المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي موقف أهل السنة والجماعةمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ٨

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌شرح العقيدة الواسطية

- ‌مقدمة الشارح

- ‌مقدمة

- ‌إعراب البسملة ومعناها

- ‌اعتقاد الفرقة الناجية

- ‌الإيمان بالقدر

- ‌فصل: في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في أحاديث الصفات

- ‌فصل:مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمةواتصافهم بالوسطية

- ‌فصلفي المعية وبيان الجمع بينهاوبين علو الله واستوائه على عرشه

- ‌فصلفي قرب الله تعالى وإجابته وأن ذلكلا ينافي علوه وفوقيته

- ‌فصل:في الإيمان بأن القرآنكلام الله حقيقة

- ‌فصل:في الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامةومواضع الرؤية

- ‌فصل:في الإيمان باليوم الآخر

- ‌فصلفي القيامة الكبرى

- ‌فصلفي الإيمان بالقدر

- ‌الدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون

- ‌فصلفي درجات الإيمان بالقدر

- ‌فصلفي الإيمان

- ‌فصلفي موقف أهل السنة والجماعةمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي كرامة الأولياء

- ‌فصلفي طريقة أهل السنة العملية

- ‌فصلفي منهج أهل السنة والجماعةفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الخصال

الفصل: ‌فصلفي موقف أهل السنة والجماعةمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

فصل

ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

‌فصل

في موقف أهل السنة والجماعة

من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

أي: أسس عقيدتهم.

قوله: " سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ": ولم يقل: وأفعالهم، لأن الأفعال متعذرة بعد موت الصحابة، حتى لو فرض أن أحدا نبش قبورهم وأخرج جثثهم، فإن ذلك لا يؤذيهم ولا يضرهم، لكن الذي يمكن أن يكون بعد موت الصحابة نحوهم هو ما يكون في القلب وما ينطق به اللسان.

فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم.

فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بهم.

فهم يحبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويفضلونهم على جميع الخلق، لأن محبتهم من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من محبة الله، وألسنتهم أيضا سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع، فإذا سلمت من هذا، ملئت من الثناء

ص: 587

عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك. وذلك للأمور التالية:

أولا: أنهم خير القرون في جميع الأمم، كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:«خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» .

ثانيا: أنهم هم الواسطة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أمته، فمنهم تلقت الأمة عنه الشريعة.

ثالثا: ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة.

رابعا: أنهم نشروا الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب التي لا توجد عند غيرهم، ولا يعرف هذا من كان يقرأ عنهم من وراء جدر، بل لا يعرف هذا إلا من عاش في تاريخهم وعرف مناقبهم وفضائلهم وإيثارهم لله ولرسول صلى الله عليه وسلم.

فنحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الصحابة، ونثني عليهم بألسنتنا بما يستحقون، ونبرأ من طريقين ضالين: طريق الروافض الذين يسبون الصحابة ويغلون في آل البيت، ومن طريق النواصب الذين يبغضون آل البيت، وترى أن لآل البيت إذا كانوا صحابة ثلاثة حقوقة: حق الصحابة، وحق الإيمان، وحق القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: " لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ": سبق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من اجتمع به مؤمنا به ومات على ذلك، وسمي صاحبا، لأنه إذا اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم مؤمنا به، فقد التزم اتباعه، وهذا من خصائص صحبة

ص: 588

كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .

ــ

الرسول صلى الله عليه وسلم، أما غير الرسول، فلا يكون الشخص صاحبا له حتى يلازمه ملازمة طويلة يستحق أن يكون بها صاحبا.

استدل المؤلف رحمه الله لموقف أهل السنة بقوله: " كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] ".

هذه الآية بعد آيتين سابقتين هما قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] ، وعلى رأس هؤلاء المهاجرين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

ففي قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} : إخلاص النية، وفي قوله:{وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : تحقيق العمل، وقوله:{أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ، أي: لم يفعلوا ذلك رياء ولا سمعة، ولكن عن صدق نية.

ثم قال في الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، فوصفهم الله بأوصاف ثلاثة:

ص: 589

وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " لا تسبوا "

ــ

{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .

ثم قال تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الآية، وهم التابعون لهم بإحسان وتابعوهم إلى يوم القيامة، فقد أثنوا عليهم بالأخوة، وبأنهم سبقوهم بالإيمان، وسألوا الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم، فكل من خالف في ذلك وقدح فيهم ولم يعرف لهم حقهم، فليس من هؤلاء الذين قال الله عنهم:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} .

ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قوم يسبون الصحابة، قالت: لا تعجبون! هؤلاء قوم انقطعت أعمالهم بموتهم، فأحب الله أن يجري أجرهم بعد موتهم!!

وقوله: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، ولم يقل: للذين سبقونا بالإيمان، ليشمل هؤلاء السابقين وغيرهم إلى يوم القيامة.

{رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} : ولرأفتك ورحمتك نسألك المغفرة لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

" طاعة ": معطوف على قوله: " سلامة "، أي: من أصول أهل السنة والجماعة: طاعة النبي صلى الله عليه وسلم

إلخ.

السب: هو القدح والعيب، فإن كان في غيبة الإنسان، فهو غيبة.

ص: 590

أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه "

ــ

أي: الذين صحبوه، وصحبة النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنها تختلف: صحبه قديمة قبل الفتح، وصحبة متأخرة بعد الفتح.

والرسول عليه الصلاة والسلام كان يخاطب خالد بن الوليد حين حصل بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ما حصل من المشاجرة في بني جذيمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد:«لا تسبوا أصحابي» ، والعبرة بعموم اللفظ.

ولا شك أن عبد الرحمن بن عوف وأمثاله أفضل من خالد بن الوليد رضي الله عنه من حيث سبقهم إلى الإسلام، لهذا قال:«لا تسبوا أصحابي» ، يخاطب خالد بن الوليد وأمثاله.

