الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
استعدادات الجزائر لمواجهة الحملة
بينما كانت فرنسا تستعد للقيام بحملة عسكرية ضد الجزائر كانت هذه تستعد أيضا لمواجهة الحملة. وقد عرفنا استعدادات فرنسا ويهمنا الآن أن نعرف استعدادات الجزائر. ونلاحظ مند البداية أن مكان نزول القوات الفرنسية لم يكن محصنا، ويرجع ذلك إلى القيادة العسكرية التي سنعرف موقفها بعد قليل. ونلاحظ أيضا أن فرنسا قد أنزلت قواتها في سيدي فرج (14 يونيه عام 1830) بدون مقاومة. كانت هناك بعض المدافع التي نصبت عند بداية التوتر بين الدولتين، ولكنها لم تكن كافية لمواجهة أو لصد الأسطول الفرنسي.
نصب القائد العام الفرنسي (بورمون) مقر قيادته في زاوية المرابط سيدي فرج. وكانت الزاوية تشرف على الخليج بكامله. وكانت تضم مسجدا صغيرا يحوطه جدار وبعض الغرف، وحول الزاوية كانت مزارع الشعير والحنطة وأشجار التين والبرتقال والزيتون. تتوسطها نخلة وحيدة عالية. وداخل المسجد صندوق ذخائر سيدي فرج المرصع بالفضة والمرجان. وكانت ترفرف فوق المسجد أعلام وقطع ملونة من القماش الحريرى. وقد استقر كل أحد من الفرنسيين حيث شاء. فقد نصب بورمون قيادته في المسجد نفسه الذي أصبح له بمثابة مجلس وزارة وغرفة نوم في نفس الوقت. أما المتصرف العام فقد استقر تحت النخلة الوحيدة.
كان حسين باشا على علم بتفاصيل الحملة قبل وقوعها، ولكن يبدو
أنه لم يكن على علم بمكان نزولها. فقد كان يعتقد أنها لن تتعدى الضرب من البحر شأنها شأن الحملات الأوربية السابقة. وما دام قد حصن الواجهة البحرية فانه لا خوف من عواقب الحملة. ومن جهة أخرى كان لا يزال على الاعتقاد بأن الفرنسيين لن يتخلوا عن فكرة التفاوض رغم استعداداتهم للحملة، وكان يساعده على اعتقاده كثرة الرسل والبعثات التي جاءت طالبة التفاوض منذ إعلان الحصار. ولعل الباشا كان يعتمد أيضا على مساعدات بريطانيا التي كان قنصلها، بالإضافة إلى قنصل نابولي ; يقوم بنشاط ملحوظ منذ عام 1827. وقد كانت مصالح بريطانيا تقتضي استمرار النظام القائم في الجزائر كما كانت مصالحها تقتضي ذلك في المشرق. وحين كتب محمد علي ناصحا الباشا رد عليه هذا بأن يبيع الفول للمسيحيين بدل إعطائه النصائح بدون جدوى. وقد كان حسين باشا قد بعث برسله للتجسس على أخبار الفرنسيين في إيطاليا وأسبانيا ومرسيليا وطولو ن وباريس وجبل طارق ومالطة (1) ; وحين جاءته هذه الرسل تنذره بأن فرنسا تستعد للقيام بحملة اعقد أن ذلك لن يتعدى غارة بحرية ستتفشل لا محالة.
ولكن حين بلغ حسين باشا أن جيشا فرنسيا قد نزل فعلا في سيدي فرج وإنه في طريقه لضرب العاصمة من البر أخذه الخوف، فجنوده الانكشاريون الذين كانوا يشكلون جيشه النظامي لم يكونوا يتجاوزون 6000 رجل، وهي قوة صغيرة لا تكفي حتى للإبقاء على الأمن والنظام محليا. وأمام هذا الوضع رفع الجزائريون رؤوسهم التي كانت مطأطأة وبدأوا يعتدون على الجنود الأتراك في الليل ويلوذون بالفرار. وحين اثتكى الجنود إلى الباشا نصحهم بغض النظر. وحاول حسين أن يتقرب من الأهالي أيضا
(1) أرسل أيضا رسولا إلى باشا طرابلس. ويبدو أن هذا كان صديقا لحسين ولذك رفض الاستماع إلى كل من محمد علي ومبعوث فرنسا. إن كثرة الجواسيس تجعلنا لا نؤيد الفكرة القائلة أن حسين باشا لم يكن على علم بمكان نزول الحملة.
