الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
الحملة الفرنسية على الجزائر
عند مقارنة العلاقات بين الجزائر والدول الأجنية تجد أن علاقات فرنسا بالجزائر كانت على العموم طيبة، فمنذ القرن السادس عشر كانت فرنسا تتمتع في الجزائر بامتيازات تجارية خاصة، فكان لها مؤسسات تجارية في عنابة، والقالة، ورأس بونة، والقل. وكانت هذه المؤسسات تدفع ضرائب سنوية متفقا عليها إلى الباشا من جهة وإلى باي قسنطينة (الذي تقع هذه الؤسسات في إقليمه) من جهة أخرى. وكانت فرنسا، في مقابل ذلك، تتمتع بحق صيد المرجاز وتصدير الحبوب إلى أوربا (1).
وقد تطورت هذه العلاقات فكانت أفضل ما تكون في عهد الثورة الفرنسية. فقد اعترفت الجزائر بالجمهورية الفرنسية الجديدة في وقت كانت فيه تحت حصار أوربي محكم. وتكونت بين الدولتين علاقات ودية باستثناء فترة الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1802) حين طلب
(1) انظر الفريدد نيتمون A. Nettement (تاريخ احتلال الجزائر) Histoire de la conquete d'Alger (باريس، 1856)، ص 96 - 102. والمصادر التي تعطي وجهة النظر الجزائرية عن موضوع الحملة لا تكاد توجد، حتى حمدان خوجة (المرآة، باريس، 1833) لا يخصص لأسباب الحملة سوى فصل من حوالي عشر صفحات. لذلك يجب التنبيه إلى أن هذا البحث يعتمد في الغالب على وجهة النظر الفرنسية.
السلطان من الجزائر إعلان الحرب على فرنسا. وفي 1796 أقرضت الجزائر حكومة الثورة في فرنسا مليونا من الفرنكات بدون فائدة، على أن تستعمل فرنسا هذا المبلغ في شراء الحبوب من الجزائر. وفي سنة 1794 أذنت الجزائر للحكومة الفرنسية أن تتمول في موانىء الجزائر عندما كانت الأسواق الأوربية مغلقة في وجه التجارة الفرنسية. وفي أول الأمر كان شراء المواد الغذائية من الموانىء الجزائرية يتم بطريقة مباشرة، فتدفع الشركة الفرنسية المعنية (الشركة الملكية ثم خليفتها الوكالة الوطنية الفرنسية) الثمن إلى الحكومة الجزائرية. ثم غيرت فرنسا طريقة الدفع، أثناء حكومة المؤتمر، فلجأت إلى التاجرين اليهوديين الجزائريين: بكرى وبوشناق ليقوما بالدفع بدلها، إلى الحكومة الجزائرية.
وقصة تدخل هذين اليهوديين في العلاقات بين الجزائر وفرنسا تشكل جزءا أساسيا في تطور العلاقات بين البلدين التي بدأت بالحصار ثم الحملة وانتهت باحتلال الجزائر (1). ولذلك فليس هناك بد من ذكر بعض خيوط هذه القصة لفهم أسباب الحملة ونتائجها. إن الاسم الكامل لبكري هو: ميشيل كوهين بكرى المعروف باسمه المستعرب ابن زاهوت. وكان صاحب تجارة في أوربا قبل أن يفتح سنة 1770 مركزا له في مدينة الجزائر. وكان هذا المركز متواضعا في البداية، ولكنه ازدهر حين انضم إلى صاحبه أخوته الثلاثة، وابنه داود، وصهره نافتالى بوشناق. المعروف باسمه المستعرب بوجناح. ويوجنان، كابن زاهوت، كان أيضا من أسرة لها تجارة في الخازج، وجاءت إلى مدينة الجزائر حوالي 1723، وبدأت أيضا بداية متواضعة. أما ثروة بوجناح الطائلة التي أصبح يتمتع بها بعدئذ فهو مدين فيها إلى التعفن والفساد الذي كان شائعا أيام الحكم العثماني في
(1) أنظر أيضا دراستي عن (الجزائر والحملة الفرنسية) في مجلة (الجيش)، عددي أكتوبر ونوفمبر، 1970، وهي دراسة مترجمة عن الإنكليزية.
الجزائر. وهناك قصة على ذلك ترويها كتب المؤرخين لا تخلو من طرافة ومن عبرة أيضا.
فقد قيل إن مصطفى الوزناجي بن سليمان، باي التيطري بين 1775 - 1794 كان يخشى غضب الباشا عليه أثناء إحدى رحلاته العادية (كل ثلاث سنوات) إلى مدينة الجزائر. لذلك اعتزل الناس ولم يكن يجرؤ على رؤية أحد. ولم يسعفه حينئذ سوى بوجناح الذي أعطاه ما يحتاجه من مال وتشجيع وصادف أن عين الوزناجي بعد ذلك بايا على قسنطينة فاعترف بالجميل لبوجناح، ومنذئذ أصبح (بوجناح) رجل أعماله ومحل ثقته، وبالتالي أصبح نفوذه لدى الباي قويا.
أما كيف ازدرت تجارة ابن زاهوت وبوجناح. فلذلك قصة أيضا، فقد أراد الباي نفسه أن يتقدم بهدية ثمينة إلى امرأة الباشا فطلب من بوجناح أن يأتيه بحلية كريمة تعرف محليا بالصريمة، فجاءه بها بملبغ 300،000 فرنك، فاشتراها منه الباى. ومادام الباي لا يملك أن يدفع نقدا فقد دفع إليه الثمن قمحا على حساب أربع فرنكات للكيلة الواحدة. وهكذا حصل بوجناح على 75،000 كيلة من القمح، وعندما باع القمح في فرنسا (وقد كان محتكرا لتجارة الحبوب) ربح منه.،450،000 فرنك، بينما لم تكلفه الصريمة، المشتراة من باريس، سوى.0،000 فرنك (1). وتحت حماية بعض الباشوات، مثل حسن ومصطفى. أصبح اليهوديان ابن زاهوت وبوجناح، صاحبي نفوذ قوى وتأثير عميق في كل المجالات الحيوية في الدولة الجزائرية، كانا على علم بأحوال البلاد الداخلية. وكانا يتجسسان على أحوال المواطنين الجزائريين لصالح الحكام، وإذا كان
(1) يروي القصة حمدان خوجة في كتابه (المرآة)(باريس، 1833)، ص 142 ويثبتها غبريال اسكير (احتلال الجزائر la prise d'Alger)(باريس، 1929) ط. جديدة. وقد ظل الوزناجي بايا على قسنطينة إلى سنة 1797، ومات مقتولا.
