المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌اعتقاد الفرقة الناجية - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ٨

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌شرح العقيدة الواسطية

- ‌مقدمة الشارح

- ‌مقدمة

- ‌إعراب البسملة ومعناها

- ‌اعتقاد الفرقة الناجية

- ‌الإيمان بالقدر

- ‌فصل: في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في أحاديث الصفات

- ‌فصل:مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمةواتصافهم بالوسطية

- ‌فصلفي المعية وبيان الجمع بينهاوبين علو الله واستوائه على عرشه

- ‌فصلفي قرب الله تعالى وإجابته وأن ذلكلا ينافي علوه وفوقيته

- ‌فصل:في الإيمان بأن القرآنكلام الله حقيقة

- ‌فصل:في الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامةومواضع الرؤية

- ‌فصل:في الإيمان باليوم الآخر

- ‌فصلفي القيامة الكبرى

- ‌فصلفي الإيمان بالقدر

- ‌الدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون

- ‌فصلفي درجات الإيمان بالقدر

- ‌فصلفي الإيمان

- ‌فصلفي موقف أهل السنة والجماعةمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي كرامة الأولياء

- ‌فصلفي طريقة أهل السنة العملية

- ‌فصلفي منهج أهل السنة والجماعةفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الخصال

الفصل: ‌اعتقاد الفرقة الناجية

‌اعتقاد الفرقة الناجية

ــ

فكأنه يقول: " فهذا الذي بين يديك كذا وكذا ".

هذه إذًا ثلاثة أوجه.

" اعتقاد ": افتعال من العقد وهو الربط والشد هذا من حيث التصريف اللغوي، وأما في الاصطلاح عندهم، فهو حكم الذهن الجازم، يقال: اعتقدت كذا، يعنى: جزمت به في قلبي، فهو حكم الذهن الجازم، فإن طابق الواقع، فصحيح، وإن خالف الواقع، ففاسد، فاعتقادنا أن الله إله واحد صحيح، واعتقاد النصارى أن الله ثالث ثلاثة باطل؛ لأنه مخالف للواقع ووجه ارتباطه بالمعنى اللغوي ظاهر؛ لأن هذا الذي حكم في قلبه على شيء ما كأنه عقده عليه وشده عليه بحيث لا يتفلت منه.

" الفرقة " بكسر الفاء، بمعنى: الطائفة، قال الله تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] ، وأما الفرقة بالضم، فهي مأخوذة من الافتراق.

" الناجية ": اسم فاعل من نجا، إذا سلم، ناجية في الدنيا من البدع سالمة منها وناجية في الآخرة من النار.

ووجه ذلك «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة " قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: " من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» (1)

(1) رواه الترمذي/ كتاب الإيمان/ باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. واللالكائي في "شرح السنة"(147) ، والحاكم (1/129) .

ص: 37

المنصورة إلى قيام الساعة

ــ

هذا الحديث يبين لنا معنى (الناجية) ؛ فمن كان على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ فهو ناج من البدع. و «كلها في النار إلا واحدة» : إذًا هي ناجية من النار؛ فالنجاة هنا من البدع في الدنيا، ومن النار في الآخرة.

" المنصورة " عبر المؤلف بذلك موافقة للحديث، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» (1)، والظهور الانتصار؛ لقوله تعالى:{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] ، والذي ينصرها هو الله وملائكته والمؤمنون، فهي منصورة إلى قيام الساعة، منصورة من الرب عز وجل، ومن الملائكة، ومن عباده المؤمنين، حتى قد ينصر الإنسان من الجن، ينصره الجن ويرهبون عدوه.

" إلى قيام الساعة "؛ أي: إلى يوم القيامة؛ فهي منصورة إلى قيام الساعة.

وهنا يرد إشكال، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بأن «الساعة تقوم على شرار الخلق» (2)، وأنه لا تقوم حتى لا يقال: الله الله (3)، فكيف نجمع بين هذا وبين قوله:" إلى قيام الساعة "؟ !

والجواب: أن يقال: إن المراد: إلى قرب قيام الساعة؛ لقوله في

(1) أخرجه البخاري/ كتاب المناقب/ باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية، ومسلم/ كتاب الإمارة/ باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة....".

(2)

رواه مسلم/ كتاب الفتن، باب قرب الساعة.

