الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و
الإيمان بالقدر
ــ
القيامة ويلاقون ربهم ويجازون بأعمالهم ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8] .
{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] ؛ فتذكر هذا اللقاء حتى تعمل له؛ خوفًا من أن تقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة وليس عندك شيء من العمل الصالح، انظر ماذا عملت ليوم النقلة؟ وماذا عملت ليوم اللقاء؟ فإن أكثر الناس اليوم ينظرون ماذا عملوا للدنيا، مع العلم بأن هذه الدنيا التي عملوا لها لا يدرون هل يدركونها أم لا؟ قد يخطط الإنسان لعمل دنيوي يفعله غدًا أو بعد غد، ولكنه لا يدرك غدًا ولا بعد غد، لكن الشيء المتيقن أن أكثر الناس في غفلة من هذا، قال الله تعالى:{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [المؤمنون: 63] وأعمال الدنيا يقول: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63]، فأتى بالجملة الاسمية المفيدة للثبوت والاستمرار: و {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} ، وقال تعالى:{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق: 22] : يعني: يوم القيامة وقال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] .
هذا البعث الذي اتفقت عليه الأديان السماوية وكل متدين بدين هو أحد أركان الإيمان الستة وهو من معتقدات أهل السنة والجماعة ولا ينكره أحد ممن ينتسب إلى ملة أبدًا.
هذا الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره.
القدر هو: " تقدير الله عز وجل للأشياء ".
وقد كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض
خيره وشره
ــ
بخمسين ألف سنة (1) ؛ كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] .
وقوله: " خيره وشره ": أما وصف القدر بالخير؛ فالأمر فيه ظاهر. وأما وصف القدر بالشر، فالمراد به شر المقدور لا شر القدر الذي هو فعل الله، فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، كل أفعاله خير وحكمة، ولكن الشر في مفعولاته ومقدوراته؛ فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، أما باعتبار الفعل؛ فلا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:«والشر ليس إليك» (2) .
فمثلًا، نحن نجد في المخلوقات المقدورات شرًّا، ففيها الحيات والعقارب والسباع والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر؛ لأنها لا تلائمه، وفيها أيضًا المعاصي والفجور والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك، وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها إلى الله هي خير؛ لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا لحكمة بالغة عظيمة، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها.
وعلى هذا يجب أن تعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات، لا باعتبار التقدير الذي هو تقدير الله وفعله.
ثم اعلم أيضًا أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شرًّا في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى،
(1) لما رواه مسلم /كتاب القدر/ باب ذكر حجاج آدم وموسى عليهما السلام.
(2)
مسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] ، النتيجة طيبة، وعلى هذا، فيكون الشر في هذا المقدور شرًّا إضافيًّا يعنى: لا شرًّا حقيقيًّا؛ لأن هذا ستكون نتيجته خيرًا.
ولنفرض حد الزاني مثلًا إذا كان غير محصن أن يجلد مئة جلدة ويسفر عن البلد لمدة عام، هذا لا شك أنه شر بالنسبة إليه؛ لأنه لا يلائمه، لكنه خير من وجه آخر لأنه يكون كفارة له، فهذا خير؛ لأن عقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة، فهو خير له، ومن خيره أنه ردع لغيره ونكال لغيره، فإن غيره لو هم أن يزني وهو يعلم أنه سيفعل به مثل ما فعل بهذا؛ ارتدع، بل قد يكون خيرًا له هو أيضًا، باعتبار أنه لن يعود إلى مثل هذا العمل الذي سبب له هذا الشيء.
أما بالنسبة للأمور الكونية القدرية، فهناك شيء يكون شرًّا باعتباره مقدورًا، كالمرض مثلًا، فالإنسان إذا مرض، فلا شك أن المرض شر بالنسبة له، لكن فيه خير له في الواقع، وخيره تكفير الذنوب، قد يكون الإنسان عليه ذنوب ما كفرها الاستغفار والتوبة، لوجود مانع؛ مثلًا لعدم صدق نيته مع الله عز وجل فتأتي هذه الأمراض والعقوبات، فتكفر هذه الذنوب.
ومن خيره أن الإنسان لا يعرف قدر نعمة الله عليه بالصحة، إلا إذا مرض، نحن الآن أصحاء ولا ندري ما قدر الصحة لكن إذا حصل المرض، عرفنا قدر الصحة فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفها إلا المرضى. . هذا أيضًا خير، وهو أنك تعرف قدر النعمة.
ومن خيره أنه قد يكون في هذا المرض أشياء تقتل جراثيم في البدن لا
ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه
ــ
يقتلها إلا المرض؛ يقول الأطباء: بعض الأمراض المعينة تقتل هذه الجراثيم التي في الجسد وأنك لا تدري.
فالحاصل أننا نقول:
أولًا: الشر الذي وصف به القدر هو شر بالنسبة لمقدور الله، أما تقدير الله، فكله خير والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم «والشر ليس إليك» .
ثانيًا: أن الشر الذي في المقدور ليس شرًّا محضًا بل هذا الشر قد ينتج عنه أمور هي خير، فتكون الشَّرِّيَّة بالنسبة إليه أمرًا إضافيًّا.
هذا؛ وسيتكلم المؤلف رحمه الله على القدر بكلام موسع يبين درجاته عند أهل السنة.
* (من) : هنا للتبعيض؛ لأننا ذكرنا أن الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده، وانفراده بالربوبية، وبالألوهية، وبالأسماء والصفات؛ يعني: بعض الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه.
* قوله: " بما وصف به نفسه " ينبغي أن يقال: وسمى به نفسه لكن المؤلف رحمه الله ذكر الصفة فقط: إما لأنه ما من اسم إلا ويتضمن صفة، أو لأن الخلاف في الأسماء خلاف ضعيف، لم ينكره إلا غلاة الجهمية والمعتزلة، فالمعتزلة يثبتون الأسماء، والأشاعرة والماتريدية يثبتون الأسماء، لكن يخالفون أهل السنة في أكثر الصفات.
فنحن الآن نقول: لماذا اقتصر المؤلف على " ما وصف الله به نفسه "؟
نقول: لأحد أمرين: إما لأن كل اسم يتضمن صفة، وإما لأن الخلاف
في كتابه
ــ
في الأسماء قليل بالنسبة للمنتسبين للإسلام.
" في كتابه ": (كتابه) يعني: القرآن، وسماه الله تعالى كتابًا لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة الكرام البررة، ومكتوب كذلك بين الناس يكتبونه في المصاحف؛ فهو كتاب بمعنى مكتوب، وأضافه الله إليه؛ لأنه كلامه سبحانه وتعالى، فهذا القرآن كلام الله، تكلم به حقيقة؛ فكل حرف منه؛ فإن الله قد تكلم به وفي هذه الجملة مباحث:
المبحث الأول: أن من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه:
ووجه ذلك أن الإيمان بالله - كما سبق - يتضمن الإيمان بأسمائه وصفاته؛ فإن ذات الله تسمى بأسماء وتوصف بأوصاف، ووجود ذات مجردة عن الأوصاف أمر مستحيل؛ فلا يمكن أن توجد ذات مجردة عن الأوصاف أبدًا، وقد يفرض الذهن أن هناك ذاتًا مجردة من الصفات لكن الفرض ليس كالأمر الواقع؛ أي أن المفروض ليس كالمشهود؛ فلا يوجد في الخارج - أي: في الواقع المشاهد - ذات ليس لها صفات أبدًا.
فالذهن قد يفرض مثلًا شيئًا له ألف عين، في كل ألف عين ألف سواد وألف بياض، وله ألف رجل، في كل رجل ألف أصبع، في كل أصبع ألف ظفر، وله ملايين الشعر، في كل شعرة ملايين الشعر
…
وهكذا يفرضه وإن لم يكن له واقع؛ لكن الشيء الواقع لا يمكن أن يوجد شيء بدون صفة.
لهذا؛ كان الإيمان بصفات الله من الإيمان بالله، لو لم يكن من صفات الله إلا أنه موجود واجب الوجود، وهذا باتفاق الناس، وعلى هذا؛ فلا بد
أن يكون له صفة.
المبحث الثاني: أن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، والواجب على الإنسان نحو الأمور الغيبية: أن يؤمن بها على ما جاءت دون أن يرجع إلى شيء سوى النصوص.
قال الإمام أحمد: " لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث ".
يعني أننا لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويدل لذلك القرآن والعقل:
ففي القرآن: يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف، 33] ، فإذا وصفت الله بصفة لم يصف الله بها نفسه، فقد قلت عليه ما لا تعلم وهذا محرم بنص القرآن.
ويقول الله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] ، ولو وصفنا الله بما لم يصف به نفسه، لكنا قفونا ما ليس لنا به علم، فوقعنا فيما نهى الله عنه.
وأما الدليل العقلي؛ فلأن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية ولا يمكن في الأمور الغيبية أن يدركها العقل، وحينئذ لا نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا نكيف صفاته؛ لأن ذلك غير ممكن.
نحن الآن لا ندرك ما وصف الله به نعيم الجنة من حيث الحقيقة مع أنه مخلوق، في الجنة فاكهة ونخل ورمان وسرر وأكواب وحور ونحن لا ندرك حقيقة هذه الأشياء، ولو قيل: صفها لنا، لا نستطيع وصفها، لقوله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، ولقوله تعالى في الحديث القدسي:«أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» . (1)
فإذا كان هذا في المخلوق الذي وصف بصفات معلومة المعنى ولا تعلم حقيقتها، فكيف بالخالق؟ !
مثال آخر: الإنسان فيه روح، لا يحيا إلا بها، لولا أن الروح في بدنه ما حيي ولا يستطيع أن يصف الروح لو قيل له: ما هذه الروح التي بك؟ ما هي التي لو نزعت منك، صرت جثة، وإذا بقيت فأنت إنسان تعقل وتفهم وتدرك؟ لجلس ينظر ويفكر فلا يستطيع أن يصفها أبدًا مع أنها قريبة، منه، في نفسه وبين جنبيه، ويعجز عن إدراكها مع أنها حقيقة، يعني: شيء يرى، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بـ" «أن الروح إذا قبض، تبعه البصر» (2) ، فالإنسان يرى نفسه وهي مقبوضة، ولهذا تبقى العين مفتوحة عند الموت تشاهد الروح وهي قد خرجت، وتؤخذ هذه الروح وتجعل في كفن ويصعد بها إلى الله ومع ذلك ما يستطيع أن يصفها وهي بين جنبيه، فكيف يحاول أن يصف الرب بأمر لم يصف به نفسه! ولا بد إذًا
(1) رواه البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب ما جاء في صفة الجنة، ومسلم/ كتاب الجنة.
(2)
رواه مسلم/ كتاب الجنائز/ باب في إغماض الميت.
تحقق ثبوت الصفات لله.
المبحث الثالث: أننا لا نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه.
ودليل ذلك أيضًا من السمع والعقل:
ذكرنا من السمع آيتين.
وأما من العقل، فقلنا: إن هذا أمر غيبي، لا يمكن إدراكه بالعقل، وضربنا لذلك مثلين.
المبحث الرابع: وجوب إجراء النصوص الواردة في الكتاب والسنة على ظاهرها، لا نتعداها.
مثال ذلك: لما وصف الله نفسه بأن له عينًا؛ هل نقول: المراد بالعين الرؤية لا حقيقة العين؟ لو قلنا ذلك، ما وصفنا الله بما وصف به نفسه.
ولما وصف الله نفسه بأن له يدين: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ؛ لو قلنا: إن الله تعالى ليس له يد حقيقة، بل المراد باليد ما يسبغه من النعم على عباده، فهل وصفنا الله بما وصف به نفسه؟ لا!
المبحث الخامس: عموم كلام المؤلف يشمل كل ما وصف الله به نفسه من الصفات الذاتية المعنوية والخبرية والصفات الفعلية.
فالصفات الذاتية هي التي لم يزل ولا يزال متصفًا بها وهي نوعان: معنوية وخبرية:
فالمعنوية، مثل: الحياة، والعلم، القدرة، والحكمة.. وما أشبه ذلك، وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر.
والخبرية، مثل: اليدين، والوجه، والعينين.. وما أشبه ذلك مما سماه، نظيره أبعاض وأجزاء لنا.
فالله تعالى لم يزل له يدان ووجه وعينان لم يحدث له شيء من ذلك بعد أن لم يكن، ولن ينفك عن شيء منه، كما أن الله لم يزل حيًّا ولا يزال حيًّا، لم يزل عالمًا ولا يزال عالمًا، ولم يزل قادرًا ولا يزال قادرًا.. . وهكذا، يعنى ليس حياته تتجدد، ولا قدرته تتجدد، ولا سمعه يتجدد بل هو موصوف بهذا أزلًا وأبدًا، وتجدد المسموع لا يستلزم تجدد السمع، فأنا مثلًا عندما أسمع الأذان الآن فهذا ليس معناه أنه حدث لي سمع جديد عند سماع الأذان بل هو منذ خلقه الله فيَّ لكن المسموع يتجدد وهذا لا أثر له في الصفة.
واصطلح العلماء رحمهم الله على أن يسموها الصفات الذاتية، قالوا: لأنها ملازمة للذات، لا تنفك عنها.
والصفات الفعلية هي الصفات المتعلقة بمشيئته، وهي نوعان:
صفات لها سبب معلوم، مثل: الرضى، فالله عز وجل إذا وجد سبب الرضى، رضي، كما قال تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] .
وصفات ليس لها سبب معلوم؛ مثل: النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر.
ومن الصفات ما هو صفة ذاتية وفعلية باعتبارين؛ فالكلام صفة فعلية باعتبار آحاده لكن باعتبار أصله صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال
متكلمًا لكنه يتكلم بما شاء متى شاء، كما سيأتي في بحث الكلام إن شاء الله تعالى.
اصطلح العلماء رحمهم الله أن يسموا هذه الصفات الصفات الفعلية؛ لأنها من فعله سبحانه وتعالى.
ولها أدلة كثيرة من القرآن، مثل:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158] ، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] ، {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] ، {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80] .
وليس في إثباتها لله تعالى نقص بوجه من الوجوه بل هذا من كماله أن يكون فاعلًا لما يريد.
وأولئك القوم المحرفون يقولون: إثباتها من النقص! ولهذا ينكرون جميع الصفات الفعلية، يقولون: لا يجيء ولا يرضى، ولا يسخط ولا يكره ولا يحب. ينكرون كل هذه، بدعوى أن هذه حادثة والحادث لا يقوم إلا بحادث وهذا باطل؛ لأنه في مقابلة النص، وهو باطل بنفسه؛ فإنه لا يلزم من حدوث الفعل حدوث الفاعل.
المبحث السادس: أن العقل لا مدخل له في باب الأسماء والصفات:
لأن مدار إثبات الأسماء والصفات أو نفيها على السمع، فعقولنا لا تحكم على الله أبدًا، فالمدار إذًا على السمع، خلافًا للأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل التعطيل، الذين جعلوا المدار في إثبات الصفات أو نفيها على العقل، فقالوا: ما اقتضى العقل إثباته، أثبتناه، سواء أثبته
الله لنفسه أم لا! وما اقتضى نفيه، نفيناه، وإن أثبته الله! وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه، فأكثرهم نفاه، وقال: إن دلالة العقل إيجابية، فإن أوجب الصفة، أثبتناها، وإن لم يوجبها، نفيناها! ومنهم من توقف فيه، فلا يثبتها لأن العقل لا يثبتها لكن لا ينكرها؛ لأن العقل لا ينفيها، ويقول: نتوقف! لأن دلالة العقل عند هذا سلبية، إذا لم يوجب، يتوقف ولم ينف!
فصار هؤلاء يحكمون العقل فيما يجب أو يمتنع على الله عز وجل.
فيتفرغ على هذا: ما اقتضى العقل وصف الله به، وصف الله به وإن لم يكن في الكتاب والسنة، وما اقتضى العقل نفيه عن الله، نفوه، وإن كان في الكتاب والسنة.
ولهذا يقولون: ليس لله عين، ولا وجه، ولا له يد، ولا استوى على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا لكنهم يحرفون ويسمون تحريفهم تأويلًا ولو أنكروا إنكار جحد؛ لكفروا؛ لأنهم كذبوا لكنهم ينكرون إنكار ما يسمونه تأويلًا وهو عندنا تحريف.
والحاصل أن العقل لا مجال له في باب أسماء الله وصفاته فإن قلت: قولك هذا يناقض القرآن؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة: 50] والتفضيل بين شيء وآخر مرجعه إلى العقل وقال عز وجل {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] وقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] وأشباه ذلك مما يحيل الله به على العقل فيما يثبته لنفسه وما ينفيه عن الآلهة المدعاة؟
فالجواب أن نقول: إن العقل يدرك ما يجب لله سبحانه وتعالى ويمتنع
عليه على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل؛ فمثلًا: العقل يدرك بأن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات، لكن هذا لا يعني أن العقل يثبت كل صفة بعينها أو ينفيها لكن يثبت أو ينفي على سبيل العموم أن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات سالمًا من النقص.
فمثلًا: يدرك بأنه لا بد أن يكون الرب سميعًا بصيرًا، قال إبراهيم:{يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} [مريم: 42] .
ولا بد أن يكون خالقًا؛ لأن الله قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17]{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} [النحل: 20] .
يدرك هذا ويدرك بأن الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون حادثًا بعد العدم؛ لأنه نقص، ولقوله تعالى محتجًا على هؤلاء الذين يعبدون الأصنام:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] ، إذًا يمتنع أن يكون الخالق حادثًا بالعقل.
العقل أيضًا يدرك بأن كل صفة نقص فهي ممتنعة على الله؛ لأن الرب لا بد أن يكون كاملًا فيدرك بأن الله عز وجل مسلوب عنه العجز؛ لأنه صفة نقص، إذا كان الرب عاجزًا وَعُصِيَ وأراد أن يعاقب الذي عصاه وهو عاجز، فلا يمكن!
إذًا؛ العقل يدرك بأن العجز لا يمكن أن يوصف الله به، والعمى كذلك والصمم كذلك والجهل كذلك
…
وهكذا على سبيل العموم ندرك ذلك، لكن على سبيل التفصيل لا يمكن أن ندركه فنتوقف فيه على السمع.
سؤال: هل كل ما هو كمال فينا يكون كمالًا في حق الله، وهل كل
وبما وصف به رسوله
ــ
ما هو نقص فينا يكون نقصًا في حق الله؟
الجواب: لا؛ لأن المقياس في الكمال والنقص ليس باعتبار ما يضاف للإنسان؛ لظهور الفرق بين الخالق والمخلوق، لكن باعتبار الصفة من حيث هي صفة، فكل صفة كمال، فهي ثابتة لله سبحانه وتعالى.
فالأكل والشرب بالنسبة للخالق نقص؛ لأن سببهما الحاجة، والله تعالى غني عما سواه، لكن هما بالنسبة للمخلوق كمال ولهذا، إذا كان الإنسان لا يأكل، فلا بد أن يكون عليلًا بمرض أو نحوه هذا نقص.
والنوم بالنسبة للخالق نقص، وللمخلوق كمال، فظهر الفرق.
التكبر كمال للخالق ونقص للمخلوق؛ لأنه لا يتم الجلال والعظمة إلا بالتكبر حتى تكون السيطرة كاملة ولا أحد ينازعه. . ولهذا توعد الله تعالى من ينازعه الكبرياء والعظمة، قال:«من نازعني واحدًا منهما عذبته» . (1)
فالمهم أنه ليس كل كمال في المخلوق يكون كمالًا في الخالق ولا كل نقص في المخلوق يكون نقصًا في الخالق إذا كان الكمال أو النقص اعتباريًّا.
هذه ستة مباحث تحت قوله: " ما وصف به نفسه " وكلها مباحث هامة، وقدمناها بين يدي العقيدة؛ لأنه سينبني عليها ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: " وبما وصفه به رسوله ": ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما بالقول، أو بالفعل، أو بالإقرار.
أما القول، مثل " «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك. أمرك في»
(1) رواه مسلم/ كتاب البر/ باب تحريم الكبر.
«السماء والأرض» (1) وقوله في يمينه: «لا ومقلب القلوب» (2) .
ب- وأما الفعل؛ فهو أقل من القول، مثل إشارته إلى السماء يستشهد الله على إقرار أمته بالبلاغ، وهذا في حجة الوداع في عرفة، «خطب الناس، وقال: " ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم ثلاث مرات. قال " اللهم! اشهد " يرفع إصبعه إلى السماء، وينكتها إلى الناس» (3) . فرفع إصبعه إلى السماء؛ هذا وصف الله تعالى بالعلو عن طريق الفعل.
«وجاءه رجل وهو يخطب الناس يوم الجمعة، قال: يا رسول الله! هلكت الأموال. . فرفع يديه» (4) وهذا أيضًا وصف لله بالعلو عن طريق الفعل.
وغير ذلك من الأحاديث التي فيها فعل النبي عليه الصلاة والسلام إذا ذكر صفة من صفات الله.
وأحيانًا يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام الصفة من صفات الله بالقول ويؤكدها بالفعل، وذلك حينما تلا قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] فوضع إبهامه على أذنه اليمنى، والتي تليها على عينه وهذا إثبات للسمع والبصر بالقول والفعل. (5)
(1) رواه الإمام أحمد (6/20) ، وأبو داود/ كتاب الطب/ باب كيف الرقى، والنسائي ص 299، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(1/164) ، والدرامي في "الرد على الجهمية" ص 272، والحاكم (1/344)، قال شيخ الإسلام:"حديث حسن" وسيأتي ص 418".
(2)
البخاري/ كتاب القدر/ باب "يحول بين المرء وقلبه".
(3)
رواه مسلم/ كتاب الحج/ باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
رواه البخاري/ كتاب الاستسقاء، ومسلم/ كتاب صلاة الاستسقاء
(5)
رواه أبو داود/ كتاب السنة/ باب في الجهمية
وحينئذ نقول: إن إثبات الرسول عليه والسلام للصفات يكون بالقول ويكون بالفعل، مجتمعين ومنفردين.
جـ - أما الإقرار؛ فهو قليل بالنسبة لما قبله، مثل:«إقراره الجارية التي سألها: " أين الله؟ " قالت: في السماء. فأقرها وقال: " أعتقها» . (1)
وكإقراره «الحبر من اليهود الذي جاء وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: إننا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع والثرى على إصبع. . آخر الحديث، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقًا» لقوله (2) ، وهذا إقرار.
إذا قال قائل: ما وجه وجوب الإيمان بما وصف الرسول به ربه أو: ما دليله؟
نقول: دليله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136] ، وكل آية فيها ذكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام مبلغ؛ فهي دالة على وجوب قبول ما أخبر به من صفات الله؛ لأنه أخبر بها وبلغها إلى الناس، وكل ما أخبر به؛ فهو تبليغ من الله، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بالله وأنصح الناس لعباد الله وأصدق الناس فيما قال، وأفصح الناس في التعبير، فاجتمع في حقه من صفات القبول أربع: العلم والنصح، والصدق، والبيان؛ فيجب علينا أن نقبل كل ما أخبر به عن ربه،
(1) قصة الجارية. رواها مسلم/ كتاب المساجد/ باب تحريم الكلام في الصلاة.
(2)
رواه البخاري/ كتاب التفسير/ باب "وما قدروا الله حق قدره". ومسلم/ كتاب صفة القيامة.
من غير تحريف
ــ
وهو - والله - أفصح وأنصح وأعلم من أولئك القوم الذين تبعهم هؤلاء من المناطقة والفلاسفة، ومع هذا يقول:«سبحان لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (1) .
في هذه الجملة بيان صفة إيمان أهل السنة بصفات الله تعالى، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بها إيمانًا خاليًا من هذه الأمور الأربعة: التحريف والتعطيل، والتكييف، والتمثيل.
فالتحريف: التغيير وهو إما لفظي وإما معنوي، والغالب أن التحريف اللفظي لا يقع، وإذا وقع، فإنما يقع من جاهل؛ فالتحريف اللفظي يعني تغيير الشكل؛ فمثلًا: فلا تجد أحدًا يقول: " الحمد لله رب العالمين " بفتح الدال، إلا إذا كان جاهلًا. . هذا الغالب!
لكن التحريف المعنوي هو الذي وقع فيه كثير من الناس.
فأهل السنة والجماعة إيمانهم بما وصف الله به نفسه خال من التحريف؛ يعني: تغيير اللفظ أو المعنى.
وتغيير المعنى يسميه القائلون به تأويلًا ويسمون أنفسهم بأهل التأويل، لأجل أن يصبغوا هذا الكلام صبغة القبول؛ لأن التأويل لا تنفر منه النفوس ولا تكرهه، لكن ما ذهبوا إليه في الحقيقة تحريف؛ لأنه ليس عليه دليل صحيح؛ إلا أنهم لا يستطيعون أن يقولوا: تحريفًا! ولو قالوا: هذا تحريف، لأعلنوا على أنفسهم برفض كلامهم.
ولهذا عبر المؤلف رحمه الله بالتحريف دون التأويل مع أن كثيرًا ممن
(1) رواه مسلم/ كتاب الصلاة/ باب ما يقال في الركوع والسجود.
يتكلمون في هذا الباب يعبرون بنفي التأويل، يقولون: من غير تأويل، لكن ما عبر به المؤلف أولى لوجوه أربعة:
الوجه الأول: أنه اللفظ الذي جاء به القرآن؛ فإن الله تعالى قال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] ، والتعبير الذي عبر به القرآن أولى من غيره؛ لأنه أدل على المعنى.
الوجه الثاني: أنه أدل على الحال، وأقرب إلى العدل، فالمؤول بغير دليل ليس من العدل أن تسميه مؤولًا، بل العدل أن نصفه بما يستحق وهو أن يكون محرفًا.
الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل، يجب البعد عنه والتنفير منه، واستعمال التحريف فيه أبلغ تنفيرًا من التأويل؛ لأن التحريف لا يقبله أحد، لكن التأويل لين، تقبله النفس، وتستفصل عن معناه، أما التحريف، بمجرد ما نقول: هذا تحريف. ينفر الإنسان منه، إذا كان كذلك؛ فإن استعمال التحريف فيمن خالفوا طريق السلف أليق من استعمال التأويل.
الوجه الرابع: أن التأويل ليس مذمومًا كله، قال النبي عليه الصلاة والسلام:«اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل» (1)، وقال الله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ، فامتدحهم بأنهم يعلمون التأويل.
(1) البخاري/ كتاب الوضوء/ باب وضع الماء عند الخلاء، ومسلم/ كتاب فضائل الصحابة/ باب فضل عبد الله بن عباس
والتأويل ليس كله مذمومًا؛ لأن التأويل له معان متعددة ، يكون بمعنى التفسير ، ويكون بمعنى العاقبة والمآل، ويكون بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره.
(أ) يكون بمعنى التفسير؛ كثير من المفسرين عندما يفسرون الآية، يقولون: تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ثم يذكرون المعنى وسمي التفسير تأويلًا؛ لأننا أولنا الكلام؛ أي: جعلناه يؤول إلى معناه المراد به.
(ب) تأويل بمعنى: عاقبة الشيء، وهذا إن ورد في طلب؛ فتأويله فعله إن كان أمرًا وتركه إن كان نهيًا، وإن ورد في خبر؛ فتأويله وقوعه.
مثاله في الخبر قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]، فالمعنى: ما ينتظر هؤلاء إلا عاقبة ومآل ما أخبروا به، يوم يأتي ذلك المخبر به؛ يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق.
ومنه قول يوسف لما خر له أبواه وإخوته سُجَّدًا قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100] : هذا وقوع رؤياي؛ لأنه قال ذلك بعد أن سجدوا له.
ومثاله في الطلب «قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده بعد أن أنزل عليه قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي "، يتأول القرآن» (1) . أي: يعمل به.
(1) رواه البخاري/ كتاب التفسير/ سورة النصر، ومسلم/ كتاب الصلاة/ باب ما يقال في الركوع والسجود.
(جـ) المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم؛ فإن دل عليه دليل؛ فهو محمود النوع ويكون من القسم الأول، وهو التفسير، وإن لم يدل عليه دليل؛ فهو مذموم، ويكون من باب التحريف، وليس من باب التأويل.
وهذا الثاني هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل.
مثاله قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] : ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه، وعلا عليه؛ فإذا قال قائل: معنى استوى: استولى على العرش؛ فنقول: هذا تأويل عندك لأنك صرفت اللفظ عن ظاهره، لكن هذا تحريف في الحقيقة؛ لأنه ما دل عليه دليل، بل الدليل على خلافه؛ كما سيأتي إن شاء الله.
فأما قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، فمعنى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} ؛ أي سيأتي أمر الله؛ فهذا مخالف لظاهر اللفظ لكن عليه دليل وهو قوله: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} .
وكذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] ؛ أي: إذا أردت أن تقرأ، وليس المعني: إذا أكملت القراءة؛ قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأننا علمنا من السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرد أن يقرأ؛ استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، لا إذا أكمل القراءة، فالتأويل صحيح.
وكذلك قول أنس بن مالك: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء؛ قال: «أعوذ»
ولا تعطيل
ــ
«بالله من الخبث والخبائث» (1) ؛ فمعنى " إذا دخل ": إذا أراد أن يدخل؛ لأن ذكر الله لا يليق داخل هذا المكان، فلهذا حملنا قوله " إذا دخل " على: إذ أراد أن يدخل: هذا التأويل الذي دل عليه الدليل صحيح، ولا يعدوا، يكون تفسيرًا.
ولذلك قلنا: إن التعبير بالتحريف عن التأويل الذي ليس عليه دليل صحيح أولى؛ لأنه الذي جاء به القرآن، ولأنه ألصق بطريق المحرف، ولأنه أشد تنفيرًا عن هذه الطريقة المخالفة لطريق السلف، ولأن التحريف كله مذموم؛ بخلاف التأويل؛ فإن منه ما يكون مذمومًا ومحمودًا، فيكون التعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل من أربعة أوجه.
التعطيل بمعنى التخلية والترك، كقوله تعالى:{وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج: 45] ؛ أي: مخلاة متروكة.
والمراد بالتعطيل: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات؛ سواء كان كليًّا أو جزئيًّا، وسواء كان ذلك بتحريف أو بجحود، هذا كله يسمى تعطيلًا.
فأهل السنة والجماعة لا يعطلون أي اسم من أسماء الله، أو أي صفة من صفات الله ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقرارًا كاملًا.
فإن قلت: ما الفرق بين التعطيل والتحريف؟
قلنا: التحريف في الدليل والتعطيل في المدلول؛ فمثلًا:
(1) رواه البخاري/ كتاب الوضوء/ باب ما يقول عند الخلاء. ومسلم/ كتاب الحيض/ باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء.
إذا قال قائل: معنى قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ؛ أي بل قوتاه هذا محرف للدليل، ومعطل للمراد الصحيح؛ لأن المراد اليد الحقيقية؛ فقد عطل المعنى المراد، وأثبت معنى غير المراد. وإذا قال: بل يداه مبسوطتان؛ لا أدري! أفوض الأمر إلى الله؛ لا أثبت اليد الحقيقية، ولا اليد المحرف إليها اللفظ. نقول: هذا معطل، وليس بمحرف؛ لأنه لم يغير معنى اللفظ، ولم يفسره بغير مراده، لكن عطل معناه الذي يراد به، وهو إثبات اليد لله عز وجل.
أهل السنة والجماعة يتبرؤون من الطريقتين: الطريقة الأولى: التي هي تحريف اللفظ بتعطيل معناه الحقيقي المراد إلى معنى غير مراد. والطريقة الثانية: وهي طريقة أهل التفويض، فهم لا يفوضون المعنى كما يقول المفوضة بل يقولون: نحن نقول: بل يداه؛ أي: يداه الحقيقيتان مبسوطتان، وهما غير القوة والنعمة.
فعقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التحريف ومن التعطيل.
وبهذا نعرف ضلال أو كذب من قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض، هؤلاء ضلوا إن قالوا ذلك عن جهل بطريقة السلف، وكذبوا إن قالوا ذلك عن عمد، أو نقول: كذبوا على الوجهين على لغة الحجاز؛ لأن الكذب عند الحجازيين بمعنى الخطأ.
وعلى كل حال، لا شك أن الذين يقولون: إن مذهب أهل السنة هو التفويض؛ أنهم أخطأوا؛ لأن مذهب أهل السنة هو إثبات المعنى وتفويض الكيفية.
وليعلم أن القول بالتفويض - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - من شر
أقوال أهل البدع والإلحاد!
عندما يسمع الإنسان التفويض، يقول: هذا جيد، أسلم من هؤلاء وهؤلاء، لا أقول بمذهب السلف، ولا أقول بمذهب أهل التأويل، أسلك سبيلًا وسطًا وأسلم من هذا كله، وأقول: الله أعلم ولا ندري ما معناها. لكن يقول شيخ الإسلام: هذا من شر أقوال أهل البدع والإلحاد
وصدق رحمه الله. وإذا تأملته وجدته تكذيبًا للقرآن وتجهيلًا للرسول صلى الله عليه وسلم واستطالة للفلاسفة.
تكذيب للقرآن؛ لأن الله يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، وأي بيان في كلمات لا يدرى ما معناها؟ ! وهي من أكثر ما يرد في القرآن، وأكثر ما ورد في القرآن أسماء الله وصفاته، إذا كنا لا ندري ما معناها، هل يكون القرآن تبيانًا لكل شيء؟ ! أين البيان؟ !
إن هؤلاء يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري عن معاني القرآن فيما يتعلق بالأسماء والصفات وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يدري؛ فغيره من باب أولى.
وأعجب من ذلك يقولون: الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم في صفات الله، ولا يدري ما معناه يقول:«ربنا الله الذي في السماء» ، وإذا سئل عن هذا؟ قال: لا أدري وكذلك في قوله: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» (1) وإذا
(1) أخرجه البخاري/ كتا التوحي/ باب قوله تعالى:] يريدون أن يبدلوا كلام الله [ومسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.
سئل ما معنى " ينزل ربنا "؟ قال: لا أدري
…
وعلى هذا، فقس.
وهل هناك قدح أعظم من هذا القدح بالرسول صلى الله عليه وسلم بل هذا من أكبر القدح! رسول من عند الله ليبين للناس وهو لا يدري ما معنى آيات الصفات وأحاديثها وهو يتكلم بالكلام ولا يدري معنى ذلك كله.
فهذان وجهان: تكذيب بالقرآن وتجهيل الرسول.
وفيه فتح الباب للزنادقة الذين تطاولوا على أهل التفويض، وقال: أنتم لا تعرفون شيئًا، بل نحن الذين نعرف، وأخذوا يفسرون القرآن بغير ما أراد الله، وقالوا: كوننا نثبت معاني للنصوص خير من كوننا أميين لا نعرف شيئًا وذهبوا يتكلمون بما يريدون من معنى كلام الله وصفاته! ! ولا يستطيع أهل التفويض أن يردوا عليهم؛ لأنهم يقولون: نحن لا نعلم ماذا أراد الله؛ فجائز أن يكون الذي يريد الله هو ما قلتم! ففتحوا باب شرور عظيمة، ولهذا جاءت العبارة الكاذبة:" طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم "! .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " هذه قالها بعض الأغبياء " وهو صحيح، أن القائل غبي.
هذه الكلمة من أكذب ما يكون نطقًا ومدلولًا، " طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم "؛ كيف تكون أعلم وأحكم وتلك أسلم؟ ! لا يوجد سلامة بدون علم وحكمة أبدًا! فالذي لا يدري عن الطريق؛ لا يسلم؛ لأنه ليس معه علم، لو كان معه علم وحكمة؛ لسلم؛ فلا سلامة إلا بعلم وحكمة.
إذا قلت: إن طريقة السلف أسلم، لزم أن تقول: هي أعلم وأحكم وإلا لكنت متناقصًا.
إذًا؛ فالعبارة الصحيحة: " طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم "، وهذا معلوم.
وطريقة الخلف ما قاله القائل:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
…
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعًا كف حائر
…
على ذقن أو قارعًا سن نادم
هذه الطريقة التي يقول عنها: إنه ما وجد إلا واضعًا كف حائر ذقن. وهذا ليس عنده علم، أو آخر: قارعًا سن نادم لأنه لم يسلك طريق السلامة أبدًا.
والرازي وهو من كبرائهم يقول:
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
…
وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم يقول: " لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [الشورى: 11] ، وأقرأ في النفي {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] ، ومن جرب مثل تجربتي؛ عرف مثل معرفتي " أهؤلاء نقول: إن طريقتهم أعلم وأحكم؟ !
الذي يقول: " إني أتمنى أن أموت على عقيدة عجائز نيسابور " والعجائز من عوام الناس، يتمنى أنه يعود إلى الأميات! هل يقال: إنه أعلم
ومن غير تكييف
ــ
وأحكم؟ !
أين العلم الذي عندهم؟ !
فتبين أن طريقة التفويض طريق خاطئ؛ لأنه يتضمن ثلاث مفاسد: تكذيب القرآن، وتجهيل الرسول، واستطالة الفلاسفة! وأن الذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف! أو الذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف، بل هم يثبتون اللفظ والمعنى ويقررونه، ويشرحونه بأوفى شرح.
أهل السنة والجماعة لا يحرفون ولا يعطلون، ويقولون بمعنى النصوص كما أراد الله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، بمعنى: علا عليه وليس معناه: استولى. بيده: يد حقيقية وليست القوة ولا نعمة؛ فلا تحريف عندهم ولا تعطيل.
" تكييف ": لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ورد ما يدل على النهي عنها.
التكييف: هو أن تذكر كيفية الصفة، ولهذا تقول: كيف يكيف تكييفًا؛ أي ذكر كيفية الصفة.
التكييف يسأل عنه بـ (كيف)، فإذا قلت مثلًا: كيف جاء زيد؟ تقول: راكبًا. إذًا: كيفت مجيئه. كيف لون السيارة؟ أبيض. فذكرت اللون.
أهل السنة والجماعة لا يكيفون صفات الله؛ مستندين في ذلك إلى الدليل السمعي والدليل العقلي:
أما الدليل السمعي؛ فمثل قوله تعالى:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، والشاهد في قوله {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
فإذا جاء رجل وقال: إن الله استوى على العرش، على هذه الكيفية ووصف كيفية معينة: نقول: هذا قد قال على الله ما لا يعلم! هل أخبرك الله بأنه استوى على هذه الكيفية؟ ! لا، أخبرنا الله بأنه استوى ولم يخبرنا كيف استوى. فنقول: هذا تكييف وقول على الله بغير علم.
ولهذا قال بعض السلف إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء؛ فكيف ينزل؟ فقل: إن الله أخبرنا أنه ينزل، ولم يخبرنا كيف ينزل. وهذه قاعدة مفيدة.
دليل آخر من السمع: قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] : لا تتبع ما ليس لك به علم؛ {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] .
وأما الدليل العقلي، فكيفية الشيء لا تدرك إلا بواحد من أمور ثلاثة: مشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو خبر الصادق عنه أي: إما أن تكون شاهدته أنت وعرفت كيفيته. أو شاهدت نظيره، كما لو قال واحد: إن فلانًا اشترى سيارة داتسون موديل ثمان وثمانين رقم ألفين. فتعرف كيفيتها؛ لأن عندك مثلها أو خبر صادق عنه، أتاك رجل صادق وقال: إن سيارة فلان صفتها كذا وكذا. . ووصفها تمامًا؛ فتدرك الكيفية الآن.
ولهذا أيضًا قال بعض العلماء جوابًا لطيفًا: إن معنى قولنا: " بدون تكييف ": ليس معناه ألا نعتقد لها كيفية، بل نعتقد لها كيفية لكن المنفي
علمنا بالكيفية؛ لأن استواء الله على العرش لا شك أن له كيفية، لكن لا تعلم، نزوله إلى السماء الدنيا له كيفية، لكن لا تعلم؛ لأن مامن موجود إلا وله كيفية، لكنها قد تكون معلومة، وقد تكون مجهولة.
سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] : كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه العرق، ثم رفع رأسه وقال:" الاستواء غير مجهول "؛ أي: من حيث المعنى معلوم؛ لأن اللغة العربية بين أيدينا، كل المواضع التي وردت فيها استوى معداة بـ (على) معناها العلو فقال:" الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول " لأن العقل لا يدرك الكيف؛ فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية؛ وجب الكف عنها، " والإيمان به واجب "؛ لأن الله أخبر به عنه نفسه، فوجب تصديقه، " والسؤال عنه بدعة " (1) : السؤال عن الكيفية بدعة؛ لأن من هم أحرص منا على العلم ما سألوا عنها وهم الصحابة لما قال الله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ؛ عرفوا عظمة الله عز وجل، ومعنى الاستواء على العرش، وأنه لا يمكن أن تسأل: كيف استوى؟ لأنك لن تدرك ذلك فنحن إذا سُئلنا، فنقول: هذا السؤال بدعة.
(1) رواه اللالكائي في "شرح السنة"(664) ، والبيهقي في "الأسماء والصفات (867) ، وأبو نعيم في الحلية (6/325) ، ورواه الدارمي في "الرد على الجهمية" (104) ، وابن عبد البرفي "التمهيد" (7/151) . قال ابن حجر "إسناده جيد" (الفتح: 13/407) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد قول مالك: "وهذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك، وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس في إسناده مما يعتمد عليه، وهكذا سائر قولهم يوافق مالك" "مجموع الفتاوى" (5/365) .
وكلام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات؛ فإن قيل لك مثلًا: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا؛ كيف ينزل؟ فالنزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل يتنقل؟ ! فنقول: السؤال هذا بدعة كيف تسأل عن شيء ما سأل عنه الصحابة وهم أحرص منك على الخير وعلى العلم بما يجب لله عز وجل، ولسنا بأعلم من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فهو لم يعلمهم. فسؤالك هذا بدعة، ولولا أننا نحسن الظن بك، لقلنا ما يليق بك بأنك رجل مبتدع.
والإمام مالك رحمه الله قال: " ما أراك إلا مبتدعًا " ثم أمر به فأخرج؛ لأن السلف يكرهون أهل البدع وكلامهم واعتراضاتهم وتقديراتهم ومجادلاتهم.
فأنت يا أخي عليك في هذا الباب بالتسليم، فمن تمام الإسلام لله عز وجل ألا تبحث في هذه الأمور، ولهذا أحذركم دائمًا من البحث فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته على سبيل التعنت والتنطع والشيء الذي ما سأل الصحابة عنه؛ لأننا إذا فتحنا على أنفسنا هذه الأبواب؛ انفتحت علينا الأبواب، وتهدمت الأسوار، وعجزنا عن ضبط أنفسنا؛ فلذلك قل: سمعنا وأطعنا وآمنا وصدقنا؛ آمنا وصدقنا بالخبر وأطعنا الطلب وسمعنا القول، حتى تسلم!
وأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عن شيء ما سأل عنه الصحابة، فقل كما قال الإمام مالك، فإن لك سلفًا: السؤال عن هذا بدعة. وإذا قلت ذلك؛ لن يلح عليك، وإذا ألح، فقل: يا مبتدع!
ولا تمثيل
ــ
السؤال عنه بدعة، اسأل عن الأحكام التي أنت مكلف بها، أما أن تسأل عن شيء يتعلق بالرب عز وجل وبأسمائه وصفاته، ولم يسأل عنه الصحابة؛ فهذا لا نقبله منك أبدًا!
وهناك كلام للسلف يدل على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نقل عن الأوزاعي وغيره، نقل عنهم أنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها:" أمروها كما جاءت بلا كيف "، وهذا يدل على أنهم يثبتون لها معنى من وجهين:
أولًا: أنهم قالوا: " أمروها كما جاءت " ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعاني ولم تأت عبثًا، فإذا أمررناها كما جاءت؛ لزم من ذلك أن نثبت لها معنى.
ثانيًا: قولهم: " بلا كيف " لأن نفي الكيفية يدل على وجود أصل المعنى؛ لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لغو وعبث.
إذًا؛ فهذا الكلام المشهور عند السلف يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى.
يعنى: ومن غير تمثيل؛ فأهل السنة يتبرؤون من تمثيل الله عز وجل بخلقه؛ لا في ذاته ولا في صفاته. والتمثيل: ذكر مماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق؛ لأن كل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلًا؛ لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل؛ مثل أن تقول: لي قلم كيفيته كذا وكذا. فإن قرنت بمماثل؛ صار تمثيلًا؛ مثل أن أقول: هذا القلم مثل هذا القلم؛ لأني ذكرت شيئًا مماثلًا لشيء وعرفت هذا القلم بذكر مماثله.
وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة؛ يقولون: إن الله عز وجل له حياة وليست مثل حياتنا، له علم وليس مثل علمنا، له بصر، ليس مثل بصرنا، له وجه وليس مثل وجوهنا له يد وليست مثل أيدينا
…
وهكذا جميع الصفات، يقولون: إن الله عز وجل لا يماثل خلقه فيما وصف به نفسه أبدًا، ولهم على ذلك أدلة سمعية وأدلة عقلية:
أ- الأدلة السمعية:
تنقسم إلى قسمين: خبر، وطلب.
- فمن الخبر قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ؛ فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر؛ لأنه استفهام بمعنى النفي وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية.
- وأما الطلب؛ فقال الله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] أي: نظراء مماثلين. وقال: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] .
فمن مثَّل الله بخلقه؛ فقد كذب الخبر وعصى الأمر ولهذا أطلق بعض السلف القول بالتكفير لمن مثل الله بخلقه، فقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله:" من شبه الله بخلقه؛ فقد كفر "(1) ؛ لأنه جمع بين التكذيب بالخبر وعصيان الطلب.
(1) رواه اللالكائي في "شرح السنة"(936) . والذهبي في "العلو" ص116.
وأما الأدلة العقلية على انتفاء التماثل بين الخالق والمخلوق: فمن وجوه:
أولًا: أن نقول: لا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق بأي حال من الأحوال لو لم يكن بينهما من التباين إلا أصل الوجود، لكان كافيًا، وذلك أن وجود الخالق واجب، فهو أزلي أبدي، ووجود المخلوق ممكن مسبوق بعدم ويلحقه فناء، فما كانا كذلك لا يمكن أن يقال: إنهما متماثلان.
ثانيًا: أنا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، في صفاته يسمع عز وجل كل صوت مهما خفي ومهما بعد، لو كان في قعار البحار، لسمعه عز وجل.
«وأنزل الله قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] ، تقول عائشة: " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة، وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها» (1) ، والله تعالى سمعها من على عرشه وبينه وبينها ما لا يعلم مداه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يقول قائل: إن سمع الله مثل سمعنا.
ثالثًا: نقول: نحن نعلم أن الله تعالى مباين للخلق بذاته: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67] ، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا؛ فإذا كان مباينًا للخلق في ذاته؛ فالصفات تابعة للذات، فيكون أيضًا مباينًا للخلق في
(1) رواه البخاري معلقاً/ كتاب التوحيد/ باب [وكان الله سميعاً بصيراً] . وقد وصله الإمام أحمد في "المسند"(6/46) ، وابن كثير 4/286.
صفاته عز وجل، ولا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق.
رابعًا: نقول: إننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات؛ يختلف الناس في صفاتهم: هذا قوي البصر وهذا ضعيف، وهذا قوي السمع وهذا ضعيف، هذا قوي البدن وهذا ضعيف وهذا ذكر وهذا أنثى
…
وهكذا التباين في المخلوقات التي من جنس واحد، فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس؟ فالتباين بينها أظهر ولهذا، لا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يدًا كيد الجمل، أو لي يدًا كيد الذرة، أو لي يدًا كيد الهر، فعندنا الآن إنسان وجمل وذرة وهر، كل واحد له يد مختلفة عن الثاني، مع أنها متفقة في الاسم فنقول: إذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق الاسم، فجوازه بين الخالق والمخلوق ليس جائزًا فقط، بل هو واجب، فعندنا أربعة وجوه عقلية كلها تدل على أن الخالق لا يمكن أن يماثل المخلوق بأي حال من الأحوال.
ربما نقول أيضًا: هناك دليل فطري، وذلك لأن الإنسان بفطرته بدون أن يلقن يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق ولولا هذه الفطرة، ما ذهب يدعو الخالق.
فتبين الآن أن التمثيل منتف سمعًا وعقلًا وفطرة.
فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا بأحاديث تشتبه علينا، هل هي تمثيل أو غير تمثيل؟ ونحن نضعها بين أيديكم:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا»
«تضامون في رؤيته» (1) ؛ فقال: " كما " والكاف للتشبيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن من قاعدتنا أن نؤمن بما قال الرسول كما نؤمن بما قال الله، فأجيبوا عن هذا الحديث؟
نقول: نجيب عن هذا الحديث وعن غيره بجوابين: الجواب الأول مجمل والثاني مفصل.
فالأول المجمل: أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين كلام الله وكلام رسوله الذي صح عنه أبدًا؛ لأن الكل حق، والحق لا يتعارض، والكل من عند الله، وما عند الله تعالى لا يتناقض {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ؛ فإن وقع ما يوهم التعارض في فهمك؛ فاعلم أن هذا ليس بحسب النص، ولكن باعتبار ما عندك؛ فأنت إذا وقع التعارض عندك في نصوص الكتاب والسنة؛ فإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم، وإما للتقصير في البحث والتدبر، ولو بحثت وتدبرت؛ لوجدت أن التعارض الذي توهمته لا أصل له، وإما لسوء القصد والنية؛ بحيث تستعرض ما ظاهره التعارض لطلب التعارض، فتحرم التوفيق؛ كأهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه.
ويتفرع على هذا الجواب المجمل أنه يجب عليك عند الاشتباه أن ترد المشتبه إلى المحكم؛ لأن هذه الطريق طريق الراسخين في العلم، قال الله تعالى:
(1) رواه البخاري/ كتاب مواقيت الصلاة/ باب فضل صلاة العصر، ومسلم/ كتاب المساجد/ باب فضل صلاتي الصبح والعصر.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] ، ويحملون المتشابه على المحكم حتى يبقى النص كله محكمًا.
وأما الجواب المفصل؛ فأن نجيب عن كل نص بعينه فنقول:
إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» ليس تشبيهًا للمرئي بالمرئي، ولكنه تشبيه للرؤية بالرؤية؛ " سترون.. كما ترون "، فالكاف في:" كما ترون ": داخلة على مصدر مؤول؛ لأن (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: كرؤيتكم القمر ليلة البدر وحينئذ يكون التشبيه للرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، والمراد أنكم ترونه رؤية واضحة كما ترون القمر ليلة البدر ولهذا أعقبه بقوله:" لا تضامون في رؤيته " أو: " لا تضارون في رؤيته " فزال الإشكال الآن.
- قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق آدم على صورته» (1) ، والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال: هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف والكلمات؛ فالصورة مطابقة للصورة، والقائل:«إن الله خلق آدم على صورته» : الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق.
والجواب المجمل أن نقول: لا يمكن أن يناقض هذا الحديث قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، فإن يسر الله لك الجمع؛ فاجمع،
(1) رواه البخاري/ كتاب الاستئذان/ باب بدء السلام، ومسلم/ كتاب البر/ باب النهي عن ضرب الوجه.
وإن لم يتيسر، فقل:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] ، وعقيدتنا أن الله لا مثيل له، بهذا تسلم أمام الله عز وجل.
هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضًا؛ لأنه كله خبر وليس حكمًا كي ينسخ؛ فأقول: هذا نفي للمماثلة، وهذا إثبات للصورة؛ فقل: إن الله ليس كمثله شيء، وإن الله خلق آدم على صورته، فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله والكل حق نؤمن به، ونقول: كل من عند ربنا، ونسكت وهذا هو غاية ما نستطيع.
وأما الجواب المفصل؛ فنقول: إن الذي قال: «إن الله خلق آدم على صورته» رسول الذي قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] والرسول لا يمكن أن ينطق بما يكذب المرسل والذي قال: «خلق آدم على صورته» : هو الذي قال: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر» (1) ؛ فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمال واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل وجه؟ ! فإن قلت بالأول؛ فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين وليس لهم آناف وليس لهم أفواه! وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار! وإن قلت بالثاني؛ زال الإشكال، وتبين أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلًا له من كل وجه.
فإن أبى فهمك، وتقاصر عن هذا، وقال: أنا لا أفهم إلا أنه مماثل.
(1) رواه البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ومسلم/ كتاب الجنة/ باب في صفات الجنة وأهلها.
قلنا: هناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فقوله:" على صورته "؛ مثل قوله عز وجل في آدم: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص: 72] ، ولا يمكن أن الله عز وجل أعطى آدم جزءً من روحه، بل المراد الروح التي خلقها الله عز وجل، لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب التشريف؛ كما نقول: عباد الله، يشمل الكافر والمسلم والمؤمن والشهيد والصديق والنبي لكننا لو قلنا: محمد عبد الله، هذه إضافة خاصة ليست كالعبودية السابقة.
فقوله: «خلق آدم على صورته» ؛ يعني: صورة من الصور التي خلقها الله وصورها، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11] ، والمصور آدم إذًا؛ فآدم على صورة الله، يعني: أن الله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات ، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] ؛ فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف، كأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة ومن أجل ذلك؛ لا تضرب الوجه؛ فتعيبه حسًّا، ولا تقبحه فتقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك؛ فتعيبه معنًى؛ فمن أجل أنه الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفًا وتكريمًا؛ لا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي.
ثم هل يعتبر هذا الجواب تحريفًا أم له نظير؟
نقول: له نظير، كما في: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله؛ لأن هذه الصورة (أي: صورة آدم) منفصلة بائنة من الله وكل شيء أضافه الله إلى نفسه وهو منفصل بائن عنه؛ فهو من المخلوقات؛ فحينئذ يزول
الإشكال.
ولكن إذا قال لقائل: أيما أسلم المعنى الأول أو الثاني؟ قلنا: المعنى الأول أسلم، ما دمنا نجد أن لظاهر اللفظ مساغًا في اللغة العربية وإمكانًا في العقل، فالواجب حمل الكلام عليه ونحن وجدنا أن الصورة لا يلزم منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره.
فإذا قلت: ما هي الصورة التي تكون لله ويكون آدم عليها؟
قلنا: إن الله عز وجل له وجه وله عين وله يد وله رجل عز وجل، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان، فهناك شيء من الشبه لكنه ليس على سبيل المماثلة، كما أن الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر لكن بدون مماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة؛ من أن جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقين، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
نسمع كثيرًا من الكتب الني نقرأها يقولون: تشبيه؛ يعبرون بالتشبيه وهم يقصدون التمثيل؛ فأيما أولى: أنعبر بالتشبيه، أو نعبر بالتمثيل؟
نقول: بالتمثيل أولى.
أولًا: لأن القرآن عبر به: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] . . وما أشبه ذلك، وكل ما عبر به القرآن؛ فهو أولى من غيره؛ لأننا لا نجد أفصل من القرآن ولا أدل على المعنى المراد من القرآن، والله أعلم بما يريده من كلامه، فتكون موافقة القرآن هي الصواب، فنعبر بنفي التمثيل. وهكذا في كل مكان، فإن موافقة النص في اللفظ أولى من ذكر لفظ مرادف أو مقارب.
ثانيًا: أن التشبيه عند بعض الناس يعني إثبات الصفات ولهذا يسمون أهل السنة: مشبهة؛ فإن قلنا: من غير تشبيه. وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات؛ صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه يوهم معنى فاسدًا فلهذا كان العدول عنه أولى.
ثالثًا: أن نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح؛ لأن ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقًا، لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما.
مثلًا: الوجود؛ يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك ونوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين؛ وجود الخالق واجب ووجود المخلوق ممكن.
وكذلك السمع؛ فيه اشتراك، الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن أصل وجود السمع المشترك.
فإذا قلنا: من غير تشبيه. ونفينا مطلق التشبيه؛ صار في هذا إشكال.
وبهذا عرفنا أن التعبير بالتمثيل أولى من ثلاثة أوجه.
فإن قلت: ما الفرق بين التكييف والتمثيل؟
فالجواب: الفرق بينهما من وجهين:
الأول: أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل؛ فتقول يد فلان مثل يد فلان، والتكييف ذكر الصفة غير مقيدة بمماثل؛ مثل أن تقول: كيفية يد فلان كذا وكذا.
بل يؤمنون بأن الله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
ــ
وعلى هذا نقول: كل ممثل مكيف، ولا عكس.
الثاني: أن الكيفية لا تكون إلا في الصفة والهيئة، والتمثيل يكون في ذلك وفي العدد؛ كما في قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] ؛ أي: في العدد.
أي: يقر أهل السنة والجماعة بذلك إقرارًا وتصديقًا بأن الله ليس كمثله شيء، كما قال عن نفسه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، فهنا نفى المماثلة، ثم أثبت السمع والبصر فنفى العيب، ثم أثبت الكمال؛ لأن نفي العيب قبل إثبات الكمال أحسن، ولهذا يقال: التخلية قبل التحلية. فنفي العيوب يبدأ به أولًا، ثم يذكر إثبات الكمال.
وكلمة شيء نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء، ليس شيء مثله أبدًا عز وجل أي مخلوق وإن عظم؛ فليس مماثلًا لله عز وجل؛ لأن مماثلة الناقص نقص، بل إن طلب المفاضلة بين الناقص والكامل تجعله ناقصًا، كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره
…
إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فهنا لو قلنا: إن لله مثيلًا، لزم من ذلك تنقص الله عز وجل، فلهذا نقول: نفى الله عن نفسه مماثلة المخلوقين؛ لأن مماثلة المخلوقين نقص وعيب؛ لأن المخلوق ناقص، وتمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصًا، بل ذكر المفاضلة بينهما يجعله ناقصًا؛ إلا إذا كان في مقام التحدي، كما في قوله تعالى:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، وقوله:{قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] .
وفي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : رد صريح على الممثَّلة الذين يثبتون أن الله سبحانه وتعالى له مثيل.
وحجة هؤلاء يقولون: إن القرآن عربي، وإذا كان عربيًّا؛ فقد خاطبنا الله تعالى بما نفهم، ولا يمكن أن يخاطبنا بما لا نفهم، وقد خاطبنا الله تعالى، فقال: إن له وجهًا وإن له عينًا، وإن له يدين.. وما أشبه ذلك ونحن لا نعقل بمقتضى اللغة العربية من هذه الأشياء إلا مثل ما تشاهد، وعلى هذا، فيجب أن يكون مدلول هذه الكلمات مماثلًا لمدلولها بالنسبة للمخلوقات: يد ويد، وعين وعين، ووجه ووجه.. وهكذا، فنحن إنما قلنا بذلك لأن لدينا دليلًا.
ولا شك أن هذه الحجة واهية يوهيها ما سبق من بيان أن الله ليس له مثيل ونقول: إن الله خاطبنا بما خاطبنا به من صفاته، لكننا نعلم علم اليقين أن الصفة بحسب الموصوف ودليل هذا في الشاهد؛ فإنه يقال للجمل يد وللذرة يد، ولا أحد يفهم من اليد التي أضفناها إلى الجمل أنها مثل اليد التي أضفناها إلى الذرة.
هذا وهو في المخلوقات؛ فكيف إذا كان ذلك من أوصاف الخالق؟ فإن التباين يكون أظهر وأجلى.
وعلى هذا؛ فيكون قول هؤلاء الممثَّلة مردودًا بالعقل كما أنه مردود بالسمع.
قال الله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فأثبت لنفسه سبحانه وتعالى السمع والبصر؛ لبيان كمال، ونقص الأصنام التي تعبد من دونه؛ فالأصنام التي تعبد من دون الله تعالى لا يسمعون، ولو سمعوا؛
ما استجابوا؛ ولا يبصرون؛ كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20،21]، فهم ليس لهم سمع ولا عقل ولا بصر ولو فرض أن لهم ذلك؛ ما استجابوا:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] .
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بانتفاء المماثلة عن الله؛ لأنها عيب ويثبتون له السمع والبصر، لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
وإيمان الإنسان بذلك يثمر للعبد أن يعظمه غاية التعظيم؛ لأنه ليس مثله أحد من المخلوقات، فتعظم هذا الرب العظيم الذي لا يماثله أحد، وإلا؛ لم يكن هناك فائدة من إيمانك بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
إذا آمنت بأنه سميع؛ فإنك سوف تحترز عن كل قول يغضب الله؛ لأنك تؤمن بأنه يسمعك، فتخشى عقابه؛ فكل قول يكون فيه معصية الله عز وجل؛ فسوف تتحاشاه؛ لأنك تؤمن بأنه سميع، وإذا لم يحدث لك هذا الإيمان هذا الشيء؛ فاعلم أن إيمانك بأن الله سميع إيمان ناقص بلا شك.
إذا آمنت بأن الله سميع؛ فلن تتكلم إلا بما يرضيه ولا سيما إذا كنت تتكلم معبرًا عن شرعه، وهو المفتي والمعلم؛ فإن هذا أشد، والله سبحانه يقول:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] ؛ فإن هذا من أظلم الظلم ولهذا قال:
فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه
ــ
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] وهذا من عقوبه من يفتي بلا علم، أنه لا يُهْدَى؛ لأنه ظالم.
فحذار يا أخي المسلم أن تقول قولًا لا يرضي الله؛ سواء قلته على الله، أو على غير هذا الوجه.
وثمرة الإيمان بأن الله بصير أن لا تفعل شيئًا يغضب الله؛ لأنك تعلم أنك لو تنظر نظرة محرمة لا يفهم الناس أنها نظرة محرمة؛ فإن الله تعالى يرى هذه النظرة، ويعلم ما في قلبك، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] .