ابن زاهوت قد قصر نشاطه على الميدان التجاري، فإن بوجناح قد تسرب إلى شئون الدولة، فكان هذا يرفع أو يخفض الموظفين والبايات، وحتى الباشوات، مما جعل بعض الناس يطلقون عليه اسم (ملك الجزائر)(1) وبلغ تأثر بوجناح أنه كان يستقبل هو وأهل طائفته باسم الباشا، القناصل الأجانب كما فعل مع قنصل الدانمارك والسويد وهولاندا (1801)، وقام هو وأهل طائفته أيضا بالمفاوضات بين الجزائر والبرتغال. وفي سنة 1804 استقبل مبعوث السلطان إلى الجزائر، ولم يكن تأثير هذين اليهوديين مقصرا على الجزائر، بل كان في كل البحر الأبيض المتوسط فكانت لهما مراكز تجارية في مرسيليا، وجنوا، ونابولي ، وأزمير، والإسكندرية، وتونس، وليفورنيا، وقرطاجنة (أسبانيا)، ومنطقة الراين، وبلجيكا.
وكانا صاحبي نفوذ سواء لدى الدول الكيبرة أو الصغيرة نظرا للقروض التي يتقدمان بها أو الوساطات التي يقومان بها.
وبينما كانت فرنسا مدينة لليهوديين الجزائريين، كانا هما مدينين للدولة الجزائرية ، وفي سنة 1790 قدر دين فرنسا بمليونين من الفرنكات، أما دين اليهوديين للجزائر فقد قدر ب 300،000 فرنك وقد عين هؤلاء التجار اليهود يعقوب بكرى ممثلا لهم في مرسيليا ثم في باريس. ويذكر الفرنسيون أن الرأى العام الفرنسي قد ثار ضد تأثير اليهود الجزائريين في فرنسا ولكن تدخل الوزير الفرنسي تاليراند Talleyrand الذي كسبه اليهود. قد جعل الحكومة الفرنسية تتراجم في الإجراءات التي كانت تعتزم اتخاذها ضدهم (2) ومن جهة أخرى جر اليهود الحكومة الجزائرية إلى قضية قرضهم لفرنسا
(1) اسكير، ص 20، بخصوص قضية بكري وبوشناق (راجع أيضا نيتمون)، ملحق 3، ص 632 - 635.
(2)
نفس المصدر ص 23.
فكتب الباشا مصطفى إلى تالليراند يطلب منه أن تدفع فرنسا الدين الذي عليها إلى رعاياه اليهود. وهكذا أصبح القرض قضية تطرح على مستوى الحكومتين. وبعد فترة من الوقت أصبح سيمون أبوقية هو ممثل تجارة يهود الجزائر في باريس. وعندما تقدم أبوقبة بمذكرة إلى فرنسا عن القرض بلغ الدين الذي على فرنسا 3،377،445 فرنك. وفي سنة 1802 بلغ 8،151،000 زنك، وكان الباشا خلال ذلك كله لا يفتأ يطالب الحكومة الفرنسية بالدين الذي عليها إلى رعاياه اليهود، ولكن بدون جدوى. ومما يذكر أن الحكومة الفرنسية قد سجنت ممثلي يهود الجزائر في بلادها إثر إعلان الحرب بين الدولتين (1798) على أساس أنهم رعايا جزائريون، ثم أطلقت سراحهم بعد انتهاء الحرب (1801).
وليس معنى ما ذكرناه أن اليهود عامة، وعائلتي ابن زاهوى وبوجناح خاصة، لم يتعرفوا إلى أي اضطهاد (1)، فقد كان العثمانيون في الجزائر يتسامحون معهم إلى حد ويعطونهم بعض الوظائف الفنية كالعمل في دار سك النقود. وقد يوجد باشا أو باي يحميهم لهدف معين، كما كان الباشا مصطفى، ولكن ذلك كان عادة مؤقتا، وقد أدى تدخل اليهود الظاهر في شئون الدولة السياسية إلى انخفاض أسهم في النهاية. ففي صيف 1805 مات بوجناح ملك الجزائر بضربة من جندي انكشاري. وتلا ذلك ردود فعل ضد اليهود. وفي نفس السنة اغتيل الباشا مصطفى الذي كان يتدخل لصالحهم. وعندما تولى الباشا أحمد، صادر أملاك بوجناح واضطهد أفرادا بارزين من أسرة بكرى (ابن زاهوت).
وقد لعب داود دوران، منافس ابن زاهوت وبوجناح في التجارة وفي رئاسة الطائفة اليهودية في الجزائر، دورا هاما في المصير الذي لحق
(1) انظر نيتمون، ص 138 راجع أيضا اسكير، الفصل الخاص بقضية بكري وبوشناق.
بصاحبيه، غير أن أيام ازدهار دوران لم تكن طويلة، فقد استعاد يوسف بكرى سمعة العائلةكما حل ابنه داود محل دوران في رئاسة الطائفة اليهودية.
مع ذلك فقد ظل دوران يكيد لهما إلى أن نجح في تجريدهم من جميع سلطاتهم.