(3)

رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب ذهاب الإيمان في آخر الزمان.

ص: 38

أهل السنة والجماعة

ــ

الحديث: «حتى يأتي أمر الله» ، أو: إلى قيام الساعة؛ أي: ساعتهم، وهو موتهم؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، لكن الأول أقرب، فهم منصورون إلى قرب قيام الساعة، وإنما لجأنا إلى هذا التأويل لدليل، والتأويل بدليل جائز؛ لأن الكل من عند الله.

" أهل السنة والجماعة ": أضافهم إلى السنة؛ لأنهم متمسكون بها، والجماعة؛ لأنهم مجتمعون عليها.

فإن قلت: كيف يقول: " أهل السنة والجماعة "؛ لأنهم جماعة، فكيف يضاف الشيء إلى نفسه؟ !

فالجواب: أن الأصل أن كلمة الجماعة بمعنى الاجتماع، فهي اسم مصدر، هذا في الأصل، ثم نقلت من هذا الأصل إلى القوم المجتمعين، وعليه؛ فيكون معنى أهل السنة والجماعة؛ أي: أهل السنة والاجتماع، سموا أهل السنة؛ لأنهم متمسكون بها؛ لأنهم مجتمعون عليها.

ولهذا لم تفترق هذه الفرقة كما افترق أهل البدع، نجد أهل البدع، كالجهمية متفرقين، والمعتزلة متفرقين، والروافض متفرقين، وغيرهم من أهل التعطيل متفرقين، لكن هذه الفرقة مجتمعة على الحق، وإن كان قد يحصل بينهم خلاف، لكنه خلاف لا يضر، وهو خلاف لا يضلل أحدهم الآخر به؛ أي: أن صدورهم تتسع له، وإلا، فقد اختلفوا في أشياء مما يتعلق بالعقيدة، مثل: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه أم لم يره؟ ومثله: هل عذاب القبر على البدن والروح أو الروح فقط؟ ومثل بعض الأمور يختلفون فيها، لكنها مسائل تعد فرعية بالنسبة للأصول، وليست من الأصول. ثم

ص: 39

وهو الإيمان بالله

ــ

هم مع ذلك إذا اختلفوا، لا يضلل بعضهم بعضًا، بخلاف أهل البدع.

إذًا فهم مجتمعون على السنة، فهم أهل السنة والجماعة.

وعلم من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يدخل فيهم من خالفهم في طريقتهم، فالأشاعرة مثلًا والماتريدية لا يعدون من أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ لأنهم مخالفون لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في إجراء صفات الله سبحانه وتعالى على حقيقتها، ولهذا يخطئ من يقول: إن أهل السنة والجماعة ثلاثة: سلفيون، وأشعريون، وماتريديون، فهذا خطأ، نقول: كيف يكون الجميع أهل سنة وهم مختلفون؟ ! فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ! وكيف يكونون أهل سنة وكل واحد يرد على الآخر؟ ! هذا لا يمكن، إلا إذا أمكن الجمع بين الضدين، فنعم، وإلا، فلا شك أن أحدهم وحده هو صاحب السنة، فمن هو؟ الأشعرية، أم الماتريدية، أم السلفية؟ نقول: من وافق السنة؛ فهو صاحب السنة ومن خالف السنة، فليس صاحب سنة، فنحن نقول: السلف هم أهل السنة والجماعة، ولا يصدق الوصف على غيرهم أبدًا والكلمات تعتبر معانيها لننظر كيف نسمي من خالف السنة أهل سنة؟ ! لا يمكن! وكيف يمكن أن نقول عن ثلاث طوائف مختلفة: إنهم مجتمعون؟ ! فأين الاجتماع؟ ! فأهل السنة والجماعة هم السلف معتقدًا، حتى المتأخر إلى يوم القيامة إذا كان على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنه سلفي.

هذه العقيدة أصَّلها لنا النبي صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ متى الساعة؟ فالإيمان قال

ص: 40

له: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره» . (1)

" الإيمان بالله ": الإيمان في اللغة: يقول كثير من الناس: إنه التصديق؛ فصدقت وآمنت معناهما لغة واحد، وقد سبق لنا في التفسير أن هذا القول لا يصح بل الإيمان في اللغة: الإقرار بالشيء عن تصديق به؛ بدليل أنك تقول: آمنت بكذا وأقررت بكذا وصدقت فلانًا ولا تقول: آمنت فلانًا.