وإذا كان هذا بالنسبة لخالد بن الوليد وأمثاله، فما بالك بالنسبة لمن بعدهم.

أقسم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الصادق البار بدون قسم:«لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» .

" أحد ": جبل عظيم كبير معروف في المدينة.

المد: ربع الصاع.

" ولا نصيفه "، أي نصفه. قال بعضهم: من الطعام، لأن الذي يقدر بالمد والنصيف هو الطعام، أما الذهب فيوزن، وقال بعضهم: من الذهب، بقرينة السياق، لأنه قال:«لو أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ، يعني: من الذهب.

ص: 591

ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم

ــ

وعلى كل حال، فإن قلنا: من الطعام، فمن الطعام، وإن قلنا: من الذهب، فليكن من الذهب، ونسبة المد أو نصف المد من الذهب إلى جبل أحد من الذهب لا شيء.

فالصحابة رضي الله عنهم إذا أنفق الإنسان مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، والإنفاق واحد، والمنفق واحد، والمنفق عليه واحد، وكلهم بشر، لكن لا يستوي البشر بعضهم مع بعض، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لهم من الفضائل والمناقب والإخلاص والاتباع ما ليس لغيرهم، فإخلاصهم العظيم، واتباعهم الشديد، كانوا أفضل من غيرهم فيما ينفقون.

وهذا النهي يقتضي التحريم، فلا يحل لأحد أن يسب الصحابة على العموم، ولا أن يسب واحدا منهم على الخصوص، فإن سبهم على العموم، كان كافرا، بل لا شك في كفر من شك في كفره، أما إن سبهم على سبيل الخصوص، فينظر في الباعث لذلك، فقد يسبهم من أجل أشياء خلقية أو دينية، ولكل واحد من ذلك حكمه.

أي: أهل السنة.

قوله: " ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائهم ومراتبهم ":

الفضائل: جمع فضيلة، وهو ما يفضل به المرء غيره ويعد منقبة له.

والمراتب: الدرجات، لأن الصحابة درجات ومراتب، كما سيذكرهم المؤلف رحمه الله.

ص: 592

ويفضلون من أنفق من قبل الفتح وهو صلح الحديبية وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل

ــ

50 فما جاء من فضائل الصحابة ومراتبهم، فإن أهل السنة والجماعة يقبلون ذلك:

فمثلا ما جاء عنهم من كثرة صلاة أو صدقة أو صيام أو حج أو جهاد أو غير ذلك من الفضائل.

ويقبلون مثلا ما جاء في أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء أبو بكر بجميع ماله (1) ، وهذه فضيلة.

ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من أن أبا بكر رضي الله عنه كان وحده صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته في الغار.

ويقبلون ما جاء به النص من قول الرسول عليه الصلاة والسلام في أبي بكر: «إن من أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر» .

وكذلك ما جاء في عمر وفي عثمان وفي علي رضي الله عنهم وما جاء في غيرهم من الصحابة من الفضائل، يقبلون هذا كله.

وكذلك المراتب، فيقبلون ما جاء في مراتبهم، فالخلفاء الراشدون هم القمة في هذه الأمة في المرتبة، وأعلاهم مرتبة أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان ثم علي، كما سيذكره المؤلف.

دليل ذلك قول تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] .

(1) رواه أبو داود (1678) ، والترمذي (3675)، وقال:" حديث حسن صحيح".

ص: 593

ويقدمون المهاجرين على الأنصار

ــ

فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل صلح الحديبية أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة في ذي القعدة، فالذين أسلموا قبل ذلك، وأنفقوا وقاتلوا أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا.

فإذا قال قائل: كيف نعرف ذلك؟

فالجواب: أن ذلك يعرف بتاريخ إسلامهم، كأن نرجع إلى " الإصابة في تمييز الصحابة " لابن حجر أو " الاستيعاب في معرفة الأصحاب " لابن عبد البر أو غير ذلك من الكتب المؤلف في الصحابة رضي الله عنهم، ويعرف أن هذا أسلم من قبل أو أسلم من بعد.

وقول المؤلف: " وهو صلح الحديبية ":

- هذا أحد القولين في الآية، وهو الصحيح، ودليله قصة خالد مع عبد الرحمن بن عوف، وقول البراء بن عازب: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. رواه البخاري.

- وقيل: المراد فتح مكة، وهو قول كثير من المفسرين أو أكثرهم.

المهاجرون: هم الذين هاجروا إلى المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة.

الأنصار: هم الذين هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.

ص: 594

ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر - وكانوا ثلاث مئة وبضعة عشر - «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»

ــ

وأهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار لأن المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة، والأنصار أتوا بالنصرة فقط.

- فالمهاجرون تركوا أهلهم وأموالهم، وتركوا أوطانهم، وخرجوا إلى أرض هم فيها غرباء، كل ذلك هجرة إلى الله ورسوله، ونصرة لله ورسوله.

- والأنصار أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم في بلادهم، ونصروا صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنهم منعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم.

ودليل تقديم المهاجرين: قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] ، فقدم المهاجرين على الأنصار، وقوله:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117] ، فقدم المهاجرين، وقوله في الفيء:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8]، ثم قال:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] .

أهل بدر مرتبتهم أعلى من مراتب الصحابة.

وبدر مكان معروف، كانت فيه الغزوة المشهورة، وكانت في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وسمى الله تعالى يومها يوم الفرقان.

وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أن أبا سفيان قدم بعير من الشام إلى مكة، فندب أصحابه من أجل هذه العير فقط، فانتدب منهم ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا، معهم سبعون بعيرا وفرسان وخرجوا من المدينة لا يريدون

ص: 595

قتالا، لكن الله عز وجل بحكمته جمع بينهم وبين عدوهم.

