منهم إلا التمتع باللذات والاهتمام بأشخاصهم دون أمتهم أولئك
هم الذين إذا أعتقهم يسترقهم مستعبِد يسترقهم مستعبد، فليطلب المصريون تحرير
أنفسهم من أنفسهم بالعمل لا من إنكلترا بقول قائل أو كتابة كاتب يخاطب مَن لا
يسمع وإن سمع لا يملك أن يجيب كما فعل الشيخ توفيق البكري يخاطب ولي عهد
إنكلترا بالمؤيد ، فحسب إنكلترا أن تبيح لهم كل عمل ومن لا يعمل لنفسه كان من
الحماقة أن يطالب أجنبيًّا ملكه بأن يحرره! وهذا لا يمنع وجوب تذكير لجرائد الأمة
بطلب الاستقلال والاستعداد له.
وثمن الكتاب عشرة قروش وأجرة البريد قرش واحد ، وهو يطلب من مكتبة
المنار بشارع درب الجماميز.
(قاموس إنكليزي عربي)
يشتمل على ثلاثين ألف كلمة إنكليزية ونيّف
(وضعته إدارة المكتبة العمومية لسليم أفندي، صادر في بيروت)
سبق لنا كتابة تقريظ لهذا القاموس في السنة الماضية لم ينشر ، بل لم تجمع
حروفه في المطبعة لأن ورقته قد سقطت من أيدي مرتِّبي الحروف كما أظن ، وقد
ذكَّرنا بعد ذلك مذكر منا بأنه أخرج من بين الكتب التي يراد تقريظها أو التعريف
بها ولم يكتب عنه شيء في المجلة. ومما أذكر من الكتابة الأولى بيان تفسيره
بعض الكلمات العربية بمرادفها العامي. وطبع الكتاب متقن وورقه نظيف وشكله
لطيف وصفحاته 624 ، ويباع بالمكتبة العمومية في بيروت.
***
(تقويم المؤيد لسنة 1324)
هذه هي السنة التاسعة لهذا التقويم فهو ترب المنار. وصاحبه محمد أفندي
مسعود يقترح في كل عام على القراء أن يرشدوه إلى ما يزيده إتقانًا، وقد كنا أول
من اقترح عليه وضع الفهرس للتقويم ، ونحن الآن نقترح عليه ثانيًا أن لا يجعل
الفهرس خاصًّا بالأبواب بل عامًّا للمسائل والمباحث التي يحتاج إلى مراجعتها ،
وإني أرى أنه إذا وضع للمباحث فهرسًا مرتبًا على حروف المعجم يكون ذلك مزيدًا
في فائدته وفي إقبال الناس عليه.
***
(الدين في نظر العقل الصحيح)
قد طبعت هذه المقالات التي نشرت في سنة المنار الماضية على حدتها
وأضيف إليها مقالة كاتبها (الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي) في حكمة تحريم
الخنزير أو نجاسته ونجاسة الكلب ، فكانت كتابًا يدخل في 176 صفحة من القطع
الصغير ، وثمن النسخة منها مع أجرة البريد ثلاثة قروش وتطلب من مكتبة المنار.
***
(مسامرات الشعب)
راجعت هذه القصص التي تصدرها مكتبة الشعب واشتهرت ، ولا غَرْوَ فهذا
الضرب من القصص المعروف بالروايات محبّب إلى جميع طبقات الناس ، فيجب
أن تتضاعف العناية بعد الآن بحسن اختيار قصص المسامرات المترجمة ، وأن
تؤلف لها قصص في انتقاد عادات البلاد الضارة لتكون جامعة بين الفكاهة والفائدة.
وقد كان آخر ما أهدي إلينا من هذه القصص: أهواء الشبيبة، عشيقة الملك، مقتل
هنري الرابع، الفؤاد الكليم، القاتل المتنكر، شرف الاسم، سر ولا سر،
والخنجر التركي.
فأما قصة مقتل هنري الرابع فخيرها ترجمة وفائدة سياسية ، وأما قصة سر
ولا سر وقصة الخنجر التركي الملحقة بها فخيرها نزاهة وفائدة أدبية ، وقد قرأنا
الثلاث كلهن والأخيرة تبين لك آراء الإفرنج وتخيلاتهم في الترك وعاصمتهم. وإننا
ننصح لصاحب المسامرات أن لا يقبل قصة تصف الرذائل والشرور وتشرح أعمال
الفجار الأرذلين بحال من الأحوال.
