الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
أدلة الشرع
وتقديم المصلحة في المعاملات على النص
كتبنا في بعض أجزاء المجلدين الثالث والرابع فصولاً عنوانها: (محاورات
المصلح والمقلد) بينا فيها طريق الوحدة الإسلامية وجمع كلمة المسلمين المختلفين
في المذاهب على الحق الذي أمرهم الله أن يقيموه ولا يتفرقوا فيه ، ومما بيناه فيها
أن الأحكام السياسية والقضائية والإدارية - وهي ما يعبر عنها علماؤنا بالمعاملات-
مدارها في الشريعة الإسلامية على قاعدة درء المفاسد وحفظ المصالح أو جلبها،
واستشهدنا على ذلك بترك سيدنا عمر وغيره من الصحابة إقامة الحدود أحيانًا لأجل
المصلحة، فدل ذلك على أنها تقدم على النص! وقد طبعت في هذه الأيام مجموعة
رسائل في الأصول لبعض أئمة الشافعية والحنابلة والظاهرية منها: رسالة للإمام
نجم الدين الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 716 تكلم فيها عن المصلحة بما لم نَرَ مثله
لغيره من الفقهاء، وقد أوضح ما يحتاج إلى الإيضاح منها في حواشيها الشيخ جمال
الدين القاسمي أحد علماء دمشق الشام المدققين فرأينا أن ننشرها بحواشيها في المنار؛
لتكون تبصرةً لأولي الأبصار، وهي هذه:(قال بعد البسملة) :
اعلم أن أدلة الشرع تسعة عشر بابًا بالاستقراء [1] لا يوجد بين العلماء
غيرها [2]
أولها: الكتاب.
وثانيها: السنة.
وثالثها: إجماع الأمة.
ورابعها: إجماع أهل المدينة [3] .
وخامسها: القياس [4] .
وسادسها: قول الصحابي [5] .
وسابعها: المصلحة المرسلة [6] .
وثامنها: الاستصحاب [7] .
وتاسعها: البراءة الأصلية [8] .
وعاشرها: العادات [9] .
الحادي عشر: الاستقراء [10] .
الثاني عشر: سد الذرائع [11] .
الثالث عشر: الاستدلال [12] .
الرابع عشر: الاستحسان [13] .
الخامس عشر: الأخذ بالأخف [14] .
السادس عشر: العصمة [15] .
السابع عشر: إجماع أهل الكوفة [16] .
السابع عشر: إجماع العترة عند الشيعة [17] .
التاسع عشر: إجماع الخلفاء الأربعة.
وبعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه ومعرفة حدودها ورسومها والكشف عن حقائقها وتفاصيل أحكامها مذكور في أصول الفقه [18] .
ثم إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)[19] يقتضي
رعاية المصالح إثباتًا ونفيًا والمفاسد نفيًا، إذ الضرر هو المفسدة فإذا نفاها الشرع
لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة؛ لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما، وهذه الأدلة
التسعة عشر أقواها: النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو
يخالفاها فإن وافقاها فبِها ونعمت ولا تنازع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم
وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه السلام: (لا ضرر
ولا ضرار) وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق
التخصيص [20] والبيان لهما لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما، كما تُقدم
السنة على القرآن بطريق البيان، وتقرير ذلك أن النص والإجماع إما أن لا يقتضيا
ضررًا ولا مفسدةً بالكلية أو يقتضيا ذلك، فإن لم يقتضيا شيئًا من ذلك فهما
موقوفان لرعاية المصلحة، وإن اقتضيا ضررًا فإما أن يكون مجموع مدلولهما
ضررًا ولا بد أن يكون من قبيل ما استثني من قوله عليه السلام (لا ضرر ولا
ضرار) جمعًا بين الأدلة، ولعلك تقول: إن رعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه
السلام (لا ضرر ولا ضرار) لا تقوى على معارضة الإجماع لتقضي عليه
بطريقة التخصيص والبيان؛ لأن الإجماع دليل قاطع وليس كذلك رعاية المصلحة؛
لأن الحديث الذي دل عليها واستفيدت منه ليس قاطعًا فهو أولى - فنقول لك: إن
رعاية المصلحة أقوى من الإجماع ويلزم من ذلك أنها من أدلة الشرع لأن الأقوى من
الأقوى أقوى، ويظهر ذلك من الكلام في المصلحة والإجماع.
أما المصلحة فالنظر في لفظها وحدها وبيان اهتمام الشرع بها وأنها مبرهنة،
أما لفظها فهو (مفعلة) من الصلاح وهو كون الشيء على هيئة كاملة بحسب
ما يراد ذلك الشيء له، كالقلم يكون على هيئة المصلحة للكتابة، والسيف على
هيئة المصلحة للضرب.
وأما حدها بحسب العرف فهي السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع كالتجارة
المؤدية إلى الربح، وبحسب الشرع هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادةً أو
عادةً ، ثم هي تنقسم إلى ما يقصده الشارع لحقه كالعبادات وإلى ما لا يقصده الشارع
لحقه كالعادات.
وأما بيان اهتمام الشرع بها فمن جهة الإجمال والتفصيل، أما الإجمال فقوله
عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} (يونس: 57)، الآيتين ودلالتهما من وجوه:
أحدها قوله عز وجل: {قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ
…
} (يونس: 57)
حيث إنه توعدهم وفيه أكبر صالحهم؛ إذ في الوعظ كفهم عن الأذى وإرشادهم إلى
الهدى.
الوجه الثاني: وصف القرآن أنه {
…
شِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُور} (يونس:
57) يعني من شك ونحوه وهو مصلحة عظيمة.
الوجه الثالث: وصفه بالهدى.
الوجه الرابع: وصفه بالرحمة، وفي الهدى والرحمة غاية المصلحة.
الخامس: إسناد ذلك إلى فعل الله عز وجل ورحمته ولا يصدر عنهما
إلا مصلحة عظيمة.
السادس: الفرح بذلك لقوله عز وجل]
…
فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [ (يونس:
58) وهو في معنى التهنئة لهم بذلك ، والفرح والتهنئة إنما يكونان لمصلحة
عظيمة.
الوجه السابع: قوله عز وجل: {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58)
والذي يجمعونه هو من مصالحهم، فالقرآن ونفعه أصلح من مصالحهم،
والأصلح من المصلحة غاية المصلحة.
فهذه سبعة أوجه من هذه الآية تدل على أن الشرع راعى مصلحة المكلفين
واهتم بها ولو استقرأت النصوص لوجدت على ذلك أدلةً كثيرةً.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون من جملة ما راعاه من مصالحهم نصب النص
والإجماع دليلاً لهم على معرفة الأحكام؟ قلنا: هو كذلك ونحن نقول به في
العبادات وحيث وافق المصلحة في غير العبادات، وإنما ترجَّح رعاية المصالح في
المعاملات ونحوها؛ لأن رعايتها في ذلك هو قطب مقصود الشرع منها بخلاف
العبادات فإنها حق الشرع ولا يعرف كيفية إيقاعها إلا من جهته نصًّا وإجماعًا.