إذًا فالإيمان يتضمن معنى زائدًا على مجرد التصديق، وهو الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول للأخبار والإذعان للأحكام، هذا الإيمان، أما مجرد أن تؤمن بأن الله موجود، فهذا ليس بإيمان، حتى يكون هذا الإيمان مستلزمًا للقبول في الأخبار والإذعان في الأحكام، وإلا، فليس إيمانًا.

والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:

الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى.

الإيمان بربوبيته؛ أي: الانفراد بالربوبية.

الإيمان بانفراده بالألوهية.

الإيمان بأسمائه وصفاته. لا يمكن أن يتحقق الإيمان إلا بذلك.

فمن لم يؤمن بوجود الله، فليس بمؤمن، ومن آمن بوجود الله لا بانفراده بالربوبية؛ فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية لا بالألوهية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية والألوهية لكن لم يؤمن بأسمائه وصفاته؛ فليس بمؤمن، وإن كان الأخير فيه من يسلب عنه الإيمان بالكلية وفيه من يسلب عنه كمال الإيمان.

(1) رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب بيان أركان الإيمان والإسلام.

ص: 41

الإيمان بوجوده:

إذا قال قائل: ما الدليل على وجود الله عز وجل؟

قلنا: الدليل على وجود الله: العقل، والحس، والشرع؛ ثلاثة كلها تدل على وجود الله، وإن شئت؛ فزد: الفطرة، فتكون الدلائل على وجود الله أربعة: العقل، والحس، والفطرة، والشرع. وأخرنا الشرع، لا لأنه لا يستحق التقديم، لكن لأننا نخاطب من لا يؤمن بالشرع.

فأما دلالة العقل، فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟

فإن قلت: وجدت بنفسها؛ فمستحيل عقلًا ما دامت هي معدومة؟ كيف تكون موجودة وهي معدومة؟ ! المعدوم ليس بشيء حتى يوجد، إذًا لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها وإن قلت: وجدت صدفة، فنقول: هذا يستحيل أيضا؛ فأنت أيها الجاحد؛ هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها؛ هل وجد هذا صدفة؟ ! فيقول: لا يمكن أن يكون. فكذلك هذه الأطيار والجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والجمر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة أبدًا.

ويقال: إن طائفة من السُّمنية جاؤوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، وهم من أهل الهند، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين، فجاؤوا، قالوا: ماذا قلت؟ قال: أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون.

قالوا: تفكر بهذا؟ ! قال: نعم. قالوا: إذًا ليس لك عقل! هل يعقل

ص: 42

أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟ ! هذا ليس معقولًا! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه هذا أو معناه.

وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟

ولهذا قال الله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] .

فحينئذ يكون العقل دالًّا دلالة قطعية على وجود الله.

- وأما دلالة الحس على وجود الله؛ فإن الإنسان يدعو الله عز وجل، يقول: يا رب! ويدعو بالشيء، ثم يستجاب له فيه، وهذه دلالة حِسِّية، هو نفسه لم يدع إلا الله، واستجاب الله له، رأى ذلك رأي العين. وكذلك نحن نسمع عمَّن سبق وعمَّن في عصرنا، أن الله استجاب الله.

فالأعرابي الذي دخل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة قال: هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا «قال أنس: والله؛ ما في السماء من سحاب ولا قزعة (أي: قطعة سحاب) وما بيننا وبين سلع (جبل في المدينة تأتي من جهته السحب) من بيت ولا دار. . وبعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم فورًا خرجت سحابًا مثل الترس، وارتفعت في السماء وانتشرت ورعدت، وبرقت، ونزل المطر، فما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام» (1)

(1) رواه البخاري/ كتاب الاستسقاء/ باب الاستسقاء في خطبة الجمعة، ومسلم/ كتاب صلاة الاستسقاء/ باب الدعاء في الاستسقاء.

ص: 43

وهذا أمر واقع يدل على وجود الخالق دلالة حسية.

وفي القرآن كثير من هذا، مثل:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 83-84] وغير ذلك من الآيات.