***
(خير الدين)
مجلة إسلامية عمومية مصورة تصدر في غرة كل شهر عربي، صاحبها
محمد الجعايبي مدير جريدة (الصواب) بتونس. وقد صدر العدد الأول منها في
غرة صفر مطبوعًا على ورق جيد مؤلفًا من 20 صفحة مصدرًا بصورة محمد
الهادي باشا باي تونس المعظم ، وفيه بعد الخطبة أن المجلة صدرت بهذا الاسم
لتكون كالتمثال المذكر بخير الدين باشا التونسي الوزير المصلح صاحب كتاب
(أقوم المسالك في أحوال الممالك) وبعد وجه التسمية صورة هذا الوزير العظيم
وترجمته ، تليها مقالة وجيزة في الحث على العلم، فنبذة في الشعر العصري جعلت
مقدمة لقصيدة من شعر محمد إمام أفندي العبد الشاعر المصري يخاطب بها الشرق،
وغير ذلك.
فنثني على همة رصيفنا الفاضل صاحب الصواب أن جمع بين السياسة والعلم
والآداب، ونتمنى له التوفيق في خدمته، والبلوغ بها إلى خير غايته.
***
(المنبر)
جريدة أسبوعية عمومية حرة، أصدرها في نيويورك عيد أفندي ميخائيل ذيبة
أحد أدباء السوريين في أوائل هذا العام الميلادي ، وهي من دلائل ارتقاء السوريين
الأدبي في تلك البلاد، فنتمنى لهم التوفيق والنجاح.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(مسألة العقبة)
بينا في الجزء الماضي أن حقيقة المسألة عسكرية لا إدارية تتعلق بالحدود
فهي أول وليد ولدته لنا سكة حديد الحجاز فالدولة العلية ترى أن إنكلترا تخاف
عاقبة هذه السكة على مصر فهي تريد اتقاء الخطر بإقامة المعاقل الحربية في شبه
جزيرة سيناء لأن محاربتها في مصر إذا هي دخلت فيها غير معقول وهي تخاف
من إنكلترا على سوريا والحجاز إذا هي جعلتها بقعة عسكرية باسم مصر ولذلك كان
السلطان غير راضٍ بإنشاء ناشط من السكة إلى العقبة ولما اضطر إلى ذلك
باستفحال الثورة في اليمن رأى أن إنكلترا أنفذت الجنود المصرية إلى العقبة للبناء
كما قيل ورأت الجنود المصرية ومن يقودها من الإنكليز أن العساكر العثمانية
بالمرصاد فظهر الأمر وبدأ الخلاف بالشكل الذي عرفه الناس وهو أن الترك قد
اعتدوا الحدود المصرية ولعل الذي نبه الترك إلى أخذ الحذر من الإنكليز هو تعيين
خمسة آلاف جنيه مصري في ميزانية مالية مصر باسم شبه جزيرة سيناء.
فهم الإنكليز من جعل العقبة تابعة لولاية الحجاز أن الدولة العثمانية تريد بذلك
أن تمنعها منهم بسياج ديني وهو إثارة سخط المسلمين في مستعمراتهم وغيرها
عليهم إذا مدوا أيديهم إليها وما كانت الدولة لتحسن استخدام هذه القوى المعنوية ولو
كانت تريد ذلك لما حال دونه جعل العقبة تابعة لسوريا؛ لأنها على كل حال من
جزيرة العرب التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا يبقى
فيها دينان، وأن يخرج منها يهود يثرب ونصارى نجران، وقد قاوم الإنكليز ما
توهموه من الدولة بإيهام من جنسه فأنشأوا يوهمون شعبهم وسائر الشعوب الأوربية
بأن السلطان يريد تهييج التعصب الإسلامي على المدنية الأوربية وربما وجدوا
لإيهامهم شبهة في ثرثرة أحداث السياسة في مصر الذين جعلوا اسم الإسلام والخلافة
ضيعة يستغلونها وإن أضاعوا الإسلام الذي لا يعرفون منه إلا اسمه! .