ففي 1811 قطعت رأس داود بكرى الذي اتهم بالوشاية بالباشا لدى السلطان وحل دوران محله. ولكن هذا لم يدم سوى ثمانية شهور في سلطته الجديدة لأن يوسف بكرى، الذي كان عجوزا، قد ثأر منه لابنه داود. غير أن سلطة يوسف لم تدم طويلا أيضا لأن عمر آغا قد أمر بنفيه سنة 1816 فذهب يوسف إلى ليفورنيا. وقد حل محله بالجزائر يعقوب بكري الذي كان ممثلا لتجارة هؤلاء اليهود الجزائريين في باريس والذي لم يكن محل ثقة من العائلة. ومما يذكر أنه كان قد حصل على الجنسية الفرنسية. وفي الجزائر أصبح يعقوب زعيما للطائفة اليهودية ومسئولا عن التجارة التي تديرها أسرة بكري.
في سنة 1819 عينت الحكومة الفرنسية لجنة رباعية لدراسة الدين الذي على فرنسا لرعايا الجزائر اليهود. وقد قدرته اللجنة 42 مليون فرنك.
ولكن هذا المبلغ انخفض شيئا فشيئا إلى أن صار 7 ملايين فقط، نتيجة مطالبة أطراف أخرى بديونها التي على أسرة بكري - بوشناق. ولكن المذكرة التي أصدرتها الحكومة الفرنسية في 28 أكتوبر 1819 قد أكدت أن ملك فرنسا عازم على إرضاء طلب باشا الجزائر للمحافظة على العلاقات الودية بين الجزائر وفرنسا، ويذكر مؤرخ فرنسي أن المذكرة قد نصت أيضا على أن فرنسا لن تسدد الدين إلا يعد إعلان الباشا التخلي عن مطالبته بتسديد الدين له شخصيا بدل بكري (1)،. ويقال أن الباشا قد أعلن رسميا، في 12 أفريل، 1820 أنه راض إذا سددت الحكومة الفرنسية الدين الذي عليها إلى يعقوب بكري مباشرة. ومن المفهوم أنه متى استعاد يعقوب قرضه فانه
(1) نفس المصدر ص 45.
سيدفع ما عليه للباشا (1). وفي 24 جويليه، 1820 صدر قانون عن البرلمان الفرنسي بتخصيص 7 ملايين فرنك لتسديد الدين إلى يعقوب بكري. وعندئذ واجهت الحكومة الفرنسية، على ما قيل، مطالب كثيرة يدعي أصحابها بأن يعقوب بكري مدين لهم. وأمام ذلك أحالت الحكومة الفرنسية القضية إلى المحاكم، ولكن معنى ذلك كله هو أن الباشا لن يحصل من يعقوب بكري على الديون المتراكمة عليه.
تعود مشاريع الحملة الفرنسية على الجزائر إلى عهد نابوليو (2). فبعد عودة السلام بين الجزائر وفرنسا (1801) رجعت فرنسا إلى امتيازاتها في الجزائر. غير أن قنصل نابوليون في الجزائر، وهو ديبوا - ثانفيل لم يحمل إلى الباشا مصطفى الهدية التي اعتاد القناصل تقديمها له. وحين طلبها الباشا رسميا على أساس أنها شيء واجب، رد عليه نابليون برسالة ساخطة هدد فيها بتحطيم الأسطول الجزائري، وأنذر بأن فرنسا على عهده ليست هي فرنسا على عهد البوربون. وما لبثت العلاقات أن توترت بين البلدين من جديد فقد احتجزت الجزائر سفينتين فرنسيتين وضربت أخرى في ميناء تونس من أحد الجزائريين. فكتب نابليون إلى الباشا مصطفى أيضا يطالبه بدفع تعويض عن الخسائر ومعاقبة الوزراء المسئولين عن هذه الحوادث.
كان نابوليون يحلم بجعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة فرنسية. لذلك كان يخطط لحملة كبيرة ضد دول المغرب العربي الأربع وإقامة مستعمرات عسكرية فرنسية هناك وإضافة المنطقة إلى أجزاء امراطوريته في البحر
(1) نفس المصدر ص 46 انظر أيضا الشيخ محمد بيرم (صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار) ج 4، ص 8 - 9، ط القاهرة، 1303.
(2)
هناك مشاريع فرنسية أخرى لغزو الجزائر وهناك حملات وقعت فعلا قبل عهد نابليون ولكن ذلك لا يعنينا هنا، انظر ليتمون، ص 105 - 115.
المذكور. ولتحقيق ذلك طلب من الفرنسيين الذين كانوا أسرى في الجزائر أو الذين عاشوا فيها، معلومات عنها وعن سكانها وتحصيناتها. فأوصى قنصل فرنسى سابق في الجزائر، وهو السيد جون بون سان - اندري، بضرب الجزائر ضربة قوية وسريعة وإنهاء الحرب في ثمانية أيام. واقترح فرنسي آخر بنزول حملة فرنسية قرب تنس والهجوم على مدينة الجزائر برا. ولكن نابوليون تخلى عن مشروع الحملة لانشغاله بمناطق أخرى. غير أنه أرسل إلى الجزائر قطعة من أسطوله بقيادة الأميرال ليسيغ leissegues حاملا رسالة إلى الباشا (سنة 1802) يطالبه فيها بدفع التعويضات المذكورة، ويعلمه برفضه تسديد المبلغ الذي يطالب به وهو 200،000 فرنك. ومن بين الذين كانوا في هذه المهمة القبطان بيرج Berge الذي جمع عندئذ معلومات هامة عن الجزائر، وهو الذي سيكون من أعضاء الحملة البارزين سنة 1830.
