الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل العاشر
الحياة الثقافية
عرف العهد العثماني في الجزائر بالركود الثقافي شأنه في بقية البلاد العربية، فلم تكن هناك حركات تجديد فكرية ولا انتفاضات علمية ذاتية أو متأثرة بالبلاد الأوربية. ورغم أن العربية ظلت لغة التعليم ولغة الشعب فإن الدولة قد اتخذت التركية لغة رسمية. ومن جهة أخرى سيطرت اللغة الخليط (لغة فرانكا) على التبادل التجاري. فكان إنتاج اللغة العربية يكاد ينحصر في الموضوعات الدينية والتعليمية وقليل من الشعر. وقد ترك العهد التركي بعض الشعراء وكتاب التاريخ والرحالة وحتى بعض المتطببين، ولكن مكانتهم ما زالت في حاجة إلى تقييم ودراسة في ضوء الوثائق التي يعثر عليها الباحثون من وقت لآخر (1).
وفي الوقت الذي كان يمكن فيه للثقافة العربية أن تتحرر وتنتج نتيجة اتصالها بأوربا في فاتح القرن الماضي واجه الجزائريون الاحتلال الفرنسي الذي نزل عليهم كما يقول حمدان خوجة كحمل من رصاص. فنزح الأدباء والعلماء إلى المشرق وبعثرت الأسر والمكتبات. وحوربت لغة التعليم وأغلقت المدارس العربية. وهكذا شهدت الجزائر نكسة عميقة أدت إلى تأخر الدراسات العربية فيها.
وتشهد كتب الرحالة الأجانب الذين زارو الجزائر خلال العهد العثماني أن التعليم كان منتشرا وأن كل جزائري تقريبا كان يعرف القراءة والكتابة.
وقد كان التعليم حرا من سيطرة الدولة ومن سيطرة الحكام العثمانيين، فكان سكان كل قرية ينظمون بطرقهم ووسائلهم الخاصة تعليم القرآن والحديث والعلوم العربية والإسلامية، لأن دراسة هذه العلوم هي السبيل
(1) بعض الآراء الواردة في هذا الفصل تحتاج إلى إعادة نظر ومع ذلك تركتها على حالها. فقد كتبت الفصل قبل ما تتضح لي معالم الثقافة في العهد العثماني. وسأبز هذه المعالم في كتابي (تاريخ الجزائر الثقافي) الذي أحرره الآن.
إلى معرفة وفهم أسرار الدين والقرآن والسنة. ولذلك كان القرآن أساسا للتعليم في الجزائر سواء كان تعليما ابتدائيا أو ثانويا أو عاليا. وكانت المدارس على مختلف مستوياتها تمول وتغذى بالأوقاف التي يحبسها أهل الصلاح والخير من الرجال والنساء، وفي بعض الأحيان كان يحبسها موظفون سامون في الدولة كعمل من أعمال الخير. فكان هناك أملاك خاصة وعقارات وأراض يذهب ريعها لبناء المدارس وتوظيف المعلمين وتوفير المساكن للطلبة. فالأوقاف كانت الأساس في تدعيم التعليم وحماية الطلبة والمعلمين.
والواقع أنه ليست كل الأوقاف مخصصة للتعليم فقد كانت هناك أوقاف لعدة مصالح أخرى مثل العناية بالحج، وتسمى أملاك مكة والمدينة. وهناك أوقاف لإقامة العيون وحماية الثكنات، وهناك أوقاف أخرى لبناء واستصلاح المساجد والزوايا كأوقاف (سبل الخيرات) وهي عبارة عن جمعية كانت تشرف على ثمانية مساجد في العاصمة. وقد بلغ دخلها سنة 1837 حوالي 13،639 فرنكا. وكانت هناك أوقاف خاصة بالجامع الكبير بالعاصمة أيضا. وقد بلغ دخلها 12،000 فرنك. بالإضافة إلى أوقاف أخرى كانت منتشرة في مختلف مدن الجزائر.
