الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين ف
الدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون
بعلمه القديم
ــ
فصل
في درجات الإيمان بالقدر
* إنما قسم المؤلف هذا التقسيم من أجل الخلاف؛ لأن الخلاف في القدر ليس شاملا لكل مراتبه، وباب القدر من أشكال أبواب العلم والدين على الإنسان، وقد كان النزاع فيه من عهد الصحابة رضي الله عنهم، لكنه ليس مشكلا لمن أراد الحق.
* قوله: " فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون ":
ولم يذكر المؤلف أن الله علم ما يفعله هو؛ لأن هذه المسألة ليس فيها خلاف، إنما ذكر ما فيه الخلاف، وهو: هل الله يعلم ما الخلق عاملون أو لا يعلمه إلا بعد وقوعه منهم؟
ومذهب السلف والأئمة أن الله تعالى عالم بذلك.
* القديم في اصطلاحهم: هو الذي لا أول لابتدائه؛ أي أنه لم يزل فيما مضى من الأزمنة التي لا نهاية لها عالما بما يعمله الخلق؛ بخلاف القديم في اللغة؛ فقد يراد به ما كان قديما نسبيا، كما في قوله تعالى:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] ، ومعلوم أن عرجون النخلة ليس بقديم أزلي، بل قديم بالنسبة لما بعده.
* فالله تعالى موصوف بأنه عالم بما الخلق عاملون بعلمه القديم الأزلي،
الذي هو موصوف به أزلا وأبدا
ــ
الذي لا نهاية لأوله، عالم جل وعلا بأن هذا الإنسان سيعمل كذا في يوم كذا مكان كذا بعلمه القديم الأولى؛ فيجب أن نؤمن بذلك:
* ودليل ذلك من الكتاب والسنة والعقل:
أما الكتاب؛ فما أكثر الآيات التي فيها العموم في علم الله؛ مثل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32] {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]، {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [الطلاق:12]
…
إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة.
أما في السنة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وبأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأقلام قد جفت وطويت الصحف. . . والأحاديث في هذا كثيرة.
وأما العقل؛ فإن من المعلوم بالعقل أن الله تعالى هو الخالق، وأن ما سواه مخلوق، ولا بد عقلا أن يكون الخالق عالما بمخلوقه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] .
فالكتاب والسنة والعقل كلها تدل على أن الله تعالى عالم بما الخلق عاملون بعلمه الأولي.
* قوله: " الذي هو موصوف به أزلا وأبدا ": ففي كونه موصوفا به أزلا نفي للجهل، وفي كونه موصوفا به أبدا نفي النسيان.
ولهذا كان علم الله عز وجل غير مسبوق بجهل ولا ملحوق بنسيان؛
علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال
ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق
ــ
كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] ؛ بخلاف علم المخلوق المسبوق بالجهل والملحوق بالنسيان.
إذا؛ يجب علينا أن نؤمن بأن الله عالم بما الخلق عاملون بعلم سابق موصوف به أزلا وأبدا.
* دليل ذلك ما ثبت في " الصحيحين «عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه. . . " وذكر أطوار الجنين، وفيه: " ثم يبعث الله ملكًا، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد. . .» وذكر تمام الحديث.
فالله عالم بذلك قبل أن يخلق الإنسان.
فطاعتنا معلومة لله، ومعاصينا معلومة لله، وأرزاقنا معلومة له، وآجالنا معلومة له، إذا مات الإنسان بسبب أو بغير سبب معلوم؛ فإنه لله معلوم، ولا يخفى عليه؛ بخلاف علم الإنسان بأجله؛ فإنه لا يعرف أجله؛ فلا يعرف أين يموت، ولا متى يموت، ولا يعرف بأي سبب يموت، ولا يعرف على أي حال يموت؛ نسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
وهذا هو الشيء الأول من الدرجة الأولى.
هذا الشيء الثاني من الدرجة الأولى، وهو أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق.
* اللوح المحفوظ: لا نعرف ماهيته؛ من أي شيء؛ أمن خشب، أم من حديد، أم من ذهب، أم من فضة، أم من زمرد،؟ فالله أعلم بذلك؛ إنما نؤمن بأن هناك لوحا كتب الله فيه مقادير كل شيء، وليس لنا الحق في أن نبحث وراء ذلك، لكن لو جاء في الكتاب والسنة ما يدلنا على شيء؛ فالواجب أن نعتقده.
ووصف بكونه محفوظا؛ لأنه محفوظ من أيدي الخلق؛ فلا يمكن أن يلحق أحد به شيئًا، أو يغير به شيئًا أبدا.
ثانيا: محفوظ من التغيير؛ فالله عز وجل لا يغير فيه شيئًا؛ لأنه كتبه عن علم منه؛ كما سيذكره المؤلف، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله:" إن المكتوب في اللوح المحفوظ لا يتغير أبدًا "، وإنما يحصل التغيير في الكتب التي بأيدي الملائكة.
* قوله: " مقادير الخلق "؛ أي: مقادير المخلوقات كلها، وظاهر النصوص أنه شمل ما يفعله الإنسان، وما يفعله البهائم، وأنه عام وشامل.