إذا آمنت بهذا؛ لا يمكن أن تفعل فعلًا لا يرضاه أبدًا.
استحيي من الله كما تستحيي من أقرب الناس إليك وأشدهم تعظيمًا منك.
إذًا؛ إذا آمنَّا بأن الله بصير؛ فسوف نتحاشى كل فعل يكون سببًا لغضب الله عز وجل، وإلا؛ فإن إيماننا بذلك ناقص. لو أن أحدًا أشر بأصبعه أو شفته أو بعينه أو برأسه لأمر محرم؛ فالناس الذين حوله لا يعلمون عنه، لكن الله تعالى يراه؛ فليحذر هذا من يؤمن به، ولو أننا نؤمن بما تقتضيه أسماء الله وصفاته؛ لوجدت الاستقامة كاملة فينا فالله المستعان.
؛ أي: لا ينفي أهل السنة والجماعة عن الله ما وصف به نفسه؛ لأنهم متبعون للنص نفيًا وإثباتًا؛ فكل ما وصف الله به نفسه يثبتونه على حقيقته؛ فلا ينفون عن الله ما وصف الله به نفسه، سواء كان من الصفات
ولا يحرفون الكلم عن مواضعه
ــ
الذاتية أو الفعلية (أو الخبرية) .
الصفات الذاتية؛ كالحياة والقدرة، والعلم.. وما أشبه ذلك، وتنقسم إلى: ذاتية معنوية، وذاتية خبرية، وهي التي مسماها أبعاض لنا وأجزاء؛ كاليد والوجه، والعين، فهذه يسميها العلماء: ذاتية خبرية، ذاتية: لأنها لا تنفصل ولم يزل الله ولا يزال متصفًا بها. خبرية: لأنه متلقاة بالخبر؛ فالعقل لا يدل على ذلك، لولا أن الله أخبرنا أن له يدًا؛ ما علمنا بذلك، لكنه أخبرنا بذلك، بخلاف العلم والسمع والبصر، فإن هذا ندركه بعقولنا مع دلالة السمع، لهذا نقول في مثل هذه الصفات اليد والوجه وما أشبهها: إنها ذاتية خبرية، ولا نقول: أجزاء وأبعاض، بل نتحاشى هذا اللفظ لكن مسماها لنا أجزاء وأبعاض؛ لأن الجزء والبعض ما جاز انفصاله عن الكل؛ فالرب عز وجل لا يتصور أن شيئًا من هذه الصفات التي وصف بها نفسه - كاليد - أن تزول أبدًا؛ لأنه موصوف بها أزلًا وأبدًا ولهذا لا نقول: إنه أبعاض وأجزاء.
والصفات الفعلية: هي المتعلقة بمشيئته إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، وقد ذكرنا أن هذه الصفات الفعلية: منها ما يكون له سبب، ومنها ما ليس له سبب ومنها ما يكون ذاتيًّا فعليًّا.
(الكلم) : اسم، جمع كلمة ويراد به كلام الله وكلام رسوله.
لا يحرفونه عن مواضعه؛ أي: عن مدلولاته، فمثلًا قوله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، يقولون: هي يد حقيقية ثابتة لله من غير تكييف ولا تمثيل. والمحرفون يقولون: قوته، أو نعمته أما أهل السنة؛ فيقولون: القوة شيء واليد شيء آخر، والنعمة شيء واليد شيء آخر؛
ولا يلحدون في أسماء الله وآياته
ــ
فهم لا يحرفون الكلم عن مواضعه؛ فإن التحريف من دأب اليهود، {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] ؛ فكل من حرف نصوص الكتاب والسنة؛ ففيه شبه من اليهود؛ فاحذر هذا، ولا تتشبه بالمغضوب عليهم الذين جعل الله منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، لا تحرف، بل فسر الكلام على ما أراد الله ورسوله.
ومن كلام الشافعي ما يذكر عنه: " آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ".
قوله: " ولا يلحدون " أي: أهل السنة والجماعة.
والإلحاد في اللغة: الميل، ومنه سمي اللحد في القبر؛ لأنه مائل إلى جانب منه وليس متوسطًا والمتوسط يسمى شقًّا واللحد أفضل من الشق.
فهم لا يلحدون في أسماء الله، ولا يلحدون أيضًا في آيات الله، فأفادنا المؤلف رحمه الله أن الإلحاد يكون في موضعين: في الأسماء وفي الآيات.
هذا الذي يفيده كلام المؤلف قد دل عليه القرآن قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] ، فأثبت الله الإلحاد في الأسماء، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40] ، فأثبت الله الإلحاد في الآيات.
- فالإلحاد في الأسماء هو الميل فيها عما يجب، وهو أنواع:
النوع الأول: أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه، كم سماه الفلاسفة علة فاعلة وسماه النصارى: أبًا، وعيسى: الابن، فهذا إلحاد في أسماء الله وكذلك لو سمى الله بأي اسم لم يسم به نفسه، فهو ملحد في أسماء الله.
ووجه ذلك أن أسماء الله عز وجل توقيفية، فلا يمكن أن نثبت له إلا ما ثبت بالنص، فإذا سميت الله بما لم يسم به نفسه، فقد ألحدت وملت عن الواجب.
وتسمية الله بما لم يسم به نفسه سوء أدب مع الله وظلم وعدوان في حقه، لأنه لو أن أحدًا دعاك بغير اسمك أو سماك بغير اسمك، لاعتبرته قد اعتدى عليك وظلمك هذا في المخلوق، فيكف بالخالق؟!
إذًا، ليس لك حق أن تسمي الله بما لم يسم به نفسه، فإن فعلت، فأنت ملحد في أسماء الله.
النوع الثاني: أن ينكر شيئًا من أسمائه، عكس الأول، فالأول سمى الله بما لم يسم به نفسه، وهذا جرد الله مما سمى به نفسه، فينكر الاسم، سواء أنكر كل الأسماء أو بعضها التي تثبت لله، فإذا أنكرها، فقد ألحد فيها.
ووجه الإلحاد فيها: أنه لما أثبتها الله لنفسه، وجب علينا أن نثبتها له، فإذا نفيناها، كان إلحادًا وميلا بها عما يجب فيها.
وهناك من الناس من أنكر الأسماء، كغلاة الجهمية، فقالوا: ليس لله اسم أبدًا! قالوا: لأنك لو أثبت له اسمًا، شبهته بالموجودات، وهذا معروف أنه باطل مردود.
النوع الثالث: أن ينكر ما دلت عليه من الصفات، فهو يثبت الاسم، لكن ينكر الصفة التي يتضمنها هذا الاسم، مثل أن يقول: إن الله سميع بلا سمع، وعليم بلا علم، وخالق بلا خلق، وقادر بلا قدرة. . . وهذا معروف عن المعتزلة، وهو غير معقول!
ثم هؤلاء يجعلون الأسماء أعلامًا محضة متغايرة، فيقولوا: السميع غير العليم، لكن كلها ليس لها معنى! السميع لا يدل على السمع! والعليم لا يدل على العلم! لكن مجرد أعلام!!
ومنهم آخرون يقولون: هذه الأسماء شيء واحد، فهي عليم وسميع وبصير كلها واحد، لا تختلف إلا بتركيب الحروف فقط، فيجعل الأسماء شيئًا واحدًا!!
وكل هذا غير معقول، ولذلك نحن نقول: إنه لا يمكن الإيمان بالأسماء حتى تثبت ما تضمنته من الصفات.
ولعلنا من هنا نتكلم على دلالة الاسم، فالاسم له أنواع ثلاثة في الدلالة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام:
1 -
فدلالة المطابقة: دلالة اللفظ على جميع مدلوله، وعلى هذا، فكل اسم دال على المسمى به، وهو الله، وعلى الصفة المشتق منها هذا الاسم.
2 -
ودلالة التضمن: دلالة اللفظ على بعض مدلوله، وعلى هذا، فدلالة الاسم على الذات وحدها أو على الصفة وحدها من دلالة التضمن.
3 -
ودلالة الالتزام: دلالته على شيء يفهم لا من لفظ الاسم لكن من لازمه ولهذا سميناه: دلالة الالتزام.
مثل كلمة الخالق: اسم يدل على ذات الله ويدل على صفة الخلق.
إذًا، فباعتبار دلالته على الأمرين يسمى دلالة مطابقة، لأن اللفظ دل على جميع مدلوله، ولا شك أنك إذا قلت: الخالق، فإنك تفهم خالقًا وخلقًا.
- وباعتبار دلالته على الخالق وحده أو على الخلق وحده يسمى دلالة تضمن، لأنه دل على بعض معناه، وباعتبار دلالته على العلم والقدرة يسمى دلالة التزام، إذ لا يمكن خلق إلا بعلم وقدرة، فدلالته على القدرة والعلم دلالة التزام.
وحينئذ، يتبين أن الإنسان إذا أنكر واحدًا من هذه الدلالات، فهو ملحد في الأسماء.
ولو قال: أنا أؤمن بدلالة الخالق على الذات، ولا أؤمن بدلالته على الصفة، فهو ملحد في الاسم.
لو قال: أنا أؤمن بأن (الخالق) تدل على ذات الله وعلى صفة الخلق، لكن لا تدل على صفة العلم والقدرة. قلنا: هذا إلحاد أيضًا، فلازم علينا أن نثبت كل ما دل عليه هذا الاسم، فإنكار شيء مما دل عليه الاسم من الصفة إلحاد في الاسم سواء كانت دلالته على هذه الصفة دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام.
ولنضرب مثلا حسيًا تتبين فيه أنواع هذه الدلالات: لو قلت: لي بيت. فكلمة (بيت) فيها الدلالات الثلاث، فتفهم من (بيت) أنها تدل على كل البيت دلالة مطابقة. وتدل على مجلس الرجال وحده، وعلى الحمامات وحدها، وعلى الصالة وحدها، دلالة تضمن، لأن هذه الأشياء
جزء من البيت ودلالة اللفظ على جزء معناه دلالة تضمن. وتدل على أن هناك بانيًا بناه دلالة التزام، لأنه ما من بيت إلا وله بانٍ.
النوع الرابع من أنواع الإلحاد في الأسماء: أن يثبت الأسماء لله والصفات، لكن يجعلها دالة على التمثيل، أي دالة على بصر كبصرنا وعلم كعلمنا، ومغفرة كمغفرتنا. . . وما أشبه ذلك، فهذا إلحاد، لأنه ميل بها عما يجب فيها، إذ الواجب إثباتها بلا تمثيل.
النوع الخامس: أن ينقلها إلى المعبودات، أو يشتق أسماء منها للمعبودات، مثل أن يسمي شيئًا معبودًا بالإله، فهذا إلحاد، أو يشتق منها أسماء للمعبودات مثل: اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، فنقول: هذا أيضًا إلحاد في أسماء الله، لأن الواجب عليك أن تجعل أسماء الله خاصة به، ولا تتعدى وتتجاوز فتشتق للمعبودات منها أسماء. هذه أنواع الإلحاد في أسماء الله.
فأهل السنة والجماعة لا يلحدون في أسماء الله أبدًا بل يجرونها على ما أراد الله بها سبحانه وتعالى ويثبتون لها جميع أنواع الدلالات، لأنهم يرون أن ما خالف ذلك، فهو إلحاد.
- وأما الإلحاد في آيات الله تعالى، فالآيات جمع آية، وهي العلامة المميزة للشيء عن غيره، والله عز وجل بعث الرسل بالآيات لا بالمعجزات، لهذا كان التعبير بالآيات أحسن من التعبير بالمعجزات:
أولا: لأن الآيات هي التي يعبر بها في الكتاب والسنة.
ثانيًا: أن المعجزات قد تقع من ساحر ومشعوذ وما أشبه ذلك تعجز غيره.
ثالثًا: أن كلمة (آيات) أدل على المعنى المقصود من كلمة معجزات،
فآيات الله عز وجل هي العلامات الدالة على الله عز وجل، وحينئذ تكون خاصة به ولولا أنها خاصة، ما صارت آية له.
وآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: آيات كونية، وآيات شرعية:
فالآيات الكونية: ما يتعلق بالخلق والتكوين، مثال ذلك قوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37]{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20]{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 22 - 25]، فهذه الآيات كونية وإن شئت فقل: كونية قدرية، وكانت آية لله، لأنه لا يستطيع الخلق أن يفعلوها، فمثلا: لا يستطيع أحد أن يخلق مثل الشمس والقمر، ولا يستطيع أن يأتي بالليل إذا جاء النهار، ولا بالنهار إذا جاء الليل، فهذه الآيات كونية.
والإلحاد فيها أن ينسبها إلى غير الله استقلالا أو مشاركة أو إعانة، فيقول: هذا من الولي الفلاني، أو: من النبي الفلاني، أو: شارك فيه النبي الفلاني أو الولي الفلاني، أو: أعان الله فيه، قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] ، فنفى كل شيء يتعلق به المشركون بكون معبوداتهم لا تملك شيئًا في السماوات
والأرض استقلالا أو مشاركة ولا معينة لله عز وجل، ثم جاء بالرابع:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، لما كان المشركون قد يقولون: نعم، هذه الأصنام لا تملك ولا تشارك ولم تعاون، لكنها شفعاء، قال:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، فقطع كل سبب يتعلق به المشركون.
القسم الثاني من الآيات: الآيات الشرعية، وهي ما جاءت به الرسل من الوحي، كالقرآن العظيم وهو آية، لقوله تعالى:{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252]{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 50 - 51] ، فجعله آيات.
ويكون الإلحاد فيها إما بتكذيبها أو تحريفها أو مخالفتها: فتكذيبها: أن يقول: ليست من عند الله، فيكذب بها أصلا، أو يكذب بما جاء فيها من الخبر مع تصديقه بالأصل، فيقول مثلا: قصة أصحاب الكهف ليست صحيحة، وقصة أصحاب الفيل ليست صحيحة والله لم يرسل عليهم طيرًا أبابيل.
وأما التحريف، فهو تغيير لفظها، أو صرف معناها عما أراد الله بها ورسوله، مثل أن يقول: استوى على العرش، أي: استولى، أو: ينزل إلى السماء الدنيا، أي: ينزل أمره.
وأما مخالفتها، فبترك الأوامر أو فعل النواهي.
قال الله تعالى في المسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ، فكل المعاصي إلحاد في الآيات الشرعية، لأنه
ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه لأنه سبحانه
ــ
خروج بها عما يجب لها، إذ الواجب علينا أن نمتثل الأوامر وأن نجتنب النواهي، فإن لم نقم بذلك، فهذا إلحاد.
أي: أهل السنة والجماعة، وسبق أن التكييف ذكر كيفية الصفة، سواء ذكرتها بلسانك أو بقلبك، ف أهل السنة والجماعة لا يكيفون أبدًا، يعني: لا يقولون: كيفية يده كذا وكذا، ولا: كيفية وجهه كذا وكذا، فلا يكيفون هذا باللسان ولا بالقلب أيضًا، يعني: نفس الإنسان لا يتصور كيف استوى الله عز وجل، أو كيف ينزل، أو كيف وجهه، أو كيف يده، ولا يجوز أن يحاول ذلك أيضًا، لأن هذا يؤدي إلى أحد أمرين: إما التمثيل، وإما التعطيل.
ولهذا لا يجوز للإنسان أن يحاول معرفة كيفية استواء الله على العرش، أو يقوله بلسانه، بل ولا يسأل عن الكيفية، لأن الإمام مالكًا رحمه الله قال:"السؤال عنه بدعة"، لا تقل: كيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف يأتي؟ كيف وجهه؟ إن فعلت ذلك، قلنا: إنك مبتدع. . وقد سبق ذكر الدليل على تحريم التكييف، وذكرنا الدليل على ذلك من السمع والعقل.
" ولا يمثلون "، أي: أهل السنة والجماعة: " صفاته بصفات خلقه "، وهذا معنى قوله فيما سبق:" من غير تمثيل " وسبق لنا امتناع التمثيل سمعًا وعقلا، وأن السمع ورد خبرًا وطلبًا في نفي التمثيل، فهم لا يكيفون ولا يمثلون.
(سبحان) : اسم مصدر سبح والمصدر تسبيح، فـ (سبحان) بمعنى تسبيح، لكنها بغير اللفظ، وكل ما دل على معنى المصدر وليس
لا سمي له، ولا كفء له، ولا ند له
ــ
بلفظه، فهو اسم مصدر، كـ: سبحان من سبح، وكلام من كلم وسلام من سلم، وإعرابها مفعول مطلق منصوب على المفعولية المطلقة، وعاملها محذوف دائمًا.
ومعنى (سبح)، قال العلماء: معناها: نزه، أصلها من السبح وهو البعد، كأنك تبعد صفات النقص عن الله عز وجل، فهو سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص.
دليل ذلك قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] : هَلْ استفهام، لكنه بمعنى النفي ويأتي النفي بصيغة الاستفهام لفائدة عظيمة، وهي التحدي، لأن هناك فرقًا بين أن أقول: لا سمي له، و:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ؛ لأن {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} متضمن للنفي وللتحدي أيضًا، فهو مشرب معنى التحدي، وهذه قاعدة مهمة: كلما كان الاستفهام بمعنى النفي، فهو مشرب معنى التحدي، كأني أقول: إن كنت صادقًا، فأتني بسمي له وعلى هذا، فـ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} : أبلغ من: "سمي له".
والسمي: هو المسامي، أي: المماثل.
الدليل قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] .
الدليل قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، أي: تعلمون أنه لا ند له والند بمعنى النظير.
وهذه الثلاثة - السمي والكفء والند - معناها متقارب جدا، لأن معنى الكفء: الذي يكافئه، ولا يكافئ الشيء الشيء إلا إذا كان مثله، فإن لم يكن مثله، لم يكن مكافئًا، إذًا: لا كفء له، أي: ليس له مثيل
ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى. . . . . . . . . .
ــ
سبحانه وتعالى.
وهذا النفي المقصود منه كمال صفاته، لأنه لكمال صفاته لا أحد يماثله.
القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قياس شمول، وقياس تمثيل، وقياس أولوية، فهو سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه قياس تمثيل ولا قياس شمول:
1 -
قياس الشمول: هو ما يعرف بالعام الشامل لجميع أفراده، بحيث يكون كل فرد منه داخلا في مسمى ذلك اللفظ ومعناه، فمثلا: إذا قلنا: الحياة، فإنه لا تقاس حياة الله تعالى بحياة الخلق من أجل أن الكل يشمله اسم (حي) .
2 -
وقياس التمثيل: هو أن يلحق الشيء مثيله فيجعل ما ثبت للخالق مثل ما ثبت للمخلوق.
3 -
وقياس الأولوية: هو أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل، ولهذا يقول العلماء: إنه مستعمل في حق الله، لقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] ، بمعنى كل صفة كمال، فلله تعالى أعلاها، والسمع والعلم والقدرة والحياة والحكمة وما أشبهها موجودة في المخلوقات، لكن لله أعلاها وأكملها.
ولهذا أحيانًا نستدل بالدلالة العقلية من زاوية القياس بالأولى، فمثلا: نقول: العلو صفة كمال في المخلوق، فإذا كان صفة كمال في المخلوق، فهو في الخالق من باب أولى وهذا دائمًا نجده في كلام العلماء.
فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا وأحسن حديثًا من خلقه. . . . . . . . . . . . .
ــ
فقول المؤلف رحمه الله: "ولا يقاس بخلقه"، بعد قوله:"لا سمي ولا كفء له، ولا ند له"، يعني القياس المقتضي للمساواة وهو قياس الشمول وقياس التمثيل.
إذًا، يمتنع القياس بين الله وبين الخلق للتباين بينهما، وإذا كنا في الأحكام لا نقيس الواجب على الجائز، أو الجائز على الواجب، ففي باب الصفات بين الخالق والمخلوق من باب أولى.
لو قال لك قائل: الله موجود، والإنسان موجود، ووجود الله كوجود الإنسان بالقياس.
فنقول: لا يصح، لأن وجود الخالق واجب، ووجود الإنسان ممكن.
فلو قال: أقيس سمع الخالق على سمع المخلوق.
نقول: لا يمكن، سمع الخالق واجب له، لا يعتريه نقص، وهو شامل لكل شيء، وسمع الإنسان ممكن، إذ يجوز أن يولد الإنسان أصم، والمولود سميعًا يلحقه نقص السمع، وسمعه محدود.
إذًا، لا يمكن أن يقاس الله بخلقه، فكل صفات الله لا يمكن أن تقاس بصفات خلقه، لظهور التباين العظيم بين الخالق وبين المخلوق.
قال المؤلف هذا تمهيدًا وتوطئة لوجوب قبول ما دل عليه كلام الله تعالى من صفاته وغيرها، وذلك أنه يجب قبول ما دل عليه الخبر إذا اجتمعت فيه أوصاف أربعة:
الأول: أن يكون صادرًا عن علم، وإليه الإشارة بقوله:" فإنه أعلم بنفسه وبغيره ".
الثاني: الصدق، وأشار إليه بقوله:"وأصدق قيلا".
الوصف الثالث: البيان والفصاحة، وأشار إليه بقوله:"وأحسن حديثًا".
الوصف الرابع: سلامة القصد والإرادة، بأن يريد المخبر هداية من أخبرهم.
فدليل الأول - وهو العلم -: قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] ، فهو أعلم بنفسه وبغيره من غيره، فهو أعلم بك من نفسك، لأنه يعلم ما سيكون لك في المستقبل، وأنت لا تعلم ماذا تكسب غدًا؟
وكلمة أَعْلَمُ هنا اسم تفضيل، ولقد تحاشاها بعض العلماء وفسر أَعْلَمُ بـ (عالم)، فقال:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، أي هو عالم بمن ضل عن سبيله وهو عالم بالمهتدين. قال: لأن أَعْلَمُ اسم تفضيل، وهو يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه، وهذا لا يجوز بالنسبة لله، لكن (عالم) اسم فاعل وليس فيه مقارنة ولا تفضيل.
فنقول له: هذا غلط، فالله يعبر عن نفسه ويقول: أَعْلَمُ وأنت تقولك عالم! وإذا فسرنا أَعْلَمُ بـ (عالم) ، فقد حططنا من قدر علم الله، لأن (عالم) يشترك فيه غير الله على سبيل المساواة، لكن أَعْلَمُ مقتضاه أن لا يساويه أحد في هذا العلم، فهو أعلم من كل عالم، وهذا أكمل في الصفة بلا شك.
ونقول له: إن اللغة العربية بالنسبة لاسم الفاعل لا تمنع المساواة في الوصف، لكن بالنسبة لاسم التفضيل تمنع المشاركة فيما دل عليه.
ونقول أيضًا: في باب المقارنة لا بأس أن نقول: أعلم، بمعنى: أن تأتي باسم التفضيل، ولو فرض خلو المفضل عليه من ذلك المعنى، كما قال الله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] ، فجاء باسم التفضيل، مع أن المفضل عليه ليس فيه شيء منه إطلاقا.
وفي باب مجادلة الخصم ومحاجته يجوز أن نأتي باسم التفضيل وإن كان المفضل عليه ليس فيه شيء منه، قال الله تعالى:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] ، ومعلوم أن ما يشركون ليس فيه خير، وقال يوسف:{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] ، والأرباب ليس فيها خير.
فالحاصل أن نقول: إن أَعْلَمُ الواردة في كتاب الله يراد بها معناها الحقيقي، ومن فسرها بـ (عالم) ، فقد أخطأ من حيث المعنى ومن حيث اللغة العربية.
ودليل الوصف الثاني - الصدق -: قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} ، أي: لا أحد أصدق منه، والصدق مطابقة الكلام للواقع، ولا شيء من الكلام يطابق الواقع كما يطابقه كلام الله سبحانه وتعالى، فكل ما أخبر الله به، فهو صدق، بل أصدق من كل قول.
ودليل الوصف الثالث - البيان والفصاحة -: قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} وحسن حديثه يتضمن الحسن اللفظي والمعنوي.
ودليل الوصف الرابع - سلامة القصد والإرادة -: قوله تعالى:
{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26] .
فاجتمع في كلام الله الأوصاف الأربعة التي توجب قبول الخبر.
وإذا كان كذلك، فإنه يجب أن نقبل كلامه على ما هو عليه، وأن لا يلحقنا شك في مدلوله، لأن الله لم يتكلم بهذا الكلام لأجل إضلال الخلق، بل ليبين لهم ويهديهم، وصدر كلام الله عن نفسه أو عن غيره من أعلم القائلين، ولا يمكن أن يعتريه خلاف الصدق، ولا يمكن أن يكون كلامًا عييًا غير فصيح، وكلام الله لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما استطاعوا؛ فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة في الكلام، وجب على المخاطب القبول بما دل عليه.
مثال ذلك: قوله تعالى مخاطبًا إبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، قال قائل: في هذه الآية إثبات يدين لله عز وجل يخلق بهما من شاء فنثبتهما، لأن كلام الله عز وجل صادر عن علم وصدق، وكلامه أحسن الكلام وأفصحه وأبينه، ولا يمكن أن لا يكون له يدان لكن أراد من الناس أن يعتقدوا ذلك فيه، ولو فرض هذا، لكان مقتضاه أن القرآن ضلال، حيث جاء بوصف الله بما ليس فيه، وهذا ممتنع، فإذا كان كذلك، وجب عليك أن تؤمن بأن لله تعالى يدين اثنتين خلق بهما آدم.
وإذا قلت: المراد بهما النعمة أو القدرة.
قلنا: لا يمكن أن يكون هذا هو المراد، إلا إذا اجترأت على ربك ووصفت كلامه بضد الأوصاف الأربعة التي قلنا، فنقول: هل الله عز وجل حينما قال: بِيَدَيَّ: عالم بأن له يدين؟ فسيقول: هو عالم.
ثم رسله صادقون
ــ
فنقول: هل هو صادق؟ فسيقول: هو صادق بلا شك. ولا يستطيع أن يقول: هو غير عالم، أو: غير صادق، ولا أن يقول: عبر بهما وهو يريد غيرهما عيًا وعجزًا، ولا أن يقول: أراد من خلقه أن يؤمنوا بما ليس فيه من الصفات إضلالا لهم! فنقول له: إذًا، ما الذي يمنعك أن تثبت لله اليدين؟! فاستغفر ربك وتب إليه، وقل: آمنت بما أخبر الله به عن نفسه، لأنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا، وأحسن حديثًا من غيره وأتم إرادة من غيره أيضًا.
ولهذا أتى المؤلف رحمه الله بهذه الأوصاف الثلاثة ونحن زدنا الوصف الرابع، وهو: إرادة البيان للخلق وإرادة الهداية لهم، لقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26] .
هذا حكم ما أخبر الله به عن نفسه بكلامه الذي هو جامع للكمالات الأربع في الكلام، أما ما أخبرت به الرسل فقال المؤلف:"ثم رسله صادقون مصدقون. . . . ".
الصادق: المخبر بما طابق الواقع، فكل الرسل صادقون فيما أخبروا به ولكن لا بد أن يثبت السند إلى الرسل عليهم السلام، فإذا قالت اليهود: قال موسى كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة سنده إلى موسى. وإذا قالت النصارى: قال عيسى كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة السند إلى عيسى. وإذا قال قائل: قال محمد رسول الله كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة السند إلى محمد.
فرسله صادقون فيما يقولون، فكل ما يخبرون به عن الله وعن غيره من مخلوقاته، فهم صادقون فيه، لا يكذبون أبدًا.
ولهذا أجمع العلماء على أن الرسل عليهم الصلاة والسلام معصومون
مَصْدُوقون. . . . . . . . . . . . . . .
ــ
من الكذب.
" مَصْدوقون " أو: " مُصَدِّقون ": نسختان: أما على نسخة "مصدوقون"، فالمعنى أن ما أوحي إليهم، فهو صدق، والمصدوق: الذي أخبر بالصدق، والصادق: الذي جاء بالصدق، ومنه «قول الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة حين قال له الشيطان: إنك إذا قرأت آية الكرسي، لم يزل عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى قال له: "صدقك وهو كذوب» (1)، يعني: أخبرك بالصدق. فالرسل مصدوقون، كل ما أوحي إليهم، فهو صدق، ما كذبهم الذي أرسلهم ولا كذبهم الذي أرسل إليهم، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19 - 21] .
وأما على نسخة: (مصدقون) ، فالمعنى أنه يجب على أممهم تصديقهم، وعلى هذا يكون معنى "مصدقون"، أي: شرعًا، يعني: يجب أن يصدقوا شرعًا، فمن كذب بالرسل أو كذبهم، فهو كافر، ويجوز أن يكون "مصدقون" له وجه آخر، أي: أن الله تعالى صدقهم، ومعلوم أن الله تعالى صدق الرسل، صدقهم بقوله وبفعله:
أما بقوله: فإن الله قال لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} [النساء: 166]، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] ، فهذا تصديق بالقول.
أما تصديقه بالفعل، فبالتمكين له، وإظهار الآيات، فهو يأتي للناس
(1) علقه البخاري/ كتاب الوكالة إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل.
بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون. . . . . . . . . . . . . .
ــ
يدعوهم إلا الإسلام، فإن لم يقبلوا، فالجزية، فإن لم يقبلوا، استباح دماءهم ونساءهم وأموالهم، والله تعالى يمكن له، ويفتح عليه الأرض أرضًا بعد أرض، وحتى بلغت رسالته مشارق الأرض ومغاربها، فهذا تصديق من الله بالفعل، كذلك أيضًا ما يجريه الله على يديه من الآيات هو تصديق له سواء كانت الآيات شرعية أم كونية، فالشرعية كان دائمًا يسأل عن الشيء وهو لا يعلمه، فينزل الله الجواب:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85](1)، إذًا هذا تصديق بأنه رسول ولو كان غير رسول ما أجاب الله:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217] . فالجواب: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} . . إلخ، فهذا تصديق من الله عز وجل.
والآيات الكونية ظاهرة جدا وما أكثر الآيات الكونية التي أيد الله بها رسوله، سواء جاءت لسبب أو لغير سبب، وهذا معروف في السيرة.
ففهمنا من كلمة: "مصدقون": أنهم مصدقون من قبل الله بالآيات الكونية والشرعية، مصدقون من قبل الخلق، أي: يجب أن يصدقوا وإنما حملنا ذلك على التصديق شرعًا، لأن من الناس من صدق ومن الناس من لم يصدق، لكن الواجب التصديق.
فهؤلاء كاذبون أو ضالون، لأنهم قالوا ما لا يعلمون.
وكأن المؤلف يشير إلى أهل التحريف، لأن أهل التحريف قالوا على
(1) لما رواه البخاري/ كتاب التفسير/ باب (ويسألونك عن الروح) .
ولهذا قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . .
ــ
الله ما لا يعلمون من وجهين: قالوا: إنه لم يرد كذا وأراد كذا! فقالوا في السلب والإيجاب لما لا يعلمون.
مثلا: قالوا: لم يرد بالوجه الحقيقي! فهنا قالوا على الله ما لا يعلمون بالسلب، ثم قالوا: والمراد بالوجه الثواب! فقالوا على الله ما لا يعلمون في الإيجاب.
وهؤلاء الذين يقولون على الله ما لا يعلمون لا يكونون صادقين ولا مصدوقين ولا مصدقين بل قامت الأدلة على أنهم كاذبون مكذوبون بما أوحى إليهم الشيطان.
أي: لأجل كمال كلامه وكلام رسله.
سبق معنى التسبيح وهو تنزيه الله عن كل ما لا يليق به.
أضاف الربوبية إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهي ربوبية خاصة، من باب إضافة الخالق إلى المخلوق.
من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، ومن المعروف أن كل مربوب مخلوق وهنا قال:{رَبِّ الْعِزَّةِ} ، وعزة الله غير مخلوقة، لأنها من صفاته، فنقول: هذه من باب إضافة الموصوف إلى الصفة وعلى هذا، فـ {رَبِّ الْعِزَّةِ} هنا معناها: صاحب العزة، كما يقال: رب الدار، أي: صاحب الدار.
يعني: عما يصفه المشركون، كما سيذكره المؤلف.
أي: على الرسل.
حمد الله نفسه عز وجل بعد أن نزهها، لأن في الحمد كمال
فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات. . . . . . . . . . . . . .
ــ
الصفات، وفي التسبيح تنزيه عن العيوب، فجمع في الآية بين التنزيه عن العيوب بالتسبيح، وإثبات الكمال بالحمد.
معنى هذه الجملة واضح، وبقي أن يقال: وحمد نفسه لكمال صفاته بالنسبة لنفسه وبالنسبة لرسله، فإنه سبحانه محمود على كمال صفاته وعلى إرسال الرسل، لما في ذلك من رحمة الخلق والإحسان إليهم.
بين المؤلف رحمه الله في هذه الجملة أن الله تعالى جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، وذلك لأن تمام الكمال لا يكون إلا بثبوت صفات الكمال وانتفاء ما يضادها من صفات النقص، فأفادنا رحمه الله أن الصفات قسمان:
1 -
صفات مثبتة: وتسمى عندهم: الصفات الثبوتية.
2 -
وصفات منفية: ويسمونها: الصفات السلبية، من السلب وهو النفي، ولا حرج من أن نسميها سلبية، وإن كان بعض الناس توقف وقال: لا نسميها سلبية، بل نقول: منفية.
فنقول: ما دام السلب في اللغة بمعنى النفي، فالاختلاف في اللفظ ولا يضر.
فصفات الله عز وجل قسمان: ثبوتية وسلبية، أو إن شئت، فقل: مثبتة ومنفية، والمعنى واحد.
فالمثبتة: كل ما أثبته الله لنفسه، وكلها صفات كمال، ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، ومن كمالها أنه لا يمكن أن يكون ما أثبته دالا على التمثيل، لأن المماثلة للمخلوق نقص.
وإذا فهمنا هذه القاعدة، عرفنا ضلال أهل التحريف، الذين زعموا أن الصفات المثبتة تستلزم التمثيل، ثم أخذوا ينفونها فرارًا من التمثيل.
ومثاله: قالوا: لو أثبتنا لله وجهًا، لزم أن يكون مماثلا لأوجه المخلوقين، وحينئذ يجب تأويل معناه إلى معنى آخر لا إلى الوجه الحقيقي.
فنقول لهم: كل ما أثبت الله لنفسه من الصفات، فهو صفة كمال ولا يمكن أبدًا أن يكون فيما أثبته الله لنفسه من الصفات نقص.
ولكن، إذا قال: هل الصفات توقيفية كالأسماء، أو هي اجتهادية، بمعنى أن يصح لنا أن نصف الله سبحانه وتعالى بشيء لم يصف به نفسه؟ .
فالجواب أن نقول: إن الصفات توقيفية على المشهور عند أهل العلم، كالأسماء، فلا تصف الله إلا بما وصف به نفسه.
وحينئذ نقول: الصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صفة كمال مطلق، وصفة كمال بقيد، وصفة نقص مطلق.
أما صفة الكمال على الإطلاق، فهي ثابتة لله عز وجل، كالمتكلم، والفعال لما يريد، والقادر. . ونحو ذلك.
وأما صفة الكمال بقيد، فهذه لا يوصف الله بها على الإطلاق إلا مقيدًا، مثل: المكر، والخداع، والاستهزاء. . وما أشبه ذلك، فهذه الصفات كمال بقيد، إذا كانت في مقابلة من يفعلون ذلك، فهي كمال، وإن ذكرت مطلقة، فلا تصح بالنسبة لله عز وجل، ولهذا لا يصح إطلاق وصفه بالماكر أو المستهزئ أو الخادع، بل تقيد فنقول: ماكر بالماكرين، مستهزئ بالمنافقين، خادع للمنافقين، كائد للكافرين، فتقيدها لأنها لم
تأت إلا مقيدة.
وأما صفة النقص على الإطلاق، فهذه لا يوصف الله بها بأي حال من الأحوال، كالعاجز والخائن والأعمى والأصم، لأنها نقص على الإطلاق، فلا يوصف الله بها وانظر إلى الفرق بين خادع وخائن، قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، فأثبت خداعه لمن خادعه لكن قال في الخيانة:{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 71] ولم يقل: فخانهم، لأن الخيانة خداع في مقام الائتمان، والخداع في مقام الائتمان نقص، وليس فيه مدح أبدًا.
فإذًا، صفات النقص منفية عن الله مطلقًا.
والصفات المأخوذة من الأسماء هي كمال بكل حال ويكون الله عز وجل قد اتصف بمدلولها، فالسمع صفة كمال دل عليها اسمه السميع، فكل صفة دلت عليها الأسماء، فهي صفة كمال مثبتة لله على سبيل الإطلاق، وهذه نجعلها قسمًا منفصلا، لأنه ليس فيها تفصيل، وغيرها تنقسم إلى الأقسام الثلاثة التي سلف ذكرها، ولهذا لم يسم الله نفسه بالمتكلم مع أنه يتكلم، لأن الكلام قد يكون خيرًا، وقد يكون شرًا، وقد لا يكون خيرًا ولا شرًا، فالشر لا ينسب إلى الله، واللغو كذلك لا ينسب إلى الله، لأنه سفه، والخير ينسب إليه، ولهذا لم يسم نفسه بالمتكلم، لأن الأسماء كما وصفها الله عز وجل:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] ، ليس فيها أي شيء من النقص ولهذا جاءت باسم التفضيل المطلق.
إذا قال قائل: فهمنا الصفات وأقسامها، فما هو الطريق لإثبات الصفة ما دمنا نقول: إن الصفات توقيفية؟
فنقول: هناك عدة طرق لإثبات الصفة:
الطريق الأول: دلالة الأسماء عليها، لأن كل اسم، فهو متضمن لصفة ولهذا قلنا فيما سبق: إن كل اسم من أسماء الله دال على ذاته وعلى الصفة التي اشتق منها.
الطريق الثاني: أن ينص على الصفة، مثل الوجه، واليدين، والعينين. . وما أشبه ذلك، فهذه بنص من الله عز وجل، ومثل الانتقام، فقال عنه تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47] ، ليس من أسماء الله المنتقم، خلافًا لما يوجد في بعض الكتب التي فيها عد أسماء الله، لأن الانتقام ما جاء إلا على سبيل الوصف أو اسم الفاعل مقيدًا، كقوله:{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22] .
الطريق الثالث: أن تؤخذ من الفعل، مثل: المتكلم، فنأخذها من:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] .
هذه هي الطرق التي تثبت بها الصفة وبناء على ذلك نقول: الصفات أعم من الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة متضمنة لاسم.
وأما الصفات المنفية عن الله عز وجل، فكثيرة ولكن الإثبات أكثر، لأن صفات الإثبات كلها صفات كمال، وكلما تعددت وتنوعت، ظهر من كمال الموصوف ما هو أكثر، وصفات النفي قليلة، ولهذا نجد أن صفات النفي تأتي كثيرًا عامة، غير مخصصة بصفة معينة، والمخصص بصفة لا يكون إلا لسبب، مثل تكذيب المدعين بأن الله اتصف بهذه الصفة التي نفاها عن نفسه أو دفع توهم هذه الصفة التي نفاها.
فالقسم الأول العامة، كقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في علمه وقدرته وسمعه وبصره وعزته وحكمته ورحمته. . . وغير ذلك من صفاته، فلم يفصل، بل قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في كل كمال.
أما إذا كان مفصلا، فلا تجده إلا لسبب، كقوله:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91]، ردًا لقول من قال: إن لله ولدًا وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] كذلك، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] ، لأنه قد يفرض الذهن الذي لا يقدر الله حق قدره أن هذه السماوات العظيمة والأرض العظيمة إذا كان خلقها في ستة أيام، فسيلحقه التعب، فقال:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، أي: من تعب وإعياء.
فتبين بهذا أن النفي لا يرد في صفات الله عز وجل إلا على سبيل العموم أو على سبيل الخصوص لسبب، لأن صفات السلب لا تتضمن الكمال إلا إذا كانت متضمنة لإثبات، ولهذا نقول: الصفات السلبية التي نفاها الله عن نفسه متضمنة لثبوت كمال ضدها، فقوله:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} : متضمن كمال القوة والقدرة وقوله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] : متضمن لكمال العدل وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] : متضمن لكمال العلم والإحاطة. . وهلم جرا، فلا بد أن تكون الصفة المنفية متضمنة لثبوت، وذلك الثبوت هو كمال ضد ذلك المنفي وإلا، لم تكن مدحًا.
لا يوجد في الصفات المنفية عن الله نفي مجرد لأن النفي المجرد عدم والعدم ليس بشيء، فلا يتضمن مدحًا ولا ثناء، ولأنه قد يكون للعجز عن تلك الصفة فيكون ذمًا، وقد يكون لعدم القابلية، فلا يكون مدحًا ولا ذمًا.
مثال الأول الذي للعجز قول الشاعر:
قبيلة لا يغدرون بذمة
…
ولا يظلمون الناس حبة خردل
ومثال الثاني الذي لعدم القابلية: أن تقول: إن جدارنا لا يظلم أحدًا.
والواجب علينا نحو هذه الصفات التي أثبتها الله لنفسه والتي نفاها أن نقول: سمعنا وصدقنا وآمنا.
هذه هي الصفات فيها مثبت وفيها منفي، أما الأسماء فكلها مثبتة.
لكن أسماء الله تعالى المثبتة منها ما يدل على معنى إيجابي، ومنها ما يدل على معنى سلبي، وهذا هو مورد التقسيم في النفي والإثبات بالنسبة لأسماء الله.
فمثال التي مدلولها إيجابي كثير.
ومثال التي مدلولها سلبي: السلام. ومعنى السلام، قال العلماء: معناه: السالم من كل عيب. إذًا، فمدلوله سلبي، بمعنى: ليس فيه نقص ولا عيب، وكذلك القدوس قريب من معنى السلام، لأن معناه المنزه عن كل نقص وعيب.
فصارت عبارة المؤلف سليمة وصحيحة وهو لا يريد بالنسبة للأسماء أن هناك أسماء منفية، لأن الاسم المنفي ليس باسم لله، لكن مراده أن
فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون. . . . . .
ــ
مدلولات أسماء الله ثبوتية وسلبية.
العدول: معناه الانصراف والانحراف، فأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعدلوا عما جاءت به الرسل.
وإنما جاء المؤلف بهذا النفي، ليبين أنهم لكمال اتباعهم رضي الله عنهم لا يمكن أن يعدلوا عما جاءت به الرسل، فهم مستمسكون تمامًا، وغير منحرفين إطلاقًا، عما جاءت به الرسل، بل طريقتهم أنهم يقولون: سمعنا وأطعنا في الأحكام وسمعنا وصدقنا في الأخبار.
ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام والواضح أننا لا نعدل عنه، لأنه خاتم النبيين، وواجب على جميع العباد أن يتبعوه، لكن ما جاء عن غيره، هل لأهل السنة والجماعة عدول عنه؟ لا عدول لهم عنه؛ لأن ما جاء عن الرسل عليهم الصلاة والسلام في باب الإخبار لا يختلف، لأنهم صادقون ولا يمكن أن ينسخ؛ لأنه خبر، فكل ما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل، فهو مقبول وصدق ويجب الإيمان به.
مثلا: قال موسى لفرعون لما قال له: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 51 - 52] ، فنفى عن الله الجهل والنسيان، فنحن يجب علينا أن نصدق بذلك، لأنه جاء به رسول من الله:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49 - 50]، فلو سألنا سائل: من أين علمنا أن الله أعطى كل شيء خلقه؟ فنقول: من كلام موسى، فنؤمن بذلك، ونقول: أعطى كل شيء خلقه اللائق به، فالإنسان على هذا الوجه، والبعير على هذا الوجه، والبقرة على هذا الوجه، والضأن على
هذا الوجه، ثم هدى كل مخلوق إلى مصالحه ومنافعه، فكل شيء يعرف مصالحه ومنافعه، فالنملة في أيام الصيف تدخر قوتها في جحورها، ولكن لا تدخر الحب كما هو، بل تقطم رؤوسه، لئلا ينبت، لأنه لو نبت، لفسد عليها، وإذا جاء المطر وابتل هذا الحب الذي وضعته في الجحور، فإنها لا تبقيه يأكله العفن والرائحة، بل تنشره خارج جحرها حتى ييبس من الشمس والريح، ثم تدخله!
لكن يجب التنبيه إلى أن ما نسب للأنبياء السابقين يحتاج فيه إلى صحة النقل، لاحتمال أن يكون كذبًا، كالذي نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى. وقوله رحمه الله:"عما جاء به المرسلون" هل يشمل هذا الأحكام أو أن الكلام الآن في باب الصفات، فيختص بالأخبار؟
إن نظرنا إلى عموم اللفظ، قلنا: يشمل الأخبار والأحكام.
وإن نظرنا إلى السياق، قلنا: القرينة تقتضي أن الكلام في باب العقائد وهي من باب الأخبار.
ولكن نقول: إن كان كلام شيخ الإسلام رحمه الله خاصًا بالعقائد، فهو خاص، وليس لنا فيه كلام. وإن كان عامًا، فهو يشمل الأحكام.
والأحكام التي للرسل السابقين اختلف فيها العلماء: هل هي أحكام لنا إذا لم يرد شرعنا بخلافها، أو ليست أحكامًا لنا؟
والصحيح أنها أحكام لنا، وأن ما ثبت عن الأنبياء السابقين من الأحكام، فهو لنا، إلا إذا ورد شرعنا بخلافه، فإذا ورد شرعنا بخلافه، فهو على خلافه، فمثلا: السجود عند التحية جائز في شريعة يوسف ويعقوب وبنيه، لكن في شريعتنا محرم، كذلك الإبل حرام على اليهود:
فإنه الصراط المستقيم
ــ
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] ولكن هي في شريعتنا حلال.
فإذًا، يمكن أن نحمل كلام شيخ الإسلام رحمه الله على أنه عام في الأخبار والأحكام، وأن نقول: ما كان في شرع الأنبياء من الأحكام، فهو لنا، إلا بدليل.
ولكن يبقى النظر: كيف نعرف أن هذا من شريعة الأنبياء السابقين؟
نقول: لنا في ذلك طريقان: الطريق الأول: الكتاب، والطريق الثاني: السنة. فما حكاه الله في كتابه عن الأمم السابقين فهو ثابت، وما حكاه النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، فهو أيضًا ثابت.
والباقي لا نصدق ولا نكذب، إلا إذا ورد شرعنا بتصديق ما نقل أهل الكتاب، فإننا نصدقه، لا لنقلهم، ولكن لما جاء في شريعتنا. وإذا ورد شرعنا بتكذيب أهل الكتاب، فإننا نكذبه، لأن شرعنا كذبه. فالنصارى يزعمون بأن المسيح ابن الله، فنقول: هذا كذب، واليهود يقولون: عزير ابن الله، فنقول: هذا كذب.
(فإنه) : الضمير يعود على ما جاءت به الرسل ويمكن أن يعود على طريق أهل السنة والجماعة وهو الاتباع وعدم العدول عنه، فما جاءت به الرسل وما ذهب إليه أهل السنة والجماعة هو الصراط المستقيم.
(صراط) : على وزن فعال، بمعنى: مصروط، مثل: فراش، بمعنى: مفروش، وغراس، بمعنى: مغروس، فهو بمعنى اسم المفعول. والصراط إنما يقال للطريق الواسع المستقيم مأخوذ من الزرط وهو بلع اللقمة
صراط الذين أنعم الله عليهم
ــ
بسرعة، لأن الطريق إذا كان واسعًا، لا يكون فيه ضيق يتعثر الناس فيه، فالصراط يقولون في تعريفه: كل طريق واسع ليس فيه صعود ولا نزول ولا اعوجاج.
إذًا، الطريق الذي جاءت به الرسل هو الصراط المستقيم، الذي ليس فيه عوج ولا أمت، طريق مستقيم ليس فيه انحراف يمينًا ولا شمالا:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] .
وعليه، فيكون المستقيم صفة كاشفة على تفسيرنا الصراط بأنه الطريق الواسع الذي لا اعوجاج فيه، لأن هذا هو المستقيم أو يقال: إنها صفة مقيدة، لأن بعض الصراط قد يكون غير مستقيم كما قال تعالى:{فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 23 - 24] ، وهذا الصراط غير مستقيم.
"صراط الذين أنعم الله عليهم"، أي طريقهم وأضافه إليهم لأنهم سالكوه، فهم الذين يمشون فيه، كما أضافه الله إلى نفسه أحيانًا:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 52 - 53] ، باعتبار أنه هو الذي شرعه ووضعه لعباده، وأنه موصل إليه، فهو صراط الله باعتبارين وصراط المؤمنين باعتبار واحد، صراط الله باعتبارين هما: أنه وضعه لعباده، وأنه موصل إليه، وصراط المؤمنين، لأنهم هم الذين يسلكونه وحدهم.
وقوله: "الذين أنعم الله عليهم": النعمة: كل فضل وإحسان من الله عز وجل على عباده، فهو نعمة وكل ما بنا من نعمة، فهو من الله، ونعم الله قسمان: عامة وخاصة، والخاصة أيضًا قسمان خاصة، وخاصة أعم.
من النبيين
ــ
فالعامة: هي التي تكون للمؤمنين وغير المؤمنين ولهذا، لو سألنا سائل: هل لله على الكافر نعمة؟
قلنا: نعم، لكنها نعمة عامة وهي نعمة ما تقوم به الأبدان لا ما تصلح به الأديان، مثل الطعام والشراب والكسوة والمسكن وما أشبه ذلك، فهذه يدخل فيها المؤمن والكافر.
والنعمة الخاصة: ما تصلح به الأديان من الإيمان والعلم والعمل الصالح، فهذه خاصة بالمؤمنين، وهي عامة للنبيين والصديقين، كالشهداء والصالحين.
ولكن نعمة الله على النبيين والرسل نعمة هي أخص النعم، واستمع إلى قوله تعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] ، فهذه النعمة التي هي أخص لا يلحق المؤمنون فيها النبيين، بل هم دونهم.
وقوله: "صراط الذين أنعم الله عليهم": هي كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7] .
فمن هم الذين أنعم الله عليهم؟
فسرها تعالى بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] ، فهؤلاء أربعة أصناف.
النبيون: وهم كل من أوحى الله إليهم ونبأهم فهو داخل في هذه
والصديقين
ــ
الآية: فيشمل الرسل، لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا وعلى هذا فيكون النبيون شاملا للرسل أولي العزم وغيرهم، وشاملا أيضًا للنبيين الذين لم يرسلوا وهؤلاء أعلى أصناف الخلق.
الصديقون: جمع صديق على وزن فعيل صيغة مبالغة.
فمن هو الصديق؟
أحسن ما يفسر به الصديق قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]، وقال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] ، فمن حقق الإيمان - ولا يتم تحقيق الإيمان إلا بالصدق والتصديق - فهو صديق:
الصدق في العقيدة: بالإخلاص، وهذا أصعب ما يكون على المرء حتى قال بعض السلف: ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص، فلا بد من الصدق في المقصد - وهو العقيدة - والإخلاص لله عز وجل.
الصدق في المقال: لا يقول إلا ما طابق الواقع، سواء على نفسه أو على غيره، فهو قائم بالقسط على نفسه وعلى غيره، أبيه وأمه وأخيه وأخته. . وغيرهم.
الصدق في الفعال: وهي أن تكون أفعاله مطابقة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومن صدق الفعال أن تكون نابعة عن إخلاص، فإن لم تكن نابعة عن إخلاص، لم تكن صادقة لأن فعله يخالف قوله.
فالصديق إذًا من صدق في معتقده وإخلاصه وإرادته، وفي مقاله وفي
والشهداء والصالحين. .. . . . . . . . . . .
ــ
فعاله.
وأفضل الصديقين على الإطلاق أبو بكر رضي الله عنه، لأن أفضل الأمم هذه الأمة، وأفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه.
والصديقية مرتبة تكون للرجال والنساء، قال الله تعالى في عيسى ابن مريم:{وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75]، ويقال: الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها، والله تعالى يمن على من يشاء من عباده.
الشهداء قيل: هم الذين قتلوا في سبيل الله، لقوله:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} وقيل: العلماء، لقوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، فجعل أهل العلم شاهدين بما شهد الله لنفسه ولأن العلماء يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الأمة بالتبليغ ولو قال قائل: الآية عامة لمن قتلوا في سبيل الله تعالى وللعلماء، لأن اللفظ صالح للوجهين، ولا يتنافيان، فيكون شاملا للذين قتلوا في سبيل الله وللعلماء الذين شهدوا لله بالوحدانية وشهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ وشهدوا على الأمة بأنها بلغت.
الصالحون يشمل كل الأنواع الثلاثة السابقة ومن دونهم في المرتبة، فالأنبياء صالحون، والصديقون صالحون، والشهداء صالحون، فعطفها من باب عطف العام على الخاص.
والصالحون هم الذين قاموا بحق الله وحق عباده، لكن لا على المرتبة السابقة - النبوة والصديقية والشهادة -، فهم دونهم في المرتبة.
هذا الصراط الذي جاءت به الرسل هو صراط هؤلاء الأصناف
وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن
ــ
الأربعة، فغيرهم لا يمشون على ما جاءت به الرسل.
قوله: "دخل في هذه الجملة" يحتمل أنه يريد بها قوله: "وهو قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات" ويحتمل أن يريد ما سبق من أن أهل السنة والجماعة يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله، وأيًا كان، فإن هذه السورة وما بعدها داخلة في ضمن ما سبق، من أن الله تعالى جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات وأن أهل السنة يؤمنون بذلك.
(السورة) : هي عبارة عن آيات من كتاب الله مسورة، أي منفصلة عما قبلها وعما بعدها، كالبناء الذي أحاط به السور.
إخلاص الشيء، بمعنى: تنقيته، يعني: التي نقيت ولم يشبهها شيء وسميت بذلك، قيل: لأنها تتضمن الإخلاص لله عز وجل، وأن من آمن بها، فهو مخلص فتكون بمعنى مخلصة لقارئها، أي أن الإنسان إذا قرأها مؤمنًا بها، فقد أخلص لله عز وجل وقيل لأنها مخلَصة - بفتح اللام -، لأن الله تعالى أخلصها لنفسه، فلم يذكر فيها شيئًا من الأحكام ولا شيئًا من الأخبار عن غيره، بل هي أخبار خاصة بالله، والوجهان صحيحان ولا منافاة بينهما.
الدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ ". فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: "الله الواحد الصمد ثلث القرآن» . (1)
(1) رواه البخاري/ كتاب فضائل القرآن/ باب فضل (قل هو الله أحد) . ومسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب فضل قراءة قل هو الله أحد
حيث يقول {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
. . . . . . . . . . . . .
ــ
فهذه السورة تعدل ثلث القرآن في الجزاء لا في الإجزاء، وذلك كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن:«من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرات فكأنما أعتق أربع أنفس من بني إسماعيل» (1)، فهل يجزئ ذلك عن إعتاق أربع رقاب ممن وجب عليه ذلك وقال هذا الذكر عشر مرات؟ فنقول: لا يجزئ. أما في الجزاء، فتعدل هذا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يلزم من المعادلة في الجزاء المعادلة في الإجزاء. ولهذا، لو قرأ سورة الإخلاص في الصلاة ثلاث مرات، لم تجزئه عن قراءة الفاتحة.
قال العلماء: ووجه كونها تعدل ثلث القرآن: أن مباحث القرآن خبر عن الله وخبر عن المخلوقات، وأحكام، فهذه ثلاثة:
1 -
خبر عن الله: قالوا: إن سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تتضمنه.
2 -
خبر عن المخلوقات، كالإخبار عن الأمم السابقة، والإخبار عن الحوادث الحاضرة، وعن الحوادث المستقبلة.
3 -
والثالث: أحكام، مثل: أقيموا، آتوا، لا تشركوا. . وما أشبه ذلك.
وهذا هو أحسن ما قيل في كونها تعدل ثلث القرآن.
قُلْ: الخطاب لكل من يصح خطابه.
وسبب نزول هذه السورة: أن المشركين قالوا للرسول عليه الصلاة
(1) رواه البخاري/ كتاب الدعوات/ باب فضل التهليل. ومسلم/ كتاب الذكر والدعاء/ باب فضل التهليل.
والسلام: صف لنا ربك؟ فأنزل الله هذه السورة (1)، وقيل: بل اليهود هم الذين زعموا أن الله خُلِق من كذا ومن كذا مما يقولون من المواد، فأنزل الله هذه السورة (2) . سواء صح السبب أم لم يصح، فعلينا إذا سئلنا أي سؤال عن الله نقول:{اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} .
هُوَ: ضمير وأين مرجعه؟ قيل: إن مرجعه المسؤول عنه، كأنه يقول: الذي سألتم عنه الله وقيل: هو ضمير الشأن واللَّهُ: مبتدأ ثانٍ وأَحَدٌ: خبر المبتدأ الثاني، وعلى الوجه الأول تكون هُوَ: مبتدأ، اللَّهُ خبر المبتدأ، أَحَدٌ: خبر ثان.
اللَّهُ: هو العلم على ذات الله، المختص بالله عز وجل، لا يتسمى به غيره وكل ما يأتي بعده من أسماء الله فهو تابع له إلا نادرًا، ومعنى اللَّهُ: الإله، وإله بمعنى مألوه أي: معبود، لكن حذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال، وكما في (الناس)، وأصلها: الأناس، وكما في: هذا خير من هذا، وأصله: أخير من هذا لكن لكثرة الاستعمال حذفت الهمزة، فالله عز وجل أَحَدٌ.
أَحَدٌ: لا تأتي إلا في النفي غالبًا أو في الإثبات في أيام الأسبوع، يقال: الأحد، الاثنين. . لكن تأتي في الإثبات موصوفًا بها الرب عز وجل لأنه سبحانه وتعالى أحد، أي: متوحد فيما يختص به في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، أَحَدٌ، لا ثاني له ولا نظير له ولا ند له.
(1) رواه أحمد (5/133) ، والواحدي في "أسباب النزول"(262) .
(2)
رواه الواحدي في "أسباب النزول"(262) .
{اللَّهُ الصَّمَدُ} .....
ــ
{اللَّهُ الصَّمَدُ} : هذه جملة مستأنفة بعد أن ذكر الأحدية ذكر الصمدية، وأتى بها بجملة معرفة في طرفيها، لإفادة الحصر، أي: الله وحده الصمد.
فما معنى الصمد؟
قيل: إن الصَّمَدُ: هو الكامل، في علمه، في قدرته، في حكمته، في عزته، في سؤدده، في كل صفاته. وقيل: الصَّمَدُ: الذي لا جوف له، يعني لا أمعاء ولا بطن، ولهذا قيل: الملائكة صمد، لأنهم ليس لهم أجواف، لا يأكلون ولا يشربون. هذا المعنى روي عن ابن عباس رضي الله عنهما (1) ولا ينافي المعنى الأول، لأنه يدل على غناه بنفسه عن جميع خلقه، وقيل: الصَّمَدُ بمعنى المفعول، أي: المصمود إليه، أي الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، بمعنى: تميل إليه وتنتهي إليه وترفع إليه حوائجها، فهو بمعنى الذي يحتاج إليه كل أحد.
هذه الأقاويل لا ينافي بعضها بعضًا فيما يتعلق بالله عز وجل، ولهذا نقول: إن المعاني كلها ثابتة، لعدم المنافاة فيما بينها.
ونفسره بتفسير جامع فنقول: الصَّمَدُ: هو الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، فهي صامدة إليه.
وحينئذ يتبين لك المعنى العظيم في كلمة الصَّمَدُ: أنه مستغنٍ عن كل ما سواه، كامل في كل ما يوصف به، وأن جميع ما سواه مفتقر إليه.
فلو قال لك قائل: إن الله استوى على العرش، هل استواؤه على
(1) رواه ابن أبي عاصم في "السنة"(665) .
{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . . . . . . . . . . . . . . . ...........
ــ
العرش بمعنى أنه مفتقر إلى العرش بحيث لو أزيل لسقط؟ فالجواب: لا، كلا، لأن الله صمد كامل غير محتاج إلى العرش، بل العرش والسماوات والكرسي والمخلوقات كلها محتاجة إلى الله، والله في غنى عنها فنأخذه من كلمة (الصَّمَدُ) .
لو قال قائل: هل الله يأكل أو يشرب؟ أقول: كلا، لأن الله صمد.
وبهذا نعرف أن (الصَّمَدُ) كلمة جامعة لجميع صفات الكمال لله وجامعة لجميع صفات النقص في المخلوقات وأنها محتاجة إلى الله عز وجل.
هذا تأكيد للصمدية والوحدانية، وقلنا: توكيد، لأننا نفهم هذا مما سبق فيكون ذكره توكيدًا لمعنى ما سبق وتقريرًا له، فهو لأحديته وصمديته لم يلد، لأن الولد يكون على مثل الوالد في الخلقة، في الصفة وحتى الشبه.
لما جاء مجزز المدلجي إلى زيد بن حارثة وابنه أسامة، وهما ملتحفان برداء، قد بدت أقدامهما، نظر إلى القدمين. فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض (1) . فعرف ذلك بالشبه.
فلكمال أحديته وكمال صمديته {لَمْ يَلِدْ} والوالد محتاج إلى الولد بالخدمة والنفقة ويعينه عند العجز ويبقي نسله.
{وَلَمْ يُولَدْ} ، لأنه لو ولد، لكان مسبوقًا بوالد مع أنه جل وعلا هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الخالق وما سواه مخلوق، فكيف
(1) رواه البخاري/ كتاب الفرائض/ باب القائف. ومسلم/ كتاب الرضاع/ باب العمل بإلحاق القائف الولد.
وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله. . . .