فلما سمع أبو سفيان بذلك، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج إليه لتلقي العير، أخذ بساحل البحر، وأرسل صارخا إلى أهل مكة يستنجدهم، فانتدب أهل مكة لذلك، وخرجوا بأشراف وكبرائهم وزعمائهم، خرجوا على الوصف الذي ذكر الله عز وجل:{بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47] .

وفي أثناء ذلك جاءهم الخبر أن أبا سفيان نجا بالعير، فتآمروا بينهم في الرجوع، لكن أبا جهل قال: والله، لا نرجع حتى نقدم بدرا، فنقيم فيها ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتضرب علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا.

وهذا الكلام يدل على الفخر والخيلاء والاعتزاز بالنفس، ولكن ولله الحمد كان الأمر على عكس ما يقول، سمعت العرب بهزيمتهم النكراء فهانوا في نفوس العرب.

قدموا بدرا، والتقت الطائفتان، وأوحى الله تعالى إلى الملائكة:{أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 12 - 14] .

حصل اللقاء بين الطائفتين، وكانت الهزيمة - ولله الحمد - على المشركين، والنصر المبين للمؤمنين، انتصروا، وأسروا منهم سبعين رجلا، وقتلوا سبعين رجلا، منهم أربعة وعشرون رجلا من كبرائهم وصناديدهم، سحبوا، فألقوا في قليب من قلب بدر خبيثة قبيحة.

ص: 596

ثم إن «النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء الحرب بثلاثة أيام ركب ناقته، ووقف عليهم يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: " يا فلان ابن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ". فقالوا: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: " والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» ، والنبي عليه الصلاة والسلام وقف عليهم توبيخا وتقريعا وتنديما، وهم قد وجدوا ما وعد الله حقا، قال الله تعالى:{ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 14] ، فوجدوا النار من حين ماتوا وعرفوا أن الرسول حق، ولكن أنى لهم التناوش من مكان بعيد.

فأهل بدر الذين جعل الله على أيدهم هذا النصر المبين والفرقان الذي هاب العرب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان لهم منزلة عظيمة بعد هذا النصر، اطلع الله عليهم، وقال:«اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» ، فكل ما يقع منهم من ذنوب، فإنه مغفور، لهم، بسبب هذه الحسنة العظيمة الكبيرة التي جعلها الله تعالى على أيديهم.

وفي هذا الحديث دليل على أن ما يقع منهم من الكبائر مهما عظم، فهو مغفور لهم.

- إما أنهم لا يمكن أن يكفروا بعد ذلك.

ص: 597

وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة؛ كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربع مئة

ــ

- وإما أنهم إن قدر أن أحدهم كفر، فسيوفق للتوبة والرجوع وإلى الإسلام.

وأيا كان، ففيه بشارة عظيمة لهم، ولم نعلم أن أحدا منهم كفر بعد ذلك.

أصحاب الشجرة هم أصحاب بيعة الرضوان.

وسبب هذه البيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة يريد العمرة، ومعه أصحابه والهدي، وكانوا نحو ألف وأربع مئة رجل، لا يريدون إلا العمرة، فلما بلغوا الحديبية، وهي مكان قرب مكة، في طريق جدة الآن، بعضها من الحل وبعضها من الحرم، وعلم بذلك المشركون، منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنهم يزعمون أنهم أهل البيت وحماة البيت، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] ، وجرت بينهم وبينهم مفاوضات.

وأرى الله تعالى من آياته في هذه الغزوة ما يدل على أن الأولى تنازل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما يترتب على ذلك من الخير والمصلحة، فإن «ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام بركت وأبت أن تسير، حتى قالوا: " خلأت القصواء "، يعني: حرنت وأبت المسير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مدافعا عنها: " والله ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل ". ثم قال: " والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها» .

ص: 598

وجرى التفاوض، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، لأن له رهطا بمكة يحمونه، أرسله إلى أهل مكة، يدعوهم إلى الإسلام، ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء معتمرا للبيت، فشاع الخبر بأن عثمان قد قتل، وكبر ذلك على المسلمين، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، يبايع أصحابه على أن يقاتلوا أهل مكة الذين قتلوا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الرسل لا تقتل، فبايع الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقاتلوا ولا يفروا إلى الموت.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يبايع الناس، يمد يده فيبايعونه على هذا البيعة المباركة التي قال الله عنها:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] ، وكان عثمان رضي الله عنه غائبا، «فبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيده عن يد عثمان، وقال بيده اليمنى:" هذه يد عثمان ".

» ثم تبين أن عثمان لم يقتل، وصارت الرسل تأتي وتروح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش، حتى انتهى الأمر على الصلح الذي صار فتحا مبينا للرسول عليه الصلاة والسلام.

هؤلاء الذين بايعوا قال الله عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح 18 - 19] .

وكان من جملة المبايعين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.

فوصفهم الله تعالى بالإيمان، وهذه شهادة من الله عز وجل بأن كل من بايع تحت الشجرة، فهو مؤمن مرضي عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام

ص: 599

قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ، فالرضى ثابت بالقرآن، وانتفاء دخول النار ثبت بالسنة.

وقوله النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ، قد يقول قائل: كيف نجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] ؟

فالجمع من أحد وجهين:

الأول: أن يقال: إن المفسرين اختلفوا في المراد بالورود، فقال بعضهم: هو المرور على الصراط، لأن هذا نوع ورود بلا شك، كما في قوله تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23] ، ومعلوم أنه لم ينزل وسط الماء، بل كان حوله وقريبا منه، وبناء على هذا، لا إشكال ولا تعارض أصلا.

والوجه الثاني: أن من المفسرين من يقول: المراد بالورود الدخول، وأنه ما من إنسان إلا ويدخل النار، وبناء على هذا القول، فيحمل قوله:«لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» . لا يدخلها دخول عذاب وإهانة، وإنما يدخلها تنفيذا للقسم:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، أو يقال: إن هذا من باب العام المخصوص بأهل بيعة الرضوان.