بعزل المفتي الحنفي (شيخ الإسلام) وتعيين مفتي عربي مكانه، وباستشارة الزعماء الأهليين أمثال حمدان خوجة وبوضربة. وقد واجه حسين مشاكل محلية أهمها مؤامرة أنصار الآغا يحيى الذي كان حسين قد أمر بقتله سنة 1827.
كان الآغا يحيى محبوبا من الجيش ومن العرب معا. وقد تولى قيادة الجيش حوالي 12 سنة في عهد حسين باشا. وكان قد حضر معارك كثيرة محلية فاكتسب خبرة واسعة بأحوال البلاد ونفسية الأهالي. وكان نشيطا طموحا وموهوبا. وهذه الخصائص هي التي جعلته محل شك، ولا سيما من أعدائه أمثال الخزناجي الذي كان يغار منه ويخشى صعوده إلى منصب الباشا. لذلك وجهت اليه تهمة التآمر فعزله الباشا ونفاه إلى مدينة البليدة.
(حوالي 50 كيلومترا من العاصمة). ولكن الآغا السابق استمر في اتصالاته.
ولا سيما مع العرب الذين قيل إنهم كانوا يزورونه ليلا ويعدون معه خطة للاستيلاء على الحكم. وبعد مواجهته بوثائق (مزورة) تثبت تآمره لقلب النظام حكم عليه الباشا بالموت. ولكن موته لم ينه الخوف منه، فقد ظل (كابوسا) يخيف حسين باشا.
ذلك أن أنصار القتيل قاموا بتنظيم مؤامرة للثأر له. وقد كانوا حوالي 46 شخصا، وكان زعيمهم يدعى مصطفى تيشته. وكان المتآمرون قد اتفقوا أن يغتنموا فرصة العيد ويذهبوا إلى القصبة ويتقدمون، وهم مسلحون، من الباشا لتقبيل يده. وهناك يغتالونه ويقضون على وزرائه ويستولون على السلطة ويفتحون المفاوضات مع فرنسا. فإذا لم تقبل هذه شروطهم يستدعون انكلترا للتدخل. ولكن المؤامرة اكتشفت وأمر حسين
(1) هو السيد محمد العنابي الذي سيرد ذكره (أنظر الفصل الخاص بمحضر الجزائر) ولكن ابن العنابي كان حنفيا أيضا. أنظر عنه دراستنا المنشورة في الكتاب التذكاري المقدم إلى الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، القاهرة، 1976.
باشا بقتل سبعة من أعضائها. ومنذئذ أصبح حسين يحقد على جنوده الأتراك وحاول أن يستعين بالجزائريين بدلا منهم.
تولى القيادة بعد يحيى صهر حسين باشا وهو الآغا ابراهيم. وقد كان ابراهيم هذا عاجزا عن أداء مهمته. فهو لم يكتف يبعدم القيام بأية استعدادات لصد العدو بل إنه عارض اقتراحات زملائه، أمثال الحاج أحمد باي قسنطينة بعدم تعريض الجيش كله إلى لقاء واحد مع العدو، ووجوب مقاومة العدو في حرب مناوشات وليس في حرب مواجهة. وكان ابراهيم يقول لهم دائما إنه الوحيد الذي كان يعرف مناورات وتكتيك العدو الحربي. وقد تلقى كل جندي من ابراهيم عشر رصاصات فقط كانت في نظره تكفي للإطاحة بنصف الجيش الفرنسي (وبعد ذلك ليس هناك حاجة لتوزيع البارود).