لولا أن الدولة العثمانية حذرة من عمل عسكري في سيناء باب سوريا
والحجاز لما بالت أن تزيد في مساحة ما سمحت به لمصر منها، ولولا أن إنكلترا
حذرة من تركيا على مصر لما عظمت من أمر الحدود المصرية ما عظمت، ولولا
أنها تتوقع هيجان مسلمي مصر أو ثورتهم إذا استحكمت حلقات الخلاف بينها وبين
تركيا لما أمرت بزيادة جيش الاحتلال. فإذا كان سبب النزاع هو ما يعبرون عنه
بسوء التفاهم فما أسهل سبيل الاتفاق مع حفظ شرف الدولتين وهو أن تعترف تركيا
بحدود مصر التي ذكرت في فرمانات تعيين الخديويين وفي تلغراف الصدر الأعظم
الملحق بفرمان عباس حلمي باشا الثاني وتتعهد إنكلترا بأن لا تعمل في شبه جزيرة
سيناء عملاً عسكريًّا، وقد أساءت الدولة المدخل فعسى أن تحسن المخرج.
نحن نعتقد أن الدولة العثمانية لا يخطر لها على بال - وهي في هذه الحال -
أن تزحف على مصر أما إنكلترا فلا يبعد أن تقصد إقامة المعاقل الحربية في شبه
جزيرة سيناء باسم مصر باعتبار مصر حكومة إسلامية لا تعد إقامتها على أبواب
الحجاز أو امتلاكها لجزء من الجزيرة مخالفة لوصية النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كان يكون ذلك بكل هدوء وسلام لو لم تعارضه الدولة العثمانية وتقاومها فيه
إنكلترا بعد عجز الحكومة المصرية وإنما نعني بالهدوء والسلام هدوء نفوس
المسلمين وسلامة قلوبهم. وأن تظفر إنكلترا بتركيا ظفرًا مبينًا وتلزمها بالاعتراف
بالحدود كما تريد وتجعل بعد أرض سيناء معسكرًا ولو مصريًّا فإن كل مسلم في
الدنيا يتألم ويضطرب قلبه ويظن بالدولة الإنكليزية ظن السوء ويتوقع الاعتداء على
الأرض المقدسة كل يوم وقد عرفنا من حكمة هذه الدولة في السياسة البعد عن جرح
الشعوب في قلوبها، وإن هي جرحتها في أبدانها ورؤوسها (مصالحها وحكامها) .
إن جميع عقلاء المسلمين يفضلون دولة إنكلترا على جميع الدول! ، وإذا
أيقنوا بأن قطرًا من أقطارهم واقع تحت سلطان أجنبي وكان لهم اختيار في الترجيح
فإنهم يرجحون بريطانيا العظمى على غيرها! . ويعتقد رجال الإصلاح منهم أنه لا
يمكن الإتيان بعمل يحيي الإسلام وينفع المسلمين في بلاد إسلامية غير مصر والهند
بل لا حرية للمسلمين في الدعوة إلى كتاب ربهم المنزل وسنة نبيه المرسل إلا في
هذين القطرين.
لبريطانيا العظمى أن تعتد هذا الاعتقاد عونًا لها على كل دولة تناوئها في
الشرق وعليها أن تحافظ عليه وتتحامى مواقف الظنة فيه فإن امتلاك القلوب
بالحكمة خير من امتلاك الرقاب بالقوة، ولتكن آمنة جانب المسلمين واثقة بتفضيلهم
إياها على غيرها مادام دينهم محفوظًا ومعاهده المقدسة آمنة اعتداء الأجنبي عليها،
أو تداخل غير المسلم فيها، ولا يصدنَّها عن هذا الاعتقاد تشدُّق المغررين بالغوغاء،
فالزبد يذهب جفاءً، وإنما الناس بالعقلاء والفضلاء.