ــ
يولد؟
وإنكار أنه ولد أبلغ في العقول من إنكار أنه والد ولهذا لم يَدَّعِ أحد أن لله ولدًا.
وقد نفى الله هذا وهذا وبدأ ينفي الولد، لأهمية الرد على مدعيه بل قال:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] ، حتى ولو بالتسمي، فهو لم يلد ولم يتخذ ولدًا، بنو آدم قد يتخذ الإنسان منهم ولدًا وهو لم يلده بالتبني أو بالولاية أو بغير ذلك، وإن كان التبني غير مشروع، أما الله عز وجل، فلم يلد ولم يولد، ولما كان يرد على الذهن فرض أن يكون الشيء لا والدًا ولا مولودًا لكنه متولد، نفى هذا الوهم الذي قد يرد، فقال:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، وإذا انتفى أن يكون له كفوًا أحد، لزم أن لا يكون متولدًا {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، أي: لا يكافئه أحد في جميع صفاته.
في هذه السورة: صفات ثبوتية وصفات سلبية:
الصفات الثبوتية: اللَّهُ التي تتضمن الألوهية، أَحَدٌ تتضمن الأحدية الصَّمَدُ تتضمن الصمدية.
والصفات السلبية: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
ثلاث إثبات، وثلاث نفي وهذا النفي يتضمن من الإثبات كمال الأحدية والصمدية.
قوله: (وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله) وهذه الآية تسمى آية الكرسي، لأن فيها ذكر الكرسي:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] ، وهي أعظم آية في كتاب الله.
والدليل على ذلك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبي بن كعب، قال: "أي آية في كتاب الله أعظم؟ " فقال له: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فضرب على صدره، وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر» . (1)
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره بأن هذه أعظم آية في كتاب الله، وأن هذا دليل على علم أُبَي في كتاب الله عز وجل.
وفي هذا الحديث دليل على أن القرآن يتفاضل، كما دل عليه أيضا حديث سورة الإخلاص، وهذا موضع يجب فيه التفصيل، فإننا نقول: أما باعتبار المتكلم به فإنه لا يتفاضل، لأن المتكلم به واحد وهو الله عز وجل، وأما باعتبار مدلولاته وموضوعاته فإنه يتفاضل، فسورة الإخلاص التي فيها الثناء على الله عز وجل بما تضمنته من الأسماء والصفات ليست كسورة المسد التي فيها بيان حال أبي لهب من حيث الموضوع كذلك، يتفاضل من حيث التأثير والقوة في الأسلوب، فإن من الآيات ما تجدها آية قصيرة لكن فيها ردع قوي للقلب وموعظة، وتجد آية أخرى أطول منها بكثير لكن لا تشتمل على ما تشتمل عليه الأولى، فمثلا قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . . إلخ، هذه آية موضوعها سهل، والبحث فيها في معاملات تجري بين الناس وليس فيها ذاك التأثير الذي يؤثره مثل قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] ، فهذه تحمل معاني عظيمة، فيها زجر وموعظة وترغيب وترهيب،
(1) رواه مسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.
حيث يقول: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . . . . . . .
ــ
ليست كآية الدين مثلا مع أن آية الدين أطول منها.
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} في هذه الآية يخبر الله بأنه منفرد بالألوهية، وذلك من قوله:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، لأن هذه جملة تفيد الحصر وطريقة النفي والإثبات هذه من أقوى صيغ الحصر.
أي: ذو الحياة الكاملة المتضمنة لجميع صفات الكمال لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا يعتريها نقص بوجه من الوجوه.
والْحَيُّ من أسماء الله، وقد تطلق على غير الله، قال تعالى:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام: 95] ، ولكن ليس الحي كالحي، ولا يلزم من الاشتراك في الاسم التماثل في المسمى.
{الْقَيُّومُ} على وزن فيعول، وهذه من صيغ المبالغة، وهي مأخوذة من القيام.
ومعنى {الْقَيُّومُ} ، أي: أنه القائم بنفسه، فقيامه بنفسه يستلزم استغناءه عن كل شيء، لا يحتاج إلى أكل ولا شرب ولا غيرها، وغيره لا يقوم بنفسه بل هو محتاج إلى الله عز وجل في إيجاده وإعداده وإمداده.
ومن معنى {الْقَيُّومُ} كذلك أنه قائم على غيره لقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]، والمقابل محذوف تقديره: كمن ليس كذلك، والقائم على كل نفس بما كسبت هو الله عز وجل ولهذا يقول العلماء: القيوم هو القائم على نفسه القائم على غيره، وإذا كان قائمًا على غيره، لزم أن يكون غيره قائمًا به، قال الله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] ، فهو إذًا كامل الصفات وكامل
{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} .................
ــ
الملك والأفعال.
وهذان الاسمان هما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ولهذا ينبغي للإنسان في دعائه أن يتوسل به، فيقول: يا حي! يا قيوم! وقد ذكرا في الكتاب العزيز في ثلاثة مواضع: هذا أحدها، والثاني في سورة آل عمران:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2]، والثالث في سورة طه:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111] .
هذان الاسمان فيهما الكمال الذاتي والكمال السلطاني، فالذاتي في قوله: الْحَيُّ والسلطاني في قوله: الْقَيُّومُ، لأنه يقوم على كل شيء ويقوم به كل شيء.
السنة النعاس وهي مقدمة النوم ولم يقل: لا ينام، لأن النوم يكون باختيار، والأخذ يكون بالقهر.
والنوم من صفات النقص، قال النبي عليه الصلاة والسلام:
«إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام» . (1)
وهذه صفة من صفات النفي وقد سبق أن صفات النفي لا بد أن تتضمن ثبوتا وهو كمال الضد، والكمال في قوله:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} كمال الحياة والقيومية لأنه من كمال حياته أن لا يحتاج إلى النوم ومن كمال قيوميته أن لا ينام، لأن النوم إنما يحتاج إليه المخلوقات الحية
(1) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب قوله عليه السلام: "إن الله لا ينام........".
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لنقصها، لأنها تحتاج إلى النوم من أجل الاستراحة من تعب سبق واستعادة القوة لعمل مستقبل، ولما كان أهل الجنة كاملي الحياة، كانوا لا ينامون، كما صحت بذلك الآثار.
لكن لو قال قائل: النوم في الإنسان كمال، ولهذا، إذا لم ينم الإنسان، عُد مريضًا. فنقول: كالأكل في الإنسان كمال ولو لم يأكل، عد مريضًا لكن هو كمال من وجه ونقص من وجه آخر، كمال لدلالته على صحة البدن واستقامته، ونقص لأن البدن محتاج إليه، وهو في الحقيقة نقص.
إذًا ليس كل كمال نسبي بالنسبة للمخلوق يكون كمالا للخالق، كما أنه ليس كل كمال في الخالق يكون كمالا في المخلوق، فالتكبر كمال في الخالق نقص في المخلوق والأكل والشرب والنوم كمال في المخلوق نقص في الخالق، ولهذا قال الله تعالى عن نفسه:{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] .
قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} : لَهُ: خبر مقدم. وَمَا: مبتدأ مؤخر، ففي الجملة حصر، طريقة تقديم ما حقه التأخير وهو الخبر. لَهُ: اللام هذه للملك. ملك تام، بدون معارض. {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} : من الملائكة والجنة وغير ذلك مما لا نعلمه، {وَمَا فِي الْأَرْضِ} : من المخلوقات كلها الحيوان منها وغير الحيوان.
وقوله: {السَّمَاوَاتِ} : تفيد أن السماوات عديدة، وهو كذلك وقد نص القرآن على أنها سبع:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86] .
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}
ــ
والأرضون أشار القرآن إلى أنها سبع بدون تصريح، وصرحت، بها السنة، قال الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] ، مثلهن في العدد دون الصفة، وفي السنة قال النبي عليه الصلاة والسلام:«من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين» . (1)
مَنْ ذَا اسم استفهام أو نقول: مَنْ اسم استفهام، وذَا: ملغاة، ولا يصح أن تكون ذَا: اسمًا موصولا في مثل هذا التركيب، لأنه يكون معنى الجملة: من الذي الذي! وهذا لا يستقيم.
الشفاعة في اللغة: جعل الوتر شفعًا، قال تعالى:{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] . وفي الاصطلاح: هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، فمثلا: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف أن يقضى بينهم: هذه شفاعة بدفع مضرة، وشفاعته لأهل الجنة أن يدخلوها بجلب منفعة. أي: عند الله.
أي: إذنه له وهذه تفيد إثبات الشفاعة، لكن بشرط أن يأذن، ووجه ذلك أنه لولا ثبوتها، لكان الاستثناء في قوله:{إِلَّا بِإِذْنِهِ} : لغوًا لا فائدة فيه.
وذكرها بعد قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} . . . يفيد أن هذا الملك الذي هو خاص بالله عز وجل، أنه ملك تام السلطان، بمعنى أنه لا أحد يستطيع أن يتصرف، ولا بالشفاعة التي هي خير، إلا بإذن الله، وهذا من تمام
(1) رواه البخاري/ كتاب المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، ومسلم/ كتاب المساقاة/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ} ..........
ــ
ربوبيته وسلطانه عز وجل.
وتفيد هذه الجملة أن له إذنًا والإذن في الأصل الإعلام، قال الله تعالى:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] ، أي إعلام من الله ورسوله، فمعنى {بِإِذْنِهِ} ، أي: إعلامه بأنه راضٍ بذلك.
وهناك شروط أخرى للشفاعة: منها: أن يكون راضيًا عن الشافع وعن المشفوع له، قال الله تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال:{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] .
وهناك آية تنتظم الشروط الثلاثة: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، أي: يرضى عن الشافع والمشفوع له، لأن حذف المعمول يدل على العموم.
إذا قال قائل: ما فائدة الشفاعة إذا كان الله تعالى قد علم أن هذا المشفوع له ينجو؟
فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى يأذن بالشفاعة لمن يشفع من أجل أن يكرمه وينال المقام المحمود.
العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا، والله عز وجل {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} المستقبل، {وَمَا خَلْفَهُمْ} الماضي، وكلمة مَا من صيغ العموم تشمل كل ماضٍ وكل مستقبل، وتشمل أيضًا ما كان من فعله وما كان من أفعال الخلق.
الضمير في {يُحِيطُونَ} يعود على الخلق الذي دل عليهم قوله:
{مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . . . . . . . . .
ــ
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، يعني لا يحيط من في السماوات والأرض بشيء من علم الله إلا بما شاء.
يحتمل من علم ذاته وصفاته، يعني: أننا لا نعلم شيئًا عن الله وذاته وصفاته إلا بما شاء مما علمنا إياه ويحتمل أن (علم) هنا بمعنى معلوم، يعني: لا يحيطون بشيء من معلومه، أي: مما يعلمه، إلا بما شاءه، وكلا المعنيين صحيح وقد نقول: إن الثاني أعم، لأن معلومه يدخل فيه علمه بذاته وبصفاته وبما سوى ذلك.
يعني إلا بما شاء مما علمهم إياه، وقد علمنا الله تعالى أشياء كثيرة عن أسمائه وصفاته وعن أحكامه الكونية وأحكامه الشرعية، ولكن هذا الكثير هو بالنسبة لمعلومه قليل، كما قال الله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .
بمعنى شمل، يعني: أن كرسيه محيط بالسماوات والأرض، وأكبر منها، لأنه لولا أنه أكبر ما وسعها.
الكرسي، قال ابن عباس رضي الله عنهما (1) : "إنه موضع
(1) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة"(586) ، وابن أبي شيبة في كتاب "العرش"(61) ، وابن خزيمة في "التوحيد"(248)، والحاكم في "المستدرك" (2/282) وقال: صحيح عن شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه الدارقطني في كتاب "الصفات"(36) عن ابن عباس موقوفاً عليه، وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/323) للطبراني، وقال: رجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في "مختصر العلو" (45) : إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات.
{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ} . . . . . . . .
ــ
قدمي الله عز وجل"، وليس هو العرش، بل العرش أكبر من الكرسي وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام:«أن السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة» . (1)
هذا يدل على عظم هذه المخلوقات وعظم المخلوق يدل على عظم الخالق.
يعني: لا يثقله ويكرثه حفظ السماوات والأرض.
وهذه من الصفات المنفية، والصفة الثبوتية التي يدل عليها هذا النفي هي كمال القدرة والعلم والقوة والرحمة.
{الْعَلِيُّ} على وزن فعيل، وهي صفة مشبهة، لأن علوه عز وجل لازم لذاته، والفرق بين الصفة المشبهة واسم الفاعل أن اسم الفاعل طارئ حادث يمكن زواله، والصفة المشبهة لازمة لا ينفك عنها الموصوف.
وعلو الله عز وجل قسمان: علو ذات، وعلو صفات:
فأما علو الذات، فإن معناه أنه فوق كل شيء بذاته، ليس فوقه شيء ولا حذاءه شيء.
وأما علو الصفات، فهي ما دل عليه قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، يعني: أن صفاته كلها عليًا، ليس فيها نقص بوجه
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب "العرش" رقم (58) ، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(862) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وابن مردويه كما عند ابن كثير (1/309) والحديث صححه الألباني في السلسة الصحيحة برقم (109) وقال: إنه لا يصح حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة العرش إلا هذا الحديث.
{الْعَظِيمُ} . . . . . . .
ــ
من الوجوه.
{الْعَظِيمُ} ، أيضًا صفة مشبهة، ومعناها: ذو العظمة، وهي القوة والكبرياء وما أشبه ذلك مما هو معروف من مدلول هذه الكلمة.
وهذه الآية تتضمن من أسماء الله خمسة وهي: الله، الحي، القيوم، العلي، العظيم.
وتتضمن من صفات الله ستًا وعشرين صفة منها خمس صفات تضمنتها هذه الأسماء.
السادسة: انفراده بالألوهية.
السابعة: انتفاء السنة والنوم في حقه، لكمال حياته وقيوميته.
الثامنة: عموم ملكه، لقوله:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .
التاسعة: انفراد الله عز وجل بالملك، ونأخذه من تقديم الخبر.
العاشرة: قوة السلطان وكماله، لقوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
الحادية عشرة: إثبات العندية، وهذا يدل على أنه ليس في كل مكان، ففيه الرد على الحلولية.
الثانية عشرة: إثبات الإذن من قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
الثالثة عشرة: عموم علم الله تعالى لقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} .
الرابعة عشرة والخامسة عشرة: أنه سبحانه وتعالى لا ينسى ما مضى، لقوله:{وَمَا خَلْفَهُمْ} ولا يجهل ما يستقبل، لقوله:{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} .
السادسة عشرة: كمال عظمة الله، لعجز الخلق عن الإحاطة به.
السابعة عشرة: إثبات المشيئة، لقوله:{إِلَّا بِمَا شَاءَ} .
الثامنة عشرة: إثبات الكرسي، وهو موضع القدمين.
التاسعة عشرة والعشرون والحادية والعشرون: إثبات العظمة والقوة والقدرة، لقوله:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ، لأن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق.
الثانية والثالثة والرابعة والعشرون: كمال علمه ورحمته وحفظه، من قوله:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} .
الخامسة والعشرون: إثبات علو الله لقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى عالٍ بذاته، وأن علوه من الصفات الذاتية الأزلية الأبدية.
وخالف أهل السنة في ذلك طائفتان: طائفة قالوا: إن الله بذاته في كل مكان وطائفة قالوا: إن الله ليس فوق العالم ولا تحت العالم ولا في العالم ولا يمين ولا شمال ولا منفصل عن العالم ولا متصل.
والذين قالوا بأنه في كل مكان استدلوا بقول الله تعالى: {وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، واستدلوا بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] ، وعلى
هذا، فليس عاليًا بذاته، بل العلو عندهم علو صفة.
أما الذين قالوا: إنه لا يوصف بجهة، فقالوا: لأننا لو وصفناه بذلك، لكان جسمًا، والأجسام متماثلة، وهذا يستلزم التمثيل وعلى هذا، فننكر أن يكون في أي جهة.
ولكننا نرد على هؤلاء وهؤلاء من وجهين:
الوجه الأول: إبطال احتجاجهم.
والثاني: إثبات نقيض قولهم بالأدلة القاطعة.
1 -
أما الأول، فنقول لمن زعموا أن الله بذاته في كل مكان: دعواكم هذه دعوى باطلة يردها السمع والعقل:
- أما السمع، فإن الله تعالى أثبت لنفسه أنه العلي والآية التي استدللتم بها لا تدل على ذلك، لأن المعية لا تستلزم الحلول في المكان، ألا ترى إلى قول العرب: القمر معنا، ومحله في السماء؟ ويقول الرجل: زوجتي معي، وهو في المشرق وهي في المغرب؟ ويقول الضابط للجنود: اذهبوا إلى المعركة وأنا معكم، وهو في غرفة القيادة وهم في ساحة القتال؟ فلا يلزم من المعية أن يكون الصاحب في مكان المصاحب أبدًا، والمعية يتحدد معناها بحسب ما تضاف إليه، فنقول أحيانًا: هذا لبن معه ماء وهذه المعية اقتضت الاختلاط. ويقول الرجل متاعي معي، وهو في بيته غير متصل به، ويقول: إذا حمل متاعه معه: متاعي معي وهو متصل به. فهذه كلمة واحدة لكن يختلف معناها بحسب الإضافة، فبهذا نقول: معية الله عز وجل لخلقه تليق بجلاله سبحانه وتعالى، كسائر صفاته، فهي معية تامة حقيقية، لكن هو في السماء.
- وأما الدليل العقلي على بطلان قولهم، فنقول: إذا قلت: إن الله معك في كل مكان، فهذا يلزم عليه لوازم باطلة، فيلزم عليه:
أولا: إما التعدد أو التجزؤ، وهذا لازم باطل بلا شك، وبطلان اللازم يدل على بطلان اللزوم.
ثانيًا: نقول: إذا قلت: إنه معك في الأمكنه، لزم أن يزداد بزيادة الناس، وينقص بنقص الناس.
ثالثًا: يلزم على ذلك ألا تنزهه عن المواضع القذرة، فإذا قلت: إن الله معك وأنت في الخلاء فيكون هذا أعظم قدح في الله عز وجل.
فتبين بهذا أن قولهم منافٍ للسمع ومنافٍ للعقل، وأن القرآن لا يدل عليه بأي وجه من الدلالات، لا دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام أبدًا.
2 -
أما الآخرون، فنقول لهم:
أولا: إن نفيكم للجهة يستلزم نفي الرب عز وجل، إذ لا نعلم شيئًا لا يكون فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال، ولا متصل ولا منفصل، إلا العدم، ولهذا قال بعض العلماء: لو قيل لنا صفوا الله بالعدم ما وجدنا أصدق وصفًا للعدم من هذا الوصف.
ثانيًا: قولكم: إثبات الجهة يستلزم التجسيم! نحن نناقشكم في كلمة الجسم:
ما هذا الجسم الذي تنفرون الناس عن إثبات صفات الله من أجله؟!
أتريدون بالجسم الشيء المكون من أشياء مفتقر بعضها إلى بعض لا يمكن أن يقوم إلا باجتماع هذه الأجزاء؟! فإن أردتم هذا، فنحن لا نقره، ونقول: إن الله ليس بجسم بهذا المعنى، ومن قال: إن إثبات علوه يستلزم
هذا الجسم، فقوله مجرد دعوى ويكفينا أن نقول: لا قبول.
أما إن أردتم بالجسم الذات القائمة بنفسها المتصفة بما يليق بها، فنحن نثبت ذلك، ونقول: إن لله تعالى ذاتًا، وهو قائم بنفسه، متصف بصفات الكمال، وهذا هو الذي يعلم به كل إنسان.
وبهذا يتبين بطلان قول هؤلاء الذين أثبتوا أن الله بذاته في كل مكان، أو أن الله تعالى ليس فوق العالم ولا تحته ولا متصل ولا منفصل ونقول: هو على عرشه استوى عز وجل.
أما أدلة العلو التي يثبت بها نقيض قول هؤلاء وهؤلاء، والتي تثبت ما قاله أهل السنة والجماعة، فهي أدلة كثيرة لا تحصر أفرادها، وأما أنواعها، فهي خمسة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة.
- أما الكتاب، فتنوعت أدلته على علو الله عز وجل منها التصريح بالعلو والفوقية وصعود الأشياء إليه ونزولها منه وما أشبه ذلك.
- أما السنة، فكذلك، فتنوعت دلالتها، واتفقت السنة بأصنافها الثلاثة على علو الله بذاته، فقد ثبت علو الله بذاته في السنة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره.
- أما الإجماع، فقد أجمع المسلمون قبل ظهور هذه الطوائف المبتدعة على أن الله تعالى مستوٍ على عرشه فوق خلقه.
قال شيخ الإسلام: "ليس في كلام الله ولا رسوله، ولا كلام الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ما يدل لا نصًا ولا ظاهرًا على أن الله تعالى ليس فوق العرش وليس في السماء، بل كل كلامهم متفق على أن الله فوق كل شيء".
ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة، لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وقوله سبحانه. . . . . . . . . .
ــ
وأما العقل، فإننا نقول: كلٌ يعلم أن العلو صفة كمال، وإذا كان صفة كمال، فإنه يجب أن يكون ثابتًا لله، لأن الله متصف بصفات الكمال، ولذلك نقول: إما أن يكون الله في أعلى أو في أسفل أو في المحاذي، فالأسفل والمحاذي ممتنع، لأن الأسفل نقص في معناه، والمحاذي نقص لمشابهة المخلوق ومماثلته، فلم يبق إلا العلو، وهذا وجه آخر في الدليل العقلي.
- وأما الفطرة، فإننا نقول: ما من إنسان يقول: يا رب! إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو.
فتطابقت الأدلة الخمسة.
وأما علو الصفات، فهو محل إجماع من كل من يدين أو يتسمى بالإسلام.
السادسة والعشرون: إثبات العظمة لله عز وجل، لقوله:{الْعَظِيمُ} .
هذا معطوف على (سورة) في قول المؤلف: "ما وصف به نفسه
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} . . . . . .
ــ
في سورة الإخلاص".
{الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} : هذه أربعة أسماء كلها متقابلة في الزمان والمكان، تفيد إحاطة الله سبحانه وتعالى بكل شيء أولا وآخرًا وكذلك في المكان ففيه الإحاطة الزمانية والإحاطة المكانية.
الْأَوَّلُ: فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «الذي ليس قبله شيء» . (1)
وهنا فسر الإثبات بالنفي فجعل هذه الصفة الثبوتية صفة سلبية، وقد ذكرنا فيما سبق أن الصفات الثبوتية أكمل وأكثر، فلماذا؟
فنقول: فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، لتوكيد الأولية، يعني أنها مطلقة، أولية ليست أولية إضافية، فيقال: هذا أول باعتبار ما بعده وفيه شيء آخر قبله، فصار تفسيرها بأمر سلبي أدل على العموم باعتبار التقدم الزمني.
وَالْآخِرُ: فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «الذي ليس بعده شيء» ، ولا يتوهم أن هذا يدل على غاية لآخريته، لأن هناك أشياء أبدية وهي من المخلوقات، كالجنة والنار، وعليه فيكون معنى الْآخِرُ أنه محيط بكل شيء، فلا نهاية لآخريته.
وَالظَّاهِرُ: من الظهور وهو العلو، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، أي: ليعليه، ومنه ظهر الدابة لأنه عالٍ عليها، ومنه قوله تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] ، أي يعلوا عليه، وقال النبي عليه
(1) رواه مسلم/ كتاب الذكر والدعاء/ باب ما يقوم عند النوم.
الصلاة والسلام في تفسيرها: «الذي ليس فوقه شيء» ، فهو عالٍ على كل شيء.
وَالْبَاطِنُ: فسره النبي عليه الصلاة والسلام قال: «الذي ليس دونه شيء» وهذا كناية عن إحاطته بكل شيء، ولكن المعنى أنه مع علوه عز وجل، فهو باطن، فعلوه لا ينافي قربه عز وجل، فالباطن قريب من معنى القريب.
تأمل هذه الأسماء الأربعة، تجد أنها متقابلة، وكلها خبر عن مبتدأ واحد لكن بواسطة حرف العطف، والأخبار بواسطة حرف العطف أقوى من الأخبار بدون واسطة حرف العطف، فمثلا:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 14 - 16] : هي أخبار متعددة بدون حرف العطف لكن أحيانًا تأتي أسماء الله وصفاته مقترنة بواو العطف وفائدتها:
أولا: توكيد السابق، لأنك إذا عطفت عليه، جعلته أصلا، والأصل ثابت.
ثانيًا: إفادة الجمع ولا يستلزم ذلك تعدد الموصوف، أرأيت قوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 - 3] فالأعلى الذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى.
فإذا قلت: المعروف أن العطف يقتضي المغايرة.
فالجواب: نعم، لكن المغايرة تارة تكون بالأعيان، وتارة تكون بالأوصاف، وهذا تغاير أوصاف، على أن التغاير قد يكون لفظيًا غير معنوي مثل قول الشاعر:
{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . . . . . . . . . .
ــ
فَأَلْغَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنا
فالمين هو الكذب ومع ذلك عطفه عليه، لتغاير اللفظ والمعنى واحد، فالتغاير إما عيني أو معنوي أو لفظي وفلو قلت: جاء زيد وعمرو وبكر وخالد، فالتغاير عيني، لو قلت: جاء زيد الكريم والشجاع والعالم، فالتغاير معنوي، ولو قلت: هذا الحديث كذب مين، فالتغاير لفظي.
واستفدنا من هذه الآية الكريمة إثبات أربعة أسماء لله، وهي الأول والآخر والظاهر والباطن.
واستفدنا منها خمس صفات: الأولية، والآخرية، والظاهرية، والباطنية وعموم العلم.
واستفدنا من مجموع الأسماء: إحاطة الله تعالى بكل شيء زمنًا ومكانًا، لأنه قد يحصل من اجتماع الأوصاف زيادة صفة.
فإذا قال قائل: هل هذه الأسماء متلازمة، بمعنى أنك إذا قلت: الأول، فلا بد أن تقول: الآخر، أو: يجوز فصل بعضها عن بعض؟!
فالظاهر أن المتقابل منها متلازم، فإذا قلت: الأول، فقل: الآخر، وإذا قلت: الظاهر، فقل: الباطن، لئلا تفوت صفة المقابلة الدالة على الإحاطة.
هذا إكمال لما سبق من الصفات الأربع، يعني: ومع ذلك، فهو بكل شيء عليم.
وهذه من صيغ العموم التي لم يدخلها تخصيص أبدًا، وهذا العموم يشمل أفعاله وأفعال العباد الكليات والجزئيات، يعلم ما يقع وما سيقع ويشمل الواجب والممكن والمستحيل، فعلم الله تعالى واسع شامل محيط
وقوله سبحانه: {وَتَوَكَّلْ} . . . . . . . . .
ــ
لا يستثنى منه شيء، فأما علمه بالواجب، فكعلمه بنفسه وبما له من الصفات الكاملة، وأما علمه بالمستحيل، فمثل قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] ، وأما علمه بالممكن، فكل ما أخبر الله به عن المخلوقات، فهو من الممكن:{يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19] .
إذًا، فعلم الله تعالى محيط بكل شيء.
والثمرة التي ينتجها الإيمان بأن الله بكل شيء عليم: كمال مراقبة الله عز وجل وخشيته، بحيث لا يفقده حيث أمره، ولا يراه حيث نهاه.
التوكل: مأخوذ من وكل الشيء إلى غيره، أي: فوضه إليه، فالتوكل على الغير، بمعنى: التفويض إليه.
وعرف بعض العلماء التوكل على الله بأنه: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به سبحانه وتعالى، وفعل الأسباب الصحيحة.
وصدق الاعتماد: أن تعتمد على الله اعتمادًا صادقًا، بحيث لا تسأل إلا الله، ولا تستعين إلا بالله، ولا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، تعتمد على الله عز وجل بجلب المنافع ودفع المضار، ولا يكفي هذا الاعتماد دون الثقة به وفعل السبب الذي أذن به، بحيث إنك واثق بدون تردد مع فعل السبب الذي أذن فيه.
فمن لم يعتمد على الله واعتمد على قوته، فإنه يخذل، ودليل ذلك ما وقع للصحابة مع نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، حين قال الله عز وجل:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} ،
حيث قالوا: لن نغلب اليوم من قلة، {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 25 - 26] .
ومن توكل على الله، ولكن لم يفعل السبب الذي أذن الله فيه، فهو غير صادق، بل إن عدم فعل الأسباب سفه في العقل ونقص في الدين، لأنه طعن واضح في حكمة الله.
والتوكل على الله هو شطر الدين، كما قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، والاستعانة بالله تعالى هي ثمرة التوكل، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] .
ولهذا، فإن من توكل على غير الله لا يخلو من ثلاثة أقسام:
أولا: أن يتوكل توكل اعتماد وتعبد، فهذا شرك أكبر، كأن يعتقد بأن هذا المتوكل عليه هو الذي يجلب له كل خير ويدفع عنه كل شر، فيفوض أمره إليه تفويضًا كاملا في جلب المنافع ودفع المضار، مع اقتران ذلك بالخشية والرجاء، ولا فرق بين أن يكون المتوكل عليه حيًا أو ميتًا، لأن هذا التفويض لا يصح إلا لله.
ثانيًا: أن يتوكل على غير الله بشيء من الاعتماد لكن فيه إيمان بأنه سبب وأن الأمر إلى الله، كتوكل كثير من الناس على الملوك والأمراء في تحصيل معاشهم، فهذا نوع من الشرك الأصغر.
ثالثًا: أن يتوكل على شخص على أنه نائب عنه، وأن هذا المتوكل فوقه، كتوكل الإنسان على الوكيل في بيع وشراء ونحوهما مما تدخله النيابة، فهذا جائز، ولا ينافي التوكل على الله، وقد وكل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . . . . . . . .
ــ
أصحابه في البيع والشراء ونحوهما.
قوله: {عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} : يقولون: إن الحكم إذا علق بوصف، دل عليه ذلك الوصف.
لو قال قائل: لماذا لم تكن الآية: وتوكل على القوي العزيز، لأن القوة والعزة أنسب فيما يبدو؟!
فالجواب: أنه لما كانت الأصنام التي يعتمد عليها هؤلاء بمنزلة الأموات: كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21] ، فقال توكل على من ليس صفته كصفة هذه الأصنام وهو الحي الذي لا يموت، على أنه قال في آية أخرى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 217] ، لأن العزة أنسب في هذا السياق.
ووجه آخر: أن الحي اسم يتضمن جميع الصفات الكاملة في الحياة، ومن كمال حياته عز وجل أنه أهل لأن يعتمد عليه.
وقوله: {لَا يَمُوتُ} ، يعني لكمال حياته لا يموت فيكون تعلقها بما قبلها المقصود به إفادة أن هذه الحياة كاملة لا يلحقها فناء.
في هذه الآية من أسماء الله: الحي، وفيها من صفاته: الحياة، وانتفاء الموت المتضمن لكمال الحياة، ففيها صفتان واسم.
سبق تعريف العلم، وسبق أن العلم صفة كمال وسبق أن علم الله محيط بكل شيء.
الْحَكِيمُ هذه المادة (ح ك م) : تدل على حكم وإحكام،
فعلى الأول يكون الحكيم بمعنى الحاكم، وعلى الثاني يكون الحكيم بمعنى المحكم، إذًا: يدل هذا الاسم الكريم على أن الحكم لله، ويدل على أن الله موصوف بالحكمة، لأن الإحكام هو الإتقان، والإتقان وضع الشيء في موضعه. ففي الآية إثبات حكم وإثبات حكمة:
فالله عز وجل وحده هو الحاكم، وحكم الله إما كوني وإما شرعي:
فحكم الله الشرعي ما جاءت به رسله ونزلت به كتبه من شرائع الدين.
وحكم الله الكوني: ما قضاه على عباده من الخلق والرزق والحياة والموت ونحو ذلك من معاني ربوبيته ومتقتضياتها.
دليل الحكم الشرعي: قوله تعالى في سورة الممتحنة: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10] .
ودليل الحكم الكوني: قوله تعالى عن أحد أخوة يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80] .
وأما قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ، فشامل للكوني والشرعي، فالله عز وجل حكيم بالحكم الكوني وبالحكم الشرعي، وهو أيضًا محكم لهما، فكل من الحكمين موافق للحكمة.
لكن من الحكمة ما نعلمه، ومن الحكمة ما لا نعلمه، لأن الله تعالى يقول:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .
ثم الحكمة نوعان:
الأول: حكمة في كون الشيء على كيفيته وحاله التي هو عليها،
وقوله: (وهو العليم الخبير) . . . . . . . . . . . .
ــ
كحال الصلاة، فهي عبادة كبيرة تسبق بطهارة من الحدث والخبث وتؤدى على هيئة معينة من قيام وقعود وركوع وسجود، وكالزكاة، فهي عبادة لله تعالى بأداء جزء من المال النامي غالبًا لمن هم في حاجة إليها، أو في المسلمين حاجة إليهم كبعض المؤلفة قلوبهم.
والنوع الثاني: حكمة في الغاية من الحكم، حيث إن جميع أحكام الله تعالى لها غايات حميدة وثمرات جليلة.
فانظر إلى حكمة الله في حكمه الكوني، حيث يصيب الناس بالمصائب العظيمة لغايات حميدة، كقوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، ففيها رد لقول من يقول: إن أحكام الله تعالى ليست لحكمة، بل هي لمجرد مشيئته.
وفي هذه الآية من أسماء الله: العليم، والحكيم. ومن صفاته: العلم والحكمة.
وفيها من الفوائد المسلكية: أن الإيمان بعلم الله وحكمته يستلزم الطمأنينة التامة لما حكم به من أحكام كونية وشرعية، لصدور ذلك عن علم وحكمة، فيزول عنه القلق النفسي وينشرح صدره.
العليم: سبق الكلام فيه.
الخبير: هو العليم ببواطن الأمور فيكون هذا وصفًا أخص بعد وصف أعم، فنقول: العليم بظواهر الأمور، والخبير ببواطن الأمور، فيكون العلم بالبواطن مذكورًا مرتين: مرة بطريق العموم، ومرة بطريق الخصوص، لئلا يظن أن علمه مختص بالظواهر.
وقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] .
وقوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] "
ــ
وكما يكون هذا في المعاني يكون في الأعيان، فمثلا:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4] : الروح جبريل، وهو من الملائكة فنقول: الملائكة ومنهم جبريل، وخص جبريل بالذكر تشريفًا له ويكون النص عليه مرتين: مرة بالعموم، ومرة بالخصوص.
وفي هذه الآية من أسماء الله تعالى: العليم، والخبير ومن صفاته: العلم، والخبرة.
وفيها من الفوائد المسلكية: أن الإيمان بذلك يزيد المرء خوفًا من الله وخشية، سرًا وعلنًا.
هذه الآيات في تفصيل صفة العلم:
الآية الأولى: قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2] :
هذه تفصيل لما سبق من عموم علمه تعالى.
مَا: اسم موصول يفيد العموم، كل ما يلج في الأرض مثل المطر
والحب يبذر في الأرض والموتى والدود والنمل وغيره وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، كالماء والزروع. . وما أشبه ذلك {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} ، مثل المطر والوحي والملائكة وأمر الله عز وجل، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} ، كالأعمال الصالحة والملائكة والأرواح والدعاء.
وهنا قال {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} ، فعدى الفعل بـ (في) وفي سورة المعارج قال:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] ، فعداه بـ (إلى) ، وهذا هو الأصل، فما وجه كونه عدى بـ (في) في قوله:{يَعْرُجُ فِيهَا} ؟
فالجواب: اختلف نحاة البصرة والكوفة في مثل هذا، فقال نحاة البصرة: إن الفعل يضمن معنى يتلائم مع الحرف، وقال نحاة الكوفة: بل الحرف يضمن معنى يتلائم مع الفعل.
فعلى الرأي الأول: يكون قوله: {يَعْرُجُ فِيهَا} : مضمنًا معنى (يدخل)، فيصير المعنى: وما يعرج فيدخل فيها، وعليه يكون في الآية دلالة على أمرين: على عروج ودخول.
أما على الرأي الثاني، فنقول:(في) بمعنى (إلى) ويكون هذا من باب التناوب بين الحروف.
لكن على هذا القول لا تجد أن في الآية معنى جديدًا وليس فيها إلا اختلاف لفظ (إلى) لفظ (في) ولهذا كان القول الأول أصح وهو أن تضمن الفعل معنى يتناسب مع الحرف.
ولهذا نظير في اللغة العربية، قال الله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] ، والعين يشرب منها والذي يشرب به الإناء، فعلى رأي أهل الكوفة نقول:{يَشْرَبُ بِهَا} الباء بمعنى
(من)، أي: منها، وعلى رأي أهل البصرة يضمن الفعل {يَشْرَبُ} معنى يتلائم مع حرف الباء والذي يتلائم معها يروى ومعلوم أنه لا ري إلا بعد شرب، فيكون هذا الفعل ضمن معنى غايته وهو الري.
وكذلك نقول في {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} : لا دخول في السماء إلا بعد العروج إليها، فيكون الفعل ضمن معنى الغاية.
ففي الآية ذكر الله عز وجل عموم علمه في كل شيء بنوع من التفصيل، ثم فصل في آية أخرى تفصيلا آخر:
الآية الثانية: قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] .
عِنْدَهُ: أي: عند الله وهو خبر مقدم {مَفَاتِحُ} مبتدأ مؤخر.
ويفيد هذا التركيب الحصر والاختصاص، عنده لا عند غيره مفاتح الغيب وأكد هذا الحصر بقوله:{لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ، ففي الجملة حصر بأن علم هذه المفاتح عند الله بطريقتين: إحداهما: بطريقة التقديم والتأخير والثانية: طريقة النفي والإثبات.
كلمة مَفَاتِحُ، قيل: إنها جمع مِفْتَح، بكسر الميم وفتح التاء: المفتاح، أو إنها جمع مفتاح لكن حذفت منها الياء وهو قليل، ونحن نعرف أن المفتاح ما يفتح به الباب، وقيل: جمع مَفْتِح، بفتح الميم وكسر التاء وهي الخزائن، فـ {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} خزائنه، وقيل:{مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ، أي: مبادئه، لأن مفتح كل شيء يكون في أوله، فيكون على هذا:{مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ، أي: مبادئ الغيب، فإن هذه المذكورات مبادئ لما بعدها.
الْغَيْبِ: مصدر غاب يغيب غيبًا، والمراد بالغيب: ما كان غائبًا والغيب أمر نسبي، لكن الغيب المطلق علمه خاص بالله.
هذه المفاتح سواء قلنا إن المفاتح: هي المبادئ، أو: هي الخزائن، أو: المفاتيح، لا يعلمها إلا الله عز وجل، فلا يعلمها ملك، ولا يعلمها رسول، حتى إن أشرف الرسل الملكي وهو جبريل - سأل أشرف الرسل البشري - وهو محمد عليه الصلاة والسلام قال: أخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ، والمعنى: كما أنه لا علم لك بها، فلا علم لي بها أيضًا. فمن ادعى علم الساعة، فهو كاذب كافر، ومن صدقه، فهو أيضًا كافر، لأنه مكذب للقرآن.
وهذه المفاتح؟ فَسَّرَهَا أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِكَلامِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حين قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34](1)، فهي خمسة أمور:
الأول علم الساعة: فعلم الساعة مبدأ مفتاح لحياة الآخرة، وسميت الساعة بهذا، لأنها ساعة عظيمة، يهدد بها جميع الناس، وهي الحاقة والواقعة، والساعة علمها عند الله لا يدري أحد متى تقوم إلا الله عز وجل.
الثاني: تنزيل الغيث: لقوله: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} : الْغَيْثَ: مصدر ومعناه: إزالة الشدة والمراد به المطر، لأنه بالمطر تزول شدة القحط والجدب وإذا كان هو الذي ينزل الغيث، كان هو الذي يعلم وقت نزوله.
(1) رواه البخاري/ كتاب التفسير/ باب قوله تعالى "إن الله عنده علم الساعة".
والمطر نزوله مفتاح لحياة الأرض بالنبات، وبحياة النبات يكون الخير في المرعى وجميع ما يتعلق بمصالح العباد.
وهنا نقطة: قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} ، ولم يقل: وينزل المطر، لأن المطر أحيانًا ينزل ولا يكون فيه نبات، فلا يكون غيثًا، ولا تحيا به الأرض، ولهذا ثبت في "صحيح مسلم ":«لَيْسَتِ السَّنَةُ أَلا تُمْطَرُوا، إِنَّمَا السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَلا تُنْبِتُ الأَرْضُ شَيْئًا» (1) ، والسنة القحط.
الثالث: علم ما في الأرحام: لقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} ، أي: أرحام الإناث، فهو عز وجل يعلم ما في الأرحام، أي: ما في بطون الأمهات من بني آدم وغيرهم، ومتعلق العلم عام بكل شيء، فلا يعلم ما في الأرحام إلا مَن خَلَقَهَا عز وجل.
فإن قلت: يقال الآن: إنهم صاروا يعلمون الذكر من الأنثى في الرحم، فهل هذا صحيح؟
نقول: إن هذا الأمر وقع ولا يمكن إنكاره، لكنهم لا يعلمون ذلك إلا بعد تكوين الجنين وظهور ذكورته أو أنوثته، وللجنين أحوال أخرى لا يعلمونها، فلا يعلمون متى ينزل، ولا يعلمون إذا نزل إلى متى يبقى حيًا ولا يعلمون هل يكون شقيًا أو سعيدًا، ولا يعلمون هل يكون غنيًا أم فقيرًا. . . إلى غير ذلك من أحواله المجهولة.
إذًا أكثر متعلقات العلم فيما يتعلق بالأجنة مجهول للخلق، فصدق العموم في قوله:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} .
الرابع: علم ما في الغد: وهو ما بعد يومك: لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}
(1) رواه مسلم/ كتاب الفتن/ باب في سكنى المدينة.
وهذا مفتاح الكسب في المستقبل، وإذا كان الإنسان لا يعلم ما يكسب لنفسه، فعدم علمه بما يكسبه غيره أولى.
لكن لو قال قائل: أنا أعلم ما في الغد، سأذهب إلى المكان الفلاني، أو أقرأ، أو أزور أقاربي فنقول: قد يجزم بأنه سيعمل ولكن يحول بينه وبين العمل مانع.
الخامس: علم مكان الموت: لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ، ما يدري أي أحد هل يموت في أرضه أو في أرض أخرى؟ في أرض إسلامية أو أرض كافر أهلها؟ ولا يدري هل يموت في البر أو في البحر أو في الجو؟ وهذا شيء مشاهد.
ولا يدري بأي ساعة يموت، لأنه إذا كان لا يمكنه أن يدري بأي أرض يموت وهو قد يتحكم في المكان، فكذلك لا يدري بأي زمن وساعة يموت.
فهذه الخمسة هي مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله وسميت مفاتح الغيب، لأن علم ما في الأرحام مفتاح للحياة الدنيا، {مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} مفتاح للعمل المستقبل {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} مفتاح لحياة الآخرة، لأن الإنسان إذا مات، دخل عالم الآخرة، وسبق بيان علم الساعة وتنزيل الغيث، فتبين أن هذه المفاتح كلها مبادئ لكل ما وراءها، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
ثم قال عز وجل: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 59] : هذا إجمال، فمن يحصي أجناس ما في البر؟ كم فيها من عالم الحيوان والحشرات والجبال والأشجار والأنهار أمور لا يعلمها إلا الله عز وجل والبحر كذلك فيه من العوالم ما لا يعلمه إلا خالقه عز وجل، يقولون: إن
البحر يزيد على البر ثلاثة أضعاف من الأجناس، لأن البحر أكثر من اليابس.
قال {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} :
هذا تفصيل، فأي ورقة في أي شجرة صغيرة أو كبيرة، قريبة أو بعيدة تسقط، فالله تعالى يعلمها، ولهذا جاءت (مَا تَسْقُطُ) النافية و (مِنْ) الزائدة، ليكون ذلك نصًا في العموم، والورقة التي تخلق يعلمها من باب أولى، لأن عالم ما يسقط عالم بما يخلق عز وجل.
انظر إلى سعة علم الله تعالى كل شيء يكون، فهو عالم به، حتى الذي لم يحصل وسيحصل، فهو تعالى عالم به.
قال: {وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} : حبة صغيرة لا يدركها الطرف في ظلمات الأرض يعلمها عز وجل.
{ظُلُمَاتِ} : جمع ظلمة ولنفرض أن حبة صغيرة غائصة في قاع البحر، في ليلة مظلمة مطيرة، فالظلمات: أولا: طين البحر. ثانيًا: ماء البحر. ثالثًا: المطر. رابعًا: السحاب. خامسًا: الليل، فهذه خمس ظلمات من ظلمات الأرض ومع ذلك هذه الحبة يعلمها الله سبحانه وتعالى ويبصرها عز وجل.
قال: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} : هذا عام، فما من شيء إلا وهو إما رطب وإما يابس.
{إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} : {كِتَابٍ} ، بمعنى مكتوب. {مُبِينٍ} أي: مظهر وبين، لأن (أبان) تستعمل متعديًا ولازمًا فيقال: أبان الفجر،
بمعنى ظهر الفجر ويقال: أبان الحق بمعنى أظهره والمراد بالكتاب هنا: اللوح المحفوظ.
كل هذه الأشياء معلومة عند الله سبحانه وتعالى ومكتوبة عنده في اللوح المحفوظ، لأن الله تعالى " «لما خلق القلم، قال له: اكتب، قال القلم: ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» (1) ، فكتب في تلك اللحظة ما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم جعل سبحانه في أيدي الملائكة كتبًا تكتب ما يعمله الإنسان، لأن الذي في اللوح المحفوظ قد كتب فيه ما كان يريد الإنسان أن يفعل، والكتابة التي تكتبها الملائكة هي التي يجزى عليها الإنسان ولهذا يقول الله عز وجل:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31] ، أما علمه بأن عبده فلانًا سيصبر أو لا يصبر، فهذا سابق من قبل، لكن لا يترتب عليه الثواب والعقاب.
الآية الثالثة: قوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] .
مَا: نافية.
{أُنْثَى} فاعل {تَحْمِلُ} لكنه معرب بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
وهنا إشكال: كيف تقول زائد وليس في القرآن زائد؟
(1) رواه أحمد (5/317) ، وأبو داود (4700) ، والترمذي (2155) ، والحاكم (2/498) وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(804) ، والآجري في "الشريعة"(178) ، وابن أبي عاصم في "السنة"(105) ، والحديث صححه الألباني في "الصحيحة"(133) ، وفي "السنة" لابن أبي عاصم (1/48و49) .
فالجواب: أنه زائد من حيث الإعراب، أما من حيث المعنى، فهو مفيد وليس في القرآن شيء زائد لا فائدة منه، ولهذا نقول: هو زائد، زائد بمعنى أنه لا يخل بالإعراب إذا حذف، زائد من حيث المعنى يزيد فيه.
وقوله: {مِنْ أُنْثَى} : يشمل أي أنثى، سواء آدمية أو حيوانية أخرى الذي يحمل حيوانًا واضح أنه داخل في الآية، كبقرة، وبعير، وشاة. . وما أشبه ذلك، ويدخل في ذلك الذي يحمل البيض، كالطيور، لأن البيض في جوف الطائر حمل.
{وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} ، فابتداء الحمل بعلم الله، وانتهاؤه وخروج الجنين بعلم الله عز وجل.
الآية الرابعة: قوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] .
{لِتَعْلَمُوا} : اللام للتعليل، لأن الله قال:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الطلاق: 12] ، فقد خلق هذه السماوات السبع والأرضين السبع، وأعلمنا بذلك، لنعلم {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
القدرة وصف يتمكن به الفاعل من الفعل بدون عجز، فهو على كل شيء قدير، يقدر على إيجاد المعدوم وعلى إعدام الموجود، فالسماوات والأرض كانت معدومة، فخلقها الله عز وجل وأوجدها على هذا النظام البديع.
{وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} : كل شيء، الصغير والكبير، والمتعلق بفعله أو بفعل عباده والماضي واللاحق والحاضر، كل ذلك قد
أحاط الله سبحانه به علمًا.
وذكر الله عز وجل العلم والقدرة بعد الخلق، لأن الخلق لا يتم إلا بعلم وقدرة، ودلالة الخلق على العلم والقدرة من باب دلالة التلازم وقد سبق أن دلالات الأسماء على الصفات ثلاثة أنواع.
تنبيه: ذكر في "تفسير الجلالين" - عفا الله عنا وعنه - في آخر سورة المائدة ما نصه "وخص العقل ذاته، فليس عليها بقادر "!.
ونحن نناقش هذا الكلام من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا حكم للعقل فيما يتعلق بذات الله وصفاته، بل لا حكم له في جميع الأمور الغيبية، ووظيفة العقل فيها التسليم التام، وأن نعلم أن ما ذكره الله من هذه الأمور ليس محالا، ولهذا يقال: إن النصوص لا تأتي بمحال، وإنما تأتي بمحار، أي: بما يحير العقول، لأنها تسمع ما لا تدركه ولا تتصوره.
والوجه الثاني: قوله: "فليس عليها بقادر": هذا خطأ عظيم، كيف لا يقدر على نفسه وهو قادر على غيره، فكلامه هذا يستلزم أنه لا يقدر أن يستوي ولا أن يتكلم ولا أن ينزل إلى السماء الدنيا ولا يفعل شيئًا أبدًا وهذا خطير جدًا!!
لكن لو قال قائل: لعله يريد: "خص العقل ذاته، فليس عليها بقادر"، يعني: لا يقدر على أن يلحق نفسه نقصًا قلنا: إن هذا لم يدخل في العموم حتى يحتاج إلى إخراج وتخصيص، لأن القدرة إنما تتعلق بالأشياء الممكنة، لأن غير الممكن ليس بشيء، لا في الخارج ولا في الذهن" فالقدرة لا تتعلق بالمستحيل، بخلاف العلم.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} . . . . . . . . . . .
ــ
فينبغي للإنسان أن يتأدب فيما يتعلق بجانب الربوبية، لأن المقام مقام عظيم، والواجب على المرء نحوه أن يستسلم ويسلم.
إذًا، نحن نطلق ما أطلقه الله، ونقول: إن الله على كل شيء قدير، بدون استثناء.
وفي هذه الآيات من صفات الله تعالى: إثبات عموم علم الله على وجه التفصيل، وإثبات عموم قدرة الله تعالى.
والفائدة المسلكية من الإيمان بالعلم والقدرة: قوة مراقبة الله والخوف منه.
في هذه الآية إثبات صفة القوة لله عز وجل.
جاءت هذه الآية بعد قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56 - 57] ، فالناس يحتاجون إلى رزق الله، أما الله تعالى، فإنه لا يريد منهم رزقًا ولا أن يطعموه.
* {الرَّزَّاقُ} : صيغة مبالغة من الرزق، وهو العطاء، قال تعالى:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8]، أي: أعطوهم، والإنسان يسأل الله تعالى في صلاته، ويقول: اللهم ارزقني.
وينقسم الرزق إلى قسمين: عام وخاص.
فالعام: كل ما ينتفع به البدن، سواء كان حلالا أو حرامًا، وسواء كان
المرزوق مسلمًا أو كافرًا، ولهذا قال السفاريني:
والرزق ما ينفع من حلال
…
أو ضده فحل عن المحال
لأنه رازق كل الخلق
…
وليس مخلوقٌ بغير رزق
لأنك لو قلت: إن الرزق هو العطاء الحلال. لكان كل الذين يأكلون الحرام، لم يرزقوا، مع أن الله أعطاهم ما تصلح به أبدانهم، لكن الرزق نوعان: طيب وخبيث، ولهذا قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، ولم يقل: والرزق، أما الخبائث من الرزق، فهي حرام.
أما الرزق الخاص، فهو ما يقوم به الدين من العلم النافع والعمل الصالح والرزق الحلال المعين على طاعة الله، ولهذا جاءت الآية الكريمة:{الرَّزَّاقُ} ولم يقل: الرازق، لكثرة رزقه وكثرة من يرزقه، فالذي يرزقه الله عز وجل لا يحصى باعتبار أجناسه، فضلا عن أنواعه، فضلا عن آحاده، لأن الله تعالى يقول:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] ، ويعطي الله الرزق بحسب الحال.
ولكن إذا قال قائل: إذا كان الله هو الرزاق، فهل أسعى بطلب الرزق: أو أبقى في بيتي ويأتيني الرزق؟
فالجواب نقول: اسعَ لطلب الرزق، كما أن الله غفور، فليس معنى هذا أن لا تعمل وتتسبب للمغفرة.
أما قول الشاعر:
{ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . . . . . .
ــ
جُنُونٌ مِنْكَ أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ
…
وَيُرْزَقُ فِي غِشَاوَتِهِ الْجَنِينُ
فهذا القول باطل. وأما استشهاده بالجنين، فالجواب: أن يقال: الجنين لا يمكن أن يوجه إليه طلب الرزق، لأنه غير قادر، بخلاف القادر.
ولهذا قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] ، فلا بد من سعي، وأن يكون هذا السعي على وفق الشرع.
القوة: صفة يتمكن الفاعل بها من الفعل بدون ضعف، والدليل قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54] ، وليست القوة هي القدرة، لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44] ، فالقدرة يقابلها العجز، والقوة يقابلها الضعف، والفرق بينهما: أن القدرة يوصف بها ذو الشعور، والقوة يوصف بها ذو الشعور وغيره. ثانيًا: أن القوة أخص فكل قوي من ذي الشعور قادر، وليس كل قادر قويا. مثال ذلك: تقول: الريح قوية، ولا تقول: قادرة، وتقول: الحديد قوي، ولا تقول: قادر، لكنْ ذو الشعور تقول: إنه قوي، وإنه قادر.
ولما قالت عاد: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] .
المتين قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشديد. أي الشديد في قوته، الشديد في عزته، الشديد في جميع صفات الجبروت، وهو من حيث المعنى توكيد للقوي.
وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . . . . .
ــ
ويجوز أن نخبر عن الله بأنه شديد، ولا نسمي الله بالشديد، بل نسميه بالمتين، لأن الله سمى نفسه بذلك.
في هذه الآية إثبات اسمين من أسماء الله، هما: الرزاق، والمتين، وإثبات ثلاث صفات، وهي الرزق، والقوة، وما تضمنه اسم المتين.
والفائدة المسلكية في الإيمان بصفة القوة والرزق، أن لا نطلب القوة والرزق إلا من الله تعالى، وأن نؤمن بأن كل قوة مهما عظمت، فلن تقابل قوة الله تعالى.
هذه الآية ساقها المؤلف لإثبات اسمين من أسماء الله وما تضمناه من صفة، وهما السميع والبصير، ففيها رد على المعطلة.
* قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : هذا نفي، فهو من الصفات السلبية، والمقصود به إثبات كماله، يعني لكماله لا يماثله شيء من مخلوقاته، وفي هذه الجملة رد على أهل التمثيل.
* قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} : السَّمِيعُ له معنيان أحدهما: بمعنى المجيب. والثاني: بمعنى السامع للصوت.
أما السميع بمعنى المجيب، فمثلوا له بقوله تعالى عن إبراهيم:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]، أي: لمجيب الدعاء.
وأما السميع بمعنى إدراك الصوت، فإنهم قسموه إلى عدة أقسام:
الأول: سمع يراد به بيان عموم إدراك سمع الله عز وجل، وأنه ما من صوت إلا ويسمعه الله.
الثاني: سمع يراد به النصر والتأييد.
الثالث: سمع يراد به الوعيد والتهديد.
مثال الأول: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] ، فهذا فيه بيان إحاطة سمع الله تعالى بكل مسموع، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:"الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، والله إني لفي الحجرة، وإن حديثها ليخفى على بعضه".
ومثال الثاني: كما في قوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] .
ومثال الثالث: الذي يراد به التهديد والوعيد: قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] ، فإن هذا يراد به تهديدهم ووعيدهم، حيث كانوا يسرون ما لا يرضى من القول.
والسمع بمعنى إدراك المسموع من الصفات الذاتية، وإن كان المسموع قد يكون حادثًا.
والسمع بمعنى النصر والتأييد من الصفات الفعلية، لأنه مقرون بسبب.
والسمع بمعنى الإجابة من الصفات الفعلية أيضًا.
* وقوله: الْبَصِيرُ، يعني: المدرك لجميع المبصرات، ويطلق
البصير بمعنى العليم، فالله سبحانه وتعالى بصير، يرى كل شيء وإن خفي، وهو سبحانه بصير بمعنى: عليم بأفعال عباده، قال تعالى:{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات: 18] ، والذي نعمل بعضه مرئي وبعضه غير مرئي، فبصر الله إذًا ينقسم إلى قسمين، وكله داخل في قوله: الْبَصِيرُ.
في هذه الآية إثبات اسمين من أسماء الله، هما: السميع، والبصير. وثلاث صفات، هي: كمال صفاته من نفي المماثلة، والسمع، والبصر.
وفيها من الفوائد المسلكية: الكف عن محاولة تمثيل الله بخلقه، واستشعار عظمته وكماله، والحذر من أن يراك على معصيته أو يسمع منك ما لا يرضاه.
واعلم أن النحاة خاضوا خوضًا كثيرًا في قوله: {كَمِثْلِهِ} ، حيث قالوا: الكاف داخلة على (المثل) ، وظاهره أن لله مثلا ليس له مثل، لأنه لم يقل: ليس كهو، بل قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ} ، فهذا ظاهر الآية من حيث اللفظ لا من حيث المعنى؛ لأننا لو قلنا: هذا ظاهرها من حيث المعنى، لكان ظاهر القرآن كفرًا، وهذا مستحيل، ولهذا اختلفت عبارات النحويين في تخريج هذه الآية على أقوال:
القول الأول: الكاف زائدة، وأن تقدير الكلام: ليس مثله شيء، وهذا القول مريح، وزيادة الحروف في النفي كثيرة، كما في قوله تعالى:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى} [فاطر: 11]، فيقولون: إن زيادة الحروف في اللغة العربية للتوكيد أمر مطرد.
والقول الثاني: قالوا العكس، قالوا: إن الزائد (مثل) ، ويكون
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} . . . . . . . . . . .
ــ
التقدير: ليس كهو شيء، لكن هذا ضعيف، يضعفه أن الزيادة في الأسماء في اللغة العربية قليلة جدا أو نادرة، بخلاف الحروف، فإذا كنا لا بد أن نقول بالزيادة، فليكن الزائد الحرف، وهي الكاف.
والقول الثالث: أن (مثل) بمعنى: صفة، والمعنى:"ليس كصفته شيء"، وقالوا: إن الْمِثْل والْمَثَل والشِّبْه والشَّبَه في اللغة العربية بمعنى واحد، وقد قال الله تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد: 15]، أي: صفة الجنة، وهذا ليس ببعيد من الصواب.
القول الرابع: إنه ليس في الآية زيادة، لكن إذا قلت:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، لزم من ذلك نفي المثل، وإذا كان ليس للمثل مثل، صار الموجود واحدًا، وعلى هذا، فلا حاجة إلى أن نقدر شيئًا. قالوا: وهذا قد وجد في اللغة العربية، مثل قوله: ليس كمثل الفتى زهير.
والحقيقة أن هذه البحوث لو لم تعرض لكم، لكان معنى الآية واضحًا، ومعناها أن الله ليس له مثيل، لكن هذا وجد في الكتب، والراجح أن نقول: إن الكاف زائدة، لكن المعنى الأخير لمن تمكن من تصوره أجود.
هذه الآية تكملة لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، فأمر عز وجل بأن نؤدي الأمانات إلى أهلها، ومنها الشهادة للإنسان له أو عليه، وأن نحكم إذا حكمنا بين الناس بالعدل، فبين الله سبحانه وتعالى أنه يأمرنا بالقيام بالواجب في طريق الحكم وفي الحكم نفسه، وطريق الحكم الذي هو الشهادة تدخل في عموم قوله:{أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، والحكم:
{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، ثم قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} ، أصلها: نعم ما ولكن أدغمت الميم بالميم من باب الإدغام الكبير، لأن الإدغام لا يكون بين جنسين إلا إذا كان الأول ساكنًا، وهنا صار الإدغام مع أن الأول مفتوح.
* وقوله: {نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} : جعل الله سبحانه الأمر بهذين الشيئين - أداء الأمانة والحكم بالعدل - موعظة، لأنه تصلح به القلوب، وكل ما يصلح القلوب فهو موعظة، والقيام بهذه الأوامر لا شك أنه يصلح القلب.
* ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} ، وقوله: كَانَ: هذه فعل، لكنها مسلوبة الزمن، فالمراد بها الدلالة على الوصف فقط، أي: أن الله متصف بالسمع والبصر، وإنما قلنا: إنها مسلوبة الزمن، لأننا لو أبقيناها على دلالتها الزمانية، لكان هذا الوصف قد انتهى، كان في الأول سميعًا بصيرًا، أما الآن فليس كذلك، ومعلوم أن هذا المعنى فاسد باطل، وإنما المراد أنه متصف بهذين الوصفين السمع والبصر على الدوام، و (كان) في مثل هذا السياق يراد به التحقيق.
* قوله: {سَمِيعًا بَصِيرًا} : نقول فيها كما قلنا في الآية التي قبلها: فيها إثبات السمع لله بقسميه، وإثبات البصر بقسميه.
قرأ أبو هريرة هذه الآية، وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع إبهامه وسبابته على عينه وأذنه. والمراد بهذا الوضع تحقيق السمع والبصر، لا إثبات
العين والأذن، فإن ثبوت العين جاءت في أدلة أخرى، والأذن عند أهل السنة والجماعة لا تثبت لله ولا تنفى عنه لعدم ورود السمع بذلك.