- وأما دلالة الفطرة، فإن كثيرًا من الناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله، حتى البهائم العجم تؤمن بوجود الله، وقصة النملة التي رويت عن سليمان عليه الصلاة والسلام، خرج يستسقي، فوجد نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا سقياك.

فقال: ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم.

فالفطر مجبولة على معرفة الله عز وجل وتوحيده.

وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 172: 173]، فهذه الآية تدل على أن الإنسان مجبول بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته وسواء أقلنا: إن الله استخرجهم من ظهر آدم واستشهدهم، أو قلنا: إن هذا هو ما ركب الله تعالى في فطرهم من الإقرار به، فإن الآية تدل على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته.

ص: 44

وملائكته

ــ

هذه أدلة أربعة تدل على وجود الله سبحانه وتعالى.

- وأما دلالة الشرع؛ فلأن ما جاءت به الرسل من شرائع الله تعالى المتضمنة لجميع ما يصلح الخلق يدل على أن الذي أرسل بها رب رحيم حكيم، ولا سيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز البشر والجن أن يأتوا بمثله.

الملائكة جمع: ملأك، وأصل ملأك: مألك؛ لأنه من الألوكة، والألوكة في اللغة الرسالة، قال الله تعالى:{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى} [فاطر: 1] .

فالملائكة عالم غيبي، خلقهم الله عز وجل من نور، وجعلهم طائعين له متذللين له، ولكل منهم وظائف خصه الله بها، ونعلم من وظائفهم:

أولًا:

جبريل: موكل بالوحي، ينزل به من الله تعالى إلى الرسل.

ثانيًا: إسرافيل: موكل بنفخ الصور، وهو أيضًا أحد حملة العرش.

ثالثًا: ميكائيل: موكل بالقطر والنبات.

وهؤلاء الثلاثة كلهم موكلون بما فيه حياة، فجبريل موكل بالوحي وفيه حياة القلوب، وميكائيل بالقطر والنبات وفيه حياة الأرض، وإسرافيل بنفخ الصور وفيه حياة الأجساد يوم المعاد.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل بربوبية الله لهم في دعاء الاستفتاح في صلاة الليل، فيقول:«اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (1) ، هذا الدعاء الذي كان يقوله في قيام الليل متوسلًا

(1) أخرجه مسلم/ كتاب صلاة المسافرين/ باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.

ص: 45

بربوبية الله لهم.

كذلك نعلم أن منهم من وكل بقبض أرواح بني آدم، أو بقبض روح كل ذي روح وهم: ملك الموت وأعوانه ولا يسمى عزرائيل؛ لأنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن اسمه هذا.

قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] . وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] . وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] .

ولا منافاة بين هذه الآيات الثلاث، فإن الملائكة تقبض الروح، فإن ملك الموت إذا أخرجها من البدن تكون عنده ملائكة، إن كان الرجل من أهل الجنة، فيكون معهم حنوط من الجنة، وكفن من الجنة، يأخذون هذه الروح الطيبة، ويجعلونها في هذا الكفن، ويصعدون بها إلى الله عز وجل حتى تقف بين يدي الله عز وجل، ثم يقول اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فترجع الروح إلى الجسد من أجل الاختبار: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وإن كان الميت غير مؤمن والعياذ بالله، فإنه ينزل ملائكة معهم كفن من النار وحنوط من النار، يأخذون الروح، ويجعلونها في هذا الكفن، ثم يصعدون بها إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها وتطرح إلى الأرض، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، ثم يقول الله:«اكتبوا كتاب عبدي في سجين» (1) نسأل الله

(1) رواه أحمد (4/287) ، وأبو داود/ كتاب السنة/ باب في المسألة في القبر، والحاكم (1/93) وقال:"صحيح على شرط الشيخين" وأقره الذهبي، وقال الهيثمي:"رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح" 3/49.

ص: 46

العافية! .

هؤلاء موكلون بقبض الروح من ملك الموت إذا قبضها، وملك الموت هو الذي يباشر قبضها، فلا منافاة إذن، والذي يأمر بذلك هو الله، فيكون في الحقيقة هو المتوفي.

ومنهم ملائكة سياحون في الأرض، يلتمسون حلق الذكر، إذا وجدوا حلقة العلم والذكر، جلسوا. (1)

وكذلك هناك ملائكة يكتبون أعمال الإنسان: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10-12]{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] .

