الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس الثلاثون: في ختام الشهر
الحمد لله الواسع العظيم، الجواد البر الرحيم، خلق كل شيء فقدَّره، وأنزل الشرع فيسَّره وهو الحكيم العليم، بدأ الخلق وأنهاه، وسيَّر الفَلَك وأجراه، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38 - 40] .
أحمده على ما أَوْلَى وهدى، وأشكره على ما وهب وأعطى، وأشهد أنه لا إله إلا هو الملك العلي الأعلى، الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على العالمين، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر أفضل الصِّدِّيقين ، وعلى عمر المعروف بالقوة في الدين، وعلى عثمان المقتول ظلما بأيدي المجرمين، وعلى علي أقربهم نسبا على اليقين، وعلى جميع آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
إخواني: إن شهر رمضان قرب رحيله وأزف تحويله، وإنه شاهد لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فمن أودعه عملا صالحا
فليحمد الله على ذلك وليبْشِر بحسن الثواب، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن أودعه عملا سيئا فليتب إلى ربه توبة نصوحا، فإن الله يتوب على من تاب، ولقد شرع الله لكم في ختام شهركم عبادات تزيدكم من الله قربا، وتزيد في إيمانكم قوة، وفي سجل أعمالكم حسنات، فشرع الله لكم زكاة الفطر وتقدم الكلام عليها مفصلا، وشرع لكم التكبير عند إكمال العدة من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال الله تعالى:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، وصفته أن يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ويُسَنُّ جهر الرجال به في المساجد والأسواق والبيوت إعلانا بتعظيم الله وإظهارا لعبادته وشكره، ويُسِرُّ به النساء لأنهن مأمورات بالتستر والإسرار بالصوت.
ما أجمل حال الناس وهم يكبِّرون الله تعظيما وإجلالا في كل مكان عند انتهاء شهر صومهم ، يملؤون الآفاق تكبيرا وتحميدا وتهليلا ، يرجون رحمة الله ويخافون عذابه.
وشرع الله سبحانه لعباده صلاة العيد يوم العيد، وهى من تمام ذكر الله عز وجل، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها أمته رجالا ونساء، وأمره مطاع لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء أن يخرجن إلى صلاة العيد، مع أن البيوت خير لهن فيما عدا هذه الصلاة، وهذا دليل على تأكيدها، قالت أم عطية رضي الله عنها: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُخْرِجهن في الفطر والأضحى، العَوَاتِق والْحُيَّض
وذوات الخدور ، فأما الْحُيَّض فيعتزلن الْمُصَلَّى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ، قال: " لِتُلْبِسْها أختها من جلبابها» (1)، والجلباب: لباس تلتحف فيه المرأة بمنزلة العباءة.
ومن السنة أن يأكل قبل الخروج إلى الصلاة في عيد الفطر تمرات وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك ، يقطعها على وتر لقول أنس بن مالك رضي الله عنه:«كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا» (2) .
ويخرج ماشيا لا راكبا إلا من عذر كعجز وبُعْدٍ لقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا (3)، ويسن للرجل أن يتجَمَّل ويلبس أحسن ثيابه لما رُوِيَ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:«أخذ عمر جبة من إستبرق - أي: حرير - تباع في السوق، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول ابْتَعْ هذه (يعني اشْتَرِها) تجمَّل بها للعيد والوفود، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما هذه لباس من لا خلاق له» ، وإنما قال ذلك لكونها حريرا، ولا يجوز للرجل أن يلبس شيئا من الحرير أو شيئا من الذهب؛ لأنهما حرام على الذكور من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما المرأة فتخرج إلى العيد غير متجمِّلة ولا متطيِّبة ولا متبرجة ولا سافرة لأنها مأمورة بالتستر مَنْهِيَّة عن التبرج بالزينة وعن التطيب حال الخروج.
(1) متفق عليه.
(2)
رواه أحمد والبخاري.
(3)
رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفيه الحارث الأعور وأكثر الحفاظ على توهينه ووثقه بعضهم.
ويؤدي الصلاة بخشوع وحضور قلب، ويكثر من ذكر الله ودعائه ويرجو رحمته ويخاف عذابه، ويتذكر باجتماع الناس في الصلاة على صعيد المسجد اجتماع الناس في المقام الأعظم يبن يدي الله عز وجل في العيد يوم القيامة، ويرى إلى تفاضلهم في هذا المجتمع فيتذكر به التفاضل الأكبر في الآخرة، قال الله تعالى:{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21]، وليكن فرحا بنعمة الله عليه بإدراك رمضان وعمل ما تيسر فيه من الصلاة والصيام والقراءة والصدقة وغير ذلك من الطاعات؛ فإن ذلك خير من الدنيا وما فيها {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] ، فإن صيام رمضان وقيامه إيمانا واحتسابا من أسباب مغفرة الذنوب والتخلص من الآثام، فالمؤمن يفرح بإكمال الصوم والقيام، لِتَخَلُّصِهِ به من الآثام، وضعيف الإيمان يفرح بإكماله لتخلصه من الصيام الذي كان ثقيلا عليه ضائقا به صدره، والفرق بين الفريقين عظيم.