وأما التفصيل ففيه أبحاث:
الأول: في أن أفعال الله عز وجل معللة أم لا. حجة المثبت أن فعلاً لا
علة له عبث والله عز وجل منزه عن العبث؛ ولأن القرآن مملوء من تعليل
الأفعال نحو: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس: 5) ونحوه، وحجة
النافي أن كل من فعل فعلاً لعلة فهو مستكمل بتلك العلة ما لم تكن له قبلها فيكون
ناقصًا بذاته كاملاً بغيره والنقص على الله عز وجل محال، وأجيب عنه بمنع
الكلية فلا يلزم ما ذكروه إلا في حق المخلوقين [21] والتحقيق أن أفعال الله - عز
وجل - معللة بحكم غائية تعود بنفع المكلفين وكمالهم لا بنفع الله عز وجل
لاستغنائه بذاته عما سواه.
البحث الثاني: أن رعاية المصالح تفضل من الله عز وجل على خلقه
عند أهل السنة واجبة عليه عند المعتزلة، حجة الأولين أن الله عز وجل
متصرف في خلقه بالملك ولا يجب له عليه شيء؛ ولأن الإيجاب يستدعي موجبًا
أعلى ولا أعلى من الله عز وجل يوجب عليه. حجة الآخرين أن الله - عز
وجل - كلف خلقه بالعبادة فوجب أن يراعي مصالحهم إزالةً لعللهم في التكليف وإلا
لكان ذلك تكليفًا لما لا يطاق أو شبيهًا به ، وأجيب عنه بأن هذا مبني على تحسين
العقل وتقبيحه وهو باطل عند الجمهور.
والحق أن رعاية المصالح واجبة من الله عز وجل حيث التزم التفضل
بها لا واجبة عليه كما في آية: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ
…
} (النساء: 17) ،
فإن قبولها واجب منه لا عليه وكذلك الرحمة في قوله عز وجل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام: 54) ونحو ذلك.
البحث الثالث: في أن الشرع حيث راعى مصالح الخلق هل راعاها مطلقًا أو
راعى أكملها في بعض وأسفلها في بعض أو أنه راعى منها في الكل ما يصلحهم
وينتظم به حالهم؟ الأقسام كلها ممكنة [22] .
البحث الرابع: في أدلة رعاية المصلحة على التفصيل وهي من الكتاب
والسنة والإجماع والنظر ولنذكر من كل منها يسيرًا على جهة ضرب المثال؛ إذ
استقصاء ذلك بعيد المنال.
أما الكتاب فنحو قوله - تعالى -: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة:
179) {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: 38) {الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2) وهو كثير ، ورعاية
مصلحة الناس في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم مما ذكرناه ظاهر ، وبالجملة فما من
آية من كتاب الله عز وجل إلا وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح كما بينتها
في غير هذا الموضع.
وأما السنة فنحو قوله عليه السلام: (لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يبع
حاضر لبادٍ، ولا تنكح المرأة على خالتها أو عمتها إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم
أرحامكم) وهذا ونحوه في السنة كثير؛ لأنها بيان الكتاب وقد بينا اشتمال كل آية
منه على مصلحة والبيان على وفق المبين.
وأما الإجماع فقد أجمع العلماء - إلا من لا يعتد به من جامدي الظاهرية -
على تعليل الأحكام بالمصالح المرسلة وفي الحقيقة الجميع قائلون بها [23] حتى إن
المخالفين في كون الإجماع حجةً قالوا بالمصالح ومن ثَمَّ علل وجوب الشفعة برعاية
حق الجار وجواز السلم والإجارة بمصلحة الناس مع مخالفتهما للقياس؛ إذ هما
معاوضة على معدوم [24] وسائر أبواب الفقه ومسائله فيما يتعلق بحقوق الخلق لعلل
المصالح.
وأما النظر فلا شك عند كل ذي عقل صحيح أن الله عز وجل راعى
مصلحة خلقه عمومًا وخصوصًا، أما عمومًا ففي مبدأهم ومعاشهم. أما المبدأ فحيث
أوجدهم بعد العدم على الهيئة التي ينالون بها مصالحهم ويجمع ذلك قوله - عز
وجل -] يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ [25 {* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ
* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار: 6-8) وقوله عز وجل:
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) وأما المعاش فحيث
هيأ لهم أسباب ما يعيشون ويتمتعون به من خلق السماوات والأرض وما بينهما
وجميع ذلك في قوله عز وجل {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا..} (النبأ: 6)
إلى قوله {.. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} (النبأ: 17) وفي قوله عز وجل:
{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} (عبس: 24- 25) إلى قوله
عز وجل: {
…
مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} (النازعات: 33) .
وأما خصوصًا فرعاية مصلحة العباد السعداء حيث هداهم السبيل، ووفقهم
لنيل الثواب الجزيل في خير مقيل.
وعند التحقيق إنما راعى مصلحة العباد عمومًا حيث دعا الجميع إلى الإيمان
الموجب لمصلحة العباد لكن بعضهم فرط بعدم الإجابة بدليل قوله عز وجل:
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت: 17) تحرير هذا
المقام أن الدعاء كان عمومًا والتوفيق المكمل للمصلحة المصحح لوجودها كان
خصوصًا بدليل قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (يونس: 25) فدعا عامًّا وهدى ووفق خاصًّا.
إذا عرف هذا فمن المحال أن يراعي الله عز وجل مصلحة خلقه في
مبدأهم ومعادهم ومعاشهم ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية؛ إذ هي أهم
فكانت بالمراعاة أولى ولأنها أيضًا من مصلحة معاشهم لأنها صيانة أموالهم ودمائهم
وأعراضهم، ولا معاش لهم بدونها فوجب القول بأنه راعاها لهم ، وإذا ثبت رعايته
إياها لم يجز إهمالها بوجه من الوجوه ، فإن وافقها النص والإجماع وغيرهما من
أدلة الشرع فلا كلام ، وإن خالفها دليل شرعي وفق بينه وبينها بما ذكرناه من
تخصيصه وتقديمها بطريق البيان.
وأما أن رعاية المصلحة مبرهنة فقد دل عليه ما ذكرناه من اهتمام الشرع بها
وأدلته.
ثم قال الطوفي بعد بيانه الإجماع وأدلته ومعارضتها: ومما يدل على تقديم
رعاية المصلحة على النصوص والإجماع على الوجه الذي ذكرنا وجوه:
أحدها: أن منكري الإجماع [26] قالوا برعاية المصالح فهي إذًا محل وفاق
والإجماع محل الخلاف، والتمسك بما اتفقوا عليه أولى من التمسك بما اختلفوا فيه.