عين ابراهيم قائدا للجيش إثر ضرب السفينة الفرنسية (لابروفانس)(3 أغسطس 1829). وقد سلمت له عندئذ خطة الفرنسيين في الهجوم ومكان نزول قواتهم وعدد جنودهم ومدافعهم. ومع ذلك لم يستعد لأي شيء وكان يدعي أن الجزائريين (القبائل) سيرغمرن الفرنسيين على الفرار منذ نزولهم على الأرض. ولكنه لم يصدر أوامره لهؤلاء الجزائريين لكي يأتوا من بواديهم لمواجمة العدر في سيدي فرج، فكان كل جيشه مكونا، كما يقول خوجة، من أهالي متيجة الذين لا يعرفون سوى بيع الحليب (1)!
وكان ابراهيم يدعي أن لديه 5،000 من المغامرين سيذهبون ليلا إلى معسكر العدو ويشيعون فيه الفوضى والاضطراب حتى يقتل الفرنسيون بعضهم بعضا. أما أهل جرجرة فقد تخلوا عن ابراهيم وذهبوا في حالهم لأنه
(1) المرآة، 177 والإشارة إلى أن الآغا إبراهيم قد تسلم خطة الفرنسيين منذ 1829 يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الداي كان على علم بالحملة.
لا يعطهم لا ذخيرة ولا مؤونة: (فلو كان الآغا يحيى على رأس الجيش الجزائري (بدل ابراهيم) لكانت الأمور أحسن حالا لأن تجاربه في البحر والبر وشجاعته في كل المناسبات تكون ضمانا للجندي الذي يعمل تحت أواره (1).
أما الأغا إبراهيم فقدكان لا يوحي إلا باليأس والفشل.
أرسل حسين باشا المراسيل إلى داخل البلاد يدعون إلى الجهاد ضد الفرنسيين. وقد استجاب لندائه الرسميون والأهالي على السواء. فوعده لحاج أحمد باي قسنطينة ب 30،000 محارب، ووعد حسن باي وهران ب 6،000 محارب بقيادة الخليفة، نظرا لكبر سن الباي، ووعد مصطفى بومزراق باي التيطرى ب 20،000 محارب، وجمع شيوخ جرجرة بين 16 و18 ألف محارب، وجمع أهالي ميزاب حوالي 4،000 محارب.
وأرسل حسين أيضا إلى باي وهران يأمره بتحصين الميناء كما أرسل إلى باي قسنطينة يأمره بتحصين ميناء عنابة ويستقدمه إلى العاصمة طبقا للتقاليد التي تقتضي القدوم كل ثلاث سنوات، وأمر الباشا أيضا بإجراء إحصاء لعمال مدينة الجزائر وإرسالهم إلى القلاع للدفاع عنها.
ورغم هذه الاستعدادات الظاهرية فإن الواقع كان يكشف عن بعض الأخطاء. فبدلا عن أن يستعمل حسين هذه القوات في صد الهجوم الفرنسي من سيدي فرج أبقاه بعيدة عن العاصمة بعدة كيلومرات. وحين عبر له بعض الأجانب عن استغرابه من هذا الإجراء أجابه حسين بأنه فعل ذلك ليسهل تحطيم العدو. كان حسين ينظر بثقة إلى جنوده وتحصيناته، وكان يعتقد أن القصبة لا تهزم وأنها تستطيع أن تقاوم عدة سنوات. ولم يدعم معسكراته سوى ببعض مئات من الجنود، ولكنه حصن الميناء وزوده بثلاث سلاسل على الأقل نصبت خلفها المدافع. وفي اليوم الذي نزل فيه
(1) نفس المصدر، ص 176.
الجيش الفرنسي في سيدي فرج لم يكن هناك لا مدافع ولا خنادق (1). ولم يكن لدى الآغا ابراهيم أكثر من 300 فارس. وكان باي قسنطينة لا يملك إلا عددا قليلا من المحاربين. أما باي التيطري فقد كان ما يزال في عاصمة إقليمه (المدية) ولم يصل إلا بعد عدة أيام من نزول الجيش الفرنسي.
أما جيش إقليم وهران فلم يكن بعيدا عن سيدي فرج وكان تحت قيادة خليفة الباي. وكان باي التيطري قد وعد الباشا 20،000 فارس، منهم 10 آلاف برماحهم (2)، ولكنه حين وصل إلى الميدان لم يأت معه بأكثر من ألف رجل.