وقوله: " الشجرة ": الشجرة هذه شجرة سدر، وقيل: شجرة سمر، ولا طائل تحت هذا الخلاف، كانت ذات ظل، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم تحتها يبايع الناس، وكانت موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر رضي الله عنه وأول خلافه عمر، فلما قيل له: إن الناس يختلفون إليها - أي: يأتونها - يصلون عندها، أمر رضي الله عنه بقطعها، فقطعت.

ص: 600

ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

قال في " الفتح "(1) : " وجدته عند ابن سعد بإسناد صحيح، لكن في " صحيح البخاري " عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: رجعنا من العام المقبل يعني: بعد صلح الحديبية فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله. وهكذا قال المسيب والد سعيد: فلما خرجنا من العام المقبل، نسيناها، فلم نقدر عليها ".

وهذا لا ينافي ما ذكره ابن حجر عن ابن سعد، لأن نسيانها لا يستلزم عدمها ولا عدم تذكرها بعد والله أعلم.

وهذه من حسنات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأننا نظن أن هذه الشجرة لو كانت باقية إلى الآن، لعبدت من دون الله.

أي أهل السنة والجماعة.

والشهادة بالجنة نوعان: شهادة معلقة بوصف، وشهادة معلقة بالشخص.

- أما المعلقة بالوصف، فأن نشهد لكل مؤمن أنه في الجنة، وكل متق أنه في الجنة، بدون تعيين شخص أو أشخاص.

وهذه شهادة عامة، يجب علينا أن نشهد بها، لأن الله تعالى أخبر به، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [لقمان 8 - 9]، وقال:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] .

- وأما الشهادة المعلقة بشخص معين، فأن نشهد لفلان أو لعدد معين

(1)" فتح الباري "(7/448) .

ص: 601

كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس

ــ

أنهم في الجنة.

وهذه شهادة خاصة، فنشهد لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء شهد لشخص معين واحد أو لأشخاص معينين.

مثال ذلك ما ذكره المؤلف بقوله: " كالعشرة "، يعني بهم: العشرة المبشرين بالجنة، لقبوا بهذا الاسم لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في حديث واحد وهم: الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وانظر تراجمهم في المطولات.

وقد جمع الستة الزائدة عن الخلفاء الأربعة في بيت واحد، فاحفظه:

سعيد وسعد وابن عوف وطلحة

وعامر فهر والزبير الممدوح

هؤلاء بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم في نسق واحد، فقال: " أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة

" (1) ، ولهذا لقبوا بهذا القلب، فيجب أن نشهد أنهم في الجنة لشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

«ثابت بن قيس رضي الله عنه أحد خطباء النبي صلى الله عليه وسلم، كان جهوري الصوت، فلما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] ، خاف أن يكون عمله وهو لا يشعر، فاختفى في بيته، ففقده النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث إليه رجلا يسأله»

(1) رواه أحمد (1/187، 188، 189) ، وأبو داود (4649) ، والترمذي (3748)

ص: 602

وغيرهم من الصحابة

ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر

ــ

«عن اختفائه فقال: إن الله أنزل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} ، وأنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النار!! فأتى الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال ثابت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اذهب إليه، فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة» ، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.

مثل أمهات المؤمنين، لأنهن في درجة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم بلال، وعبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن، وسعد بن معاذ، رضي الله عنهم.

التواتر: خبر يفيد العلم اليقيني، وهو الذي نقله طائفة لا يمكن تواطؤهم على الكذب.

ففي " صحيح البخاري " وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان.

وفي " صحيح البخاري " أيضا أن محمد ابن الحنفية قال: قلت

ص: 603

ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة

ــ

لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.

فإذا كان علي رضي الله عنه يقول وهو في زمن خلافته: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، فقد اندحضت حجة الرافضة الذين فضلوه عليهما.

قوله: " وغيره "، يعني: غير علي من الصحابة والتابعين.

وهذا متفق عليه بين الأئمة.

- وقال الإمام مالك: ما رأيت أحدا يشك في تقديمهما.

- وقال الشافعي: لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر.

ومن خرج عن هذا الإجماع، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين.

" يثلثون "، يعني: أهل السنة، يجعلون عثمان هو الثالث.

" ويربعون " بعلي " أي: يجعلون عليا هو الرابع.

وعلى هذا، فأفضل هذه الأمة هؤلاء الأربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.

استدل المؤلف لهذا الترتيب بدليلين:

الأول: قوله: " كما دلت عليه الآثار ": وقد سبق ذكر شيء منها.

ص: 604

مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان وسكتوا أو ربعوا بعلي، وقدم قوما عليا، وقوم توقفوا

ــ

والثاني: قوله: " وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة ":

فصار في تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما آثار نقلية، وفيه أيضا دليل عقلي، وهو إجماع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، فإن إجماعهم على ذلك يستلزم أن عثمان أفضل من علي، وهو كذلك، لأن حكمة الله عز وجل تأبى أن يولي على خير القرون رجلا وفيه من هو أفضل منه، كما جاء في الأثر:«كما تكونون يولي عليكم، فخير القرون لا يولي الله عليهم إلا من هو خيرهم» .

فيقولون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ويسكتون، أو يقولون: ثم علي.

فقالوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان. وهذا رأي من آراء أهل السنة.

فقالوا: أبو بكر، ثم عمر. وتوقفوا أيهما أفضل: عثمان أو علي؟ وهذا غير الرأي الأول.

فالآراء أربعة:

- الرأي المشهور: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.

- الرأي الثاني: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم السكوت.

- الرأي الثالث: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان.

