الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان
ــ
فصل
في الإيمان
* " الدين ": هو ما يدان به الإنسان، أو يدين به؛ فيطلق على العمل ويطلق على الجزاء:
ففي قوله تعالى: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 18، 19] ؛ فالمراد بالدين في هذه الآية: الجزاء.
وفي قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3] ؛ أي: عملا تتقربون به إلى الله.
ويقال: كما تدين تدان؛ أي: كما تعمل تجازى.
والمراد بالدين في كلام المؤلف: العمل.
* " الإيمان "؛ أكثر أهل العلم يقولون: إن الإيمان في اللغة التصديق.
ولكن في هذا نظر؛ لأن الكلمة إذا كانت بمعنى الكلمة؛ فإنها تتعدى بتعديتها، ومعلوم أن التصديق يتعدى بنفسه، والإيمان لا يتعدى بنفسه؛ فنقول مثلا: صدقته، ولا تقول: آمنته! بل تقول: آمنت به. أو آمنت له. فلا يمكن أن نفسر فعلا لازما لا يتعدى إلا بحرف الجر بفعل متعد ينصب المفعول به نفسه، ثم إن كلمة (صدقت) لا تعطي معنى كلمة (آمنت)
قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح
ــ
؛ فإن (آمنت) تدل على طمأنينة بخبره أكثر من (صدقت) .
ولهذا؛ لو فسر الإيمان بالإقرار؛ لكان أجود؛ فنقول: الإيمان: الإقرار، ولا إقرار إلا بتصديق؛ فتقول: أقر به؛ كما تقول: آمن به، وأقر له؛ كما تقول: آمن له. هذا في اللغة.
* وأما في الشرع؛ فقال المؤلف: " قول وعمل ".
* وهذا تعريف مجمل فصله المؤلف بقوله: " قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح ".
* فجعل المؤلف للقلب قولا وعملا، وجعل للسان قولا وعملا.
أما قول اللسان؛ فالأمر فيه واضح، وهو النطق، وأما عمله؛ فحركاته، وليست هي النطق، بل النطق ناشئ عنها إن سلمت من الخرس.
وأما قول القلب، فهو اعترافه وتصديقه. وأما عمله؛ فهو عبارة عن تحركه وإرادته؛ مثل الإخلاص في العمل؛ فهذا عمل قلب، وكذلك التوكل والرجاء والخوف؛ فالعمل ليس مجرد الطمأنينة في القلب، بل هناك حركة في القلب.
وأما عمل الجوارح؛ فواضح؛ ركوع، وسجود، وقيام، وقعود، فيكون عمل الجوارح إيمانا شرعا، لأن الحامل لهذا العمل هو الإيمان.
* فإذا قال قائل: أين الدليل على أن الإيمان يشمل هذه الأشياء؟
قلنا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره» ؛ فهذا قول القلب. أما عمل القلب
واللسان والجوارح؛ فدليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: " «الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» ؛ فهذا قول اللسان وعمله وعمل الجوارح، والحياء عمل قلبي، وهو انكسار يصيب الإنسان ويعتريه عند وجود ما يستلزم الحياء.
فتبين بهذا أن الإيمان يشمل هذه الأشياء كلها شرعا.
ويدل لذلك أيضا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ؛ قال المفسرون: أي: صلاتكم إلى بيت المقدس؛ فسمى الله تعالى الصلاة إيمانا؛ مع أنها عمل جوارح وعمل قلب وقول لسان.
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
* وشموله لهذه الأشياء الأربعة لا يعني أنه لا يتم إلا بها، بل قد يكون الإنسان مؤمنا مع تخلف بعض الأعمال، لكنه ينقص إيمانه بقدر ما نقص من عمله.
* وخالف أهل السنة في هذا طائفتان بدعيتان متطرفتان:
الطائفة الأولى: المرجئة: يقولون: إن الإيمان هو الإقرار بالقلب، وما عدا ذلك؛ فليس من الإيمان.
ولهذا كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص عندهم؛ لأنه إقرار القلب، والناس فيه سواء؛ فالإنسان الذي يعبد الله آناء الليل والنهار كالذي يعصي الله آناء الليل والنهار عندهم، ما دامت معصيته لا تخرجه من الدين!!
فلو وجدنا رجلا يزني ويسرق ويشرب الخمر ويعتدي على الناس،
وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية
ــ
ورجلا آخر متقيا لله بعيدا عن هذه الأشياء كلها؛ لكانا عند المرجئة في الإيمان والرجاء سواء؛ كل منهما لا يعذب؛ لأن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان.
