المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إعراب البسملة ومعناها - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ٨

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌شرح العقيدة الواسطية

- ‌مقدمة الشارح

- ‌مقدمة

- ‌إعراب البسملة ومعناها

- ‌اعتقاد الفرقة الناجية

- ‌الإيمان بالقدر

- ‌فصل: في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في أحاديث الصفات

- ‌فصل:مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمةواتصافهم بالوسطية

- ‌فصلفي المعية وبيان الجمع بينهاوبين علو الله واستوائه على عرشه

- ‌فصلفي قرب الله تعالى وإجابته وأن ذلكلا ينافي علوه وفوقيته

- ‌فصل:في الإيمان بأن القرآنكلام الله حقيقة

- ‌فصل:في الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامةومواضع الرؤية

- ‌فصل:في الإيمان باليوم الآخر

- ‌فصلفي القيامة الكبرى

- ‌فصلفي الإيمان بالقدر

- ‌الدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون

- ‌فصلفي درجات الإيمان بالقدر

- ‌فصلفي الإيمان

- ‌فصلفي موقف أهل السنة والجماعةمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي كرامة الأولياء

- ‌فصلفي طريقة أهل السنة العملية

- ‌فصلفي منهج أهل السنة والجماعةفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الخصال

الفصل: ‌إعراب البسملة ومعناها

بسم الله

ــ

* البداءة بالبسملة هي شأن جميع المؤلفين؛ اقتداء بكتاب الله؛ حيث أنزل البسملة في ابتداء كل سورة واستنادًا إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

و‌

‌إعراب البسملة ومعناها

تكلم فيه الناس كثيرًا، وفي متعلقها، وأحسن ما يقال في ذلك: أنها متعلقة بفعل محذوف متأخر مناسب للمقام؛ فإذا قدمتها بين يدي الأكل، فيكون التقدير: بسم الله آكل، وبين يدي القراءة يكون التقدير: بسم الله أقرأ.

نقدره فعلًا؛ لأن الأصل في العمل الأفعال لا الأسماء، ولهذا كانت الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء لا تعمل إلا بشرط؛ لأن العمل أصل في الأفعال، فرع في الأسماء.

ونقدره متأخرًا لفائدتين:

الأولى: الحصر؛ لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، فيكون: باسم الله أقرأ، بمنزلة: لا أقرأ إلا باسم الله.

الثانية: تيمنًا بالبداءة باسم الله سبحانه وتعالى.

ونقدره خاصًّا؛ لأن الخاص أدل على المقصود من العام، إذ من الممكن أن أقول: التقدير: باسم الله أبتدئ لكن (باسم الله أبتدئ) لا تدل على تعيين المقصود، لكن (باسم الله أقرأ) خاص، والخاص أدل على المعنى من العام.

* " الله " علم على نفس الله عز وجل، ولا يسمى به غيره ومعناه: المألوه، أي: المعبود محبة وتعظيمًا وهو مشتق على القول الراجح لقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3] ، فإن {فِي السَّمَاوَاتِ} متعلق بلفظ الجلالة، يعني: وهو

ص: 27

الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أرسل رسوله

ــ

المألوه في السماوات وفي الأرض.

" الرحمن "، فهو ذو الرحمة الواسعة؛ لأن (فعلان) في اللغة العربية تدل على السعة والامتلاء، كما يقال: رجل غضبان: إذا امتلأ غضبًا.

" الرحيم " اسم يدل على الفعل؛ لأنه فعيل بمعنى فاعل فهو دال على الفعل.

فيجتمع من "الرحمن الرحيم": أن رحمة الله واسعة وأنها واصلة إلى الخلق. وهذا هو ما أوما إليه بعضهم بقوله: الرحمن رحمة عامة والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، ولما كانت رحمة الله للكافر رحمة خاصة في الدنيا فقط فكأنها لا رحمة لهم؛ لأنهم في الآخرة يقول تعالى لهم إذا سألوا الله أن يخرجهم من النار وتوسلوا إلى الله تعالى بربوبيته واعترافهم على أنفسهم:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] ؛ فلا تدركهم الرحمة، بل يدركهم العدل، فيقول الله عز وجل لهم:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] .

الله تعالى يحمد على كماله عز وجل وعلى إنعامه، فنحن نحمد الله عز وجل لأنه كامل الصفات من كل وجه، ونحمده أيضًا لأنه كامل الأنعام والإحسان:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] ، وأكبر نعمة أنعم الله بها على الخلق إرسال الرسل الذي به هداية الخلق، ولهذا يقول المؤلف "الحمد لله الذي أرسل رسول رسوله بالهدى ودين الحق".