***
(الأمير الخادم للفقراء)
(صاحب الدولة البرنس حسين كامل باشا رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية)
استدار الزمان وتغيرت أحوال العمران، وتبدلت الأوضاع، وارتقت شئون
الاجتماع، فصارت عظمة الأمراء والرؤساء محصورة في خدمة الدهماء، بعد أن
كانت قائمة باستعباد الفقراء، وامتصاص دماء الضعفاء، وما فتئ أمراء المسلمين
يرون أنهم من جنس أعلى من جنس الأمة، وأن شرفهم ذاتي لطينتهم لا لشرف
الملة، فهم يترفعون عن مشاركة الجمهور في المصالح العامة، ولو اعترف لهم في
ذلك بالمزايا الخاصة، حتى في مثل هذه البلاد التي زال منها الاستبداد، ووهن
الفخر بمجد الآباء والأجداد، وصارت المعارف والأعمال هي الميزان لأقدار
الرجال - حتى قام الأمير حسين كامل باشا عم عزيز مصر بإبطال تلك التقاليد
العتيقة، وسن للأمراء سنة حسنة جديدة.
أطمع أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية في اختيار هذا الأمير رئيسًا لها بعد
الأستاذ الإمام (رحمه الله تعالى) ما يعلمونه من بره للفقراء وعنايته بالمساكين
والضعفاء، وما سبق له من قبول رياسة الجمعية الزراعية، فعرضوا عليه رجاءهم
فيه فما تأبَّى، فدعوه لرياسة الجمعية فلبى، فاستبشرت نفوس العاملين واطمأنت
قلوب الفقراء والمساكين وشكرت له ذلك ألسنة المسلمين بل ألسنة الناس أجمعين! .
***
(تنصُّر المسلمين في قبرص!)
كتب إلى جريدة (ترك) من قبرص أن عددًا كثيرًا من مسلمي قرى الجزيرة
وضياعها قد تنصروا على أيدي الدعاة (المبشرين أو المرسلين) الذين يجيئون من
بلاد اليونان لدعوة المسلمين إلى النصرانية. وقد يعجب قراء المنار لمثل هذا الخبر؛
إذ يعتقدون أن الإسلام في قوة حقه وجلاء تعاليمه وموافقتها للعقل والفطرة لا
يمكن أن يختار عليها غيرها ويعهدون أن دعاة النصرانية يقضون في دعوة
المسلمين السنين، وينفقون في سبيلها الألوف والملايين، ولا يكاد يجيب دعوتهم
في كل بضع سنين، إلا واحد أو اثنان ممن أضناهم الفقر، ولم يبق لهم من الإسلام
إلا الاسم، وقد يزول هذا العجب إذا علموا أن أولئك المتنصرين كانوا نصارى
فأسلموا ولم يوجد فيهم من المعلمين والمرشدين من يحفظ عليهم دينهم فتمادى الجهل
بخلفهم حتى جاءهم من أهل جنسهم ولغتهم من يدعو إلى دين آخر لا يرون في
اتباعه عارًا؛ إذ ليس للمسلمين هناك شأن يربي في أفرادهم إحساس الشرف الملي
والنعرة الجنسية.
الدعوة الى الإسلام:
ليس للمسلمين أن يتأسفوا لمثل هذا الخبر تأسف العجائز والزمنَى أو يشفوا
غيظهم بذم الحكومة التي تبيح الدعوة إلى دينها إلا إذا كانت لا تبيحها لدينهم أيضًا
بل عليهم أن يعتبروا ويفكروا في حفظ الإسلام وصيانة شرفه.
وليعلموا أن أكبر عار عليهم وأقوى شبهة على دينهم أن تكون حرية الأديان
خطرًا وهم مشتركون في هذه الحرية مع غيرهم والحق يعلو ولا يعلى. وإن
يتفكروا يظهر لهم أن من الواجب المحتم عليهم إنشاء جمعية للدعاة والمرشدين
تجمع المال وتربي الرجال وتبثّهم في بلاد المسلمين التي غلب عليها الجهل
كقبرص وإفريقية للإرشاد وفي بلاد غير المسلمين للدعوة إلى الإسلام نفسه.
والدليل على وجوب هذا قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
***
(نهضة مسلمي روسيا وجرائدهم)
كتب إلينا صديقنا الشيخ محمد نجيب التونتاري في 16 ذي الحجة سنة
1323 ما نصه (وتأخر نشرها لتأخر دور السؤال الذي ورد معها) :
(إن حضرة الإمبراطور نيقولا الثاني منح الأهالي كثيرًا من الحقوق
كالحرية الدينية والوجدانية والشخصية والكلامية والاجتماعية وكثيرًا من المكرهين
(على النصرانية) عادوا إلى الإسلام رسميًّا بسبب ذلك وبمساعدة حرية الاجتماع،
حصل بين المسلمين اجتماعات عديدة في المحال المتعددة ذكروا في المسائل
السياسية الحاضرة بين الأهالي وغيرها. ويتصورون تأسيس جمعية عمومية
إسلامية في الروسية فيعد هذا دورًا جديدًا للمسلمين يؤمن منه الانقلاب الحسن في
مستقبل قريب إن شاء الله تعالى.