الطائفة الثانية: الخوارج والمعتزلة؛ قالوا: إن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأنها شرط في بقائه، فمن فعل معصيته من الكبائر خرج من الإيمان. لكن الخوارج يقولون: إنه كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين منزلتين؛ فلا نقول: مؤمن، ولا نقول: كافر، بل نقول: خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، وصار في منزلة بين منزلتين.
هذه أقوال الناس في الإيمان.
* هذا معطوف على قوله: " أن الدين. . . " إلخ؛ أي: أن من أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص.
* ويستدلون لذلك بأدلة من الكتاب والسنة:
فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]، وقوله تعالى:{لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] ، وهذا صريح في ثبوت الزيادة.
وأما النقص؛ فقد ثبت في " الصحيحين «أن النبي صلى الله عليه وسلم وعظ النساء وقال لهن: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» ؛ فأثبت نقص الدين.
ثم لو فرض أنه لم يوجد نص في ثبوت النقص؛ فإن إثبات الزيادة مستلزم للنقص؛ فنقول: كل نص يدل على زيادة الإيمان؛ فإنه متضمن للدلالة على نقصه.
وأسباب زيادة الإيمان أربعة:
الأول: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته؛ فإنه كلما ازداد الإنسان معرفة بالله وأسمائه وصفاته؛ ازداد إيمانه.
الثاني: النظر في آيات الله الكونية والشرعية:
قال الله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20] .
وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] .
وكلما ازداد الإنسان علما بما أودع الله تعالى في الكون من عجائب المخلوقات ومن الحكم البالغات؛ ازداد إيمانا بالله عز وجل، وكذلك النظر في آيات الله الشرعية يزيد الإنسان إيمانا بالله عز وجل؛ لأنك إذا نظرت إلى الآيات الشرعية، وهي الأحكام التي جاءت بها الرسل؛ وجدت فيها ما يبهر العقول من الحكم البالغة والأسرار العظيمة التي تعرف بها أن هذه الشريعة نزلت من عند الله، وأنها مبنية على العدل والرحمة، فتزداد بذلك إيمانا.
الثالث: كثرة الطاعات وإحسانها؛ لأن الأعمال داخلة في الإيمان، وإذا كانت داخلة فيه؛ لزم من ذلك أن يزيد بكثرتها.
السبب الرابع: ترك المعصية تقربا إلى الله عز وجل؛ فإن الإنسان يزداد بذلك إيمانا بالله عز وجل.
أسباب نقص الإيمان أربعة:
الأول: الإعراض عن معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته.
الثاني: الإعراض عن النظر في الآيات الكونية والشرعية؛ فإن هذا يوجب الغفلة وقسوة القلب.
الثالث: قلة العمل الصالح، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في النساء:«ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قالوا: يا رسول الله! كيف نقصان دينها؟ قال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟» .
الرابع: فعل المعاصي؛ لقوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] .
وخالف أهل السنة والجماعة في القول بالزيادة والنقصان طائفتان: الطائفة الأولى المرجئة، والطائفة الثانية: الخوارج والمعتزلة.
الطائفة الأولى: المرجئة: قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، حتى يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها؛ فالإيمان هو إقرار القلب، والإقرار لا يزيد ولا ينقص.
ونحن نرد عليهم فنقول: أولا: إخراجكم الأعمال من الإيمان ليس بصحيح؛ فإن الأعمال داخلة
في الإيمان، وقد سبق ذكر الدليل.
ثانيا: قولكم: إن الإقرار بالقلب لا يختلف زيادة ونقصا: ليس بصحيح، بل الإقرار بالقلب يتفاضل؛ فلا يمكن لأحد أن يقول: إن إيماني كإيمان أبي بكر!! بل يتعدى ويقول: إن إيماني كإيمان الرسول عليه الصلاة والسلام!!
ثم نقول: إن الإقرار بالقلب يقبل التفاضل؛ فإقرار القلب بخبر الواحد ليس كإقراره بخبر اثنين، وإقراره بما سمع كإقراره بما شاهد ألم تسمعوا قول إبراهيم:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ؛ فهذا دليل على أن الإيمان الكائن في القلب يقبل الزيادة والنقص.
ولهذا قسم العلماء درجات اليقين ثلاثة أقسام: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين؛ قال الله تعالى:{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5 - 7]، وقال تعالى:{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 51] .
الطائفة الثانية المخالفة لأهل السنة طائفة الوعيدية، وهم الخوارج والمعتزلة، وسموا وعيدية؛ لأنهم يقولون بأحكام الوعيد دون أحكام الوعد، أي يغلبون نصوص الوعيد على نصوص الوعد، فيخرجون فاعل الكبيرة من الإيمان، لكن الخوارج يقولون: إنه خارج من الإيمان داخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: خارج من الإيمان غير داخل في الكفر، بل هو في منزلة بين منزلتين.