والمراد بالرسول هنا الجنس، فإن جميع الرسل أرسلوا بالهدى ودين الحق، ولكن الذي أكمل الله به الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ختم الله به

ص: 28

بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

ــ

الأنبياء، وتم به البناء، كما وصف محمد صلى الله عليه وسلم نفسه بالنسبة للرسل، كرجل بنى قصرًا وأتمه، إلا موضع لبنة، فكان الناس يأتون إلى هذا القصر ويتعجبون منه؛ إلا موضع هذه اللبنة، يقول:«فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» (1) ، عليه الصلاة والسلام.

" بالهدى ": الباء هنا للمصاحبة والهدى هو العلم النافع ويحتمل أن تكون الباء للتعدية، أي: إن المرسل به هو الهدى ودين الحق. "ودين الحق" هو العمل الصالح؛ لأن الدين هو العمل أو الجزاء على العمل، فمن إطلاقه على العمل: قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، ومن إطلاقه على الجزاء قوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17] . والحق ضد الباطل، وهو -أي الحق- المتضمن لجلب المصالح ودرء المفاسد في الأحكام والأخبار.

" ليظهره على الدين كله ": اللام للتعليل ومعنى " ليظهره "، أي: يعليه؛ لأن الظهور بمعنى العلو، ومنه: ظهر الدابة أعلاها ومنه: ظهر الأرض سطحها، كما قال تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] .

والهاء في "يظهره" هل هو عائد على الرسول أو على الدين؟ إن كان عائدًا على " دين الحق "؛ فكل من قاتل لدين الحق سيكون هو العالي. لأن الله يقول: " ليظهره "، يظهر هذا الدين على الدين كله، وعلى ما لا دين له فيظهره عليهم من باب أولى؛ لأن من لا يدين أخبث ممن يدين بباطل؛ فإذًا: كل الأديان التي يزعم أهلها أنهم على حق سيكون دين الإسلام عليها

(1) رواه البخاري/ كتاب المناقب/ باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، ومسلم/ كتاب الفضائل/ باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين

ص: 29

وكفى بالله شهيدًا

ــ

ظاهرًا، ومن سواهم من باب أولى.

وإن كان عائدًا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنما يظهر الله رسوله لأن معه دين الحق.

وعلى كلا التقديرين؛ فإن من تمسك بهذا الدين الحق، فهو الظاهر العالي، ومن ابتغى العزة في غيره، فقد ابتغى الذل؛ لأنه لا ظهور ولا عزة ولا كرامة إلا بالدين الحق، ولهذا أنا أدعوكم معشر الإخوة إلى التمسك بدين الله ظاهرًا وباطنًا في العبادة والسلوك والأخلاق، وفي الدعوة إليه، حتى تقوم الملة وتستقيم الأمة.

قوله " وكفى بالله شهيدًا " يقول أهل اللغة: إن الباء هنا زائدة، لتحسين اللفظ والمبالغة في الكفاية، وأصلها:" وكفى الله ".

و" شهيدًا ": تمييز محول عن الفاعل لأن أصلها " وكفت شهادة الله ". المؤلف جاء بالآية؟ ولو قال قائل: ما مناسبة " كفى بالله شهيدًا "، لقوله:" ليظهره على الدين كله "؟

قيل: المناسبة ظاهرة؛ لأن هذا النبي عليه الصلاة والسلام جاء يدعو الناس ويقول: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار» . (1) ويقول بلسان الحال: من أطاعني سالمته، ومن عصاني حاربته ويحارب الناس بهذا الدين، ويستبيح دماءهم وأموالهم ونساءهم وذريتهم، وهو في ذلك منصور مؤزر غالب غير مغلوب؛ فهذا التمكين له في الأرض، أي تمكين الله لرسوله في الأرض: شهادة من الله عز وجل فعلية بأنه صادق

(1) رواه البخاري، كتاب الاعتصام/ باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 30

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به

ــ

وأن دينه حق؛ لأن كل من افترى على الله كذبًا فمآله الخذلان والزوال والعدم، وانظر إلى الذين ادعوا النبوة ماذا كان مآلهم؟ أن نسوا وأهلكوا، كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي.. وغيرهما ممن ادعوا النبوة، كلهم تلاشوا وبان بطلان قولهم وحرموا الصواب والسداد لكن هذا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم على العكس دعوته إلى الآن والحمد لله باقية، ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم عليها، دعوته إلى الآن باقية وإلى أن تقوم الساعة ثابتة راسخة، يستباح بدعوته إلى اليوم دماء من ناوأها من الكفار وأموالهم، وتسبى نساؤهم وذريتهم، هذه الشهادة فعلية، ما أخذه الله ولا فضحه ولا كذبه، ولهذا جاءت بعد قوله:" ليظهره على الدين كله ".