- الرأي الرابع: أبو بكر، ثم عمر، ثم نتوقف أيهما أفضل: عثمان أو علي، فهم يقولون: لا نقول: عثمان أفضل، ولا علي أفضل، لكن

ص: 605

لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان وإن كانت هذه المسألة - مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة ولكن المسألة التي يضلل فيها مسألة الخلافة وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله

ــ

لا نرى أحدا يتقدم على عثمان وعلي في الفضيلة بعد أبي بكر وعمر.

هذا الذي استقر عليه أمر أهل السنة، فقالوا: أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، على ترتيبهم في الخلافة. وهو الصواب، كما سبق دليله.

يعني: المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما ليست من أصول أهل السنة التي يضلل فيها المخالف، فمن قال: إن عليا أفضل من عثمان، فلا نقول: إنه ضال، بل نقول: هذا رأي من آراء أهل السنة، ولا نقول فيه شيئا.

فيجب أن نقول: الخليفة بعد نبينا في أمته أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان، ثم علي. ومن قال إن الخلافة لعلي دون هؤلاء الثلاثة، فهو ضال، ومن قال: إنها لعلي بعد أبي بكر وعمر، فهو ضال، لأنه مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم.

وهذا ما أجمع عليه أهل السنة في مسألة الخلافة.

الذي يطعن في خلافة أحد من هؤلاء، ويقول: إنه لا يستحق الخلافة! أو: إنه ممن سبقه! فهو أضل من حمار أهله.

ص: 606

وعبر المؤلف بهذا التعبير، لأنه تعبير الإمام أحمد رحمه الله، ولا شك أنه أضل من حمار أهله، وإنما ذكر الحمار، لأنه أبلد الحيوانات على الإطلاق، فهو أقل الحيوانات فهما، فالطعن في خلافة أحد من هؤلاء أو في ترتيبه طعن في الصحابة جميعا.

فيجب علينا أن نعتقد بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم في أحقية الخلافة على هذا الترتيب، حتى لا نقول: إن هناك ظلما في الخلافة، كما ادعته الرافضة حين زعموا أن أبا بكر وعمر وعثمان والصحابة كلهم ظلمة، لأنهم ظلموا على بن أبي طالب، حيث اغتصبوا الخلافة منه.

أما من بعدهم، فإننا لا نستطيع أن نقول: إن كل خليفة استخلفه الله على الناس، فهو أحق بالخلافة من غيره، لأن من بعدهم ليسوا في خير القرون، بل حصل فيهم من الظلم والانحراف والفسوق ما استحقوا به أن يولى عليهم من ليس أحق بالخلافة منهم، كما قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] .

واعلم أن الترتيب في الأفضلية على ما سبق لا يعني أن من فضل غيره، فإنه يفضله في كل شيء، بل قد يكون للمفضول فضيلة لم يشاركه فيها أحد، وتميز أحد هؤلاء الأربعة أو غيرهم بميزة يفضل بها غيره لا يدل على الأفضلية المطلقة، فيجب التفريق بين الإطلاق والتقييد.

ص: 607

ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

أي: ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحبونهم لأمرين: للإيمان، وللقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكرهونهم أبدا.

ولكن لا يقولون كما قال الرافضة: كل من أحب أبا بكر وعمر، فقد أبغض عليا، وعلى هذا فلا يمكن أن تحب عليا حتى نبغض أبا بكر وعمر، وكأن، أبا بكر وعمر أعداء لعلي بن أبي طالب مع أنه تواتر النقل عن علي رضي الله عنه أنه كان يثني عليهما على المنبر.

فنحن نقول: إننا نشهد الله على محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته، نحبهم لمحبة الله ورسوله.

- ومن أهل بيته أزواجه بنص القرآن، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب، 28 - 33] ، فأهل البيت هنا يدخل فيها أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام بلا ريب.

ص: 608

ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خم: " أذكركم الله في أهل بيتي "

ــ

- وكذلك يدخل فيه قرابته، فاطمة وعلي والحسن والحسين وغيرهم كالعباس بن عبد المطلب وأبنائه.

- فنحن نحبهم لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإيمانهم بالله.

فإن كفروا، فإننا لا نحبهم، ولو كانوا من أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام، فأبو لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال، بل يجب أن نكرهه لكفره ولإيذائه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو طالب، يجب علينا أن نكرهه لكفره، لكن نحب أفعاله التي أسداها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من الحماية والذب عنه.

أي: يجعلونهم من أوليائهم، والولي: يطلق على عدة معان، يطلق على الصديق، والقريب، والمتولي للأمر، وغير ذلك من الموالاة والنصرة، وهنا يشمل النصرة والصداقة والمحبة.

أي: عهده الذي عهد به إلى أمته.

هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. وهذا الغدير ينسب إلى رجل يسمى (خم) ، وهو في الطريق الذي بين مكة والمدينة، قريب من الجحفة، نزل الرسول عليه الصلاة والسلام فيه منزلا في رجوعه من حجة الوداع، وخطب الناس، وقال:«أذكركم الله في أهل بيتي» ، ثلاثا، يعني: اذكروا الله، اذكروا خوفه وانتقامه إن أضعتم حق آل البيت، واذكروا رحمته وثوابه إن قمتم في حقهم.

ص: 609

وقال أيضا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: " والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي "

ــ

" أيضا ": مصدر آض يئيض، أي: رجع، وهو مصدر لفعل محذوف، والمعنى: عودا على ما سبق.

" يجفو " يترفع ويكره.

" هاشم ": هو جد أبي الرسول صلى الله عليه وسلم.

أقسم صلى الله عليه وسلم أنهم لا يؤمنون، أي: لا يتم إيمانهم، حتى يحبوكم لله، وهذا المحبة يشاركهم فيها غيرهم من المؤمنين، لأن الواجب على كل إنسان أن يحب كل مؤمن لله، لكن قال:" ولقرابتي ": فهذا حب زائد على المحبة لله، ويختص به آل البيت قرابة النبي عليه الصلاة والسلام.