* ولكن؛ هل هذه الكتابة إجمالية أو تفصيلية؟
قد نقول: إننا لا نجزم بأنها تفصيلية أو إجمالية.
فمثلا: القرآن الكريم: هل هو مكتوب في اللوح المحفوظ بهذه الآيات والحروف أو أن المكتوب في اللوح ذكره وأنه سينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيكون نورًا وهدى للناس وما أشبه ذلك؟
ففيه احتمال: إن نظرنا إلى ظاهر النصوص؛ قلنا: إن ظاهرها أن القرآن كله مكتوب جملة وتفصيلا، وإن نظرنا إلى أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بالقرآن حين نزوله، قلنا: إن الذي كتب في اللوح المحفوظ ذكر
فأول ما خلق الله القلم قال له: أكتب. قال: ما أكتب؟
ــ
القرآن، ولا يلزم من كون ذكره في اللوح المحفوظ أن يكون قد كتب فيه؛ كما قال الله تعالى عن القرآن:{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] ؛ يعني: كتب الأولين، ومعلوم أن القرآن لم يوجد نصه في الكتب السابقة، وإنما وجد ذكره، ويمكن أن نقول مثلها في قوله تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21: 22] ؛ أي: ذكره في هذا اللوح.
فالمهم أن نؤمن بأن مقادير الخلق مكتوبة في اللوح المحفوظ، وأن هذا اللوح لا يتغير ما كتب فيه؛ لأن الله أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
* قوله: «فأول ما خلق الله القلم؛ قال له: أكتب» : فأمره أن يكتب؛ مع أن القلم جماد.
* فكيف يوجه الخطاب إلى الجماد؟ !
والجواب عن ذلك: أن الجماد بالنسبة إلى الله عاقل يصح أن يوجه إليه الخطاب: قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ؛ فوجه الخطاب إليهما، وذكر جوابهما، وكان الجواب بجمع العقلاء طائعين دون طائعات.
وقال تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] ؛ فكانت كذلك.
وقال تعالى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ:10] ؛ فكانت الجبال تؤوب معه.
قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة
فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه
ــ
* والحاصل أن الله أمر القلم أن يكتب، وقد امتثل القلم، لكنه أشكل عليه ماذا يكتب؛ لأن الأمر مجمل، فقال:" ما أكتب؟ "؛ أي: أي شيء أكتب؟
أي: الله.
* «أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» : فكتب القلم بأمر الله ما هو كائن إلى يوم القيامة.
فانظر كيف علم القلم ماذا يكون إلى يوم القيامة، فكتبه؛ لأن أمر الله عز وجل لا يرد.
* وقوله: «ما هو كائن إلى يوم القيامة» : يشمل ما كان من فعل الله تعالى وما كان من أفعال الخلق.
* إذا آمنت بهذه الجملة؛ اطمأننت: ما أصاب الإنسان؛ لم يكن ليخطئه أبدا.
* ومعنى " ما أصاب ": يحتمل أن المعنى: ما قدر أن يصيبه؛ فإنه لن يخطئه، ويحتمل أن ما أصابه بالفعل لا يمكن أن يخطئه، حتى لو تمنى الإنسان، وهما معنيان صحيحان لا يتنافيان.
وما أخطأه لم يكن ليصيبه أي: ما قدر أن يخطئه فإنه لم يكن ليصيبه، أو المعنى: ما أخطأه بالفعل، لأنه معروف أنه غير صائب، ولو تمنى الإنسان، وهما معنيان صحيحان لا يتنافيان.
جفت الأقلام وطويت الصحف، كما قال سبحانه وتعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
ــ
* " الأقلام ": هي أقلام القدر التي كتب الله بها المقادير؛ جفت وانتهت.
* وطويت الصحف، وهذه كناية عن أن الأمر انتهى.
" كما ": الكاف في مثل هذا التعبير للتعليل.
* {أَلَمْ تَعْلَمْ} : أيها المخاطب.
* {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} : وهذا عام؛ علم لما فيهما من أعيان وأوصاف وأعمال وأحوال.
{إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} : وهو اللوح المحفوظ.
* {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} : أي: الكتابة على الله أمر يسير.
وقال {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب، رزقه وعمله وشقي أم سعيد ونحو ذلك
ــ
{فِي الْأَرْضِ} : كالجدب والزلازل والفيضانات وغيرها.
{وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} : كالمرض والأوبئة المهلكة وغير ذلك.
{إِلَّا فِي كِتَابٍ} : هو اللوح المحفوظ.
* (نَبْرَأَهَا) أي: من قبل أن نخلقها، والضمير في (نَبْرَأَهَا) : يحتمل أن يعود على المصيبة، ويحتمل أن يعود على الأنفس، ويحتمل أن يعود على الأرض، والكل صحيح؛ فالمصيبة قد كتبت قبل أن يخلقها الله عز وجل، وقبل أن يخلق النفس المصابة، وقبل أن يخلق الأرض.
وفي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: وكان عرشه على الماء» .
* قوله: " في مواضع "؛ مواضع غير اللوح المحفوظ.
ثم بين هذه المواضع بقوله: «فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء. وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه؛ بعث إليه ملكا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ونحو ذلك» .