وخلال سنة 1805 جاء جيروم نابوليون إلى الجزائر على رأس قطعة بحرية أيضا للمطالبة بإطلاق سراح 231 من الأسرى الطليان. ولكن الباشا أحمد، الذي خلف مصطفى، لم يطلق سراحهم إلا بعد أن دفع جيروم مبلغ 80،000 فرنك. ومن جهة أخرى أدت هزيمة الأسطول الفرنسي في (ترافلغار) إلى أن سحبت الجزائر الامتيازات التي كانت لفرنسا وأعطتها إلى بريطانيا. وكان ذلك سنة 1807. ولكن نابوليون قد وقع السلام مع روسيا في نفس السنة (معاهدة تلست)، وعاد إلى مشروع الحملة ضد الجزائر، فأمر قنصله في الجزائر بمغادرة المدينة وإعلام الباشا بأنه سيواجه الحرب إذا لم يطلق سراح الأسرى الجنويين والكورسيكيين والطليان، ومن جهة أخرى أمر وزيره للبجرية بالتفكير جيدا في القيام بحملة ضد الجزائر سواء كانت برية أو بحرية، كما أمره بجمع المعلومات الضرورية عن وسائل التموين وطبيعة الأرض، ومكان وزمان الحملة، واقترح التمويه على
العدو لكي يظن أن الحملة موجهة إلى صقلية. وطلب أن لا يزيد عدد الجيش
عن 20،000 رجل. وأمر أن تأتيه المعلومات في ظرف شهر. وطلب من الوزير إرسال أحد جنوده الذين يمتازون بالروح العسكرية وبالمهارة الهندسية سريا إلى الجزائر ليتجسس ويعود بتقرير مفصل وخطة واضحة، فوقع الاختيار على ضابط يسمى بوتان Y. Boutin.
وصل بوتان إلى مدينة الجزائر في 24 ماي 1808 على ظهر سفينة تسمى لوركان le Requin وقد ظل هناك متجسسا على الحصون دارسا خطة للنزول بدقة متنقلا من برج البحرى (كاب ماتيفو) شرقا إلى سيدي فرج غربا وبعد أن كتب ملاحظاته ورسم خطته قفل راجعا في 17 جويليه من نفس العام.
غير أن الانكليز ألقوا عليه القبض في عرض البحر وقادوه إلى مالطة. وأثناء ذلك أعدم الخطة ولكنه أبقى على ملاحظاته التي منها سيكتب تقريره ويرسم لخطه من جديد (1). ومن مالطة فر متكرا وعاد إلى فرنسا في أكتوبر عن طريق أزمير واسطانبول. وقد ضمن تقريره معلومات دقيقة عن تحصينات الجزائر وطبيعة أرضها، وعدد قواتها، وزمن الحملة المقترحة والمدة التي تستغرقها، وعدد الجيش الضروري. واقترح بوتان عدد الرجال من 35 إلى 40 ألف محارب معظمهم من المشاة، مع بعض المدافع، وقد أظهر الأخطار التي تتعرض لها الحملة من البحر ونصح بدلا من ذلك أن تكون الحملة برية، وبالاستيلاء على قلعة مولاى حسن (الامبراطور) لأنها تشرف على المدينة. واقترح أن يكون مكان نزول الحملة هو سيدي فرج لخلوه من المدافع والجنود. ومن رأيه أن أفضل وقت للحملة هو من مايو إلى جوان وأن مدة الحملة لا تتجاوز شهرا.
ولكن انشغال نابوليون بالحرب في أسبانيا وبحملة روسيا وضعف الأسطول الفرنسي ثم سقوطه -كل ذلك قد جعل مشروع غزو الجزائر يبقى على الرف مؤقتا.
(1) أنظر مشروع بوتان في ليتمون، ملحق، ص: 64 - 67.
وبعد مؤتمر فيينا عينت فرنسا قنصلا جديدا لها في الجزائر وهو بيير دوفال Duval ، في 28 أوت 1815. وقد حمل إلى الباشا هدايا تقدر ب 112،924 فرنك تضم مجوهرات وساعات وأقمشة وأسلحه. وفي مقابل ذلك أعاد الباشا إلى فرنسا الامتيازات التي فقدتها، وكان ذلك في 17 مارس 1817 إثر حملة اللورد اكسموث الانكليزي على الجزائر (1816). وتساهلت الجزائر فخفضت مقدار الضريبة السنوية المقررة على فرنسا من 300،000 الى 118،000 فرنك.
كان دوفال المذكور إبنا لمترجم فرنسي كان يعمل في السفارة الفرنسية في اسطانبول وقد تولى جميع مهامة القنصلية في القنصليات الفرنسية بآسيا الصغرى. وكان يتكلم العربية والتركية (1). ورغم أنه كان فد واجه بعض الصعوبات منذ البداية في مهمته فانه كان يمتاز باتباع سياسة التعفن الاجتماعي والتوريط وخلف الوعد، وهي ما يعبر عنها الغربيون بالروح الشرقية.
وكان دوفال يعتبر هذه الوسيلة هي طريق النفاذ إلى الباشا وبالتالي التأثير عليه وكسبه. ومما يذكر أنه سلم، دون بقية القناصل الأجانب، الجزائريين الذين كانوا في خدمته إلى السلطات المحلية أثناء ثورة 1823.
أما الباشا حسين فقد تولى الحكم سنة 1818 خلفا للباشا علي خوجة.
وقد اشتهر بالغيرة على الدين، وباليقظة الدائمة، والميل إلى الأهالي. وكان دون الخمسين من عمره حين تولى الحكم. وقد ورث قضية الدين الذي على فرنسا لرعاياه اليهود. كما واجه عدة ضغوط من فرنسا وبريطانيا بعد مؤتمر فيينا، لإلغاء الرق وإبطال دفع الضريبة السنوية على الدول الأوروبية.
والواقع أن هناك أقوالا متضاربة حول شخصيته ومزاجه وقدرته. فبعضهم
(1) قال عنه خوجة في (المرآة) ص 166 أنه لم يكن يتكلم التركية جيدا، وأن قدرة دوفال على التركية تشبه قدرة خوجة على الفرنسية.
يتهمه بالقسوة والتهور والتهاون وبعضم يصفه بالخيرية والأمانة والشهامة (1).
طلب الباشا الجديد من فرنسا أن تدفع إليه شخصيا الدين الذي عليها ليعقوب بكري ووعد بأنه سيتولى هو وليس المحاكم الفرنسية، تسديد الديون التي على بكري للدائنين. وقد ذكرنا أن المبلغ، بعد أن انخفض عدة مرات، قد استقر على سبعة ملايين فرنك. وكتب الباشا بذلك إلى الحكومة الفرنسية ولكن الرد لم يصله بدعوى أن وزير الخارجية عندئذ، وهو البارون دي دماس Damas، لم يفهم طلب الباشا ما دام سلفه قد وافق على أن تدفع فرنسا مباشرة إلى بكري.