وفي قول العباس: " إن بعض قريش يجفو بني هاشم ": دليل على أن جفاء آل البيت كان موجودا منذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الحسد من طبائع البشر، إلا من عصمه الله عز وجل، فكانوا يحسدون آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام على ما من الله عليهم من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، فيجفونهم ولا يقومون بحقهم.

فعقيدة أهل السنة والجماعة بالنسبة لآل البيت: أنهم يحبونهم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية الرسول صلى الله عليه وسلم في التذكير بهم، ولا ينزلونهم فوق منزلتهم، بل يتبرؤون ممن يغلون فيهم، حتى يوصلوهم إلى حد الألوهية، كما فعل عبد الله بن أبي طالب حين قال له: أنت الله! والقصة مشهورة.

"

ص: 610

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة

ــ

إسماعيل ": هو ابن إبراهيم الخليل، وهو الذي أمر الله إبراهيم بذبحه، وقصته في سورة الصافات.

" كنانة ": هو الأب الرابع عشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم.

" قريش ": هو الأب الحادي عشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فهر بن مالك، وقيل: الأب الثالث عشر، وهو النضر بن كنانة.

" هاشم " هو الأب الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: " أمهات المؤمنين ": هذه صفة لـ " أزواج " فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لنا في الإكرام والاحترام والصلة، قال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] ، فنحن نتولاهن بالنصرة والدفاع عنهن واعتقاد أنهن أفضل أزواج أهل الأرض، لأنهن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا دليل على أن بني هاشم مصطفون عند الله مختارون من خلقه.

لأحاديث وردت في ذلك، ولقوله تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر: 7 - 8]

ص: 611

خصوصا خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده وأول من آمن به

ــ

فقال: وأزوجهم، فأثبت الزوجية لهن بعد دخول الجنة، وهذا يدل على أن زوجة الإنسان في الدنيا تكون زوجته في الآخرة إذا كانت من أهل الجنة.

" خصوصا ": مصدر محذوف العامل، أي: أخص خصوصا.

" L10640 خديجة بنت خويلد ": تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم أول ما تزوج، وكان عمره حينذاك خمسا وعشرين سنة، وعمرها أربعين سنة، وكانت امرأة عاقلة، وانتفع بها صلى الله عليه وسلم انتفاعا كثيرا، لأنها امرأة ذات عقل وذكاء، ولم يتزوج عليها أحدا.

فكانت كما قال المؤلف: " أم أكثر أولاده ": البنين والبنات، ولم يقل المؤلف: أم أولاده، لأن من أولاده من ليس منها، وهو إبراهيم، فإنه كان من مارية القبطية.

وأولاده الذين من خديجة هم ابنان وأربع بنات: القاسم، ثم عبد الله، ويقال له: الطيب، والطاهر. وأما البنات، فهن: زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. وأكبر أولاده القاسم، وأكبر بناته زينب.

لا شك أنها أول من آمن به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءها وأخبرها بما رأى في غار حراء، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبدا. وآمنت به، وذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وقصت عليه الخبر، وقال له: إن هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى. " الناموس " أي: صاحب السر. فآمن به ورقة.

ص: 612

وعاضده على أمره وكان لها منه المنزلة العالية

والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»

ــ

ولهذا نقول: أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الرجال ورقة بن نوفل.

أي: ساعده، ومن تدبر السيرة، وجد لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها من معاضدة النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يحصل لغيرها من نسائه.

قوله: " وكان لها منه المنزلة العالية ": حتى إنه كان يذكرها بعد موتها صلوات الله وسلامه عليه، ويرسل بالشيء إلى صديقاتها، ويقول:«إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد» ، فكان يثني عليها، وهذا يدل على معظم منزلتها عند الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما كونها صديقة، فلكمال تصديقها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكمال صدقها في معاملته، وصبرها على ما حصل من الأذى في قصة الإفك، ويدلك على صدقها وصدق إيمانها بالله أنه لما نزلت براءتها، قال: إني لا أحمد غير الله. وهذا يدل على كمال إيمانها وصدقها.

وأما كونها بنت الصديق، فكذلك أيضا، فإن أباها رضي الله عنه هو الصديق في هذه الأمة، بل صديق الأمم كلها، لأن هذه الأمة أفضل الأمم، فإذا كان صديق هذه الأمة، فهو صديق غيرها من الأمم.

قوله: " على النساء ": ظاهره العموم، أي: على جميع النساء.

وقيل: إن المراد: فضل عائشة على النساء، أي من أزواجه اللاتي على قيد الحياة، فلا تدخل في ذلك خديجة.

ص: 613

لكن ظاهر الحديث العموم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» ، وقد أخرجه الشيخان بدون ذكر خديجة. وهذا يدل على أنها أفضل النساء مطلقا.

ولكن ليست أفضل من فاطمة باعتبار النسب، لأن فاطمة بلا شك أشرف من عائشة نسبا.

وأما منزلة، فإن عائشة رضي الله عنها لها من الفضائل العظيمة ما لم يدركه أحد غيرها من النساء.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هاتين الزوجين رضي الله عنهما في منزلة واحدة، لأنه قال: " خصوصا خديجة

والصديقة "، ولم يقل: ثم الصديقة.

والعلماء اختلفوا في هذه المسألة:

فقال بعض العلماء: خديجة أفضل، لأن لها مزايا لم تلحقها عائشة فيها.

وقال بعض العلماء: بل عائشة أفضل، لهذا الحديث، ولأن لها مزايا لم تلحقها خديجة فيها.