هذه القوات كانت مجتمعة في معسكر (اسطاويلي). وكان الآغا ابراهيم مع فرقة من سكان متيجة وأخرى من أعالي جرجرة. كانت القوات تذهب كل يوم إلى معسكر الحراش الواقع شرقي العاصمة والذي يبعد مسافة أربع ساعات من اسطاويلي وتعود منه كل صباح. وقد رفض ابراهيم استراتيجية باي قسنطينة التي تقوم على توزيع القوات الجزائرية - العثمانية وجعل جزء منها غرب سيدي فرج حتى تمنع العدو من تحقيق هدفه وهو العاصمة. وقد انتقد الباي أحمد الخطة قائلا بأن وضع القوات على ما هي عليه سيكون (مرشدأ) للقوات الفرنسية في زحفها نحو العاصمة ونادى بضرورة العناية بالجيش وأن يأخذ كل قائد مجموعة منه ويعدها إعدادا كافيا.
كما طالب الباي أحمد بضرورة حفر الخنادق حول المعسكر.
ولكن رد الآغا ابراهيم على هذه الاقتراحات كان سلبيا ومثبطا.
فقد أجاب الباي بأنه لا يعرف التكتيك الحربي الأوربي الذي يخالف التكتيك الحربي العربي. فلم يسع الباي سوى الصمت ، وفي آخر لحظة اقتنع الآغا
(1) كان هناك حوالي 12 مدفعا صغيرا وضعها الآغا يحيى عند بداية الحصار، والظاهر أن عدد القوات الجزائرية المذكورة مبالغ فيه جدا.
(2)
لذلك سمى الباي (بمزراق) أي بورمح.
بضرورة حفر الخندق الذي كان يرى أنه سيكون معطلا لجيشه لا لجيش العدو. وقد أذاع الجيش بأن كل عربي بدون سلاح يأتي ويأخذه وعندما حضر والديه ليلا أعطاهم الفؤوس بدلا من الأسلحة وأمرهم بحفر الخندق. فثم ذلك في ليلة واحدة، ولكن الخندق كان غير مفيد في النهاية فلم يحم المدافع ولم يعرقل سير تقدم العدو. ومن جهة أخرى رفض الآغا معاقبة جندي انكشاري قتل جزائريا لكي يبيع رأسه في المدينة على أنه رأس جندي فرنسي. وقد أثار هذا الحادث حفيظة الجنود الجزائريين الذين كانوا في جيشه.
وأثناء هذه الساعات الحرجة جاء جزائري يدعى أحمد بن شنعان إلى المعسكر الفرنسي للتعرف على ما إذا كان الفرنسيون قد جاءوا مستعمرين أو محررين. وبعد قضاء ليلة واحدة تركوه يعود من حيث أتى بعد أن زودوه بنسخ من (البيان) الذي كانوا قد وجهوه إلى الجزائريين أهالي المغرب العرب عامة، والذي يوضح أن الفرنسيين قادمون إلى الجزائر للانتقام لشرفهم من الباشا وأنهم سيعاملون الجزائريين كما عاملوا (إخوانهم) المصريين من قبل (1). وفي نفس الوقت توجه مترجم سوري في الجيش الفرنسي إلى المعسكر الجزائري محاولا إقناع القيادة بالتفاوض مع الفرنسيين، ولكنه حمل من هناك إلى حسين باشا الذي أمر بقتله بعد أن ظن أنه يحاول التأثير عليه بوصفه للقوات الفرنسية بالكثرة والضخامة (2).
وهناك عدة أمثلة على تهاون الآغا ابراهيم. فقد ذكر حمدان خوجة أنه حضر العشاء ليلة معركة اسطاويلي مع القواد: باي قسنطينة، وخليفة باي وهران وباي التيطري، وخوجة الخيل، بالإضافة إلى الآغا ابراهيم.
(1) أسكير، ص 203. وقد يكون في نسج هذه القصة والقصة التي قبلها شيئا من الاختلاف.