وقد اتهم الباشا القنصل دوفال بإخفاء رد فرنسا عنه. وزاد وسوء التفاهم بينهما أن يعقوب بكري قال بأنه قد دفع بعض النقود إلى القنصل الفرنسي (2). فزاد ذلك من عدم ثقة الباشا في القنصل. ولذلك طلب الباشا من فرنسا استدعاء قنصلها ودفع الدين الذي لبكري له شخصيا. ولكن فرنسا بدلا من أن تسمي قنصلا جديدا، وهو إجراء متبع، وتكتب إلى الباشا بخصوص الدين، أرسلت سفينة حربية إلى الجزائر بقيادة الضابط فلورى طالبة من الباشا دفغ تعويضات معينة ومدعية عليه ادعاءات مختلفة (3) وعندما تكرر طلب الباشا بتعيين قنصل فرنسي جديد ودفع الدين كررت فرنسا إرسال السفن الحربية، هذه المرة أربع، بقرار من مجلس الوزراء، وذلك في أبريل 1827.
(1) أنظر خوجة (المرآة) ص 160 - 161، راجع أيضا ليتمون، ص 137 - 128.
(2)
كان الباشا قد سجن (1826) يعقوب بكري لعدم وفائه برد دين إلى القنصل الانكليزي. وقد أجبره أيضا على التخلي له (أي الباشا) عن كل الديون التي يدعيها على أسبانيا وفرنسا وسردينيا.
(3)
اسكير ص 58.
وبمناسبة عيد الأضحى الذي صادف 29 أبريل 1827 وقعت ضربة المروحة المشهورة. فقد حضر كالعادة القناصل الأجانب، ومن بينهم دوفال، لتهنئة الباشا. ودار الحديث بين الباشا والقنصل الفرنسي حول رد فرنسا على طلبه. فكان رد القنصل غامضا ولعله كان مهيأ للباشا. وقد تطور الحديث فاتهم الباشا القنصل بأنه كان السبب في عدم وصول الرد إليه مباشرة.
وأمره بالخروج، وعندما لم يتحرك ضربه بالمروحة التي كانت بيده. وقد ادعى دوفال في تقريره إلى حكومته بأنه ضرب ثلاث مرات. أما الباشا فقد قال بأنه ضربه لأنه أهانه. وتذهب رواية أخرى إلى أن الضرب لم يقع أصلا ولكن وقع التهديد بالضرب (1).
كان رد فرنسا على ذلك إرسال قطعة من أسطولها أمام الجزائر بقيادة القبطان كولى Collet . وقد وصلت القطعة يوم 12 جوان 1827 وصعد القنصل دوفال سفينة القبطان المسماة (لابروفانس). جاء كولى يطلب من الباشا أن يأتي شخصيا إلى السفينة ويعتذر للقنصل. ولما كان معروفا مسبقا أن الباشا لن يرضى بذلك فقد اشتملت تعليمات كولى على اقتراحات أخرى، وهي:
1 -
أن يستقل الباشا القبطان ورئيس أركانه والقنصل بمحضر الديوان والقناصل الأجانب ويعتذر أمامهم إلى دوفال.
2 -
أن يرسل بعثة برئاسة وكيل الحرج (وزير البحرية) إلى قطعة الأسطول الفرنسي ليعتذر باسم الباشا إلى القنصل. وفي جميع الحالات يرفع العلم الفرنسي على جميع القلاع الجزائرية، بما في ذلك القصبة وتطلق
(1) يقر خوجة (ص 167) بوقوع ضربة المروحة، ولكنه يلقي المسئولية على جهل دوفال باللغة التركية. ويذكر ليتمون أن الحادث وقع يوم 30 أبريل 1827. أنظر ص 142.
مائة طلقة مدفع تحية له. وكانت تعليمات كولى تقتضي أنه في صورة قبول الباشا أحد الحلول الثلاثة يتقدم إليه بعد ذلك بعدة مطالب فرنسية تتضمن دفع التعويضات، ومعاقبة الجزائريين المسئولين عن الإضرار بالمنشآت الفرنسية، وحق تسليح هذه المنشآت في المستقبل، وإعلان الجزائر أنه لا حق لها في دين بكري، كما تقتضي التعليمات أنه في حالة عدم استجابة الباشا لواحد من الاقتراحات المذكورة يعلن الحصار رسميا على الجزائر.
بناء على التعليمات أرسل كولى بالاقتراح الثالث، في 15 يونية، إلى الباشا وأعطاه أربعا وعشرين ساعة للرد. كان حامل هذا الإنذار قنصل سردينيا في الجزائر الكونت D'Attili الذي أصبح يرعى المصالح الفرنسية بعد انسحاب دوفال (1). كان رد الباشا على داتيلي أنه لا يفهم أنه بدلا من أن تعين فرنسا قنصلا جديدا وتكتب إليه مباشرة لجأت إلى إرسال إنذار مضحك مع ضابط بحرية. وعندما انقضى أجل الإنذار بدون رد أعلن كولى الحصار في 16 يونية 1827. أما الباشا فقد أمر من جهته باي قسنطينة بالاستيلاء على المنشآت الفرنسية الواقعة في إقليمه.
في نفس الشهر الذي أعلن فيه الحصار، كلف الجنرال لوفيردو Loverdo أن يعد (مشروعا يحتوي على المعلومات التاريخية والجغرافية والإحصائية والعسكرية) التي تهدف إلى القيام بحملة ضد الجزائر. وقد أنهى الجنرال عمله خلال ثلاثة شهور. ولكن الحكومة الفرنسية لم تقرر الحملة على ضوئه واكتفت بالحصار نظرا لحوادث اليونان وفراغ المخازن من الأسلحة ووجود الأسطول الفرنسي في اليونان. فكان مطلب فرنسا من باشا الجزائر مقصورا على الاعتذار لقنصلها عما ارتكبه نحوه.