وفصل بعض أهل العلم، فقال: إن لكل منهما مزية لم تلحقها

ص: 614

ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم

ــ

الأخرى فيها، ففي أول الرسالة لا شك أن المزايا التي حصلت عليها خديجة لم تلحقها فيها عائشة، ولا يمكن أن تساويها، وبعد ذلك، وبعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم حصل من عائشة من نشر العلم ونشر السنة وهداية الأمة ما لم يحصل لخديجة، فلا يصح أن تفضل إحداهما على الأخرى تفضيلا مطلقا، بل نقول: هذه أفضل من وجه، وهذه أفضل من وجه، ونكون قد سلكنا مسلك العدل، فلم نهدر ما لهذه من المزية، ولا ما لهذه من المزية، وعند التفصيل يحصل التحصيل. وهما وبقية أزواج الرسول في الجنة معا.

الروافض: طائفة غلاة في علي بن أبي طالب وآل البيت، وهم من أضل أهل البدع، وأشدهم كرها للصحابة رضي الله عنهم، ومن أراد معرفة ما هم عليه من الضلال، فليقرأ في كتبهم وفي كتب من رد عليهم.

وسموا روافض لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عندما سألوه عن أبي بكر وعمر، فأثنى عليهما وقال: هما وزيرا جدي.

أما النواصب، فهم الذين ينصبون العداء لآل البيت، ويقدحون فيهم، ويسبونهم، فهم على النقيض من الروافض.

فالروافض اعتدوا على الصحابة بالقلوب والألسن.

- ففي القلوب يبغضون الصحابة ويكرهونهم، إلا من جعلوهم وسيلة لنيل مآربهم وغلوا فيهم، وهم آل البيت.

- وفي الألسن يسبونهم فيلعنونهم ويقولون: إنهم ظلمة ويقولون: إنهم ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا قليلا، إلى غير ذلك من الأشياء المعروفة في كتبهم.

ص: 615

ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل

ــ

وفي الحقيقة إن سب الصحابة رضي الله عنهم ليس جرحا في الصحابة رضي الله عنهم فقط بل هو قدح في الصحابة وفي النبي صلى الله عليه وسلم وفي شريعة الله وفي ذات الله عز وجل:

- أما كونه قدحا في الصحابة، فواضح.

- وأما كونه قدحا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحيث كان أصحابه وأمناؤه وخلفاؤه على أمته من شرار الخلق، وفيه قدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه آخر، وهو تكذيبه فيما أخبر به من فضائلهم ومناقبهم.

- وأما كونه قدحا في شريعة الله، فلأن الواسطة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في نقل الشريعة هم الصحابة، فإذا سقطت عدالتهم، لم يبق ثقة فيما نقلوه من الشريعة.

- وأما كونه قدحا في الله سبحانه، فحيث بعث نبيه صلى الله عليه وسلم في شرار الخلق، واختارهم لصحبته وحمل شريعته ونقلها لأمته.

- فانظر ماذا يترتب من الطوام الكبرى على سب الصحابة رضي الله عنهم.

- ونحن نتبرأ من طريقة هؤلاء الروافض الذين يسبون الصحابة ويبغضونهم، ونعتقد أن محبتهم فرض، وأن الكف عن مساوئهم فرض، وقلوبنا ولله الحمد مملوءة من محبتهم، لما كانوا عليه من الإيمان والتقوى ونشر العلم ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم.

يعني: يتبرأ أهل السنة والجماعة من طريقة النواصب.

وهؤلاء على عكس الروافض، الذين يغلون في آل البيت حتى يخرجوهم عن طور البشرية إلى طور العصمة والولاية.

ص: 616

ويمسكون عما شجر بين الصحابة

ــ

أما النواصب، فقابلوا البدعة، فلما رأوا الرافضة يغلون في آل البيت، قالوا: إذا، نبغض آل البيت ونسبهم، مقابلة لهؤلاء في الغلو في محبتهم والثناء عليهم، ودائما يكون الوسط هو خير الأمور، ومقابلة البدعة ببدعة لا تزيد البدعة إلا قوة.

يعني: عما وقع بينهم من النزاع.

فالصحابة رضي الله عنهم وقعت بينهم بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه نزاعات، واشتد الأمر بعد مقتل عثمان، فوقع بينهم ما وقع، مما أدى إلى القتال.

وهذه القضايا مشهورة، وقد وقعت بلا شك عن تأويل واجتهاد كل منهم يظن أنه على حق، ولا يمكن أن نقول: إن عائشة والزبير بن العوام قاتلا عليا رضي الله عنهم أجمعين وهم يعتقدون أنهم على باطل، وأن عليا على حق.

واعتقادهم أنهم على حق لا يستلزم أن يكونوا قد أصابوا الحق.

ولكن إذا كانوا مخطئين، ونحن نعلم أنهم لن يقدموا على هذا الأمر إلا عن اجتهاد، فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه:«إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر» ، فنقول: هم مخطئون مجتهدون، فلهم أجر واحد.

فهذا الذي حصل موقفنا نحن منه له جهتان: الجهة الأولى: الحكم على الفاعل. والجهة الثانية: موقفنا من الفاعل.

ص: 617

ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم؛ منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجه الصريح، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون

ــ

- أما الحكم على الفاعل، فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جرى بينهم، فهو صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ، فصاحبه معذور مغفور له.

- وأما موقفنا من الفاعل، فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم لماذا نتخذ من فعل هؤلاء مجالا للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا، ونحن في فعلنا هذا إما آثمون وإما سالمون ولسنا غانمين أبدا.

فالواجب علينا تجاه هذه الأمور أن نسكت عما جرى بين الصحابة وأن لا نطالع الأخبار أو التأريخ في هذه الأمور، إلا المراجعة للضرورة.

قسم المؤلف الآثار المروية في مساويهم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما هو كذب محض لم يقع منهم، وهذا يوجد كثيرا فيما يرويه النواصب في آل البيت وما يرويه الروافض في غير آل البيت.

القسم الثاني: شيء له أصل، ولكن زيد فيه ونقص وغير عن وجهه.

وهذان القسمان كلاهما يجب رده.

القسم الثالث: ما هو صحيح، فماذا نقول فيه؟ بينه المؤلف بقوله:

" والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون ".

