الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس السادس: في أقسام الناس في الصيام
الحمد لله الذي أتقن بحكمته ما فطر وبَنَى، وشرع الشرائع رحمة وحكمة طريقا وسننا، وأمرنا بطاعته لا لحاجته بل لنا، يغفر الذنوب لكل من تاب إلى ربه ودنا، ويجزل العطايا لمن كان محسنا {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] . أحمده على فضائله سرا وعلنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها الفوز بدار النعيم والهنا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي رفعه فوق السماوات فدنا، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر القائم بالعبادة راضيا بالعنا، الذي شرفه الله بقوله:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ، وعلى عمر الْمُجِدِّ في ظهور الإسلام فما ضعف ولا ونى، وعلى عثمان الذي رضي بالقدر وقد حل في الفِناء الفنا، وعلى علي القريب في النسب وقد نال المنى، وعلى سائر آله وأصحابه الكرام الأمناء، وسلم تسليما.
إخواني: سبق في المجلس الثالث أَنَّ فَرْضَ الصيامِ كان في أول الأمر على مرحلتين، ثم استقرت أحكام الصيام فكان الناس فيها أقساما عشرة:
* القسم الأول: المسلم البالغ العاقل المقيم القادر السالم من الموانع، فيجب
عليه صوم رمضان أداء في وقته لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك، قال الله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«إذا رأيتم الهلال فصوموا» (1) وأجمع المسلمون على وجوب الصيام أداء على مَنْ وصفنا.
فأما الكافر فلا يجب عليه الصيام ولا يصح منه لأنه ليس أهلا للعبادة، فإذا أسلم في أثناء شهر رمضان لم يلزمه قضاء الأيام الماضية ، لقوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وإن أسلم في أثناء يوم منه لزمه إمساك بقية اليوم؛ لأنه صار من أهل الوجوب حين إسلامه، ولا يلزمه قضاؤه لأنه لم يكن من أهل الوجوب حين وقت وجوب الإمساك.
* القسم الثاني: الصغير فلا يجب عليه الصيام حتى يبلغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يفيق» (2) ، لكن يأمره وليه بالصوم إذا أطاقه تمرينا له على الطاعة ليألفها بعد بلوغه اقتداءً بالسلف الصالح رضي الله عنهم ، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يُصَوِّمُون أولادهم وهم صغار، ويذهبون إلى المسجد فيجعلون لهم اللعبة من العِهْن (يعني الصوف أو نحوه)
(1) متفق عليه.
(2)
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الحاكم.
فإذا بكوا من فقد الطعام أعطوهم اللعبة يَتَلَهَّوْنَ بها.
وكثير من الأولياء اليوم يغفلون عن هذا الأمر ولا يأمرون أولادهم بالصيام ، بل إن بعضهم يمنع أولاده من الصيام مع رغبتهم فيه ، يزعم أن ذلك رحمة بهم ، والحقيقة أن رحمتهم هي القيام بواجب تربيتهم على شعائر الإسلام وتعاليمه القَيِّمة ، فَمَنْ منعهم مِنْ ذلك أو فرط فيه كان ظالما لهم ولنفسه أيضا، نعم إن صاموا فرأى عليهم ضررا بالصيام فلا حرج عليه في منعهم منه حينئذ.
ويحصل بلوغ الذكر بواحد من أمور ثلاثة:
* أحدهما:
إنزال المني باحتلام أو غيره لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«غسل الجمعة واجب على كل محتلم» (1) .
* الثاني: نبات شعر العانة وهو الشعر الخشن ينبت حول القبل ، لقول عَطِيَّةَ القُرَظِيِّ رضي الله عنه:«عُرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قُرَيْظَة فمن كان محتلما أو أنبت عانته قُتِلَ ومن لا تُرِكَ» (2) .
* الثالث:
بلوغ تمام خمس عشرة سنة لقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «عُرِضْتُ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزْني» (يعني للقتال)، زاد البيهقي وابن حبان في صحيحه بسند صحيح: «ولم يرني بلغت، وعُرضت عليه يوم الخندق وأنا
(1) متفق عليه.
(2)
رواه أحمد والنسائي ، وهو صحيح.
ابن خمس عشرة سنة فأجازني» ، (زاد البيهقي وابن حبان في صحيحه بسند صحيح: ورآني بلغت) (1)، قال نافع: فَقَدِمْتُ على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته الحديث فقال: إن هذا الحد بين الصغير والكبير وكتب لِعُمَّالِهِ أن يفرضوا (يعني من العطاء) لمن بلغ خمس عشرة سنة (2) .