(2)
نفس المصدر ص 304.
وقد انفرد بحمدان خوجه وأخبره بأن فلانا وفلانا قد ذهبوا إلى المعسكر الفرنسي وأظهروا أنفسهم أصدقاء لفرنسا وأعطوا العدو تقارير خاطئة عن حالة البلاد وحالة الجيش.
وكان ابراهيم قد استلم نقودا من حسين باشا لتوزيعها على المحاربين لتشجيعهم ولكنه لم يعط أحدا منهم شيئا. ووعد الباشا أيضا الجزائريين بأن كل من يحمل إليه رأس عدو يعطيه 500 فرنك، وكلف الآغا بدفع المبلغ في مكانه مقابل وصل استلام، ولكن الآغا لم يدفع شيئا وكان يقول لمن يأتيه برأس العدو تعال خذ المبلغ بعد المعركة. وفي صباح المعركة بالذات خرج ابراهيم وحاشيته من المعسكر إلى سيدي فرج تاركا المعسكر خاليا إلا من حوالي 40 شخصا كانوا يحرصون الأثاث، ولكنهم كانوا بدون سلاح (1). ويذكر خوجة أيضا أنه قد خرج ذات ليلة ومشى إلى وسط المعسكر وذهب إلى خيمة الآغا ابراهيم لقضاء بعض حاجته وعاد من حيث أتى دون أن يشعر به أحد ودون أن يرى أي علامة للاستعداد ضد هجمات العدو (2).
فمن كان المخطىء حقا: إبراهيم نفسه أو حسين باشا الذي عين صهره أغا الجيش؟ إن بعض المعاصرين للحملة يرون أن تعيين ابراهيم كان خطأ فادحا ارتكبه حسين باشا لم يرتكب مثله خلال حكمه الطويل. (إنها غلطة رئيسية لا تغتفر). وهو حكم صادر من صديق لحسين باشا. وسنعرف أن حسين كان يصر على الإبقاء على الآغا حتى بعد هزيمته في أسطاويلي. إن حسين هو الذي عزل الآغا يحيى وعين خلفا له قائدا جاء ليحارب فرنسا (بدون جيش منظم، وبدون ذخيرة، وبدون مؤونة، وبدون شعير للخيل، وبدون المقدرة الضرورية على مواجهة الحرب)(3).
(1) خوجه، المرآة، ص 182.
(2)
نفس المصدر، ص 183 - 184.
(3)
نفس المصدر، ص 185.
عند الهزيمة في اسطاويلي (19 يونية عام 1830) هرب ابراهيم من الميدان وترك خلفه الجيش والخيام، والفرقة الموسيقية والأعلام. وقد اختفى في دار ريفيه مع بعض خدمه. وبدل أن يعزله حسين باشا في الحين ويعين خلفا له يعيد الروح المعنوية للجيش ويواجه به العدو الزاحف، أرسل حمدان خوجة إليه الذي كان موضع ثقته ليحاول إقناعه بضرورة استلام القيادة من جديد. وقد وجده خوجة محطم المعنويات منكسر القلب.
وبصعوبةكبيرة أقنعه بضرورة الاستمرار في مهمته. ولكن الأغا الذي كان طفلا في تصرفاته لم يستطع أن يواصل مهمته. فعندما تقدم الجيش الفرنسي من أسطاويلي مارا بمعسكر سيدي خلف اختفى ابراهيم من جديد.
وأمام ذلك عزله حسين باشا ودعا المفتي (1) وأعطاه سيفا وأمره بحمع الشعب وإقناع الناس بالجهاد دفاعا عن البلاد. كان المفتي رجلا فاضلا ولكنه كان صالحا للإفتاء لا للقيادة ومن جهة أخرى أحاط به بعض رجال الحضر وحاولوا إقناعه بأن الأمل ضعيف في النجاح، وأن الباشا يخوض معركة خاسرة، وأن (الشعب بدون قائد). وفي نفس الوقت كان الجيش الفرنسي يقترب من قلعة (مولاي حسن)(قلعة الامبراطور)، فزاد ذلك الأفكار بلبلة والأمل بنجاح المقاومة بعدا. أما قيادة الجيش فقد تولاها الباي مصطفى بومزراق. ولكن تبديل القيادة في مثل تلك الظروف لم يكن يدل على الحكمة وبعد النظر. ورغم أن القائد الجديد كان يمتاز بالشجاعة والتجربة فإنه اكتفى بجمع الغنائم واختيار البنادق الطويلة لإطلاق الرصاص بنفسه على الفرنسيين.