والمجتهد إن أصاب، فله أجران، وإن أخطأ، فله أجر واحد، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم»

ص: 618

وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره

ــ

«أصاب، فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر» .

فما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما صادر عن اجتهاد وتأويل.

لكن لا شك أن عليا أقرب إلى الصواب فيه من معاوية، بل قد نكاد نجزم بصوابه، إلا أن معاوية كان مجتهدا.

ويدل على أن عليا أقرب إلى الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ويح عمارا تقتله الفئة الباغية» ، فكان الذي قتله أصحاب معاوية، وبهذا عرفنا أنها فئة باغية خارجة على الإمام، لكنهم متأولون، والصواب مع علي إما قطعا وإما ظنا.

وهناك قسم رابع: وهو ما وقع منهم من سيئات حصلت لا عن اجتهاد ولا عن تأويل: فبينه المؤلف بقوله:

" وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره.

لا يعتقدون ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم:«كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» . (1)

(1) رواه الإمام أحمد في " المسند "(3/198) ، والترمذي (2499) .

ص: 619

بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر

ــ

ولكن العصمة في إجماعهم؛ فلا يمكن أن يجمعوا على شيء من كبائر الذنوب وصغائرها فيستحلوها أو يفعلوا.

لكن الواحد منهم قد يفعل شيئا من الكبائر، كما حصل من مسطح بن أثاثه وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش في قصة الإفك (1) ، ولكن هذا الذي حصل تطهروا منه بإقامة الحد عليهم.

يعني: كغيرهم من البشر، لكن يمتازون عن غيرهم بما قال المؤلف رحمه الله:" ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر ".

هذا من الأسباب التي يمحو الله بها عنهم ما فعلوه من الصغائر أو الكبائر، وهو ما لهم من السوابق والفضائل التي لم يلحقهم فيها أحد، فهم نصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله، فهذه توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب، إذا لم يصل إلى الكفر.

ومن ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى قريش يخبرهم عن مسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، حتى أطلع الله نبيه على ذلك، فلم يصلهم الخبر، فاستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنق حاطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنه شهد بدرا، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما»

(1) حديث الإفك، رواه البخاري/ كتاب التفسير، ومسلم/ كتاب التوبة/ باب في حديث الإفك.

ص: 620

حتى أنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به، كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم، ثم إن كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته

ــ

«شئتم، فقد غفرت لكم» .

وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني» ، وفي قوله:«لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» .

يعني: وإذا تاب منه، ارتفع عنه وباله ومعرته، لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70] ، ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا يؤثر عليه.

لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] .

لقوله تعالى في الحديث القدسي في أهل بدر: «اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» .

ص: 621

أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا، فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور. ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم

ــ

وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أمته، والصحابة رضي الله عنهم أحق الناس في ذلك.

فإن البلاء في الدنيا يكفر الله به السيئات، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:«ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» صلى الله عليه وسلم، والأحاديث في هذا مشهورة كثيرة.

سبق دليله، فتكون هذه من باب أولى ألا تكون سببا للقدح فيهم والعيب.

فهذه الأسباب التي ذكرها المؤلف ترفع القدح في الصحابة، وهي قسمان:

الأول: خاص بهم، وهو ما لهم من السوابق والفضائل.

والثاني: عام، وهي التوبة، والحسنات الماحية، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والبلاء.

القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل جدا نزر أقل القليل، ولهذا

ص: 622

من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل، علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء

ــ

قال: " مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم ".

ولا شك أنه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزنى بإحصان وزنى بغير إحصان، لكن كل هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، وبعضها أقيم فيه الحدود، فيكون كفارة.

فكل هذه مناقب وفضائل معلومة مشهورة، تغمر كل ما جاء من مساوئ القوم المحققة، فكيف بالمساوئ غير المحققة أو التي كانوا فيها مجتهدين متأولين.

هذا بالإضافة إلى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قوله: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وعلى هذا تثبت خيريتهم على غيرهم من أتباع الأنبياء بالنص والنظر في أحوالهم.

فإذا نظرت بعلم وبصيرة وإنصاف في محاسن القوم وما أعطاهم الله من الفضائل، علمت يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، فهم خير من الحواريين أصحاب عيسى، خير من النقباء أصحاب موسى، وخير من الذين آمنوا من نوح ومع هود وغيرهم، لا يوجد أحد في أتباع الأنبياء أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، والأمر في هذا ظاهر معلوم، لقوله تعالى:

ص: 623

لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى

ــ

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، وخيرنا الصحابة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خير الخلق، فأصحابه خير الأصحاب بلا شك.

هذا عند أهل السنة والجماعة، أما عند الرافضة، فهم شر الخلق، إلا من استثنوا منهم.

أي: ما وجد ولا يوجد مثلهم، لقوله عليه الصلاة والسلام:«خير الناس قرني» فلا يوجد على الإطلاق مثلهم رضي الله عنهم لا سابقا ولا لاحقا.

أما كون هذه الأمة خير الأمم، فلقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [ال عمران: 110] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خير الرسل، فلا جرم أن تكون أمته خير الأمم.

- وأما كون الصحابة صفوة قرون الأمة، فلقوله صلى الله عليه وسلم:«خير الناس قرني» ، وفي لفظ:«خير أمتي قرني» ، والمراد بقرنه: الصحابة، وبالذين يلونهم: التابعون، وبالذين يلونهم: تابعو التابعين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والاعتبار بالقرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء

ص: 624

الأربعة، حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك وجمهور تابعي التابعين في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية " اهـ.

وكان آخر الصحابة موتا أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي سنة مئة من الهجرة، وقيل: مئة وعشر.

قال الحافظ ابن حجر في " الفتح "(1) : " واتفقوا على أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومئتين ".

(1) فتح الباري: (6/7) .

ص: 625