فإن قلت: هل لي أن أفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب: من العلماء من قال: نعم، افعل كما فعل الرسول، لست أهدى للخلق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست أشد تحرزًا من أن يضاف إلى الله ما لا يليق من الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من قال: لا حاجة إلى أن تفعل ما دمنا نعلم أن المقصود هو التحقيق فهذه الإشارة إذًا غير مقصودة بنفسها، إنما هي مقصودة لغيرها، وحينئذ، لا حاجة إلى أن تشير، لا سيما إذا كان يُخشى من هذه الإشارة توهم الإنسان التمثيل، كما لو كان أمامك عامة من الخلق لا يفهمون الشيء على ما ينبغي، فهذا ينبغي التحرز منه، ولكل مقام مقال.
وكذلك ما ورد في حديث ابن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال: "يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الله"، ويقبض أصابعه ويبسطها» (1) . فيقال فيه ما قيل في حديث أبي هريرة.
والفائدة المسلكية من الإيمان بصفتي السمع والبصر: أن نحذر مخالفة الله في أقوالنا وأفعالنا.
وفي الآية من أسماء الله إثبات اسمين هما: السميع، والبصير. ومن الصفات: إثبات السمع، والبصر، والأمر، والموعظة.
(1) رواه مسلم/ كتاب صفات المنافقين.
وقوله: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} .
ــ
هذه آيات في إثبات صفتي المشيئة والإرادة:
فالآية الأولى: قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] .
* {وَلَوْلَا} : بمعنى: هلا، فهي للتحضيض، والمراد بها هنا التوبيخ، بمعنى أنه يوبخه على ترك هذا القول.
* {إِذْ دَخَلْتَ} : حين دخلت.
· {جَنَّتَكَ} : الجنة، بفتح الجيم هي البستان الكثير الأشجار، سميت بذلك لأن من فيها مستتر بأشجارها وغصونها، فهو مستجن فيها، وهذه المادة (الجيم والنون) تدل على الاستتار، ومنه: الجُنة - بضم الجيم - التي يتترس بها الإنسان عند القتال، ومنها: الجنة - بكسر الجيم -، يعني، الجن، لأنهم مستترون.
* وقوله: {جَنَّتَكَ} : هذه مفرد، والمعلوم من الآيات أن له جنتين، فما هو الجواب حيث كانت هنا مفردة مع أنهما جنتان؟
الجواب: أن يقال: إن المفرد إذا أضيف يعم فيشمل الجنتين. أو أن هذا القائل أراد أن يقلل من قيمة الجنتين، لأن المقام مقام وعظ وعدم إعجاب بما رزقه الله، كأنه يقول: هاتان الجنتان جنة واحدة، تقليلا لشأنهما، والوجه الأول أقرب إلى قواعد اللغة العربية قُلْتَ: جواب لَوْلَا.
* وقوله: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} : مَا: يحتمل أن تكون موصولة، ويحتمل أن تكون شرطية: فإن جعلتها موصولة، فهي خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا ما شاء الله، أي: ليس هذا بإرادتي
وحولي وقوتي، ولكنه بمشيئة الله، أي: هذا الذي شاءه الله. وإن جعلتها شرطية، ففعل الشرط {شَاءَ} ، وجوابه محذوف، والتقدير: ما شاء الله كان، كما نقول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والمراد: كان ينبغي لك أن تقول حين دخلت جنتك: {مَا شَاءَ اللَّهُ} ، لتتبرأ من حولك وقوتك لا تعجب بجنتك.
* وقوله: {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} : لَا: نافية للجنس. وقُوَّةَ: نكرة في سياق النفي، فتعم، والقوة صفة يتمكن بها الفاعل من فعل ما يريد بدون ضعف.
فإن قيل: ما الجمع بين عموم نفي القوة إلا بالله، وبين قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54]، وقال عن عاد:{وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]، ولم يقل: لا قوة فيهم، فأثبت للإنسان قوة.
فالجواب: أن الجمع بأحد الوجهين:
الأول: أن القوة التي في المخلوق كانت من الله عز وجل، فلولا أن الله أعطاه القوة، لم يكن قويًا، فالقوة التي عند الإنسان مخلوقة لله، فلا قوة في الحقيقة إلا بالله.
الثاني: أن المراد بقوله: لَا قُوَّةَ، أي: لا قوة كاملة إلا بالله عز وجل.
وعلى كل حال، فهذا الرجل الصالح أرشد صاحبه أن يتبرأ من حوله وقوته، ويقول: هذا بمشيئة الله وبقوة الله.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} . . . . . . .
ــ
في هذه الآية: إثبات اسم من أسماء الله، وهو: الله، وإثبات ثلاث صفات: الألوهية، والقوة، والمشيئة.
ومشيئة الله: هي إرادته الكونية، وهي نافذة فيما يحبه وما لا يحبه، ونافذة على جميع العباد بدون تفصيل، ولا بد من وجود ما شاءه بكل حال، فكل ما شاء الله وقع ولا بد، سواء كان فيما يحبه ويرضاه أم لا.
الآية الثانية: قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] :
لَوْ: حرف امتناع لامتناع، وإذا كان جوابها منفيًا بـ (ما) ، فإن الأفصح حذف اللام، وإذا كان مثبتًا، فالأكثر ثبوت اللام، كما قال تعالى:{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65] . فنقول: الأكثر، ولا نقول: الأفصح، لأنه ورد إثبات اللام وحذفها في القرآن الكريم:{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70] . وقولنا: إن الأفصح حذف اللام في المنفي، لأن اللام تفيد التوكيد، والنفي ينافي التوكيد، ولهذا كان قول الشاعر:
ولو نعطى الخيار لما افترقنا
…
ولكن لا خيار مع الليالي
خلاف الأفصح، والأفصح: لو نعطى الخيار ما افترقنا.
* قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} : الضمير يعود على المؤمنين والكافرين، لقوله تعالى:{وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] .
وفي هذا رد واضح على القدرية الذين ينكرون تعلق فعل العبد بمشيئة
وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} . . . . . . . . . . . .
ــ
الله، لأن الله قال:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} ، يعني: ولكنه شاء أن يقتتلوا فاقتتلوا. ثم قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} ، أي: يفعل الذي يريده، والإرادة هنا إرادة كونية.
* وقوله: {يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} : الفعل باعتبار ما يفعله سبحانه وتعالى بنفسه فعل مباشر. وباعتبار ما يقدره على العباد فعل غير مباشر، لأنه من المعلوم أن الإنسان إذا صام وصلى وزكى وحج وجاهد، فالفاعل الإنسان بلا شك، ومعلوم أن فعله هذا بإرادة الله.
ولا يصح أن ينسب فعل العبد إلى الله على سبيل المباشرة، لأن المباشر للفعل الإنسان، ولكن يصح أن ينسب إلى الله على سبيل التقدير والخلق.
أما ما يفعله الله بنفسه، كاستوائه على عرشه، وكلامه، ونزوله إلى السماء الدنيا، وضحكه. . . وما أشبه ذلك، فهذا ينسب إلى الله تعالى فعلا مباشرة.
في هذه الآية من الأسماء: الله. ومن الصفات: المشيئة، والفعل، والإرادة.
الآية الثالثة: قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] .
* {أُحِلَّتْ لَكُمْ} : المحل هو الله عز وجل، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام يحل ويحرم، لكن بإذن من الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«أحلت لنا ميتتان ودمان» (1)، وكان عليه الصلاة والسلام يقول:«إن الله يحرم عليكم» ، كذا يخبر أنه حرم، وربما يحرم تحريمًا يضيفه إلى نفسه، لكنه بإذن الله.
* {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} : هي الإبل والبقر والغنم، والأنعام جمع نعم، كأسباب جمع سبب.
* {إِلَّا مَا يُتْلَى} : إلا الذي يتلى عليكم في هذه السورة، وهي المذكورة في قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة، 3] ، فالاستثناء هنا فيه منقطع وفيه متصل، فبالنسبة للميتة من بهيمة الأنعام متصل، وبالنسبة للحم الخنزير منقطع، لأنه ليس من بهيمة الأنعام.
* وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ: غَيْرَ} : حال من الكاف في لَكُمْ، يعني: حال كونكم لا تحلون الصيد وأنتم حرم، وهذا الاستثناء منقطع أيضًا، لأن الصيد ليس من بهيمة الأنعام.
وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} ، يعني: قاتليه في الإحرام، لأن الذي يفعل الشيء يصير كالمحل له، والصَّيْدِ: هو الحيوان البري المتوحش المأكول، هذا هو الصيد الذي حرم في الإحرام.
* وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} : هذه الإرادة شرعية، لأن المقام مقام تشريع، ويجوز أن تكون إرادة شرعية كونية، ونحمل الحكم على
(1) رواه أحمد (2/97) ، وابن ماجه (3314)
وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} . . . . . . . . .
ــ
الحكم الكوني والشرعي، فما أراده كونًا، حكم به وأوقعه، وما أراده شرعًا، حكم به وشرعه لعباده.
في هذه الآية من الأسماء: الله. ومن الصفات: التحليل، والحكم، والإرادة.
الآية الرابعة: قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] .
* قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} : المراد بالإرادة هنا الإرادة الكونية، والمراد بالهداية هداية التوفيق، فتجده منشرح الصدر في شرائع الإسلام وشعائره، يفعلها بفرح وسرور وانطلاق.
فإذا عرفت من نفسك هذا، فاعلم أن الله أراد بك خيرًا وأراد لك هداية، أما من ضاق به ذرعًا والعياذ بالله فإن هذا علامة على أن الله لم يرد له هداية، وإلا لانشرح صدره.
ولهذا تجدون الصلاة التي هي أثقل ما يكون على المنافقين قرة عيون المخلصين، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» (1) ، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيمانًا، فانشرح صدره بالصلاة وصارت قرة عينه.
فإذا قيل للشخص: إنه يجب عليك أن تصلي مع الجماعة في المسجد،
(1) رواه أحمد (3/128) ، والنسائي (7/61) ، والحاكم (2/160) .
فانشرح صدره، وقال الحمد لله الذي شرع لي ذلك، ولولا أن الله شرعه، لكان بدعة، وأقبل إليه، ورضي به، فهذا علامة على أن الله أراد أن يهديه وأراد به خيرًا.
* قال: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ: يَشْرَحْ صَدْرَهُ} : بمعنى يوسع، ومنه قول موسى عليه الصلاة والسلام لما أرسله الله إلى فرعون:{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25]، يعني: وسع لي صدري في مناجاة هذا الرجل ودعوته، لأن فرعون كان جبارًا عنيدًا.
وقوله: {لِلْإِسْلَامِ} : هذا عام لأصل الإسلام وفروعه وواجباته، وكلما كان الإنسان بالإسلام وشرائعه أشرح صدرًا، كان أدل على إرادة الله به الهداية.
* وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} : من يرد أن يضله، يجعل صدره ضيقا حرجا، أي شديد الضيق، ثم مثل ذلك بقوله:{كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} ، يعني: كأنه حين يعرض عليه الإسلام يتكلف الصعود إلى السماء، ولهذا جاءت الآية:{يَصَّعَّدُ} ، بالتشديد، ولم يقل: يصعد، كأنه يتكلف الصعود بمشقة شديدة، وهذا الذي يتكلف الصعود لا شك أنه يتعب ويسأم.
ولنفرض أن هذا رجل طلب منه أن يصعد جبلا رفيعًا صعبًا، فإذا قام يصعد هذا الجبل، سوف يتكلف، وسوف يضيق نفسه ويرتفع وينتهب، لأنه يجد من هذا ضيقًا.
وعلى ما وصل إليه المتأخرون الآن، يقولون: إن الذي يصعد في
السماء كلما ارتفع وازداد ارتفاعه، كثر عليه الضغط، وصار أشد حرجًا وضيقًا، وسواء كان المعنى الأول أو المعنى الثاني، فإن هذا الرجل الذي يعرض عليه الإسلام وقد أراد الله أن يضله يجد الحرج والضيق كأنما يصعد في السماء.
ونأخذ من هذه الآية الكريمة إثبات إرادة الله عز وجل.
والإرادة المذكورة هنا إرادة كونية لا غير، لأنه قال:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} ، وهذا التقسيم لا يكون إلا في الأمور الكونيات، أما الشرعية، فالله يريد من كل أحد أن يستسلم لشرع الله.
وفيها من السلوك والعبادة أنه يجب على الإنسان أن يتقبل الإسلام كله، أصله وفرعه، وما يتعلق بحق الله وما يتعلق بحق العباد، وأنه يجب عليه أن يشرح صدره لذلك، فإن لم يكن كذلك، فإنه من القسم الثاني الذين أراد الله إضلالهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا، يفقهه في الدين» (1) ، والفقه في الدين يقتضي قبول الدين، لأن كل من فقه في دين الله وعرفه، قبله وأحبه.
قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، فهذا إقسام مؤكد بـ (لا) ، وإقسام بأخص ربوبية من الله عز وجل لعباده -
(1) رواه البخاري/ كتاب العلم/ باب "من يرد الله به خيراً"، ومسلم/ كتاب الزكاة/ باب النهي عن المسألة.
وهي ربوبية الله للرسول - على نفي الإيمان عمن لم يقم بهذه الأمور:
الأول: تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} ، يعني: الرسول، فمن طلب التحاكم إلى غير الله ورسوله، فإنه ليس بمؤمن، فإما كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، وإما كافر كفرًا دون ذلك.
الثاني: انشراح الصدر بحكمه، بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضى، بل يجدون القبول والانشراح لما قضاه النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أن يسلموا تسليمًا، وأكد التسليم بمصدر، يعني: تسليمًا كاملا.
فاحذر أيها المسلم أن ينتفي عنك الإيمان.
ولنضرب لهذا مثلا: تجادل رجلان في حكم مسألة شرعية، فاستدل أحدهما بالسنة، فوجد الثاني في ذلك حرجًا وضيقًا، كيف يريد أن يخرج عن متبوعه إلى اتباع هذه السنة؟! فهذا الرجل ناقص بلا شك في إيمانه، لأن المؤمن حقًا هو الذي إذا ظفر بالنص من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فكأنما ظفر بأكبر غنيمة يفرح بها، ويقول: الحمد لله الذي هداني لهذا. وفلان الذي يتعصب لرأيه ويحاول أن يلوي أعناق النصوص حتى تتجه إلى ما يريده هو لا ما يريده الله ورسوله، فإن هذا على خطر عظيم.
أقسام الإرادة:
الإرادة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: إرادة كونية: وهذه الإرادة مرادفة تمامًا للمشيئة، فـ (أراد) فيها بمعنى (شاء)، وهذه الإرادة:
أولا: تتعلق فيما يحبه الله وفيما لا يحبه.
وعلى هذا فإذا قال قائل: هل أراد الله الكفر؟ فقل: بالإرادة الكونية نعم أراده، ولو لم يرده الله عز وجل، ما وقع.
ثانيًا: يلزم فيها وقوع المراد، يعني: أن ما أراده الله فلا بد أن يقع، ولا يمكن أن يتخلف.
القسم الثاني: إرادة شرعية: وهي مرادفة للمحبة، فـ (أراد) فيها بمعنى (أحب)، فهي:
أولا: تختص بما يحبه الله، فلا يريد الله الكفر بالإرادة الشرعية ولا الفسق.
ثانيًا: أنه لا يلزم فيها وقوع المراد، بمعنى: أن الله يريد شيئًا ولا يقع، فهو سبحانه يريد من الخلق أن يعبدوه، ولا يلزم وقوع هذا المراد، قد يعبدونه وقد لا يعبدونه، بخلاف الإرادة الكونية.
فصار الفرق بين الإرادتين من وجهين:
1 -
الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد، والشرعية لا يلزم.
2 -
الإرادة الشرعية تختص فيما يحبه الله، والكونية عامة فيما يحبه وما لا يحبه.
فإذا قال قائل: كيف يريد الله تعالى كونًا ما لا يحبه، بمعنى: كيف
يريد الكفر أو الفسق أو العصيان وهو لا يحبه؟!
فالجواب: أن هذا محبوب إلى الله من وجه مكروه إليه من وجه آخر، فهو محبوب إليه لما يتضمنه من المصالح العظيمة، مكروه إليه لأنه معصية.
ولا مانع من أن يكون الشيء محبوبًا مكروها باعتبارين، فها هو الرجل يقدم طفله الذي هو فلذة كبده وثمرة فؤاده، يقدمه إلى الطبيب ليشق جلده ويخرج المادة المؤذية فيه ولو أتى أحد من الناس يريد أن يشقه بظفره وليس بالمشرط، لقاتله، لكن هو يذهب إلى الطبيب ليشقه، وهو ينظر إليه، وهو فرح مسرور، يذهب به إلى الطبيب ليحمي الحديد على النار حتى تلتهب حمراء، ثم يأخذها ويكوي بها ابنه، وهو راضٍ بذلك، لماذا يرضى بذلك وهو ألم للابن؟ لأنه مراد لغيره للمصلحة العظيمة التي تترتب على ذلك.
ونستفيد بمعرفتنا للإرادة من الناحية المسلكية أمرين:
الأمر الأول: أن نعلق رجاءنا وخوفنا وجميع أحوالنا وأعمالنا بالله، لأن كل شيء بإرادته وهذا يحقق لنا التوكل.
الأمر الثاني: أن نفعل ما يريده الله شرعًا، فإذا علمت أنه مراد لله شرعًا ومحبوب إليه، فإن ذلك يقوي عزمنا على فعله.
هذا من فوائد معرفتنا بالإرادة من الناحية المسلكية، فالأول باعتبار الإرادة الكونية، والثاني: باعتبار الإرادة الشرعية.
قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . . . . . . . . .
ــ
هذه آيات في إثبات صفة المحبة:
الآية الأولى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] .
* {وَأَحْسِنُوا} فعل أمر.
والإحسان قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا مندوبًا إليه، فما كان يتوقف عليه أداء الواجب، فهو واجب، وما كان زائدًا على ذلك فهو مستحب.
وبناء على ذلك، نقول:{وَأَحْسِنُوا} : فعل الأمر مستعمل في الواجب والمستحب.
والإحسان يكون في عبادة الله، ويكون في معاملة الخلق، فالإحسان في عبادة الله فسره النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل (1)، فقال: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه» . وهذا أكمل من الذي بعده، لأن الذي يعبد الله كأنه يراه عبادة طلب ورغبة، «فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» ، أي: فإن لم تصل إلى هذه الحال، فاعلم أنه يراك والذي يعبد الله على هذه المرتبة يعبده عبادة خوف وهرب، لأنه يخاف ممن يراه.
وأما الإحسان بالنسبة لمعاملة الخلق؟ فقيل في تفسيره: بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه.
بذل الندى: أي: المعروف، سواء كان ماليًا أو بدنيًا أم جاهيًا.
(1) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب بيان أركان الإيمان والإسلام، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كف الأذى: أن لا تؤذي الناس بقولك ولا بفعلك.
وطلاقة الوجه: أن لا تكون عبوسًا عند الناس، لكن أحيانًا الإنسان يغضب ويعبس، فنقول: هذا لسبب، وقد يكون من الإحسان إذا كان سببًا لصلاح الحال.
ولهذا، إذا رجمنا الزاني أو جلدناه، فهو إحسان إليه.
ويدخل في ذلك إحسان المعاملة في البيع، والشراء، والإجارة، والنكاح. . . وغير ذلك، لأنك إذا عاملتهم بالطيب في هذه الأمور، صبرت على المعسر، وأوفيت الحق بسرعة، هذا يعد بذل الندى، فإن اعتديت بالغش والكذب والتزوير، فأنت لم تكف الأذى، لأن هذا أذية. أحسن في عبادة الله وإلى عباد الله.
* وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} : هذا تعليل للأمر، فهذا ثواب المحسن، أن الله يحبه، ومحبة الله مرتبة عالية عظيمة، ووالله إن محبة الله لتشترى بالدنيا كلها، وهي أعلى من أن تحب الله، فكون الله يحبك أعلى من أن تحبه أنت، ولهذا قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، ولم يقل: فاتبعوني، تصدقوا في محبتكم لله. مع أن الحال تقتضي هكذا، ولكن قال:{يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] .
ولهذا قال بعض العلماء: الشأن كل الشأن في أن الله يحبك لا أنك تحب الله.
كل يدعي أنه يحب الله، لكن الشأن في الذي في السماء عز وجل، هل يحبك أم لا؟ إذا أحبك الله عز وجل، أحبتك الملائكة في السماء، ثم
{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . . . . . . . . .
ــ
يوضع لك القبول في الأرض، فيحبك أهل الأرض (1) ، ويقبلونك، ويقبلون ما جاء منك وهذه من عاجل بشرى المؤمن.
وفي هذه الآية من الأسماء: الله. ومن الصفات الألوهية، والمحبة.
الآية الثانية: قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] .
* {وَأَقْسِطُوا} : فعل أمر، والإقساط ليس هو القسط، بل هو من فعل رباعي، فالهمزة فيه همزة النفي، هذه الهمزة هي همزة النفي، إذا دخلت على الفعل، نفت معناه، فالفعل (قسط)، بمعنى: جار، فإذا أدخلت عليه همزة (أقسط)، صار بمعنى: عدل، أي: أزال القسط، وهو الجور، فيسمون مثل هذه الهمزة همزة السلب، مثل خطئ وأخطأ، خطئ، بمعنى ارتكب الخطأ عن عمد، وأخطأ: ارتكبه عن غير عمد.
* فقوله: {وَأَقْسِطُوا} ، أي: اعدلوا، وهذا واجب، فالعدل واجب في كل ما تجب فيه التسوية:
يدخل في ذلك العدل في معاملة الله عز وجل، ينعم الله عليك بالنعم، فمن العدل أن تقوم بشكره، يبين الله لك الحق، فمن العدل أن تتبع هذا الحق.
ويدخل في ذلك العدل في معاملات الخلق: أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:«من أحب أن»
(1) لما رواه البخاري /كتاب بدء الخلق/ باب ذكر الملائكة، ومسلم/ كتاب البر/ باب "إذا أحب الله عبداً".
عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، مثلا: إذا أردت أن تعامل شخصًا معاملة، فاعرضها أولا على نفسك: هل إذا عاملك إنسان بها، هل ترضى أم لا؟ إن كنت ترضى، فعامله، وإلا، فلا تدافعه.
ويدخل في ذلك العدل بين الأولاد في العطية، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» . (2)
ويدخل في ذلك العدل بين الورثة في الميراث، فيعطى كل واحد نصيبه، ولا يوصى لأحد منهم بشيء.
ويدخل في ذلك العدل بين الزوجات، بأن تقسم لكل واحدة مثل ما تقسم للأخرى.
ويدخل في ذلك العدل في نفسك، فلا تكلفها ما لا تطيق من الأعمال، إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا.
وعلى هذا فقس.
وهنا يجب أن ننبه على أن من الناس من يستعمل بدل العدل: المساواة! وهذا خطأ، لا يقال: مساواة، لأن المساواة قد تقتضي التسوية بين شيئين الحكمة تقتضي التفريق بينهما.
(1) رواه مسلم/ كتاب الإمارة/ باب وجوب الوفاء بيعة الخلفاء الأول فالأول.
(2)
رواه البخاري/ كتاب الهبة/ باب الإشهاد في الهبة، ومسلم/ كتاب الهبات/ باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
ومن أجل هذه الدعوة الجائرة إلى التسوية صاروا يقولون: أي فرق بين الذكر والأنثى؟! سووا بين الذكور والإناث! حتى إن الشيوعية قالت: أي فرق بين الحاكم والمحكوم، لا يمكن أن يكون لأحد سلطة على أحد، حتى بين الوالد والولد، ليس للوالد سلطة على الولد. . . وهلم جرا.
لكن إذا قلنا بالعدل، وهو إعطاء كل أحد ما يستحقه، زال هذا المحذور، وصارت العبارة سليمة.
ولهذا، لم يأتِ في القرآن أبدًا: إن الله يأمر بالتسوية! لكن جاء: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90]، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] .
وأخطأ على الإسلام من قال: إن دين الإسلام دين المساواة! بل دين الإسلام دين العدل، وهو الجمع بين المتساويين، والتفريق بين المفترقين، إلا أن يريد بالمساواة: العدل، فيكون أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ.
ولهذا كان أكثر ما جاء في القرآن نفي المساواة: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد: 16] ، {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] ، {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] .
ولم يأت حرف واحد في القرآن يأمر بالمساواة أبدًا، إنما يأمر بالعدل.
{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . . . . . . .
ــ
وكلمة (العدل) أيضًا تجدونها مقبوله لدى النفوس.
وأحببت أن أنبه على هذا، لئلا نكون في كلامنا إمعة، لأن بعض الناس يأخذ الكلام على عواهنه، فلا يفكر في مدلوله وفيمن وضعه وفي مغزاه عند من وضعه.
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها.
الآية الثالثة: قوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] .
* مَا: شرطية، وفعل الشرط:{اسْتَقَامُوا} ، وجوابه:{فَاسْتَقِيمُوا} ، أي: مهما استقام لكم المعاهدون الذين عاهدتم عند المسجد الحرام بالوفاء بالعهد، فاستقيموا لهم في ذلك.
وهذه الجملة الشرطية تقتضي بمنطوقها، أنهم إذا استقاموا لنا، وجب أن نستقيم لهم، وأن نوفي بعهدهم. وتدل بمفهومها على أنهم إذا لم يستقيموا، لا نستقيم لهم.
والمعاهدون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
قسم استقاموا على عهدهم وأمناهم، فيجب علينا أن نستقيم لهم، لقوله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
وقسم خانوا ونقضوا العهد، فهؤلاء لا عهد لهم، لقوله تعالى:{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12] .
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . . . . .
ــ
وقسم ثالث يظهرون الاستقامة لنا، لكننا نخاف من خيانتهم، بمعنى أنه توجد قرائن تدل على أنهم يريدون الخيانة، فهؤلاء قال الله فيهم:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، أي: انبذ إليهم عهدهم، فقل: لا عهد بيننا وبينكم.
فإذا قال قائل: كيف ينبذ العهد إليهم وهم معاهدون؟!
قلنا: لخوف الخيانة، فهؤلاء لا نأمنهم، لأنه يمكن في يوم من الأيام أن يصبحونا، فهؤلاء ننبذ إليهم على سواء، ولا نخونهم ما دام العهد قائمًا، لأنه لو قال المسلمون: نحن نخاف منهم الخيانة، سنبادرهم بالقتال. قلنا: هذا حرام، لا تقاتلوهم حتى تنبذوا إليهم العهد.
* وقوله: {الْمُتَّقِينَ} : المتقون هم الذين اتخذوا وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، هذا من أحسن وأجمع ما يقال في تعريف التقوى.
وفي الآية من الأسماء والصفات كالتي قبلها.
الآية الرابعة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] .
* التواب: صيغة مبالغة من التوبة، وهو كثير الرجوع إلى الله، والتوبة هي الرجوع إلى الله من معصيته إلى طاعته.
وشروطها خمسة:
الأول: الإخلاص لله تعالى بأن يكون الحامل له على التوبة مخافة الله ورجاء ثوابه.
الثاني: الندم على ما فعل من الذنب، وعلامة ذلك أن يتمنى أنه لم يقع منه.
وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ......
ــ
الثالث: الإقلاع عن الذنب، بتركه إن كان محرمًا، أو تداركه إن كان واجبًا يمكن تداركه.
الرابع: العزم على أن لا يعود إليه.
الخامس: أن تكون في وقت تقبل فيه التوبة، وهو ما كان قبل حضور الموت وطلوع الشمس من مغربها، فإن كانت بعد حضور الموت أو بعد طلوع الشمس من مغربها، لم تقبل.
فالتواب: كثير التوبة.
ومعلوم أن كثرة التوبة تسلتزم كثرة الذنب، ومن هنا نفهم بأن الإنسان مهما كثر ذنبه، إذا أحدث لكل ذنب توبة، فإن الله تعالى يحبه، والتائب مرة واحدة من ذنب واحد محبوب إلى الله عز وجل من باب أولى، لأن من كثرت ذنوبه وكثرت توبته يحبه الله، فمن قلت ذنوبه، كانت محبة الله له بالتوبة من باب أولى.
* وقوله: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} : الذين يتطهرون من الأحداث ومن الأنجاس في أبدانهم وما يجب تطهيره.
وهنا جمع بين طهارة الظاهر وطهارة الباطن: طهارة الباطن بقوله: {التَّوَّابِينَ} ، والظاهر بقوله:{الْمُتَطَهِّرِينَ} .
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها.
الآية الخامسة: قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] .
يسمي علماء السلف هذه الآية: آية المحنة، يعني الامتحان، لأن قومًا ادعوا أنهم يحبون الله فأمر الله نبيه أن يقول لهم:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} ، وهذا تحدٍ لكل من ادعى محبة الله، أن يقال له: إن كنت
وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ....
ــ
صادقًا في محبة الله، فاتبع الرسول، فمن أحدث في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس منه، وقال: إنني أحب الله ورسوله بما أحدثته، قلنا له: هذا كذب؛ لو كانت محبتك صادقة لاتبعت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم تتقدم بين يديه بإدخال شيء في شريعته ليس من دينه، فكل من كان أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كان لله أحب.
وإذا أحب الله وقام بعبادته، فإن الله تعالى يحبه، بل إن الله عز وجل يعطيه أكثر مما عمل، يقول تعالى في الحديث القدسي:«من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» ونفس الله أعظم من نفوسنا. «ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه» . وفي الحديث أيضًا: «أن من تقرب إليه شبرًا تقرب الله إليه ذراعًا، ومن تقرب إليه ذراعًا، تقرب إليه باعًا، ومن أتى إلى الله يمشي، أتاه الله هرولة» . (1)
إذا فعطاء الله عز وجل وثوابه أكثر من عملك.
وفي الآية من الأسماء والصفات مما سبق في التي قبلها.
الآية السادسة: قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54] .
* الفاء واقعة في جواب الشرط في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، أي: إذا ارتددتم عن دين الله فإن ذلك لا يضر الله شيئًا، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ،
(1) رواه البخاري/ كتاب التوحيد/ باب قوله تعالى: "ويحذركم الله نفسه"، ومسلم/ كتاب الذكر والدعاء/ باب الحث على باب الحث على ذكر الله تعالى.
وهذا كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] .
* فكل من ارتد عن دين الله، فإن الله لا يعبأ به؛ لأنه تعالى غني عنه، بل يزيله ويأتي بخير منه، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} بدل منهم {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، وإذا كانوا يحبون الله ويحبهم الله فسوف يقومون بطاعته.
*وتمام الآية: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} : أما المؤمنين أذلة، يخفضون أجنحتهم للمؤمنين، ويلينون لهم، ويتطامنون، ومع الكفار أعزة أقوياء، لا يظهرون الذل أمام الكافر أبدًا.
وقد علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام: «وإذا لقيتموهم في طريق، فاضطروهم إلى أضيقه» (1) فإذا لاقاكم اليهود والنصارى، ولو كانوا ألفًا وأنتم عشرة، نشق هذا الجمع، ولا نفسح لهم الطريق، بل نلجئهم إلى أضيقه، فنريهم العز بديننا لا بأنفسنا؛ لأننا نحن بشر وهم بشر، حتى يتبين لهم أن دين الإسلام هو الظاهر، وأن المتمسك به هو العزيز.
{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} : يجاهدون في سبيل الله كل من قام ضد دين الله من كافر وفاسق وملحد ومارق يجاهدونه، وكل إنسان يقابلونه من السلاح بما يليق به، فمن قاتلهم بالحديد والنار، قاتلوه بالحديد والنار، ومن قاتلهم بالجدال والخصام الكلامي، جادلوه بمثل ذلك، فهم يجاهدون في الله بكل نوع من أنواع الجهاد.
(1) رواه مسلم/ كتاب السلام/ باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام.
وقوله: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص} (1) ......
ــ
{وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} : لا يخافون نقد الناس عليهم، يقولون الحق ولو كان على أنفسهم.
لكنهم يستعملون الحكمة في هذا الجهاد ويرومون الوصول إلى الغاية، فإذا رأوا أن الدعوة تستوجب التأخر في بعض الأمور تأخروا، وإذا رأوا أن الدعوة تقتضي اللين في بعض الأحوال استعملوه؛ لأنهم يريدون الوصول إلى غاية معينة، والوسيلة حسب ما تقتضيه الحال.
* ثم قال الله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها، وزيادة أن الله تعالى يكون محبوبًا.
الآية السابعة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] .
*هذه الآية في سورة الصف، وسورة الصف في الحقيقة هي سورة الجهاد؛ لأن الله تعالى بدأها بالثناء على المقاتلين في سبيله، ثم دعا إلى الجهاد في آخرها، ثم ذكر بين ذلك أن الله سيظهر دينه على كل الأديان ولو كره المشركون.
* {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} : لا يتقدم أحد على أحد ولا يتأخر، حتى في الجهاد.
والصلاة جهاد مصغر، فيها قائد يجب اتباعه، فإن لم تتبعه، بطلت
صلاتك، قال النبي- صلى الله عليه وسلم:«أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار» (1) ، والصف في الصلاة نظير الصف في الجهاد، وكان الرسول- عليه الصلاة والسلام يصفهم في الجهاد كما يصفهم في الصلاة " «كأنهم بنيان» والبنيان كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام:«يشد بعضه بعضا» ، (2) يتماسك بعضه ببعض؛ ولهذا قال:{كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} ، فليس كالمفرق: فالمرصوص أشد تماسكًا.
فهؤلاء الذين علق الله المحبة لهم بأعمالهم لهم عدة صفات:
أولًا: يقاتلون، فلا يركنون إلى الخلود والخمول والكسل والجمود الذي يضعف الدين والدنيا.
ثانيًا: الإخلاص، لقوله:{فِي سَبِيلِهِ} .
ثالثًا: يشد بعضهم بعضًا، لقوله:{صَفًّا} .
رابعًا: أنهم كالبنيان، والبنيان حصن منيع.
خامسًا: لا يتخللهم ما يمزقهم، لقوله:{مَرْصُوصٌ} .
هذه خمس صفات علق الله المحبة لهؤلاء عليها.
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها.
(1) رواه البخاري/ كتاب الأذان/ باب أثم من رفع رأسه قبل الإمام، ومسلم/ كتاب الصلاة/ باب تحريم سبق الإمام.
(2)
رواه البخاري/ كتاب الآداب/ باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً.، ومسلم كتاب البر والصلة/ باب تراحم المؤمنين.
وقوله: {وهو الغفور الودود} ....
ــ
الآية الثامنة: قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14] .
{الْغَفُورُ} : الساتر لذنوب عباده المتجاوز عنها.
{الْوَدُودُ} مأخوذ من الود، وهو خالص المحبة، وهي بمعنى: واد، وبمعنى: مودود؛ لأنه عز وجل محب ومحبوب، كما قال تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، فالله عز وجل واد ومودود، واد لأوليائه، وأولياؤه يودونه يحبونه، يحبون الوصول إليه وإلى جنته ورضوانه.
وفي الآية اسمان من أسماء الله: الغفور، والودود، وصفتان: المغفرة، والود.
وأتمنى لو أن المؤلف أضاف آية تاسعة في المحبة، وهي الخلة، لقوله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] ، والخليل هو من كان في أعلى المحبة، فالخلة أعلى أنواع المحبة؛ لأن الخليل هو الذي وصل حبه إلى سويداء القلب وتخلل مجاري عروقه، وليس فوق الخلة شيء من أنواع المحبة أبدًا.
يقول الشاعر لمعشوقته:
قد تخللت مسلك الروح مني
…
وبذا سمي الخليل خليلًا
فالنبي عليه الصلاة والسلام يحب أصحابه كلهم، لكن ما اتخذ واحدًا منهم خليلًا أبدًا، قال النبي -عليه الصلاة -وهو يخطب الناس:«لو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر» (1) إذًا، أبو بكر هو أحب الناس
(1) رواه مسلم/ كتاب فضائل الصحابة/ باب فضائل أبي بكر الصديق.
إليه، لكن لم يصل إلى درجة الخلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتخذ أحدًا خليلًا، لكن أخوة الإسلام ومودته، وأما الخلة فهي بينه وبين ربه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا» . (1)
والخلة لا نعلم أنها ثبتت لأحد من البشر إلا لاثنين، هما إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله اتخذني خليلًا» .
وهذه الخلة صفة من صفات الله عز وجل؛ لأنها أعلى أنواع المحبة، وهي توقيفية، فلا يجوز أن نثبت لأحد من البشر أنه خليل إلا بدليل، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا هذين الرسولين الكريمين، فهما خليلان لله عز وجل.
وهذه الآية: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} هي التي استشهد بها من قتل الجعد بن درهم رأس المعطلة الجهمية، أول ما أنكر قال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلم موسى تكليمًا، فقتله خالد بن عبد الله القسري رحمه الله، حيث خرج به موثقًا في يوم عيد الأضحى، وخطب الناس، وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، ثم نزل فذبحه.
ويقول ابن القيم في ذلك:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد
…
القسري يوم ذبائح القربان
(1) رواه مسلم (532) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
فلدينا الآن محبة وود وخلة، فالمحبة والود مطلقة، والخلة خاصة بإبراهيم ومحمد.
ويجب أن يكون اعتمادنا في الأمور الغيبية على الأدلة السمعية، لكن لا مانع من أن نستدل بأدلة عقلية؛ لإلزام من أنكر أن تكون المحبة ثابتة بالأدلة العقلية، مثل الأشاعرة، يقولون: لا يمكن أن تثبت المحبة بين الله وبين العبد أبدًا؛ لأن العقل لا يدل عليها، وكل ما لا يدل عليه العقل فإنه يجب أن ننزه الله عنه.
فنحن نقول: نثبت المحبة بالأدلة العقلية، كما هي ثابتة عندنا بالأدلة السمعية؛ احتجاجًا على من أنكر ثبوتها بالعقل، فنقول وبالله التوفيق:
إثابة الطائعين بالجنات والنصر والتأييد وغيره، هذا يدل بلا شك على المحبة، ونحن نشاهد بأعيننا ونسمع بآذاننا عمن سبق وعمن لحق أن الله عز وجل أيد من أيد من عباده المؤمنين ونصرهم وأثابهم، وهل هذا إلا دليل على المحبة لمن أيدهم ونصرهم وأثابهم عز وجل؟!
وهنا سؤالان:
الأول: بماذا ينال الإنسان محبة الله عز وجل؟ وهذه هي التي يطلبها كل إنسان، والمحبة عبارة عن أمر فطري يكون في الإنسان ولا يملكه؛ ولهذا يروى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في العدل بين زوجاته:
«هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك» . (1)
فالجواب: أن المحبة لها أسباب كثيرة:
منها: أن ينظر الإنسان: من الذي خلقه؟ ومن الذي أمده بالنعم منذ كان في بطن أمه؟ ومن الذي أجرى إليك الدم في عروقك قبل أن تنزل إلى الأرض إلا الله عز وجل؟ من الذي دفع عنك النقم التي انعقدت أسبابها، وكثيرًا ما تشاهد بعينك آفات ونقمًا تهلكك، فيرفعها الله عنك؟
وهذا لا شك أنه يجلب المحبة؛ ولهذا ورد في الأثر: «أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم» . (2)
وأعتقد لو أن أحدًا أهدى إليك قلمًا لأحببته، فإذا كان كذلك، فأنت انظر نعمة الله عليك النعم العظيمة الكثيرة التي لا تحصيها، تحب الله.
ولهذا إذا جاءت النعمة وأنت في حاجة شديدة إليها، تجد قلبك ينشرح، وتحب الذي أسداها إليك، بخلاف النعم الدائمة، فأنت تذكر هذه النعم التي أعطاك الله، وتذكر أيضًا أن الله فضلك على كثير من عباده المؤمنين، إن كان الله من عليك بالعلم فقد فضلك بالعلم، أو بالعبادة فقد فضلك بالعبادة، أو بالمال فقد فضلك بالمال، أو بالأهل فقد فضلك بالأهل، أو بالقوت فقد فضلك بالقوت، وما من نعمة إلا وتحتها ما هو دونها، فأنت إذا رأيت هذه النعمة العظيمة، شكرت الله وأحببته.
(1) رواه أحمد (6/144) .
(2)
رواه الترمذي/ كتاب المناقب (3789) ، والحاكم (2/150)
ومنها: محبة ما يحبه الله من الأعمال القولية والفعلية والقلبية، تحب الذي يحبه الله، فهذا يجعلك تحب الله؛ لأن الله يجازيك على هذا أن يضع محبته في قلبك، فتحب الله إذا قمت بما يحب، وكذلك تحب من يحب، والفرق بينهما ظاهر، الأخيرة من الأشخاص، والأولى من الأعمال؛ لأننا أتينا بـ (ما) التي لغير العاقل من الأعمال والأماكن والأزمان، وهذه (من) للعاقل من الأشخاص، تحب النبي عليه الصلاة والسلام، تحب إبراهيم، تحب موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، تحب الصديقين، كأبي بكر، والشهداء، وغير ذلك ممن يحبهم الله؛ فهذا يجلب لك محبة الله، وهو أيضًا من أثار محبة الله، فهو سبب وأثر.
ومنها: كثرة ذكر الله، بحيث يكون دائمًا على بالك، حتى تكون كلما شاهدت شيئًا، استدللت به عليه عز وجل، حتى يكون قلبك دائمًا مشغولًا بالله، معرضًا عما سواه، فهذا يجلب لك محبة الله عز وجل.
وهذه الأسباب الثلاثة هي عندي من أقوى أسباب محبة الله عز وجل.
السؤال الثاني: ما هي الآثار المسلكية التي يستلزمها ما ذكر؟
والجواب:
أولًا: قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] :يقتضي أن نحسن، وأن نحرص على الإحسان؛ لأن الله يحبه، وكل شيء يحبه الله فإننا نحرص عليه.
ثانيًا: قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] يقتضي أن نعدل ونحرص على العدل.
ثالثًا: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] : يقتضي أن نتقي الله عز وجل، لا نتقي المخلوقين بحيث إذا كان عندنا من نستحي منه من الناس، تركنا المعاصي، وإذا لم يكن، عصينا، فالتقوى أن نتقي الله عز وجل، ولا يهمك الناس. أصلح ما بينك وبين الله، يصلح الله ما بينك وبين الناس. انظر يا أخي إلى الشيء الذي بينك وبين ربك، ولا يهمك غير ذلك؛ {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] افعل ما يقتضيه الشرع، وستكون لك العاقبة.
رابعًا: يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] وهذه تستوجب أن أكثر التوبة إلى الله عز وجل، أكثر أن أرجع إلى الله بقلبي وقالبي، ومجرد قول الإنسان: أتوب إلى الله. هذا قد لا ينفع، لكن تستحضر وأنت تقول:" أتوب إلى الله "أن بين يديك معاصي، ترجع إلى الله منها وتتوب؛ حتى تنال بذلك محبة الله.
{وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] إذا غسلت ثوبك من النجاسة، تحس بأن الله أحبك؛ لأن الله يحب المتطهرين؛ إذا توضأت تحس بأن الله أحبك؛ لأنك تطهرت؛ إذا اغتسلت تحس أن الله أحبك؛ لأن الله يحب المتطهرين....
ووالله إننا لغافلون عن هذه المعاني، أكثر ما نستعمل الطهارة من النجاسة أو من الأحداث، لأنها شرط لصحة الصلاة؛ خوفًا من أن تفسد صلاتنا، لكن يغيب عنا كثيرًا أن نشعر بأن هذا قربة وسبب لمحبة الله لنا، لو كنا نستحضر عندما يغسل الإنسان نقطة بول أصابت ثوبه أن ذلك يجلب محبة الله له لحصلنا خيرًا كثيرًا، لكننا في غفلة.
خامسًا: قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] هذا أيضًا يستوجب أن نحرص غاية الحرص على اتباع النبي- صلى الله عليه وسلم بحيث نترسم طريقه، لا نخرج منه، ولا نقصر عنه، ولا نزيد ولا ننقص.
وشعورنا هذا يحمينا من البدع، ويحمينا من التقصير، ويحمينا من الزيادة والغلو، ولو أننا نشعر بهذه الأمور، فانظر كيف يكون سلوكنا آدابنا وأخلاقنا وعباداتنا.
سادسًا: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] نحذر به من الردة عن الإسلام، التي منها ترك الصلاة مثلًا، فإذا علمنا أن الله يهددنا بأننا إن ارتددنا عن ديننا أهلكنا الله، وأتى بقوم يحبهم ويحبونه، ويقومون بواجبهم نحو ربهم، فإننا نلازم طاعة الله والابتعاد عن كل ما يقرب للردة.
سابعًا: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] .
إذا آمنا بهذه المحبة، فعلنا هذه الأسباب الخمسة التي تستلزمها وتوجبها: القتال، وعدم التواني، والإخلاص، بأن يكون في سبيل الله، أن يشد بعضنا بعضًا كأننا بنيان، أن نحكم الرابطة بيننا إحكامًا قويًا كالبنيان المرصوص، أن نصف، وهذا يقتضي التساوي حسًا، حتى لا تختلف القلوب، وهو مما يؤكد الألفة، والإنسان إذا رأى واحدًا عن يمينه وواحدًا عن يساره، يقوى على الإقدام، لكن لو يحيطون به من جميع الجوانب، فستشتد همته.
فصار في هذه الآيات ثلاثة مباحث:
1 -
إثبات المحبة بالأدلة السمعية.
2 -
أسبابها.
3 -
الآثار المسلكية في الإيمان بها.
أما أهل البدع الذين أنكروها، فليس عندهم إلا حجة واهية، يقولون:
أولًا: إن العقل لا يدل عليها.
ثانيًا: إن المحبة إنما تكون بين اثنين متجانسين، لا تكون بين رب ومخلوق أبدًا، ولا بأس أن تكون بين المخلوقات. ونحن نرد عليهم فنقول:
نجيبكم عن الأول - وهو أن العقل لا يدل عليها - بجوابين: أحدهما: بالتسليم، والثاني: بالمنع.
التسليم: نقول: سلمنا أن العقل لا يدل على المحبة، فالسمع دل عليها، وهو دليل قائم بنفسه، والله عز وجل يقول في القرآن:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ،فإذا كان تبيانًا، فهو دليل قائم بنفسه، "وانتفاء الدليل المعين لا يلزم منه انتفاء المدلول"؛ لأن المدلول قد يكون له أدلة متعددة، سواء الحسيات أو المعنويات:
فالحسيات: مثل بلد له عدة طرق توصل إليه، فإذا انسد طريق، ذهبنا مع الطريق الثاني.
وقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (1) ................................................ {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} (1) .............................................
ــ
أما المعنويات، فكم من حكم واحد يكون له عدة أدلة، وجوب الطهارة للصلاة مثلًا فيه أدلة متعددة.
فإذًا،إذا قلتم: إن العقل لا يدل على إثبات المحبة بين الخالق والمخلوق، فإن السمع دل عليه بأجلى دليل وأوضح بيان.
الجواب الثاني: المنع؛ أن نمنع دعوى أن العقل لا يدل عليها، ونقول: بل العقل دل على إثبات المحبة بين الخالق والمخلوق، كما سبق.
وأما قولكم: إن المحبة لا تكون إلا بين متجانسين، فيكفي أن نقول: لا قبول لدعواكم؛ لأن المنع كاف في رد الحجة، إذ إن الأصل عدم الثبوت، فنقول: دعواكم أنها لا تكون إلا بين متجانسين ممنوع، بل هي تكون بين غير المتجانسين، فالإنسان عنده ساعة قديمة ما أتعبته بالصيانة وما فسدت عليه قط فتجده يحبها، وعنده ساعة تأخذ نصف وقته في التصليح فتجده يبغضها. وأيضًا نجد أن البهائم تحب وتحب.
فنحن - ولله الحمد - نثبت لله المحبة بينه وبين عباده.
صفة الرحمة
(1)
هذه آيات في إثبات صفة الرحمة:
الآية الأولى: قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] .
هذه آية أتى بها المؤلف ليثبت حكمًا، وليست مقدمة لما بعدها، وقد سبق لنا شرح البسملة، فلا حاجة إلى إعادته.
وفيها من أسماء الله ثلاثة: الله، الرحمن، الرحيم. ومن صفاته:
الألوهية، والرحمة (1) الآية الثانية: قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] . هذا يقوله الملائكة: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7] .
ما أعظم الإيمان وأعظم فائدته!
الملائكة حول العرش يحملونه، يدعون الله للمؤمن.
*وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً} : يدل على أن كل شيء وصله علم الله، وهو واصل لكل شيء، فإن رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} .
وهذه هي الرحمة العامة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفار؛ لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكل ما بلغه علم الله، وعلم الله بالغ لكل شيء، فقد بلغته رحمته، فكما يعلم الكافر، يرحم الكافر أيضًا.
لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يرزق الكافر هو الله الذي يرزقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك.
أما المؤمنون، فرحمتهم رحمة أخص من هذه وأعظم؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية.
ولهذا تجد المؤمن أحسن حالًا من الكافر، حتى في أمور الدنيا؛ لأن الله يقول:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}
{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (1) ......................................................
ــ
[النحل: 97] الحياة الطيبة هذه مفقودة بالنسبة للكفار، حياتهم كحياة البهائم، إذا شبع روث، وإذا لم يشبع جلس يصرخ،هكذا هؤلاء الكفار، إن شبعوا بطروا، وإلا جلسوا يصرخون ولا يستفيدون من دنياهم، لكن المؤمن إن أصابته سراء شكر، فهو في خير في هذا وفي هذا، وقلبه منشرح مطمئن متفق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء، بل هو متوازن مستقيم معتدل. فهذا فرق ما بين الرحمة هذه وهذه.
لكن مع الأسف الشديد أيها الأخوة: إن منا أناسًا آلافًا يريدون أن يلحقوا بركب الكفار في الدنيا، حتى جعلوا الدنيا هي همهم، إن أعطوا رضوا، وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون هؤلاء، مهما بلغوا في الرفاهية الدنيوية فهم في جحيم، لم يذوقوا لذة الدنيا أبدًا، إنما ذاقها من آمن بالله وعمل صالحًا؛ ولهذا قال بعض السلف: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. لأنه حال بينهم وبين هذا النعيم ما هم عليه من الفسوق والعصيان والركون إلى الدنيا، وأنها أكبر همهم ومبلغ علمهم.
قوله: {رَحْمَةً وَعِلْمًا) : (رَحْمَةً} : تمييز محول عن الفاعل، وكذلك {وَعِلْمًا} ؛ لأن الأصل: ربنا وسعت رحمتك وعلمك كل شيء.
وفي الآية من صفات الله: الربوبية،وعموم الرحمة، والعلم.
(1)
الآية الثالثة: قوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] .
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (1) . {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (2) .................
ــ
* {بِالْمُؤْمِنِينَ} : متعلق بـ (رحيم) ، وتقديم المعمول يدل على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرهم رحيمًا.
ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7] ؟
نقول: الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك، هذه رحمة خاصة متصلة برحمة الآخرة لا ينالها الكفار، بخلاف الأولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا فكل مرحوم، لكن فرق بين الرحمة الخاصة والرحمة العامة.
وفي الآية من الصفات: الرحمة.
ومن الناحية المسلكية: الترغيب في الإيمان.
(1)
الآية الرابعة: قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156 (يقول جل جلاله ممتدحًا مثنيًا على نفسه {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ، فأثنى على نفسه عز وجل بأن رحمته وسعت كل شيء من أهل السماء ومن أهل الأرض.
ونقول فيها ما قلنا في الآية الثانية، فليرجع إليه.
(2)
الآية الخامسة: قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] .
* {كَتَبَ} : بمعنى: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عز وجل لكرمه وفضله وجوده أوجب على نفسه الرحمة، وجعل رحمته سابقه لغضبه، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] ، لكن حلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمى.
*ومن رحمته ما ذكره بقوله:
{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) .......................
ــ
{أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] : هذه من رحمته.
* {سُوءًا} : نكرة في سياق الشرط، فتعم كل سوء، حتى الشرك.
* {بِجَهَالَةٍ} : يعني: بسفه، وليس المراد بها عدم العلم، والسفه عدم الحكمة؛ لأن كل من عصى الله فقد عصاه بجهالة وسفه وعدم حكمة.
{ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : فيغفر ذنبه ويرحمه.
ولم يختم الآية بهذا، إلا سينال التائب المغفرة والرحمة، هذا من رحمته التي كتبها على نفسه، وإلا لكان مقتضى العدل أن يؤاخذه على ذنبه، ويجزيه على عمله الصالح.
فلو أن رجلًا أذنب خمسين يومًا، ثم تاب وأصلح خمسين يومًا، فالعدل أن نعذبه عن خمسين يومًا، ونجازيه بالثواب عن خمسين يومًا، لكن الله عز وجل كتب على نفسه الرحمة، فكل الخمسين يومًا التي ذهبت من السوء تمحى وتزول بساعة، وزد على ذلك:{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ؛السيئات الماضية تكون حسنات؛ لأن كل حسنة عنها توبة، وكل توبة فيها أجر.
فظهر بهذا أثر قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} .
وفي الآية من صفات الله: الربوبية، والإيجاب، والرحمة.
(1)
الآية السادسة: قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] .
* الله عز وجل هو الغفور الرحيم، جمع عز وجل بين هذين الاسمين؛ لأن بالمغفرة سقوط عقوبة الذنوب، وبالرحمة حصول المطلوب، والإنسان مفقتر إلى هذا وهذا، ومفتقر إلى مغفرة ينجو بها من آثامه، ومفتقر إلى رحمة يسعد بها بحصول مطلوبة.
{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (1) ..........................................
ــ
فـ {الْغَفُورُ} : صيغة مبالغة مأخوذة من الغفر، وهو الستر مع الوقاية؛ لأنه مأخوذ من المغفر، والمغفر شيء يوضع على الرأس في القتال يقي من السهام، وهذا المغفر تحصل به فائدتان هما: ستر الرأس،والوقاية. فـ {الْغَفُورُ} : الذي يستر ذنوب عباده ويقيهم آثامها بالعفو عنها.
ويدل على هذا ما ثبت في الصحيح: «أن الله عز وجل يخلو يوم القيامة بعبده، ويقرره بذنوبه، يقول: عملت كذا، وعملت كذا.. حتى يقر، فيقول الله عز وجل له: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم» . (1)
*أما {الرَّحِيمُ} :فهو ذو الرحمة الشاملة.وسبق الكلام في ذلك.
(1)
الآية السابعة: قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]، قالها عن يعقوب حين أرسل مع أبنائه أخا يوسف الشقيق؛ لأن يوسف عليه الصلاة والسلام قال: لا كيل لكم إذا رجعتم، إلا إذا أتيتم بأخيكم، فبلغوا والدهم هذه الرسالة، ومن أجل الحاجة أرسله معهم، وقال لهم عند وداعه:{هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64] يعني: لن تحفظوه، لكن الله هو الذي يحفظه.
* {خَيْرٌ حَافِظًا} : حَافِظًا: قال العلماء: إنها تمييز، كقول
(1) رواها لبخاري/ كتاب المظالم/ باب قوله تعالى: "ألا لعنة الله على الظالمين"، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب قبول توبة القاتل.
العرب: لله دره فارسًا. وقيل: إنها حال من فاعل {خَيْرٌ} في قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ} ، أي: حال كونه حافظًا.
الشاهد من الآية هنا قوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، حيث أثبت الله عز وجل الرحمة، بل بين أنه أرحم الراحمين، لو جمعت رحمة الخلق كلهم، بل رحمات الخلق كلهم، لكانت رحمة الله أشد وأعظم.
أرحم ما يكون من الخلق بالخلق رحمة الأم ولدها، فإن رحمة الأم ولدها لا يساويها شيء من رحمة الناس أبدًا، حتى الأب لا يرحم أولاده مثل أمهم في الغالب.
جل جلاله، عز ملكه وسلطانه.
كل الراحمين إذا جمعت رحماتهم كلهم، فليست بشيء عند رحمة الله.
ويدلك على هذا أن الله عز وجل خلق مئة رحمة، وضع منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلائق في الدنيا. (2)
(1) رواه البخاري/ كتاب الأدب/ باب رحمة الولد، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب في سعة رحمة الله.
(2)
رواه البخاري/ كتاب الأدب/ باب جعل الله الرحمة في مائة جزء، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب في سعة رحمة الله.
كل الخلائق تتراحم، البهائم والعقلاء؛ ولهذا تجد البعير الجموح الرموح ترفع رجلها عن ولدها مخافة أن تصيبه عندما يرضع،حتى يرضع بسهولة ويسر، وكذلك تجد السباع الشرسة تجدها تحن على ولدها وإذا جاءها أحد في جحرها مع أولادها، ترمي نفسها عليه، فتدافع عنهم، حتى ترده عن أولادها.
وقد دل على ثبوت رحمة الله تعالى: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل:
فأما الكتاب، فجاء به إثبات الرحمة على وجوه متنوعة: تارة بالاسم، كقوله:{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] وتارة بالصفة، كقوله:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58] وتارة بالفعل، كقوله:{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21] وتارة باسم التفضيل، كقوله:{وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] .
وبمثل هذه الوجوه جاءت السنة.
وأما الأدلة العقلية على ثبوت الرحمة لله تعالى، فمنها ما نرى من الخيرات الكثيرة التي تحصل بأمر الله عز وجل، ومنها ما نرى من النقم الكثيرة التي تندفع بأمر الله، كله دال على إثبات الرحمة عقلًا.
فالناس في جدب وفي قحط، الأرض مجدبة، والسماء قاحطة، لا مطر، ولا نبات، فينزل الله المطر، وتنبت الأرض، وتشبع الأنعام، ويسقي الناس.. حتى العامي الذي لم يدرس، لو سألته وقلت: هذا من أي شيء؟ فسيقول: هذا من رحمة الله،ولا يشك أحد في هذا أبدًا.
فرحمة الله عز وجل ثابتة بالدليل السمعي والدليل العقلي.
وأنكر الأشاعرة وغيرهم من أهل التعطيل أن يكون الله تعالى متصفًا بالرحمة، قالوا: لأن العقل لم يدل عليها. وثانيًا: لأن الرحمة رقة وضعف وتطامن للمرحوم، وهذا لا يليق بالله عز وجل؛ لأن الله أعظم من أن يرحم بالمعنى الذي هو الرحمة، ولا يمكن أن يكون لله رحمة!! وقالوا: المراد بالرحمة: إرادة الإحسان، أو: الإحسان نفسه، أي: إما النعم، أو إرادة النعم.
فتأمل الآن كيف سلبوا هذه الصفة العظيمة التي كل مؤمن يرجوها ويؤملها، كل إنسان لو سألته: ماذا تريد؟ قال: أريد رحمة الله {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] . أنكروا هذا، قالوا: لا يمكن أن يوصف الله بالرحمة!!
ونحن نرد عليهم قولهم من وجهين: بالتسليم، والمنع:
التسليم أن نقول: هب أن العقل لا يدل عليها، ولكن السمع دل عليها، فثبتت بدليل آخر، والقاعدة العامة عند جميع العقلاء: أن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول؛ لأنه قد يثبت بدليل آخر. فهب أن الرحمة لم تثبت بالعقل، لكن ثبتت بالسمع، وكم من أشياء ثبتت بأدلة كثيرة.
أما المنع، فنقول: إن قولكم: إن العقل لا يدل على الرحمة: قول باطل، بل العقل يدل على الرحمة، فهذه النعم المشهودة والمسموعة، وهذه النقم المدفوعة، ما سببها؟ إن سببها الرحمة بلا شك، ولو كان الله لا
يرحم العباد، ما أعطاهم النعم، ولا دفع عنهم النقم!
وهذا أمر مشهود، يشهد به الخاص والعام، العامي في دكانه أو سوقه يعرف أن هذه النعم من آثار الرحمة.
والعجيب أن هؤلاء القوم أثبتوا صفة الإرادة عن طريق التخصيص، قالوا: الإرادة ثابتة لله تعالى بالسمع والعقل: بالسمع: واضح. وبالعقل: لأن التخصيص يدل على الإرادة، ومعنى التخصيص يعني تخصيص المخلوقات بما هي عليه يدل على الإرادة، كون هذه السماء سماء، وهذه الأرض أرضًا، وهذه النجوم وهذه الشمس
…
هذه مختلفة بسبب الإرادة، أراد الله أن تكون السماء سماء، فكانت، وأن تكون الأرض أرضًا، فكانت، والنجم نجمًا، فكان.... وهكذا.
قالوا: فالتخصيص يدل على الإرادة؛ لأنه لولا الإرادة لكان الكل شيئًا واحدًا!
نقول لهم: يا سبحان الله العظيم! هذا الدليل على الإرادة بالنسبة لدلالة النعم على الرحمة أضعف وأخفى من دلالة النعم على الرحمة؛ لأن دلالة النعم على الرحمة يستوي في علمها العام والخاص، ودلالة التخصيص على الإرادة لا يعرفها إلا الخاص من طلبة العلم، فكيف تنكرون ما هو أجلى وتثبتون ما هو أخفى؟! وهل هذا إلا تناقض منكم؟!
ما نستفيده من الناحية المسلكية في هذه الآيات:
الأمر المسلكي: هو أن الإنسان ما دام يعرف أن الله تعالى رحيم، فسوف يتعلق برحمة الله، ويكون منتظرًا لها، فيحمله هذا الاعتقاد على
وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (1) ..........................................
ــ
فعل كل سبب يوصل إلى الرحمة؛ مثل: الإحسان، قال الله تعالى فيه:{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] والتقوى، قال تعالى:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156] ،والإيمان، فإنه من أسباب رحمة الله، كما قال تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] وكلما كان الإيمان أقوى، كانت الرحمة إلى صاحبه أقرب بإذن الله عز وجل.