* فهذان موضعان:
الأول: اللوح المحفوظ، وسبق دليل ذلك
فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديما ومنكروه اليوم قليل
وأما الدرجة الثانية فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه
ــ
وتفصيل القول فيه.
والثاني: الكتابة العمرية التي تكون للجنين في بطن أمه، وسبق دليلها في حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
والوضع الثالث: ما أشار إليه بقوله: " ونحو ذلك "، وهو التقدير الحولي الذي يكون في ليلة القدر، فإن ليلة القدر يكتب فيها ما يكون في تلك السنة؛ كما قال تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 4-5] .
* " هذا التقدير "؛ يعني: العلم والكتابة، وينكره غلاة القدرية قديما، ويقولون: إن الله لا يعلم أفعال العبد إلا بعد وجودها، وأنها لم تكتب، ويقولون: إن الأمر أنف؛ أي: مستأنف، لكن متأخروهم أقروا بالعلم والكتابة، وأنكروا المشيئة والخلق، وهذا بالنسبة لأفعال المخلوقين.
أما بالنسبة لأفعال الله؛ فلا أحد ينكر أن الله عالم بها قبل وقوعها.
وهؤلاء الذين ينكرون علم الله بأفعال العبد حكمهم في الشرع أنهم كفار؛ لأنهم كذبوا قول الله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282] ، وغيرها من الآيات، وخالفوا المعلوم بالضرورة من الدين.
* يعني: من درجات الإيمان بالقدر.
* يعني: أن نؤمن بأن مشيئة الله نافذة في كل شيء، سواء كان مما
يتعلق بفعله أو يتعلق بأفعال المخلوقين، وأن قدرته شاملة، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44] .
وهذه الدرجة تتضمن شيئين؛ المشيئة والخلق:
أما المشيئة؛ فيجب أن نؤمن بأن مشيئة الله تعالى في كل شيء، وأن قدرته شاملة لكل شيء من أفعاله وأفعال المخلوقين.
وأما كونها شاملة لأفعاله؛ فالأمر فيها ظاهر.
وأما كونها شاملة لأفعال المخلوقين فلأن الخلق كلهم ملك لله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما شاء.
* والدليل على هذا:
قوله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] .
وقوله سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118] .
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة 253] .
فهذه الآيات تدل على أن أفعال العباد متعلقة بمشيئة الله.
وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] .
وهذه تدل على أن مشيئة العبد داخلة تحت مشيئة الله وتابعة لها.
لا يكون في ملكه ما لا يريد وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات
ــ
هذه العبارة تحتاج إلى تفصيل: لا يكون في ملكه ما لا يريد بالإرادة الكونية، أما بالإرادة الشرعية؛ فيكون في ملكه ما لا يريد.
وحينئذ؛ نحتاج إلى أن نقسم الإرادة إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية:
- فالإرادة الكونية بمعنى المشيئة، ومثالها قول نوح عليه السلام لقومه:{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] .
- والإرادة الشرعية بمعنى المحبة، مثلها قوله تعالى:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] .
وتختلف الإرادتان في موجبهما وفي متعلقهما:
ففي المتعلق: الإرادة الكونية تتعلق فيما وقع، سواء أحبه أم كرهه، والإرادة الشرعية تتعلق فيما أحبه، سواء وقع أم لم يقع.
وفي موجبهما: الإرادة الكونية يتعين فيها وقوع المراد، والإرادة الشرعية لا يتعين فيها وقوع المراد.
وعلى هذا يكون قول المؤلف: " ولا يكون في ملكه ما لا يريد "؛ يعني به: الإرادة الكونية.
* فإن قال قائل: هل المعاصي مرادة لله؟
فالجواب: أما بالإرادة الشرعية؛ فليست مرادة له؛ لأنه لا يحبها، وأما بالإرادة الكونية؛ فهي مرادة سبحانه؛ لأنها واقعة بمشيئته.
كل شيء؛ فالله قادر عليه من الموجودات؛ فيعدمهما أو يغيرها،
ومن المعدومات؛ فيوجدها.
فالقدرة تتعلق في الموجود بإيجاده أو إعدامه أو تغييره، وفي المعدوم بإعدامه أو إيجاده.
فمثلا؛ كل موجود؛ فالله قادر أن يعدمه، وقادر أن يغيره؛ أي: ينقله من حال إلى حال، وكل معدوم؛ فالله قادر على أن يوجده؛ مهما كان؛ كما قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] .
* ذكر بعض العلماء استثناء من ذلك، وقال: إلا ذاته؛ فليس عليها بقادر! وزعم أن العقل يدل على ذلك.
فنقول: ماذا تريد بأنه غير قادر على ذاته؟
إن أردت أنه غير قادر على أن يعدم نفسه أو يلحقها نقصا؛ فنحن نوافقك على أن الله لا يلحقه النقص أو العدم، لكننا لا نوافقك على أن هذا مما تتعلق به القدرة؛ لأن القدرة إنما تتعلق بالشيء الممكن، أما الشيء الواجب أو المستحيل؛ فهذا لا تتعلق به القدرة أصلا؛ لأن الواجب مستحيل العدم، والمستحيل مستحيل الوجود.