إخواني: إنه وإن انقضى شهر رمضان فإن عمل المؤمن لا ينقضي قبل الموت، قال الله عز وجل:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا مات العبد انقطع عمله» ، فلم يجعل لانقطاع العمل غاية إلا الموت، فلئن انقضى صيام شهر رمضان فإن المؤمن لن ينقطع من عبادة الصيام بذلك، فالصيام لا يزال مشروعا ولله الحمد في العام كله،
فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر» (1) .
وصيام ثلاثة أيام من كل شهر قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله» (2)، وقال أبو هريرة رضي الله عنه:«أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث، وذكر منها صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والْأَوْلَى أن تكون أيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر» ، لحديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة» (3)، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن صوم يوم عرفة فقال:«يكفر السنة الماضية والباقية» (4)، وسئل عن صيام عاشوراء فقال:«يُكَفِّر السنة الماضية» ، وسئل عن صوم يوم الاثنين فقال:«ذاك يومٌ وُلِدْتُ فيه ويومٌ بُعِثْتُ فيه أو أُنْزِلَ علي فيه» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ قال: " أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم» (5)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استكمل شهرا قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان، وفي لفظ: كان
يصومه إلا قليلا» (6) ، وعنها رضي
(1) رواه أحمد ومسلم.
(2)
رواه أحمد ومسلم.
(3)
رواه أحمد والنسائي وابن حبان وصححه وله شواهد يتقوى بها.
(4)
رواه مسلم.
(5)
رواه مسلم.
(6)
متفق عليه.
الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صيام الاثنين والخميس» (1)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«تُعْرَض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» (2) .
ولئن انقضى قيام شهر رمضان فإن القيام لا يزال مشروعا ولله الحمد في كل ليلة من ليالي السنة ثابتا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال:«إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم أو ليصلي حتى ترم قدماه، فيقال له فيقول: " أفلا أكون عبدا شكورا؟» (3)، وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلُوا الأرحام وصَلُّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» (4)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» (5) ، وصلاة الليل تشمل التطوع كله والوتر فيصلي مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى واحدة فأوتَرتْ ما صلى، وإن شاء صلى على صفة ما سبق في المجلس الرابع.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث
(1) رواه الخمسة إلا أبا داود فهو له من حديث أسامة بن زيد.
(2)
رواه الترمذي وهو ضعيف لكن له شاهد يعضده ، وقد ثبت في صحيح مسلم أن الأعمال تعرض كل يوم اثنين وخميس.
(3)
رواه البخاري.
(4)
رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ، ورواه الإمام أحمد أيضا وله شواهد يرتقي بها إلى الصحة.
(5)
رواه مسلم.
الليل الآخِر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» (1) والرواتب التابعة للفرائض اثنتا عشرة ركعة، أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر، فعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة "، وفي لفظ: " من صلى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُنِيَ له بهن بيتٌ في الجنة» (2) .
والذكر أدبار الصلوات الخمس أمر الله به في كتابه وحث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، «وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم استغفر ثلاثا وقال:" اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام "، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من سبَّح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثا وثلاثين فتلك تسعة وتسعون، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غُفِرَت خطاياه وإن كانت مثل زَبَدِ البحر» (3) .
فاجتَهِدوا إخواني في فعل الطاعات، واجتنِبُوا الخطايا والسيئات لتفوزوا بالحياة الطيبة في الدنيا، والأجر الكبير بعد الممات، قال الله
(1) متفق عليه.
(2)
رواه مسلم.
(3)
رواه مسلم.
عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] .
اللهم ثبِّتْنَا على الإيمان والعمل الصالح، وأحْيِنا حياة طيبة، وألحقنا بالصالحين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإلى هنا انتهى ما أردنا كتابته في هذا، نسأل الله أن يجعل عملنا خالصا لوجهه ومقربا إليه ونافعا لعباده، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، ويهدينا لما اخْتُلِف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وكان الفراغ منه يوم الجمعة الموافق 29 محرم من عام ست وتسعين وثلاثمائة وألف على يد مؤلفه الفقير إلى مولاه محمد بن صالح بن عثيمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.