صفة الرضى
هذه من آيات الرضى، فالله سبحانه وتعالى موصوف بالرضى، وهو يرضى عن العمل، ويرضى عن العامل.
يعني: أن رضى الله متعلق بالعمل وبالعامل.
أما بالعمل، فمثل قوله تعالى:{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] أي: يرض الشكر لكم.
وكما في قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وكما في الحديث الصحيح: "إن «الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا»
…
".
فهذا الرضى متعلق بالعمل.
ويتعلق الرضى أيضًا بالعامل، مثل هذه الآية التي ساقها المؤلف:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] .
فرضى الله صفة ثابتة لله عز وجل، وهي في نفسه، وليست شيئًا منفصلًا عنه كما يدعيه أهل التعطيل.
ولو قال لك قائل: فسر لي الرضى. لم تتمكن من تفسيره؛ لأن الرضى صفة في الإنسان غريزية، والغرائز لا يمكن لإنسان أن يفسرها بأجلى وأوضح من لفظها. فنقول: الرضى صفة في الله عز وجل، وهي صفة حقيقية، متعلقة بمشيئته، فهي من الصفات الفعلية، يرضى عن المؤمنين،وعن المتقين،وعن المقسطين وعن الشاكرين، ولا يرضى عن القوم الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يرضى عن المنافقين، فهو سبحانه وتعالى يرضى عن أناس ولا يرضى عن أناس، ويرضى أعمالًا ويكره أعمالًا.
ووصف الله تعالى بالرضى ثابت بالدليل السمعي، كما سبق، وبالدليل العقلي، فإن كونه عز وجل يثيب الطائعين ويجزيهم على أعمالهم وطاعاتهم يدل على الرضى.
فإن قلت: استدلالك بالمثوبة على رضى الله عز وجل قد ينازع فيه؛ لأن الله سبحانه قد يعطي الفاسق من النعم أكثر مما يعطي الشاكر. وهذا إيراد قوي.
ولكن الجواب عنه أن يقال: إعطاؤه الفاسق المقيم على معصيته استدراج، وليس عن رضى:
كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182-183] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه، لم يفلته» ، وتلا قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} (1) ...................................................................................
ــ
[هود: 102] .
وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44-45] .
أما إذا جاءت المثوبة والإنسان مقيم على طاعة الله، فإننا نعرف أن ذلك صادر عن رضى الله عنه.
آيات صفات الغضب والسخط والكراهية والبغض
ذكر المؤلف رحمه الله -في هذه الصفات خمس آيات:
الآية الأولى: قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] .
* {وَمَنْ} : شرطية. و (من) الشرطية تفيد العموم.
{مُؤْمِنًا} : هو من آمن بالله ورسوله، فخرج به الكافر والمنافق.
لكن من قتل كافرًا له عهد أو ذمة أو أمان، فهو آثم، لكن لا يستحق الوعيد المذكور في الآية.
وأما المنافق فهو معصوم الدم ظاهرًا، ما لم يعلن بنفاقه.
وقوله {مُتَعَمِّدًا} : يدل على إخراج الصغير وغير العاقل؛ لأن
هؤلاء ليس لهم قصد معتبر ولا عمد، وعلى إخراج المخطئ، وقد سبق بيانه في الآية التي قبلها.
فالذي يقتل مؤمنًا متعمدًا جزاؤه هذا الجزاء العظيم.
{جَهَنَّمُ} : اسم من أسماء النار.
{خَالِدًا فِيهَا} ، أي: ماكثًا فيها.
( {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} : الغضب صفة ثابتة لله تعالى على الوجه اللائق به، وهي من صفاته الفعلية.
{وَلَعَنَهُ} : اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
فهذه أربعة أنواع من العقوبة، والخامس قوله: ( {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} .
خمس عقوبات، واحدة منها كافية في الردع والزجر لمن كان له قلب.
ولكن يشكل على منهج أهل السنة ذكر الخلود في النار، حيث رتب على القتل، والقتل ليس بكفر، ولا خلود في النار عند أهل السنة إلا بالكفر.
وأجيب عن ذلك بعدة أوجه:
الوجه الأول: أن هذه في الكافر إذا قتل المؤمن.
لكن هذا القول ليس بشيء؛ لأن الكافر جزاؤه جهنم خالدًا فيها وإن لم يقتل المؤمن: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 64-65] .
الوجه الثاني: أن هذا فيمن استحل القتل؛ لأن الذي يستحل قتل المؤمن كافر.
وعجب الإمام أحمد من هذا الجواب، قال: كيف هذا؟! إذا استحل قتله فهو كافر وإن لم يقتله، وهو مخلد في النار وإن لم يقتله.
ولا يستقيم هذا الجواب أيضًا.
الوجه الثالث: أن هذه الجملة على تقدير شرط، أي: فجزاؤه جهنم خالدًا فيها إن جازاه.
وفي هذا نظر، أي فائدة في قوله:{فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} ، ما دام المعنى إن جازاه فنحن الآن نسأل: إذا جازاه، فهل هذا جزاؤه؟ فإذا قيل: نعم، فمعناه أنه صار خالدًا في النار، فتعود المشكلة مرة أخرى، ولا نتخلص.
فهذه ثلاثة أجوبة لا تسلم من الاعتراض.
الوجه الرابع: أن هذا سبب، ولكن إذا وجد مانع لم ينفذ السبب، كما نقول: القرابة سبب للإرث، فإذا كان القريب رقيقًا، لم يرث؛ لوجود المانع وهو الرق.
ولكن يرد علينا الإشكال من وجه آخر، وهو: ما الفائدة من هذا الوعيد؟
فنقول: الفائدة أن الإنسان الذي يقتل مؤمنًا متعمدًا قد فعل السبب الذي يخلد به في النار، وحينئذ يكون وجود المانع محتملًا، قد يوجد،
وقد لا يوجد، فهو على خطر جدًا؛ ولهذا قال النبي- صلى الله عليه وسلم:«لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» . فإذا أصاب دمًا حرامًا -والعياذ بالله- فإنه قد يضيق بدينه حتى يخرج منه.
وعلى هذا، فيكون الوعيد هنا باعتبار المال؛ لأنه يخشى أن يكون هذا القتل سببًا لكفره، وحينئذ يموت على الكفر، فيخلد.
فيكون في هذه الآية على هذا التقدير ذكر سبب السبب، فالقتل عمدًا سبب لأن يموت الإنسان على الكفر، والكفر سبب للتخليد في النار.
وأظن هذا إذا تأمله الإنسان يجد أنه ليس فيه إشكال.
الوجه الخامس: أن المراد بالخلود المكث الطويل، وليس المراد به المكث الدائم؛ لأن اللغة العربية يطلق فيها الخلود على المكث الطويل كما يقال: فلان خالد في الحبس، والحبس ليس بدائم. ويقولون: فلان خالد خلود الجبال، ومعلوم أن الجبال ينسفها ربي نسفًا فيذرها قاعًا صفصفًا.
وهذا أيضًا جواب سهل لا يحتاج إلى تعب، فنقول: إن الله عز وجل لم يذكر التأبيد، لم يقل: خالدًا فيها أبدًا بل قال: {خَالِدًا فِيهَا} ، والمعنى: أنه ماكث مكثًا طويلًا.
الوجه السادس: أن يقال: إن هذا من باب الوعيد، والوعيد يجوز إخلافه؛ لأنه انتقال من العدل إلى الكرم، والانتقال من العدل إلى الكرم كرم وثناء،وأنشدوا عليه قول الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
…
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
أوعدته بالعقوبة ووعدته بالثواب، لمخلف إيعادي ومنجز موعدي.
وأنت إذا قلت لابنك: والله، إن ذهبت إلى السوق، لأضربنك بهذا العصا. ثم ذهب إلى السوق، فلما رجع، ضربته بيدك، فهذا العقاب أهون على ابنك، فإذا توعد الله عز وجل القاتل بهذا الوعيد، ثم عفا عنه، فهذا كرم.
ولكن هذا في الحقيقة فيه شيء من النظر؛ لأننا نقول: إن نفذ الوعيد، فالإشكال باق، وإن لم ينفذ، فلا فائدة منه.
هذه ستة أوجه في الجواب عن الآية، وأقربها الخامس، ثم الرابع.
مسألة: إذا تاب القاتل، هل يستحق الوعيد؟
الجواب: لا يستحق الوعيد بنص القرآن؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68-70] وهذا واضح، أن من تاب - حتى من القتل، فإن الله تعالى يبدل سيئاته حسنات.
فانظر كيف كان من بني إسرائيل فقبلت توبته، مع أن الله جعل عليهم آصارًا وأغلالًا، وهذه الأمة رفع عنها الآصار والأغلال، فالتوبة في حقها أسهل، فإذا كان هذا في بني إسرائيل، فكيف بهذه الأمة؟!
فإن قلت: ماذا تقول فيما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن القاتل ليس له توبة؟!
فالجواب: من أحد الوجهين:
إما أن ابن عباس رضي الله عنهما استبعد أن يكون للقاتل عمدًا توبة، ورأى أنه لا يوفق للتوبة، وإذا لم يوفق للتوبة، فإنه لا يسقط عنه الإثم، بل يؤاخذ به.
وإما أن يقال: إن مراد ابن عباس رضي الله عنهما: أن لا توبة له فيما يتعلق بحق المقتول؛ لأن القاتل عمدًا يتعلق به ثلاثة حقوق: حق الله، وحق المقتول، والثالث لأولياء المقتول.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} (1) ........................
ــ
أ-أما حق الله، فلا شك أن التوبة ترفع؛ لقوله تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] ،وهذه في التائبين.
ب- وأما حق أولياء المقتول، فيسقط إذا سلم الإنسان نفسه لهم، أتى إليهم وقال: أنا قتلت صاحبكم، واصنعوا ما شئتم فهم إما أن يقتصوا، أو يأخذوا الدية، أو يعفوا، والحق لهم.
جـ- وأما حق المقتول، فلا سبيل إلى التخلص منه في الدنيا.
وعلى هذا يحمل قول ابن عباس أنه لا توبة له، أي: بالنسبة لحق المقتول.
على أن الذي يظهر لي أنه إذا تاب توبة نصوحًا، فإنه حتى حق المقتول يسقط، لا إهدارًا لحقه، ولكن الله عز وجل بفضله يتحمل عن القاتل، ويعطي المقتول رفعة درجات في الجنة أو عفوًا عن السيئات؛ لأن التوبة الخالصة لا تبقي شيئًا، ويؤيد هذا عموم آية الفرقان:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] .
وفي هذه الآية من صفات الله: الغضب، واللعن،وإعداد العذاب.
وفيها من الناحية المسلكية التحذير من قتل المؤمن عمدًا.
(1)
* الآية الثانية: قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28] .
وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (1) ................................................
ــ
{ذَلِكَ} : المشار إليه ما سبق، والذي سبق هو قوله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 27-28] يعني: فكيف تكون حالهم في تلك اللحظات إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت؟ !
{ذَلِكَ} ، أي: ضرب الوجوه والأدبار.
{بِأَنَّهُمُ} ، أي: بسبب، فالباء للسببية.
{اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} ، أي: الذي أسخط الله، فصاروا يفعلون كل ما به سخط الله عز وجل من عقيدة أو قول أو فعل.
أما ما فيه رضي الله، فحالهم فيه قوله:{وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} ، أي كرهوا ما فيه رضاه، فصارت عاقبتهم تلك العاقبة الوخيمة، أنهم عند الوفاة تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم.
وفي هذه الآية من صفات الله: إثبات السخط والرضى.
وسبق الكلام على صفة الرضى، وأما السخط، فمعناه قريب من معنى الغضب.
(1)
الآية الثالثة: قوله: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55] .
{آسَفُونَا} ، يعني: أعضبونا وأسخطونا.
{فَلَمَّا} : هنا شرطية، فعل الشرط فيها:{آسَفُونَا} ، وجوابه:
{انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} .
ففيها رد على من فسروا السخط والغضب بالانتقام؛ لأن أهل التعطيل من الأشعرية وغيرهم يقولون: إن المراد بالسخط والغضب:الانتقام، أو إرادة الانتقام، ولا يفسرون السخط والغضب بصفة من صفات الله يتصف بها هو نفسه، فيقولون: غضبه، أي انتقامه، أو إرادة انتقامه، فهم إما أن يفسروا الغضب بالمفعول المنفصل عن الله وهو الانتقام، أو بالإرادة؛ لأنهم يقرون بها، ولا يفسرونه بأنه صفة ثابتة لله على وجه الحقيقة تليق به.
ونحن نقول لهم: بل السخط والغضب غير الانتقام، والانتقام نتيجة الغضب والسخط، كما نقول: إن الثواب نتيجة الرضى، فالله سبحانه وتعالى يسخط على هؤلاء القوم ويغضب عليهم ثم ينتقم منهم.
وإذا قالوا: إن العقل يمنع ثبوت السخط والغضب لله عز وجل.
فإننا نجيبهم بما سبق في صفة الرضى؛ لأن الباب واحد.
ونقول: بل العقل يدل على السخط والغضب، فإن الانتقام من المجرمين وتعذيب الكافرين دليل على السخط والغضب، وليس دليلًا على الرضى، ولا على انتفاء الغضب والسخط.
ونقول: هذه الآية: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] ترد عليكم؛ لأنه جعل الانتقام غير الغضب؛ لأن الشرط غير المشروط.
مسألة:
بقي أن يقال: {فَلَمَّا آسَفُونَا} : نحن نعرف أن الأسف هو الحزن
وقوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} (1) ....................................
ــ
والندم على شيء مضى على النادم لا يستطيع رفعه، فهل يوصف الله بالحزن والندم؟
الجواب: لا، ونجيب عن الآية بأن الأسف في اللغة له معنيان:
المعنى الأول: الأسف بمعنى الحزن، مثل قول الله تعالى عن يعقوب: ( {يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84] .
الثاني: الأسف بمعنى الغضب، فيقال: أسف عليه يأسف، بمعنى: غضب عليه.
والمعنى الأول: ممتنع بالنسبة لله عز وجل. والثاني: مثبت لله؛ لأن الله تعالى وصف به نفسه، فقال:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} .
وفي الآية من صفات الله: الغضب، والانتقام.
ومن الناحية المسلكية: التحذير مما يغضب الله تعالى.
(1)
الآية الرابعة: قوله: {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} [التوبة: 46] .
يعني بذلك المنافقين الذين لم يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم -في الغزوات؛ لأن الله تعالى كره انبعاثهم؛ لأن عملهم غير خالص له، والله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك؛ ولأنهم إذا خرجوا، كانوا كما قال الله تعالى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] ، وإذا كانوا غير مخلصين، وكانوا مفسدين، فإن الله سبحانه وتعالى يكره الفساد ويكره الشرك: فـ {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} ، يعني: جعل هممهم فاترة عن الخروج للجهاد.
{وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] قيل: يحتمل أن الله قال ذلك كونًا. ويحتمل أن بعضهم يقول لبعض: اقعد مع القاعدين، ففلان لم يخرج، وفلان لم يخرج، ممن عذرهم الله عز وجل، كالمريض والأعمى والأعرج، ويقولون: إذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم اعتذرنا إليه واستغفر لنا وكفانا.
ويمكن أن نجمع بين القولين؛ لأنه إذا قيل لهم ذلك، وقعدوا، فهم ما قعدوا إلا يقول الله عز وجل.
وفي الآية هنا إثبات أن الله عز وجل يكره، وهذا أيضًا ثابت في الكتاب والسنة:
قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} .....) إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 23-38] .
وكما في هذه الآية التي ذكرها المؤلف: ( {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46] .
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم: «إن الله كره لكم قيل وقال» .
فالكراهة ثابتة بالكتاب والسنة، أن الله تعالى يكره.
وكراهة الله سبحانه وتعالى للشيء تكون للعمل، كما في قوله:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46]،وكما في قوله:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] .
وقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) ............................
ــ
وتكون أيضًا للعامل، كما جاء في الحديث:«إن الله تعالى إذا أبغض عبدًا، نادى جبريل إني أبغض فلانًا، فأبغضه» .
الآية الخامسة: قوله: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 3] .
* {كَبُرَ} بمعنى: عظم.
* ( {مَقْتًا} : تمييز محول عن الفاعل، والمقت أشد البغض، وفاعل {كَبُرَ} بعد أن حول الفاعل إلى تمييز: (أن) وما دخلت عليه في قوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} .
وهذه الآية تعليل للآية التي قبلها وبيان لعاقبتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2){كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] فإن هذا من أكبر الأمور أن يقول الإنسان ما لا يفعل.
ووجه ذلك أن يقال: إذا كنت تقول الشيء ولا تفعله، فأنت بين أمرين: إما كاذب فيما نقول، ولكن تخوف الناس فنقول لهم الشيء وليس بحقيقة. وإما أنك مستكبر عما تقول، تأمر الناس به ولا تفعله، وتنهى الناس عنه وتفعله.
وفي الآية من الصفات: المقت، وأنه يتفاوت.
ومن الناحية المسلكية: التحذير من أن يقول الإنسان ما لا يفعل.
قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (1) ...................
ــ
آيات صفة المجيء والإتيان
ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- ل إثبات صفة المجيء والإتيان آيات أربع:
الآية الأولى: قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210] .
* قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ) : (هَلْ} : استفهام بمعنى النفي، يعني: ما ينظرون، وكلما وجدت (إلا) بعد الاستفهام، فالاستفهام يكون للنفي، هذه قاعدة، قال النبي عليه الصلاة والسلام:«هل أنت إلا أصبع دميت» ، أي: ما أنت.
*ومعنى: {يَنْظُرُونَ} هنا: ينتظرون؛ لأنها لم تتعد بـ (إلى) ، فلو تعدت بـ (إلى) لكان معناها النظر بالعين غالبًا، أما إذا تعدت بنفسها، فهي بمعنى: ينتظرون. أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وذلك يوم القيامة.
* {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ} : و {فِي} : هنا بمعنى (مع) ، فهي للمصاحبة، وليس للظرفية قطعًا؛ لأنها لو كانت للظرفية لكانت الظلل محيطة بالله، ومعلوم أن الله تعالى واسع عليم، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته.
وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (1) ....................
ــ
* فـ {فِي ظُلَلٍ} ، أي: مع الظلل، فإن الله عند نزوله جل وعلا للفصل بين عباده {تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} : غمام أبيض، ظلل عظيمة، لمجيء الله تبارك وتعالى.
* وقوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} الغمام، قال العلماء: إنه السحاب الأبيض، كما قال تعالى ممتنًا على بني إسرائيل:{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 57] والسحاب الأبيض يبقي الجوز مستنيرًا، بخلاف الأسود والأحمر، فإنه تحصل به الظلمة، وهو أجمل منظرًا.
* وقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ} : الملائكة -بالرفع- معطوف على لفظ الجلالة الله، يعني: أو تأتيهم الملائكة، وسبق بيان اشتقاق هذه الكلمة، ومن هم الملائكة.
والملائكة تأتي يوم القيامة؛ لأنها تنزل في الأرض، ينزل أهل السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة،وهكذا
…
إلى السابعة، يحيطون بالناس.
وهذا تحذير من هذا اليوم الذي يأتي على هذا الوجه، فهو مشهد عظيم من مشاهد يوم القيامة، يحذر الله به هؤلاء المكذبين.
(1)
الآية الثانية: قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] .
* نقول في {هَلْ يَنْظُرُونَ} ما قلناه في الآية السابقة، أي: ما ينتظر هؤلاء إلا واحدة من هذه الأحوال:
أولًا: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} ، أي: لقبض أرواحهم، قال الله
{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (1) ................
ــ
تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50] .
ثانيًا: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} يوم القيامة للقضاء بينهم.
ثالثا: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} : وهذه طلوع الشمس من مغربها، فسرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما ذكر الله هذه الأحوال الثلاث:
لأن الملائكة إذا نزلت لقبض أرواحهم، لا تقبل منهم التوبة؛ لقوله تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [الإنسان: 18] .
وكذلك أيضًا إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن التوبة لا تقبل، وحينئذ لا يستطيعون خلاصًا مما هم عليه.
وذكر الحالة الثالثة بين الحالين؛ لأنه وقت الجزاء وثمرة العمل، فلا يستطيعون التخلص في تلك الحال مما عملوه.
والغرض من هذه الآية والتي قبلها تحذير هؤلاء المكذبين من أن يفوتهم الأوان ثم لا يستطيعون الخلاص من أعمالهم.
(1)
الآية الثالثة: قوله: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21-22] .
* {كَلَّا} هنا للتنبيه، مثل (ألا) .
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} (1) ..............................
ــ
* وقوله: {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} : هذا يوم القيامة.
وأكد هذا الدك؛لعظمته، لأنها تدك الجبال والشعاب وكل شيء يدك، حتى تكون الأرض كالأديم، والأديم هو الجلد، قال الله تعالى:{فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه:106-107] . ويحتمل أن يكون تكرار الدك تأسيسًا لا تأكيدًا، ويكون المعنى: دكًا بعد دك.
* قال {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) : (وَجَاءَ رَبُّكَ} ، يعني: يوم القيامة، بعد أن تدك الأرض وتسوى ويحشر الناس يأتي الله للقضاء بين عباده.
* وقوله: {وَالْمَلَكُ} : (الـ) هنا للعموم، يعني: وكل ملك، يعني: الملائكة ينزلون في الأرض.
* {صَفًّا صَفًّا} ، أي: صفًا من وراء صف، كما جاء في الأثر:«تنزل ملائكة السماء الدنيا فيصفون، ومن ورائهم ملائكة السماء الثانية، ومن ورائهم ملائكة السماء الثالثة» (1) هكذا.
(1)
الآية الرابعة: قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25] .
* يعني: اذكر يوم تشقق السماء بالغمام.
* و {تَشَقَّقُ} : أبلغ من تنشق؛ لأن ظاهرها تشقق شيئًا فشيئًا،
(1) رواه الحاكم (4/614) وقال الذهبي: "إسناده قوي". وابن كثير في "تفسيره"(3/316) .
ويخرج هذا الغمام، يثور ثوران الدخان، ينبعث شيئًا فشيئًا.
تشقق السماء بالغمام، مثل ما يقال: تشقق الأرض بالنبات، يعني: يخرج الغمام من السماء ويثور متتابعًا، وذلك لمجيء الله عز وجل للفصل بين عباده، فهو يوم رهيب عظيم.
* قوله: ( {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} : ينزلون من السماوات شيئًا فشيئًا، تنزل ملائكة السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة
…
وهكذا.
وهذه الآية في سياقها ليس فيها ذكر مجيء الله، لكن فيها الإشارة إلى ذلك؛ لأن تشقق السماء بالغمام إنما يكون لمجيء الله تعالى، بدليل الآيات السابقة.
هذه أربع آيات ساقها المؤلف لإثبات صفة من صفات الله، وهي: المجيء والإتيان.
وأهل السنة والجماعة يثبتون أن الله يأتي بنفسه هو؛ لأن الله تعالى ذكر ذلك عن نفسه، وهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره،وأصدق قيلًا من غيره،وأحسن حديثًا، فكلامه مشتمل على أكمل العلم والصدق والبيان والإرادة، فالله عز وجل يريد أن يبين لنا الحق وهو أعلم وأصدق وأحسن حديثًا.
لكن يبقى السؤال: هل نعلم كيفية هذا المجيء؟
الجواب: لا نعلمه؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه يجيء، ولم يخبرنا كيف يجيء؛ ولأن الكيفية لا تعلم إلا بالمشاهدة أو مشاهدة النظير أو الخبر الصادق عنها، وكل هذا لا يوجد في صفات الله تعالى؛ ولأنه إذا
جهلت الذات، جهلت الصفات، أي: كيفيتها، فالذات موجودة وحقيقية،ونعرفها،ونعرف ما معنى الذات، وما معنى الذات،وما معنى النفس، وكذلك نعرف ما معنى المجيء، لكن كيفية الذات أو النفس وكيفية المجيء غير معلوم لنا.
فنؤمن بأن الله يأتي حقيقة وعلى كيفية تليق به مجهولة لنا.
مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم:
وخالف أهل السنة والجماعة في هذه الصفة أهل التحريف والتعطيل، فقالوا: إن الله لا يأتي؛ لأنك إذا أثبت أن الله يأتي، ثبت أنه جسم، والأجسام متماثلة.
فنقول: هذه دعوى وقياس باطل؛ لأنه في مقابلة النص، وكل شيء يعود إلى النص بالإبطال، فهو باطل؛ لقوله تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] .
فإذا قلت: إن هذا الذي عاد النص بالإبطال هو الحق، صار النص باطلًا ولا بد، وبطلان النص مستحيل. وإن قلت: إن النص هو الحق، صار هذا باطلًا ولا بد.
ثم نقول: ما المانع من أن يأتي الله تعالى بنفسه على الكيفية التي يريدها؟ يقولون: المانع أنك إذا أثبت ذلك، فأنت ممثل.
نقول: هذا خطأ؛ فإننا نعلم أن المجيء والإتيان يختلف حتى بالنسبة للمخلوق، فالإنسان النشيط الذي يأتي كأنما ينحدر من مرتفع من نشاطه، لكنه لا يمشي مرحًا وإن شئت فقل: إنه يمش مرحًا: هل هذا كالإنسان الذي يمشي على عصا ولا ينقل رجلًا من مكانها إلا بعد تعب.
والإتيان يختلف من وجه آخر، فإتيان إنسان مثلًا من كبراء البلد أو من ولاة الأمور ليس كإتيان شخص لا يحتفى به.
ماذا يقول المعطل في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ونحوها؟
الجواب: يقول: المعنى: جاء أمر ربك، وأتى أمر ربك؟ لأن الله تعالى قال:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] فيجب أن نفسر كل إتيان أضافه الله إلى نفسه بهذه الآية، ونقول: المراد: أتى أمر الله.
فيقال: إن هذا الدليل الذي استدللت به هو دليل عليك وليس لك،لو كان الله تعالى يريد إتيان أمره في الآيات الأخرى، فما الذي يمنعه أن يقول: أمره؟ فلما أراد الأمر، عبر بالأمر، ولما لم يرده، لم يعبر به.
وهذا في الواقع دليل عليك؛ لأن الآيات الأخرى ليس فيها إجمال حتى نقول: إنها بينت بهذه الآية. فالآيات الأخرى واضحة، وفي بعضها تقسيم يمنع إرادة مجيء الأمر:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]، هل يستقيم لشخص أن يقول:{يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي: أمره في مثل هذا التقسيم؟
فإذا قال قائل: ما تقولون في قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52] .
فالجواب: أن المراد بذلك إتيان الفتح أو الأمر، لكن أضاف الله الإتيان به إلى نفسه؛ لأنه من عنده، وهذا أسلوب معروف في اللغة العربية، فالإتيان إذا قيد بحرف جر مثلًا، فالمراد به ذلك المجرور، وإذا أطلق وأضيف إلى الله بدون قيد، فالمراد به إتيان الله حقيقة.
وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (1) ..............
ــ
الآداب المسلكية المستفادة من الإيمان بصفة المجيء والإتيان لله تعالى:
الثمرة هي الخوف من هذا المقام وهذا المشهد العظيم الذي يأتي فيه الرب عز وجل للفصل بين عباده وتنزل الملائكة، ولا يبقى أمامك إلا الرب عز وجل والمخلوقات كلها، فإن عملت خيرًا، جوزيت به، وإن عملت سوى ذلك، فإنك ستجزى به، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:«إن الإنسان يخلو به الله عز وجل، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه، فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار، ولو بشق تمرة» .
فالإيمان يمثل هذه الأشياء العظيمة لا شك أنه يولد للإنسان رهبة وخوفًا من الله سبحانه وتعالى واستقامة على دينه.
صفة الوجه لله سبحانه.
(1)
ذكر المؤلف- رحمه الله -ل إثبات صفة الوجه لله تعالى آيتين:
الآية الأولى: قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] .
وهذه معطوفة على قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 26-27]، ولهذا قال بعض السلف: ينبغي إذا قرأت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ، أن تصلها بقوله:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، حتى يتبين نقص المخلوق وكمال الخالق، وذلك للتقابل، هذا فناء وهذا بقاء، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26-27] .
* قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، أي: لا يفنى.
والوجه: معناه معلوم، لكن كيفيته مجهولة، لا نعلم كيف وجه الله عز وجل، كسائر صفاته، لكننا نؤمن بأن له وجهًا موصوفًا بالجلال والإكرام، وموصوفًا بالبهاء والعظمة والنور العظيم، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام:«حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» .
(سبحان وجهه)، يعني: بهاءه وعظمته وجلاله ونوره.
(ما انتهى إليه بصره من خلقه) : وبصره ينتهي إلى كل شيء، وعليه، فلو كشف هذا الحجاب - حجاب النور -عن وجهه لاحترق كل شيء.
لهذا نقول: هذا الوجه وجه عظيم، لا يمكن أبدًا أن يماثل أوجه المخلوقات.
وبناء على هذا نقول: من عقيدتنا أننا نثبت أن لله وجهًا حقيقة، ونأخذه من قوله:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ، ونقول بأن هذا الوجه لا يماثل أوجه المخلوقين؛ لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ونجهل كيفية هذا الوجه؛ لقوله تعالى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] .
فإن حاول أحد أن يتصور هذه الكيفية بقلبه أو أن يتحدث عنها بلسانه، قلنا: إنك مبتدع ضال، قائل على الله ما لا تعلم، وقد حرم الله علينا أن نقول عليه ما لا نعلم، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]
وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] .
وهنا قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، أضاف الربوبية إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الربوبية أخص ما يكون من أنواع الربوبية؛ لأن الربوبية عامة وخاصة، والخاصة خاصة أخص، وخاص فوق ذلك، كربوبية الله تعالى لرسله، فالربوبية الأخص أفضل بلا شك.
* وقوله: {ذُو} : صفة لوجه، والدليل الرفع، ولو كانت صفة للرب، لقال ذي الجلال كما قال في نفس السورة:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78]،فلما قال:{ذُو الْجَلَالِ} ، علمنا أنه وصف للوجه.
* {وَالْإِكْرَامِ} : هي مصدر من أكرم، صالحة للمكرم والمكرم، فالله سبحانه وتعالى مكرم، وإكرامه تعالى القيام بطاعته، ومكرم لمن يستحق الإكرام من خلقه بما أعد لهم من الثواب.
فهو لجلاله وكمال سلطانه وعظمته أهل؛ لأن يكرم ويثنى عليه سبحانه وتعالى وإكرام كل أحد بحسبه، فإكرام الله عز وجل أن تقدره حق قدره، وأن تعظمه حق تعظيمه، لا لاحتياجه إلى إكرامك، ولكن ليمن عليك بالجزاء.
الآية الثانية: قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] .
* قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} ، أي: فان، كقوله:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] .
* وقوله: {إِلَّا وَجْهَهُ} : توازي قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
فالمعنى: كل شيء فان وزائل، إلا وجه الله عز وجل، فإنه باق، ولهذا قال:{لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] فهو الحكم الباقي الذي يرجع إليه الناس ليحكم بينهم.
وقيل في معنى الآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، أي: إلا ما أريد به وجهه. قالوا: لأن سياق الآية يدل على ذلك: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] كأنه يقول: لا تدع مع الله إلهًا آخر فتشرك به؛ لأن عملك وإشراكك هالك، أي: ضائع سدى إلا ما أخلصته لوجه الله، فإنه يبقى؛ لأن العمل الصالح له ثواب باقى لا يفنى في جنات النعيم.
ولكن المعنى الأول أسد وأقوى.
وعلى طريقة من يقول بجواز استعمال المشترك في معنييه، نقول:
يمكن أن نحمل الآية على المعنيين؛ إذ لا منافاة بينهما، فتحمل على هذا وهذا، فيقال: كل شيء يفنى إلا وجه الله عز وجل، وكل شيء من الأعمال يذهب هباء، إلا ما أريد به وجه الله.
وعلى أي التقديرين، ففي الآية دليل على ثبوت الوجه لله عز وجل.
وهو من الصفات الذاتية الخبرية التي مسماها بالنسبة إلينا أبعاض
وأجزاء، ولا نقول: من الصفات الذاتية المعنوية، ولو قلنا بذلك، لكنا نوافق من تأوله تحريفًا، ولا نقول: إنها بعض من الله، أو: جزء من الله؛ لأن ذلك يوهم نقصًا لله سبحانه وتعالى.
هذا وقد فسر أهل التحريف وجه الله بثوابه، فقالوا: المراد بالوجه في الآية الثواب، كل شيء يفنى، إلا ثواب الله!
ففسروا الوجه الذي هو صفة كمال، فسروه بشيء مخلوق بائن عن الله قابل للعدم والوجود، فالثواب حادث بعد أن لم يكن، وجائز أن يرتفع، لولا وعد الله ببقائه لكان من حيث العقل جائزًا أن يرتفع، أعني: الثواب.
فهل تقولون الآن: إن وجه الله الذي وصف الله به نفسه من باب الممكن أو من باب الواجب؟
إذا فسروه بالثواب، صار من باب الممكن الذي يجوز وجوده وعدمه.
وقولهم مردود بما يلي:
أولًا: أنه مخالف لظاهر اللفظ، فإن ظاهر اللفظ أن هذا وجه خاص، وليس هو الثواب.
ثانيًا: أنه مخالف لإجماع السلف، فما من السلف أحد قال: إن المراد بالوجه الثواب! وهذه كتبهم بين أيدينا مزبورة محفوظة، أخرجوا لنا نصًا عن الصحابة أو عن أئمة التابعين ومن تبعهم بإحسان أنهم فسروا هذا التفسير، لن تجدوا إلى ذلك سبيلًا أبدًا.
ثالثًا: هل يمكن أن يوصف الثواب بهذه الصفات العظيمة: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] لا يمكن. لو قلنا مثلًا جزاء المتقين ذو جلال وإكرام! فهذا لا يجوز أبدًا، والله تعالى وصف هذا الوجه بأنه ذو الجلال والإكرام.
رابعًا: نقول: ما تقولون في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «حجابه النور، لو كشفه؛ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» . فهل الثواب له هذا النور الذي يحرق ما انتهى إليه بصر الله من الخلق؟ أبدًا، ولا يمكن.
وبهذا عرفنا بطلان قولهم، وأن الواجب علينا أن نفسر هذا الوجه بما أراده الله به، وهو وجه قائم به تبارك وتعالى موصوف بالجلال والإكرام.
فإن قلت: هل كل ما جاء من كلمة (الوجه) مضافًا إلى الله يراد به وجه الله الذي هو صفته؟
فالجواب: هذا هو الأصل، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 19-21]
…
وما أشبهها من الآيات.
فالأصل أن المراد بالوجه المضاف إلى الله وجه الله عز وجل الذي هو صفة من صفاته، لكن هناك كلمة اختلف المفسرون فيها، وهي قوله: تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] :
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} ، يعني: إلى أي مكان تولوا وجوهكم عند الصلاة. {فَثَمَّ} أي: فهناك وجه الله.
فمنهم من قال: إن الوجه بمعنى الجهة؛ لقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] فالمراد بالوجه الجهة، أي: فثم جهة الله، أي: فثم الجهة التي يقبل الله صلاتكم إليها.
قالوا: لأنها نزلت في حال السفر، إذا صلى الإنسان النافلة، فإنه يصلي حيث كان وجهه، أو إذا اشتبهت القبلة، فإنه يتحرى ويصلي حيث كان وجهه.
ولكن الصحيح أن المراد بالوجه هنا وجه الله الحقيقي، أي: إلى أي جهة تتوجهون فثم وجه الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله محيط بكل شيء، ولأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن المصلي إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه» ولهذا نهى أن يبصق أما وجهه؛ لأن الله قبل وجهه.
فإذا صليت في مكان لا تدري أين القبلة، واجتهدت وتحريت، وصليت، وصارت القبلة في الواقع خلفك، فالله يكون قبل وجهك، حتى في هذه الحال.
وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الآية.
والمعنى الأول لا يخالفه في الواقع.
إذا قلنا: فثم جهة الله، وكان هناك دليل، سواء كان هذا الدليل تفسير
الآية الثانية في الوجه الثاني، أو كان الدليل ما جاءت به السنة، فإنك إذا توجهت إلى الله في صلاتك، فهي جهة الله التي يقبل الله صلاتك إليها، فثم أيضًا وجه الله حقًا. وحينئذ يكون المعنيان لا يتنافيان.
واعلم أن هذا الوجه العظيم الموصوف بالجلال والإكرام وجه لا يمكن الإحاطة به وصفًا، ولا يمكن الإحاطة به تصورًا، بل كل شيء تقدره، فإن الله تعالى فوق ذلك وأعظم، كما قال تعالى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] .
فإن قيل: ما المراد بالوجه في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] ؟ إن قلت: المراد بالوجه الذات، فيخشى أن تكون حرفت،وإن أردت بالوجه نفس الصفة أيضًا وقعت في محظور، وهو ما ذهب إليه بعض من لا يقدرون الله حق قدره، حيث قالوا: إن الله يفنى إلا وجهه - فماذا تصنع؟!
فالجواب: إن أردت بقولك: إلا ذاته، يعني: أن الله تعالى يبقى هو نفسه مع إثبات الوجه لله، فهذا صحيح، ويكون هنا عبر بالوجه عن الذات لمن له وجه.
وإن أردت بقولك: الذات: أن الوجه عبارة عن الذات بدون إثبات الوجه، فهذا تحريف وغير مقبول.
وعليه فنقول: {إِلَّا وَجْهَهُ} ، أي: إلا ذاته المتصفة بالوجه، وهذا ليس فيه شيء؛ لأن الفرق بين هذا وبين قول أهل التحريف أن هؤلاء يقولون: إن المراد بالوجه الذات؛ لأن له وجهًا، فعبر به عن الذات.
وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (1) ..............................
ــ
إثبات اليدين لله تعالى
ذكر المؤلف- رحمه الله -لإثبات اليدين لله تعالى آيتين:
الآية الأولى: قوله: ( {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] .
* {مَا مَنَعَكَ} : الخطاب لإبليس.
* و {مَا مَنَعَكَ} : استفهام للتوبيخ، يعني أي شيء منعك أن تسجد.
* وقوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} : ولم يقل: لمن خلقت؛ لأن المراد هنا آدم، باعتبار وصفه الذي لم يشركه أحد فيه، وهو خلق الله إياه بيده، لا باعتبار شخصه.
ولهذا لما أراد إبليس النيل من آدم وحط قدره، قال:{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 16] .
ونحن قد قررنا أنه إذا عبر بـ (ما) عما يعقل، فإنه يلاحظ فيه معنى الصفة لا معنى العين والشخص، ومنه قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] لم يقل: (من) ؛ لأنه ليس المراد عين هذه المرأة، ولكن المراد الصفة.
فهنا قال: {لِمَا خَلَقْتُ} ، أي: هذا الموصوف العظيم الذي أكرمته بأنني خلقته بيدي، ولم يقصد: لمن خلقت، أي: لهذا الآدمي بعينه.
* وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} : هي كقول القائل: بريت بالقلم والقلم آلة البري، وتقول: صنعت هذا بيدي، فاليد هنا آلة الصنع.
{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، يعني: أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وهنا قال:{بِيَدَيَّ} ، وهي صيغة تثنية، وحذفت النون من التثنية من أجل الإضافة، كما يحذف التنوين، نحن عندما نعرب المثنى وجمع المذكر السالم نقول: النون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والعوض له حكم المعوض، فكما أن التنوين يحذف عند الإضافة، فنون التثنية والجمع تحذف عند الإضافة.
في هذه الآية توبيخ إبليس في تركه السجود لما خلقه الله بيده، وهو آدم عليه الصلاة والسلام.
وفيها: إثبات صفة الخلق: {لِمَا خَلَقْتُ} .
وفيها: إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى: اليدين اللتين بهما يفعل، كالخلق هنا. اليدين اللتين بهما يقبض:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] وبهما يأخذ، فإن الله تعالى يأخذ الصدقة فيربيها كما يربي الإنسان فلوه (1) .
وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} : فيها أيضًا تشريف لآدم عليه الصلاة والسلام، حيث خلقه الله تعالى بيده.
قال أهل العلم: وكتب الله التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده.
(1) لما رواه البخاري/ كتاب الزكاة/ باب لا يقبل الله صدقة من غلول"، ومسلم/ كتاب الزكاة/ باب قبول الصدقة من الكسب الطيب.
فهذه ثلاثة أشياء، كلها كانت بيد الله تعالى.
ولعلنا بالمناسبة لا ننسى ما مر من قول النبي عليه الصلاة والسلام: «إن الله خلق آدم على صورته» ، وذكرنا أن أحد الوجهين الصحيحين في تأويلها أن الله خلق آدم على الصورة التي اختارها واعتنى بها؛ ولهذا أضافها الله إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، كإضافة الناقة والبيت إلى الله والمساجد إلى الله. والقول الثاني: أنه على صورته حقيقة ولا يلزم من ذلك التماثل.
الآية الثانية: قوله: ( {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] .
* {الْيَهُودُ} : هم أتباع موسى عليه الصلاة والسلام.
سموا يهودًا، قيل: لأنهم قالوا: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] وبناء على هذا يكون الاسم عربيًا؛ لأن هاد يهود - إذا رجع - عربي.
وقيل: إن أصله يهوذا، اسم أحد أولاد يعقوب، واليهود من نسبوا إليه، لكن عند التعريب صارت الذال دالًا، فقيل: يهود.
وأيًا كان، لا يهمنا أن أصله هذا أو هذا.
ولكننا نعلم أن اليهود هم طائفة من بني إسرائيل، اتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام.
وهؤلاء اليهود من أشد الناس عتوًا ونفورًا؛ لأن عتو فرعون وتسلطه
عليهم جعل ذلك ينطبع في نفوسهم، وصار فيهم العتو على الناس، بل وعلى الخالق عز وجل، فهم يصفون الله تعالى بأوصاف العيوب، قبحهم الله وهم أهلها.
* يقولون: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ، أي: محبوسة عن الإنفاق، كما قال الله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] أي: محبوسة عن الإنفاق.
وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] .
أما قولهم: إن يد الله مغلولة، فقالوا: لولا أنها مغلولة، لكان الناس كلهم أغنياء، فكونه يجود على زيد ولا يجود على عمرو هذا هو الغل وعدم الإنفاق!!
وقالوا: إن الله فقير لأن الله قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245] فقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: يا محمد، إن ربك افتقر، صار يستقرض منا. قاتلهم الله!!
وقالت اليهود أيضًا: إن الله عاجز لأنه حين خلق السماوات والأرض استراح يوم السبت، وجعل العطلة محل عيد، فصار عيدهم يوم السبت. قاتلهم الله!!
* هنا يقول الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) : (يَدُ} : أفردوها، لأن اليد الواحد أقل عطاء من اليدين الثنتين؛ ولهذا جاء الجواب بالتثنية والبسط، فقال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .
* ولما وصفوا الله بهذا العيب، عاقبهم الله بما قالوا، فقال:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ، أي: منعت عن الإنفاق؛ ولهذا كان اليهود أشد الناس جمعًا للمال ومنعًا للعطاء، فهم أبخل عباد الله، وأشدهم شحًا في طلب المال، ولا يمكن أن ينفقوا فلسًا إلا وهم يظنون أنهم سيكسبون بدله درهمًا، ونرى نحن الآن لهم جمعيات كبيرة وعظيمة، لكن هم يريدون من وراء هذه الجمعيات والتبرعات أكثر وأكثر، يريدون أن يسيطروا على العالم.
فإذا، لا تقل أيها الإنسان: كيف نجمع بين قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ، وبين الواقع اليوم بالنسبة لليهود؟! لأن هؤلاء القوم يبذلون ليربحوا أكثر.
* {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} ، أي: طردوا وأبعدوا عن رحمة الله عز وجل؛ لأن البلاء موكل بالمنطق، فهم لما وصفوا الله بالإمساك، طردوا وأبعدوا عن رحمته، قيل لهم: إذا كان الله عز وجل كما قلتم لا ينفق، فليمنعكم رحمته حتى لا يعطيكم من جوده، فعوقبوا بأمرين:
بتحويل الوصف الذي عابوا به الله سبحانه إليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} .
وبإلزامهم بمقتضى قولهم بإبعادهم عن رحمة الله،؛حتى لا يجدوا جود الله وكرمه وفضله.
* {بِمَا قَالُوا} : الباء هنا للسببية، وعلامة الباء التي للسببية: أن يصح أن يليها كلمة (سبب) .
و (ما) هنا يصح أن تكون مصدرية، ويصح أن تكون موصولة، فإن
كانت موصولة، فالعائد محذوف، وتقديره: بالذي قالوه. وإن كانت مصدرية، فالفعل يحول إلى مصدر، أي: بقولهم.
* ثم أبطل الله سبحانه وتعالى دعواهم، فقال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .
* {بَلْ} : هنا للإضراب الإبطالي.
وانظر كيف اختلف التعبير: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، لأن المقام مقام تمدح بالكرم، والعطاء باليدين أكل من العطاء باليد الواحدة.
* {مَبْسُوطَتَانِ} : ضد قولهم: {مَغْلُولَةٌ} ، فيدا الله تعالى مبسوطتان واسعتا العطاء:
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يد الله ملأى سحاء (كثيرة العطاء) الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما فيه يمينه» .
من يحصى ما أنفق الله منذ خلق السماوات والأرض؟! لا يحصيه أحد، ومع ذلك لم يغض ما في يمينه.
وهذا كقوله تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر» .
ولننظر إلى المخيط غمس في البحر، فإذا نزعته لا ينقص البحر شيئًا أبدًا، ومثل هذه الصيغة يؤتى بها للمبالغة في عدم النقص؛ لأن عدم نقص البحر في مثل هذه الصورة أمر معلوم، فمستحيل أن البحر ينقص بهذا، فمستحيل أيضًا أن الله عز وجل ينقص ملكه إذا قام كل إنسان من الإنس والجن، فقاوموا فسألوا الله تعالى، فأعطى كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكه شيئًا.
لا تقل: "نعم، لا ينقص من ملكه شيئًا؛ لأنه انتقل من ملكه إلى ملكه"؛ لأنه لا يمكن أن يكون هذا هو المراد؛ لأنه لو كان هذا المراد، لكان الكلام عبثًا ولغوًا.
لكن المعنى: لو فرض أن هذه العطايا العظيمة أعطيت على أنها خارجة عن ملك الله، لم ينقص ذلك من ملكه شيئًا. ولو كان المعنى هو الأول، لم يكن فيه فائدة، فمعروف أنه لو كان عندك عشرة ريالات، أخرجتها من الدرج الأيمن إلى الدرج الأيسر، وقال إنسان: إن مالك لم ينقص، لقيل: هذا لغو من القول!
المهم أن المعنى: لو أن هذا الذي أعطاه السائلين خارج عن ملكه، فإنه لا ينقصه سبحانه وتعالى.
وليس إنفاق الله تعالى بما نحصل من الدراهم والمتاع، بل كل ما بنا من نعمة فهو من الله تعالى، سواء كانت من نعم الدين أم الدنيا، فذرات المطر من إنفاق الله علينا، وحبات النبات من إنفاق الله.
أفبعد هذا يقال كما قالت اليهود عليهم لعائن الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ؟!
لا والله! بل يقال: إن يدي الله عز وجل مبسوطتان بالعطاء والنعم التي لا تعد ولا تحصى.
لكن إذا قالوا: لماذا أعطى زيدًا ولم يعط عمرًا؟
قلنا: لأن الله تعالى له السلطان المطلق والحكمة البالغة؛ ولهذا قال ردًا على شبهتهم: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ، فمن الناس من يعطيه كثيرًا، ومنهم من يعطيه قليلًا، ومنهم من يعطيه وسطًا، تبعًا لما تقتضيه الحكمة، على أن هذا الذي أعطي قليلًا ليس محرومًا من فضل الله وعطائه من جهة أخرى، فالله أعطاه صحة وسمعًا وبصرًا وعقلًا وغير ذلك من النعم التي لا تحصى، ولكن لطغيان اليهود وعدوانهم وأنهم لم ينزهوا الله عن صفات العيب، قالوا:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} .
فالآيتان السابقتان فيهما إثبات صفة اليدين لله عز وجل.
ولكن قد يقول قائل: إن لله أكثر من يدين؛ لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] فأيدينا هنا جمع، فلنأخذ بهذا الجمع؛ لأننا إذا أخذنا بالجمع، أخذنا بالمثنى وزيادة، فما هو الجواب؟
فالجواب أن يقال: جاءت اليد مفردة ومثناة وجمعًا:
أما اليد التي جاءت بالإفراد، فإن المفرد المضاف يفيد العموم، فيشمل
كل ما ثبت لله من يد، ودليل عموم المفرد المضاف قوله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] فـ (نعمت) : مفرد مضاف، فهي تشمل كثيرًا؛ لقوله:{لَا تُحْصُوهَا} ، إذًا: فما هي واحدة ولا ألف ولا مليون ولا ملايين.
{يَدُ اللَّهِ} : نقول هذا المفرد لا يمنع التعدد إذا ثبت؛ لأن المفرد المضاف يفيد العموم.
أما المثنى والجمع، فنقول: إن الله ليس له إلا يدان اثنتان، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة.
ففي الكتاب:
في سورة ص قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:57] والمقام مقام تشريف، ولو كان الله خلقه بأكثر من يدين لذكره؛ لأنه كلما ازدادت الصفة التي بها خلق الله هذا الشيء، ازداد تعظيم هذا الشيء.
وأيضًا: في سورة المائدة قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] في الرد على من قالوا: {يَدُ اللَّهِ} ، بالإفراد، والمقام مقام يقتضي كثرة النعم، وكلما كثرت وسيلة العطاء كثر العطاء، فلو كان لله تعالى أكثر من اثنتين لذكرهماالله؛لأن العطاء باليد الواحدة عطاء، فباليدين أكثر وأكمل من الواحدة،وبالثلاث -لو قدر- كان أكثر، فلو كان لله تعالى أكثر من اثنتين لذكرهما.
أما السنة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام -قال: «يطوي الله تعالى»
«السماوات بيمينه والأرض بيده الأخرى» .
قال صلى الله عليه وسلم: «كلتا يديه يمين» .
ولم يذكر أكثر من اثنتين.
وأجمع السلف على أن لله يدين اثنتين فقط بدون زيادة.
فعندنا النص من القرآن والسنة والإجماع على أن لله تعالى يدين اثنتين، فيكف نجمع بين هذا وبين الجمع:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] ؟!
فنقول الجمع على أحد الوجهين:
فإما أن نقول بما ذهب إليه بعض العلماء، من أن أقل الجمع اثنان، وعليه، فـ {أَيْدِينَا} لا تدل على أكثر من اثنتين، يعني: لا يلزم أن تدل على أكثر من اثنين، وحينئذ تطابق التثنية:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، ولا إشكال فيه.
فإذا قلت: ما حجة هؤلاء على أن الجمع أقله اثنان؟
فالجواب: احتجوا بقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وهما اثنتان، والقلوب جمع، والمراد به قلبان فقط؛ لقوله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] ولا لامرأة كذلك.
واحتجوا أيضًا بقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}
[النساء: 11] فـ ( {إِخْوَةٌ} جمع، والمراد به اثنان.
واحتجوا أيضًا بأن جماعة الصلاة تحصل باثنين.
ولكن جمهور أهل اللغة يقولون: إن أقل الجمع ثلاثة، وإن خروج الجمع إلى الاثنين في هذه النصوص لسبب، وإلا فإن أقل الجمع في الأصل ثلاثة.
وإما أن نقول: إن المراد بهذا الجمع التعظيم، تعظيم هذه اليد، وليس المراد أن لله تعالى أكثر من اثنتين.
ثم إن المراد باليد هنا نفس الذات التي لها يد، وقد قال الله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] أي: بما كسبوا، سواء كان من كسب اليد أو الرجل أو اللسان أو غيرها من أجزاء البدن، لكن يعبر بمثل هذا التعبير عن الفاعل نفسه.
ولهذا نقول: إن الأنعام التي هي الإبل لم يخلقها الله تعالى بيده، وفرق بين قوله:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، وبين قوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، فـ:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، كأنه قال: مما عملنا؛ لأن المراد باليد ذات الله التي لها يد، والمراد بـ {بِيَدَيَّ} : اليدان دون الذات.
وبهذا يزول الإشكال في صفة اليد التي وردت بالإفراد والتثنية والجمع.
فعلم الآن أن الجمع بين المفرد والتثنية سهل، وذلك لأن هذا مفرد مضاف،فيعم كل ما ثبت لله من يد.
وأما بين التثنية والجمع، فمن وجهين:
أحدهما: أنه لا يراد بالجمع حقيقة معناه - وهو الثلاثة فأكثر - بل المراد به التعظيم كما قال الله تعالى: (إنا) و (نحن) و (وقلنا) .... وما أشبه ذلك، وهو واحد، لكن يقول هذا للتعظيم.
أو يقال: إن أقل الجمع اثنان، فلا يحصل هنا تعارض.
وأما قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] فالأيد هنا بمعنى القوة، فهي مصدر آد يئيد، بمعنى: قوي، وليس المراد بالأيد صفة الله، ولهذا ما أضافها الله إلى نفسه، ما قال: بأيدينا! بل قال: {بِأَيْدٍ} ، أي: بقوة.
ونظير ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] فإن لعلماء السلف في قوله: {عَنْ سَاقٍ} : قولين:
القول الأول: أن المراد به الشدة.
والقول الثاني: أن المراد به ساق الله عز وجل.
فمن نظر إلى سياق الآية مع حديث أبي سعيد، قال: إن المراد بالساق هنا ساق الله. ومن نظر إلى الآية بمفردها، قال: المراد بالساق الشدة.
فإذا قال قائل: أنتم تثبتون أن لله تعالى يدًا حقيقية، ونحن لا نعلم من الأيدي إلا أيادي المخلوقين، فيلزم من كلامكم تشبيه الخالق بالمخلوق.
فالجواب أن نقول: لا يلزم من إثبات اليد لله أن نمثل الخالق بالمخلوقين؛
لأن إثبات اليد جاء في القرآن والسنة وإجماع السلف، ونفى مماثلة الخالق للمخلوقين يدل عليه الشرع والعقل والحس:
-أما الشرع، فقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
وأما العقل، فلا يمكن أن يماثل الخالق المخلوق في صفاته؛ لأن هذا يعد عيبًا في الخالق.
وأما الحس، فكل إنسان يشاهد أيدي المخلوقات متفاوتة ومتباينة من كبير وصغير، وضخم ودقيق.. إلخ، فيلزم من تباين أيدي المخلوقين وتفاوتهم مباينة يد الله تعالى لأيدي المخلوقين وعدم مماثلته لهم سبحانه وتعالى من باب أولى.
هذا، وقد خالف أهل السنة والجماعة في إثبات اليد لله تعالى أهل التعطيل من المعتزلة والجهمية والأشعرية ونحوهم، وقالوا: لا يمكن أن نثبت لله يدًا حقيقية، بل المراد باليد أمر معنوي، وهو القوة!! أو المراد باليد النعمة؛ لأن اليد تطلق في اللغة العربية على القوة وعلى النعمة.
ففي الحديث الصحيح حديث النواس بن سمعان الطويل: «أن الله يوحي إلى عيسى أني أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم» ، والمعنى: لا قوة لأحد بقتالهم، وهم يأجوج ومأجوج.
وأما اليد بمعنى النعمة، كثير، ومنه قول رسول قريش لأبي بكر:«لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك» ، يعني: نعمة.
وقول المتنبي:
وكم لظلام الليل عندك من يد
…
تحدث أن المانوية تكذب
والمانوية: فرقة من المجوس الذين يقولون: إن الظلمة تخلق الشر، والنور يخلق الخير. فالمتنبي يقول: إنك تعطي في الليل العطايا الكثيرة التي تدل على أن المانوية تكذب؛ لأن ليلك يأتي بخير.
فالمراد بيد الله: النعمة، وليس المراد باليد اليد الحقيقية؛ لأنك لو أثبت لله يدًا حقيقية، لزم من ذلك التجسيم أن يكون الله تعالى جسمًا، والأجسام متماثلة، وحينئذ تقع فيما نهى الله عنه في قوله:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] .50 ونحن أسعد بالدليل منك أيها المثبت للحقيقة!! نقول: سبحان من تنزه عن الأعراض والأبعاض والأغراض!! لا تجد مثل هذه السجعة لا في الكتاب ولا في السنة.
وجوابنا على هذا من عدة وجوه:
أولًا: أن تفسير اليد بالقوة أو النعمة مخالف لظاهر اللفظ، وما كان مخالفًا لظاهر اللفظ، فهو مردود، إلا بدليل.
ثانيًا: أنه مخالف لإجماع السلف، حيث إنهم كلهم مجمعون على أن المراد باليد اليد الحقيقية.
فإن قال لك قائل: أين إجماع السلف؟ هات لي كلمة واحدة عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي، يقولون: إن المراد بيد الله اليد الحقيقية.؟
أقول له: ائت لي بكلمة واحدة عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي
أو غيرهم من الصحابة والأئمة من بعدهم يقولون: إن المراد باليد القوة أو النعمة!
فلا يستطيع أن يأتي بذلك.
إذًا، فلو كان عندهم معنى يخالف ظاهر اللفظ، لكانوا يقولون به، ولنقل عنهم، فلما لم يقولون به، علم أنهم أخذوا بظاهر اللفظ وأجمعوا عليه.
وهذه فائدة عظيمة، وهي أنه إذا لم ينقل عن الصحابة ما يخالف ظاهر الكتاب والسنة، فإنهم لا يقولون بسواه؛ لأنهم الذين نزل القرآن بلغتهم، وخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم -بلغتهم، فلا بد أن يفهموا الكتاب والسنة على ظاهرهما، فإذا لم ينقل عنهم ما يخالفه كان ذلك قولهم.
ثالثًا: أنه يمتنع غاية الامتناع أن يراد باليد النعم أو القوة في مثل قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] لأنه يستلزم أن تكون النعمة نعمتين فقط، ونعم الله لا تحصى!! ويستلزم أن القوة قوتان، والقوة بمعنى واحد لا يتعدد فهذا التركيب يمنع غاية المنع أن يكون المراد باليد القوة أو النعمة.
هب أنه قد يمكن في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] أن يراد بهما النعمة على تأويل، لكن لا يمكن أن يراد بقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} النعمة أبدًا.
أما القوة، فيمتنع أن يكون المراد باليدين القوة في الآيتين جميعًا، في قوله:{بَلْ يَدَاهُ} وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ؛ لأن القوة لا تتعدد.
رابعًا: أنه لو كان المراد باليد القوة ما كان لآدم فضل على إبليس، بل
وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (13){تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} ، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (1) ......
ــ
ولا على الحمير والكلاب؛ لأنهم كلهم خلقوا بقوة الله، ولو كان المراد باليد القوة ما صح الاحتجاج على إبليس؛ إذ إن إبليس سيقول: وأنا يا رب خلقتني بقوتك، فما فضله علي؟!
خامسًا: أن يقال: إن هذه اليد التي أثبتها الله جاءت على وجوه متنوعة يمتنع أن يراد بها النعمة أو القوة، فجاء فيها الأصابع والقبض والبسط والكف واليمين، وكل هذا يمتنع أن يراد بها القوة؛ لأن القوة لا توصف بهذه الأوصاف.
فتبين بهذا أن قول هؤلاء المحرفين الذين قالوا: "المراد باليد القوة "باطل من عدة أوجه.
وقد سبق أن صفات الله عز وجل من الأمور الخبرية الغيبية التي ليس للعقل فيها مجال، وما كان هذا سبيله، فإن الواجب علينا إبقاؤه على ظاهره، من غير أن نتعرض له.
إثبات العينين لله تعالى
(1)
ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- لإثبات العينين لله تعالى ثلاث آيات.
الآية الأولى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] .
* الخطاب هنا للنبي عليه الصلاة والسلام.
* والصبر: بمعنى الحبس، ومنه قوله: قتل صبرًا، أي: قتل وقد حبس للقتل.
فالصبر في اللغة: بمعنى الحبس.
وفي الشرع: قالوا: هو الصبر لأحكام الله، يعني: حبس النفس لأحكام الله.
وأحكام الله عز وجل -شرعية وكونية: والشرعية: أوامر ونواه، فالصبر على طاعة الله صبر على الأوامر، والصبر عن معصيته صبر عن النواهي. والكونية: أقدار الله تعالى: فيصبر على أقداره وقضائه.
وهذا معنى قول بعضهم الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
فقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} : يتناول الأقسام الثلاثة:
الصبر على طاعة الله.
وعن معصية الله.
وعلى أقدار الله.
أي: اصبر لحكم ربك الكوني والشرعي.
وبهذا نعرف أن التقسيم الذي ذكره العلماء، وقالوا: إن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله: داخل في هذه الكلمة: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} .
ووجه الدخول: أن الحكم إما كوني وإما شرعي، والشرعي أوامر ونواه. والنبي- عليه الصلاة والسلام -أمره الله عز وجل بأوامر، ونهاه عن نواهي، وقدر عليه مقدورات:
فالأوامر مثل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125] وهذه أوامر عظيمة، يعني: لو قيل
لإنسان: اعبد ربك، فإنه يتمكن من العبادة، لكن الدعوة والتبليغ أمر صعب؛ لأنه يتعب في معاناة الآخرين وجهادهم، فيكون صعبًا.
وأما النواهي، فقد نهاه عن الشرك، قال:{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14]، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]
…
وما أشبه ذلك.
وأما الأحكام القدرية: فقد حصل عليه أذى من قومه، أذى قولي وأذى فعلي، لا يصبر عليه إلا أمثال الرسول عليه الصلاة والسلام:
آذوه بالقول: بالسخرية، والاستهزاء، والتهجين، وتنفير الناس عنه.