" أشهد "، بمعنى: أقر بقلبي ناطقًا بلساني؛ لأن الشهادة نطق وإخبار عما في القلب، فأنت عند القاضي تشهد بحق فلان على فلان، تشهد باللسان المعبر عما في القلب واختيرت الشهادة دون الإقرار؛ لأن الشهادة أصلها من شهود الشيء؛ أي: حضوره ورؤيته، فكأن هذا المخبر عما في قلبه الناطق بلسانه، كأنه يشاهد الأمر بعينه.

" لا إله إلا الله "، أي: لا معبود حق إلا الله، وعلى هذا يكون خبر لا محذوفًا، ولفظ الجلالة بدلًا منه.

" وحده " هي من حيث المعنى توكيد للإثبات.

" لا شريك له ": توكيد للنفي.

" إقرارًا به ": " إقرارًا " هذه مصدر، وإن شئت؛ فقل: إنه مفعول مطلق؛ لأنه مصدر معنوي لقوله: " أشهد "، وأهل النحو يقولون: إذا

ص: 31

وتوحيدًا

وأشهد أن محمدًا عبده

ــ

كان المصدر بمعنى الفعل دون حروفه؛ فهو مصدر معنوي، أو مفعول مطلق، وإذا كان بمعناه وحروفه، فهو مصدر لفظي فـ: قمت قيامًا: مصدر لفظي، و: قمت وقوفًا: مصدر معنوي، و: جلست جلوسًا: لفظي، و: جلست قعودًا: معنوي.

" وتوحيدًا " مصدر مؤكد لقوله: " لا إله إلا الله ".

نقول في " أشهد " ما قلنا في " أشهد " الأولى.

محمد: هو ابن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم، أشرف الناس نسبًا، عليه الصلاة والسلام.

هذا النبي الكريم عبد الله ورسوله، وهو أعبد الناس لله، وأشدهم تحقيقًا لعبادته، «كان عليه الصلاة والسلام يقوم في الليل حتى تتورم قدماه ويقال له: كيف تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: " أفلا أكون عبدًا شكورًا؟» . (1)

لأن الله تعالى أثنى على العبد الشكور حين قال عن نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] ، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يصل إلى هذه الغاية، وأن يعبد الله تعالى حق عبادته، ولهذا كان أتقى الناس، وأخشى الناس لله، وأشدهم رغبة فيما عند الله تعالى، فهو عبد لله، ومقتضى عبوديته أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًا وليس له حق في الربوبية إطلاقًا بل هو عبد محتاج إلى الله مفتقر له يسأله ويدعوه ويرجوه

(1) البخاري/ كتاب التهجد/ باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم/ كتاب المنافقين/ باب إكثار الأعمال والاجتهاد في الطاعة.

ص: 32

ورسوله

ــ

ويخافه، بل إن الله أمره أن يعلن وأن يبلغ بلاغًا خاصًّا بأنه لا يملك شيئًا من هذه الأمور فقال:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] وأمره أن يقول: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] وأمره أن يقول: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا} [الجن: 21-23] إلا استثناء منقطع؛ أي: لكن أبلغ بلاغًا من الله ورسالاته.

فالحاصل أن محمدًا صلوات الله وسلامه عليه عبد لله ومقتضى هذه العبودية أنه لا حق له في شيء من شؤون الربوبية إطلاقًا.

وإذا كان محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بهذه المثابة، فما بالك بمن دونه من عباد الله؟! فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا لغيرهم أبدًا وبهذا يتبين سفه أولئك القوم الذين يدعون من يدعونهم أولياء من دون الله عز وجل.

قوله: " ورسوله ": هذا أيضًا لا يكون لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خاتم النبيين؛ فهو رسول الله الذي بلغ مكانًا لم يبلغه أحد من البشر، بل ولا من الملائكة فيما نعلم اللهم إلا حملة العرش، وصل إلى ما فوق السماء السابعة، «وصل إلى موضع سمع فيه صريف أقلام القضاء» (1)

الذي يقضي به الله عز وجل في خلقه، ما وصل أحد فيما نعلم إلى هذا المستوى، وكلمه الله عز وجل بدون واسطة، وأرسله إلى الخلق كافة وأيده

(1) لما رواه البخاري/ كتاب الصلاة/ باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء.

ص: 33

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه

ــ

بالآيات العظيمة التي لم تكن لأحد من البشر أو الرسل قبله، وهو هذا القرآن العظيم، فإن هذا القرآن لا نظير له في آيات الأنبياء السابقين أبدًا، ولهذا قال الله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 50-51] ، هذا يكفي عن كل شيء، ولكن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أما المعرض، فسيقول كما قال من سبقه: هذا أساطير الأولين!