وإلى جانب أوقاف التعليم والحج كانت هناك أوقاف مخصصة للصدقة وأعمال البر. ففي سنة 1837 بلغ دخل أوقاف مكة والمدينة في العاصمة 122،503 فرنك. وكانت هذه الأوقاف مخصصة لإيواء فقراء مكة والمدينة مجانا، وكان الفائض منها يذهب إلى فقراء الأماكن المقدسة سواء كانوا في المشرق أو في الجزائر (1). وقد استولت السلطات الفرنسية
(1) استولت فرنسا على هذه الأوقاف عند احتلال الجزائر. وقد أدى ذلك إلى خلافات وخصومات شديدة مع الأهالي وظهرت في كتابات السياسيين أمثال حمدان خوجة. انظر (المرآة)، ولا سيما الفصل الذي عنوانه:(الأملاك الدينية المسمات بالوقف) ص 276. وقد عثرنا على وثيقة بمكتبة باش تارزي بقسنطينة تشهد على ما كان أهل هذه المدينة يرسلونه من نقود إلى الحرمين ليوزع على الفقراء هناك، وفي الوثيقة قائمة بأسمائهم (ومعظمهم من فئة العلماء) وهي تعود إلى أوائل القرن 19.
على هذه الأملاك فأحدث ذلك رد فعل عنيف لدى السكان وقاد إلى نفى القاضي والمفتي وإلى طرد عدد من الزعماء من الجزائر. وكان هناك أيضا أوقاف سيدي عبد الرحمن التي كانت تدخل حوالي 600 فرنك سنويا توزع على فقراء مدينة الجزائر بمعدل حوالي 3 فرنكات للفرد. وهناك أوقاف أهل الأندلس التي كانت مخصصة إلى النازحين من الأندلس ومساعدة المنفيين المسلمين من أسبانيا. وكان دخل هذه الأوقاف حوالي 5،000 فرنك سنويا. وقد استفادت منها عند دخول الفرنسيين بعض العائلات التي كانت من أصل أندلسي.
ولكن هذه الأوقاف لم تكن دائما لأغراض خيرية. ففي أحيان كثيرة كان الناس يوقفون لحماية أملاكهم من الضياع أو لحمايتها من يد السلطة. ومن حقهم أن ينصوا على أن يستفيد منها الأحفاد والفقراء. وكانت النساء تستفيد من هذه الأوقاف، ولا سيما عند الولادة أو اليتم أو الفقر. وكثيرا ما كانت الأسر تلجأ إلى طريقة الوقف لعدم ثقتها في صلاح الورثة.
ولكن كل هذه الأغراض كانت ثانوية إلى جانب الغرض الرئيسي من الأوقاف وهو خدمة العلم ومساعدة الفقراء والمساكين.
وقد كان هناك قيم أو وكيل على كل مؤسسة خيرية. وكانت مهمته العناية بالأوقاف ومراقبة الدخل. وكانت الأوقاف لا تباع إلا في الأحوال النادرة وعندما يخشى عليها التلف. فإذا كانت الأوقاف عامة فإن الدولة تعين عليها موظفا رسميا. أما إذا كانت خاصة فإن هناك مجلسا يقوم بتعيين رجل صالح يراقبه المجلس. وهناك أخطاء قد ارتكبت ولا سيما في الأحوال العامة حيث الرقابة ضعيفة إلا من الضمير.
أما التعليم الذي كانت ترعاه هذه الأوقاف فقد كان على ثلاثة مستويات: الابتدائي والثانوي والعالي. فبالنسبة للتعليم الابتدائي كان كل طفل بين السادسة
والعاشرة يذهب إلى المدرسة. والملاحظ أن هذا بخصوص الأطفال الذكور.
أما الإناث فلا يذهبن إلى المدارس إلا نادرا، ولكن أصحاب البيوتات الكبيرة كانوا يجلبون أستاذا معروفا بصلاحه وعلمه لتعليم البنات. وفي كل قرية صغيرة (أودوار) كانت هناك خيمة تدعى (الشريعة) خاصة بتعليم الأطفال ويشرف عليها مؤدب يختاره سكان القرية لهذا الغرض. أما في المدن والقرى الكبيرة فقد كانت هناك مدارس تدعى (مسيد) أو مكتب، وكانت غالبا ملحقة بالوقف، وإلى جانب ذلك كان كل جامع تقريبا يضم مدرسة للتعليم أيضا.
