الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الثانية
أخذ العرب عبارة (التاريخ الحديث) من الأوربيين الذين يعنون به الفترة الممتدة من القرن 16 إلى اليوم. وللتاريخ الحديث عند الأوربيين ميزات تميزه عن غيره من الفترات التاريخية، ومن هذه الميزات ظهور الكيانات السياسية الموجودة اليوم، ونمو المدن، ومن ثمة الطبقة الوسطى ووفرة رأس المال، والتقدم العلمي والنظريات في مختلف مجالات الفكر. فهل هذه الميزات تنطبق على التاريخ العربي - الإسلامي بالمفهوم السابق. لقد اعتاد العرب، تقليدا لا واقعا، أن يبدأوا تاريخهم الحديث أيضا بالقرن 16 أي باستيلاء العثمانيين على مقاليد السلطة في البلاد العربية، ولكن العثمانيين في الحقيقة لم يأتوا بجديد لا في الكيانات السياسية، ولا في النظم الاجتماعية ولا في التقدم العلمي. فلماذا إذن نطلق على عهدهم عهد التاريخ الحديث؟ ولماذا نظل على هذا التقليد للأوربيين في فرع من فروع المعرفة ذات التأثير القوى على حياتنا من جميع جوانبها، كالتاريخ؟
والأمر كذلك بالنسبة للجزائر، فمؤرخوها يطلقون بالتبعية على العهد العثماني فيها (العصر الحديث،) بينما نعرف من كل الدراسات حول الموضوع أن (الوجق) في الجزائر لم يحاول أبدا أن يعيش (العصر الحديث) الذي كانت تحياه أوربا. بالعكس لقد أغلق جميع النوافد، وقبع في حدوده القديمة، مما جعل البلاد تعاني من حكم الإقطاع وظلم الحكام والجهل والتخلف العلمي، فكانت النتيجة أن احتل جيش فرنسا الجزائر، ولم يكد الوجق يدافع حتى عن حريمه، وإذا نحن توسعنا في الاستعمال وتجوزنا في الحكم نقول بأن ما وقع سنة 1830 في الجزائر ليس احتلال فرنسا للجزائر هكذا
بل هو احتلال (العصر الحديث)(للعصر الوسيط) أو احتلال التقدم للتخلف.
ورغم أن الجزائر قد عانت الكثير من هذا الاحتلال الذي كاد أن يفقدها شخصيتها، ويأتي على حضارتها فإنها قد تعلمت منه الكثير أيضا. فالصراع الطويل بين الوطنية والاستعمار قد أدى في النهاية إلى ظهور نماذج (العصر الحديث) بالمعنى الأوربي. فالمقاومة كانت تدعو إلى قيام الكيان السياسي، والعلاقة بين المستعمر والمستعمر أدت إلى تحول اجتماعي واقتصادي عميق، كما أدت إلى ظهور الوعي الفكري والإيمان بالتقدم العلمي ومجاراة العالم في التقنيات، ولذلك فإنه يجوز في نظرنا، مع التسامح والتجوز طبعا، أن نطلق على سنة 1830 بداية العصر الحديث بالنسبة للجزائر على الأقل، ويمكن أن يقاس على ذلك في جميع أنحاء الوطن العربي، فالتاريخ إذن يجب أن يخضع لعملية التحول الداخلي في المجتمع الذي نؤرخ له إذ لا يمكن تطبيق ظاهرة خارجية عنه عليه، تقليدا وعرفا، لا حقيقة وواقعا.
والكتاب الذي بين يدي القارىء كان قد نشر سنة 1970 بعنوان (تاريخ الجزائر الحديث - بداية الاحتلال) وقد رأيت أن هذا العنوان أكبر من حجمه، كما أنه لا يدرس جميع مدلول العنوان لذلك رأيت أن أعيد نشره بعنوان (محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث - بداية الاحتلال) مستهدفا، كما لاحظته في مقدمة الطبعة الأولى، دراسة الفترة الانتقالية من العهد العثماني إلى العهد الفرنسي. والحقيقة أن محتوى الكتاب لا يجيب على كل الأسئلة المتعلقة بجوانب هذه الفترة. وقد فكرت في توسيعه وتمديد زمانه إلى حوالي 1848، ولكن خطتي في تناول الحركة الوطنية الجزائرية جعلتني أتوقف عند ما كنت قد كتبته فيه. ذلك أن هذه الخطة تقتضي أن يكون الجزء الأول من الحركة الوطنية الجزائرية من بداية الاحتلال إلى سنة 1900، وقد اقترح علي بعضهم أن أجعل هذا الكتاب هو الجزء الأول من سلسلة
الحركة الوطنية فأبيت، لأن الكتاب على ما هو عليه لا يلبي رغبتي في هذا الموضوع كما أنه لا يشمل كل الفترة المخصصة للجزء المذكور.
لذلك فضلت إعادة نشره كما هو ليستفيد منه الظامئون إلى معرفة تاريخ الجزائر، ولكني أعدت فيه النظر وأدخلت عليه تنقيحات كثيرة وأضفت إلى هوامش مصادر جديدة ظهرت منذ الطبعة الأولى أو فاتني التنبيه عليها عندئد، ولا يسعني إلا أن أتمنى أن يستفيد القراء من الطبعة الجديدة للكتاب كما استفاد منه قراء طبعته الأولى.
أبو القاسم سعد الله
معهد العلوم الاجتماعية - جامعة الجزائر
القاهرة 3 من أبريل 1976