وإنه بمساعدة الحرية الكلامية ظهرت بيننا جرائد كثيرة في الأماكن المختلفة
وبلدة قزان مع كثرة المسلمين فيها لم تكن فيها جريدة واحدة والآن تصدر فيها خمس
جرائد:
(1)
قزان مخبري: جريدة سياسية علمية مالية تصدر في كل أسبوع ثلاث
مرات.
(2)
طان (صباح) كذلك.
(3)
يلدز (كوكب) وهي أيضًا جريدة واسعة البروغرام.
(4)
آزاد كذلك.
(5)
العلم والأدب مجلة علمية تصدر قريبًا.
وفي باغجه سراي جريدتان جديدتان:
(6)
عالم نسوان مخصوصة بالإناث تصدر في إدارة جريدة ترجمان
أسبوعيًا.
(7)
(خاخاخا) جريدة فكاهية.
وفي باد كوبه ظهرت جريدتان، إحداهما:
(8)
حيات يومية بلغة آذَرْبِيجَان. والأخرى:
(9)
إرشاد هي أيضًا كذلك.
وفي تفليس أيضًا ثلاث جرائد لم أتخطر أساميها.
وفي جايق (أروالسكي) :
(13)
فكر: جريدة.
(14)
العصر الجديد: مجلة، كلتاهما أسبوعية.
وفي بطرس بورج جريدتان:
(15)
نور.
(16)
ألفت.
في أورن بورغ جريدة:
(17)
وقت.
فهذا مما يعد فألاً حسنًا لخيرية الاستقلال؛ فإن الجرائد أول الوسائل في
الإصلاحات، يمكن أن يستدل بها على أن مسلمي الروس تيقظوا بعد الرقدة الدائمة،
أصلحنا الله تعالى. اهـ.
***
(إصلاح التعليم والمدارس الإسلامية في روسيا)
كتب إلينا أحد طلاب العلم في قزان يقول:
(إننا قد دخلنا في حياة جديدة منذ كنا تلاميذ لحضرتكم، فصرنا نستفيد من
كتاب الله بعد ما ظننا الاستفادة منه خاصة بأهل القرون الماضية، ولا نقبل قول
أحد بلا دليل، وأعلم يقينًا أن هذه الحياة من الروح التي نفختموها بواسطة مجلتكم،
جزاكم الله عنا خير الجزاء.
وقد ناهضت الطلبة بطلب إصلاح المدارس الإسلامية، وكلفوا مديري
المدرسة وأساتذتهم عدة مواد استصوبوها بالشورى بينهم؛ لأن طريق التعليم في
مدارس قزان وخيم جدًا! ، لا يدرس فيها إلا ما بقي من خيالات اليونان والنسفي
مع شرحه التفتازاني والنحو والصرف بكتبه المعروفة، بشرط أن يضيع من العمر
خمس سنين من غير فهم، ولا يدرس غير ما ذُكر، لا من التفسير ولا من الحديث
وغيره، ولكن المدرسين رِيعوا من هذه التكاليف واستثقلوها لاعتيادهم أكل (بلش
المحلة) - طعام من الأرز خاص بالإمام - فطردوا من التلاميذ مَن يريد الإصلاح
فأُخرج من مدرسة عالم جان البارودي اثنان وثمانون طالبًا من ذوي النهى وأبقوا
من لا يهتم بشيء من الإصلاح ، وسموا الذين أُخرجوا بغير حق (بالروس الجديد) ،
ولكن الظالمين في ضلال بعيد! .
فيا أهل الغيرة والحمية الدينية: ما هذه البربرية في زمن المدنية، إلامَ نكون
ضحكة للأجنبيين؟ ! ، وحتامَ نعمه في جهالتنا أجمعين؟ ! ، فيا سيدي، هذا حال
بلادنا التي تحسن الظن بها! ! ! اهـ بنصه.