وآذوه بالفعل: كان ساجدًا تحت الكعبة في آمن بقعة من الأرض، ساجدًا لربه، فذهبوا، وأتوا بسلى الناقة، ووضعوه على ظهره وهو ساجد!!
ليس هناك أبلغ من هذه الأذية مع العلم بأنه لو يدخل كافر مشرك إلى الحرم، لكان عندهم آمنًا، لا يؤذونه فيه، بل يكرمونه ويطعمونه النبيذ ويسقونه ماء زمزم!! ومحمد عليه الصلاة والسلام ساجدًا لله يؤذونه هذا الأذى!!
كانوا يأتون بالعذرة والأنتان والأقذار يضعونه عند عتبة بابه!!
وخرج إلى أهل الطائف، وماذا صار؟! صار الإيذاء العظيم، صف سفهاؤهم وغلمانهم على جانبي الطريق، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى
أدموا عقبه، فلم يفق إلا في قرن الثعالب.
* فصبر على حكم الله، ولكنه صبر مؤمن يؤمن بأن العاقبة له؛ لأن الله قال له:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} هذا الاعتناء والحفاوة أكرم شيء يكون به الإنسان أن تقول له: أنت بعيني، أنت بقلبي
…
وما أشبه ذلك.
أنت بعيني، معناه: أنا ألاحظك بعيني. وهذا تعبير معروف عند الناس، يكون تمام الحراسة والعناية والحفظ بمثل هذا التعبير: أنت بعيني.
إذًا، قوله:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، يعني: فإنك محروس غاية الحراسة، محفوظ غاية الحفظ.
{بِأَعْيُنِنَا} : أعيننا معك، نحفظك، ونرعاك، ونعتني بك.
في الآية الكريمة إثبات العين لله عز وجل، لكنها جاءت بصيغة الجمع، لما سنذكر إن شاء الله تعالى.
العين من الصفات الذاتية الخبرية: الذاتية: لأنه لم يزل ولا يزال متصفًا بها، الخبرية: لأن مسماها بالنسبة إلينا أجزاء وأبعاض.
فالعين منا بعض من الوجه، والوجه بعض من الجسم، لكنها بالنسبة لله لا يجوز أن نقول: إنها بعض من الله؛ لأنه سبق أن هذا اللفظ لم يرد، وأنه يقتضي التجزئة في الخالق، وأن البعض أو الجزء هو الذي يجوز بقاء الكل بفقده، ويجوز أن يفقد، وصفات الله لا يجوز أن تفقد أبدًا، بل هي
باقية.
وقد دل الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لله عينين اثنتين فقط، حين وصف الدجال وقال:«إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور» ، وفي لفظ:«أعور العين اليمنى» .
وقد قال بعض الناس: معنى (أعور)، أي: معيب، وليس من عور العين!!
وهذا لا شك أنه تحريف وتجاهل للفظ الصحيح الذي في البخاري وغيره: «أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية» وهذا واضح.
ولا يقال أيضًا: (أعور) باللغة العربية، إلا لعور العين، أما إذا قيل:(عور) أو (عوار) ، فربما يراد به مطلق العيب.
وهذا الحديث يدل على أن لله تعالى عينين اثنتين فقط.
ووجه الدلالة أنه لو كان لله أكثر من اثنتين، لكان البيان به أوضح من البيان بالعور؛ لأنه لو كان لله أكثر من عينين لقال: إن ربكم له أعين؛ لأنه إذا كان له أعين أكثر من ثنتين صار وضوح أن الدجال ليس برب أبين.
وأيضًا: لو كان الله عز وجل -أكثر من عينين لكان ذلك من كماله، وكان ترك ذكره تفويتًا للثناء على الله؛ لأن الكثرة تدل على القوة والكمال
والتمام، فلو كان لله أكثر من عينين لبينها الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لئلا يفوتنا اعتقاد هذا الكمال وهو الزائد على العينين الثنتين.
وذكر ابن القيم رحمه الله -في كتابه "الصواعق المرسلة" حديثًا، لكنه ضعيف؛ لانقطاعه، وهو: «إن العبد إذا قام في الصلاة قام بين عيني الرحمن
…
"» (1) . "عيني" هذه تثنية، لكن الحديث ضعيف، واعتمادنا في عقيدتنا هذه على الحديث الصحيح، حديث الدجال؛ لأنه واضح لمن تأمله.
ولقد ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله -في "رده على بشر المريسي "، وكذلك أيضًا ذكره ابن خزيمة في "كتاب التوحيد"، وذكر أيضًا إجماع السلف على ذلك أبو الحسن الأشعري رحمه الله،وأبو بكر الباقلاني، والأمر في هذا واضح.
فعقيدتنا التي ندين لله بها: أن لله تعالى عينين اثنتين، لا زيادة.
فإن قيل: إن من السلف من فسر قوله تعالى: {بِأَعْيُنِنَا} ، بقوله: بمرأى منا. فسره بذلك أئمة سلفيون معروفون، وأنتم تقولون: إن التحريف محرم وممتنع، فما الجواب؟
فالجواب: أنهم فسروها باللازم، مع إثبات الأصل، وهي العين، وأهل التحريف يقولون: بمرأى منا، بدون إثبات العين، وأهل السنة والجماعة يقولون:{بِأَعْيُنِنَا} : بمرأى منا، ومع إثبات العين.
(1) ذكره ابن القيم في كتاب "الصواعق"(256)، وقال الألباني في "الضعيفة" (1024) : ضعيف جداً.
لكن ذكر العين هنا أشد توكيدًا وعناية من ذكر مجرد الرؤية، ولهذا قال:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} .
قالت المعطلة: أجلبتم علينا بالخيل والرجل في إنكاركم علينا التأويل، وأنتم أولتم فأخرجتم الآية عن ظاهرها، فالله يقول:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، فخذوا بالظاهر، وإذا أخذتم بالظاهر كفرتم، وإذا لم تأخذوا بالظاهر تناقضتم، فمرة تقولون: يجوز التأويل، ومرة تقولون: لا يجوز التأويل، وتسمونه تحريفًا، وهل هذا إلا تحكم بدين الله؟ !
قلنا: نأخذ بالظاهر، وعلى العين والرأس، وهو طريقتنا، ولا نخالفه.
قالوا: الظاهر من الآية أن محمدا صلى الله عليه وسلم -بعين الله، وسط العين، كما تقول: زيد بالبيت، زيد بالمسجد، فالباء للظرفية، فيكون زيد داخل البيت وداخل المسجد، فيكون قوله:{بِأَعْيُنِنَا} ، أي: داخل أعيننا،وإذا قلتم بهذا كفرتم؛ لأنكم جعلتم الله محلًا للخلائق، فأنتم حلولية، وإن لم تقولوا به تناقضتم؟
قلنا لهم: معاذ الله،ثم معاذ الله،ثم معاذ الله أن يكون ما ذكرتموه ظاهر القرآن، وأنتم إن اعتقدتم أن هذا ظاهر القرآن كفرتم؛ لأن من اعتقد أن ظاهر القرآن كفر وضلال فهو كافر ضال.
فأنتم توبوا إلى الله من قولكم: إن هذا هو ظاهر اللفظ،واسألوا جميع أهل اللغة من الشعراء والخطباء: هل يقصدون بمثل هذه العبارة أن الإنسان المنظور إليه بالعين حال في جفن العين؟ اسألوا من شئتم من أهل اللغة أحياء وأمواتًا!
فأنت إذا رأيت أساليب اللغة العربية، عرفت أن هذا المعنى الذي ذكروه
وألزمونا به لا يرد في اللغة العربية، فضلًا عن أن يكون مضافًا إلى الرب عز وجل، فإضافته إلى الرب كفر منكر، وهو منكر لغة وشرعًا وعقلًا.
فإن قيل: بماذا تفسرون الباء في قوله: {بِأَعْيُنِنَا} ؟
قلنا: نفسرها بالمصاحبة، إذا قلت: أنت بعيني، يعني: أن عيني تصحبك وتنظر إليك، لا تنفك عنك، فالمعنى: أن الله عز وجل بقول لنبيه: أصبر لحكم الله، فإنك محوط بعنايتنا وبرؤيتنا لك بالعين حتى لا ينالك أحد بسوء.
ولا يمكن أن تكون الباء هنا للظرفية؛ لأنه يقتضي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عين الله، وهذا محال.
وأيضًا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -خوطب بذلك وهو في الأرض، فإذا قلتم: إنه كان في عين الله كانت دلالة القرآن كذبًا.
وهذا وجه آخر في بطلان دعوى أن ظاهر القرآن أن الرسول- صلى الله عليه وسلم -في عين الله تعالى.
الآية الثانية: قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 13-14] .
* {وَحَمَلْنَاهُ} : الضمير يعود على نوح عليه الصلاة والسلام.
* وقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} : أي: على سفينة ذات ألواح ودسر، وهذه السفينة كان عليه الصلاة والسلام يصنعها، وكان يمر به قومه، فيسخرون منه، فيقول:{إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] .
صنعها بأمر الله ورعاية الله وعنايته، وقال الله له:{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] ، فالله تعالى ينظر إليه وهو يصنع الفلك، ويلهمه كيف يصنعها.
* ووصفها الله هنا في قوله: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) : (ذَاتِ} : بمعنى: صاحبة. والألواح: الخشب. والدسر: ما يربط به الخشب كالمسامير والحبال وما أشبه ذلك، وأكثر المفسرين على أن المراد بها المسامير التي تربط بها الأخشاب.
* ( {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} : هذا الشاهد: {بِأَعْيُنِنَا} : أي ذات الألواح والدسر بأعين الله عز وجل. والمراد بالأعين هنا عينان فقط. كما مر،ومعنى تجري بها، أي: مصحوبة بنظرنا بأعيننا، فالباء هنا للمصاحبة، تجري على الماء الذي نزل من السماء ونبع من الأرض؛ لأن نوحًا عليه الصلاة والسلام دعا ربه {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: 11-12] فكانت هذه السفينة تجري بعين الله عز وجل.
قد يقول قائل: لماذا لم يقل: وحملناه على السفينة، أو: حملناه على فلك، بل قال:{عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} ؟
والجواب على هذا أن نقول: عدل عن التعبير بالفلك والسفينة إلى التعبير بذات ألواح ودسر؛ ولوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: مراعاة للآيات وفواصلها، فلو قال: حملنا على فلك، لم تتناسب هذه الآية مع ما بعدها ولا ما قبلها. ولو قال: على سفينة، كذلك، لكن من أجل تناسب الآيات في فواصلها وفي كلماتها قال:
{عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} .
الوجه الثاني: من أجل أن يتعلم الناس كيف يصنعون السفن، وبيان أنها من الألواح والمسامير؛ ولهذا قال الله تعالى:{وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15] فأبقى الله تعالى علمها آية للخلق يصنعون كما ألهم الله تعالى نوحًا.
الوجه الثالث: الإشارة إلى قوتها، حيث كانت من ألواح ودسر، والتنكير هنا للتعظيم.
وروعي التركيز على مادتها، ونظير ذلك في ذكر الوصف دون الموصوف قوله تعالى:{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] ولم يقل: دروعًا؛ من أجل العناية بفائدة هذه الدروع، وهي أن تكون سابغة تامة، فهذه مثلها.
* وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، نقول فيها ما قلناه في قوله تعالى:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] .
الآية الثالثة: قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] .
* الخطاب لموسى عليه الصلاة والسلام.
* فقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} : اختلف المفسرون في معناها: فمنهم من قال: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} ، يعني: أني أحببتك.
ومنهم من قال: ألقيت عليك محبة من الناس، والإلقاء من الله، أي أن: من رآك أحبك، وشاهد هذا أن امرأة فرعون لما رأته أحبته وقالت:
{لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9] .
ولو قال قائل: أيمكنكم أن تحملوا الآية على المعنيين؟ لقلنا: نعم بناء على القاعدة، وهو أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا منافاة بينهما فإنها تحمل عليهما جميعًا، فموسى عليه الصلاة والسلام محبوب من الله عز وجل، ومحبوب من الناس، إذا رآه الناس أحبوه، والواقع أن المعنيين متلازمان؛ لأن الله تعالى إذا أحب عبدًا ألقى في قلوب العباد محبته.
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه -أنه قال: أحبه الله وحببه إلى خلقه.
* ثم قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} : الصنع: جعل الشيء على صفة معينة، كصنع صفائح الحديد قدورًا، وصنع الأخشاب أبوابًا، وصنع شيء بحسبه، فصناعة البيت: بناء البيت، وصناعة الحديد: جعلها أواني مثلًا أو محركات، وصنع الآدمي: معناه التربية البدنية والعقلية: تربيته البدنية بالغذاء، وتربيته العقلية بالآداب والأخلاق وما أشبه ذلك.
وموسى عليه الصلاة والسلام حصل له ذلك، فإنه ربي على عين الله:
لما التقط آل فرعون، حماه الله عز وجل من قتلهم، مع أنهم كانوا يقتلون أبناء بني إسرائيل، فقضى الله تعالى أن هذا الذي تقتل الناس من أجله سيتربى في أحضان آل فرعون، فالناس يقتلون من أجله، وهو يتربى آمنًا في أحضانهم، وانظر إلى هذه القدرة العظيمة!
ومن تربية الله له عرض على المراضع - النساء اللاتي يرضعنه - ولكنه ما رضع من أي واحدة: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12] فما رضع من امرأة قط، وكانت أخته قد انتدبت من قبل أمه، فرأتهم
وقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] قالوا: نعم، نحن نود هذا. فقالت: اتبعوني. فتبعوها، قال تعالى:{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [القصص: 13] ولم يرضع من امرأة قط، مع أنه رضيع،لكن هذا من كمال قدرة الله وصدق وعده؛ لأن الله عز وجل قال لها:{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] .
الأم شفقتها على ابنها لا أحد يتصورها، قيل لها: اجعلي ابنك في صندوق، وألقيه في البحر، وسيأتي إليك.
لولا الإيمان الذي مع هذه المرأة، ما فعلت هذا الشيء،تلقي ابنها في البحر! لو أن ابنها سقط في تابوته في البحر لجرته،فكيف وهي التي تلقيه؟! لكن لثقتها بالرب عز وجل ووعده ألقته في اليم.
وقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ، بالإفراد، هل ينافي ما سبق من ذكرها بالجمع؟!
الجواب: لا تنافي؛ وذلك لأن المفرد المضاف يعم فيشمل كل ما ثبت لله من عين، وحينئذ لا منافاة بين المفرد وبين الجمع أو التثنية.
إذًا، يبقى النظر بين التثنية والجمع، فكيف نجمع بينهما؟!
الجواب أن نقول: إن كان أقل الجمع اثنين، فلا منافاة؛ لأننا نقول: هذا الجمع دال على اثنتين، فلا ينافيه. وإن كان أقل الجمع ثلاثة، فإن هذا الجمع لا يراد به الثلاثة، وإنما يراد به التعظيم والتناسب بين ضمير الجمع وبين المضاف إليه.
وقد فسر أهل التحريف والتعطيل العين بالرؤية بدون عين، وقالوا:
وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (1) ......................
ــ
{بِأَعْيُنِنَا} : برؤية منا، ولكن لا عين، والعين لا يمكن أن تثبت لله عز وجل أبدًا؛ لأن العين جزء من الجسم، فإذا أثبتنا العين لله أثبتنا تجزئة وجسمًا، وهذا شيء ممتنع، فلا يجوز، ولكنه ذكر العين من باب تأكيد الرؤية، يعني: كأنما نراك ولنا عين، والأمر ليس كذلك!!
فنقول لهم: هذا القول خطأ من عدة أوجه:
الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر اللفظ.
الثاني: أنه مخالف لإجماع السلف.
الثالث: أنه لا دليل عليه، أي: أن المراد بالعين مجرد الرؤية.
الرابع: أننا إذا قلنا بأنها الرؤية، وأثبت الله لنفسه عينًا، فلازم ذلك أنه يرى بتلك العين، وحينئذ يكون في الآية دليل على أنها عين حقيقية.
صفة السمع والبصر لله تعالى
ذكر المؤلف رحمه الله -في إثبات صفتي السمع والبصر آيات سبعًا: الآية الأولى: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] .
* {قَدْ} : للتحقيق.
والمجادلة: هي التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -تشتكي زوجها حين ظاهر منها.
والظهار: أن يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي. أو كلمة نحوها.
وكان الظهار في الجاهلية طلاقًا بائنًا، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبين له كيف يطلقها هذا الرجل ذلك الطلاق البائن وهي أم أولاده، وكانت تحاور النبي صلى الله عليه وسلم أي: تراجعه الكلام، فأفتاها الله عز وجل بما أفتاها به في الآيات المذكورة.
*والشاهد من هذه الآيات قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} ، ففي هذا إثبات السمع لله سبحانه وتعالى، وأنه يسمع الأصوات مهما بعدت ومهما خفيت.
قالت عائشة رضي الله عنها: "تبارك (أو قالت: الحمد لله) الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي ناحية البيت، وإني ليخفى على بعض حديثها".هذا معنى حديثها.
والسمع المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين:
سمع يتعلق بالمسموعات، فيكون معناه إدراك الصوت.
2 -
وسمع بمعنى الاستجابة، فيكون معناه أن الله يجيب من دعاه؛ لأن الدعاء صوت ينطلق من الداعي، وسمع الله دعاءه يعني: استجاب دعاءه، وليس المراد سمعه مجرد سماع فقط؛ لأن هذا لا فائدة منه، بل الفائدة أن يستجيب الله الدعاء.
فالسمع الذي بمعنى إدراك الصوت ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقصد به التأييد.
والثاني: ما يقصد به التهديد.
والثالث: ما يقصد به بيان إحاطة الله سبحانه وتعالى.
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} (1){أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (2) .............................
ــ
1 -
أما ما يقصد به التهديد، فكقوله تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف: 80]،وقوله:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] .
2 -
وأما ما يقصد به التأييد، فكقوله تعالى لموسى وهارون:{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] ، أراد الله عز وجل أن يؤيد موسى وهارون بذكر كونه معهما يسمع ويرى، أي: يسمع ما يقولان وما يقال لهما ويراهما ومن أرسلا إليه، وما يفعلان، وما يفعل بهما.
وأما ما يقصد به بيان الإحاطة، فمثل هذه الآية، وهي:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] .
(1)
الآية الثانية: قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] .
* {لَقَدْ} : جملة مؤكدة باللام، و (قد) ، والقسم المقدر، تقديره: والله، فهي مؤكدة بثلاث مؤكدات.
والذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} : هم اليهود قاتلهم الله، فهم وصفوا الله بالعيب، قالوا:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} .
وسبب قولهم هذا: أنه لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245]،قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن ربك افتقر، يسأل القرض منا.
(2)
الآية الثالثة: قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] .
وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (1) ..................
ــ
* {أَمْ} في مثل هذا التركيب، يقولون: إنها متضمنة معنى (بل) ، والهمزة، يعني: بل أيحسبون، ففيها إضراب وفيها استفهام، أي: بل أيحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم.
* والسر: ما يسره الإنسان إلى صاحبه.
والنجوى: ما يناجي به صاحبه ويخاطبه، فهو أعلى من السر.
والنداء: ما يرفع به صوته لصاحبه.
فها هنا ثلاثة أشياء: سر ومناجاة ونداء.
فمثلًا: إذا كان شخص إلى جانب: وساررته، أي: كلمته بكلام لا يسمعه غيره، نسمي هذا مسارة.
وإذا كان الحديث بين القوم يسمعونه كلهم ويتجاذبونه، سمي مناجاة.
وأما المناداة، فتكون من بعيد لبعيد.
فهؤلاء يسرون ما يقولونه من المعاصي، ويتناجون بها، فيقول الله عز وجل مهددًا إياهم:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} .
* و {بَلَى} : حرف إيجاب، يعني: بلى نسمع، وزيادة على ذلك:{وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ، أي: عندهم يكتبون ما يسرون وما به يتناجون، والمراد بالرسل هنا الملائكة الموكلون بكتابة أعمال بني آدم، ففي هذه الآية إثبات أن الله تعالى يسمع سرهم ونجواهم.
(1)
الآية الرابعة: قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] .
* الخطاب لموسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- يقول الله سبحانه
وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (1) ..............
ــ
وتعالى لهما: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، أي: أسمع ما تقولان، وأسمع ما يقال لكما، وأراكما، وأرى أن من أرسلتما إليه، وأرى ما تفعلان، وأرى ما يفعل بكما.
لأنه إما أن يساء إليهما بالقول أو بالفعل، فإن كان بالقول فهو مسموع عند الله، وإن كان بالفعل، فهو مرئي عند الله.
(1)
الآية الخامسة: قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] .
* الضمير في {أَلَمْ يَعْلَمْ} يعود إلى من يسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 9-14] ،وقد ذكر المفسرون أن المراد به أبو جهل (1) .
وفي هذه الآية: إثبات صفة الرؤية لله عز وجل.
والرؤية المضافة إلى الله لها معنيان.
المعنى الأول: العلم.
المعنى الثاني: رؤية المبصرات، يعني: إدراكها بالبصر.
فمن الأول: قوله تعالى عن القيامة: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6 - 7] ،فالرؤية هنا رؤية العلم؛ لأن اليوم ليس جسمًا يرى، وأيضًا هو لم يكن بعد، فمعنى:{وَنَرَاهُ قَرِيبًا} ، أي: نعلمه قريبًا.
*وأما قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} ، فهي صالحة لأن تكون بمعنى العلم وبمعنى الرؤية البصرية، وإذا كانت صالحة لهما، ولا منافاة بينهما،
(1) تفسير ابن كثير جـ4 سورة العلق.
{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) ...............
ــ
وجب أن تحمل عليهما جميعًا، فيقال: إن الله يرى، أي: يعلم ما يفعله هذا الرجل وما يقوله، ويراه أيضًا.
(1)
الآية السادسة: قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 218-220] .
* وقبل هذه الآية قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 217] .
* والرؤية هنا رؤية البصر؛ لأن قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} لا تصح أن تكون بمعنى العلم؛ لأن الله يعلم به حين يقوم وقبل أن يقوم، وأيضًا لقوله:{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} وهو يؤيد أن المراد بالرؤية هنا رؤية البصر.
* ومعنى الآية: أن الله تعالى يراه حين يقوم للصلاة وحده وحين يتقلب في الصلاة مع الساجدين في صلاة الجماعة.
* {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : (إِنَّهُ} ، أي: الله الذي يراك حين تقوم: {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
وفي الآية هنا ضمير الفصل {هُوَ} ، من فوائده الحصر، فهل الحصر هنا حقيقي، بمعنى: أنه حصر لا يوجد شيء من المحصور في غير المحصور فيه، أو هو إضافي؟
الجواب: هو إضافي من وجه،حقيقي من وجه؛ لأن المراد بـ {السَّمِيعُ} هنا: ذو السمع الكامل المدرك لكل مسموع، وهذا هو الخاص بالله عز وجل، والحصر بهذا الاعتبار حقيقي، أما مطلق السمع فقد يكون من الإنسان، كما في قوله تعالى: ( {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] ،
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (1) ............................
ــ
فجعل الله تعالى الإنسان سميعًا بصيرًا. وكذلك {عَلِيمٍ} ، فإن الإنسان عليم، كما قال الله تعالى:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، لكن العلم المطلق - أي: الكامل - خاص بالله سبحانه وتعالى، فالحصر بهذا الاعتبار حقيقي.
وفي هذه الآية الجمع بين السمع والرؤية.
الآية السابعة: قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] .
* والذي قبل هذه الآية: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 103-104] .
* في هذه الآية يقول: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} .
قال ابن كثير وغيره: قال مجاهد: هذا وعيد - يعني من الله تعالى - للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه وعلى الرسول والمؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا.
والرؤية هنا شاملة للعلمية والبصرية.
ففي الآية: إثبات الرؤية بمعنييها: الرؤية العلمية، والرؤية البصرية.
وخلاصة ما سبق من صفتي السمع والرؤية:
أن السمع ينقسم إلى قسمين:
1 -
سمع بمعنى الاستجابة.
2 -
وسمع بمعنى إدراك الصوت.
وأن إدراك الصوت ثلاثة أقسام.
وكذلك الرؤية تنقسم إلى قسمين:
1 -
رؤية بمعنى العلم.
2 -
ورؤية بمعنى إدراك المبصرات.
وكل ذلك ثابت لله عز وجل.
والرؤية التي بمعنى إدراك المبصرات ثلاثة أقسام:
1 -
قسم يقصد به النصر والتأييد، كقوله:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] .
2 -
وقسم يقصد به الإحاطة والعلم، مثل قوله:{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [البقرة: 271] .
3 -
وقسم يقصد به التهديد، مثل قوله:{قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 94] .
ما نستفيده من الناحية المسلكية في الإيمان بصفتي السمع والرؤية:
-أما الرؤية، فنستفيد من الإيمان بها الخوف والرجاء: الخوف عند المعصية؛ لأن الله يرانا، والرجاء عند الطاعة؛ لأن الله يرانا. ولا شك أنه سيثيبنا على هذا، فتتقوى عزائمنا بطاعة الله، وتضعف إرادتنا لمعصيته.
- وأما السمع، فالأمر فيه ظاهر؛ لأن الإنسان إذا آمن بسمع الله، استلزم إيمانه كمال مراقبة الله تعالى فيما يقول خوفًا ورجاءً: خوفًا، فلا
وقوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} ، وقوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ، وقوله:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ، وقوله:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} ................
ــ
يقول ما يسمع الله تعالى منه من السوء، ورجاء فيقول الكلام الذي يرضي الله عز وجل.
صفة المكر والكيد والمحال لله تعالى
ذكر المؤلف- رحمه الله -ثلاث صفات متقاربه في أربع آيات: المحال، والمكر، والكيد.
الآية الأولى: في المحال، وهي قوله:{وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [سورة الرعد: 13] . * أي: شديد الأخذ بالعقوبة. وقيل: إن المحال بمعنى المكر؛ أي: شديد المكر، وكأنه على هذا التفسير مأخوذ من الحيلة،وهي أن يتخيل بخصمه حتى يتوقع به. وهذا المعنى ظاهر صنيع المؤلف رحمه الله؛ لأنه ذكرها في سياق آيات المكر والكيد.
والمكر؛ قال العلماء في تفسيره: إنه التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم؛ يعني: أن تفعل أسبابًا خفية فتوقع بخصمك وهو لا يحص ولا يدري، ولكنها بالنسبة لك معلومة مدبرة.
والمكر يكون في موضع مدحًا ويكون في ذمًا: فإن كان في مقابلة من يمكر؛ فهو مدح؛ لأنه يقتضي أنك أنت أقوى منه. وإن كان في غير ذلك؛ فهو ذم ويسمي خيانة.
ولهذا لم يصف الله نفسه به إلا على سبيل المقابلة والتقييد؛ كما قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50]، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30] ، ولا يوصف الله سبحانه
وتعالى به على الإطلاق؛ فلا يقال: إن الله ماكر! لا على سبيل الخبر، ولا على سبيل التسمية ولا يقال: إنه كائد،لا على سبيل الخبر، ولا على سبيل التسمية؛ ذلك لأن هذا المعنى يكون مدحًا في حال ويكون ذمًا في حال؛ فلا يمكن أن نصف الله به على سبيل الإطلاق.
فأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] ؛ فهذا كمال؛ ولهذا لم يقل: أمكر الماكرين بل قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ؛ فلا يكون مكره إلا خيرًا؛ ولهذا يصح أن نصفه بذلك؛ فنقول: هو خير الماكرين. أو نصفه بصفة المكر في سبيل المقابلة؛ أي: مقابلة من يمكر به، فنقول: إن الله تعالى ماكر بالماكرين؛ لقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} .
الآية الثانية: في المكر، وهي قوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة آل عمران: 54] .
* هذه نزلت في عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، مكر به اليهود ليقتلوه، ولكن كان الله تعالى أعظم منهم مكرًا، رفعه الله، وألقى شبهه على أحدهم، على الذي تولى كبره وأراد أن يقتله، فلما دخل عليه هذا الذي يريد القتل، وإذا عيسى قد رفع، فدخل الناس، فقالوا: أنت عيسى؟ قال: لست عيسى، فقالوا: أنت هو. لأن الله تعالى ألقى عليه شبهه، فقتل هذا الرجل الذي كان يريد أن يقتل عيسى بن مريم؛ فكان مكره عائدًا عليه، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .
الآية الثالثة: في المكر أيضًا، وهي قوله:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] .
* هذا في قوم صالح، كان في المدينة التي كان يدعو الناس فيها إلى الله تسعة رهط-أي: أنفار - {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49] ؛ يعني: لنقتلنه بالليل، {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49] ؛ يعني: أنهم قتلوه بالليل؛ فما يشاهدونه. لكن مكروا ومكر الله! قيل: إنهم لما خرجوا ليقتلوه، فلجئوا إلى غار ينتظرون الليل، انطبق عليهم الغار، فهلكوا، وصالح وأهله لم يمسهم سوء، فيقول الله:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} .
* {وَمَكَرْنَا} : في الموضعين منكرة للتعظيم؛ أي: مكروا مكرًا عظيمًا، ومكرنا مكرًا أعظم.
الآية الرابعة: في الكيد، وهي قوله:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15-16] .
* {إِنَّهُمْ} ؛ أي: كفار مكة، {يَكِيدُونَ} للرسول صلى الله عليه وسلم {كَيْدًا} لا نظير له في التنفير منه ومن دعوته، ولكن الله تعالى يكيد كيدًا أعظم وأشد.
* {وَأَكِيدُ كَيْدًا} ؛ يعني: كيدًا أعظم من كيدهم.
ومن كيدهم ومكرهم ما ذكره الله في سورة الأنفال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] : ثلاثة آراء.
1 -
{لِيُثْبِتُوكَ} ؛ يعني: يحبسوك.
2 -
{يَقْتُلُوكَ} ؛ يعني: يعدموك.
3 -
{يُخْرِجُوكَ} ؛ يعني: يطردوك.
وكان رأي القتل أفضل الآراء عندهم بمشورة من إبليس؛ لأن إبليس جاءهم بصورة شيخ نجدي، وقال لهم: انتخبوا عشرة شبان من عشر قبائل من قريش، وأعطوا كل واحد سيفًا،ثم يعمدون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقتلونه قتلة رجل واحد، فيضيع دمه في القبائل، فلا تستطيع بنو هاشم أن تقتل واحدًا من هؤلاء الشبان،وحينئذ يلجئون إلى الدية، فتسلمون منه. فقالوا: هذا الرأي! وأجمعوا على ذلك. ولكنهم مكروا مكرًا والله تعالى يمكر خيرًا منه؛ قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] ؛ فما حصل لهم الذي يريدون، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج من بيته يذر التراب على رؤوس العشرة هؤلاء، ويقرأ:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] فكانوا ينتظرون الرسول عليه الصلاة والسلام -يخرج، فخرج من بينهم، ولم يشعروا به.
إذًا، صار مكر الله عز وجل أعظم من مكرهم؛ لأنه أنجى رسوله منهم وهاجر.
*قال هنا: {يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15-16] والتنكير فيها للتعظيم، وكان كيد الله عز وجل أعظم من كيدهم.
وهكذا يكيد الله عز وجل لكل من انتصر لدينه، فإنه يكيد له ويؤيده، قال الله تعالى:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76]،يعني: عملنا عملًا حصل به مقصوده دون أن يشعر به أحد.
وهذا من فضل الله عز وجل على المرء، أن يقيه شر خصمه على وجه الكيد والمكر على هذا الخصم الذي أراد الإيقاع به.
فإن قلت: ما هو تعريف المكر والكيد والمحال؟
فالجواب: تعريفها عند أهل العلم: التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم؛ يعني: أن توقع بخصمك بأسباب خفية لا يدري عنها.
وهي في محلها صفة كمال يحمد عليها،وفي غير محلها صفة نقص يذم عليها.
ويذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه -لما بارز عمرو بن ود -والفائدة من المبارزة أنه إذا غلب أحدهما أنكسرت قلوب خصومه-فلما خرج عمرو، صرخ علي: ما خرجت لأبارز رجلين. فالتفت عمرو، فلما التفت ضربه علي رضي الله عنه على رقبته حتى أطاح برأسه.
هذا خداع، لكنه جائز، ويحمد عليه؛ لأنه في موضعه؛ فإن هذا الرجل ما خرج ليكرم علي بن أبي طالب ويهنئه، ولكنه خرج ليقتله؛ فكاد له علي بذلك.
والمكر والكيد والمحال من صفات الله الفعلية التي لا يوصف بها على سبيل الإطلاق؛ لأنها تكون مدحًا في حال، وذمًا في حال؛ فيوصف بها حين تكون مدحًا، ولا يوصف بها إذا لم تكن مدحًا؛ فيقال: الله خير الماكرين، خير الكائدين، أو يقال: الله ماكر بالماكرين، خادع لمن يخادعه.
والاستهزاء من هذا الباب، فلا يصح أن نخبر عن الله بأنه مستهزئ على الإطلاق؛ لأن الاستهزاء نوع من اللعب، وهو منفي عن الله؛ قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدخان:
38] ، لكن في مقابلة من يستهزئ به يكون كمالًا؛ كما قال تعالى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، قال الله:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] .
فأهل السنة والجماعة يثبتون هذه المعاني لله عز وجل على سبيل الحقيقة.
لكن أهل التحريف يقولون: لا يمكن أن يوصف بها أبدًا، لكن ذكر مكر الله ومكرهم من باب المشاكلة اللفظية، والمعنى مختلف؛ مثل: ( {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] .
ونحن نقول لهم: هذا خلاف ظاهر النص، وخلاف إجماع السلف.
وقد قلنا سابقًا: إذا قال قائل: أئت لنا بقول لأبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي يقولون فيه: إن المراد بالمكر والاستهزاء والخداع الحقيقة!
فنقول لهم: نعم؛ هم قرؤوا القرآن وآمنوا به، وكونهم لم ينقلوا هذا المعنى المتبادر إلى معنى آخر يدل على أنهم أقروا به، وأن هذا إجماع؛ ولهذا يكفينا أن نقول في الإجماع: لم ينقل عن واحد منهم خلاف ظاهر الكلام، وأنه فسر الرضى بالثواب، أو الكيد بالعقوبة. . . ونحو ذلك.
وهذه الشبهة ربما يوردها علينا أحد من الناس؛ يقولون: أنتم تقولون: هذا إجماع السلف؛ أين إجماعهم؟
نقول: عدم نقل ما يخالف ظاهرها عنهم دليل الإجماع.
ما نستفيده من الناحية المسلكية في إثبات صفة المكر والكيد والمحال:
المكر: يستفيد به الإنسان بالنسبة للأمر المسلكي مراقبة الله سبحانه وتعالى، وعدم التحيل على محارمه، وما أكثر المتحيلين على المحارم، فهؤلاء المتحيلون على المحارم إذا علموا أن الله تعالى خير منهم مكرًا وأسرع منهم مكرًا، فإن ذلك يستلزم أن ينتهوا عن المكر.
ربما يفعل الإنسان شيئًا فيما يبدو للناس أنه جائز لا بأس به، لكنه عند الله ليس بجائز، فيخاف، ويحذر.
وهذا له أمثلة كثيرة جدًا في البيوع والأنكحة وغيرهما:
مثال ذلك في البيوع: رجل جاء إلى آخر؛ قال: أقرضني عشرة آلاف درهم. قال: لا أقرضك إلا باثني عشر ألف،وهذا ربًا وحرام سيتجنبه؛ لأنه يعرف أنه ربًا صريح، لكن باع عليه سلعة باثنى عشر آلفًا مؤجلة إلى سنة بيعًا تامًا وكتبت الوثيقة بينهما، ثم إن البائع أتى إلى المشترى، وقال: بعنيه بعشرة آلاف نقدًا. فقال: بعتك إياه. وكتبوا بينهما وثيقة بالبيع.
فظاهر هذا البيع الصحة، ولكن نقول: هذه حيلة؛ فإن هذا لما عرف أنه لا يجوز أن يعطيه عشرة آلاف باثني عشر ألفًا، قال: أبيع السلعة عليه باثني عشر، وأشتريها نقدًا بعشرة.
ربما يتسمر الإنسان في هذه المعاملة؛ لأنها أمام الناس معاملة ليس فيها شيء، لكنها عند الله تحيل على محارمه، وقد يملي الله تعالى لهذا الظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته؛ يعني: يتركه ينمو ماله ويزداد وينمو بهذا الربا لكن إذا أخذه لم يفلته، وتكون هذه الأشياء خسارة عليه فيما بعد، ومآله إلى الإفلاس، ومن الكلمات المشهورة على ألسنة الناس: من عاش في الحيلة مات فقيرًا.
وقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} . . .....
ــ
مثال في الأنكحة: امرأة طلقها زوجها ثلاثًا؛ فلا تحل له إلا بعد زوج، فجاء صديق له، فتزوجها بشرط أنه متى حللها -يعني: متى جامعها -طلقها، ولما طلقها أنت بالعدة، وتزوجها الأول، فإنها ظاهرًا تحل للزوج الأول، لكنها باطنًا لا تحل؛ لأن هذه حيلة.
فمتى علمنا أن الله أسرع مكرًا، وأن الله خير الماكرين؛ أوجب لنا ذلك أن نبتعد غاية البعد عن التحيل على محارم الله.
صفة العفو والمغفرة والرحمة والعزة
(1)
ذكر المؤلف رحمه الله -أربع آيات في صفة العفو والقدرة والمغفرة والرحمة والعزة:
الآية الأولى: في العفو والمقدرة: قوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] .
* يعني: إن تفعلوا خيرًا فتبدوه؛ أي: تظهروه للناس، {أَوْ تُخْفُوهُ} ؛ يعني: عن الناس- فإن الله تعالى يعلمه، ولا يخفى عليه شيء.
وفي الآية الثانية: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54] ، وهذا أعم، يشمل الخير والشر وما ليس بخير ولا شر.
ولكل آية مكانها ومناسبتها لمن تأمل.
وقوله: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} : العفو: هو التجاوز عن العقوبة؛
فإذا أساء إليكم إنسان، فعفوت عنه؛ فإن الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك.
ولكن العفو يشترك للثناء على فاعله أن يكون مقرونًا بالإصلاح؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ، وذلك أن العفو قد يكون سببًا للزيادة في الطغيان والعدوان، وقد يكون سببًا للانتهاء عن ذلك، وقد لا يزيد المعتدي ولا ينقصه.
1 -
فإذا كان سببًا للزيادة في الطغيان؛ كان العفو هنا مذمومًا، وربما يكون ممنوعًا؛ مثل أن نعفوا عن هذا المجرم، ونعلم - أو يغلب على الظن -أنه يذهب فيجرم إجرامًا أكبر، فهنا لا يمدح العافي عنه، بل يذم.
2 -
وقد يكون العفو سببًا للانتهاء عن العدوان؛ بحيث يخجل ويقول: هذا الذي عفا عني لا يمكن أن أعتدي عليه مرة أخرى، ولا على أحد غيره. فيخجل أن يكون هو من المعتدين وهذا الرجل من العافين؛ فالعفو محمود ومطلوب،وقد يكون واجبًا.
3 -
وقد يكون العفو لا يؤثر ازديادًا ولا نقصًا، فهو أفضل؛ لقوله تعالى:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] .
*وهنا يقول تعالى: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} ؛ يعني: إذا عفوتم عن السوء؛ عفا الله عنكم، ويؤخذ هذا الحكم من الجواب:{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} ؛ يعني: فيعفو عنكم مع قدرته على الانتقام منكم، وجمع الله تعالى هنا بين العفو والقدير؛ لأن كمال العفو أن يكون عن قدرة. أما العفو الذي يكون عن عجز؛ فهذا لا يمدح فاعله؛ لأنه عاجز عن الأخذ بالثأر. وأما العفو الذي لا يكون مع قدرة، فقد يمدح،لكنه ليس عفوًا كاملًا، بل العفو الكامل ما كان عن قدرة.
{وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} ...........
ــ
ولهذا جمع الله تعالى بين هذين الاسمين (العفو) و (التقدير) :
فالعفو: هو المتجاوز عن سيئات عباده، والغالب أن العفو يكون عن ترك الواجبات، والمغفرة عن فعل المحرمات.
والقدير: ذو القدرة،وهي صفة يتمكن بها الفاعل من الفعل بدون عجز.
وهذان الاسمان يتضمنان صفتين، وهما العفو والقدرة.
(1)
الآية الثانية: في المغفرة والرحمة: قوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} النور: 22] .
*هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن مسطح بن أثاثه رضي الله عنه كان ابن خالة أبي بكر، وكان ممن تكلموا في الإفك.
وقصة الإفك: أن قومًا من المنافقين تكلموا في عرض عائشة رضي الله عنها وليس والله قصدهم عائشة، لكن قصدهم رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: أن يدنسوا فراشه، وأن يلحقوه العار والعياذ بالله! ولكن الله -ولله الحمد- فضحهم، وقال:{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} النور: 11] تكلموا فيها، وكان أكثر من تكلم فيها المنافقون، وتكلم فيها نفر من الصحابة رضي الله عنهم -معروفون بالصلاح، ومنهم مسطح بن أثاثة، فلما تكلم فيها -وكان هذا من أكبر القطيعة قطعية الرحم، أن يتكلم إنسان في قريبه بما يخدش كرامته، لا سيما وأن ذلك في أم المؤمنين زوجة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، أقسم أبو بكر ألا ينفق عليه، وكان أبو بكر هو الذي ينفق عليه، فقال الله تعالى:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وكل هذه الأوصاف ثابتة في حق مسطح، فهو قريب ومسكين ومهاجر {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى والله، نحب أن يغفر الله لنا! فرد عليه النفقة.
هذا هو ما نزلت فيه الآية.
أما تفسيرها، فقوله:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} : اللام لام الأمر، وسكنت لأنها أتت بعد الواو، ولام الأمر تسكن إذا وقعت بعد الواو، كما هنا أو بعد الفاء، أو بعد (ثم) : قال الله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وقال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] ، هذا إذا كانت لام أمر، أما إذا كانت لام تعليل، فإنها تبقى مكسورة، لا تسكن، وإن وليت هذه الحروف.
قوله: {وَلْيَعْفُوا} ، يعني: يتجاوزوا عن الأخذ بالذنب.
{وَلْيَصْفَحُوا} ، يعني: يعرضوا عن هذا الأمر، ولا يتكلموا فيه، مأخوذ من صفحة العنق، وهي جانبه؛ لأن الإنسان إذا أعرض، فالذي يبدو منه صفحة العنق.
والفرق بين العفو والصفح: أن الإنسان قد يعفو ولا يصفح، بل يذكر هذا العدوان وهذه الإساءة، لكنه لا يأخذ بالندب، فالصفح أبلغ من مجرد العفو.
وقوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} : ألا: للعرض، والجواب: بلى نحب ذلك، فإذا كنا نحب أن يغفر الله لنا، فلنتعرض لأسباب المغفرة.
ثم قال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : غفور: هذه إما أن تكون اسم فاعل للمبالغة، وإما أن تكون صفة مشبهة، فإذا كانت صفة مشبهة، فهي دالة على الوصف اللازم الثابت، هذا هو مقتضى الصفة المشبهة، وإن كانت اسم فاعل محولا إلى صيغة التكثير، كانت دالة على وقوع المغفرة من الله بكثرة.
وبعد هذا نقول: إنها جامعة بين الأمرين، فهي صفة مشبهة؛ لأن المغفرة صفة دائمة لله عز وجل، وهي أيضا فعل يقع بكثرة، فما أكثر مغفرة الله عز وجل وما أعظمها.
وقوله: {رَحِيمٌ} : هذه أيضا اسم فاعل محول إلى صيغة المبالغة، وأصل اسم الفاعل من رحم: راحم، لكن حول إلى رحيم لكثرة رحمة الله عز وجل وكثرة من يرحمهم الله عز وجل.
والله سبحانه وتعالى يقرن بين هذين الاسمين؛ لأنهما دالان على معنى متشابه، ففي المغفرة زوال المكروب وآثار الذنب، وفي الرحمة حصول المطلوب، كما قال الله تعالى للجنة:«أنت رحمتي أرحم بك من أشاء» .
وقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}
ــ
الآية الثالثة: في العزة، وهي قوله:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] .
هذه الآية نزلت في مقابلة قول المنافقين: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] ، يريدون أنهم الأعز، وأن رسول الله والمؤمنين الأذلون، فبين الله تعالى أنه لا عزة لهم، فضلا عن أن يكونوا هم الأعزون، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ومقتضى قول المنافقين أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمؤمنين هم الذين يخرجون المنافقين؛ لأنهم أهل العزة، والمنافقون أهل الذلة، ولهذا كانوا يحسبون كل صيحة عليهم، وذلك لذلهم وهلعهم، وكانوا إذا لقوا الذين آمنوا، قالوا: آمنا، خوفا وجبنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزءون! وهذا غاية الذل. أما المؤمنون، فكانوا أعزاء بدينهم، قال الله عنهم في مجادلة أهل الكتاب:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] ، فيعلنونها صريحة، لا يخافون في الله لومة لائم.
وفي هذه الآية الكريمة إثبات العزة لله سبحانه وتعالى.
وذكر أهل العلم أن العزة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع:
1-
فعزة القدر: معناه أن الله تعالى ذو قدر عزيز، يعني: لا نظير له.
2-
وعزة القهر: هي عزة الغلبة، يعني: أنه غالب كل شيء، قاهر كل شيء، ومنه قوله تعالى:{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]
يعني: غلبني في الخطاب. فالله سبحانه عزيز له بل هو غالب كل شيء.
3-
وعزة الامتناع: وهي أن الله تعالى يمتنع أن يناله سوء أو نقص، فهو مأخوذ من القوة والصلابة، ومنه قولهم: أرض عزاز، يعني قوية شديدة.
هذه معاني العزة التي أثبتها الله تعالى لنفسه، وهي تدل على كمال قهره وسلطانه، وعلى كمال صفاته، وعلى تمام تنزهه عن النقص.
تدل على كمال قهره وسلطانه في عزة القهر.
وعلى تمام صفاته وكمالها وأنه لا مثيل لها في عزة القدر.
وعلى تمام تنزهه عن العيب والنقص في عزة الامتناع.
قوله: {وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، له عزة، وللمؤمنين أيضا عزة وغلبة.
ولكن يجب أن نعلم أن العزة التي أثبتها الله لرسوله وللمؤمنين ليست كعزة الله، فإن عزة الرسول عليه الصلاة والمؤمنين قد يشوبها ذلة؛ لقوله تعالى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] ، وقد يغلبون أحيانا لحكمة يريدها الله عز وجل، ففي أحد لم يحصل لهم تمام العزة؛ لأنهم غلبوا في النهاية لحكم عظيمة، وكذلك في حنين ولوا مدبرين، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم، من اثني عشر ألفا إلا نحو مئة رجل. هذا أيضا فقد للعزة، لكنه مؤقت. أما عزة الله عز وجل، فلا يمكن أبدا أن تفقد.
وبهذا عرفنا أن العزة التي أثبتها الله لرسوله وللمؤمنين ليست كالعزة التي أثبتها لنفسه.
وقوله عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} .
ــ
وهذا أيضا يمكن أن يؤخذ من القاعدة العامة، وهي أنه: لا يلزم من اتفاق الاسمين أن يتماثل المسميان، ولا من اتفاق الصفتين أن يتماثل الموصوفان.
الآية الرابعة: في العزة أيضا، وهي قوله عن إبليس:{فبعزتك لأغوينهم أجمعين} [ص: 82] .
الباء هنا للقسم، لكنه اختار القسم بالعزة دون غيرها من الصفات؛ لأن المقام مقام مغالبة، فكأنه قال: بعزتك التي تغلب بها من سواك لأغوين هؤلاء وأسيطر عليهم، يعني بني آدم، حتى يخرجوا من الرشد إلى الغي.
ويستثنى من هذا عباد الله المخلصون، فإن إبليس لا يستطيع أن يغويهم، كما قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] .
ففي هاتين الآيتين إثبات العزة لله.
وفي الآية الثالثة إثبات أن الشيطان يقر بصفات الله!.
فكيف نجد من بني آدم من ينكر صفات الله أو بعضها، أيكون الشيطان أعلم بالله وأعقل مسلكا من هؤلاء النفاة؟ ! .
ما نستفيده من الناحية المسلكية:
في العفو والصفح: هو أننا إذا علمنا أن الله عفو، وأنه قدير، أوجب لنا ذلك أن نسأله العفو دائما، وأن نرجو منه العفو عما حصل منا من التقصير في الواجب.
أما العزة أيضا: نقول: إذا علمنا أن الله عزيز، فإننا لا يمكن أن نفعل
وقوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام}
ــ
فعلا نحارب الله فيه.
مثلا الإنسان المرابي معاملته مع الله المحاربة: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] . إذا علمنا أن الله ذو عزة لا يغلب، فإنه لا يمكننا أن نقدم على محاربة الله عز وجل.
قطع الطريق محاربة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] ، فإذا علمنا أن قطع الطريق محاربة لله، وأن العزة لله، امتنعنا عن العمل، لأن الله هو الغالب.
ويمكن أن نقول فيها فائدة من الناحية المسلكية أيضا، وهي أن الإنسان المؤمن ينبغي له أن يكون عزيزا في دينه، بحيث لا يذل أمام أحد من الناس، كائنا من كان، إلا على المؤمنين، فيكون عزيزا على الكافرين، ذليلا على المؤمنين.
إثبات الاسم لله تعالى
ذكر المؤلف رحمه الله آية في إثبات الاسم لله تعالى، وآيات أخرى كثيرة في تنزيه الله تعالى ونفي المثيل عنه.
آية إثبات الاسم: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] .
{تَبَارَكَ} : قال العلماء: معناها: تعالى وتعاظم إن وصف بها الله، كقوله:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] ، وإن وصف بها اسم الله، كان معناها: أن البركة تكون باسم الله، أي أن اسم الله إذا صاحب شيئا، صارت فيه البركة.
ولهذا جاء في الحديث: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ " بسم الله " فهو أبتر» (1)، أي: ناقص البركة.
بل إن التسمية تفيد حل الشيء الذي يحرم بدونها، فإنه إذا سمى الله على الذبيحة صارت حلالا، وإذا لم يسم صارت حراما وميتة، وهناك فرق بين الحلال الطيب الطاهر، والميتة النجسة الخبيثة.
وإذا سمى الإنسان على طهارة الحدث، صحت، وإذا لم يسم، لم تصح على أحد القولين.
وإذا سمى الإنسان على طعامه، لم يأكل معه الشيطان، وإن لم يسم، أكل معه.
وإذا سمى الإنسان على جماعه، وقال:«اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا» ثم قدر بينهما ولد، لم يضره الشيطان أبدا، وإن لم يفعل، فالولد عرضة لضرر الشيطان.
وعليه، فنقول: إن {فَتَبَارَكَ} هنا ليست بمعنى: تعالَى وتعاظَم، بل يتعين أن يكون معناها: حلت البركة باسم الله، أي أن اسمه سبب للبركة إذا صحب شيئا.
وقوله: {ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} : (ذي) : بمعنى صاحب، وهي
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في " الجامع "(2/69)، والسيوطي في " الجامع الصغير " (2/92) وسئل العلامة الجليل/ محمد العثيمين حفظه الله تعالي عن هذا الحديث فقال: " هذا الحديث اختلف العلماء في صحته فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي، ومنهم من ضعفه، ولكن تلقي العلماء له بالقبول ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن ذلك له أصلاً.. [انتهي من كتاب (العلم) ص 127.
وقوله: {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} .
ــ
صفة لـ (رب) ، لا لـ (اسم) ، لو كانت صفة لـ (اسم) ، لكانت، ذو.
و {الْجَلَالِ} ، بمعنى: العظمة.
والإكرام، بمعنى: التكريم، وهو صالح؛ لأن يكون الإكرام من الله لمن أطاعه، وممن أطاعه له.
فـ {الْجَلَالِ} : عظمته في نفسه، {وَالْإِكْرَامِ} : عظمته في قلوب المؤمنين، فيكرمونه ويكرمهم.
آيات الصفات المنفية في تنزيه الله ونفي المثل عنه
قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] .
شرع المؤلف رحمه الله بالصفات السلبية، أي صفات النفي.
وقد مر علينا فيما سبق أن صفات الله عز وجل ثبوتية وسلبية أي: منفية؛ لأن الكمال لا يتحقق إلا بالإثبات والنفي، إثبات الكمالات، ونفي النقائض.
قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} : الفاء مفرعة على ما سبق، وهو قوله:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم: 65] ، فذكر سبحانه وتعالى الربوبية {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، وفرع على ذلك وجوب عبادته؛ لأن كل من أقر بالربوبية، لزمه الإقرار بالعبودية والألوهية، وإلا صار متناقضا.
فقوله: {فَاعْبُدْهُ} ، أي: تذلل له محبة وتعظيما، والعبادة، يراد بها المتعبد به، ويراد بها التعبد الذي هو فعل العبد، كما سبق في المقدمة.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
ــ
وقوله: {وَاصْطَبِرْ} : اصطبر، أصلها في اللغة: اصتبر، فأبدلت التاء طاء لعلة تصريفية. والصبر: حبس النفس. وكلمة (اصطبر) أبلغ من (اصبر) ؛ لأنها تدل على معاناة، فالمعنى اصبر، وإن شق عليك ذلك، واثبت ثبات القرين لقرينه في القتال.
وقوله: {لِعِبَادَتِهِ} ، قيل: إن اللام بمعنى (على)، أي: اصطبر عليها، كما قال تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] ..
وقيل: بل اللام على أصلها، أي: اصطبر لها، أي كن مقابلا لها بالصبر، كما يقابل القرين قرينه في ميدان القتال.
وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} : الاستفهام للنفي، وإذا كان الاستفهام بمعنى النفي، كان مشربا معنى التحدي، يعني: إن كنت صادقا، فأخبرنا:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ؟ و (السمي) : الشبيه والنظير.
يعني: هل تعلم له مساميا أو نظيرا يستحق مثل اسمه؟
والجواب: لا.
فإذا كان كذلك، فالواجب أن تعبده وحده.
وفيها من الصفات: قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ، وهي من الصفات السلبية.
فما الذي تتضمنه من صفات الكمال (لأننا ذكرنا فيما سبق أن الصفات السلبية لا بد أن تتضمن ثبوتا) فما هو الثبوت الذي تضمنه النفي هنا؟
الجواب: الكمال المطلق، فيكون المعنى: هل تعلم له سميا لثبوت كماله المطلق الذي لا يساميه أحد فيه؟ .
الآية الثانية: قوله: {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] .
{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
ــ
تقدم الكلام عليها، أي: ليس يكافئه أحد، وهو نكرة في سياق النفي فتعم.
و {كُفُوًا} : فيها ثلاث قراءات: كفوا، وكفئا، وكفؤا، فهي بالهمزة ساكنة الفاء ومضمومتها، وبالواو مضمومة الفاء لا غير، وبهذا نعرف خطأ الذين يقرءون بتسكين الفاء مع الواو (كفوا) .
هذه الآية أيضا فيها نفي الكفء لله عز وجل، وذلك لكمال صفاته، فلا أحد يكافئه، لا في علمه، ولا سمعه، ولا بصره، ولا قدرته، ولا عزته، ولا حكمته، ولا غير ذلك من صفاته.
الآية الثالثة: قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] .
هذا مفرع على قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} ، وكل هذا من توحيد الربوبية، ثم قال:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 21-22] يعني: في الألوهية؛ لأن أولئك القوم المخاطبين لم يجعلوا لله أندادا في الربوبية، إذا فلا تجعلوا لله أندادا في الألوهية كما أنكم تقرون أنه ليس له أندادا في الربوبية.
وقوله: {أَنْدَادًا} : جمع ند، وند الشيء ما كان منادا (أي مكافئا) له ومشابها، وما زال الناس يقولون: هذا ند لهذا، أي: مقابل له ومكافئ له.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} : الجملة هنا حالية، وصاحب الحال هي الواو في قوله:{فَلَا تَجْعَلُوا} ، والمفعول محذوف، يعني: وأنتم تعلمون
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} .
ــ
أنه لا ند له.
الجملة الحالية هنا صفة كاشفة، والصفة الكاشفة كالتعليل للحكم، فكأنه قال: لا تجعلوا لله أندادا؛ لأنكم تعلمون أنه لا ند له، فإذا كنتم تعلمون ذلك، فكيف تجعلونه فتخالفون علمكم؟ !
وهذه أيضا سلبية، وذلك من قوله:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، لأنه لا ند له، لكمال صفاته.
الآية الرابعة: قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} [البقرة: 165] .
ومن: تبعيضية، والميزان لـ (من) التبعيضية أن يحل محلها: بعض، يعني: وبعض الناس.
{مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} : يتخذهم أندادا، يعني: في المحبة، كما فسره بقوله:{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ، ويجوز أن نقول: إن المراد بالأنداد ما هو أعم من المحبة، يعني: أندادا يعبدونهم كما يعبدون الله، وينذرون لهم كما ينذرون لله؛ لأنهم يحبونهم كحب الله، يحبون هذه الأنداد كحب الله عز وجل.
وهذا إشراك في المحبة، بحيث تجعل غير الله مثل الله في محبته.
وينطبق ذلك على من أحب رسول الله كحب الله؛ لأنه يجب أن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة ليست كمحبة الله؛ لأنك إنما تحب الرسول صلى الله عليه وسلم تبعا
لمحبة الله عز وجل، لا على أنه مناد لله، فكيف بمن يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر مما يحبون الله؟!
وهنا يجب أن نعرف الفرق بين المحبة مع الله والمحبة لله:
المحبة مع الله: أن تجعل غير الله مثله في محبته أو أكثر. وهذا شرك..
والمحبة في الله أو لله: هي أن تحب الشيء تبعا لمحبة الله عز وجل.
والذي نستفيده من الناحية المسلكية في هذه الآيات:
أولا: في قوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} : إذا علمنا أن الله تعالى موصوف بالجلال، فإن ذلك يستوجب أن نعظمه، وأن نجله.
وإذا علمنا أنه موصوف بالإكرام فإن ذلك يستوجب أن نرجو كرمه وفضله.
وبذلك نعظمه بما يستحقه من التعظيم والتكريم.
ثانيا: قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ، فالفوائد المسلكية في ذلك هو أن يعبد العبد ربه، ويصطبر للعبادة، لا يمل، ولا يتعب، ولا يضجر، بل يصبر عليها صبر القرين لقرينه في المبارزة في الجهاد.
ثالثا: قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} ، ففيها تنزيه لله عز وجل، وأن الإنسان يشعر في قلبه بأن الله تعالى منزه عن كل نقص، وأنه لا مثيل له، ولا ند له، وبهذا يعظمه حق تعظيمه بقدر استطاعته.
رابعا: قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} ، فمن فوائدها من الناحية المسلكية: أنه لا يجوز للإنسان أن يتخذ أحدا من الناس محبوبا
ــ
كمحبة الله، وهذه تسمى المحبة مع الله.
الآية الخامسة: قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] .
{وَقُلِ} : الخطاب في مثل هذا: إما خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام، أو عام لكل من يصح توجيه الخطاب إليه.
فإن كان خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم، فهو خاص به بالقصد الأول، وأمته تبع له.
وإن كان عاما، فهو يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره بالقصد الأول.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : سبق تفسير هذه الجملة، وأن الحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
وقوله: لله: اللام هنا للاستحقاق والاختصاص:
للاستحقاق؛ لأن الله تعالى يحمد وهو أهل للحمد.
والاختصاص؛ لأن الحمد الذي يحمد الله به ليس كالحمد الذي يحمد به غيره، بل هو أكمل وأعظم وأعم وأشمل.
وقوله: {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} : هذا من الصفات السلبية: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} لكمال صفاته وكمال غناه عن غيره؛ ولأنه لا مثيل له، فلو اتخذ ولدا، لكان الولد مثله، لو كان له ولد، لكان محتاجا إلى الولد يساعده ويعينه، لو كان له ولد، لكان ناقصا؛ لأنه إذا شابهه أحد من خلقه، فهو نقص.
وقوله {وَلَدًا} يشمل الذكر والأنثى ففيه رد على اليهود والنصارى والمشركين:
اليهود قالوا: لله ولد، وهو عزير.
والنصارى قالوا: لله ولد، وهو المسيح.
والمشركون قالوا: لله ولد، وهم الملائكة.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} : هذا معطوف على قوله: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} ، يعني: والذي لم يكن له شريك في الملك، لا في الخلق، ولا في الملك، ولا في التدبير.
كل ما سوى الله، فهو مخلوق لله، مملوك له، يدبره كما يشاء، ولم يشاركه أحد في ذلك، كما قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 23] على سبيل التعيين، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 23] على سبيل الشيوع، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 23] ، لم يعاونه أحد في هذه السماوات والأرض، {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22-23] ، وبهذا تقطعت جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون في آلهتهم.
فالآلهة هذه لا تملك من السماوات والأرض شيئا معينا، وليست شريكة لله، ولا معينة، ولا شفاعة، إلا بإذنه، يقول:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111] .
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} : لم يكن له ولي، لكنه قيد بقوله:{مِنَ الذُّلِّ} .
ومن هنا للتعليل؛ لأن الله تعالى له أولياء: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63]، وقال تعالى في الحديث القدسي:«من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب» .." ولكن الولي المنفي هو الولي من الذل؛ لأن الله تعالى له العزة جميعا، فلا يلحقه الذل بوجه من الوجوه، لكمال عزته.
وقوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} ، يعني: كبر الله عز وجل تكبيرا، بلسانك وجنانك: اعتقد في قلبك أن الله أكبر من كل شيء، وأن له الكبرياء في السماوات والأرض، وكذلك بلسانك تكبره، تقول: الله أكبر!
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم يكبرون كلما علوا نشرا، أي: مرتفعا، وهذا في السفر؛ لأن الإنسان إذا علا في مكانه، قد يشعر في قلبه أنه مستعل على غيره، فيقول: الله أكبر. من أجل أن يخفف تلك العلياء التي شعر بها حين علا وارتفع.
وكانوا إذا هبطوا، قالوا: سبحان الله؛ لأن النزول سفول، فيقول: سبحان الله، أي: أنزهه عن السفول الذي أنا الآن فيه.
وقوله: {تَكْبِيرًا} : هذا مصدر مؤكد، يراد به التعظيم، أي: كبره تكبيرا عظيما.
والذي نستفيده من الناحية المسلكية في هذه الآية:
أن الإنسان يشعر بكمال غنى الله عز جل عن كل أحد، وانفراده
ــ
بالملك، وتمام عزته وسلطانه، وحينئذ يعظم الله سبحانه وتعالى بما يستحق أن يعظم به بقدر استطاعته.
ونستفيد حمد الله تعالى على تنزهه عن العيوب، كما يحمد على صفات الكمال
الآية السادسة: قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1] .
{يُسَبِّحُ} ، بمعنى: ينزه عن كل صفة نقص وعيب، و (سبح) تتعدى بنفسها وتتعدى باللام.
- أما تعديها بنفسها، فمثل قوله تعالى:{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9] .
- وأما تعديها باللام، فهي كثيرة، فكل السور المبدوءة بهذا متعدية باللام.
قال العلماء: وإذا أريد مجرد الفعل، تعدت بنفسها:{وَتُسَبِّحُوهُ} ، أي: تقولوا: سبحان الله!
وإذا أريد بيان القصد والإخلاص، تعدت باللام، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} ، أي: سبحوا إخلاصا لله واستحقاقا.
فاللام هنا تبين كمال الإرادة من الفاعل، وكمال الاستحقاق من المسبح، وهو الله.
وقوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} : عام يشمل كل شيء.
لكن التسبيح نوعان: تسبيح بلسان المقال، وتسبيح بلسان الحال.
ــ
- أما التسبيح بلسان الحال، فهو عام:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] .
- وأما التسبيح بلسان المقال، فهو عام كذلك، لكن يخرج منه الكافر، فإن الكافر لم يسبح الله بلسانه، ولهذا يقول تعالى:{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23]، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 159] فهم لم يسبحوا الله تعالى؛ لأنهم أشركوا به ووصفوه بما لا يليق به.
فالتسبيح بلسان الحال يعني: أن حال كل شيء في السماوات والأرض تدل على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن العبث وعن النقص، حتى الكافر إذا تأملت حاله، وجدتها تدل على تنزه الله تعالى عن النقص والعيب.
وأما التسبيح بلسان المقال، فيعني: أن يقول: سبحان الله.
وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
هذه الصفات الأخيرة صفات ثبوتية، وسبق ذكر معناها، لكن يسبح لله صفة سلبية؛ لأن معناها، تنزيهه عما لا يليق به.
الآية السابعة والثامنة: وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1-2] .
{تَبَارَكَ} بمعنى: تعالى وتعاظم.
و {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} : هو الله عز وجل.
وقوله: {الْفُرْقَانَ} ، يعني به: القرآن؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين المسلم والكافر، وبين البر والفاجر، وبين الضار والنافع، وغير ذلك مما فيه الفرقان، فكله فرقان.
{عَلَى عَبْدِهِ} : محمد عليه الصلاة والسلام، فوصفه بالعبودية في مقام التحدث عن تنزل القرآن عليه، وهذا المقام من أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا وصفه الله تعالى بالعبودية في مقام تنزل القرآن عليه، كما هنا، وكما في قوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]، ووصفه بالعبودية في مقام الدفاع عنه والتحدي:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] ، ووصفه بالعبودية في مقام تكريمه بالمعراج، فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1]، وقال في سورة النجم:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] ، مما يدل على أن وصف الإنسان بالعبودية لله يعد كمالا؛ لأن العبودية لله هي حقيقة الحرية، فمن لم يتعبد له، كان عابدا لغيره.
قال ابن القيم رحم الله:
هربوا من الرق الذي خلقوا له
…
وبلوا برق النفس والشيطان
و" الرق الذي خلقوا له ": عبادة الله عز وجل.
و" بلوا برق النفس والشيطان ": حيث صاروا أرقاء لنفوسهم، وأرقاء للشيطان، فما من إنسان يفر من عبودية الله، إلا وقع في عبودية هواه وشيطانه، قال الله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] .
قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} : اللام هنا للتعليل، والضمير في {لِيَكُونَ} عائد على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أقرب مذكور، ولأن الله تعالى قال:{لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2]، وقال تعالى:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، فالمنذر: الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {لِلْعَالَمِينَ} : يشمل الجن والإنس.
وقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : تقدم معناها.
وقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} : سبق معناهما، وهما صفة سلبية.
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} : الخلق: الإيجاد على وجه معين.
والتقدير: بمعنى التسوية أو بمعنى القضاء في الأزل، والأول أصح، ويدل لذلك قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2] ، وبه تكون الآية على الترتيب الذكري والمعنوي، وعلى الثاني تكون الآية على الترتيب الذكري.
ونستفيد من هذه الآيات من الناحية المسلكية:
أنه يجب علينا أن نعرف عظمة الله عز وجل، وننزهه عن كل نقص، وإذا علمنا ذلك، ازددنا محبة له وتعظيما.
ومن آيتي الفرقان نستفيد بيان هذا القرآن العظيم، وأنه مرجع العباد، وأن الإنسان إذا أراد أن تتبين له الأمور، فليرجع إلى القرآن؛ لأن الله سماه فرقانا:{نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] .
ونستفيد أيضا من الناحية المسلكية التربوية: أن تتأكد وتزداد محبتنا
ــ
لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان عبدا لله، قائما بإبلاغ الرسالة وإنذار الخلق.
ونستفيد أيضا: أن النبي عليه الصلاة والسلام آخر الرسل، فلا نصدق بأي دعوى للنبوة من بعده؛ لقوله:{لِلْعَالَمِينَ} ، ولو كان بعده رسول، لكان تنتهي رسالته بهذا الرسول، ولا كانت للعالمين كلهم.
الآية التاسعة والعاشرة: قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:91-92] .
ينفي الله تعالى في هذه الآية أن يكون اتخذ ولدا، أو أن يكون معه إله.
ويتأكد هذا النفي بدخول من في قوله من ولد، وقوله: من إله؛ لأن زيادة حرف الجر في سياق النفي ونحوه تفيد التوكيد.
فقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} ، يعني: ما اصطفى أحدا يكون ولدا له، لا عزير، ولا المسيح، ولا الملائكة ولا غيرهم؛ لأنه الغني عما سواه.
وإذا انتفى اتخاذه الولد فانتفاء أن يكون والدا من باب أولى.
وقوله: {مِنْ إِلَهٍ} : إله، بمعنى: مألوه، مثل: بناء، بمعنى: مبني، وفراش، بمعنى: مفروش، فالإله بمعنى المألوه، أي: المعبود المتذلل له.
يعني: ما كان معه من إله حق، أما الآلهات الباطلة، فهي موجودة، لكن لكونها باطلة، كانت كالعدم، فصح أن يقال: ما كان مع الله من إله.
إذا، يعني: لو كان معه إله.
{لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} : لو كان هناك إله آخر يساوي الله عز وجل، لكان له ملك خاص ولله ملك خاص، يعني: لانفرد كل واحد منهم بما خلق، قال: هذا خلقي لي، وكذلك الآخر.
وحينئذ، يريد كل منهما أن يسيطر على الآخر كما جرت به العادة، فملوك الدنيا كل واحد منهم يريد أن يسيطر على الآخر، وتكون المملكة كلها له، وحينئذ:
إما أن يتمانعا، فيعجز كل واحد منهما عن الآخر، وإذا عجز كل واحد منهما عن الآخر، ما صح أن يكون واحد منهما إلها؛ لأن الإله لا يكون عاجزا.
وإما أن يعلو أحدهما على الآخر، فالعالي هو الإله.
فترجع المسألة إلى أنه لا بد أن يكون للعالم إله واحد، ولا يمكن أن يكون للعالم إلهان أبدا؛ لأن القضية لا تخرج من هذين الاحتمالين.
كما أننا أيضا إذا شاهدنا الكون علويه وسفليه، وجدنا أنه كون يصدر عن مدبر واحد، وإلا لكان فيه تناقض، فأحد الإلهين يقول مثلا: أنا أريد الشمس تخرج من المغرب! والثاني يقول: أريدها تطلع من المشرق! واتفاق الإرادتين بعيد جدا، ولا سيما أن المقام مقام سلطة، فكل واحد
يريد أن يفرض رأيه.
ومعلوم أننا لا نشاهد الآن الشمس تطلع يوما مع هذا ويوما مع هذا، أو يوما تتأخر؛ لأن الثاني منعها ويوما تتقدم؛ لأن الأول أمر الثاني بإخراجها، فلا نجد هذا، نجد الكون كله واحدا متناسبا متناسقا، مما يدل دلالة ظاهرة على أن المدبر له واحد، وهو الله عز وجل.
فبين الله سبحانه وتعالى بدليل عقلي أنه لا يمكن التعدد، إذ لو أمكن التعدد، لحصل هذا، لانفصل كل واحد عن الثاني، وذهب كل إله بما خلق، وحينئذ إما أن يعجز أحدهما عن الآخر، وإما أن يعلو أحدهما الآخر، فإن كان الأول، لم يصلح أي واحد منهما للألوهية، وإن كان الثاني، فالعالي هو الإله، وحينئذ يكون الإله واحدا.
فإن قيل: ألا يمكن أن يصطلحا وينفرد كل واحد بما خلق؟
فالجواب: أنه لو أمكن ووقع، لزم أن يختل نظام العالم.
ثم إن اصطلاحهما لا يكون إلا لخوف كل واحد منهما من الآخر، وحينئذ لا تصلح الربوبية لواحد منهما، لعجزه عن مقاومة الآخر.
ثم قال تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، أي: تنزيها لله عز وجل عما يصفه به الملحدون المشركون الذين يقولون في الله سبحانه ما لا يليق به.
{عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} : الغيب: ما غاب عن الناس، والشهادة: ما شهده الناس.
{فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ: فَتَعَالَى} ، يعني: ترفع وتقدس وتنزه.
{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
ــ
{عَمَّا يُشْرِكُونَ} : عن الأصنام التي جعلوها آلهة مع الله تعالى.
وفي هاتين الآيتين من صفات النفي: تنزه الله تعالى عن اتخاذ الولد الذي وصفه به الكافرون، وعن الشريك له في الألوهية الذي أشرك به المشركون.
وهذا النفي لكمال غناه وكمال ربوبيته وإلهيته.
ونستفيد منهما من الناحية المسلكية: أن الإيمان بذلك يحمل الإنسان على الإخلاص لله عز وجل.
الآية الحادية عشرة: قوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] .
يعني: لا تجعلوا لله مثلا، فتقولون: مثل الله كمثل كذا وكذا أو تجعلوا له شريكا في العبادة.
يعني {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، بمعنى: أنه سبحانه وتعالى يعلم بأنه ليس له مثل، وقد أخبركم بأنه لا مثل له، في قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]
…
وما أشبه ذلك، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وقد يقال: إن هذه الجملة تتضمن الدليل الواضح على أن الله ليس له مثل، وأنها كضرب المثل في امتناع المثل؛ لأننا نحن لا نعلم والله يعلم، فإذا انتفى العلم عنا، وثبت لله، فأين المماثلة؟ ! هل يماثل الجاهل من كان عالما؟ !
ويدلك على نقص علمنا: أن الإنسان لا يعلم ما يفعله في اليوم التالي: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]، وأن الإنسان لا يعلم روحه التي بين جنبيه:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] .
وما زال الفلاسفة والمتفلسفة وغيرهم يبحثون عن حقيقة هذه الروح، ولم يصلوا إلى حقيقتها، مع أنها هي مادة الحياة، وهذا يدل على نقصان العلم في المخلوق، ولهذا قال تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .
فإن قلت: كيف تجمع بين هذه الآية: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] وبين قوله تعالى {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] ؟
الجواب: أنه هناك يخاطب الذين يشركون به في الألوهية فيقول: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} في العبادة والألوهية {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه لا ند له في الربوبية، بدليل قوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الَّذِي {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22] . أما هنا: ففي باب الصفات: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} ، فتقولوا: مثلا: إن يد الله مثل يد كذا! وجه الله مثل وجه كذا! وذات الله مثل الذات الفلانية
…
وما أشبه هذا؛ لأن الله تعالى يعلم وأنتم لا تعلمون وقد أخبركم بأنه لا مثيل له.
أو يقال: إن إثبات العلم لهم خاص في باب الربوبية، ونفيه عنهم خاص في باب الألوهية، حيث أشركوا بالله فيها، فنزلوا منزلة الجاهل.
ــ
وهذه الآية تتضمن من الكمال، كمال صفات الله عز وجل، حيث إنه لا مثيل له.
أما الفائدة المسلكية التي تؤخذ من هذه الآية، فهي: كمال تعظيمنا للرب عز وجل؛ لأننا إذا علمنا أنه لا مثيل له، تعلقنا به رجاء وخوفا، وعظمناه، وعلمنا أنه لا يمكن أن يماثله سلطان ولا ملك ولا وزير ولا رئيس، مهما كانت عظمة ملكيتهم ورئاستهم ووزارتهم؛ لأن الله سبحانه ليس له مثل.
الآية الثانية عشرة: قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] .
{قُلْ} : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: قل معلنا للناس.
{إِنَّمَا} : أداة حصر، وذلك لمقابلة تحريم من حرم ما أحل الله.
{حَرَّمَ} ، بمعنى: منع، وأصل هذه المادة (ح ر م) تدل على المنع، ومنه حريم البئر: للأرض التي تحميه حوله؛ لأنه يمنع من التعدي عليه.
{الْفَوَاحِشَ} : جمع فاحشة، وهي الذنب الذي يستفحش، مثل: الزنى واللواط.
والزنى، قال الله فيه:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] .
وفي اللواط، قال لوط لقومه:{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] .
ومن الزنى أن يتزوج الإنسان امرأة لا تحل له لقرابة أو رضاع
أو مصاهرة، قال الله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22]، بل إن هذا أشد من الزنى؛ لأنه وصفه بثلاثة أوصاف: فاحشة، ومقت، وساء سبيلا، وفي الزنى وصفه الله بوصفين:{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] .
وقوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} : قيل: إن المعنى ما ظهر فحشه وما خفي، وقيل: المعنى ما ظهر للناس وما بطن عنهم، باعتبار فعل الفاعل، لا باعتبار العمل، أي: ما أظهره الإنسان للإنسان وما أبطنه.
قوله: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، يعني: حرم الإثم والبغي بغير الحق.
والإثم: المراد به ما يكون سببا له من المعاصي.
والبغي: العدوان على الناس، قال الله تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] .
وفي قوله: {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : إشارة إلى أن كل بغي فهو بغير حق، وليس المراد أن البغي ينقسم إلى قسمين: بغي بحق، وبغي بغير حق؛ لأن البغي كله بغير حق.
وعلى هذا فيكون الوصف هنا من باب الوصف الكاشف، ويسميها العلماء صفة كاشفة، أي: مبينة، وهي التي تكون كالتعليل لموصوفها.
قوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} : هذه معطوفة على ما سبق، يعني: وحرم ربي أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، يعني: أن تجعلوا له شريكا لم ينزل به سلطانا، أي حجة، وسميت الحجة سلطانا؛ لأنها سلطة للمحتج بها.
وهذا القيد: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} : نقول فيه كما قلنا في: {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، أي: أنه قيد كاشف؛ لأن كل من أشرك بالله، فليس له سلطان بشركه.
قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، يعني: وحرم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون، فحرام علينا أن نقول على الله ما لا نعلم، سواء كان في ذاته أو أسمائه أو صفاته أو أفعاله أو أحكامه.
فهذه خمسة أشياء حرمها الله علينا.
وفيها رد على المشركين الذين حرموا ما لم يحرمه الله.
إذا قال قائل: أين الصفة السلبية في هذه الآية؟
قلنا: هي {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، فالاثنتان جميعا من باب الصفات السلبية:{وَأَنْ تُشْرِكُوا} ، يعني: لا تجعلوا لله شريكا لكماله. {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} كذلك، لكماله، فإنه من تمام سلطانه أن لا يقول عليه أحد ما لا يعلم.
الفائدة المسلكية من هذه الآية هي: أن تتجنب هذه الأشياء الخمسة التي صرح الله تعالى بتحريمها.
وقد قال أهل العلم: إن هذه المحرمات الخمسة مما أجمعت الشرائع على تحريمها.
ويدخل في القول على الله بغير علم تحريف نصوص الكتاب والسنة في الصفات وغيرها، فإن الإنسان إذا حرف نصوص الصفات، مثل أن يقول: المراد باليدين النعمة فقد قال على الله ما لا يعلم من وجهين:
الوجه الأول: أنه نفى الظاهر بلا علم.
والثاني: أثبت لله خلافه بغير دليل.
وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سبعة مواضع في سورة الأعراف، قوله:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
ــ
فهو يقول: لم يرد الله كذا، وأراد كذا، فنقول: هات الدليل على أنه لم يرد، وعلى أنه أراد كذا! فإن لم تأت بالدليل، فإنك قد قلت على الله ما لا تعلم.
استواء الله على عرشه
ذكر المؤلف رحمه الله ثبوت استواء الله على عرشه وأنه في سبعة مواضع من القرآن:
الموضع الأول: قوله في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] .
الله خبر إن.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : أوجدهما من العدم على وجه الإحكام والإتقان.
{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} : ومدة هذه الأيام كأيامنا التي نعرف؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكرها منكّرة، فتحمل على ما كان معروفا.
وأول هذه الأيام يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة.
منها أربعة أيام للأرض، ويومان للسماء، كما فصل الله ذلك في سورة فصلت:
[فصلت: 9-10]، فصارت أربعة:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 11-12] .
وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : ثم: للترتيب.
استوى، بمعنى: علا.
والعرش: هو ذلك السقف المحيط بالمخلوقات، ولا نعلم مادة هذا العرش؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح يبين من أين خلق هذا العرش، لكننا نعلم أنه أكبر المخلوقات التي نعرفها.
وأصل العرش في اللغة: السرير الذي يختص به الملك، ومعلوم أن السرير الذي يختص به الملك سيكون سريرا عظيما فخما لا نظير له.
وفي هذه الآية من صفات الله تعالى عدة صفات، لكن المؤلف ساقها لإثبات صفة واحدة، وهي الاستواء على العرش.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الله تعالى مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ولا يماثل استواء المخلوقين.
فإن سألت: ما معنى الاستواء عندهم؟ فمعناه العلو والاستقرار.
وقد ورد عن السلف في تفسيره أربعة معان: الأول: علا، والثاني: ارتفع، والثالث: صعد. والرابع: استقر.
لكن (علا) و (ارتفع) و (صعد) معناها واحد، وأما (استقر) ، فهو يختلف عنها.
ودليلهم في ذلك: أنها في جميع مواردها في اللغة العربية لم تأت إلا لهذا المعنى إذا كانت متعدية بـ (على) :
قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] .
وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 12-13] .
وفسره أهل التعطيل بأن المراد به الاستيلاء، وقالوا: معنى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، يعني: ثم استولى عليه.
واستدلوا لتحريفهم هذا بدليل موجب وبدليل سالب:
- أما الدليل الموجب، فقالوا: إننا نستدل بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
…
من غير سيف أو دم مهراق
(بشر) : ابن مروان، (استوى)، يعني: استولى على العراق.
قالوا: وهذا بيت من رجل عربي، ولا يمكن أن يكون المراد به استوى على العراق، يعني علا على العراق! لا سيما أنه في ذلك الوقت لا طائرات يمكن أن يعلو على العراق بها.
أما الدليل السلبي، فقالوا لو أثبتنا أن الله عز وجل مستو على عرشه بالمعنى الذي تقولون، وهو العلو والاستقرار، لزم من ذلك أن يكون محتاجا إلى العرش، وهذا مستحيل، واستحالة اللازم تدل على استحالة الملزوم.
ولزم من ذلك أن يكون جسما؛ لأن استواء شيء على شيء بمعنى علوه عليه، يعني أنه جسم. ولزم أن يكون محدودا؛ لأن المستوي على الشيء يكون محدودا، وإذا استويت على البعير، فأنت محدود في منطقة معينة محصور بها وعلى محدود أيضا.
هذه الأشياء الثلاثة التي زعموا أنها تلزم من إثبات أن الاستواء بمعنى
العلو والارتفاع.
والرد عليهم من وجوه:
أولا: تفسيركم هذا مخالف لتفسير السلف الذي أجمعوا عليه، والدليل على إجماعهم أنه لم ينقل عنهم أنهم قالوا به وخالفوا الظاهر، ولو كانوا يرون خلاف ظاهره، لنقل إلينا، فما منهم أحد قال: إن (استوى) بمعنى (استولى) أبدا.
ثانيا: أنه مخالف لظاهر اللفظ؛ لأن مادة الاستواء إذا تعدت بـ (على) ، فهي بمعنى العلو والاستقرار، هذا ظاهر اللفظ، وهذه مواردها في القرآن وفي كلام العرب.
ثالثا: أنه يلزم عليه لوازم باطلة:
1 -
يلزم أن يكون الله عز وجل حين خلق السماوات والأرض ليس مستوليا على عرشه؛ لأن الله يقول: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ، وثم تفيد الترتيب، فيلزم أن يكون العرش قبل تمام خلق السماوات والأرض لغير الله.
2 -
أن الغالب من كلمة (استولى) أنها لا تكون إلا بعد مغالبة! ولا أحد يغالب الله.
أين المفر والإله الطالب
…
والأشرم المغلوب ليس الغالب
3 -
من اللوازم الباطلة أنه يصح أن نقول: إن الله استوى على الأرض والشجر والجبال؛ لأنه مستول عليها.
وهذه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.
وأما استدلالهم بالبيت، فنقول:
1 -
أثبتوا لنا سند هذا البيت وثقة رجاله، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلا.
2 -
من هذا القائل؟ أفلا يمكن أن يكون قاله بعد تغير اللسان؟ لأن كل قول يستدل به على اللغة العربية بعد تغير اللغة العربية فإنه ليس بدليل؛ لأن العربية بدأت تتغير حين اتسعت الفتوح ودخل العجم مع العرب فاختلف اللسان، وهذا فيه احتمال أنه بعد تغير اللسان.
3 -
أن تفسيركم "استوى بشر على العراق" بـ (استولى) تفسير تعضده القرينة؛ لأنه من المعتذر أن بشرا يصعد فوق العراق فيستوي عليه، كما يستوي على السرير أو على ظهر الدابة فلهذا نلجأ إلى تفسيره بـ (استولى) .
هذا نقوله من باب التنزل، وإلا، فعندنا في هذا جواب آخر:
أن نقول: الاستواء في البيت بمعنى العلو؛ لأن العلو نوعان:
1 -
علو حسي، كاستوائنا على السرير.
2 -
وعلو معنوي، بمعنى السيطرة والغلبة.
فيكون معنى "استوى بشر على العراق" يعني: علا علو غلبة وقهر.
وأما قولكم: إنه يلزم من تفسير الاستواء بالعلو أن يكون الله جسما.
فجوابه: كل شيء يلزم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو حق، ويجب علينا أن نلتزم به، ولكن الشأن كل الشأن أن يكون هذا من لازم كلام الله ورسوله؛ لأنه قد يمنع أن يكون لازما، فإذا ثبت أنه لازم، فليكن، ولا حرج علينا إذا قلنا به.
ثم نقول: ماذا تعنون بالجسم الممتنع؟
إن أردتم به أنه ليس لله ذات تتصف بالصفات اللازمة لها اللائقة بها، فقولكم باطل؛ لأن لله ذاتا حقيقية متصفة بالصفات، وأن له وجها ويدا وعينا وقدما، وقولوا ما شئتم من اللوازم التي هي لازم حق.
وأن أردتم بالجسم الذي قلتم يمتنع أن يكون الله جسما:
الجسم المركب من العظام واللحم والدم وما أشبه ذلك، فهذا ممتنع على الله، وليس بلازم من القول بأن استواء الله على العرش علوه عليه.
وأما قولهم: إنه يلزم أن يكون محدودا.
فجوابه أن نقول بالتفصيل: ماذا تعنون بالحد؟
إن أردتم أن يكون محدودا، أي: يكون مباينا للخلق منفصلا عنهم، كما تكون أرض لزيد وأرض لعمر، فهذه محدودة منفصلة عن هذه، فهذا حق ليس فيه شيء من النقص.
وإن أردتم بكونه محدودا: أن العرش محيط به، فهذا باطل، وليس بلازم، فإن الله تعالى مستوٍ على العرش، وإن كان عز وجل أكبر من العرش ومن غير العرش، ولا يلزم أن يكون العرش محيطا به، بل لا يمكن أن يكون محيطا به؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه.
وأما قولهم: يلزم أن يكون محتاجا إلى العرش.
فنقول: لا يلزم؛ لأن معنى كونه مستويا على العرش: أنه فوق العرش
لكنه علو خالص، وليس معناه أن العرش يقله أبدا، فالعرش لا يقله، والسماء لا تقله، وهذا اللازم الذي ادعيتموه ممتنع؛ لأنه نقص بالنسبة إلى الله عز وجل، وليس بلازم من الاستواء الحقيقي؛ لأننا لسنا نقول: إن معنى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، يعني: أن العرش يقله ويحمله، فالعرش محمول:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] ، وتحمله الملائكة الآن، لكنه ليس حاملا لله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس محتاجا إليه، ولا مفتقرا إليه، وبهذا تبطل حججهم السلبية.
وخلاصة ردنا لكالمهم من عدة أوجه:
الأول: أن قولهم هذا مخالف لظاهر النص.
ثانيا: مخالف لإجماع الصحابة وإجماع السلف قاطبة.
ثالثا: أنه لم يرد في اللغة العربية أن (استوى) بمعنى (استولى) ، والبيت الذي احتجوا به على ذلك لا يتم به الاستدلال.
رابعا: أنه يلزم عليه لوازم باطلة منها:
1 -
أن يكون العرش قبل خلق السماوات والأرض، ملكا لغير الله.
2 -
أن كلمة (استولى) تعطي في الغالب أن هناك مغالبة بين الله وبين غيره، فاستولى عليه وغلبه.
3 -
أنه يصح أن نقول على زعمكم: إن الله استوى على الأرض والشجر والجبال والإنسان والبعير؛ لأنه (استولى) على هذه الأشياء، فإذا صح أن نطلق كلمة (استولى) على شيء، صح أن نطلق (استوى) على ذلك الشيء، لأنهما مترادفان على زعمكم.
وقال في سورة يونس عليه السلام: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقال في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
ــ
فبهذه الأوجه يتبين أن تفسيرهم باطل.
ولما كان أبو المعالي الجويني -عفا الله عنه- يقرر مذهب الأشاعرة، وينكر استواء الله على العرش، بل وينكر علو الله بذاته، قال:
"كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره، وهو الآن على ما كان عليه". وهو يريد أن ينكر استواء الله على العرش، يعني: كان ولا عرش، وهو الآن على ما كان عليه، إذا: لم يستو على العرش.
فقال له أبو العلاء الهمذاني: يا أستاذ دعنا من ذكر العرش والاستواء على العرش، يعني: لأن دليله سمعي، ولولا أن الله أخبرنا به ما علمناه أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجد في نفوسنا: ما قال عارف قط: يا الله! إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو. فبهت أبو المعالي، وجعل يضرب على رأسه: حيرني الهمذاني، حيرني الهمذاني! وذلك لأن هذا دليل فطري لا أحد ينكره.
الموضع الثاني: في سورة يونس، قال الله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3] .
نقول فيها ما قلنا في الآية الأولى.
الموضع الثالث: في سورة الرعد قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2] .
{رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} : بغير عمد: هل يعني: ليس لها عمد
وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ}
ــ
مطلقا؟ أو لها عمد لكنها غير مرئية لنا؟
فيه خلاف بين المفسرين، فمنهم من قال: إن جملة ترونها صفة لـ عمد، أي: بغير عمد مرئية لكم، ولها عمد غير مرئية. ومنهم من قال: إن جملة ترونها جملة مستأنفة، معناها: ترونها كذلك بغير عمد. وهذا الأخير أقرب، فإن السماوات ليس لها عمد مرئية ولا غير مرئية، ولو كان لها عمد، لكانت مرئية في الغالب، وإن كان الله تعالى قد يحجب عنا بعض المخلوقات الجسمية لحكمة يريدها.
وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : هذا الشاهد، ويقال في معناها ما سبق.
الموضع الرابع: في سورة طه قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوَى} [طه: 5] .
قدم على العرش وهو معمول لـ استوى لإفادة الحصر والتخصيص وبيان أنه سبحانه وتعالى لم يستو على شيء سوى العرش.
وفي ذكر الرحمن إشارة إلى أنه مع علوه وعظمته موصوف بالرحمة.
الموضع الخامس: في سورة الفرقان قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] .
{الرَّحْمَنُ} : فاعل استوى.
وقال في سورة آلم السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقال في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .
ــ
الموضع السادس: في سورة آلم السجدة قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} السجدة: 4] .
نقول فيها مثل ما قلنا في آيتي الأعراف ويونس، لكن هنا فيه زيادة:
وما بينهما؛ يعني: بين السماء والأرض، والذي بينهما مخلوقات عظيمة استحقت أن تكون معادلة للسماوات والأرض، وهذه المخلوقات العظيمة منها ما هو معلوم لنا كالشمس والقمر والنجوم والسحاب، ومنها ما هو مجهول إلى الآن.
الموضع السابع: في سورة الحديد قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] .
فهذه سبعة مواضع؛ كلها يذكر الله تعالى فيها الاستواء معدى بـ على.
وبعد؛ فقد قال العلماء: إن أصل هذه المادة (س وي) تدل على الكمال {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2] ؛ أي: أكمل ما خلقه؛ فأصل السين والواو والياء تدل على الكمال.
ثم هي على أربعة أوجه في اللغة العربية: معداة بـ (إلى) ، ومعداة بـ (على) ، ومقرونة بالواو، ومجردة:
-فالمعداة بـ (على) مثل: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4]، ومعناها:
علا واستقر.
والمعداة بـ (إلى) : مثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] .
فهل معناها كالأولى المعداة بـ (على) ؟
فيها خلاف بين المفسرين:
منهم من قال: إن معناها واحد، وهذا ظاهر تفسير ابن جرير رحمه الله؛ فمعنى استوى إلى السماء؛ أي: ارتفع إليها.
ومنهم من قال: بل الاستواء هنا بمعنى القصد الكامل؛ فمعنى: استوى إليها؛ أي: قصد إليها قصدا كاملا، وأيدوا تفسيرهم هذا بأنها عديت بما يدل على هذا المعنى، وهو (إلى)، وإلى هذا ذهب ابن كثير رحمه الله؛ ففسر قوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ؛ أي: قصد إلى السماء، والاستواء ها هنا مضمن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بـ (إلى) .ا. هـ كلامه.
والمقرونة بالواو؛ كقولهم: استوى الماء والخشبة؛ بمعنى: تساوى الماء والخشبة.
والمجردة؛ كقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14]، ومعناها: كمل.
تنبيه:
إذا قلنا: استوى على العرش؛ بمعنى: علا؛ فها هنا سؤال، وهو: إن الله خلق السماوات، ثم استوى على العرش؛ فهل يستلزم أنه قبل ذلك ليس عاليا؟
وقوله: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}
ــ
فالجواب: لا يستلزم ذلك؛ لأن الاستواء على العرش أخص من مطلق العلو؛ لأن الاستواء على العرش علو خاص به، والعلو شامل على جميع المخلوقات؛ فعلوه عز وجل ثابت له أزلا وأبدا، لم يزل عاليا على كل شيء قبل أن يخلق العرش، ولا يلزم من عدم استوائه على العرش عدم علوه، بل هو عال، ثم بعد خلق السماوات والأرض علا علوا خاصا على العرش.
فإن قلت: نفهم من الآية الكريمة أنه حين خلق السماوات والأرض ليس مستويا على العرش، لكن قبل خلق السماوات والأرض، هل هو مستو على العرش أو لا؟
فالجواب: الله أعلم بذلك.
فإن قلت: هل استواء الله تعالى على عرشه من الصفات الفعلية أو الذاتية؟
فالجواب: أنه من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته، وكل صفة تتعلق بمشيئته؛ فهي من الصفات الفعلية.
إثبات علو الله على مخلوقاته
ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات علو الله على خلقه ست آيات..
الآية الأولى: قوله: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] .
الخطاب لعيسى ابن مريم الذي خلقه الله من أم بلا أب، ولهذا ينسب إلى أمه، فيقال: عيسى ابن مريم.
يقول الله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} : ذكر العلماء فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: {مُتَوَفِّيكَ} ؛ بمعنى قابضك، ومنه قولهم: توفى حقه؛
أي: قبضه.
القول الثاني: {مُتَوَفِّيكَ} : منيمك؛ لأن النوم وفاة؛ كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 60] .
القول الثالث: أنه وفاة موت: {مُتَوَفِّيكَ} : مميتك، ومنه قوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] .
والقول بأن {مُتَوَفِّيكَ} متوفيك بمعنى مميتك بعيد؛ لأن عيسى عليه السلام لم يمت، وسينزل في آخر الزمان؛ قال الله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] ؛ أي: قبل موت عيسى على أحد القولين، وذلك إذا نزل في آخر الزمان. وقيل: قبل موت الواحد؛ يعني: ما من أحد من أهل الكتاب إلا إذا حضرته الوفاة؛ آمن بعيسى، حتى وإن كان يهوديا. وهذا القول ضعيف.
بقي النظر بين وفاة القبض ووفاة النوم، فنقول: إنه يمكن أن يجمع بينهما فيكون قابضا له حال نومه؛ أي أن الله تعالى ألقى عليه النوم؛ ثم رفعه، ولا منافاة بين الأمرين.
قوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} : الشاهد هنا؛ فإن إلي تفيد الغاية، وقوله:{وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} يدل على أن المرفوع إليه كان عاليا، وهذا يدل على علو الله عز وجل.
فلو قال قائل: المراد: رافعك منزلة؛ كما قال الله تعالى: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45] .
قلنا هذا لا يستقيم؛ لأن الرفع هنا عدَّى بحرف يختص بالرفع الذي هو الفوقية؛ رفع الجسد، وليس رفع المنزلة.
واعلم أن علو الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: علو معنوي، وعلو ذاتي:
1 -
أما العلو المعنوي؛ فهو ثابت لله بإجماع أهل القبلة؛ أي: بالإجماع من أهل البدع وأهل السنة؛ كلهم يؤمنون بأن الله تعالى عال علوا معنويا.
2 -
وأما العلو الذاتي؛ فيثبته أهل السنة، ولا يثبته أهل البدعة؛ يقولون: إن الله تعالى ليس عاليا علوا ذاتيا.
فنبدأ أولا بأدلة أهل السنة على علو الله سبحانه وتعالى الذاتي فنقول: إن أهل السنة استدلوا على علو الله تعالى علوا ذاتيا بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة:
أولا: فالكتاب تنوعت دلالته على علو الله؛ فتارة بذكر العلو، وتارة بذكر الفوقية، وتارة بذكر نزول الأشياء من عنده، وتارة بذكر صعودها إليه، وتارة بكونه في السماء.
(1)
فالعلو مثل قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] .
(2)
والفوقية: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] .
(3)
ونزول الأشياء منه؛ مثل قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5]، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] . وما أشبه ذلك.
(4)
وصعود الأشياء إليه؛ مثل قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]
ومثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] .
(5)
كونه في السماء؛ مثل قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16] .
ثانيا: وأما السنة فقد تواترت عن النبي، صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله وإقراره:
(1)
فأما قول الرسول عليه الصلاة والسلام:
فجاء بذكر العلو والفوقية، ومنه قوله، صلى الله عليه وسلم «سبحان ربي الأعلى» ، وقوله لما ذكر السماوات؛ قال:«والله فوق العرش» . . (1)
وجاء بذكر أن الله في السماء؛ مثل قوله، صلى الله عليه وسلم:«ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» . .
(2)
وأما الفعل؛ فمثل رفع أصبعه إلى السماء، وهو يخطب الناس في أكبر جمع، وذلك في يوم عرفة، عام حجة الوداع؛ فإن الصحابة لم يجتمعوا اجتماعا أكبر من ذلك الجمع؛ إذ إن الذي حج معه بلغ نحو مئة ألف، والذين مات عنهم نحو مئة وأربعة وعشرين ألفا: يعني: عامة المسلمين حضروا ذلك الجمع، فقال عليه الصلاة والسلام:«ألا هل بلغت؟ ". قالوا: نعم. "ألا هل»
(1) رواه ابن خزيمة في كتاب "التوحيد"(1/ 244) ، واللالكائي في "شرح السنة"(659) ، والطبراني في "الكبير"(9/228)، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/86) :"رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح".
ومن ذلك رفع يديه إلى السماء في الدعاء.
وهذا إثبات للعلو بالفعل.
(3)
وأما التقرير؛ فإنه في «حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه؛ أنه أتى بجارية يريد أن يعتقها، فقال لها النبي، صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ ". قالت: في السماء. فقال: "من أنا؟ ". قالت: رسول الله. قال: "أعتقها؛ فإنها مؤمنة» . .
فهذه جارية لم تتعلم، والغالب على الجواري الجهل، لا سيما وهي أمة غير حرة، لا تملك نفسها، تعلم أن ربها في السماء، وضلال بني آدم ينكرون أن الله في السماء، ويقولون: إما أنه لا فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال! أو أنه في كل مكان!! .
فهذه من أدلة الكتاب والسنة.
ثالثا: وأما دلالة الإجماع؛ فقد أجمع السلف على أن الله تعالى بذاته في السماء، من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى يومنا هذا.
إن قلت: كيف أجمعوا؟
نقول: إمرارهم هذه الآيات والأحاديث مع تكرار العلو فيها، والفوقية ونزول الأشياء منه وصعودها إليه دون أن يأتوا بما يخالفها إجماع منهم على مدلولها.
ولهذا لما قال شيخ الإسلام: "إن السلف مجمعون على ذلك"؛ قال: "ولم يقل أحد منهم: إن الله ليس في السماء، أو: إن الله في الأرض، أو: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل، أو: إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه".
رابعا: وأما دلالة العقل؛ فنقول: لا شك أن الله عز وجل إما أن يكون في العلو أو في السفل، وكونه في السفل مستحيل؛ لأنه نقص يستلزم أن يكون فوقه شيء من مخلوقاته، فلا يكون له العلو التام والسيطرة التامة والسلطان التام، فإذا كان السفل مستحيلا؛ كان العلو واجبا.
وهناك تقرير عقلي آخر، وهو أن نقول: إن العلو صفة كمال باتفاق العقلاء، وإذا كان صفة كمال؛ وجب أن يكون ثابتا لله؛ لأن كل صفة كمال مطلقة؛ فهي ثابتة لله.
وقولنا: "مطلقة": احترازا من الكمال النسبي، الذي يكون كمالا في حال دون حال؛ فالنوم مثلا نقص، ولكن لمن يحتاج إليه ويستعيد قوته به كمال.
خامسا: وأما دلالة الفطرة: فأمر لا يمكن المنازعة فيها ولا المكابرة؛ فكل إنسان مفطور على أن الله في السماء، ولهذا عندما يفجؤك الشيء الذي لا تستطيع دفعه، وإنما تتوجه إلى الله تعالى بدفعه؛ فإن قلبك ينصرف إلى السماء حتى الذين ينكرون علو الذات لا يقدرون أن ينزلوا أيديهم إلى الأرض.
وهذه الفطرة لا يمكن إنكارها.
حتى إنهم يقولون: إن بعض المخلوقات العجماء تعرف أن الله في
السماء كما في الحديث الذي يروى «أن سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام وعلى أبيه خرج يستسقي ذات يوم بالناس، فلما خرج؛ رأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: "اللهم! إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك". فقال: "ارجعوا؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم".» وهذا إلهام فطري.
فالحاصل أن: كون الله في السماء أمر معلوم بالفطرة.
ووالله؛ لولا فساد فطرة هؤلاء المنكرين لذلك؛ لعلموا أن الله في السماء بدون أن يطالعوا أي كتاب؛ لأن الأمر الذي تدل عليه الفطرة لا يحتاج إلى مراجعة الكتب.
والذين أنكروا علو الله عز وجل بذاته يقولون: لو كان في العلو بذاته؛ كان في جهة، وإذا كان في جهة؛ كان محدودا وجسما، وهذا ممتنع!
والجواب عن قولهم: "إنه يلزم أن يكون محدودا وجسما؛ نقول:
أولا: لا يجوز إبطال دلالة النصوص بمثل هذه التعليلات، ولو جاز هذا؛ لأمكن كل شخص لا يريد ما يقتضيه النص أن يعلله بمثل هذه العلل العليلة.
فإذا كان الله أثبت لنفسه العلو، ورسوله، صلى الله عليه وسلم أثبت له العلو، والسلف الصالح أثبتوا له العلو؛ فلا يقبل أن يأتي شخص ويقول: لا يمكن أن يكون علو ذات؛ لأنه لو كان علو ذات؛ لكان كذا وكذا.
ثانيا: نقول: إن كان ما ذكرتم لازما لإثبات العلو لزوما صحيحا؛ فلنقل به؛ لأن لازم كلام الله ورسوله حق؛ إذ إن الله تعالى يعلم ما يلزم من
{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}
ــ
كلامه. فلو كانت نصوص العلو تستلزم معنى فاسدا لبينه، ولكنها لا تستلزم معنى فاسدا.
ثالثا: ثم نقول: ما هو الحد والجسم الذي أجلبتم علينا بخيلكم ورجلكم فيها.
أتريدون بالحد أن شيئا من المخلوقات يحيط بالله؟! فهذا باطل ومنتف عن الله، وليس بلازم من إثبات العلو لله أو تريدون بالحد أن الله بائن من خلقه غير حال فيهم؟ فهذا حق من حيث المعنى، ولكن لا نطلق لفظه نفيا ولا إثباتا، لعدم ورود ذلك.
وأما الجسم، فنقول: ماذا تريدون بالجسم؟ أتريدون أنه جسم مركب من عظم ولحم وجلد ونحو ذلك؟ فهذا باطل ومنتف عن الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. أم تريدون بالجسم ما هو قائم بنفسه متصف بما يليق به؟ فهذا حق من حيث المعنى، لكن لا نطلق لفظه نفيا ولا إثباتا، لما سبق.
وكذلك نقول في الجهة، هل تريدون أن الله تعالى له جهة تحيط به؟ فهذا باطل، وليس بلازم من إثبات علوه. أم تريدون جهة علو لا تحيط بالله؟ فهذا حق لا يصح نفيه عن الله تعالى.
الآية الثانية: قوله: {بل رفعه الله إليه} [النساء: 158] .
بل: للإضراب الإبطالي، لإبطال قولهم:{إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157-158] .
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}
ــ
فكذبهم الله بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} .
والشاهد قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ، فإنه صريح بأن الله تعالى عال بذاته، إذ الرفع إلى الشيء يستلزم علوه.
الآية الثالثة: قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10] .
إليه: إلى الله عز وجل.
{يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} : والكلم هنا اسم جمع، مفرده كلمة، وجمع كلمة كلمات، والكلم الطيب يشمل كل كلمة يتقرب بها إلى الله، كقراءة القرآن والذكر والعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل كلمة تقرب إلى الله عز وجل، فهي كلمة طيبة، تصعد إلى الله عز وجل، وتصل إليه، والعمل الصالح يرفعه الله إليه أيضا.
فالكلمات تصعد إلى الله، والعمل الصالح يرفعه الله، وهذا يدل على أن الله عال بذاته؛ لأن الأشياء تصعد إليه وترفع.
الآية الرابعة: قوله: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36-37] .
هامان وزير فرعون، والآمر بالبناء فرعون.
صرحا، أي بناء عاليا.
{لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} ، يعني: لعلي أبلغ الطرق التي توصل إلى السماء.
ــ
{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} ، يعني: أنظر إليه، وأصل إليه مباشرة؛ لأن موسى قال له: إن الله في السماء. فموه فرعون على قومه بطلب بناء هذا الصرح العالي ليرقى عليه، ثم يقول: لم أجد أحدا، ويحتمل أنه قاله على سبيل التهكم، يقول: إن موسى قال: إن إلهه في السماء، اجعلونا نرقى لنراه!! تهكما.
وأيا كان، فقد قال:{وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} ، للتمويه على قومه، وإلا فهو يعلم أنه صادق، وقد قال له موسى:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، فلم يقل: ما علمت! بل أقره على هذا الخبر المؤكد باللام و (قد) والقسم. والله عز وجل يقول في آية أخرى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] .
الشاهد من هذا: أن أمر فرعون ببناء صرح يطلع به على إله موسى يدل على أن موسى صلى الله عليه وسلم قال لفرعون وآله: إن الله في السماء. فيكون علو الله تعالى ذاتيا، قد جاءت به الشرائع السابقة.
الآية الخامسة والسادسة: قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16-17] .
والذي في السماء هو الله عز وجل، لكنه كنى عن نفسه بهذا؛ لأن المقام مقام إظهار عظمته، وأنه فوقكم، قادر عليكم، مسيطر عليكم، مهيمن عليكم؛ لأن العالي له سلطة على من تحته.
{فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} ، أي: تضطرب.
والجواب: لا نأمن والله! بل نخاف على أنفسنا إذا كثرت معاصينا أن تخسف بنا الأرض.
والانهيارات التي يسمونها الآن: انهيارا أرضيا، وانهيارا جبليا.. وما أشبه ذلك هي نفس التي هدد الله بها هنا، لكن يأتون بمثل هذه العبارات ليهونوا الأمر على البسطاء من الناس.
{أَمْ أَمِنْتُمْ} ، يعني بل أأمنتم، و (أم) هنا بمعنى (بل) والهمزة.
{أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} : الحاصب عذاب من فوق يحصبون به، كما فعل بالذين من قبلهم، كقوم لوط وأصحاب الفيل، والخسف من تحت.
فالله عز وجل هددنا من فوق ومن تحت، قال الله تعالى:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40] ، أربعة أنواع من العذاب.
وهنا ذكر الله نوعين منها: الحاصب والخسف.
والشاهد من هذه الآية هو قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} .
والذي في السماء هو الله عز وجل وهو دليل على علو الله بذاته.
لكن هاهنا إشكال، وهو أن (في) للظرفية، فإذا كان الله في السماء، و (في) للظرفية، فإن الظرف محيط بالمظروف! أرأيت لو قلت: الماء في الكأس، فالكأس محيط بالماء وأوسع من الماء! فإذا كان الله يقول:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، فهذا ظاهره أن السماء محيطة بالله، وهذا الظاهر باطل، وإذا كان الظاهر باطلا، فإننا نعلم علم اليقين أنه غير مراد
لله؛ لأنه لا يمكن أن يكون ظاهر الكتاب والسنة باطلا.
فما الجواب على هذا الإشكال؟
قال العلماء: الجواب أن نسلك أحد طريقين:
فإما أن نجعل السماء بمعنى العلو، والسماء بمعنى العلو وارد في اللغة، بل في القرآن، قال تعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ، والمراد بالسماء العلو؛ لأن الماء ينزل من السحاب لا من السماء التي هي السقف المحفوظ، والسحاب في العلو بين السماء والأرض، كما قال الله تعالى:{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] .
فيكون معنى {مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، أي: من في العلو.
ولا يوجد إشكال بعد هذا، فهو في العلو. ليس يحاذيه شيء، ولا يكون فوقه شيء.
2 -
أو نجعل (في) بمعنى (على) ، ونجعل السماء هي السقف المحفوظ المرفوع، يعني: الأجرام السماوية، وتأتي (في) بمعنى (على) في اللغة العربية، بل في القرآن الكريم، قال فرعون لقومه السحرة الذين آمنوا:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، أي: على جذوع النخل.
فيكون معنى {مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، أي: من على السماء.
ولا إشكال بعد هذا.
فإن قلت: كيف تجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] .
وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3] ؟ .
فالجواب: أن نقول:
أما الآية الأولى، فإن الله يقول:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} ، فالظرف هنا لألوهيته، يعني: أن ألوهيته ثابتة في السماء وفي الأرض، كما تقول: فلان أمير في المدينة ومكة، فهو نفسه في واحدة منهما، وفيهما جميعا بإمارته وسلطته، فالله تعالى ألوهيته في السماء وفي الأرض، وأما هو عز وجل ففي السماء.
أما الآية الثانية: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} فنقول فيها كما قلنا في التي قبلها: وهو الله، أي: وهو الإله الذي ألوهيته في السماوات وفي الأرض، أما هو نفسه، ففي السماء. فيكون المعنى: هو المألوه في السماوات المألوه في الأرض، فألوهيته في السماوات وفي الأرض. فتخرج هذه الآية كتخريج التي قبلها.
وقيل المعنى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} ، ثم تقف، ثم تقرأ:{وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} ، أي أنه نفسه في السماوات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض، فليس كونه في السماء مع علوه بمانع من علمه بسركم وجهركم في الأرض.
وهذا المعنى فيه شيء من الضعف؛ لأنه يقتضي تفكيك الآية وعدم ارتباط بعضها ببعض، والصواب الأول: أن نقول: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} ، يعني أن ألوهيته ثابتة في السماوات وفي الأرض، فتطابق الآية الأخرى.
ــ
من الفوائد المسلكية في هذه الآيات:
أن الإنسان إذا علم بأن الله تعالى فوق كل شيء، فإنه يعرف مقدار سلطانه وسيطرته على خلقه، وحينئذ يخافه ويعظمه، وإذا خاف الإنسان ربه وعظمه، فإنه يتقيه ويقوم بالواجب ويدع المحرم.
إثبات معية الله لخلقه
شرع المؤلف بسوق أدلة المعية؛ أي: أدلة معية الله تعالى لخلقه، وناسب أن يذكرها بعد العلو؛ لأنه قد يبدو للإنسان أن هناك تناقضا بين كونه فوق كل شيء وكونه مع العباد، فكان من المناسب جدا أن يذكر الآيات التي تثبت معية الله للخلق بعد ذكر آيات العلو.
وفي معية الله تعالى لخلقه مباحث:
المبحث الأول في أقسامها:
معية الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: عامة، وخاصة.
والخاصة تنقسم إلى قسمين: مقيدة بشخص، ومقيدة بوصف.
أما العامة؛ فهي التي تشمل كل أحد من مؤمن وكافر وبر وفاجر. ودليلها قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] .
أما الخاصة المقيدة بوصف؛ فمثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] .
وأما الخاصة المقيدة بشخص معين؛ فمثل قوله تعالى عن نبيه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة 40، وقال لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] .
وهذه أخص من المقيدة بوصف.
فالمعية درجات: عامة مطلقة، وخاصة مقيدة بوصف، وخاصة مقيدة بشخص.
فأخص أنواع المعية ما قيد بشخص، ثم ما قيد بوصف، ثم ما كان عاما.
فالمعية العامة تستلزم الإحاطة بالخلق علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا، وغير ذلك من معاني ربوبيته، والمعية الخاصة بنوعيها تستلزم مع ذلك النصر والتأييد.
المبحث الثاني: هل المعية حقيقية أو هي كناية عن علم الله عز وجل وسمعه وبصره وقدرته وسلطانه وغير ذلك من معاني ربوبيته؟
أكثر عبارات السلف رحمهم الله يقولون: إنها كناية عن العلم وعن السمع والبصر والقدرة وما أشبه ذلك، فيجعلون معنى قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} أي: وهو عالم بكم سميع لأقوالكم، بصير بأعمالكم، قادر عليكم حاكم بينكم. . . . وهكذا، فيفسرونها بلازمها.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب وغيره أنها على حقيقتها، وأن كونه معنا حق على حقيقته، لكن ليست معيته كمعية الإنسان للإنسان التي يمكن أن يكون الإنسان مع الإنسان في مكانه؛ لأن معية الله عز وجل ثابتة له وهو في علوه؛ فهو معنا، وهو عال على عرشه فوق كل شيء، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون معنا في الأمكنة التي
نحن فيها.
وعلى هذا، فإنه يحتاج إلى الجمع بينها وبين العلو.
والمؤلف عقد لها فصلا خاصا سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وأنه لا منافاة بين العلو والمعية؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فهو عليّ في دنوه، قريب في علوه.
وضرب شيخ الإسلام رحمه الله لذلك مثلا بالقمر، قال: إنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، وهو موضوع في السماء، وهو من أصغر المخلوقات، فكيف لا يكون الخالق عز وجل مع الخلق، الذي الخلق بالنسبة إليه ليسوا بشيء، وهو فوق سماواته؟!
وما قاله رحمه الله فيه دفع حجة بعض أهل التعطيل حيث احتجوا على أهل السنة، فقالوا: أنتم تمنعون التأويل، وأنتم تئولون في المعية، تقولون: المعية بمعنى العلم والسمع والبصر والقدرة والسلطان وما أشبه ذلك.
فنقول: إن المعية حق على حقيقتها، لكنها ليست في المفهوم الذي فهمه الجهمية ونحوهم، بأنه مع الناس في كل مكان، وتفسير بعض السلف لها بالعلم ونحوه، تفسير باللازم.
المبحث الثالث: هل المعية من الصفات الذاتية أو من الصفات الفعلية؟
فيه تفصيل:
- أما المعية العامة، فهي ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال محيطا بالخلق علما وقدرة وسلطانا وغير ذلك من معاني ربوبيته.
وأما المعية الخاصة، فهي صفة فعلية؛ لأنها تابعة لمشيئة الله، وكل
صفة مقرونة بسبب هي من الصفات الفعلية، فقد سبق لنا أن الرضى من الصفات الفعلية؛ لأنه مقرون بسبب، إذا وجد السبب الذي به يرضى الله، وجد الرضى، وكذلك المعية الخاصة إذا وجدت التقوى أو غيرها من أسبابها في شخص، كان الله معه.
المبحث الرابع في المعية: هل هي حقيقة أو لا؟
ذكرنا ذلك، وأن من السلف من فسرها باللازم، وهو الذي لا يكاد يرى الإنسان سواه. ومنهم من قال: هي على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله، خاصة به.
وهذا صريح كلام المؤلف هنا في هذا الكتاب وغيره، لكن تصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن الله معنا في الأرض ونحو ذلك، فإن هذا باطل مستحيل!
المبحث الخامس في المعية: هل بينها وبين العلو تناقض؟
الجواب: لا تناقض بينهما، لوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن الله جمع بينهما فيما وصف به نفسه، ولو كانا يتناقضان ما صح أن يصف الله بهما نفسه.
الوجه الثاني: أن نقول: ليس بين العلو والمعية تعارض، أصلا، إذ من الممكن أن يكون الشيء عاليا وهو معك، ومنه ما يقوله العرب: القمر معنا ونحن نسير، والشمس معنا ونحن نسير، والقطب معنا ونحن نسير، مع أن القمر والشمس والقطب كلها في السماء، فإذا أمكن اجتماع العلو والمعية في المخلوق، فاجتماعهما في الخالق من باب أولى.
أرأيت لو أن إنسانا على جبل عالٍ، وقال للجنود: اذهبوا إلى مكان
بعيد في المعركة، وأنا معكم، وهو واضع المنظار على عينيه، ينظر إليهم من بعيد، فصار معهم؛ لأنه الآن يبصر كأنهم بين يديه، وهو بعيد عنهم، فالأمر ممكن في حق المخلوق، فكيف لا يمكن في حق الخالق؟!
الوجه الثالث: أنه لو تعذر اجتماعهما في حق المخلوق، لم يكن متعذرا في حق الخالق؛ لأن الله أعظم وأجل، ولا يمكن أن تقاس صفات الخالق بصفات المخلوقين، لظهور التباين بين الخالق والمخلوق.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في سفره: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل» ، فجمع بين كونه صاحبا له وخليفة له في أهله، مع أنه بالنسبة للمخلوق غير ممكن، لا يمكن أن يكون شخص ما صاحبا لك في السفر وخليفة لك في أهلك.
وثبت في الحديث الصحيح: أن الله عز وجل يقول إذا قال المصلي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : «حمدني عبدي» . كم من مصل يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ؟ لا يحصون، وكم من مصليين، أحدهما يقول:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، والثاني يقول:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وكل واحد منهما له رد، الذي يقول:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : يقول الله له: «حمدني عبدي» . والذي يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : يقول الله له: «هذا بيني وبين عبدي نصفين»
…
إذا، يمكن أن يكون الله معنا حقا وهو على عرشه في السماء حقا، ولا يفهم أحد أنهما يتعارضان، إلا من أراد أن يمثل الله بخلقه، ويجعل معية الخالق كمعية المخلوق.
ونحن بينا إمكان الجمع بين نصوص العلو ونصوص المعية، فإن تبين ذلك، وإلا، فالواجب أن يقول العبد: آمنت بالله ورسوله، وصدقت بما قال الله عن نفسه ورسوله، ولا يقول: كيف يمكن؟! منكرا ذلك!
إذا قال: كيف يمكن؟! قلنا: سؤالك هذا بدعة، لم يسأل عنه الصحابة، وهم خير منك، ومسئولهم أعلم من مسئولك وأصدق وأفصح وأنصح، عليك أن تصدق، لا تقل: كيف؟ ولا لم؟ ولكن سلم تسليما.
تنبيه:
تأمل في الآية، تجد كل الضمائر تعود على الله سبحانه وتعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} ، فكذلك ضمير {وَهُوَ مَعَكُمْ} ، فيجب علينا أن نؤمن بظاهر الآية الكريمة، ونعلم علم اليقين أن هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله معنا في الأرض، بل هو معنا مع استوائه على العرش.
هذه المعية، إذا آمنا بها، توجب لنا خشية الله عز وجل وتقواه، ولهذا جاء في الحديث:«أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» . . (1)
أما أهل الحلول، فقالوا: إن الله معنا بذاته في أمكنتنا، إن كنت في المسجد، فالله معك في المسجد، والذين في السوق الله معهم في السوق!! والذين في الحمامات الله معهم في الحمامات! .
(1) أخرجه أبو نعيم (6/124) ، والهيثمي في "المجمع"(1/60) .
ما نزهوه عن الأقذار والأنتان وأماكن اللهو والرفث!!.
المبحث السادس: في شبهة القائلين بأن الله معنا في أمكنتنا والرد عليهم:
شبهتهم: يقولون: هذا ظاهر اللفظ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} ؛ لأن كل الضمائر تعود على الله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى يَعْلَمُ وَهُوَ مَعَكُمْ} ، وإذا كان معنا؛ فنحن لا نفهم من المعية إلا المخالطة أو المصاحبة في المكان!!.
والرد عليهم من وجوه:
أولا: أن ظاهرها ليس كما ذكرتم؛ إذ لو كان الظاهر كما ذكرتم؛ لكان في الآية تناقض: أن يكون مستويا على العرش، وهو مع كل إنسان في أي مكان! والتناقض في كلام الله تعالى مستحيل.
ثانيا: قولكم: "إن المعية لا تعقل إلا مع المخالطة أو المصاحبة في المكان! هذا ممنوع؛ فالمعية في اللغة العربية اسم لمطلق المصاحبة، وهي أوسع مدلولا مما زعمتم؛ فقد تقتضي الاختلاط، وقد تقتضي المصاحبة في المكان، وقد تقتضي مطلق المصاحبة وإن اختلف المكان؛ هذه ثلاثة أشياء:
1 -
مثال المعية التي تقتضي المخالطة: أن يقال: اسقوني لبنا مع ماء؛ أي: مخلوطا بماء.
2 -
ومثال المعية التي تقتضي المصاحبة في المكان: قولك: وجدت فلانا مع فلان يمشيان جميعا وينزلان جميعا.
3 -
ومثال المعية التي لا تقتضي الاختلاط ولا المشاركة في المكان: أن يقال:
فلان مع جنوده. وإن كان هو في غرفة القيادة، لكن يوجههم. فهذا ليس فيه اختلاط ولا مشاركة في مكان.
ويقال: زوجة فلان معه. وإن كانت هي في المشرق وهو في المغرب.
فالمعية إذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكما هو ظاهر من شواهد اللغة: مدلولها مطلق المصاحبة، ثم هي بحسب ما تضاف إليه.
فإذا قيل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: 128] ؛ فلا يقتضي ذلك لا اختلاطا ولا مشاركة في المكان، بل هي معية لائقة بالله، ومقتضاها النصر والتأييد.
ثالثا: نقول: وصفكم الله بهذا من أبطل الباطل وأشد التنقص لله عز وجل، والله عز وجل ذكر ها هنا عن نفسه متمدحا؛ أنه مع علوه على عرشه؛ فهو مع الخلق، وإن كانوا أسفل منه، فإذا جعلتم الله في الأرض؛ فهذا نقص.
إذا جعلتم الله نفسه معكم في كل مكان، وأنتم تدخلون الكنيف؛ هذا أعظم النقص، ولا تستطيع أن تقوله ولا لملك من ملوك الدنيا: إنك أنت في الكنيف! لكن كيف تقوله لله عز وجل؟! وهل هذا إلا أعظم النقص والعياذ بالله.