كان لكل مؤدب أجره خاصة ولكنها كانت غير قارة، فهي تختلف حسب حالة أولياء التلاميذ المادية: كانت كل أسرة تدفع على قدر حالها، وفي الأعياد وعندما يحفظ الطفل القرآن يأخذ المؤدب أجرا إضافيا. وكثيرا ما يجمع المؤدب إلى وظيفة تحفيظ القرآن وظيفة أخرى كالإمامة والأذان.
وكان المؤدب محل احترام سواء كان في القرية أو المدينة ويعيش بالمقارنة عيشة طيبة. ونذكر بعض المصادر أن أحد المؤدبين في قسنطينة كان يتقاضى حوالي ثلاثين فرنكا سنويا على الطفل الواحد من الهدايا والتعويض عند حفظ القرآن والأجرة المعينة. وكان لدى المؤدب حوالي 25 طفلا.
فكان يناله حوالي فرنكين في اليوم بالإضافة إلى دخله من بعض الوظائف الأخرى (1). ولم يكن هناك رقابة رسمية على المؤدب ولكن أولياء التلاميذ يستطيعون عزله إذا أرادوا. وكان يكفي في المؤدب أن يعرف جيدا القراءة والكتابة. أما أهل البادية فكانوا يرسلون أطفالهم للتعليم في المدن حيث يقيمون عادة مع عائلات صديقة أو يصرف عليهم مجانا من الأوقاف.
(1) انظر: مارسيل إيميري (الحالة العقلية والمعنوية في الجزائر سنة 1820)، (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر R.H.M.C يوليه وسبتمبر من عام 1954) ص 202.
وتذكر بعض المصار أنه كان في كل قرية مدرستان (1). وكانت المدن تختلف في عدد المدارس. فقسنطينة في عهد الباي الحاج أحمد كانت تضم 86 مدرسة ابتدائية. وكان يختلف إليها حوالي 1.350 تلميذا وكان في تلمسان في حوالي نفس الفترة 50 مدرسة ابتدائية.
ومدة التعليم الابتدائي حولي أربع سنوات يتعلم الطفل خلالها مبادىء القراءة والكتابة ويحفظ القرآن وأركان الإسلام وشعائر الدين. وإذا كان الفقراء يكتفون بهذا القدر من التعلم فان الأغنياء يواصلون تعلمهم. وبذلك يدخلون المرحلة الثانوية. ويذكر بعضهم أن عملية الحفظ كانت صعبة على الطفل لأن العربية الكلاسيكية تعتبر (لغة أجنبية، (2). والواقع أن الصعوبة لا ترجع إلى كون اللغة أجنبية ولكن إلى طريقة التعلم نفسها. وأن كثيرا من الألفاظ التي يحفظها الطفل في هذه المرحلة لم تكن موجودة في البيت وفي الشارع.
كان التلميذ يستطيع أن يواصل تعليمه الثانوي في الجامع أو في مدرسة ملحقة بالأوقاف. وكان التعليم الثانوي مجانا. وكان الباي هـ الذي يسمي المدرس باقتراح من الناظر، ويتلقى المدرس أجرته من الأوقاف وهي تبلغ بين مانة إلى مائتين من الفرنكات سنويا. وكان يسكن مجانا. وغالبا ما يجمع إلى وظيفة المدرس وظائف أخرى كالقضاء أو الإفتاء. وكان يسود الاعتقاد أن المدرس يقضي وقته يعد الدروس، ولذلك يأتيه الناس بالضروريات كالماء والزيت للمصباح. كما كانوا يأتونه يوميا بحلويات رمضان وملابس العيد، والطعام. ومن جهة أخرى كان التلاميذ أيضا يحصلون من الأهالي على الحلوى والزيت للمصباح وعلى السكن مجانا والماء.
(1) حديث بوضربة أمام (الجنة الأفريقية) ص 39 - 43. ولزيادة التفاصيل راجع: كتابي (الحركة الوطنية الجزائرية) ص 73 - 75.
(2)
إيميري ص 202 - 202.
وكان في العاصمة وقسنطينة وتلمسان جوامع ومدارس وزوايا لإيواء التلاميذ. ففي قسنطينة، حيث كان 35 جامعا و7 مدارس، كان 150 تلميذا من 700 يحصلون على أجرة سنوية من دخل الأوقاف تبلغ 36 فرنكا.