ومناقشة هاتين الطائفتين المرجئة والوعيدية في الكتب المطولات.
وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}
ــ
أي: مع قولهم: إن الإيمان قول وعمل.
أهل القبلة هم المسلمون، وإن كانوا عصاة؛ لأنهم يستقبلون قبلة واحدة، وهي الكعبة.
فالمسلم عند أهل السنة والجماعة لا يكفر بمطلق المعاصي والكبائر.
وتأمل قول المؤلف: ((بمطلق المعاصي)) ، ولم يقل: بالمعاصي والكبائر؛ لأن المعاصي منها ما يكون كفرا، وأما مطلق المعصية؛ فلا يكون كفرا.
والفرق بين الشيء المطلق ومطلق الشيء: أن الشيء المطلق يعني الكمال، ومطلق الشيء؛ يعني: أصل الشيء.
فالمؤمن الفاعل للكبيرة عنده مطلق الإيمان؛ فأصل الإيمان موجود عنده، لكن كماله مفقود.
فكلام المؤلف رحمه الله دقيق جدا.
يعني: الذين يقولون: إن فاعل الكبيرة كافر، ولهذا خرجوا على المسلمين، واستباحوا دماءهم وأموالهم.
يعني: أن الأخوة بين المؤمنين ثابتة ولو مع المعصية؛ فالزاني أخ للعفيف، والسارق أخ للمسروق منه، والقاتل أخ للمقتول، ثم استدل المؤلف لذلك فقال: ((كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] :
ــ
آية القصاص هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآية، والمراد بـ (أَخِيهِ) هو المقتول.
ووجه الدلالة من هذه الآية على أن فاعل الكبيرة لا يكفر أن الله سمى المقتول أخا للقاتل، مع أن قتل المؤمن كبيرة من كبائر الذنوب.
هذا دليل آخر لقول أهل السنة: إن فاعل الكبيرة لا يخرج من الإيمان.
(اقتتلوا) جمع، و (بينهما) مثنى، و (طَائِفَتَان) مثنى؛ فكيف يكون مثنى وجمع ومثنى آخر والمرجع واحد؟! نقول: لأن قوله: (طَائِفَتَان) : الطائفة عدد كبير من الناس، فيصح أن أقول: اقتتلوا، وشاهد هذا قوله تعالى:{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء 102]، ولم يقل: لم تصل. فالطائفة أمة وجماعة، ولهذا عاد الضمير إليها جمعا فيكون الضمير في قوله:(اقتتلوا) عائدا إلى المعنى، وفي قوله:(بينهما) عائدا إلى اللفظ.
فهاتان الطائفتان من المؤمنين اقتتلوا، وحمل السلاح بعضهم على بعض، وقتال المؤمن للمؤمن كفر، ومع هذا قال الله تعالى بعد أن أمر بالصلح بينهما للطائفة الثالثة التي لم تدخل القتال:
ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية
ــ
{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 9 - 10] ؛ فجعل الله تعالى الطائفة المصلحة إخوة للطائفتين المقتتلتين.
وعلى هذا؛ ففي الآية دليل على أن الكبائر لا تخرج من الإيمان.
وعلى هذا؛ لو مررت بصاحب كبيرة؛ فإني أسلم عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من حقوق المسلم على المسلم: «إذا لقيته؛ فسلم عليه» ، وهذا الرجل ما زال مسلما، فأسلم عليه؛ إلا إذا كان في هجره مصلحة؛ فحينئذ أهجره للمصلحة؛ كما جرى لكعب بن مالك وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فهجرهم المسلمون خمسين ليلة حتى تاب الله عليهم)) .
وهل نحبه على سبيل الإطلاق أو نكرهه على سبيل الإطلاق؟
نقول: لا هذا ولا هذا؛ نحبه بما معه من الإيمان، ونكرهه بما معه من المعاصي، وهذا هو العدل.
((الفاسق)) : هو الخارج عن الطاعة.
والفسق - كما أشرنا إليه سابقا - ينقسم إلى فسق أكبر مخرج عن الإسلام، ومنه قوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:20]، وفسق أصغر ليس مخرجا عن الإسلام؛ كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] .
ولا يخلدونه في النار كما تقول المعتزلة بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
ــ
والفاسق الذي لا يخرج من الإسلام هو الفاسق الملي، وهو من فعل كبيرة، أو أصر على صغيرة.
ولهذا قال المؤلف: ((الملي)) ؛ يعني: المنتسب إلى الملة الذي لم يخرج منها.
فأهل السنة والجماعة لا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية؛ فلا يمكن أن يقولوا: إن هذا ليس بمسلم؛ لكن يمكن أن يقولوا: إن هذا ناقص الإسلام أو ناقص الإيمان.