الوجه الثاني: أن النصوص مختلفة متعارضة فهي سبب الخلاف في الأحكام
المذموم شرعًا، ورعاية المصلحة أمر متفق في نفسه لا يختلف فيه فهو سبب
الاتفاق المطلوب شرعًا فكان اتباعه أولى وقد قال الله، عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران 103) {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159)، وقوله عليه السلام: (لا تختلفوا
فتختلفَ قلوبُكم) ، وقال عز وجل في مدح الاجتماع: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ
أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} (الأنفال: 63) وقال عليه السلام:
(وكونوا عباد الله إخوانًا) .
الثالث: قد ثبت في السنة معارضة النصوص بالمصالح ونحوها في
قضايا [27] منها معارضة ابن مسعود النص والإجماع بمصلحة الاحتياط للعبادة كما
سبق [28]، ومنها قوله عليه السلام حين فرغ من الأحزاب: (لا يصلينَّ أحدكم
العصر إلا في بني قريظة) فصلى أحدهم قبلها وقال لم يرد منا ذلك وهو شبيه بما
ذكرنا.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام
لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم) وهو يدل على أن بناءها على قواعد
إبراهيم هو الواجب في حكمها فتركه لمصلحة الناس.
ومنها أنه عليه السلام لما أمرهم بجعل الحج عمرةً قالوا: كيف وقد سمينا
الحج وتوقفوا وهو معارضة للنص بالعادة وهو شبيه بما نحن فيه.
وكذلك (يوم الحديبية لما أمرهم بالتحلل توقفوا تمسكًا بالعادة في أن أحدًا لا
يحل قبل قضاء المناسك حتى غضب صلى الله عليه وسلم وقال: ما لي آمر بالشيء
فلا يُفعل؟ !) .
ومنها ما روى أبو يعلى الموصلي في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم
بعث أبا بكر ينادي: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فوجده عمر فرده وقال: إذًا
يتَّكلوا، وكذلك رد عمر أبا هريرة عن مثل ذلك في حديث صحيح وهو معارضة
لنص الشرع بالمصلحة، فكذلك من قدم رعاية مصالح المكلفين على باقي أدلة
الشرع يقصد بذلك إصلاح شأنهم وانتظام حالهم وتحصيل ما تفضل الله به عليهم من
الصلاح وجمع الأحكام من التفرق وائتلافها عن الاختلاف فوجب أن يكون جائزًا إن
لم يكن متعينًا فقد ظهر بما قررناه أن دليل رعاية المصالح أقوى من دليل الإجماع
فليقدم عليه وعلى غيره من أدلة الشرع عند التعارض بطريق البيان.
فإن قيل: حاصل ما ذهبتم إليه تعطيل أدلة الشرع بقياس مجرد وهو كقياس
إبليس فاسد الوضع والاعتبار، قلنا: وهم واشتباه ومن نائم بعد الانتباه، وإنما هو
تقديم دليل شرعي على أقوى منه وهو دليل الإجماع على وجوب العمل بالراجح كما
قدمتم أنتم الإجماع على النص والنص على الظاهر [29] وقياس إبليس وهو قوله:
{أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف: 12) لم يقم عليه
ما قام على رعاية المصالح من البراهين وليس هذا من باب فساد الوضع بل من
باب تقديم رعاية المصالح كما ذكرنا.
فإن قيل: الشرع أعلم بمصالح الناس وقد أودعها أدلة الشرع وجعلها أعلامًا
عليها يعرف بها فترك أدلته لغيرها مراغمةً ومعاندةً له - قلنا: أما كون الشرع أعلم
بمصالح المكلفين فنعم، وأما كون ما ذكرناه من رعاية المصالح تركًا لأدلة الشرع
بغيرها فممنوع بل إنما تترك أدلته بدليل شرعي راجح عليها مستند إلى قوله عليه
السلام: (لا ضرر ولا ضرار) كما قلتم في تقديم الإجماع على غيره من الأدلة،
ثم إن الله عز وجل جعل لنا طريقًا إلى معرفة مصالحنا عادة فلا نتركه لأمر
مبهم يحتمل أن يكون طريقًا إلى المصلحة، ويحتمل أن لا يكون.
فإن قيل: إن خلاف الأمة في مسائل الأحكام رحمة واسعة فلا يحويه حصر
بحكم في جهة واحدة لئلا يضيق عليهم مجال الاتساع ، قلنا: هذا الكلام ليس
منصوصًا عليه من جهة الشرع حتى يمثل [30] ولو كان لكان مصلحة الوفاق أرجح
من مصلحة الخلاف فتقدم، ثم ما ذكرتموه من مصلحة الخلاف بالتوسعة على
المكلفين معارض بمفسدة تعرض منه وهو أن الآراء إذا اختلفت وتعددت اتبع بعض
الناس رخص المذاهب فأفضى إلى الانحلال والفجور، وأيضًا فإن بعض أهل الذمة
ربما أراد الإسلام فتمنعه كثرة الخلاف وتعدد الآراء؛ لأن الخلاف منفور عنه
بالطبع ولهذا قال عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا..} (الزمر: 23) أي: يشبه بعضه بعضًا ويصدق بعضه بعضًا لا يختلف إلا بما فيه
من المتشابهات وهي ترجع إلى المحكمات بطريقها [31] . ولو اعتمدت رعاية
المصالح المستفادة من قوله عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار) على ما تقرر
لاتحد طريق الحكم وانتفى الخلاف. فإن قيل: هذه الطريقة التي سلكتها إما أن
تكون خطأً فلا يلتفت إليها أو صوابًا فإما أن ينحصر الصواب فيها أو لا فإن
انحصر لزم أن الأمة من أول الإسلام إلى حين ظهور هذه الطريقة على خطأ إذ لم
يقل بها أحد منهم [32] وإذا لم ينحصر فهي طريقة جائزة من الطرق ولكن طريق
الأئمة التي اتفقت الأمة على اتباعها أولى بالمتابعة لقوله عليه السلام: (اتبعوا
السواد الأعظم فإن من شذ شذ في النار) .
فالجواب أنها ليست خطأ لما ذكرنا عليها من البرهان، ولا الصواب منحصر
فيها قطعًا بل ظنًّا واجتهادًا وذلك يوجب المصير إليها إذ الظن في الفرعيات كالقطع
في غيرها ، وما يلزم على هذا من خطأ الأمة فيما قبله لازم على رأي كل ذي قول
أو طريقة انفرد بها غير مسبوق إليها، والسواد الأعظم الواجب اتباعه هو الحجة
والدليل الواضح وإلا لزم أن يتبع العلماء العامة إذا خالفوهم؛ لأن العامة أكثر وهم
السواد الأعظم.