دخل أحد أصحاب الإمام أحمد عليه وهو مريض رحمه الله فوجده يئن من المرض، فقال له: يا أبا عبد الله! تئن، وقد قال طاووس: إن الملك يكتب حتى أنين المريض؛ لأن الله يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] ؟ فجعل أبو عبد الله يتصبر وترك الأنين؛ لأن كل شيء يكتب {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} : من: زائدة لتوكيد العموم ، أي قول تقوله؛ يكتب لكن قد تجازى عليه بخير أو بشر، هذا حسب القول الذي قيل.

ومنهم أيضًا ملائكة يتعاقبون على بني آدم في الليل والنهار ، {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] .

ومنهم ملائكة رُكَّع وسُجَّد لله في السماء، قال النبي عليه الصلاة

(1) البخاري/ كتاب الدعوات/ باب فضل ذكر الله عز وجل، ومسلم/ كتاب الدعوات/ باب فضل مجالس الذكر.

ص: 47

والسلام: " «أطت السماء، وحق لها أن تئط» والأطيط: صرير الرحل؛ أي: إذا كان على البعير حمل ثقيل، تسمع له صرير من ثقل الحمل، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام:«أطت السماء، وحق لها أن تئط ما من موضع أربع أصابع منها، إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد» (1) ، وعلى سعة السماء فيها هؤلاء الملائكة.

ولهذا «قال الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت المعمور الذي مر به في ليلة المعراج؛ قال: "يطوف به (أو قال: يدخله) سبعون ألف ملك كل يوم، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم» (2)، والمعنى: كل يوم يأتي إليه سبعون ألف ملك غير الذين أتوه بالأمس، ولا يعودون له أبدًا، يأتي ملائكة آخرون غير من سبق، وهذا يدل على كثرة الملائكة، ولهذا قال الله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] .

ومنهم ملائكة موكلون بالجنة وموكلون بالنار، فخازن النار اسمه مالك؛ يقول أهل النار:{يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]، يعنى: ليهلكنا ويمتنا، فهم يدعون الله أن يميتهم؛ لأنهم في عذاب لا يصبر عليه، فيقول:{إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]، ثم يقال لهم:{لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77] .

المهم: أنه يجب علينا أن نؤمن بالملائكة.

وكيف الإيمان بالملائكة؟

(1) رواه أحمد (5/173) ، والترمذي/ كتاب الزهد/ باب قوله صلى الله عليه وسلم "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً"، وابن ماجه/ كتاب الزهد/ باب الحزن والبكاء.

(2)

رواه مسلم/ كتاب الإيمان/ باب الإسراء.

ص: 48

وكتبه

ــ

نؤمن بأنهم عالم غيبي لا يشاهدون، وقد يشاهدون، إنما الأصل أنهم عالم غيبي مخلوقون من نور مكلفون بما كلفهم الله به من العبادات وهم خاضعون لله عز وجل أتم الخضوع ، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] .

كذلك نؤمن بأسماء من علمنا بأسمائهم ونؤمن بوظائف من علمنا بوظائفهم ويجب علينا أن نؤمن بذلك على ما علمنا.

وهم أجساد، بدليل قوله تعالى:{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1] ، «ورأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق» (1)، خلافًا لمن قال: إنهم أرواح.

إذا قال قائل: هل لهم عقول؟ نقول: هل لك عقل؟ ما يسأل عن هذا إلا رجل مجنون، فقد قال الله تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، فهل يثني عليهم هذا الثناء وليس لهم عقول؟ ! {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ، أنقول: هؤلاء ليس لهم عقول؟ ! يأتمرون بأمر الله، ويفعلون ما أمر الله به ويبلغون الوحي، ونقول: ليس لهم عقول؟ ! أحق من يوصف بعدم العقل من قال: إنه لا عقول له!!

أي كتب الله التي أنزلها مع الرسل.

ولكل رسول كتاب، قال الله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25] ،

(1) رواه البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب إذا قال أحدكم "آمين" والملائكة في السماء فوافقت أحدهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه.