ويحصل بلوغ الأنثى بما يحصل به بلوغ الذكر وزيادة أمر رابع وهو الحيض، فمتى حاضت الأنثى فقد بلغت، فيجري عليها قلم التكليف وإن لم تبلغ عشر سنين، وإذا حصل البلوغ أثناء نهار رمضان فإن كان من بلغ صائما أتم صومه ولا شيء عليه ، وإن كان مفطرا لزمه إمساك يومه؛ لأنه صار من أهل الوجوب، ولا يلزمه قضاؤه لأنه لم يكن من أهل الوجوب حين وجوب الإمساك.
* القسم الثالث:
المجنون
وهو فاقد العقل فلا يجب عليه الصيام، لما سبق من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«رفع القلم عن ثلاثة» (الحديث) ، ولا يصح منه الصيام لأنه ليس له عقل يعقل به العبادة وينويها، والعبادة لا تصح إلا بنية لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» . . . "، فإن كان يُجَنُّ أحيانا ويفيق أحيانا لزمه الصيام في حال إفاقته دون حال جنونه، وإن جُنَّ في أثناء النهار لم يبطل صومه كما لو أُغْمِيَ عليه بمرض أو غيره؛ لأنه نوى الصوم وهو عاقل بنية صحيحة، ولا دليل على البطلان خصوصا إذا كان معلوما أن الجنون ينتابه في
(1) رواه الجماعة.
(2)
رواه البخاري.
ساعات معينة، وعلى هذا فلا يلزم قضاء اليوم الذي حصل فيه الجنون، وإذا أفاق المجنون أثناء نهار رمضان لزمه إمساك بقية يومه؛ لأنه صار من أهل الوجوب، ولا يلزمه قضاؤه كالصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم.
* القسم الرابع: الْهَرِم الذي بلغ الهذيان وسقط تمييزه فلا يجب عليه الصيام ولا الإطعام عنه؛ لسقوط التكليف عنه بزوال تمييزه فَأَشْبَهَ الصبي قبل التمييز، فإن كان يميز أحيانا ويهذي أحيانا وجب عليه الصوم في حال تمييزه دون حال هذيانه ، والصلاة كالصوم لا تلزمه حال هذيانه وتلزمه حال تمييزه.
* القسم الخامس: العاجز عن الصيام عجزا مستمرا لا يرجى زواله كالكبير والمريض مرضا لا يرجى برؤه كصاحب السرطان ونحوه ، فلا يجب عليه الصيام لأنه لا يستطيعه وقد قال الله سبحانه:{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال:{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، لكن يجب عليه أن يطعم بدل الصيام عن كل يوم مسكينا؛ لأن الله سبحانه جعل الإطعام معادلا للصيام حين كان التخيير بينهما أول ما فُرِضَ الصيام ، فتعين أن يكون بدلا عن الصيام عند العجز عنه لأنه معادل له.
ويُخَيَّر في الإطعام بين أن يفرقه حبا على المساكين لكل واحد مُدٌّ من البُّر ربع الصاع النبوي، ووزنه - أي: المد - نصف كيلو وعشرة غرامات بالبر الرزين الجيد، وبين أن يُصْلِح طعاما فيدعو إليه مساكين بقدر الأيام التي عليه، قال البخاري رحمه الله: وأما الشيخ الكبير إذا لم يُطِق الصيام فقد أطعم أنس بعدما كبر عاما أو عامين كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا (1) .
إخواني: الشرع حكمة من الله تعالى ورحمة رحم الله بها عباده؛ لأنه شرع مبني على التسهيل والرحمة وعلى الإتقان والحكمة، أوجب الله به على كل واحد من المكلفين ما يناسب حاله ليقوم كل أحد بما عليه منشرحا به صدره ومطمئنة به نفسه، يرضى بالله ربا وبالإسلام دينا
(1) رواه البخاري.
وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا؛ فاحمدوا الله أيها المؤمنون على هذا الدين القيم، وعلى ما أنعم به عليكم من هدايتكم له وقد ضل عنه كثير من الناس، واسألوه أن يثبتكم عليه إلى الممات.
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، يا ذا الجلال والإكرام يا منان يا بديع السماوات والأرض، يا حي يا قيوم، نسألك أن توفقنا لما تحب وترضى، وأن تجعلنا ممن رضي بك ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، ونسألك أن تثبتنا على ذلك إلى الممات، وأن تغفر لنا الخطايا والسيئات، وأن تهب لنا منك رحمة إنك أنت الوهاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.