(1) توفي في فرنسا بتاريخ 23 أغسطسى سنة 1829، وقد خلف غي منصبه ابن أخيه الاسكندر دوفال الذي أصبح مكلفأ بشئون القنصلية الفرنسية في الجزائر سنة 1830.
ولكن مشاريع إعداد الحملة ظلت تكثر يوما بعد يوم. فقد كلف الضابط دوبتي - ثوار Dupetit - thouars بإعداد مشروع لمهاجمة الجزائر من البجر، ولكن الحكومة الفرنسية لم تأخذ به أيضا. ثم تولى إعداد مشروع آخر وزير الحربية عندئذ، الكونت كليرمون تونير C. Tonnerre. والواقع أنه اعتمد على مشروع بوتان السابق ذكره. وقد رأى تونير أن حملة فرنسية ضد الجزائر ضرورية وممكنة في نفس الوقت. وكان في تقريره النهائي بعض العواطف الدينية الواضحة، فقد وصف الحملة بأنها (حرب صليبية) هيأتها العناية الإلهية لينفذها الملك الفرنسي الذي اختاره (الله ليثأر من أعداء الدين والإنسانية) ويغسل الإهانة التي لحقت بالشرف الفرنسي.
وأضاف تونير مخاطبا الملك (لعل الوقت سيجعل من حظنا نحن الفرنسيين تمدين الجزائريين بجعلهم مسيحيين)(1).
وقد احتوى تقرير تونير، الذي كان في أهميته يشبه تقرير بوتان، وصفا للحالة الاقتصادية التي كانت عليها الجزائر والتي تغري أصحاب رأس المال والمصالح التجارية بالحملة. فقد قال إن الخزينة الجزائرية كانت تضم 150 مليون فرنك، وأن للجزائر مواني عديدة وسهولا خصبة، وغابات صالحة لبناء السفن، وهناك مناجم الحديد والرصاص وجبال من الملح والمواد الكيمائية الأخرى. وفي نفس الوقت دغدغ أحلام العسكريين حين أوصى بإقامة مستعمرات عسكرية فرنسية في الجزائر.
أما في بقية تفاصيل المشروع فقد كان تونير يسير على خطى بوتان.
فقد أوصى هو أيضا بالهجوم من البر بدل البحر، وأن يكون نزول القوات الفرنسية من شبه جزيرة سيدي فرج. وأما وقت الحملة فهو ما بين أبريل ويونية وتوقع لها أن تدوم ستة أسابيع. ورأى أن الحملة ستكلف الخزانة
(1) اسكير ص 74، وليتمون، ص 150 - 153.
الفرنسية حوالي 50 مليون فرنك، وتضم 33،000 رجل، بالإضافة إلى فرقة من الخيالة وعدد من فرق المدفعية. وكان من رأيه أيضا أن فرنسا لا تحتل جزءا فقط من الجزائر بل يجب احتلالها كلها احتلالا (طويل المدى) واقترح الوزير الفرنسي سنة 1828 موعدا للحملة لأن أوربا كانت تعيش في سلام ولأن الرأي العام الفرنسي كان متهيئا لها. وقد ناقش مجلس الوزراء مشروع تونير في جلسة 11 أكتوبر 1827، ولكن المجلس في النهاية قرر عدم الأخذ به آنذاك:
وهناك مشروع آخر تقدم به أحد النواب في البرلمان. وقد نادى صاحبه باقامة مستعمرات عسكرية شبيهة بما فعل الرومان، وبدعوة الأوربيين أن يتوجهوا إلى الجزائر بدل الهجرة إلى أمريكا. وقال صاجب هذا المشروع إن احتلال الجزائر سيعوض فرنسا عما فقدته في منطقة الراين ويغنيها عن ثراء بعض البضائع مثل التبغ والحرير والسكر والزيت والقطن، ولكن الحكومة الفرنسية لم تقتنع بالمشروع نظرا لأن حملة الانتخابات كانت على الأبواب ولأن نتائج الحملة المقترحة ستأتي بعد إجراء الانتخابات، وبالتالي
لن تؤثر في الرأي العام الفرنسي لصالح الحكومة.
استمر الحصار إذن بدل الحملة. وكان الفرنسيون يهدفون من ورائه إلى قطع التموين عن الجزائر، فكان أسطولهم المحاصر يتكون من 12 سفينة كانت تقوم بمراقبة الموانىء الجزائرية، وكانوا يوقفون بعض السفن المشبوهة ويتجزون بعض السفن الأخرى. ولكن الحصار لم ينه عمليات القرصنة، وبالتالي لم ينجح. وفي 3 أكتوبر وقعت معركة بين الأسطول الجزائري (12 سفينة، 30200 رجل، 252 مدفعا) والأسطول الفرنسي المذكور.
وقد دامت المعركة حوالي أربع ساعات ولم تسفر عن نتيجة لكل من الطرفين (1).
(1) المعروف أن جزءا من أسطول الجزائر كان عندئذ في اليونان لمساعدة الدولة العثمانية وقد تحطم عدد من سفنه هناك.
ولكن تكاليف الحصار التي بلغت سبعة ملايين فرنك سنويا، والخوف من الحرب مع بريطانيا أو مع أسبانيا، إذا ما تحول الحصار إلى حملة عسكرية، وتغيير الحكومة الفرنسية خلال 4 يناير 1828.كل هذه العوامل جعلت فرنسا تفتح باب المفاوضات مع الجزائر هادفة إلى إلغاء الحصار بطريقة (مشرفة)، ففي 29 أبريل عام 1828 ذهبت إلى الجزائر بعثة للتفاوض بقيادة الضابط بيزار Bézard، ولكن البعثة فشلت لإصرار الباشا على عدم دفع تعويضات إلى فرنسا. وتلا ذلك بعثة أخرى بقيادة بيزار نفسه التي فشلت أيضا لأن الباشا رفض أحد الشروط الفرنسية الأساسية وهو إرسال وزير من حكومته إلى باريس للاعتذار، واشترط أن يفعل ذلك فقط بعد توقيع معاهدة صلح مع فرنسا. أما الفرنسيون فقد عزوا فشل البعثة إلى (طيبة) القنصل السرديني في الجزائر الذي كان يرعى المصالح الفرنسية، وإلى نشاط القنصل الإنكليزي المضاد، ثم إلى المترجم اليهودي دوران Duran ، الذي اتهموم بعدم نقل الحقيقة.