ص: 49

ورسله

ــ

وهذا يدل على أن كل رسول معه كتاب، لكن لا نعرف كل الكتب، بل نعرف كل الكتب، بل نعرف منها: صحف إبراهيم وموسى، التوراة، الإنجيل، الزبور، القرآن، ستة؛ لأن صحف موسى بعضهم يقول: هي التوراة، وبعضهم يقول: غيرها، فإن كانت التوراة، فهي خمسة، وإن كانت غيرها، فهي ستة، ولكن مع ذلك نحن نؤمن بكل كتاب أنزله الله على الرسل، وإن لم نعلم به، نؤمن به إجمالًا.

أي: رسل الله وهم الذين أوحى الله إليهم بالشرائع وأمرهم بتبليغها، وأولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.

الدليل على أن أولهم نوح: قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]، يعني: وحيًا، كإيحائنا إلى نوح والنبيين من بعده، وهو وحي الرسالة. وقوله:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26] : {فِي ذُرِّيَّتِهِمَا} ؛ أي ذرية نوح وإبراهيم، والذي قبل نوح لا يكون من ذريته. وكذلك قوله تعالى:{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات: 46]، قد نقول: إن قوله: من قبل: يدل على ما سبق.

إذًا من القرآن ثلاثة أدلة تدل على أن نوحًا أول الرسل ومن السنة ما ثبت في حديث الشفاعة: " «أن أهل الموقف يقولون لنوح: أنت أول رسول أسله الله إلى أهل الأرض» ، (1) وهذا صريح.

(1) البخاري/ كتاب التوحيد/ باب كلاما لله مع الأنبياء يوم القيامة، ومسلم/ كتاب الإيمان/ باب أدنى أهل الجنة منزلاً

ص: 50

أما آدم عليه الصلاة والسلام؛ فهو نبي، وليس برسول.

وأما إدريس؛ فذهب كثير من المؤرخين أو أكثرهم وبعض المفسرين أيضًا إلى أنه قبل نوح، وأنه من أجداده لكن هذا قول ضعيف جدًّا والقرآن والسنة ترده والصواب ما ذكرنا.

وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى:{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، ولم يقل: وخاتم المرسلين؛ لأنه إذا ختم النبوة، ختم الرسالة من باب أولى.

فإن قلت: عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان (1) وهو رسول، فما الجواب؟ .

نقول: هو لا ينزل بشريعة جديدة، وإنما يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذا قال قائل: من المتفق عليه أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وعيسى يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون من أتباعه، فكيف يصح قولنا: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر؟

فالجواب: أحد ثلاثة وجود:

أولها: أن عيسى عليه الصلاة والسلام رسول مستقل من أولي العزم ولا يخطر بالبال المقارنة بينه وبين الواحد من هذه الأمة، فكيف بالمفاضلة؟ ! وعلى هذا يسقط هذا الإيراد من أصله؛ لأنه من التنطع، وقد «هلك»

(1) لما رواه البخاري/ كتاب البيوع/ باب قتل الخنزير، ومسلم/ كتاب الإيمان باب نزول عيسى بن مريم.

ص: 51

والبعث بعد الموت

ــ

«المتنطعون» (1) ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أن نقول: هو خير الأمة إلا عيسى.

الثالث: أن نقول: إن عيسى ليس من الأمة، ولا يصح أن نقول: إنه من أمته، وهو سابق عليه، لكنه من أتباعه إذا نزل؛ لأن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم باقية إلى يوم القيامة.

فإن قال قائل: كيف يكون تابعًا، وهو يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ولا يقبل إلا الإسلام مع أن الإسلام يقر أهل الكتاب بالجزية؟ ! .

قلنا: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إقرار له، فتكون من شرعه ويكون نسخًا لما سبق من حكم الإسلام الأول.

البعث بمعنى الإخراج، يعني: إخراج الناس من قبورهم بعد موتهم.

وهذا من معتقد أهل السنة والجماعة.

وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، بل إجماع اليهود والنصارى، حيث يقرون بأن هناك يومًا يبعث الناس فيه ويجازون:

- أما القرآن، فيقول الله عز وجل:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] وقال عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15-16] .

- وأما في السنة، فجاءت الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

وأجمع المسلمون على هذا إجماعًا قطعيًّا، وأن الناس سيبعثون يوم

(1) رواه مسلم/ كتاب العلم/ باب هلك المتنطعون.

ص: 52