وإن أردت بقولك: إنه غير قادر على ذاته: أنه غير قادر على أنه يفعل ما يشاء؛ فلا يقدر أن يجيء أو نحوه! فهذا خطأ، بل هو قادر على ذلك، وفاعل له، ولو قلنا: إنه ليس بقادر على مثل هذه الأفعال؛ لكان ذلك من أكبر النقص الممتنع على الله سبحانه.
وبهذا علم أن هذا الاستدراك من عموم القدرة في غير محله على كل تقدير.
فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه
ــ
* وإنما نص المؤلف على هذا ردا على القدرية الذين قالوا: إن الله ليس بقادر على فعل العبد!! وإن العبد مستقل بعمله!
ولكن ما في الكتاب والسنة من شمول قدرة الله يرد عليهم.
هذا صحيح بلا شك ولهذا دليل أثري ودليل نظري:
أما الدليل الأثري: فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] .
وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35-36] .
فلا يمكن أن يوجد شيء في السماء والأرض إلا الله خالقه وحده.
ولقد تحدى الله العابدين للأصنام تحديا أمرنا أن نستمع له، فقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} ، ومعلوم أن الذين يدعون من دون الله في القمة عندهم؛ لأنهم اتخذوا أربابا، فإذا عجز هؤلاء القمة عن أن يخلقوا ذبابا، وهو أخس الأشياء وأهونها؛ فما فوقه من باب أولى، بل قال:{وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73] ؛ فيعجزون حتى عن مدافعة الذباب وأخذ حقهم منه.
فإن قيل: كيف يسلب هذه الأصنام شيئا؟ !
فالجواب: قال بعض العلماء: إن هذا على سبيل الفرض؛ يعني: على فرض أن يسلبهم الذباب شيئا؛ لا يستنقذوه منه. وقال بعضهم: بل
على سبيل الواقع؛ فيقع الذباب على هذه الأصنام، ويمتص ما فيها من أطياب؛ فلا تستطيع الأصنام أن تخرج ما امتصه الذباب.
وإذا كانت عاجزة عن الدفع عن نفسها، واستنقاذ حقها؛ فهي عن الدفع عن غيرها واستنقاذ حقه أعجز.
والمهم أن الله تعالى خالق كل شيء، وأن لا خالق إلا الله، فيجب الإيمان بعموم خلق الله عز وجل، وأنه خالق كل شيء، حتى أعمال العباد؛ لقوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] ، وعمل الإنسان من الشيء، وقال تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] . . . والآيات في هذا كثيرة.
وفيه آية خاصة في الموضوع، وهو خلق أفعال العباد:
فقال إبراهيم لقومه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] .
فـ (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: خلقكم وعملكم، وهذا نص في أن عمل الإنسان مخلوق لله تعالى.
فإن قيل: ألا يحتمل أن تكون (ما) اسما موصولا، ويكون المعنى: خلقكم وخلق الذي تعملونه؟
فكيف يمكن أن نقول إن الآية دليل على خلق أفعال العباد على هذا التقدير أن [ما] موصولة؟
فالجواب: أنه إذا كان المعمول مخلوقا لله؛ لزم أن يكون عمل الإنسان مخلوقا؛ لأن المعمول كان بعمل الإنسان؛ فالإنسان هو الذي باشر العمل
لا خالق غيره
ــ
في المعمول؛ فإذا كان المعمول مخلوقا لله، وهو فعل العبد؛ لزم أن يكون فعل العبد مخلوق، فيكون في الآية دليل على خلق أفعال العباد على كلا الاحتمالين.
وأما الدليل النظري على أن أفعال العبد مخلوقة لله؛ فتقريره أن نقول: إن فعل العبد ناشئ عن أمرين: عزيمة صادقة وقدرة تامة.
مثال ذلك: أردت أن أعمل عملا من الأعمال؛ فلا يوجد هذا العمل حتى يكون مسبوقا بأمرين هما:
أحدهما: العزيمة الصادقة على فعله؛ لأنك لو لم تعزم ما فعلته.
الثاني: القدرة التامة؛ لأنك لو لم تقدر؛ ما فعلته؛ فالذي خلق فيك هذه القدرة هو الله عز وجل، وهو الذي أودع فيك العزيمة، وخالق السبب التام خالق للمسبب.
ووجه ثان نظري: أن نقول: الفعل وصف الفاعل، والوصف تابع للموصوف؛ فكما أن الإنسان بذاته مخلوق لله؛ فأفعاله مخلوقة؛ لأن الصفة تابعة للموصوف.
فتبين بالدليل أن عمل الإنسان مخلوق لله، وداخل في عموم الخلق أثريا ونظريا، والدليل الأثري قسمان عام وخاص، والدليل النظري له وجهان.
