الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس الرابع والعشرون: في أوصاف أهل الجنة جعلنا الله منهم بمنه وكرمه
الحمد لله الذي كوَّن الأشياء وأحكمها خلقا، وفتق فأسعد وأشقى ، وجعل للسعادة أسبابا فسلكها من كان أتقى ، فنظر بعين البصيرة إلى العواقب فاختار ما كان أبقى، أحمده وما أقضي له بالحمد حقا، وأشكره ولم يزل للشكر مستحقا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مالك الرقاب كلها رقا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل البشر خُلُقًا وخَلْقًا، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الصديق الحائز فضائل الأتباع سبقا، وعلى عمر العادل فما يحابي خلقا، وعلى عثمان الذي استسلم للشهادة وما تَوَقَّى، وعلى علي بائع ما يفنى ومشتري ما يبقى، وعلى آله وأصحابه الناصرين لدين الله حقا، وسلم تسليما.
إخواني: سمعتم أوصاف الحنة ونعيمها وما فيها من السرور والفرح والحبور، فوالله إنها لجديرة بأن يعمل لها العاملون ويتنافس فيها المتنافسون، ويُفني الإنسان عمره في طلبها زاهدا في الدون، فإن سألتم عن العمل لها والطريق الموصل إليها فقد بيَّنه الله فيما أنزله من وحيه على أشرف خلقه. قال الله عز وجل:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} {
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 133 - 135]، فهذه أوصاف في أهل الجنة:
* الوصف الأول: (المتقين) وهم الذين اتقوا ربهم باتخاذ الوقاية من عذابه بفعل ما أمرهم به طاعة له ورجاء لثوابه، وترك ما نهاهم عنه طاعة له وخوفا من عقابه.
* الوصف الثاني: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} فهم ينفقون ما أُمِروا بإنفاقه على الوجه المطلوب منهم من الزكاة والصدقات والنفقات على من له حق عليهم، والنفقات في الجهاد وغيره من سبل الخير ينفقون ذلك في السراء والضراء، لا تحملهم السراء والرخاء على حب المال والشح فيه طمعا في زيادته، ولا تحملهم الشدة والضراء على إمساك المال خوفا من الحاجة إليه.
الوصف الثالث: الكاظمين الغيظ وهم الحابسون لغضبهم إذا غضبوا، فلا يعتدون ولا يحقدون على غيرهم بسببه.
* الوصف الرابع: العافين عن الناس يعفون عمن ظلمهم واعتدى عليهم، فلا ينتقمون لأنفسهم مع قدرتهم على ذلك. وفي قوله تعالى: والله يحب المحسنين إشارة إلى أن العفو لا يُمْدَح إلا
إذا كان من الإحسان، وذلك بأن يقع موقعه ويكون إصلاحا، فأما العفو الذي تزداد به جريمة المعتدي فليس بمحمود ولا مأجور عليه، قال الله تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} [الشورى: 40] .
* الوصف الخامس: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} ، الفاحشة: ما يُسْتَفْحَش من الذنوب وهي الكبائر كقتل النفس الْمُحَرَّمة بغير حق، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتَّوَلِّي يوم الزحف، والزنا، والسرقة، ونحوها من الكبائر، وأما ظلم النفس فهو أعم، فيشمل الصغائر والكبائر، فهم إذا فعلوا شيئا من ذلك ذكروا عظمة من عَصَوْهُ فخافوا منه، وذكروا مغفرته ورحمته فسعوا في أسباب ذلك، فاستغفروا لذنوبهم بطلب سترها والتجاوز عن العقوبة عليها. وفي قوله:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ} إشارة إلى أنهم لا يطلبون المغفرة من غير الله لأنه لا يغفر الذنوب سواه.
الوصف السادس: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: لم يستمروا على فعل الذنب وهم يعلمون أنه ذنب، ويعلمون عظمة من عصوه، ويعلمون قرب مغفرته ، بل يبادرون إلى الإقلاع عنه والتوبة منه، فالإصرار على الذنوب مع هذا العلم يجعل الصغائر كبائر ويتدرج بالفاعل إلى أمور خطيرة صعبة.
وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11] ، فهذه الآيات الكريمة جمعت عدة أوصاف من أوصاف أهل الجنة.
* الوصف الأول: (المؤمنون) الذين آمنوا بالله وبكل ما يجب الإيمان به من ملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، آمَنوا بذلك إيمانا يستلزم القبول والانقياد بالقول والعمل.
* الوصف الثاني: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} حاضرة قلوبهم، ساكنة جوارحهم، يستحضرون أنهم قائمون في صلاتهم بين يدي الله عز وجل يخاطبونه بكلامه ويتقربون إليه بذكره ويلجؤون إليه بدعائه ، فهم خاشعون بظواهرهم وبواطنهم.