وأمام فشل المفاوضات عاد الفرنسيون إلى التفكير في الحملة ضد الجزائر. ففي صيف 1828 كلف وزير الحربية الجديد دي كو De caux لجنة خماسية (لدراسة المسائل المتعلقة بحملة ضد الجزائر وتقديم خطة كاملة للعمل وتعيين الوسائل الضرورية للتنفيذ (1). وقد كانت هذه اللجنة تضم الجنرال بيرج الذي كان قد أرسل سنة 1802 للتجسس على تحصينات الجزائر، وكان رئيسها هو الجنرال لوفير دو الذي سبقت الإشارة إليه.
قامت اللجنة بجمع المعلومات من كتب الرحالة وأخبار الأسرى الأوربيين والمذكرات التي كتبت عن الحملات السابقة ضد الجزائر من
(1) نفس المصدر، ص 97، أنظر أيضا تفاصيل الحصار والمفاوضات في ليتمون، ص 153 - 176.
عام 1628 إلى 1808. كان رأي اللجة بخصوص مكان النزول وعدد الجنود والمعدات هو تقريبا رأي بوتان وتونير. وقدرت أن تغادر الحملة ميناء طولون في منتصف أبريل وتعود حوال نهاية شهر أغسطس، كما قدرت تكاليف الحملة ب 20 مليون فرنك. ومن جهة أخرى ذكرت اللجنة بعض التفاصيل في جدول الهجوم على الأماكن العامة مثل قلعة مولاي جسن والقصبة، وتوقعت أن تشتبك القوات الفرنسية في معركة حاسمة ضد قوات البايات الثلاثة مجتمعة في اليوم العشرين من النزول.
ونظرا لوجود معارضة قوية في البرلمان، والخسارة الاقتصادية التي تسبب فيها الحصار، وللظروف الدولية، قررت الحكومة الفرنسية أن تفاوض من جديد سنة 1829. وقد أرسلت القبطان دى نيرسيا De Nerciat إلى الجزائر في مهمة نحو الباشا حسين، على أن تفتح محاولته الطريق أمام قائد الحصار الجديد وهو بريتونيير Bretonnière الذي خلف كولى. وقد صدرت التعليمات بأن يصحب قائد الحصار، عندما يأتي دوره في المفاوضة، مترجما فرنسيا بدلا من اليهوي دوران. وتمت خطة الاجتماع بين الباشا وقائد الحصار على ما يرام، ولكن النتيجة كانت سلبية. فقد طلب قائد الحصار من الباشا إرسال وفد سام إلى باريس للاعتذار والتقارض. ولكن الباشا استغرب ذلك وأصر على عقد الصلح في الجزائر أو لا يقبل إرسال الوفد.
وأثناء عودة الوفد الفرنسي خائبا أطلقت المدافع على سفينة قائد الحصار (لابروفانس) من التحصينات الجزائرية. ويقول الجزائريون إن السفينة اقتربت كثيرا من التحصينات، أما الفرنسيون فيقرون بذلك ولكنهم يعزونه إلى شدة الرياح. وقد أصيبت السفينة ببعض العطب ولكن قائدها نجح في الهروب بها سالما. وكانت الحادثة قد جرت بتاريخ 3 أغسطس عام 1829. ومما يذكر أن الباشا قد تبرأ من الحادث وعبر
عن أسفه لوقوعه، وعاقب وزير البحرية وقائد الميناء بالطرد من منصبهما.
ولكن الحادث قد وقع على أية حال، وأدى إلى زيادة تعقد العلاقات بين الطرفين وسوء التفاهم بينهما. ومما وسع الشقة أيضا مجيء دي بولينياك إلى رئاسة الوزارة الفرنسية في أواخر سنة 1829، وقد كانت له مشاريع عريضة لا بالنسبة للجزائر فقط ولكن بالنسبة لأوربا والشرق أيضا. ومن جهة أخرى تغير وزير البحرية وأصبح هو البارون دي هوسي D'Haussez الذي كان يرى ضرورة القيام بحملة ضد الجزائر في ربيع 1830.
وقبل أن يصبح بولينياك رئيسا للوزارة كان قد استقبل عندما كان وزيرا للخارجية، (سبتمبر عام 1829) وفدا قادما من مصر يحمل آراء عرفت فيما بعد باسم (مشروع محمد على) لحل قضية الجزائر (1). وبناء على المشروع فقد عرض محمد على على فرنسا أن تساعده في أن يصبح حاكما على طرابلس وتونس والجزائر، واقتراح أن يمر جشيه بالساحل الأفريقي الشمالي محميا بأسطول فرنسي بحري. وطلب من فرنسا أن تمده مقدما بأربع سفن و28 مليونا من الفرنكات، وكان يرى أن السلطان العثماني سيكون راضيا لأن المشروع سيجعله يحصل على جزية سنوية شبيهة بالتي يدفعها إليه محمد علي من مصر، وسيرضي المشروع أيضا فرنسا لأنها ستتخلص عن مشكلة الجزائر، وأوربا لأنها ستتخلص من القرصنة. وقد قال محمد علي للقنصل الفرنسي في القاهرة عندئد أنه قادر على إنهاء المشكلة الجزائرية بتجنيد 68 ألف رجل و23 سفينة وتوفير مائة مليون فرنك لتغطية نفقات الحملة.
(1) كان أعضاء الوفد هما القنصل الفرنسي في الاسكندرية، والمغامر الفرنسي المركيز دى ليفرون الذي أصبح ممثلا لشئون محمد علي في فرنسا. ولعل صاحب الاقتراح الأول هو فرنسا وليس محمد علي.
أما بولينياك فقد كان يرى منذ عام 1814 ضرورة الربط بين قضية مصر وشمال أفريقية. وكان يرى أن ذلك سبيل مأمون إلى نشر التأثير الفرنسي في المنطقة. وعندما كان سفيرا لبلاده في لدن (1828) تحادث مع زملائه بشأن فوائد فرنسا من حملة ضد الجزائر وفوائد أوربا أيضا.