وكان معظم هؤلاء التلاميذ من سكان الأقاليم وقد أعدت لهم زوايا خاصة لسكناهم بلغت ست عشرة زاوية. وقد كان في العاصمة ست زوايا لهذا الغرض: ثلاث لعرب الغرب واثنتان لعرب الشرق. أما الأخيرة فقد أعدت لإيواء المدرسين في العاصمة، والذين ليس لهم عائلات مقيمة (1). أما تلمسان فقد كان فيها عدد كبير من هذه الزوايا. كما كان فيها مدرستان إحداهما مدرسة الجامع الكبير والأخرى مدرسة أولاد الإمام. وفي ضاحية تلمسان كانت أيضا مدرسة قرية عين الحوت.
والزوايا لم تكن مقصورة على المدن، بل كانت هناك زوايا في الأرياف تقام تخليدا لأحد المرابطين ويقام بجانبها جامع للصلاة وبئر للشرب والوضوء.
وتخصص الأرض لهذه الزوايا الريفية فيحرثها الأهالي ويستعمل دخلها لمساعدة المدرسين والطلبة. ويخصص أهل الخير جزءا من محصولهم السنوي للزاوية التي توجد في منطقتهم. وكانت هذه الزوايا منتشرة، ولا سيما في الغرب الجزائري، وكان في منطقه تلمسان وحدها أكثر من ثلاثين زاوية، وهناك أخريات منتشرات في جهات الونشريس ومعسكر وسيدي بلعباس ومستغاتم. أما متيجة ومنطقة جرجرة فقد كانت تضم أكثر من ثماني زوايا أشهرها زاوية البركاني قرب شرشال، وزاوية ابن علي الشريف في أقبو، وزاوية النميلي في بني موسى، الخ.
(1) من ذلك ما رواه ابن حمادوش الجزائري في رحلته من أن الشيخ أحمد الورززي التيطواني قد نزل في مدرسة الجامع الكبير بالعاصمة، وكان ذلك حوالي منتصف القرن 18.
وكان يتلقى العلم في المرحلة الثانوية حوالي 3،000 تلميذ في كل إقليم من الأقاليم الثلاثة. وكانت الدروس تشتمل على النحو والتفسير والقرآن، وينال الطالب في النهاية (إجازة) تشهد له بأنه قد درس جميع العلوم التي تدخل في نطاق تخصصه: والإجازة ليست شهادة مكتوبة ولكنها تعبير شفوي من المدرس إلى التلميذ. ومتى حصل التلميذ على الإجازة يصبح (طالبا) يستطيع قراءة القرآن في الجامع ويتولى وظيفة مؤدب أو كاتب.
وليس هناك فصل واضح بين التعليم الثانوي والعالي. والأستاذ الذي يدرس في العالي يسمى (عالما). أما عدد الطلبة فقد كانوا بين 600 إلى 800 في كل إقليم يواصلون تعليمهم العالي. وكان الأساتذة في هذا المستوى يتقاضون أجورهم من الأوقاف أيضا، وكانت الدروس العالية تعطى في الزوايا وأهم الجوامع. ففي إقليم وهران كان الجامع الكبير في تلمسان وجامع سيدي العربي والزاوية القادرية (التابعة لأسرة الأمير عبد القادر). وفي إقليم الجزائر كانت زاوية ابن المبارك بالقليعة، وزاوية مليانة، وزاوية بني سليمان، وزاوية ابن محيي الدين. أما في إقليم قسنطينة فهناك الجامع الأخضر، وجامع سيدي عقبة، وزارية ابن علي الشريف في جرجرة (1).
وأهم مواد التعليم العالي هي النحو والفقه الذي يشمل العبادات، والمعاملات، والتفسير، والحديث، والحساب والفلك، بالإضافة إلى التاريخ والتاريخ الطبيعي والطب. لكن كان يغلب على الدراسة طابع العصور الوسطى وقلة التجديد، والحفظ ، وهناك عدد من الجزائريين درسوا وتخرجوا بهذه الطريقة في العهد العثماني. ولكنهم اختفوا في بداية الاحتلال. وقد كان حمدان خوجة ووالده من الذين درسوا على هذه
(1) لم يكن في الجزائر مؤسسة ثقافية عريقة كالأزهر في مصر والزيتونة في تونس: ولذلك كان علماء الجزائر يهاجرون بحثا عن الاستزادة من التعليم في العواصم الإسلامية.