* الوصف الثالث: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} ، واللغو كل ما لا فائدة فيه ولا خير من قول أو فعل ، فهم معرضون عنه لقوة عزيمتهم وشدة حزمهم، لا يمضون أوقاتهم الثمينة إلا فيما فيه فائدة ، فكما حفظوا صلاتهم بالخشوع حفظوا أوقاتهم عن الضياع ، وإذا كان من وصفهم الإعراض عن اللغو وهو ما لا فائدة فيه فإعراضهم عما فيه مضرة من باب أولى.
* الوصف الرابع: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} يحتمل أن المراد بالزكاة القسط الواجب دفعه من المال الواجب زكاته ، ويحتمل أن
المراد بها كل ما تزكو به نفوسهم من قول أو عمل.
* الوصف الخامس: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فهم حافظون لفروجهم عن الزنا واللواط لما فيهما من معصية الله والانحطاط الْخُلُقي والاجتماعي ، ولعل حفظ الفرج يشمل ما هو أعم من ذلك فيشمل حفظه عن النظر واللمس أيضا، وفي قوله:{فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} إشارة إلى أن الأصل لوم الإنسان على هذا الفعل إلا على الزوجة والمملوكة لما في ذلك من الحاجة إليه؛ لدفع مقتضى الطبيعة وتحصيل النسل وغيره من المصالح ، وفي عموم قوله:{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} دليل على تحريم الاستمناء الذي يسمى [العادة السرية] لأنه عملية في غير الزوجات والمملوكات.
* الوصف السادس: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} الأمانة ما يُؤْتَمَنُ عليه من قول أو فعل أو عين ، فمن حدثك بسر فقد ائتمنك ، ومن فعل عندك ما لا يحب الاطلاع عليه فقد ائتمنك ، ومن سلَّمك شيئا من ماله لحفظه فقد ائتمنك، والعهد ما يلتزم به الإنسان لغيره كالنذر لله والعهود الجارية بين الناس، فأهل الجنة قائمون برعاية الأمانات والعهد فيما بينهم وبين الله وفيما بينهم وبين الخلق، ويدخل في ذلك الوفاء بالعقود والشروط المباحة فيها.
* الوصف السابع: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يلازمون على حفظها من الإضاعة والتفريط، وذلك بأدائها في وقتها على الوجه
الأكمل بشروطها وأركانها وواجباتها.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أوصافا كثيرة في القرآن لأهل الجنة سوى ما نقلناه هنا، ذكر ذلك سبحانه ليتصف به من أراد الوصول إليها، وفي الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء كثير: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سَهَّلَ الله له به طريقا إلى الجنة» (1) . وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الْخُطَا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة» (2) . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فُتِحَت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» (3) ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا «فيمن تابع المؤذن من قلبه دخل الجنة» (4) .
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة» (5)، وعن عُبَادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة» (6) ،
(1) رواه مسلم.
(2)
رواه مسلم.
(3)
رواه مسلم.
(4)
رواه مسلم.
(5)
متفق عليه.
(6)
رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي ، وله طرق يُقَوِّي بعضها بعضا.
وعن ثوبان رضي الله عنه أنه «سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الله به الجنة فقال: " عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة» (1)، وعن أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة» (2) . وهن أربع قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الصبح.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال: " لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» (3)، وعن سهل بن سعد رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم» متفق عليه. وعن أبى هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (4) .
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن وجبت له الجنة البتة ". قيل: يا رسول الله فإن كانتا اثنتين؟ قال:
(1) رواه مسلم.
(2)
رواه مسلم.
(3)
رواه أحمد والترمذي وصححه.
(4)
متفق عليه.
فرأى بعض القوم أن لو قال: واحدة لقال واحدة رواه أحمد وإسناده ضعيف، لكن له شواهد صحيحة منها قوله صلى الله عليه وسلم:" من ابْتُلِيَ من البنات بشيء فأحسنَ إليهم كُنَّ له سترا من النار» (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يُدْخِل الناس الجنة؟ فقال: " تقوى الله وحسن الخلق» (2)، وعن عياض بن حمار المجاشعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقْسِط متصدِّق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفِّف ذو عيال» (3) .
فهذه أيها الإخوان طائفة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تبين شيئا كثيرا من أعمال أهل الجنة لمن أراد الوصول إليها. أسأل الله أن ييسر لنا ولكم سلوكها ويثبتنا عليها إنه جواد كريم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(1) رواه مسلم.
(2)
رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه، وإسناده ليس بذلك لكن متنه صحيح.
(3)
رواه مسلم في حديث طويل.