واعلم أن هذه الطريقة التي قررناها - مستفيدين لها من الحديث المذكور-
ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك بل هي أبلغ من ذلك
وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وعلى اعتبار
المصالح في المعاملات وباقي الأحكام.
وتقرير ذلك أن الكلام في أحكام الشرع إما أن يقع في العبادات والمقدرات
ونحوها أو في المعاملات والعادات وشبهها فإن وقع في الأول اعتبر فيه النص
والإجماع ونحوهما من الأدلة.
غير أن الدليل على الحكم إما أن يتحد أو يتعدد فإن اتحد مثل أن كان فيه آية
أو حديث أو قياس أو غير ذلك ثبت به ، وإن تعدد الدليل مثل أن كان آيةً أو حديثًا
أو استصحابًا ونحوه فإن اتفقت الأدلة على إثبات أو نفي ثبت بها وإن تعارضت فيه
فإما تعارضًا يقبل الجمع أو لا يقبله ، فإن قبل الجمع جمع بينهما؛ لأن الأصل في
أدلة الشرع الإعمال لا الإلغاء غير أن الجمع بينهما يجب أن يكون بطريق قريب
واضح لا يلزم منه التلاعب ببعض الأدلة. وإن لم يقبل الجمع فالإجماع مقدم على ما
عداه من الأدلة التسعة عشر والنص مقدم على ما سوى الإجماع، ثم إن النص
منحصر في الكتاب والسنة ثم لا يخلو إما أن ينفرد بالحكم أحدهما أو يجتمعا فيه فإن
انفرد به أحدهما فإما الكتاب أو السنة فإن انفرد به الكتاب فإما أن يتحد الدليل أو
يتعدد فإن اتحد بأن كان في الحكم آية واحدة عمل بها إن كانت نصًّا أو ظاهرًا فيه
وإن كانت مجملةً [33] فإن كان أحد احتماليها أو احتمالاتها أشبه بالأدب مع الشرع
عمل به وكان ذلك كالبيان.
وإن استوى احتمالاها في الأدب مع الشرع جاز الأمران والمختار أن يتعبد
بكل منهما مرةً.
وإن لم يظهر وجه الأدب وقف الأمر على البيان.
وإن تعدد الدليل من الكتاب فإن كان في الحكم منه آيتان أو أكثر فإن اتفق
مقتضاهن فكالآية الواحدة وإن اختلفا فإن قبل الجمع جمع بينهن بتخصيص أو تقييد
أو نحوه، وإن لم يقبل الجمع فإن علم نسخ بعضها بعينه فيها وإلا فالمنسوخ منهما
مبهم فليستدل عليه بموافقة السنة غيره؛ إذ السنة بيان الكتاب وهي إنما تبين ما ثبت
حكمه لا ما نسخ وإن انفردت السنة بالحكم فإن كان فيه حديث واحد فإن صح عمل
به كالآية الواحدة، وإن لم يصح لم يعتمد عليه [34] وأخذ الحكم من الكتاب إن وجد
وإلا فمن الاجتهاد إن ساغ مثل أن يعمل بما هو أشبه بالأدب مع الشرع وتعظيم حقه
وإن لم يسغ فيه الاجتهاد وقف على البيان.
وإن كان فيه أكثر من حديث فإن صح جميعها فإما أن تتساوى في الصحة أو
تتفاوت، فإن تساوت في الصحة فإن اتفق مقتضاها فكالحديث الواحد، وإن اختلفت
فإن قبلت الجمع جمع بينها وإلا فبعضها منسوخ فإن تعين وإلا استدل عليه بموافقة
الكتاب أو الإجماع غيره أو بغير ذلك من الأدلة.
وإن لم تصح جميعها فإن كان الصحيح منها واحدًا فكما لم يكن في الحكم إلا
حديث واحد فإن كان الصحيح أكثر من واحد فإن اتفقت عمل بها وإن اختلفت جمع
بينها إن أمكن الجمع وإلا فبعضها منسوخ كما سبق فيما إذا كان جميع الأحاديث
صحيحًا.
وإن تفاوتت في الصحة فإن كان بعضها أصح من بعض فإن اتفق مقتضاها
فلا إشكال كالحديث الواحد، وإن تعارضت فإن قبلت الجمع جمع بينها وإن لم تقبله
قُدم الأصح فالأصح.
ثم إن اتحد الأصح عمل به وإن تعدد فإن اتفق فكالحديث الواحد وإن تعارض
جمع بينه إن قبل الجمع وإلا فبعضه منسوخ معين أو مبهم يستدل عليه بما سبق ،
وإن اجتمع في الحكم كتاب وسنة فإن اتفقا عمل بهما وأحدهما بيان للآخر أو مؤكد
له وإن اختلفا فإن أمكن الجمع بينهما جمع وإن لم يمكن فإن اتجه نسخ أحدهما
بالآخر نسخ به، وإن لم يتجه فهو محل نظر وتفصيل والأشبه تقديم الكتاب؛ لأنه
الأصل الأعظم ولا يترك بفرعه.
هذا تفصيل القول في أحكام العبادات.
أما المعاملات ونحوها فالمتبع فيها مصلحة الناس كما تقرر.
فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا فبِها ونعمت كما
اتفق النص والإجماع والمصلحة على إثبات الأحكام الخمسة [35] الكلية الضرورية
وهي: قتل القاتل والمرتد وقطع السارق وحد القاذف والشارب ونحو ذلك من
الأحكام التي وافقت فيها أدلة الشرع المصلحة، وإن اختلفا فإن أمكن الجمع بينهما
بوجه ما جمع مثل أن يحمل بعض الأدلة على بعض الأحكام والأحوال دون بعض
على وجه لا يخل بالمصلحة ولا يفضي إلى التلاعب بالأدلة أو بعضها ، وإن تعذر
الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر
ولا ضرار) وهو خاص في نفي الضرر المستلزم لرعاية المصلحة فيجب تقديمه
ولأن المصلحة هي المقصودة من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام وباقي الأدلة
كالوسائل والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل [36] .
ثم إن المصالح والمفاسد قد تتعارض فيحتاج إلى ضابط يدفع محذور تعارضها
فنقول: كل حكم نفرضه فإما أن تتمحض مصلحته [*] فإن اتحدت بأن كان فيه
مصلحة واحدة حصلت ، وإن تعددت بأن كان فيه مصلحتان أو مصالح فإن أمكن
تحصيل جميعها حصل وإن لم يمكن حصل الممكن فإن تعذر تحصيل ما زاد على
المصلحة الواحدة فإن تفاوتت المصلحة في الاهتمام بها حصل الأهم منها وإن
تساوت في ذلك حصلت واحدة منها بالاختيار إلا أن يقع ههنا تهمة فالبقرعة ، وإن
تمحَّضت مفسدته فإن اتحدت دفعت وإن تعددت فإن أمكن درء جميعها درئت ، وإن
تعددت درئ منها الممكن ، فإن تعذر درء ما زاد على مصلحة واحدة فإن تفاوتت
في عظم المفسدة دفع أعظمها وإن تساوت في ذلك فبالاختيار أو القرعة إن اتجهت
التهمة.