قوله: ((ولا يخلدونه في النار)) : معطوف على قوله: ((ولا يسلبون)) : وعلى هذا يكون قوله: ((كما تقول المعتزلة)) : عائدا للأمرين؛ لأن المعتزلة يسلبونه الإسلام ويخلدونه في النار، وإن كانوا لا يطلقون عليه الكفر.
مراد المؤلف بـ ((المطلق)) هنا؛ يعني: إذا أطلق الإيمان؛ فالوصف يعود إلى الاسم لا إلى الإيمان؛ كما سيتبين من كلام المؤلف رحمه الله؛ فيكون المراد به مطلق الإيمان الشامل للفاسق والعدل.
قوله: ((كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ؛ فإن المؤمنة هنا يدخل فيه الفاسق.
فلو أن إنسانا اشترى رقيقا فاسقا وأعتقه في كفارة؛ أجزأه؛ مع أن الله قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ؛ فكلمة {مُؤْمِنَةٍ} تشمل الفاسق وغيره.
وقد لايدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»
ــ
أي: في مطلق اسم الإيمان.
قوله: ((كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] ؛ فـ إِنَّمَا أداة حصر؛ يعني: ما المؤمنون إلا هؤلاء، والمراد بالمؤمنين؛ يعني: ذوي الإيمان المطلق الكامل.
فلا يدخل في المؤمنين هنا الفساق؛ لأن الفاسق لو تلوت عليه آيات الله؛ ما زادته إيمانا، ولو ذكرت الله له؛ لم يوجل قلبه.
فبين المؤلف أن الإيمان قد يراد به مطلق الإيمان، وقد يراد به الإيمان المطلق.
فإذا رأينا رجلا: إذا ذكر الله؛ لم يوجل قلبه، وإذا تليت عليه آياته؛ لم يزد إيمانا؛ فيصح أن نقول: إنه مؤمن، ويصح أن نقول: ليس بمؤمن؛ فنقول: مؤمن؛ أي: معه مطلق الإيمان؛ يعني: أصله، وليس بمؤمن؛ أي: ليس معه الإيمان الكامل.
هذا مثال ثان للإيمان الذي يراد به الإيمان المطلق؛ أي الكامل.
وقوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» : هنا نفى عنه
ــ
الإيمان الكامل حين زناه، أما بعد أن يفرغ من الزنى؛ فقد يؤمن؛ فقد يلحقه الخوف من الله بعد أن يتم الزنى فيتوب، لكن حين إقدامه على الزنى لو كان عنده إيمان كامل؛ ما أقدم عليه، بل إيمانه ضعيف جدا حين أقدم عليه.
وتأمل قوله: ((حين يزني)) : احترازا من أنه قبل الزنى وبعده تختلف حاله؛ لأن الإنسان ما دام لم يفعل الفاحشة، ولو هم بها؛ على أمل ألا يقدم عليها.
وقوله: «ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» : أي: كامل الإيمان؛ لأن الإيمان يردعه عن سرقته.
وقوله: «ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» ؛ أي: كامل الإيمان.
((ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم)) : ((ذات شرف)) ؛ أي: ذات قيمة عند الناس، ولهذا يرفعون إليه أبصارهم؛ فلا ينتهبها حين ينتهبها وهو مؤمن؛ أي: كامل الإيمان.
هذه أربعة أشياء: الزنى (وهو الجماع في فرج حرام) ، والسرقة (وهي أخذ المال المحترم على وجه الخفية من حرز مثله) ، وشرب الخمر (والمراد تناوله بأكل أو شرب، والخمر كل ما أسكر على وجه اللذة والطرب)، والنهبة التي لها شرف وقيمة عند الناس (قيل: الانتهاب: أخذ المال على وجه الغنيمة) ؛ لا يفعل هذه الأشياء الأربعة أحد وهو مؤمن بالله حين فعله
ويقولون هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم
ــ
لها. فالمراد بنفي الإيمان هنا: نفي تمام الإيمان.
هذا بيان للوصف الذي يستحقه الفاسق الملي عند أهل السنة والجماعة.
والفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق: أن الشيء المطلق هو الشيء الكامل، ومطلق الشيء؛ يعني: أصل الشيء، وإن كان ناقصا.
فالفاسق الملي لا يعطى الاسم المطلق في الإيمان، وهو الاسم الكامل، ولا يسلب مطلق الاسم؛ فلا نقول: ليس بمؤمن، بل نقول: مؤمن ناقص الإيمان، أو: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المذهب العدل الوسط.
وخالفهم في ذلك طوائف:
- المرجئة؛ يقولون: مؤمن كامل الإيمان.
- والخوارج؛ يقولون: كافر.
- والمعتزلة؛ يقولون: في منزلة بين منزلتين.