* قوله: " لا خالق غيره ":
* إن قلت: هذا الحصر يرد عليه أن هناك خالقا غير الله؛ فالمصور يعد نفسه خالقا، بل جاء في الحديث أنه خالق: " «فإن المصورين يعذبون؛»
ولا رب سواه
ــ
«يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» ، وقال عز وجل:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] ؛ فهناك خالق، لكن الله تعالى هو أحسن الخالقين؛ فما الجواب عن قول المؤلف؟
الجواب: أن الخلق الذي ننسبه إلى الله عز وجل هو الإيجاد وتبديل الأعيان من عين لأخرى؛ فلا أحد يوجد إلا الله عز وجل، ولا أحد يبدل عينا إلى عين؛ إلا الله عز وجل، وما قيل: إنه خلق؛ بالنسبة للمخلوق؛ فهو عبارة عن تحويل شيء من صفة إلى صفة؛ فالخشبة مثلا بدلا من أن كانت في الشجرة، تحول بالنجارة إلى باب، فتحويلها إلى باب يسمى خلقا، لكنه ليس الخلق الذي يختص به الخالق، وهو الإيجاد من العدم، أو تبديل العين من عين إلى أخرى.
* أي: أن الله وحده هو الرب المدبر لجميع الأمور، وهذا حصر حقيقي.
* ولكن ربما يرد عليه أنه جاء في الأحاديث إثبات الربوبية لغير الله:
ففي لقطة الإبل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعها؛ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها» ، وربها: صاحبها.
وجاء في بعض ألفاظ حديث جبريل؛ يقول: «حتى تلد الأمة ربها» .
فما هو الجمع بين هذا وبين قول المؤلف: " لا رب سواه "؟
ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته
وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين
ــ
نقول: إن ربوبية الله عامة كاملة؛ كل شيء؛ فالله ربه، لا يسأل عما يفعل في خلقه؛ لأن فعله كله رحمة وحكمة، ولهذا يقدر الله عز وجل الجدب والمرض والموت والجروح في الإنسان وفي الحيوان، ونقول: هذا غاية الكمال والحكمة. أما ربوبية المخلوق للمخلوق؛ فربوبية ناقصة قاصرة، لا تتجاوز محلها، ولا يتصرف فيها الإنسان تصرفا تاما، بل تصرفه مقيد: إما بالشرع، وإما بالعرف.
* يعني: ومع عموم خلقه وربوبيته لم يترك العباد هملا، ولم يرفع عنهم الاختيار، بل أمرهم بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته.
وأمره بذلك أمر يمكن؛ فالمأمور مخلوق لله عز وجل، وفعله مخلوق لله، ومع ذلك؛ يؤمر وينهى.
ولو كان الإنسان مجبرا على عمله؛ لكان أمره أمرا بغيره ممكن، والله عز وجل يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ويقول تعالى {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام:152] ، وهذا يدل على أنهم قادرون على فعل الطاعة، وعلى تجنب المعصية، وأنهم غير مكرهين على ذلك.
يعني أن الله عز وجل يحب المحسنين؛ لقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]، والمتقين؛ لقوله:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7] والمقسطين؛ لقوله:
ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين
ولا يرضى عن القوم الفاسقين
ــ
{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] .
فهو عز وجل يحب هؤلاء، ومع ذلك هو الذي قدر لهم هذا العمل الذي يحبه، فكان فعلهم محبوبا إلى الله مرادا له كونا وشرعا؛ فالمحسن قام بالواجب والمندوب، والمتقي قام بالواجب، والمقسط اتقى الجور في المعاملة.
الدليل قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 7-8] .
* قوله: " ولا يحب " الله عز وجل " الكافرين ".
والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] .
مع أن الكفر واقع بمشيئته، لكن لا يلزم من وقوعه بمشيئته، أن يكون محبوبا له سبحانه وتعالى.
الدليل قوله تعالى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96] .
* والفاسق -وهو الخارج عن طاعة الله- قد يراد به الكافر، وقد يراد به العاصي.
ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر
ــ
ففي قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 18 - 20] فالمراد بالفاسق الكافر.
وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ؛ فالمراد بالفاسق العاصي.
* فالله عز وجل لا يرضى عن القوم الفاسقين، لا هؤلاء ولا هؤلاء، لكن الفاسقين بمعنى الكافرين لا يرضى عنهم مطلقا، وأما الفاسقون بمعنى العصاة؛ فلا يرضى عنهم فيما فسقوا فيه، ويرضى عنهم فيما أطاعوا فيه.
الدليل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ؛ لأنهم إذا فعلوا فاحشة: {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} ؛ فاحتجوا بأمرين، فقال تعالى:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ، وسكت عن قولهم:{وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} ؛ لأنه حق لا ينكر، لكن {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} كذب، ولهذا كذبهم وأمر نبيه أن يقول:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، ولم يقل: ولم يجدوا عليها آباءهم؛ لأنهم قد وجدوا عليها آباءهم.
* لقوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] ، لكن يقدر أن يكفروا، ولا يلزم من تقديره الكفر أن يكون راضيا به سبحانه وتعالى، بل يقدره وهو يكرهه ويسخطه.
ولا يحب الفساد.
ــ
دليل ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] .
* كرر المؤلف مثل هذه العبارات ليبين أنه لا يلزم من إرادته الشيء أن يكون محبوبا له، ولا يلزم من كراهته للشيء أن لا يكون مرادا بالإرادة الكونية، بل هو عز وجل يكره الشيء ويريده بالإرادة الكونية، ويوقع الشيء ولا يرضى عنه، ولا يريده بالإرادة الشرعية.