وإن اجتمع فيه الأمران المصلحة والمفسدة فإن أمكن تحصيل المصلحة ودفع
المفسدة تعين وإن تعذر فعل الأهم من تحصيل أو دفع إن تفاوتا في الأهمية وإن
تساويا فبالاختيار أو القرعة إن اتجهت التهمة.
وإن تعارض مصلحتان أو مفسدتان أو مصلحة ومفسدة وترجح كل واحد من
الطرفين من وجه دون وجه اعتبرنا أرجح الوجهين تحصيلاً أو دفعًا [37] فإن استويا
في ذلك عدنا إلى الاختيار أو القرعة.
فهذا ضابط مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)
يتوصل به إلى أرجح الأحكام غالبًا وينتفي به الخلاف بكثرة الطرق والأقوال مع أن
في اختلاف الفقهاء فائدة عرضت خارجة عن المقصود وهي معرفة الحقائق التي
تتعلق بالأحكام وأغراضها ونظائرها والفروق بينها وهي شبيهة بفائدة الحساب من
جزالة الرأي.
وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها؛ لأن
العبادات حق للشرع [**] خاص به ولا يمكن معرفة حقه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا
من جهته فيأتي به العبد على ما رسم له ولأن غلام أحدنا لا يعد مطيعًا خادمًا له إلا
إذا امتثل ما رسم له سيده وفعل ما يعلم أنه يرضيه فكذلك ههنا ولهذا لما تعبدت
الفلاسفة بقولهم ورفضوا الشرائع أسخطوا الله عز وجل وضلوا وأضلوا وهذا
بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم وكانت هي
المعتبرة وعلى تحصيلها المعول.
ولا يقال: إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته؛ لأنَّا نقول: قد قررنا
أن المصلحة من أدلة الشرع وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل المصالح [38] .
ثم هذا إنما يقال في العبادات التي تخفى مصالحها عن مجاري العقول
والعادات، أما مصلحة سياسية المكلفين في حقوقهم فهي معلومة لهم بحكم العادات
والعقل فإذا رأينا دليل الشرع متقاعدًا عن إفادتها علمنا أنا أحلنا في تحصيلها على
رعايتها كما أن النصوص لما كانت لا تفي بالأحكام علمنا أنَّا أحلنا بتمامها على
القياس وهو إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه بجامع بينهما، والله عز وجل
أعلم بالصواب. اهـ كلام الطوفي رحمه الله.
_________
(1)
سبقه بتعدادها كذلك وساقها بالحرف العلامة القرافي في التنقيح في الباب العشرين.
(2)
هذه الجملة زادها على القرافي وليته لم يزدها؛ لأنه يوجد لديهم غيرها كما يظهر لمن سبر كتب الأصوليين والذي استقرأته منها مما يزيد على ما ذكره ستة وعشرون ، وهي: شرع من قبلنا إذا لم يُنسخ والتحري والعرف والتعامل والعمل بالظاهر أو الأظهر والأخذ بالاحتياط والقرعة ومذهب كبار التابعين والعمل بالأصل ومعقول النص وشهادة القلب وتحكيم الحال وعموم البلوى والعمل بالشبهين ودلالة الاقتران ودلالة الإلهام ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بأيسر ما قيل ، والأخذ بأكثر ما قيل ، وفقد الدليل بعد الفحص وإجماع الصحابة وحدهم وإجماع الشيخين وقول الخلفاء الأربعة إذا اتفقوا وقول الصحابي إذا خالف القياس والرجوع إلى المنفعة والمضرة ذهابًا إلى أن الأصل في المنافع: الإذن، وفي المضار: المنع والقول بالنصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وباعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام وهو للطوفي المصنف، فالجملة خمسة وأربعون دليلاً وسنذكر ما دقّ معناه منها، فانتظر.
(3)
قال في التنقيح: وإجماع أهل المدينة عند مالك فيما طريقه التوقيف، حجة خلافًا للجميع.
(4)
القياس: إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتباههما في علة الحكم. تنقيح.
(5)
قول الصحابي حجة عند الحنفية فيترك بقوله: قياس التابعين ومن بعدهم. مجامع.
(6)
أي: المطلقة، والمراد بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق، وقد اشتهر القول بها عن مالك احتجاجًا بأن الله - تعالى - إنما بعث الرسل عليهم السلام لتحصيل منفعة العباد عملاً بالاستقراء فمهما وجدت مصلحة غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع واشتهر عن الجمهور القول بمنعها مطلقًا وقال ابن برهان: إن لائمت أصلاً كليًّا أو جزئيًّا من أصول الشرع جاز الحكم عليها وإلا فلا وقال الغزالي إن كانت ضروريةً قطعيةً كلية اعتبرت وإلا فلا. قال القرافي: إن المصلحة المرسلة في جميع المصالح عند التحقيق؛ لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهدًا بالاعتبار ولا يعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك.
(7)
الاستصحاب: عبارة عن إبقاء ما كان على ما كان عليه لانعدام المغير قاله السيد في تعريفاته. ونحوه قول القرافي: الاستصحاب معناه أن اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال أو الاستقبال فهذا الظن عند مالك والمزني والصيرفي حجة خلافًا لغيرهم، لنا أنه قضى بالطرف الراجح فيصح كأروش الجنايات واتباع الشهادات اهـ.
(8)
قال القرافي: هي استصحاب حكم العقل في عدم الإحكام خلافًا للمعتزلة والأبهري وأبي الفرج منا، لنا أن ثبوت العدم في الماضي يوجب ظن عدم ثبوته في الحال فيجب الاعتماد على هذا الظن بعد الفحص عن رافعه وعدم وجوده عندنا وعند طائفة من الفقهاء.
(9)
جمع عادة وهي غلبة معنى من المعاني على الناس، قال القرافي: يقضى بها عندنا لما تقدم في الاستصحاب ، ونقل عن المستصفى: العادة والعرف ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول وفي الأشباه من كتب الحنفية القاعدة السادسة العادة محكمة لحديث (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن) لكن قال العلائي لم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلاً ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه واعلم أن اعتبار العادة والعرف ورجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلاً فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة.هكذا ذكر فخر الإسلام، اهـ كلام الأشباه.
(10)
الاستقراء: عبارة عن تصفح جزئيات ليحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات، كذا نقل عن حجة الإسلام. ونحوه قول القرافي: هو تتبع الحكم في جزئياته على حالة يغلب على الظن أنه في صورة النزاع على تلك الحالة كاستقرائنا الفرض في جزئياته بأنه لا يؤدى على الراحلة فغلب على الظن أن الوتر لو كان فرضًا لما أدي على الراحلة (قال) : وهذا الظن حجة عندنا وعند الفقهاء اهـ.