هذا، وقد رأينا جميع الجرائد الإسلامية الروسية التي تجيء مصر قد خاضت في
هذه المسألة؛ ففي العدد 24 من جريدة (ترجمان) (التي تصدر في باغجه سراي
روسيا) ترجمته:
الكتاب المفتوح
من التلاميذ الذين طُردوا في 26 فبراير من المدرسة المحمدية (المنسوبة إلى
محمد جان والد عالمجان المشهور) بقزان إلى آبائهم:
حضرات آبائنا الكرام! :
إنكم أسلمتمونا إلى المدرسة المحمدية بقزان إذ لم تجدوا مدرسة أحسن منها.
وكان مقصدكم من هذا هو أن نتعلم في المدرسة العلوم النافعة ونتحلى بالأخلاق
الفاضلة ونكون رجالاً نعمل لمصالحنا ولمصالح الأمة.
ولكننا علمنا بعد طول التجربة والاختبار - أن مدارسنا إذا بقيت على هذه
الحالة لا يُرجى منها خير ما فضلاً عن العلوم النافعة والأخلاق الفاضلة؛ والعلوم
التي نحصلها في مدارسنا لا تنفعنا أبدًا.
أما ترون أننا نخرج من المدارس وليس في يدنا شيء نكتسب به فنبقى عالة
على الناس نتَّجر بالدين، أما نحن فلا نحتمل هذه الذلة والمسكنة بعد أن نتعلم عشر
سنوات أو أكثر وليس أمامنا سوى التأذين والإمامة. وهذان المنصبان يؤول أمرهما
شيئًا فشيئًا إلى التعاسة والشقاء! ؛ فإن الأئمة والخطباء يشكون سوء حالهم، على
أن العلوم التي نتعلمها في مدارسنا لا تكفي للإمامة والخطابة أيضًا. ولا يعلِّموننا
شيئًا من الأخلاق والتربية بل نتعلم فيها الأخلاق السافلة كالجبن والطمع وظلم
الفقراء والتملق للأغنياء والكسل! .
بل لا نكون بما تعلمناه في المدارس إلا مصيبة للعوام وعلماء السوء الذين قال
فيهم نبينا عليه الصلاة والسلام ما معناه: (شر الخلائق علماء السوء الضالون
المضلون) ! ، نبقى في المدارس عشر سنين أو أكثر ونقاسي فيها من أتعاب البدن
والفكر ما لا يحمله أحد ثم نخرج لتكفُّف الناس. وأولاد الأمم المجاورة لنا يتعلمون
وعقوله سليمة وصحتهم كاملة متمتعون بكل حدة ونشاط ثم يخرجون وأدمغتهم ملأى
بالعلوم والأفكار السامية فينالون الوظائف المتنوعة ونحن نمثُل بين أيديهم بكل
خضوع ومسكنة وكلٌّ متخرجٌ في المدارس! .
وأما أساتذتنا فيملأون أدمغتنا بالخرافات والإسرائيليات، ويشوشون عقائدنا
باليونانيات والتفتازانيات، ويسوموننا حفظ الحواشي والتعليقات، ويجرعوننا
الكؤوس المُرة، مما لا تعلق له بالدين بالمَرة. يجرعوننا ذلك باسم العلوم الدينية
ونخرج من المدارس، لا بالدين تقوينا ولا بالعلوم العصرية تسلحنا. عبيد أوهام
جبناء، خلو من العقول سخفاء، ترتعد فرائص الواحد منا أمام واحد روسي أو
بالاك أو يهودي من المتعلمين.
نحن نرجو من قومنا أن لا يغفلوا عن حالهم ومستقبلهم واثقين بأبنائهم الذين
يتعلمون في المدارس الإسلامية لأننا علمنا أنه لمن يجاري المتعلمون منا في
مضمار تنازع البقاء للمتعلمين من الأمم الأخرى؛ لأن هؤلاء متسلحون بالعلوم
الصحيحة الحقيقية ونحن عُزل أنكاس مساكين.
نحن لسنا راضين عن حال مدارسنا وبذلنا جهدنا في إصلاح حالها وخالفنا
معلمينا ومربينا في أمور التربية والتعليم. فأنكروا أفعالنا وأبغضونا ونظروا إلينا
شزرًا. ثم سئموا تكاليفنا فأنشأوا يبحثون عن طرق النجاة معنا وأخذوا يطردون
الذين ينكرون حال المدرسة واحدًا بعد واحد! .