وحين وصل إلى الحكم بدأ يبحث عمن يكون آلة في تنفيذ خطته، ولا سيما في تلك الظروف التي كانت فيها غير قادرة على القيام بمشروع الحملة بنفسها مباشرة. لذلك رحب باقراحات محمد علي وأرسل الضابط هودير Hunder إلى مصر للتفاوض. كما أرسل تعليمات إلى سفير فرنسا في اسطانبول بجس نبض السلطان حول الموضوع. ويقال أن التعليمات قد تضمنت إقناع السلطان بأن الحملة إذا قام بها محمد علي ستحقق:
1 -
جزية هامة من الولايات الثلاث المتمردة عليه.
2 -
عدم إرسال الجنود الفرنسيين إلى الجزائر.
وقد قيل أن رأي الديوان العثماني كان في صالح المشروع في البداية ثم وقع التراجع عنه. ثم تغير الموقف وحاول العثمانيون إقناع السفير الفرنسي بأن تأييد الخطة يخالف الدين الإسلامي وأن محمد علي لن يقدر على تنفيذ الخطة. وبدلا من التأييد وافق الديوان على إرسال شخصية هامة للتعرف على موقف باشا الجزائر والتوسط في إيجاد حل سلمي بين الجزائر وفرنسا. هذه الشخصية هو السيد خليل أفندي الذي كان صديقا لباشا الجزائر والذي كان دبلوماسيا ماهرآا. وقد وصل إلى الجزائر في شهر ديسمبر 1828. ولكن أفندي فشل في مهمته، ويعود ذلك إلى شروط فرنسا التي تصر على إعادة حق صيد المرجان وإقامة منشآت مسلحة ونحو ذلك في الجزائر. ومن جهة أخرى عارض كل من وزير الحربية بورمون ووزير البحرية
دى هوسي مشروع محمد علي عند مناقشته في مجلس الوزراء، لأن المشروع، على ما هو عليه، يعتبر إهانة للشرف الفرنسي في نظرهما.
فمحمد علي لم يكن في نظرهما يختلف كثيرا عن حسين باشا: كلاهما (بربري) وقد هدد هوسي بالاستقالة إذا منحت فرنسا الأربع سفن إلى محمد علي. لذلك اضطر بولينياك إلى تعديل المشروع بتخفيض المعونة إلى 10 ملايين، أما السفن فتعار فقط. واشترط أن تكون فرنسا (مشاركة) في الحملة بأسطول هام يحمي جيش محمد علي من البحر، وبقوة هامة من الجنود والمهندسين للمشاركة في الحصار والهجوم. وفي 12 أكتوبر 1829 وافق الملك الفرنسي على المشروع المعدل وفي الحال أرسل بولينياك بعثة إلى محمد علي لحقت (يهودير) الذي كان ما يزال في طولون ينتظر سفينة تحمله إلى مصر. وقد وصل إلى الاسكندرية في 16 نوفمبر.
ولكن مجلس الوزراء الفرنسي قرر خلال جلسة 19 ديسمبر عام 1829 أن تقوم فرنسا وحدها بالحملة ضد الجزائر. وفي العشرين منه وافق الملك على ذلك مبدئيا أيضا. وفي نفس اليوم عاد هودير يحمل رفض محمد علي للمشروع المعدل. ومع ذلك لم ييأس بولينياك من التعاون مع محمد علي. ففي جلسة 3 يناير عام 1830 اقترح مجلس الوزراء تعديلا جديدا على المشروع. فقد قرر دفع 20 مليونا (كما اشترطها محمد علي) نصفها عند تحرك الجيش المصري ونصفها الباقي بعضه عند الوصول إلى طرابلس وبعضه الآخر عند الوصول إلى تونس. وقرر أيضا دفع 8 ملايين في مقابل السفن الأربع التي رفضت فرنسا إعطاءها أو إعارتها. ومن جهة أخرى قرر مجلس الوزراء إرسال الأسطول الفرنسي لحماية الحملة ابتداء من الاسكندرية. وفي 20 يناير وصل هودير من جديد عند محمد علي بالاقتراح المعدل، وقد رضي محمد علي بالاقتراح.
ولكن حملة صحفية واسعة جعلت الحكومة الفرنسية تغير موقفها.
فقد وصفت بعض الصحف مشروع محمد علي - بولينياك بأنه (غير ممكن، فظيع، مهزلة، أي مجد لفرنسا أن تستعمل مسلما ضد مسلم). كما أن روسيا وانكترا اعترضتا على المشروع. وهكذا أرسلت الحكومة الفرنسية رسولا آخر إلى محمد علي في (6 فبراير عام 1830) يعرض عليه ثمانية ملايين فرنك إذا اكتفى بطرابلس وتونس. أما الجزائر فقد رأت أن تتولاها فرنسا بنفسها. عندئذ يئس محمد علي وقطع المفاوضات مع الفرنسيين قائلا (إنهم لن يصلوا أبدا إلى الجزائر، وإذا وصلوا فلن يجرؤوا على البقاء فيها لمعارضة بريطانيا لهم)(1).
وهكذا ففي جلسة 30 يناير 1830 قرر مجلس الوزراء الفرنسي، بعد دراسة استغرقت أربع ساعات، القيام، بحملة ضد الجزائر. وفي 7 فبراير أقر الملك شارل العار مشروع الحملة وأصدر مرسوما ملكيا بتعيين الكونت دى بورمون قائدا عاما للحملة والأميرال دوبيرى قائدا للأسطول. وقد بدأت الاستعدادات الحثيثة لتنفيذ المشروع.
…
(1) عن وجهة النظر المصرية انظر زاهر رياض (صحائف مطوية من تاريخ مصر الحديث (مشروع حملة الجزائر)، في مجلة (المقتطف) ج 120 سنة 1952،ولأحمد عزت عبد الكريم دراسة حول نفس الموضوع لا أذكر الآن أين نشرها.