(11)
جمع ذريعة وهي الوسيلة للشيء، ومعنى ذلك حسم مادة وسائل الفساد دفعًا له فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل واشتهر أن القول بسد الذرائع من خصائص مذهب مالك رحمه الله وقد حقق القرافي أنه مشترك بين المذاهب كالمصلحة المرسلة والعرف وستراه في آخر مقاله.
(12)
الاستدلال: ذكر دليل ليس بنص ولا إجماع ولا قياس فيدخل فيه القياس الاقتراني والاستثنائي وصور أخر.
(13)
قال السيد: هو في اللغة: عد الشيء واعتقاده حسنًا، واصطلاحًا: اسم لدليل يعارض القياس الجلي ويعمل به إذا كان أقوى منه، سموه بذلك لأنه في الأغلب يكون أقوى من القياس الجلي فيكون قياسًا مستحسنًا قال الله - تعالى -:[فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ](الزمر: 17-18) انتهى. وقال الكرخي في تعريفه: هو العدول عما حكم به في نظائر مسألة إلى خلافه لوجه أقوى منه وقد يسمى الاستحسان بالقياس الخفي كما تراه في كتبهم والاستحسان حجة عند الحنفية وبعض البصريين وأنكره العراقيون وقد اضطرب ثلة في تعريفه والصواب ما ذكرناه لأنه يجب الرجوع في تحقيق كل مسألة إلى عرف من ذهب إليها ولذا آثرنا النقل عنهم.
(14)
وهو الأخذ بأقل ما قيل وهو عند الشافعي حجة كما قيل في دية الذمي: إنها مساوية لدية المسلم وقيل: نصفها وهو قول مالك، وقيل: ثلثها وبه أخذ الشافعي أخذًا بالأقل لكونه مجمعًا عليه وما زاد منفي بالبراءة الأصلية، وتقدم في حواشي ابن فورك زيادة على هذا فارجع إليها.
(15)
قال القرافي: العصمة هي أن العلماء اختلفوا هل يجوز أن يقول الله لنبي أو عالم احكمْ فإنك لا تحكم إلا بالصواب فقطع بوقوع ذلك موسى بن عمران من العلماء والمعتزلة على امتناعه والشافعي توقف فيه حجة الجواز والوقوع قوله - تعالى -: [إِلَاّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ](آل عمران: 93) فأخبر الله - تعالى - أنه حرم على نفسه ومقتضى السياق أنه صار حرامًا عليه وذلك يقتضي أنه ما حرم على نفسه إلا ما جعل الله له أن يفعله ففعل التحريم ولو أن الله - تعالى - هو المحرم لقال: إلا ما حرمنا على إسرائيل وحجة المنع أن ذلك يكون تصرفًا في الأديان بالهوى والله - تعالى- لا يشرع إلا للصالح لا اتباع الهوى وأما قصة إسرائيل عليه السلام فلعله حرم على نفسه بالنذر ونحن نقول به، وحجة التوقف تعارض المدارك ، انتهى، وفي الجمع: مسألة يجوز أن يقال لنبي أو عالم: احكم بما تشاء فهو صواب ويكون مدركًا شرعيًّا ويسمى: التفويض، وتردد الشافعي فيه) إلخ.
(16)
قال القرافي: إجماع أهل الكوفة ذهب قوم إلى أنه حجة لكثرة من وردها من الصحابة رضي الله عنهم كما قاله مالك رحمه الله في المدينة.
(17)
سقط من بعض النسخ (عند الشيعة) واعلم أن الإجماع عند الشيعة هو اتفاق جميع علماء الأمة مع الإمام المعصوم - المشترط وجوده في كل زمان عندهم - أو اتفاق من علم من العلماء دخول الإمام فيهم وإن لم يكن جميعهم كما في حواشي القوانين للقزويني وبه يعلم أن الإجماع عندهم أهم من إجماع العترة ومن إجماع مَن بعدهم إذا كان فيهم المعصوم فالمذكور هنا كغالب أصول أهل السنة رجم بالغيب عن مذهب الإمامية في الإجماع وإهمال لقاعدة الرجوع في تحقيق كل مذهب إلى نصوص كتبه فاحفظ ذلك.
(18)
قد أشرنا إلى شذرة من حدودها وخلاف من خالف فيه وقد بقي علينا الإيفاء بالوعد السالف من الكشف عن الغامض من بقية الأدلة الخمسة والعشرين فنقول: أما حجية شرع من قبلنا فيما لم ينسخ فقال به أكثر الشافعية والحنفية، ومعظم المالكية والمتكلمين بمعنى أنه يجب العمل به إذا قصه - تعالى - في كتابه أو أخبر به الرسول بلا إنكار عليه كما في المرآة، وتفصيله في موافقات الشاطبي فارجع إليه ، وأما التحري فهو بذل المجهود لنيل المقصود من الطاعة وهو حجة يجب العمل به في كثير من الأحكام في الصلاة والزكاة والثياب والأواني كما في الخادمي على مجمع الحقائق ، وأما العرف فقال السيد: هو ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع بالقبول ، وهو حجة لكنه أسرع إلى الفهم ، وكذا العادة وهي: ما استمر الناس عليه على حكم العقول وعادوا إليه مرةً بعد أخرى اهـ ، وأما التعامل: فهو استعمال الناس فيما بينهم بالأخذ والعطاء قال الخادمي: العرف والتعامل حجتان فيما لم يخالف الشرع اهـ ، وقد أشار لذلك البخاري بقوله في كتاب البيوع: باب من أجرى أمر الأنصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والكيل والوزن وسنتهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة. قال الشراح: مقصوده إثبات الاعتماد على العرف، وذكر القاضي حسين أن الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي يبنى عليها الفقه وستأتي ، ومن أمثلته بيع الثمار على الأشجار عند وجود بعضها دون بعض فقد أجازه بعض الحنفية للعرف كما في نشر العرف لابن عابدين وكذا نقل ابن حجر في شرح البخاري عن يزيد بن أبي حبيب جواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها مطلقًا، وأما العمل بالظاهر أو الأظهر فقال الخادمي: هو واجب عند انتفاء دليل فوقه أو يساويه ، وأما الأخذ بالاحتياط أي الأحوط فقال الخادمي: قيل هو العمل بأقوى الدليلين ويرجع إلى حديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وأما القرعة: فهي عمل بالسنة المنقولة فيها أو بالإجماع أو بعموم آية: [وَلَا تَنَازَعُوا](الأنفال: 46) ، وأما مذهب كبار التابعين فهو مثل مذهب الصحابي لاحتمال كونه رواية صحابي مرفوعة ، وأما العمل بالأصل فمعناه: العمل بالراجح ، وأما معقول النص فهو الاستدلال المتقدم ، وأما شهادة القلب فقد يحتج بها عند انتفاء دليل خارجي ومرجعها إلى حديث:(استفتِ قلبك) وحديث: (البر ما اطمأنت إليه النفس)، وأما تحكيم الحال فمعناه: الاستدلال بالزمان الحالي على صدق المقال ، وأما عموم البلوى: فمرجعها إلى رفع الحرج ، وأما العمل بالشبهين فقد ذكره الخادمي في شرح التنقيح معطوفًا على ما تقدم ولعله كالقافة ، وأما دلالة الاقتران فقد قال بها جماعة ومثَّلها بعضهم باستدلال مالك على سقوط الزكاة في الخيل بقرنها مع ما لا زكاة فيه في آية:
[وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً](النحل: 8) والجمهور على أن الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم ، وأما دلالة الإلهام فقد قال بها الرازي وابن الصلاح وغيرهما قال الإمام ابن تيمية: الترجيح بمجرد الإرادة التي لا تستند إلى أمر علمي باطن ولا ظاهر ولا يقول به أحد لكن قد يقال: القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي ، وعلى هذا فمن غلب على قلبه إرادة ما يحبه الله وبغض ما يكرهه إذا لم يدرِ في الأمر المعين هل هو محبوب لله أو مكروه ورأى قلبه يحبه أو يكرهه كان هذا ترجيحًا عنده كما لو أخبر مَن صدقه أغلب من كذبه بخبر، هذا عند انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي ، والذين نفوا كون الإلهام طريقًا شرعيًّا على الإطلاق أخطأوا كما أخطأ الذين جعلوه طريقًا شرعيًّا على الإطلاق ولكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم يَرَ فيها ترجيحًا وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى فإلهام مثل هذا دليل في حقه قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والأحاديث الضعيفة والظواهر الضعيفة والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب والخلاف وأصول الفقه ، وفي الترمذي عن أبي سعيد مرفوعًا:(اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينطق بنور الله) ثم قرأ: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ](الحجر: 75) ، اهـ ، والتتمة سابغة ، وأما رؤيا النبي عليه السلام فنقل عن الأستاذ أبي إسحق وغيره أنها حجة ويلزم العمل بها والجمهور على خلافه ، وأما الأخذ بالأيسر فيقرب من الأخذ بأقل ما قيل ومستنده رفع الحرج ، وأما الأخذ بأكثر ما قيل فمستنده الاحتياط ليخرج من عهدة التكليف بيقين ، وأما فقد الدليل بعد الفحص فمعناه: الاستدلال على عدم الحكم بعدم ما يدل عليه وقد أخذ به قوم كما في شرح المنهاج ، وأما إجماع الصحابة وحدهم فهو مذهب الظاهرية قالوا: إجماع غيرهم ليس بحجة ، وأما إجماع الشيخين فقد ذهب إليه جمع لحديث:(اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) رواه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم ، وأما الإجماع الظني فهو فتوى بعض المجتهدين أو قضاؤه واشتهار ذلك بين المجتهدين من أهل عصره بلا مخالف في تلك الحادثة ولا تَقِيَّة قبل استقرار المذاهب ، وهذا حجة عند أكثر الحنفية وبعض الشافعية وسماه الآمدي حجة ظنية أو إجماعًا ظنيًّا كما في التحرير وشرحه ، وما أوردناه من الأدلة التي سبرناها من عدة مصنفات أرجع كثيرًا منها إلى الأصول الأربعة صاحب المجامع وشارحه وقد يدخل كثير منها أيضًا في غيره مما يرجع إلى اختلاف الاسم أو الإضافة بتنوع ما يتفرع عنها من مثلها وصورها، فافهم.
(19)
حديث صحيح رواه الإمام مالك في موطأه مرسلاً والإمام أحمد وقال الحاكم: هو صحيح على شرط مسلم.
(20)
يقرب من هذا ما قاله الفقهاء الحنفية - عليهم الرحمة - في التعامل وأنه يخص به الأثر والتعامل من باب المصلحة المذكورة قال في الذخيرة البرهانية في الفصل الثامن من الإجارات فيما لو دفع إلى حائك غزلاً على أن ينسجه بالثلث قال: ومشايخ بلخ كنصير بن يحيى ومحمد بن سلمة وغيرهما كانوا يجيزون هذه الإجارة في الثياب لتعامل أهل بلدهم والتعامل حجة يترك بها القياس ويخص به الأثر (ثم قال) : وتخصيص النص بالتعامل جائز ألا ترى أنَّا جوزنا الاستصناع للتعامل والاستصناع بيع ما ليس عنده وأنه منهي عنه وتجويز الاستصناع بالتعامل: تخصيص منا للنص الذي ورد في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان لا ترك للنص أصلاً كذا في نشر العرف لابن عابدين وقد ذهب البخاري - عليه الرحمة - مع كونه من أعظم أنصار الأثر - إلى اعتبار العرف فيما نقلناه عنه قبل من صحيحه في ترجمة ذاك الباب الذي قلّ من يتفطن لها ومن دقق في تلك الترجمة رأى أنها تؤيد ما أشار له الطوفي هنا.
(21)
راجع بسط الجواب على ذلك في شفاء العليل في القدر والتعليل لابن القيم ص 206؛ فإنه لا يستغنى عنه.
(22)
الأظهر: الأخير، قال الشاطبي في الموافقات: إن الشارع قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية وبأن تكون مصالح على الإطلاق فلابد أن يكون وضعها على ذلك الوضع أبديًّا وكليًّا وعامًّا في جميع أنواع التكليف والمكلفين من جميع الأحوال.
(23)
سبق ما يؤيده عن القرافي في الحاشية ويأتي في آخر مقاله أيضًا.
(24)
يراجع هنا ما في أعلام الموقعين في بحث ليس شيء في الشريعة على خلاف القياس. فإنه مهم جدًّا.
(25)
قال ابن القيم في الجواب الكافي في أصناف المغترين: ومنهم مَن يغتر بفهم فاسد فهمه من النصوص فاتكلوا عليه كاتكال بعضهم على قوله - تعالى -: [وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى](الضحى: 5) زعموا أنه لا يرضى أن يكون في النار أحد من أمته وهذا من أبين الكذب عليه فإنه يرضى بما يرضى به ربه عز وجل والله - تعالى - يرضيه تعذيب الفسقة والخونة والمصرّين على الكبائر فحاشا رسوله أن يرضى بما لا يرضى به ربه تعالى. وكاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: [مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ](الانفطار: 6) فيقول: كرمه، ويقول بعضهم: إنه لقن المغتر حجته وهذا جهل قبيح وإنما غره بربه الغَرور وهو الشيطان ونفسه الأمَّارة بالسوء وجهله وهواه وأتى سبحانه بلفظ (الكريم) وهو السيد الأعظم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال حقه فوضع هذا المغتر الغرور في غير موضعه واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به.ا. هـ ونحوه للغزالى في الإحياء.