الحاصل أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله وخاتم النبيين، ختم الله به النبوة والرسالة أيضًا؛ لأنه إذا انتفت النبوة، وهي أعم من الرسالة، انتفت الرسالة التي هي أخص؛ لأن انتفاء الأعم يستلزم انتفاء الأخص، فرسول الله عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين.

معنى " صلى الله عليه ": أحسن ما قيل فيه ما قاله أبو العالية رحمه الله، قال:" صلاة الله على رسوله: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى ".

وأما من فسر صلاة الله عليه بالرحمة، فقوله ضعيف؛ لأن الرحمة تكون لكل أحد، ولهذا أجمع العلماء على أنك يجوز أن تقول: فلان رحمه الله، واختلفوا، هل يجوز أن تقول: فلان صلى الله عليه؟ وهذا يدل على أن الصلاة غير الرحمة. وأيضا؛ فقد قال الله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] ، والعطف يقتضي المغايرة، إذًا، فالصلاة أخص من الرحمة، فصلاة الله على رسوله ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.

قوله: " وعلى آله "، و (آله) هنا: أتباعه على دينه هذا إذا ذكرت

ص: 34

وسلم تسليمًا مزيدًا

ــ

الآل وحدها أو مع الصحب، فإنها تكون بمعنى أتباعه على دينه منذ بعث إلى يوم القيامة ويدل على أن الآل بمعنى الأتباع على الدين قوله تعالى في آل فرعون:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، أي: أتباعه على دينه.

أما إذا قرنت بالأتباع، فقيل: آله وأتباعه، فالآل هم المؤمنون من آل البيت، أي: بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يذكر الأتباع هنا، قال:" آله وصحبه "، فنقول: آله هم أتباعه على دينه، وصحبه كل من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك.

وعطف الصحب هنا على الآل من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الصحبة أخص من مطلق الاتباع.

قوله: " وسلم تسليمًا مزيدًا ": (سلم) فيها السلامة من الآفات، وفي الصلاة حصول الخيرات، فجمع المؤلف في هذه الصيغة بين سؤال الله تعالى أن يحقق لنبيه الخيرات -وأخصها: الثناء عليه في الملأ الأعلى- وأن يزيد عنه الآفات، وكذلك من اتبعه.

والجملة في قوله: " صلى " و" سلم " خبرية لفظًا طلبية معنى؛ لأن المراد بها الدعاء.

قوله: " مزيدًا "؛ بمعنى: زائدًا أو زيادة، والمراد تسليمًا زائدًا على الصلاة، فيكون دعاء آخر بالسلام بعد الصلاة.

والرسول عند أهل العلم: " من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ".

ص: 35

أما بعد

فهذا

ــ

وقد نبئ صلى الله عليه وسلم بـ اقرأ وأرسل بالمدثر، فبقوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . إلى قوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] كان نبيا، وبقوله:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1،2] كان رسولًا عليه الصلاة والسلام.

" أما بعد ": (أما) هذه نائبة عن اسم شرط وفعله، التقدير: مهما يكن من شيء؛ قال ابن مالك:

أما كمهايك من شيء وفا

لتلو تلوها وجوبًا ألفها

فقولهم: أما بعد: التقدير: مهما يكن من شيء بعد هذا، فهذا.

وعليه، فالفاء هنا رابطة للجواب والجملة بعدها في محل جزم جواب الشرط، ويحتمل عندي أن تكون:" أما بعد، فهذا "؛ أي أن (أما) حرف شرط وتفصيل أو حرف شرط فقط مجرد عن التفصيل، والتقدير: أما بعد ذكر هذا؛ فأنا أذكر كذا وكذا. ولا حاجة أن نقدر فعل شرط، ونقول: إن (أما) حرف ناب مناب الجملة.

" فهذا ": الإشارة لا بد أن تكون إلى شيء موجود، أنا عندما أقول: هذا؛ فأنا أشير إلى شيء محسوس ظاهر، وهنا المؤلف كتب الخطبة قبل الكتاب وقبل أن يبرز الكتاب لعالم الشاهد، فكيف ذلك؟!

أقول: إن العلماء يقولون: إن كان المؤلف كتب الكتاب ثم كتب المقدمة والخطبة، فالمشار إليه موجود ومحسوس، ولا فيه إشكال، وإن لم يكن كتبه، فإن المؤلف يشير إلى ما قام في ذهنه عن المعاني التي سيكتبها في هذا الكتاب، وعندي فيه وجه ثالث، وهو أن المؤلف قال هذا باعتبار حال المخاطب، والمخاطب لم يخاطب بذلك إلا بعد أن برز الكتاب وصدر؛

ص: 36