* فإن قلت: كيف يوقع ما لا يرضاه وما لا يحبه؟ ! وهل أحد يكرهه على أن يوقع ما لا يحبه ولا يرضاه؟ !
فالجواب: لا أحد يكرهه على أن يوقع ما لا يحبه ولا يرضاه، وهذا الذي يقع من فعله عز وجل وهو مكروه له، هو مكروه له من وجه، محبوب له من وجه آخر؛ لما يترتب عليه من المصالح العظيمة.
فمثلا؛ الإيمان محبوب لله، والكفر مكروه له، فأوقع الكفر وهو مكروه له؛ لمصالح عظيمة؛ لأنه لولا وجود الكفر؛ ما عرف الإيمان، ولولا وجود الكفر؛ ما عرف الإنسان قدر نعمة الله عليه بالإيمان، ولولا وجود الكفر؛ ما قام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الناس كلهم يكونون على المعروف، ولولا وجود الكفر؛ ما قام الجهاد، ولولا وجود الكفر لكان خلق النار عبثا؛ لأن النار مثوى الكافرين، ولولا وجود الكفر؛ لكان الناس أمة واحدة، ولم يعرفوا معروفا ولم ينكروا منكرا، وهذا لا شك أنه مخل بالمجتمع الإنساني، لولا وجود الكفر؛ ما عرفت ولاية الله؛ لأن من ولاية الله أن تبغض أعداء الله وأن تحب أولياء الله.
وكذلك يقال في الصحة والمرض؛ فالصحة محبوبة للإنسان؛ وملائمة
والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم
ــ
له، ورحمة الله تعالى فيها ظاهرة، لكن المرض مكروه للإنسان، وقد يكون عقوبة من الله له، ومع ذلك يوقعه؛ لما في ذلك من المصالح العظيمة.
كم من إنسان إذا أسبغ الله عليه النعمة بالبدن والمال والولد والبيت والمركوب؛ ترفع ورأى أنه مستغن بما أنعم الله به عليه عن طاعة الله عز وجل؛ كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7] ، وهذه مفسدة عظيمة؛ فإذا أراد الله أن يرد هذا الإنسان إلى مكانه؛ ابتلاه، حتى يرجع إلى الله، وشاهد هذا قوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] .
وأنت أيها الإنسان إذا فكرت هذا التفكير الصحيح في تقديرات الله عز وجل؛ عرفت ما له سبحانه وتعالى من الحكمة فيما يقدره من خير أو شر، وأن الله سبحانه وتعالى يخلق ما يكرهه ويقدر ما يكرهه لمصالح عظيمة؛ قد تحيط بها، وقد لا تحيط بها ويحيط بها غيرك، وقد لا يحيط بها لا أنت ولا غيرك.
* فإن قيل: كيف يكون الشيء مكروها لله ومرادا له؟
فالجواب: أنه لا غرابة في ذلك؛ فها هو الدواء المر طعما، الخبيث رائحة يتناوله المريض وهو مرتاح؛ لما يترتب عليه من مصلحة الشفاء، وهاهو الأب يمسك بابنه المريض ليكويه الطبيب، وربما كواه هو بنفسه، مع أنه يكره أشد الكره أن يحرق ابنه بالنار.
هذا صحيح؛ فالعبد هو المباشر لفعله حقيقة، والله خالق فعله حقيقة، وهذه عقيدة أهل السنة، وقد سبق تقريرها بالأدلة.
والعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم
ــ
* وخالفهم في هذا الأصل طائفتان:
الطائفة الأولى: القدرية من المعتزلة وغيرهم؛ قالوا إن العباد فاعلون حقيقة، والله لم يخلق أفعالهم.
الطائفة الثانية: الجبرية من الجهمية وغيرهم؛ قالوا: إن الله خالق أفعالهم، وليسوا فاعلين حقيقة، لكن أضيف الفعل إليهم من باب التجوز، وإلا فالفاعل حقيقة هو الله.
وهذا القول يؤدي إلى القول بوحدة الوجود، وأن الخالق هو الله، ثم يؤدي إلى قول من أبطل الباطل؛ لأن العباد منهم الزاني ومنهم السارق ومنهم شارب الخمر ومنهم المعتدى بالظلم؛ فحاشا أن تكون هذه الأفعال منسوبة إلى الله!! وله لوازم باطلة أخرى.
* وبهذا تبين أن في قول المؤلف: " والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم ": ردا على الجبرية والقدرية.
* يعني: أن الوصف بالإيمان والكفر والبر والفجور والصلاة والصيام وصف للعبد، لا لغيره؛ فهو المؤمن، وهو الكافر، وهو البار، وهو الفاجر، وهو المصلي، وهو الصائم. . . وكذلك هو المزكي، وهو الحاج، وهو المعتمر. . . وهكذا، ولا يمكن أن يوصف بما ليس من فعله حقيقة.
* وهذه الجملة تتضمن الرد على الجبرية.
* والمراد بالعبودية هنا العبودية العامة؛ لأن العبودية نوعان: عامة وخاصة:
وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم.