رابعا: يلزم على قولكم هذا أحد أمرين لا ثالث لهما، وكلاهما ممتنع: إما أن يكون الله متجزئا، كل جزء منه في مكان.
وإما أن يكون متعددا؛ يعني: كل إله في جهة ضرورة تعدد الأمكنة.
خامسا: أن نقول: قولكم هذا أيضا يستلزم أن يكون الله حالا في الخلق؛ فكل مكان في الخلق؛ فالله تعالى فيه، وصار هذا سلما لقول أهل
ــ
وحدة الوجود.
فأنت ترى أن هذا القول باطل، ومقتضى هذا القول الكفر.
ولهذا نرى أن من قال: إن الله معنا في الأرض؛ فهو كافر؛ يستتاب، ويبين له الحق، فإن رجع، وإلا وجب قتله.
وهذه آيات المعية:
الآية الأولى: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] .
والشاهد فيها قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، وهذه من المعية العامة؛ لأنها تقتضي الإحاطة بالخلق علما وقدرة وسلطانا وسمعا وبصرا وغير ذلك من معاني الربوبية.
الآية الثانية: قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7] .
{مَا يَكُونُ} : يكون؛ تامة يعني: ما يوجد.
وقوله: {مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} : قيل: إنها من باب إضافة الصفة إلى
الموصوف، وأصلها: من ثلاثة نجوى، ومعنى نجوى؛ أي: متناجين.
وقوله: {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} ولم يقل: إلا هو ثالثهم؛ لأنه من غير الجنس، وإذا كان من غير الجنس، فإنه يؤتى بالعدد التالي، أما إذا كان من الجنس؛ فإنه يؤتى بنفس العدد، انظر قوله تعالى عن النصارى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، ولم يقولوا: ثالث اثنين؛ لأنه من الجنس على زعمهم، فعندهم كل الثلاثة آلهة، فلما كان من الجنس على زعمهم؛ قالوا فيه: ثالث ثلاثة.
قوله: {وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} ذكر العدد الفردي ثلاثة وخمسة، وسكت عن العدد الزوجي، لكنه داخل في قوله:{وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ} : الأدنى من ثلاثة اثنان، {وَلَا أَكْثَرَ} من خمسة، ستة فما فوق.
ما من اثنين فأكثر يتناجيان بأي مكان من الأرض؛ إلا والله عز وجل معهم.
وهذه المعية عامة؛ لأنها تشمل كل أحد: المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، ومقتضاها الإحاطة بهم علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا وغير ذلك.
وقوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ؛ يعني: أن هذه المعية تقتضي إحصاء ما عملوه؛ فإذا كان يوم القيامة؛ نبأهم بما عملوا؛ يعني: أخبرهم به وحاسبهم عليه؛ لأن المراد بالإنباء لازمه، وهو المحاسبة، لكن إن كانوا مؤمنين؛ فإن الله تعالى يحصي أعمالهم، ثم يقول:«سترتها»
وقوله: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
ــ
«عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» .
وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} : كل شيء موجود أو معدوم، جائز أو واجب أو ممتنع، كل شيء؛ فالله عليم به.
وقد سبق لنا الكلام على صفة العلم، وأن عِلم الله يتعلق بكل شيء، حتى بالواجب والمستحيل والصغير والكبير، والظاهر والخفي.
الآية الثالثة: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] .
الخطاب لأبي بكر من النبي، صلى الله عليه وسلم:؛ قال الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] .
أولا: نصره حين الإخراج و {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
ثانيا: وعند المكث في الغار {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} .
ثالثا: عند الشدة حينما وقف المشركون على فم الغار: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} .
فهذه ثلاثة مواقع بين الله تعالى فيها نصره لنبيه، صلى الله عليه وسلم.
وهذا الثالث حين وقف المشركون عليهم؛ يقول أبو بكر: «يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى قدمه؛ لأبصرنا» ؛ يعني: إننا على خطر؛ كقول أصحاب موسى لما وصلوا إلى البحر: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، فقال:{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وهنا قال
{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}
ــ
النبي، صلى الله عليه وسلم، لأبي بكر رضي الله عنه:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . فطمأنه وأدخل الأمن في نفسه، وعلل ذلك بقوله:{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} .
وقوله: {لَا تَحْزَنْ} : نهي يشمل الهم مما وقع وما سيقع؛ فهو صالح للماضي والمستقبل.
والحزن: تألم النفس وشدة همها.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} : وهذه المعية خاصة، مقيدة بالنبي، صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وتقتضي مع الإحاطة التي هي المعية العامة النصر والتأييد.
ولهذا وقفت قريش على الغار، ولم يبصروهما! أعمى الله أبصارهم.
وأما قول من قال: فجاءت العنكبوت فنسجت على باب الغار، والحمامة وقعت على باب الغار، فلما جاء المشركون، وإذا على الغار، حمامة وعش عنكبوت، فقالوا: ليس فيه أحد؛ فانصرفوا. فهذا باطل.
الحماية الإلهية والآية البالغة أن يكون الغار مفتوحا صافيا؛ ليس فيه مانع حسي، ومع ذلك لا يرون من فيه، هذه هي الآية!!.
أما أن تأتي حمامة وعنكبوت تعشش؛ فهذا بعيد، وخلاف قوله:«لو نظر أحدهم إلى قدمه، لأبصرنا» .
المهم أن بعض المؤرخين -عفا الله عنهم -يأتون بأشياء غريبة شاذة منكرة لا يقبلها العقل ولا يصح بها النقل.
الآية الرابعة: قوله: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] .
هذا الخطاب موجه لموسى وهارون، لما أمرهما الله عز وجل أن يذهبا إلى فرعون؛ قال:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43-46] .
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
ــ
فقوله: {أَسْمَعُ وَأَرَى} : جملة استئنافية لبيان مقتضى هذه المعية الخاصة، وهو السمع والرؤية، وهذا سمع ورؤية خاصان تقتضيان النصر والتأييد والحماية من فرعون الذي قالا عنه:{إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}
الآية الخامسة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] .
هذه جاءت بعد قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 126-127] .
عقوبة الجاني بمثل ما عوقب به من باب التقوى، وبأكثر ظلم وعدوان، والعفو إحسان، ولهذا قال:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
والمعية هنا خاصة مقيدة بصفة: كل من كان من المتقين المحسنين؛ فالله معه.
وهذا يثمر لنا بالنسبة للحالة المسلكية: الحرص على الإحسان والتقوى؛ فإن كل إنسان يحب أن يكون الله معه.
الآية السادسة: قوله: {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال:46] .
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
ــ
سبق لنا أن الصبر حبس النفس على طاعة الله، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط على أقدار الله؛ سواء باللسان أو بالقلب أو بالجوارح.
وأفضل أنواع الصبر: الصبر على طاعة الله، ثم عن معصية الله؛ لأن فيهما اختيارا: إن شاء الإنسان فعل المأمور، وإن شاء لم يفعل، وإن شاء ترك المحرم وإن شاء ما تركه، ثم على أقدار الله؛ لأن أقدار الله واقعة شئت أم أبيت؛ فإما أن تصبر صبر الكرام وإما أن تسلو سلو البهائم.
والصبر درجة عالية لا تنال إلا بشيء يصبر عليه، أما من فرشت له الأرض ورودا، وصار الناس ينظرون إلى ما يريد؛ فإنه لا بد أن يناله شيء من التعب النفسي أو البدني الداخلي أو الخارجي.
ولهذا جمع الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بين الشكر والصبر.
فالشكر؛ كان يقوم حتى تتورم قدماه، فيقول:«أفلا أكون عبدا شكورا؟» .
والصبر: صبر على ما أوذي، فقد أوذي من قومه ومن غيرهم من اليهود والمنافقين، ومع ذلك؛ فهو صابر.
الآية السابعة: قوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] .
كم: خبرية، تفيد التكثير؛ يعني: فئة قليلة غلبت فئة كثيرة عدة مرات، أو فئات قليلة متعددة غلبت فئات كثيرة متعددة، لكن لا
بحولهم ولا بقوتهم، بل بإذن الله، أي: بإرادته وقدرته.
ومن ذلك: أصحاب طالوت غلبوا عدوهم وكانوا كثيرين.
ومن ذلك: أصحاب بدر غلبوا قريشا وهم كثيرون.
أصحاب بدر خرجوا لغير قتال، بل لأخذ عير أبي سفيان، وأبو سفيان لما علم بهم؛ أرسل صارخا إلى أهل مكة يقول: أنقذوا عيركم، محمد وأصحابه خرجوا إلينا يريدون أخذ العير. والعير فيها أرزاق كثيرة لقريش.
فخرجت قريش بأشرافها وأعيانها وخيلائها وبطرها، يظهرون القوة والفخر والعزة، حتى قال أبو جهل: والله؛ لا نرجع حتى نقدم بدرا، فنقيم فيها ثلاثا؛ ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب؛ فلا يزالون يهابوننا أبدا.
فالحمد لله، غنوا على قتله هو ومن معه!.
كان هؤلاء القوم ما بين تسعمائة وألف، كل يوم ينحرون من الإبل تسعا إلى عشر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو وأصحابه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا، معهم سبعون بعيرا وفرسان فقط يتعاقبونها، ومع ذلك قتلوا الصناديد العظماء لقريش حتى جيفوا وانتفخوا من الشمس وسحبوا إلى قليب من قلب بدر خبيثة.
فـ {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ؛ لأن الفئة القليلة صبرت، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ؛ صبرت كل أنواع الصبر؛ على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى ما أصابها من الجهد والتعب والمشقة في تحمل أعباء الجهاد، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
انتهت آيات المعية، وسيأتي للمؤلف رحمه الله فصل كامل في
قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}
ــ
تقريظها.
فما هي الثمرات التي نستفيدها بأن الله معنا؟
أولا: الإيمان بإحاطة الله عز وجل بكل شيء، وأنه مع علوه فهو مع خلقه، لا يغيب عنه شيء من أحوالهم أبدا.
ثانيا: أننا إذا علمنا ذلك وآمنا به؛ فإن ذلك يوجب لنا كمال مراقبته بالقيام بطاعته وترك معصيته؛ بحيث لا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يجدنا حيث نهانا، وهذه ثمرة عظيمة لمن آمن بهذه المعية.
إثبات الكلام لله تعالى وأن القرآن من كلامه تعالى
ذكر المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على كلام الله تعالى، وأن القرآن من كلامه تعالى.
الآية الأولى والثانية: قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] .
ومن: اسم استفهام بمعنى النفي، وإتيان النفي بصيغة الاستفهام أبلغ من إتيان النفي مجردا؛ لأنه يكون بالاستفهام مشربا معنى التحدي؛ كأنه يقول: لا أحد أصدق من الله حديثا، وإذا كنت تزعم خلاف ذلك؛ فمن أصدق من الله؟
وقوله: حديثا وقيلا: تمييز لـ أصدق.
وإثبات الكلام في هاتين الآيتين يؤخذ من: قوله: أصدق؛ لأن الصدق يوصف به الكلام، وقوله: حديثا؛ لأن الحديث هو الكلام
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}
ــ
ومن قوله في الآية الثانية: قيلا؛ يعني: قولا، والقول لا يكون إلا باللفظ.
ففيهما إثبات الكلام لله عز وجل، وأن كلامه حق وصدق، ليس فيه كذب بوجه من الوجوه.
الآية الثالثة: قوله: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم} [المائدة: 116] .
قوله: يا عيسى: مقول القول، وهي جملة من حروف:{يا عيسى ابن مريم} .
ففي هذا إثبات أن الله يقول: وأن قوله مسموع، فيكون بصوت، وأن قوله كلمات وجمل، فيكون بحرف.
ولهذا كانت عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الله يتكلم بكلام حقيقي متى شاء، كيف شاء، بما شاء، بحرف وصوت، لا يماثل أصوات المخلوقين.
"متى شاء": باعتبار الزمن.
"بما شاء": باعتبار الكلام؛ يعني: موضوع الكلام من أمر أو نهي أو غير ذلك.
"كيف شاء": يعني على الكيفية والصفة التي يريدها سبحانه وتعالى.
قلنا: إنه بحرف وصوت لا يشبه أصوات المخلوقين.
الدليل على هذا من الآية الكريمة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} : هذا حروف.
وبصوت؛ لأن عيسى يسمع ما قال.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} .
وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} .
ــ
لا يماثل أصوات المخلوقين؛ لأن الله قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
الآية الرابعة: قوله: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115] .
كلمة بالإفراد، وفي قراءة (كلمات) ؛ بالجمع، ومعناها واحد؛ لأن كلمة مفرد مضاف فيعم.
تمت كلمات الله عز وجل على هذين الوصفين: الصدق والعدل، والذي يوصف بالصدق الخبر، والذي يوصف بالعدل الحكم، ولهذا قال المفسرون: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام.
فكلمات الله عز وجل في الأخبار صدق لا يعتريها الكذب بوجه الوجوه، وفي الأحكام عدل لا جور فيها بوجه من الوجوه.
هنا وصفت الكلمات بالصدق والعدل. إذا؛ فهي أقوال؛ لأن القول هو الذي يقال فيه: كاذب أو صادق.
الآية الخامسة: قوله: {وكلم الله موسى تكليما} النساء:164] .
الله: فاعل؛ فالكلام واقع منه.
{تَكْلِيمًا} : مصدر مؤكد، والمصدر المؤكد -بكسر الكاف -؛ قال العلماء: إنه ينفي احتمال المجاز. فدل على أنه كلام حقيقي؛ لأن المصدر المؤكد ينفي احتمال المجاز.
{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} . {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}
ــ
أرأيت لو قلت: جاء زيد. فيفهم أنه جاء هو نفسه، ويحتمل أن يكون المعنى جاء خبر زيد، وإن كان خلاف الظاهر، لكن إذا أكدت فقلت: جاء زيد نفسه. أو: جاء زيد زيد. انتفى احتمال المجاز.
فكلام الله عز وجل لموسى كلام حقيقي بحرف، وصوت سمعه، ولهذا جرت بينهما محاورة؛ كما في سورة طه وغيرها.
الآية السادسة: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] .
منهم؛أي: من الرسل.
{مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} : الاسم الكريم الله فاعل كلم، ومفعولها محذوف يعود على من، والتقدير: كلمه الله.
الآية السابعة: قوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] .
أفادت هذه الآية أن الكلام يتعلق بمشيئته، وذلك؛ لأن الكلام صار حين المجيء. لا سابقا عليه، فدل هذا على أن كلامه يتعلق بمشيئته.
فيبطل به قول من قال: إن كلامه هو المعنى القائم بالنفس، وإنه لا يتعلق بمشيئته، كما تقول الأشاعرة.
وفي هذه الآية إبطال زعم من زعم أن موسى فقط هو الذي كلم الله، وحرف قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} إلى نصب الاسم الكريم؛ لأنه في هذه الآية لا يمكنه زعم ذلك ولا تحريفها.
الآية الثامنة: قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] .
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} .
ــ
{وَنَادَيْنَاهُ} : ضمير الفاعل يعود إلى الله، وضمير المفعول يعود إلى موسى؛ أي: نادى الله موسى.
{نَجِيًّا} : حال، وهو فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مناجي.
والفرق بين المناداة والمناجاة أن المناداة تكون للبعيد، والمناجاة تكون للقريب وكلاهما كلام.
وكون الله عز وجل يتكلم مناداة ومناجاة داخل في قول السلف: "كيف شاء".
فهذه الآية مما يدل على أن الله يتكلم كيف شاء مناداة كان الكلام أو مناجاة.
الآية التاسعة: قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10] .
{وَإِذْ نَادَى} ؛ يعني: واذكر إذ نادى.
والشاهد قوله: {رَبُّكَ مُوسَى} : فسر النداء بقوله: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
فالنداء يدل على أنه بصوت، و {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : يدل على أنه بحرف.
الآية العاشرة: قوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف:22] .
{وَنَادَاهُمَا} : ضمير المفعول يعود على آدم وحواء.
{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} : يقرر أنه نهاهما عن تلكما
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} .
ــ
الشجرة، وهذا يدل على أن الله كلمهما من قبل، وأن كلام الله بصوت وحرف، ويدل على أنه يتعلق بمشيئته؛ لقوله:{أَلَمْ أَنْهَكُمَا} ؛ فإن هذا القول بعد النهي، فيكون متعلقا بالمشيئة.
الآية الحادية عشرة: قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] .
يعني: واذكر يوم يناديهم، وذلك يوم القيامة، والمنادي هو الله عز وجل: فيقول.
وفي هذه الآية إثبات الكلام من وجهين: النداء والقول.
وهذه الآيات تدل بمجموعها على أن الله يتكلم بكلام حقيقي، متى شاء، بما شاء، بحرف وصوت مسموع، لا يماثل أصوات المخلوقين.
وهذه هي العقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة.
إثبات أن القرآن كلام الله تعالى
ذكر المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله.
وهذه المسألة وقع فيها النزاع الكثير بين المعتزلة وأهل السنة، وحصل بها شر كثير على أهل السنة، وممن أوذي في الله في ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة، الذي قال فيه بعض العلماء:"إن الله سبحانه وتعالى حفظ الإسلام (أو قال: نصره) بأبي بكر يوم الردة، وبالإمام أحمد يوم المحنة".
والمحنة: هو أن المأمون عفا الله عنا وعنه أجبر الناس على أن يقولوا بخلق القرآن، حتى إنه صار يمتحن العلماء ويقتلهم إذا لم يجيبوا، وأكثر
العلماء رأوا أنهم في فسحة من الأمر، وصاروا يتأولون:
-إما بأن الحال حال إكراه، والمكره إذا قال الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فإنه معفو عنه.
- وإما بتنزيل اللفظ على غير ظاهره؛ يتأولون، فيقولون مثلا: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور؛ هذه مخلوقة. وهو يتأول أصابعه.
أما الإمام أحمد ومحمد بن نوح (1) رحمهما الله؛ فأبيا ذلك، وقالا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. ورأيا أن الإكراه في هذا المقام لا يسوغ لهما أن يقولا خلاف الحق؛ لأن المقام مقام جهاد، والإكراه يقتضي العفو إذا كانت المسألة شخصية؛ بمعنى أن تكون على الشخص نفسه، أما إذا كانت المسألة لحفظ شريعة الله، فالواجب أن يتبرع الإنسان برقبته لحفظ شريعة الله عز وجل.
لو قال الإمام أحمد في ذلك الوقت: إن القرآن مخلوق، ولو بتأويل أو لدفع الإكراه؛ لقال الناس كلهم: القرآن مخلوق! وحينئذ يتغير المجتمع الإسلامي من أجل دفع الإكراه، لكنه صمم، فصارت العاقبة له، ولله الحمد.
المهم أن القول في القرآن جزء من القول في كلام الله على العموم، لكن لما وقعت فيه المحنة، وصار محك النزاع بين المعتزلة وأهل السنة؛ صار الناس يفردون القول في القرآن بكلام خاص، والمؤلف رحمه الله من الآن ساق الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله في آيات متعددة.
(1) هو محمد بن نوح المضروب: العجلي أحد المشهورين بالسنة، أثنى عليه الإمام أحمد ابن حنبل وامتحن في مسألة خلق القرآن وأخرج من بغداد ومات في طريق خروجه سنة 218-هـ. أنظر: تذكرة الحفاظ 3-826، وسير أعلام النبلاء 15-34.
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}
ــ
الآية الأولى: قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] .
أحد: هذه اسم، ووإن: أداة الشرط، والاسم إذا ولي أداة الشرط؛ فقد ولي أداة لا يليها إلا الفعل، فاختلف النحويون في هذا:
فقال بعضهم: إنه فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده، وعليه يكون أحد فاعل لفعل محذوف، والتقدير: وإن استجارك أحد من المشركين؛ فأجره، ومثلها:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] ؛ فـ السماء فاعل لفعل محذوف، والتقدير: إذا انشقت السماء انشقت.
القول الثاني: وهو قول الكوفيين وهم في الغالب أسهل من البصريين: أن أحد فاعل مقدم، والفعل استجارك مؤخر، ولا حاجة للتقدير.
القول الثالث: أن ورود الأسماء بعد أدوات الشرط في القرآن كثيرا يدل على عدم امتناعه، وعلى هذا القول يكون الاسم الواقع بعد أداة الشرط مبتدأ إذا كان مرفوعا، فيكون أحد: مبتدأ، واستجارك: خبر المبتدأ.
والقاعدة عندي أن ما كان أسهل من أقوال النحويين؛ فهو المتبع، حيث لا مانع شرعا من ذلك.
قوله: استجارك؛ أي: طلب جوارك، والجوار: بمعنى العصمة والحماية.
حتى يسمع: حتى: للغاية؛ والمعنى: إن أحد استجارك ليسمع كلام الله؛ فأجره حتى يسمع كلام الله؛ أي: القرآن، وهذا بالاتفاق.
وإنما قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} ؛ لأن سماع كلام الله عز وجل مؤثر ولا بد كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] ، وكم من إنسان سمع كلام الله فآمن، لكن بشرط أن يكون يفهمه تماما.
وقوله: {كَلَامَ اللَّهِ} : أضاف الكلام إلى نفسه، فقال:{كَلَامَ اللَّهِ} ، فدل هذا على أن القرآن كلام الله، وهو كذلك.
وعقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن؛ يقولون: إن القرآن كلام الله، منزل، غير مخلوق منه بدأ، وإليه يعود.
- قولهم " كلام الله ": دليله: قوله تعالى هنا: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] ، وبما يأتي من الآيات.
- وقولهم: "منزل": دليلة قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، وقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وقوله:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء:106] .
- وقولهم: " غير مخلوق ": دليله: قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] ؛ فجعل الخلق شيئا والأمر شيئا آخر؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، والقرآن من الأمر؛ بدليل قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] ؛ فإذا كان القرآن أمرا، وهو قسيم للخلق؛ صار غير مخلوق؛ لأنه لو كان مخلوقا؛ ما صح التقسيم. وهذا دليل سمعي.
أما الدليل العقلي؛ فنقول: القرآن كلام الله، والكلام ليس عينا قائمة
بنفسها حتى يكون بائنا من الله، ولو كان عينا قائمة بنفسها بائنة من الله؛ لقلنا: إنه مخلوق، لكن الكلام صفة للمتكلم به، فإذا كان صفة للمتكلم به، وكان من الله؛ كان غير مخلوق؛ لأن صفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة.
وأيضا؛ لو كان مخلوقا؛ لبطل مدلول الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لأن هذه الصيغ لو كانت مخلوقة. لكانت مجرد أشكال خلقت على هذه الصورة لا دلالة لها على معناها؛ كما يكون شكل النجوم والشمس والقمر ونحوها.
وقولهم: " منه بدأ "؛ أي: هو الذي ابتدأ به، وتكلم به أولا.
والقرآن أضيف إلى الله وإلى جبريل وإلى محمد، صلى الله عليه وسلم.
مثال الأول: قول الله عز وجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فيكون منه بدأ؛ أي: من الله جل جلاله، ومنه: حرف جر وضمير قدم على عامله لفائدة الحصر والاختصاص.
ومثال الثاني-إضافته إلى جبريل -: قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19 - 20] .
ومثال الثالث- إضافته إلى محمد عليه الصلاة والسلام: قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة: 40-41] ، لكن أضيف إليها لأنهما يبلغانه، لا لأنهما ابتدآه..
وقولهم: " وإليه يعود ": في معناه وجهان:
الأول: أنه كما جاء في بعض الآثار: «يسري عليه في ليلة، فيصبح»
«الناس ليس بين أيديهم قرآن؛ لا في صدورهم، ولا في مصاحفهم، يرفعه الله عز وجل» (1) .
وهذا- والله أعلم- حينما يعرض عنه الناس إعراضا كليا؛ لا يتلونه لفظا ولا عقيدة ولا عملا؛ فإنه يرفع؛ لأن القرآن أشرف من أن يبقى بين يدي أناس هجروه وأعرضوا عنه فلا يقدرونه قدره، وهذا- والله أعلم- نظير هدم الكعبة في آخر الزمان؛ حيث يأتي رجل من الحبشة قصير أفحج أسود، يأتي بجنوده من البحر إلى المسجد الحرام، وينقض الكعبة حجرا حجرا، كلما نقض حجرا؛ مده للذي يليه
…
وهكذا يتمادون الأحجار إلى أن يرموها في البحر، والله عز وجل يمكنهم من ذلك، مع أن أبرهة جاء بخيله ورجله وفيله فقصمه الله قبل أن يصل إلى المسجد؛ لأن الله علم أنه سيبعث هذا النبي، وتعاد إلى المسجد هيبته وعظمته.
ولكن في آخر الزمان لن يبعث نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا أعرض الناس عن تعظيم هذا البيت نهائيا؛ فإنه يسلط عليه هذا الرجل من الحبشة؛ فهذا نظير رفع القرآن. والله أعلم.
الوجه الثاني: في معنى قولهم: " وإليه يعود ": أنه يعود إلى الله وصفا؛ أي أنه لا يوصف به أحد سوى الله، فيكون المتكلم بالقرآن هو الله عز وجل، وهو الموصوف به.
ولا مانع من أن نقول: إن المعنيين كلاهما صحيح.
(1) أخرجه ابن ماجه/ كتاب الفتن/ باب ذهاب القرآن والعلم.
هذا كلام أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم.
ويرى المعتزلة أن القرآن مخلوق، وليس كلام الله!
ويستدلون لذلك بقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] ، والقرآن شيء، فيدخل في عموم قوله: كل شيء، ولأنه ما ثم إلا خالق ومخلوق، والله خالق، وما سواه مخلوق.
والجواب من وجهين:
الأول: أن القرآن كلام الله تعالى، وهو صفة من صفات الله، وصفات الخالق غير مخلوقة.
الثاني: أن مثل هذا التعبير كل شيء عام قد يراد به الخاص؛ مثل قوله تعالى عن ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] ، وقد خرج شيء كثير لم يدخل في ملكها منه شيء؛ مثل ملك سليمان.
فإن قال قائل: هل هناك فرق كبير بين قولنا: إنه منزل، وقولنا:إنه مخلوق؟
فالجواب: نعم؛ بينهما فرق كبير، جرت بسببه المحنة الكبرى في عصر الإمام أحمد.
فإذا قلنا: إنه منزل. فهذا ما جاء به القرآن؛ قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] .
وإذا قلنا: إنه مخلوق. لزم من ذلك:
أولا: تكذيب للقرآن؛ لأن الله يقول: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] .
فجعله الله تعالى موحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كان مخلوقا؛ ما صح أن يكون موحى؛ فإذا كان وحيا لزم ألا يكون مخلوقا؛ لأن الله هو الذي تكلم به.
ثانيا: إذا قلنا: إنه مخلوق؛ فإنه يلزم على ذلك إبطال مدلول الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لأن هذه الصيغ لو كانت مخلوقة؛ لكانت مجرد شكل خلق على هذه الصورة؛ كما خلقت الشمس على صورتها، والقمر على صورته، والنجم على صورته. . وهكذا، ولم تكن أمرا ولا نهيا ولا خبرا ولا استخبارا؛ فمثلا: كلمة (قل) ، (لا تقل) ، (قال فلان) ، (هل قال فلان) كلها نقوش على هذه الصورة، فتبطل دلالتها على الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وتبقى كأنها صور ونقوش لا تفيد شيئا.
ولهذا قال ابن القيم في "النونية": "إن هذا القول يبطل به الأمر والنهي؛ لأن الأمر كأنه شيء خلق على هذه الصورة دون أن يعتبر مدلوله، والنهي خلق على هذه الصورة دون أن يقصد مدلوله، وكذلك الخبر والاستخبار".
ثالثا: إذا قلنا: إن القرآن مخلوق، وقد أضافه إلى نفسه إضافة خلق؛ صح أن نطلق على كل كلام من البشر وغيرهم أنه كلام الله؛ لأن كل كلام الخلق مخلوق، وبهذا التزم أهل الحلول والاتحاد؛ حيث يقول قائلهم:
وكل كلام في الوجوه كلامه
…
سواء علينا نثره ونظامه
وهذا اللازم باطل، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
فهذه ثلاثة أوجه تبطل القول بأنه مخلوق.
والوجه الرابع: أن نقول: إذا جوزتم أن يكون الكلام-وهو معنى لا
ــ
يقوم إلا بمتكلم - مخلوقا؛ لزمكم أن تجوزوا أن تكون جميع صفات الله مخلوقة؛ إذ لا فرق؛ فقولوا إذا: سمعه مخلوق، وبصره مخلوق
…
وهكذا.
فإن أبيتم إلا أن تقولوا: إن السمع معنى قائم بالسامع لا يسمع منه ولا يرى، بخلاف الكلام؛ فإنه جائز أن الله يخلق أصواتا في الهواء فتسمع!.
قلنا لكم: لو خلق أصواتا في الهواء، فسمعت؛ لكان المسموع وصفا للهواء، وهذا أنتم بأنفسكم لا تقولوه؛ فكيف تعيدون الصفة إلى غير موصوفها؟!.
هذه وجوه أربعة كلها تدل على أن القول بخلق القرآن باطل، ولو لم يكن منه إلا إبطال الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لكان ذلك كافيا.
الآية الثانية: قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] .
هذا في سياق قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} ؛ يعني: لا تطمعوا أن يؤمنوا لكم؛ أي: اليهود.
فريق منهم: طائفة منهم، وهم علماؤهم.
{يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} : يحتمل أن يراد به القرآن، وهو ظاهر صنيع المؤلف، فيكون دليلا على أن القرآن كلام الله.
ويحتمل أن يراد به كلام الله تعالى لموسى حين اختار موسى سبعين رجلا لميقات الله تعالى، فكلمه الله وهم يسمعون، فحرفوا كلام الله تعالى من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. ولم أر الاحتمال الأول لأحد من المفسرين.
ــ
أيا كان؛ ففيه إثبات أن كلام الله بصوت مسموع، والكلام صفة المتكلم، وليس شيئا بائنا منه؛ فوجب أن يكون القرآن كلام الله لا كلام غيره.
{ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} : يحرفونه: أي: يغيرون معناه.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هذا أشد في قبح عملهم وجرأتهم على الله سبحانه وتعالى: أن يحرفوا الشيء من بعد ما عقلوه ووصل إلى عقولهم وهم يعلمون أنهم محرفون له؛ لأن الذي يحرف المعنى عن جهل أهون من الذي يحرفه بعد العقل والعلم.
الآية الثالثة: قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح:15] .
في هذه الآية إثبات أن القرآن كلام الله؛ لقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} .
والضمير يعود على الأعراب الذين قال الله فيهم: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [الفتح: 15] ؛ فهؤلاء أرادوا أن يبدلوا كلام الله، فيخرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن الله تعالى إنما كتب المغانم لقوم معينين، للذين غزوا في الحديبية، وأما من تبعوه لأخذ الغنائم فقط؛ فلا حق لهم فيها.
وفي الآية أيضا إثبات القول لله تعالى؛ لقوله: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} .
: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} .
ــ
الآية الرابعة: قوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27] .
قوله: {مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} ؛ يعني: القرآن، والوحي لا يكون إلا قولا؛ فهو إذا غير مخلوق.
وقوله: {مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} : أضافه إليه سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي تكلم به، أنزله على محمد، صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل الأمين.
{لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} ؛ يعني: لا أحد يبدل كلمات الله، أما الله عز وجل؛ فيبدل آية مكان آية؛ كما قال تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] .
وقوله: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} : يشمل الكلمات الكونية والشرعية:
- أما الكونية: فلا يستثنى منها شيء، لا يمكن لأحد أن يبدل كلمات الله الكونية:
إذا قضى الله على شخص بالموت؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك.
إذا قضى الله تعالى بالفقر؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك.
إذا قضى الله تعالى بالجدب؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك.
وكل هذه الأمور التي تحدث في الكون؛ فإنها بقوله؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .
- أما الكلمات الشرعية؛ فإنها قد تبدل من قبل أهل الكفر والنفاق، فيبدلون الكلمات: إما بالمعنى، وإما باللفظ إن استطاعوا، أو بهما.
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} .
ــ
وفي قوله: (لكلماته) دليل على أن القرآن كلام الله تعالى.
الآية الخامسة: قوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76] .
الشاهد قوله: (يقص)، والقصص لا يكون إلا قولا؛ فإذا كان القرآن هو الذي يقص؛ فهو كلام الله؛ لأن الله تعالى هو الذي قص هذه القصص؛ قال الله سبحانه وتعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3] ، وحينئذ يكون القرآن كلام الله عز وجل.
إثبات أن القرآن منزل من الله تعالى
ذكر المؤلف رحمه الله الآيات التي فيها أن القرآن منزل من الله تعالى:
الآية الأولى: قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:155] .
(وهذا كتاب) : المشار إليه القرآن.
(كتاب) أي: مكتوب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة، ومكتوب في المصاحف التي بأيدينا.
وقوله: (مبارك) ؛ أي: ذو بركة.
فهو مبارك؛ لأنه شفاء لما في الصدور، إذا قرأه الإنسان بتدبر وتفكر؛ فإنه يشفي القلب من المرض، وقد قال الله تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] .
ــ
مبارك في اتباعه؛ إذ به صلاح الأعمال الظاهرة والباطنة.
مبارك في آثاره العظيمة؛ فقد جاهد المسلمون به بلاد الكفر؛ لأن الله يقول: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] ، والمسلمون فتحوا مشارق الأرض ومغاربها بهذا القرآن حتى ملكوها، ولو رجعنا إليه؛ لملكنا مشارق الأرض ومغاربها، كما ملكها أسلافنا، ونسأل الله ذلك.
مبارك في أن من قرأه؛ فله بكل حرف عشر حسنات؛ فكلمة (قال) مثلا فيها ثلاثون حسنة، وهذا من بركة القرآن؛ فنحن نحصل خيرات كثيرة لا تحصى بقراءة آيات وجيزة من كلام الله عز وجل.
والحاصل: أن القرآن كتاب مبارك؛ فكل أنواع البركة حاصلة بهذا القرآن العظيم.
والشاهد في قوله: أنزلناه.
وثبوت نزوله من الله دليل على أنه كلامه.
الآية الثانية: قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] .
الجبل من أقسى ما يكون، والحجارة التي منها تتكون الجبال هي مضرب المثل في القساوة؛ قال الله تعالى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ، ولو نزل هذا القرآن على جبل؛ لرأيت هذا الجبل خاشعا متصدعا من خشية الله.
خاشعا؛ أي: ذليلا.
ومن شدة خشيته لله يكون متصدعا يتفلق ويتفتق.
وهو ينزل على قلوبنا، وقلوبنا -إلا أن يشاء الله -تضمر وتقسو لا تتفتح ولا تتقبل.
فالذين آمنوا إذا نزلت عليهم الآيات؛ زادتهم إيمانا، والذين في قلوبهم مرض؛ تزيدهم رجسا إلى رجسهم؛ والعياذ بالله.
ومعنى ذلك: أن قلوبهم تتصلب وتقسو أكثر وتزداد رجسا إلى رجسها، نعوذ بالله من ذلك.
وهذا القرآن لو أنزل على جبل؛ لتصدع الجبل وخشع؛ لعظمة ما أنزل عليه من كلام الله.
وفي هذا دليل على أن للجبل إحساسا؛ لأنه يخشع ويتصدع، والأمر كذلك، قال النبي، صلى الله عليه وسلم في أحد:«هذا أحد جبل يحبنا ونحبه» .
وبهذا الحديث نعرف الرد على المثبتين للمجاز في القرآن، والذين يرفعون دائما علمهم مستدلين بهذه الآية:{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77] ؛ يقول: كيف يريد الجدار؟!.
فنقول: يا سبحان الله! العليم الخبير يقول: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ، وأنت تقول: لا يريد! أهذا معقول؟ .
فليس من حقك بعد هذا أن تقول: كيف يريد؟!.
وهذا يجعلنا نسأل أنفسنا: هل نحن أوتينا علم كل شيء؟
ــ
فنجيب بالقول بأننا ما أوتينا من العلم إلا قليلا.
فقول من يعلم الغيب والشهادة: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} : لا يسوغ لنا أن نعترض عليه، فنقول: لا إرادة للجدار! ولا يريد أن ينقض.
وهذا من مفاسد المجاز؛ لأنه يلزم منه نفي ما أثبته القرآن.
أليس الله تعالى يقول: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ؛ هل تسبح بلا إرادة؟!
يقول: تسبح له: اللام للتخصيص؛ إذا هي مخلصة، وهل يتصور إخلاص بلا إرادة؟! إذا هي تريد وكل شيء يريد؛ لأن الله يقول:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ} ، وأظنه لا يخفى علينا جميعا أن هذا من صيغ العموم؛ فـ (إن) : نافية بمعنى (ما)، ومن شيء: نكرة في سياق النفي، {إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ، فيعم كل شيء.
فيا أخي المسلم! إذا رأيت قلبك لا يتأثر بالقرآن؛ فاتهم نفسك؛ لأن الله أخبر أن هذا القرآن لو أنزل على جبل لتصدع، وقلبك يتلى عليه القرآن، ولا يتأثر. أسأل الله أن يعينني وإياكم.
الآية الثالثة والرابعة والخامسة: قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 101-103] .
قوله عز وجل {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} : قوله: بدلنا؛ أي: جعلنا آية مكان آية، وهذا إشارة إلى النسخ المذكور في قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] ، فالله سبحانه إذا نسخ آية؛ جعل بدلها آية، سواء نسخها لفظا، أو نسخها حكما.
وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} : هذه جملة اعتراضية، وهي من أحسن ما يكون في هذا الموضع، والمعنى أن تبديلنا للآية ليس سفها وعبثا، بل هو صادر عن علم بما يصلح الخلق، فنبدل آية مكان آية؛ لعلمنا أن ذلك أصلح للخلق وأنفع لهم.
وفيها أيضا فائدة أخرى، وهي أن هذا التبديل ليس من عمل الرسول عليه الصلاة والسلام. بل هو من الله، أنزله بعلمه، وأبدل آية مكان آية بعلمه، وليس منك أيها الرسول.
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] ؛ فماذا كان الجواب؟ كان الجواب بأن أجاب عن شيء من كلامهم وترك شيئا فقال تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15]، ولم يقل: ولا أتي بقرآن غيره. لماذا؟ لأنه قد يأتي بتبديل من عنده، وإذا كان لا يمكنه تبديله؛ فالإتيان بغيره أولى بالامتناع.
فالمهم: أن الذي يبدل آية مكان آية، سواء لفظها أو حكمها، هو الله سبحانه.
قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} : الجملة جواب وإذا.
قوله: إنما أنت: الخطاب هنا لمحمد، صلى الله عليه وسلم.
قوله: مفتر؛ أي: كذاب، بالأمس تقول لنا كذا، واليوم تقول لنا كذا، هذا كذب، إنما أنت مفتر!!
لكن هذا القول الذي يقولونه إزاء إتيانه بآية مكان آية هو قول سفه، ولو أمعنوا النظر؛ لعلموا علم اليقين أن الذي يأتي بآية مكان آية هو الله سبحانه، وذلك يدل على صدقه، صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكذاب يحذر غاية الحذر أن يأتي بكلام غير كلامه الأول؛ لأنه يخشى أن يطلع على كذبه، فلو كان كاذبا، كما يدعون أن ذلك من علامة الكذب؛ ما أتى بشيء يخالف الأول؛ لأنه إذا أتى بشيء يخالف الأول على زعمهم تبين كذبه بل إتيانه بما يخالف الأول دليل على صدقه بلا شك.
ولهذا قال هنا: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ، وهذا إضراب إبطالي؛ معناه: بل لست مفتريا، ولكن أكثرهم لا يعلمون، ولو أنهم كانوا من ذوي العلم لعلموا أنه إذا بدلت آية مكان آية، فإنما ذلك دليل على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام.
قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} : رُوحُ الْقُدُسِ: هو جبريل، ووصفه بذلك لطهارته من الخيانة عليه الصلاة والسلام. ولهذا قال في آية أخرى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] .
قوله: من ربك قال: من ربك، ولم يقل: من رب العالمين؛
إشارة إلى الربوبية الخاصة؛ ربوبية الله للنبي، صلى الله عليه وسلم، وهي ربوبية أخص الخاصة.
وقوله: بالحق: إما أن يكون وصفا للنازل أو للمنزول به.
فإن كان وصفا للنازل؛ فمعناه: أن نزوله حق، وليس بكذب.
وإن كان وصفا للمنزول به؛ فمعناه: أن ما جاء به فهو حق.
وكلاهما مراد؛ فهو حق من عند الله، ونازل بالحق.
قال الله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105] .
فالقرآن حق، وما نزل به حق.
قوله: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} : هذا تعليل وثمرة عظيمة يثبت الذين آمنوا به ويمكنهم من الحق ويقويهم عليه.
قوله: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} ؛ أي: هدى يهتدون به، ومنارا يستنيرون به، وبشارة لهم يستبشرون به.
بشارة؛ لأن من عمل به، واستسلم له كان ذلك دليلا على أنه من أهل السعادة، قال الله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7] .
ولهذا ينبغي للإنسان أن يفرح إذا رأى من نفسه الخير والثبات عليه والإقبال عليه، يفرح؛ لأن هذه بشارة له؛ فإن الرسول، صلى الله عليه وسلم لما حدث أصحابه؛ قال «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ". قالوا: أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال: "لا؛ اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له"، ثم قرأ:: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} » [الليل:5-10] . .
فإذا رأيت من نفسك أن الله عز وجل قد من عليك بالهداية، والتوفيق والعمل الصالح ومحبة الخير وأهل الخير؛ فأبشر؛ فإن في هذا دليلا على أنك من أهل اليسرى، الذين كتبت لهم السعادة.
ولهذا قال هنا: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} .
قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} ؛ قال: ولقد نعلم، ولم يقل: لقد علمنا؛ لأن قولهم هذا يتجدد، فكان التعبير بالمضارع أولى من التعبير بالماضي؛ لأنه لو قال: لقد علمنا؛ لتبادر إلى ذهن بعض الناس أن المعنى: علمنا أنهم قالوا ذلك سابقا، لا أنهم يستمرون عليه.
وسبب نزول هذه الآية أن قريشا قالت: إن هذا القرآن الذي يأتي به محمد ليس من عند ربه، وإنما هو من شخص يعلمه ويقص عليه من قصص الأولين، ويأتي ليقول لنا: هذا من عند الله! أعوذ بالله!!
ادعوا أنه كلام البشر! والعجيب أنهم يدعون أنه كلام بشر، ويقال لهم: ائتوا بمثله، ولا يستطيعون!!
وقد أبطل الله افتراءهم هذا بقوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} ، ومعنى يلحدون أي: يميلون؛ لأن قولهم هذا ميل عن الصواب بعيد عن الحق.
والأعجمي: هو الذي لا يفصح بالكلام، وإن كان عربيا، والعجمي بدون همزة هو: المنسوب إلى العجم وإن كان يتكلم العربية.
فلسان هذا الذي يلحدون إليه أعجمي لا يفصح بالكلام العربي.
وأما القرآن؛ فإن الله قال فيه: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . بين في نفسه مبين لغيره.
فالقرآن كلام عربي، وهو أفصح الكلام، كيف يأتي من هذا الرجل الأعجمي، الذي لسانه لا يفصح بالكلام؟!
والشاهد هو قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} ، وقوله:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} ، وقوله:{وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} .
وكل هذه تدل على أن القرآن كلام الله تعالى منزل من عنده.
والمؤلف ترك الآية التي بعدها؛ لأنه ليس فيها شاهد، ولكنها مفيدة؛ فنذكرها: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:104-105] .
ومعنى هذه الآية: أن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولا ينتفعون بآياته، والعياذ بالله؛ فالهداية مسدودة عليهم.
وهذه الحقيقة فيها فائدة كبيرة، وهي: أن من لم يؤمن بآيات الله لا يهديه الله، ومفهوم المخالفة فيها: أن من آمن بآيات الله؛ هداه الله.
مثال ذلك: أننا نجد من لم يؤمن بالآيات؛ لم يهتد لبيان وجهها؛ مثل قول بعضهم: كيف ينزل الله إلى السماء الدنيا وهو في العلو؟!
فنقول: آمن تهتد! فإذا آمنت بأنه ينزل حقيقة علمت أن هذا ليس بمستحيل: لأنه في جانب الله عز وجل، ولا يماثله شيء.
وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
ــ
ونجد من يقول في قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77] : كيف يريد الجدار؟
فنقول: آمن بأن الجدار يريد يتبين لك أن هذا ليس بغريب.
وهذه قاعدة ينبغي أن تكون أساسية عندك، وهي: آمن تهتد!
والذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله، ويبقى القرآن عليهم عمى-والعياذ بالله - ولا يستطيعون الاهتداء به، نسأل الله لنا ولكم الهداية.
ما نستفيده من الناحية المسلكية من هذه الآيات:
نستفيد أننا إذا علمنا أن هذا القرآن تكلم به رب العالمين؛ أوجب لنا ذلك تعظيم هذا القرآن، واحترامه، وامتثال ما جاء فيه من الأوامر، وترك ما فيه من المنهيات والمحذورات، وتصديق ما جاء فيه من الأخبار عن الله تعالى وعن مخلوقاته السابقة واللاحقة.
إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
ذكر المؤلف رحمه الله آيات إثبات رؤية الله تعالى.
الآية الأولى: قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] .
قوله: وجوه يومئذ؛ يعني بذلك اليوم الآخر.
قوله: ناضرة؛ أي: حسنة، من النضارة؛ بالضاد، وهي: الحسن، يدل على ذلك قوله تعالى:{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11] ؛ أي: حسنا في وجوههم، وسرورا في قلوبهم.
قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} : ناظرة؛ بالظاء، من النظر، وهنا عدي النظر بـ (إلى) الدالة على الغاية، وهو نظر صادر من الوجوه، والنظر الصادر
من الوجوه يكون بالعين؛ بخلاف النظر الصادر من القلوب؛ فإنه يكون بالبصيرة والتدبر والتفكر؛ فهنا صدر النظر من الوجوه إلى الرب عز وجل؛ لقوله: (إلى ربها) .
فتفيد الآية الكريمة: أن هذه الوجوه الناضرة الحسنة تنظر إلى ربها عز وجل، فتزداد حسنا إلى حسنها.
وانظر كيف جعل هذه الوجوه مستعدة متهيئة للنظر إلى وجه الله عز وجل؛ لكونها نضرة حسنة متهيئة للنظر إلى وجه الله.
ففي هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يُرى بالأبصار وهذا هو قول أهل السنة والجماعة.
واستدلوا لذلك بالآيات التي ساقها المؤلف، واستدلوا أيضا بالأحاديث المتواترة عن النبي، صلى الله عليه وسلم والتي نقلها عنه صحابة كثيرون ونقلها عن هؤلاء الصحابة تابعون كثيرون، ونقلها عن التابعين من تابع التابعين كثيرون. وهكذا.
والنصوص فيها قطعية الثبوت والدلالة؛ لأنها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم المتواترة.
وأنشدوا في هذا المعنى:
مما تواتر حديث من كذب
…
ومن بنى لله بيتا واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض
…
ومسح خفين وهذي بعض
فالمراد بقوله: " ورؤية " رؤية المؤمنين لربهم.
وأهل السنة والجماعة يقولون: إن النظر هنا بالبصر حقيقة.
ولا يلزم منه الإدراك؛ لأن الله تعالى يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] .
{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ}
ــ
؛ كما أن العلم بالقلب أيضا لا يلزم منه الإدراك؛ قال الله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] .
ونحن نعلم ربنا بقلوبنا، لكن لا ندرك كيفيته وحقيقته، وفي يوم القيامة نرى ربنا بأبصارنا، ولكن لا تدركه أبصارنا.
الآية الثانية: قوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:23] .
الأرائك: جمع أريكة، وهي السرير الجميل المغطى بما يشبه الناموسية.
ينظرون: لم يذكر المنظور إليه، فيكون عاما لكل ما يتنعمون بالنظر إليه.
وأعظمه وأنعمه النظر إلى الله تعالى؛ لقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] ؛ فسياق الآية يشبه قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ؛ فهم ينظرون إلى كل ما يتنعمون بالنظر إليه.
ومنه النظر إلى قرناء السوء يعذبون في الجحيم؛ كما قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} قَالَ أي: لأصحابه: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} : هل. للتشويق يطلعون على ماذا؟! على هذا القرين، {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} !! أعوذ بالله! رآه في سوائها، أي: في أصلها، وقعرها، سبحان الله! هذا في أعلى عليين، وهذا في أسفل سافلين، وينظر إليه مع بعد المسافة العظيمة!
لكن نظر أهل الجنة ليس كنظر أهل الدنيا، هناك ينظر الإنسان في ملكه في الجنة مسيرة ألفي عام ينظر أقصاه كما ينظر أدناه، من كمال النعيم؛ لأن
الإنسان لو كان نظره كنظره في الدنيا؛ ما استمتع بنعيم الجنة؛ لأنه ينظر إلى مدى قريب، فيخفى عليه شيء كثير منه.
اطلع من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، فرآه في سواء الجحيم، قال يخاطبه:{تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} ؛ وهذا يدل على أنه كان دائما يحاول أن يضله، ولهذا قال: إن كدت؛ يعني: إنك قاربت، ووإن هذه المخففة لا الثقيلة، {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} إلى آخر الآيات [الصافات: 54-58] .
أقول: إن الناس سابقا يمارون في مثل هذا؛ كيف يكون في أعلى مكان ويخاطب من ينظر إليه ويكلمه في أسفل مكان؟!
ولكن ظهرت الآن أشياء من صنع البشر؛ كالأقمار الصناعية، والهواتف التليفزيونية.
…
وغير ذلك؛ يرى الإنسان من خلالها من يكلمه وينظر إليه وهو بعيد.
مع أنه لا يمكن أن نقيس ما في الآخرة على ما في الدنيا.
إذا؛ ينظرون: عامة: ينظرون إلى الله، وينظرون ما لهم من النعيم، وينظرون ما يحصل لأهل النار من العذاب.
إذا قال قائل: هذا فيه إشكال!! كيف ينظرون إلى أهل النار ينكتون عليهم ويوبخونهم؟!
فنقول: والله؛ ما أكثر ما أذاق أهل النار أهل الجنة في الدنيا من العذاب والبلاء والمضايقة، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} : يضحكون سواء في مجالسهم، أو معهم، {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ}
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}
ــ
أي: انقلبوا متنعمين بأقوالهم، {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} ! قال الله تعالى:{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 29-35] ؛ ينظرون إليهم وهم- والعياذ بالله - في سواء الجحيم.
إذا؛ يكون هذا من تمام عدل الله عز وجل؛ بأن جعل هؤلاء الذين كانوا يضايقون في دار الدنيا، جعلهم الآن يفرحون بنعمة الله عليهم، ويوبخون هؤلاء الذين في سواء الجحيم.
الآية الثالثة: قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] .
قوله: للذين: خبر مقدم.
والحسنى: مبتدأ مؤخر، وهي الجنة.
زيادة: هي النظر إلى وجه الله.
هكذا فسره النبي، صلى الله عليه وسلم: كما ثبت ذلك في "صحيح مسلم " وغيره.
ففي هذه الآية دليلة على ثبوت رؤية الله من تفسير الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو أعلم الناس بمعاني القرآن بلا شك، وقد فسرها بالنظر إلى وجه الله، وهي زيادة على نعيم الجنة.
إذا؛ فهي نعيم ليس من جنس النعيم في الجنة؛ لأن جنس النعيم في الجنة نعيم بدن، أنهار، وثمار، وفواكه، وأزواج مطهرة. .. وسرور القلب فيها تبع، لكن النظر إلى وجه الله نعيم قلب، لا يرى أهل الجنة نعيما أفضل منه، نسأل الله أن يجعلنا ممن يراه.
{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}
ــ
وهذا نعيم ما له من نظير أبدا؛ لا فواكه، ولا أنهار، ولا غيرها أبدا، ولهذا قال: وزيادة؛ أي: زيادة على الحسنى.
الآية الرابعة: قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] .
قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} ؛ أي: في الجنة كل ما يشاءون.
فإذا اشتهى أي شيء؛ فإنه يكون ويتحقق، حتى إن بعض العلماء يقول: لو اشتهى الولد لكان له ولد؛ فكل شيء يشتهونه فهو لهم. قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] .
وقوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ؛ أي: مزيد على ما يشاءون.
يعني: أن الإنسان إذا شاء شيئا يعطى إياه، ويعطى زيادة؛ كما جاء في الحديث الصحيح في «آخر أهل الجنة دخولا، يعطيه الله عز وجل نعيما،»
«ونعيما
…
ويقول: رضيت. يقول له: " لك مثله وعشرة أمثاله» فهو أكثر مما يشاء.
وفسر المزيد كثير من العلماء بما فسر به النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة وهي: النظر إلى وجه الله الكريم.
فتكون الآيات التي ساقها المؤلف لإثبات رؤية الله تعالى أربعا.
وهناك آية خامسة استدل بها الشافعي رحمه الله، وهي قوله تعالى في الفجار:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] .
ووجه الدلالة أنه ما حجب هؤلاء في الغضب؛ إلا رآه أولئك في الرضى؛ فإذا كان أهل الغضب محجوبين عن الله؛ فأهل الرضى يرون الله عز وجل.
وهذا استدلال قوي جدا؛ لأنه لو كان الكل محجوبين؛ لم يكن مزية لذكر هؤلاء.
وعلى هذا؛ فنقول: الآيات خمس، ويمكن أن نلحق بها قول الله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] ؛ على ما سنقرره في الرد على النفاة إن شاء الله.
فهذا قول أهل السنة في رؤية الله تعالى وأدلتهم، وهي ظاهرة جلية، لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر.
وخالفهم في ذلك طوائف من أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم، واستدلوا بأدلة سمعية متشابهة، وأدله عقلية متداعية:
أما الأدلة السمعية:
فالأول: قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] .
ووجه الدلالة أن [لن] للنفي المؤبد، والنفي خبر، وخبر الله تعالى صدق، لا يدخله النسخ.
والرد عليهم من وجوه:
- الأول: منع كون [لن] للنفي المؤبد؛ لأنه مجرد دعوى: قال ابن مالك في " الكافية ":
ومن رأى النفي بلن مؤبدا
…
فقوله اردد وسواه فاعضدا
الثاني: أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يطلب من الله الرؤية في الآخرة؛ وإنما طلب رؤية حاضرة؛ لقوله: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} ؛ أي: الآن. فقال الله تعالى له: لَنْ تَرَانِي؛ يعني: لن تستطيع أن تراني الآن، ثم ضرب الله تعالى له مثلا بالجبل حيث تجلى الله تعالى له فجعله دكا، فقال:{وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} ، فلما رأى موسى ما حصل للجبل؛ علم أنه هو لا طاقة له برؤية الله، وخر صعقا لهول ما رأى.
ونحن نقول: إن رؤية الله تعالى في الدنيا مستحيلة؛ لأن الحال البشرية لا تستطيع تحمل رؤية الله عز وجل؛ كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»
أما رؤية الله تعالى في الآخرة فممكنة؛ لأن الناس في ذلك اليوم يكونون في عالم آخر تختلف فيه أحوالهم عن حالهم في الدنيا؛ كما يعلم ذلك من نصوص الكتاب والسنة فيما يجري للناس في عرصات القيامة وفي مقرهم في دار النعيم أو الجحيم.
- الوجه الثالث: أن يقال: استحالة رؤية الله في الآخرة عند المنكرين لها مبنية على أن إثباتها يتضمن نقصا في حق الله تعالى! كما يعللون نفيهم بذلك، وحينئذ يكون سؤال موسى لربه الرؤية دائرا بين الجهل بما يجب لله ويستحيل في حقه، أو الاعتداء في دعائه حين طلب من الله ما لا يليق به إن كان عالما بأن ذلك مستحيل في حق الله، وحينئذ يكون هؤلاء النافون أعلم من موسى فيما يجب لله تعالى ويستحيل في حقه!! وهذا غاية الضلال! وبهذا الوجه يتبين أن في الآية دليلا عليهم لا دليلا لهم. وهكذا؛ كل دليل من الكتاب والسنة الصحيحة يستدل على باطل أو نفي حق فسيكون دليلا على من أورده، لا دليلا له.
الدليل الثاني لنفاة رؤية الله تعالى: قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] .
والرد عليهم: أن الآية فيها نفي الإدراك، والرؤية لا تستلزم الإدراك، ألا ترى أن الرجل يرى الشمس ولا يحيط بها إدراكا؟!
فإذا أثبتنا أن الله تعالى يرى؛ لم يلزم أن يكون يدرك بهذه الرؤية؛ لأن الإدراك أخص من مطلق الرؤية.
ولهذا نقول: إن نفي الإدراك يدل على وجود أصل الرؤية؛ لأن نفي الأخص يدل على وجود الأعم، ولو كان الأعم منتفيا؛ لوجب نفيه، وقيل: لا تراه الأبصار؛ لأن نفيه يقتضي نفي الأخص، ولا عكس، ولأنه؛ لو كان الأعم منتفيا؛ لكان نفي الأخص إيهاما وتلبيسا ينزه عنه كلام
الله عز وجل.
وعلى هذا؛ يكون في الآية دليل عليهم لا دليل لهم.
وأما أدلة نفاة الرؤية العقلية: فقالوا: لو كان الله يرى؛ لزم أن يكون جسما، والجسم ممتنع على الله تعالى؛ لأنه يستلزم التشبيه والتمثيل.
والرد عليهم: أنه إن كان يلزم من رؤية الله تعالى أن يكون جسما؛ فليكن ذلك، لكننا نعلم علم اليقين أنه لا يماثل أجسام المخلوقين؛ لأن الله تعالى يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .
على أن القول بالجسم نفيا أو إثباتا مما أحدثه المتكلمون، وليس في الكتاب والسنة إثباته ولا نفيه.
وقد أجاب النفاة عن أدلة أهل الإثبات بأجوبة باردة، فحرفوها تحريفا لا يخفى على أحد، وليس هذا موضوع ذكرها، وهذه مذكورة في الكتب المطولة.
ما نستفيده من الناحية المسلكية من هذه الآيات:
أما في مسألة الرؤية؛ فما أعظم أثرها على الاتجاه المسلكي؛ لأن الإنسان إذا وجد أن غاية ما يصل إليه من الثواب هو النظر إلى وجه الله كانت الدنيا كلها رخيصة عنده؛ وكل شيء يرخص عنده في جانب الوصول إلى رؤية الله عز وجل؛ لأنها غاية كل طالب، ومنتهى المطالب.
فإذا علمت أنك سوف ترى ربك عيانا بالبصر؛ فوالله لا تساوي الدنيا عندك شيئا.
فكل الدنيا ليست بشيء؛ لأن النظر إلى وجه الله هو الثمرة التي يتسابق فيها المتسابقون، ويسعى إليها الساعون، وهي غاية المرام من كل شيء.
فإذا علمت هذا؛ فهل تسعى إلى الوصول إلى ذلك أم لا؟!
وهذا الباب في كتاب الله كثير ومن تدبر القرآن طالبا للهدى منه تبين له طريق الحق
ــ
والجواب: نعم؛ أسعى إلى الوصول إلى ذلك بدون تردد.
وإنكار الرؤية في الحقيقة حرمان عظيم، لكن الإيمان بها يسوق الإنسان سوقا عظيما إلى الوصول إلى هذه الغاية، فهو يسير ولله الحمد؛ فالدين كله يسر، حتى إذا وجد الحرج تيسر الدين؛ فأصله ميسر، وإذا وجد الحرج تيسر ثانية، وإذا لم يكن القيام به أبدا سقط؛ فلا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة.
قوله: " وهذا الباب ": الإشارة هنا إلى باب الأسماء والصفات.
قوله: " في كتاب الله كثير ": ولذلك؛ ما من آية من كتاب الله؛ إلا وتجد فيها غالبا اسما من أسماء الله، أو فعلا من أفعاله، أو حكما من أحكامه، بل لو شئت لقلت: كل آية في كتاب الله فهي صفة من صفات الله؛ لأن القرآن الكريم كلام الله عز وجل؛ فكل آية منه؛ فهي صفة من صفات الله عز وجل. تدبر الشيء؛ معناه: التفكير فيه؛ كأن الإنسان يستدبره مرة ويستقبله أخرى؛ فهو يكرر اللفظ ليفهم المعنى.
فالذي يتدبر القرآن بهذا الفعل، وأما النية؛ فهي أن يكون " طالبا للهدى منه "؛ فليس قصده بتدبر القرآن أن ينتصر لقوله، أو أن يتخذ منه مجادلة بالباطل، ولكن قصده طلب الحق؛ فإنه سوف تكون النتيجة قول المؤلف:" تبين له طريق الحق ".
وما أعظمها من نتيجة!! لكنها مسبوقة بأمرين: التدبر، وحسن النية؛ بأن يكون الإنسان طالبا للهدى من القرآن؛ فحينئذ يتبين له طريق الحق.
والدليل على ذلك عدة آيات؛ منها:
قول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] .
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [صّ:29] .
وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون:68] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:32] .
والآيات في هذا كثيرة، تدل على أن من تدبر القرآن لكن بهذه النية، وهي طلب الهدى منه؛ لا بد أن يصل إلى النتيجة، وهي تبين طريق الحق.
أما من تدبر القرآن ليضرب بعضه ببعض، وليجادل بالباطل، ولينصر قوله؛ كما يوجد عند أهل البدع وأهل الزيغ فإنه يعمى عن الحق والعياذ بالله.
لأن الله تعالى يقول: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ؛ على تقدير [أما] ؛ أي: وأما الراسخون في العلم؛ فـ {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] ، وإذا قالوا هذا القول؛ فسيهتدون إلى بيان هذا المتشابه، ثم قال:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] .
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] .