نحن نتعجب كثيرًا من أن أمتنا طلبت من الحكومة في السنين الأخيرة مطالب
جمة ولم تخطر ببالها مدارسنا التي هي حياتنا وبها بقاؤنا وتركتها في زوايا الإهمال
والنسيان. لا بقاء لنا إلا بالمدارس فكيف يجوز إهمال شأنها؟ ! .
نحن نقول ونرفع عقيرتنا: ليعلم كل فرد من أفراد الأمة أن أول درجة من
الإصلاح هي إصلاح المدارس والكتاتيب ثم إننا لا نأسف لخروجنا من هذه المدرسة
ولن ندخل غيرها؛ لأنها كلها على نسق واحد حَذْوَ النقطة بالنقطة ونختم قولنا
بكلمة نوجهها للأمة من صميم أفئدتنا:
(بادروا أيها الإخوان إلى إصلاح المدارس! ، وإلا فعليكم وعلى مدارسكم
السلام) .
(المنار)
وسننشر في الجزء الآتي مقالة مترجمة عن جريدة (وقت) ، عنوانها
(المدارس وطلبة العلوم) .
***
(قتل ابن الرشيد)
اغتنم ابن الرشيد فرصة الهدنة بينه وبين ابن سعود فغدر واعتدى فعلم ابن
سعود من أربعة جواسيس قبض عليهم أن سيبيته ليلاً فزحف عليه إلى روضة مهنا
وبعد ملحمة شديدة قتل ابن الرشيد وأخذ خاتمه وساعته ورايته وقتل جيشه تقتيلاً
وقد زحف ابن سعود على (حايل)، وتلك عاقبة البغي {وَمَا هِيَ مِنَ لظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (هود: 83) .
***
(تساهل المسلمين في شأن الخلافة)
يتهم أهل أوربا المسلمين بالغلو في التعصب الديني ويقولون في هذه الأيام:
إن السلطان يهيج هذا التعصب في بعض الجرائد المصرية بأنه خليفة المسلمين،
فالاعتقاد بالخلافة هو بركان التعصب، ولو كان المسلمون يتعصبون للخلافة
ويعتصمون بالخلافة كما يظن بهم لقامت قيامتهم على الشيخ محمد بخيت المدرس
بالأزهر؛ إذ ألَّف رسالة قال فيها إنه يجوز أن يكون خليفة المسلمين الذي ينصب
القضاة ويأذن بصلاة الجمعة كافرًا! واستدل على ذلك بحديث منكر أو موضوع لا
يدل عليه.
وقد قرظت رسالته جرائد المسلمين ولم ينكر عليه أحد بل وجد في أصحاب
الجرائد من ينتصر له ويدافع عنه فلتطمئن قلوب الأوربيين فإن هذه الثرثرة بلقب
الخلافة والخليفة وسيله للكسب لا أثر لها في التعصب ولو كان كتب مثل هذا
الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى لهاجت الجرائد وماجت الأمراء والشيوخ وتبعهم
العوام بلَغْو الكلام لا تعصبًا للخليفة وحماية للخلافة؛ بل لأن في ذلك من الكسب
والشهرة ما فيه! ! .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السلام على آل البيت
الانتقاد على المنار
كتب إلينا ح. ح. أحد المشتركين في الجبل الأسود:
إلى حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا:
لقد كنت سعيدًا لما وفقني الله إلى الاشتراك في المنار، وإن كنت قليل العلم
قصير الفهم لكن نفعني كثيرًا ونبهني عن كثير، ففي هذه السنين ما أتيتم بالخطأ إلا
جئتم بعده بالتصحيح إلا في ثلاثة مواضع على ما أظن فأتعجب كثيرًا و (أجتسر)
أن أكتب لفضيلتكم؛ لما أعلم أنكم ناطقون بالحق والصواب، وهى:
قلتم في (ص 295) في المجلد السابع: (ويشكو لسيدنا الحسين عليه السلام
وقلتم في (ص 446) من المجلد الثامن: (ورواية عن علي عليه السلام ،
وفى (ص 908) منه أيضًا: (من أثر علي وفاطمة عليهما السلام ، فأظن
الفقير أن لا يقال بعد ذكر أحد: عليه السلام دون الأنبياء صلوات الله على نبينا
وعليهم أجمعين.