ــ
فالعامة: هي الخضوع لأمر الله الكوني؛ كقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] .
والعبودية الخاصة: هي الخضوع لأمر الله الشرعي، وهي خاصة بالمؤمنين، كقوله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، وقوله:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] ، وهذه أخص من الأولى.
* قوله: " وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة "؛ خلافا للجبرية القائلين بأنهم لا قدرة لهم ولا إرادة، بل هم مجبرون عليها.
* قوله: " والله خالقهم وخالق إرادتهم وقدرتهم "؛ خلافا للقدرية القائلين بأن الله ليس خالقا لفعل العبد ولا لإرادته وقدرته.
* وكان المؤلف يشير بهذه العبارة إلى وجه كون فعل العبد مخلوقا لله تعالى؛ بأن فعله صادر عن قدرة وإرادة، وخالق القدرة والإرادة هو الله؛ وما صدر عن مخلوق، فهو مخلوق.
ويشير بها أيضا إلى كون فعل العبد اختيارا لا إجباريا؛ لأنه صادر عن قدرة وإرادة؛ فلولا القدرة والإرادة؛ لم يصدر منه الفعل، ولولا الإرادة؛ لم يصدر منه الفعل، ولو كان الفعل إجباريا، ما كان من شرطه القدرة والإرادة.
كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره.
ــ
ثم استدل المؤلف لذلك، فقال: " كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير 28-29] .
* فقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} : فيها رد على الجبرية.
* وفي قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} : رد على القدرية.
أي: درجة المشيئة والخلق.
أي: أكثرهم يكذبون بهذه الدرجة، ويقولون: إن الإنسان مستقل بعمله، وليس لله فيه مشيئة ولا خلق.
لأن المجوس يقولون: إن للحوادث خالقين: خالقا للخير، وخالقا للشر! فخالق الخير هو النور، وخالق الشر هو الظلمة؛ فالقدرية يشبهون هؤلاء المجوس من وجه؛ لأنهم يقولون: إن الحوادث نوعان: حوادث من فعل الله؛ فهذه خلق الله، وحوادث من فعل العباد؛ فهذه للعباد استقلالا، وليس لله تعالى فيها خلق.
أي: في هذه الدرجة.
أي: إثبات القدر.
* وهؤلاء القوم هم الجبرية؛ حيث إنهم سلبوا العبد قدرته واختياره، وقالوا: إنه مجبر على علمه؛ لأنه مكتوب عليه.
ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها
ــ
* قوله: " ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها ":
" يخرجون ": معطوفة على قوله: " يغلو ".
* ووجه كونهم يخرجون الحكم والمصالح عن أفعال الله وأحكامه: أنهم لا يثبتون لله حكمة أو مصلحة؛ فهو يفعل ويحكم لمجرد مشيئته، ولهذا يثيب المطيع، وإن كان مجبرا على الفعل، ويعاقب العاصي، وإن كان مجبرا على الفعل.
ومن المعلوم أن المجبر لا يستحق الحمد على محمود، ولا الذم على مذموم؛ لأنه بغير اختياره.
* وهنا مسألة يحتج بها كثير العصاة: إذا أنكرت عليه المنكر؛ قال: هذا هو ما قدره الله علي؛ أتعترض على الله؟ ! فيحتج بالقدر على معاصي الله، ويقول: أنا عبد مسير! ثم يحتج أيضا بحديث: «" تحاج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة؟ ! فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده! أتلومني على أمر قدره علي قبل يخلقني بأربعين سنة؟ ! . قال النبي عليه الصلاة والسلام: " فحج آدم موسى "؛ قالها ثلاثا» . وعند أحمد: «فحجه آدم» . وهي صريحة في أن آدم غلب موسى بالحجة.
قال: فهذا آدم لما اعترض عليه موسى؛ احتج عليه بالقدر، وآدم نبي، وموسى رسول، فسكت موسى؛ فلماذا تحتج عليَّ؟
والجواب على حديث آدم:
أما على رأي القدرية؛ فإن طريقتهم أن أخبار الآحاد لا توجب اليقين؛ قالوا: وإذا عارضت العقل؛ وجب أن ترد وبناء على ذلك قالوا: هذا لا يصح ولا نقبله ولا نسلم به.
وأما الجبرية؛ فقالوا: إن هذا هو الدليل، ودلالته حق، ولا يلام العبد على ما قدر عليه.
أما أهل السنة والجماعة؛ فقالوا: إن آدم عليه الصلاة والسلام فعل الذنب، وصار ذنبه سببا لخروجه من الجنة، لكنه تاب من الذنب، وبعد توبته اجتباه الله وتاب عليه وهداه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ومن المحال أن موسى عليه الصلاة والسلام -وهو أحد أولي العزم من الرسل- يلوم أباه على شيء تاب منه ثم اجتباه الله بعده وتاب عليه وهداه، وإنما اللوم على المصيبة التي حصلت بفعله، وهي إخراج الناس ونفسه من الجنة؛ فإن سبب هذا الإخراج هو معصية آدم؛ على أن آدم عليه الصلاة والسلام لا شك أنه لم يفعل هذا ليخرج من الجنة حتى يلام؛ فكيف يلومه موسى؟ !