ومما زاد الأمر سوءا أن حسين باشا كان يثق في وزير ماليته (الخزناجي) الذي كان في الواقع يتآمر عليه. وكان الخزناجي طموحا
(1) هو محمد بن العنابي الذي نفاه كلوزيل فيما بعد. (أنظر فصل حضر الجزائر).
إلى درجة المبالغة وغيورا إلى درجة الحقد. وقد أودت آراؤه بحياة الآغا يحيى من قبل، وهو الآن يعمل للاستيلاء على الحكم من يد حسين. وكان يتقرب من الانكشارية الذين لا يصعد أي متآمر إلى السلطة إلا بأيديهم.
كان الخزناجي قد عين للدفاع عن قلعة مولاي حسن. ومن هناك بدأ يعد مشروعا للتفاوض مع الفرنسيين على شروطهم. وكان نشاطه يزداد كلما اقترب الجيش الفرنسي من القلعة. وكان لا يبالي بترك أبواب القلعة مفتوحة، أما الذين كانوا معه فقد كانوا مستعدين للفرار في أية لحظة، ولاضطرابه نسف مخزن البارود الصغير الذي كان في القلعة فأحدث ضجة وزلزالا هائلا اهتزت له المدينة. ولو نسف المخزن الكبير لأحدث أضرارا كبيرة بالمدينة والسكان.
وبعد استيلاء الفرنسيين على قلعة مولاي حسن جمع حسين باشا أمناء الطوائف وأعيان المدينة ورجال القانون والدين وشرح لهم الوضع الذي عليه البلاد وطلب منهم النصيحة فيما يفعل لمواجهة الوقف. وقد وضع أمامهم السؤال التالي: هل يعتقدون أنه من الصواب مواصلة المقاومة ضد الفرنسيين أو يجب تسليم المدينة إليهم (الفرنسيين) والتوقيع معهم على معاهدة استسلام. ولكن الحاضرين وجدوا أنفسهم في حرج، فهل ينصحون بالاستسلام بينما قد يكون رأيه هو المقاومة؟ وبعد تقليب الموضوع من عدة وجوه أجابوه بجواب غامض، وهو أنهم على استعداد لمواصلة الحرب، لكن إذا كان رأيه غير ذلك فهم يطيعون أوامره.
وشيئا فشيئا بدأت روح الهزيمة تدب في أوصال الجهاز الإداري والجهاز الاجتماعي أيضا. وقد كان للبيان الذي وزعه الفرنسيون بمهارة تأثير كبير على بعض الأشخاص الذين يسمون أنفسهم بالمعتدلين (1). وكان هؤلاء قد اقتنعوا بأن الفرنسيين قد جاءوا حقا (محررين) للجزائريين من
(1) أنظر هذا البيان في كتابي: (الحركة الوطنية الجزائرية)(دار الآداب، بيروت، عام 1969) ملحق 1.
سلطة الأتراك، وكانوا يعتقدون أن فرنسا المتحضرة لا يمكن أن تعد بشيء إلا إذا كانت راغبة في التنفيذ. فأصبح هؤلاء من أنصار الحل السلمي. وقد تسبب البيان (الغامض الفارغ)، الذي كان مقصودا به الدعاية فقط، في (شل الطاقة المحاربة) لدى بعض الجزائريين (1).
ففي ليلة 2 يوليو عام 1830، أي قبل ثلاثة أيام من دخول الجيش الفرنسي للمدينة، اجتمع عدد من أعيان مدينة الجزائر في قلعة باب البحرية.