(26)
كالنَّظَّام وبعض الشيعة والخوارج والظاهرية ما عدا إجماع الصحابة ، اهـ من المصنف.
(27)
من القضايا المشهورة في ذلك حديث العباس في حجة الوداع وقوله للنبي عليه السلام لما نهى أن يعضد شجر مكة ويختلى خلاها: إلا الإذخر يا رسول الله فقال عليه السلام: إلا الإذخر ، ومنها حديث البخاري في أول كتاب الشركة لما خفت أزواد القوم وأملقوا وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم فأذن لهم فقال لهم عمر: ما بقاؤكم بعد إبلكم؟ ودخل على النبي عليه السلام فأخبره فأمر أن تجمع أزواد الناس الحديث.
(28)
أي في بحث له سابق طويناه اختصارًا وهو قوله: إن الصحابة أجمعوا على جواز التيمم للمرض وعدم الماء وخالف ابن مسعود واحتج عليه أبو موسى الأشعري فلم يلتفت كما بسطه البخاري في صحيحه.
(29)
يشير إلى ما ذكره القرافي في تنقيحه من تقديم الإجماع على النص وعبارة الشافعي في رسالته في باب الاستحسان في شروط مَن يقيس: ويستدل على ما احتمل التأويل بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا لم يجد سنةً فبإجماع المسلمين، وذكر نحوه في عدة مواضع منها.
(30)
يشير إلى أن حديث (اختلاف أمتي رحمة) لا أصل له كما بيَّن في الموضوعات.
(31)
يعني: طريق السلف المبسوط في موضعه.
(32)
أي: بمنطوقها وإن استفيد مفهومها من قواعدهم وقدمنا ما يقرب منه عند الحنفية رحمهم الله من تخصيص النص بالعرف عن الذخيرة ونحوه، نقل الشافعية عن القاضي حسين أن مبنى الفقه على أن اليقين لا يرفع بالشك والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، والعادة محكمة، وأرجعه العز ابن عبد السلام في قواعده إلى قاعدتين: اعتبار المصالح ودرء المفاسد، وبعضهم إلى تحكيم العادة قال القاضي زكريا: وبحث بعضهم رجوع الجميع إلى جلب المصالح كذا في حواشي العطار على جمع الجوامع وأظن البعض الذي عناه القاضي زكريا هو الطوفي المصنف.
(33)
المجمل: ما خفي المراد منه بحيث لا يدرك بنفس اللفظ إلا ببيان سواء كان ذلك لتزاحم المعاني المتساوية الأقدام كالمشترك، أو لغرابة اللفظ أو لانتقاله من معناه الظاهر إلى غير ما هو معلوم، كذا في تعريفات السيد.
(34)
أي: لأنه لا يعمل به في المعاملات بل في فضائل الأعمال على قول، ومنهم من منع العمل به مطلقًا كما بسط في كتب المصطلح وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحة أن الراوي للأحاديث الضعيفة غاش آثم في فصل ينبغي العناية به وبالأولى ما كان منها في باب الصفات؛ ولذا قال القاضي عياض في (الشفا) في الوجه السابع: فأما ما لا يصح من هذه الأحاديث فواجب أن لا يذكر منها شيء في حق الله وحق أنبيائه، وأن لا يتحدث بها، ولا يتكلف الكلام على معانيها، والصواب طرحها وترك الشغل بها إلا أن تُذكر على وجه التعريف بأنها ضعيفة المقاد، واهية الإسناد إلخ.
(35)
قال القرافي في تنقيحه: الكليات الخمس وهي حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال - قيل والأعراض- حكى الغزالي وغيره إجماع الملل على تحريمها وأنه - تعالى - ما أباح العرض بالقذف والسباب قط، ولا الأموال بالسرقة والغصب، ولا الأنساب بإباحة الزنا، ولا العقول بإباحة المسكرات، ولا النفوس والأعضاء بإباحة القطع والقتل، ولا الأديان بإباحة الكفر وانتهاك حرم المحرمات.
(36)
أي: واجب اعتبارها وملاحظتها أولاً وبالذات لأنها هي سر الشريعة ولبابها كالمعاني بالنسبة إلى الألفاظ فإن الألفاظ لم تُقصد لنفسها وإنما هي مقصودة لمعانيها ومن هنا ذهب السلف إلى تحريم الحيل فإن من عرف قدر الشرع وحكمته وما اشتمل عليه من رعاية مصالح العباد تبين له حقيقة الحيل وقطع بأن الله - تعالى - يتنزه أن يشرع لعباده نقض شرعه وحكمته بأنواع الخداع والاحتيال، انظر بسط ذلك في أعلام الموقعين.
(*) المنار: يظهر أنه سقط من هنا مقابل إما وهو التقسيم الإجمالي المفصل بعد.
(37)
يقرب من هذا قاعدة عظمى أشار لها ابن تيمية - عليه الرحمة - بقوله: إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء هل هو الإباحة أو التحريم فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته فإن كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته بل يقطع أن الشرع يحرمه؛ لا سيما إذا كان مفضيًا إلى ما يبغضه الله ورسوله اهـ.
(**) المنار: لعلها: للشارع وكذا ما يماثلها.
(38)
قال الإمام القرافي: إن المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق. لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهدًا بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة أن الصحابة - رضوان الله عليهم - عملوا أمورًا لمطلق المصلحة لا لنقد شاهد بالاعتبار نحو تدوين الدواوين ثم قال: ينقل عن مذهبنا (المالكية) أن من خواصه اعتبار العوائد والمصلحة المرسلة وسد الذرائع وليس كذلك ، أما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها ، وأما المصلحة المرسلة فغيرنا يصرح بإنكارها ولكنهم عند التفريع تجدهم يعللون بمطلق المصلحة ولا يطالبون أنفسهم عند الفروق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار، بل يعتمدون على مجرد المناسبة وهذا هو المصلحة المرسلة وأما الذرائع فمنها ما هو مجمع عليه ومنها ما هو مختلف فيه اهـ ، ولابن القيم في أعلام الموقعين فصل في سد الذرائع ذكر فيه تسعةً وتسعين مثالاً من الشارع في منع الذرائع المفضية إلى المفاسد وممن توسع في بحث المصالح المرسلة الإمام الأصولي الشيخ أبو إسحق الشاطبي المالكي في كتابه الموافقات فقد جود الاستدلال عليها والنظر في لواحقها في الجزء الثاني، فارجع إليه إن رُمت المزيد على ما هنا. اهـ ما أورده الشيخ جمال الدين القاسمي حفظه الله.