وهذا وجه ظاهر في أن موسى عليه السلام لم يرد لوم آدم على فعل المعصية، إنما على المصيبة التي هي من قدر الله، وحينئذ يتبين أنه لا حجة بهذا الحديث للجبرية.
فنحن نقبله ولا ننكره كما فعل القدري، ولكننا لا نحتج به على المعصية؛ كما فعل الجبري.
وهناك جواب آخر أشار إليه ابن القيم رحمه الله، وقال: الإنسان إذا فعل المعصية واحتج بالقدر عليها بعد التوبة منها؛ فلا بأس به.
ومعناه: أنه لو لامك أحد على فعل المعصية بعد أن تبت منها، وقلت: هذا بقضاء الله وقدره، وأستغفر الله وأتوب إليه. . . . وما أشبه ذلك؛ فإنه لا حرج عليك في هذا.
فآدم احتج بالقدر بعد أن تاب منه، وهذا لا شك أنه وجه حسن، لكن يبعده أن موسى لا يمكن أن يلوم آدم على معصية تاب منها.
وعندي أن في الاستدلال بهذا الحديث نظرا، لأن عليا رضي الله عنه احتج بالقدر على نومه، والإنسان النائم له أن يحتج بالقدر؛ لأن فعله لا ينسب إليه، ولهذا قال الله تعالى في أصحاب الكهف:{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:18] ، فنسب التقليب إليه، مع أنهم هم الذين يتقلبون، لكن لما كان بغير إرادة منهم، لم يضفه إليهم.
والوجه الأول في الجواب عن حديث آدم وموسى -وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - هو الصواب.
* فإذا؛ لا حجة للجبري بهذا الحديث، ولا للعصاة الذين يحتجون
بهذا الحديث لاحتجاجهم بالقدر.
فنقول له: إن احتجاجك بالقدر على المعاصي يبطله السمع والعقل والواقع:
فأما السمع؛ فقد قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام:148] ؛ قالوا ذلك احتجاجا بالقدر على المعصية، فقال الله تعالى:{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ؛ يعنى: كذبوا الرسل واحتجوا بالقدر {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} ، وهذا يدل على أن حجتهم باطلة؛ إذ لو كانت حجة مقبولة، ما ذاقوا بأس الله.
ودليل سمعي آخر: قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] إلى قوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ، ووجه الدلالة من هذه الآية أنه لو كان القدر حجة؛ ما بطلت بإرسال الرسل، وذلك لأن القدر لا يبطل بإرسال الرسل، بل هو باق.
فإذا قال قائل: يرد عليك في الدليل الأول قول الله تبارك وتعالى في سورة الأنعام: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 106- 107] ؛ فهناك قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} ؛ فنقول: إن قول الإنسان عن الكفار: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} : قول صحيح وجائز، لكن قول المشرك:{مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] ؛ يريد أن يحتج بالقدر على المعصية قول باطل، والله عز وجل إنما قال لرسوله هكذا تسلية له وبيانا أن ما وقع فهو بمشيئة الله.
وأما الدليل العقلي على بطلان احتجاج العاصي بالقدر على معصية الله أن نقول له: ما الذي أعلمك بأن الله قدر لك أن تعصيه قبل أن تعصيه؟ فنحن جميعا لا نعلم ما قدر الله إلا بعد أن يقع؛ أما قبل أن يقع، فلا ندري ماذا يراد بنا؛ فنقول للعاصي: هل عندك علم قبل أن تمارس المعصية أن الله قدر لك المعصية؟ سيقول: لا. فنقول: إذا؛ لماذا لم تقدر أن الله قدر لك الطاعة وتطع الله؛ فالباب أمامك مفتوح، فلماذا لم تدخل من الباب الذي تراه مصلحة لك؛ لأنك لا تعلم ما قدر لك. واحتجاج الإنسان بحجة على أمر فعله قبل أن تتقدم حجته على فعله احتجاج باطل؛ لأن الحجة لا بد أن تكون طريقا يمشي به الإنسان؛ إذ أن الدليل يتقدم المدلول.
ونقول له أيضا: ألست لو ذكر لك أن لمكة طريقين أحدهما طريق معبد آمن، والثاني طريق صعب مخوف؛ ألست تسلك الآمن؟ سيقول: بلى. فنقول: إذا؛ لماذا تسلك في عبادتك الطريق المخوف المحفوف بالأخطار، وتدع الطريق الآمن الذي تكفل الله تعالى بالأمن لمن سلكه؛ فقال:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} [الأنعام:82] ، وهذه حجة واضحة.
ونقول له: لو أعلنت الحكومة عن وظيفتين: إحداهما بالمرتبة العالية، والثانية بالمرتبة السفلى؛ فأيهما تريد؟ بلا شك سيريد المرتبة العالية، وهذا يدل على أنك تأخذ بالأكمل في أمور دنياك؛ فلماذا لم تأخذ بالأكمل في أمور دينك؟ ! وهل هذا إلا تناقض منك؟ !
وبهذا يتبين أنه لا وجه أبدا لاحتجاج العاصي بالقدر على معصية الله عز وجل.