لقد كان هؤلاء يمثلون التجار وأرباب المال. وقرروا أن ضياع المدينة أصبح أمرا محتما، وأنه إذا ما دخلها الفرنسيون عنوة فإنهم سيبيحونها وينهبون ثرواتها ويعتدون على النساء ويقتلون الأطفال. ورأوا، تفاديا لذلك، قبول اقتراح الباشا الثاني الذي ينص على الاستسلام بعد توقيع معاهدة وكان لسان حالهم أن أمة شريفة مثل فرنسا لا يمكن أن تعد ولا تفي. حقا أن الأتراك أقرب إلى الجزائريين من ناحية الدين ولكن الفرنسيين سيتركون الجزائريين يتمتعون بدينهم وتقاليدهم وسيتركون لهم أملاكهم ومساجدهم وزواياهم. فلماذا إذن يقاومون الجيش الفرنسي ويزهقون الأرواح بدل التوقيع على معاهدة استسلام؟ وفي النهاية قرروا عدم مقاومة الفرنسيين عند دخول المدينة وأرسلوا وفدا عنهم إلى القصبة لمقابلة الباشا وإطلاعه على ما اتفقوا عليه. وقد أجابهم الباشا بأنه سينظر في القضيه خلال اليوم التالي.
وفي اليوم المعين (4 يوليو 1830) أرسل حسين كاتبه مصطفى مصحوبا بالقنصل الانكليزي إلى مقر القيادة الفرنسية للتفاوض مع بورمون. ومع الوفد المذكور ذهب أيضا أحمد بوضربة (2)، وحسن بن حمدان بن عثمان خوجة بعنوان مترجمين. ولم يكن حسين يدري عندئذ أن كاتبه كان عضوا في المؤامرة التي يتزعمها الخزناجي للإطاحة به. وعلى أية حال فقد كان مصطفى يفاوض بورمون لا باسم حسين باشا ولكن باسم الخزناجي، واعدا بورمون
(1) خوجه، المرآة، ص 192.
(2)
عنه أنظر فصل الحضر.
بأنه سيحمل إليه رأس حسين وأنه مستعد للتفاهم مع فرنسا على ما تشاء. غير أن بورمون أجابه حسب الرواية الفرنسية بأنه لم يأت لمساعدة المتآمرين ولكنه جاء لكي يحارب. وقال إنه يقبل اقتراح حسين باشا الذي ينص على الاستسلام وبعد التفاوض ومراجعة الباشا وقعت المعاهدة التالية يوم 5 يوليو 1830:
1 -
تسلم قلعة القصبة وكل القلاع الأخرى المتصلة بالمدينة وميناء هذه المدينة إلى الجيش الفرنسي هذا الصباح على الساعة العاشرة.
2 -
يتعهد القائد العام للجيش الفرنسي أمام سعادة باشا الجزائر أن يترك له الحرية وكل ثرواته الشخصية.
3 -
سيكون الباشا حرا في أن يذهب هو وأسرته وثرواته الخاصة إلى المكان الذي يقع عليه اختياره. فاذا فضل البقاء في الجزائر فله ذلك هو وأسرته تحت حماية القائد العام للجيش الفرنسي وسيعين له حرس لضمان أمنه الشخصي وأمن أسرته.
4 -
يتعهد القائد العام لكل الجنود الانكشاريين بنفس المعاملة ونفس الحماية.
5 -
سيظل العمل بالدين الإسلامي حرا، كما أن حرية السكان مهما كانت طبقتهم، ودينهم، وأملاكهم، وتجارتهم. وصناعتهم لن يلحقها أي ضرر. وستكون نساؤهم محل احترام. وقد التزم القائد العام على ذلك بشرفه.
وسيتم تبادل وثائق هذا الاتفاق قبل الساعة العاشرة هذا الصباح، وسيدخل الجيش الفرنسي حالا بعد ذلك إلى القصبة ثم يدخل كل القلاع التي حول المدينة كما يدخل الميناء (1).
توقيع: الكونت دي بورمون
ختم حسين باشا، داي الجزائر
(1) نص هذه المعاهدة مترجم من كتاب (المرآة) لحمدان خوجة، ص 195 - 196.