فإن قلتم بجواز ذلك فلِمَ خصصتم في هذه المواضع خاصة عليًّا وآله دون
غيره من الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فأرجو من حضرتكم
التصحيح أو الجواب الشافي من غير مؤاخذتي؛ لأن كلامي هذا يدل على عدم علمي.
كما لا يخفى عليكم والسلام عليكم. اهـ.
(المنار)
اختلف العلماء في الصلاة على غير الأنبياء فأجازها قوم مطلقًا ومنعها آخرون
مطلقًا وقال بعضهم تجوز تبعًا لا استقلالاً. وممن قال بالجواز مطلقًا البخاري
واستدل كغيره بالآيات والأحاديث كحديث: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى)
وأجيب بأن ما ورد خاصًّا بالله ورسوله وبالدعاء ابتداءً وقال ابن القيم: إن كانت
الصلاة على آل النبي وأزواجه وذريته فهي مشروعة مع الصلاة عليه وجائزة على
الانفراد وإن كانت على شخص معين أو طائفة معينة كُرهت.. إلخ ما قاله.
وأما السلام المسئول عنه فقيل إنه كالصلاة وقيل لا. قال الحافظ السخاوى:
وقد اختلفوا في السلام هل هو في معنى الصلاة فيكره أن يقال (عن علي عليه
السلام) وما أشبه ذلك؟ فكرهه طائفة منهم أبو محمد الجويني ومنع أن يقال عن
علي عليه السلام وفرق آخرون بينه وبين الصلاة بأن السلام يشرع في حق كل
مؤمن من حي وميت وحاضر وغائب وهو تحية أهل الإسلام بخلاف الصلاة؛ فإنها
من حقوق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا يقول المصلي: السلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين، ولا يقول الصلاة علينا، فعُلم الفرق ولله الحمد. اهـ.
أقول: وقد جرى بعض أئمة المحدثين كالبخارى وبعض كبار الصوفية كابن
عربي وبعض العلماء من غيرهم على تخصيص السلام بآل بيت النبي صلى الله
عليه وآله وسلم الذين هم أصحاب العباء: علي وفاطمة والحسن والحسين وممن
تبعهم فى ذلك من المتأخرين الإمام الشوكاني، والشيعة يلتزمون ذلك لسائر أئمتهم.
والشاهد الثاني من الشواهد التي ذُكرت في الانتقاد على المنار منقولة عن نيل الأوطار
لا من كلامنا.
قصة المولد لدبيع
كتب إلينا من سنغافوره أن بعض الناس استاءوا مما كتبناه في المنار بشأن
هذه القصة وما قاله المتهجمون في شأن المجلس الذي تُقرأ فيه رجمًا بالغيب وجراءة
على الله ورسوله، أما غوغاء العوام فلا كلام لنا معهم، وأما مَن يرى أنه أُوتي
نصيبًا من العلم فالعلم حكم بيننا وبينه، فليكتب إلينا رأيه مؤيدًا بحجته ونحن ننشره
مذعنين له إن ظهر لنا أنه الحق أو مبينين ما لدينا من الرد عليه مع الأدب
والاحترام لصاحبه.
المنار والشيخ محمد بخيت
بلغنا أن الشيخ بخيتًا يريد الرد على المنار دفاعًا وهجومًا وأنه استعار بعض
أجزاء منه لذلك. وإنه ليسرنا ذلك ونتمنى لو يتفضل علينا بما يكتبه ونحن ننشره
مذعنين لما نراه صوابًا باحثين فيما نراه خطأً. وكيف لا نسر بإجابتنا إلى ما ندعو
إليه العلماء في كل سنة وندعّهم إليه بالانتقاد على ما نراه منتقدًا منهم؛ ليضطروا إلى
الانتقاد علينا ولو انتصارًا لأنفسهم ودفاعًا عنها.
وقد وعدتْ بالدفاع عنه جريدة أسبوعية من الجرائد التي يعبرون عنها
بالساقطة وهي مما لا يُنظر في قولها ولا يرد عليها! .
_________