الطريقة. ولكن الجزائريين المنتجين كانوا قلة. وكانت الدراسة في شكلها الذي وصفناه تساعد على إخراج الموظفين في المجال الديني والكتابة ولكنها لا تساعد على إخراج المنتجين في ميدان الفكر والأدب (1).
فإذا رجعنا إلى الحياة الفكرية والأدبية فإننا نجد بعض المحاولات الطيبة ولكنها لا تدل على نهضة ثقافية. فقد شهد القرن الثامن عشر حملين من كتابة الرحلات أحدهما لمفتي الجزائر المالكي، أحمد ابن عمار، الذي سجل ملاحظاته أثناء رحلته إلى مكة، وثانيا حسين الورتلاني الذي كتب أيضا رحلته إلى المشرق. وشهدت علوم الفقه وأصول الدين تقدما على يد عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني والشيخ عبد العزيز الثميني الميزابي. أما الأدب فإننا نجد الشيخ محمد أبوراس الناصري يخلد شعرا ونثرا انتصار محمد الكبير، باي وهران، على الأسبان سنة 1791، ويسجل فرحة المسلمين بعودة وهران إلى الحكم الإسلامي.
ونتيجة لضعف العربية الفصحى بين الناس شاع الأدب الشعبي الذي أصبح ميدانا للتعبير عن خلجات الشعب في السراء والضراء. وقد لمعت أسماء ابن مسايب التلمساني وسيدي ابن علي في هذا الميدان. وكلاهما في القرن الثامن عشر، أما في القرن التاسع عشر فنجد شعراء سجلوا بعض خواطرهم في الأحداث الهامة كما فعل الشيخ عبد القادر الجزائري في قصيدته عن احتلال الجزائر. والشيخ قدور ولد محمد الذي كان يهاجم الأمير عبد القادر بينما كان الشيخ الطاهر بن حواء يمدحه (2). وقد وجد الروائيون في أبطال الإسلام والجاهلية. كعنتر ابن شداد. شخصيات يقولون على لسانها
(1) رجعت في هذا الجزء من البحث إلى مقال إيميري المذكور وإلى تقارير هامة عن التعليم الجزائري التقليدي محفوظة في دار المحفوظات (الأرشيف) الوطنية في باريس، تحت رقم 1723، 80 F.
(2)
راجع: حول هذا الموضوع. أ. كور A. Cour (الشعر الشعبي السياسي في عهد الأمير عبد القادر)، في (المجلة الأفريقية) عام 1948، ص 458 - 493.
أشياء كثيرة. كما وجدوا في شخصية جحا وسيلة للتعبير عما لا يمكن أن يعبروا عنه واقعيا. أما في ميدان الشعر الفصيح فهناك الأمير عبد القادر الذي سجل معاركه وانتصاراته بشره، وله ديوان مطبوع في هذا الموضوع وقد كان حمدان خوجة يقرض الشعر أيضا، ولكن شعره الذي وصل إلينا ضعيف ومتصنع (1).
أما الأعمال التاريخية فلم نجد أشياء هامة، ولكن يمكن أن نذكر بعض الأمثلة. من ذلك الرسالة التي كتبها عبد القادر المشرقي بعنوان (بهجة الناظر في أخبار الداخلين تحت ولاية الأسبانيين بوهران من الأعراب كبني عامر) والعنوان يدل على المحتوى. والرسالة في حوالي 24 صفحة (2).
وقد كتب حمدان خوجة كتابه (المرآة) ونشر منه الجزء الأول ووعد بنشر الجزء الثاني ولكنه لم يظهر. ورغم أن الكتاب مترجم عن المربية فإنه إلى الآن لم يعثر الباحثون على الأصل العربي. والغالب أنه ضاع.
و (المرآة) عمل تاريخي هام يعتبر من أهم الوثائق المعاصرة لاحتلال، وقد كتب من وجهة نظر جزائرية. ولا نريد الآن تقييم الكتاب من الوجهة التاريخية، ويكفي أن نقول إنه مصدر ضروري لفهم ردود الفعل التي أحدثها الاحتلال الفرنسي في سنواته الأولى. كما أنه لا يمكننا أن نقيم منه أسلوب خوجة لأنه مترجم، ولكن يمكننا أن نحكم على أسلوب المؤلف من عمله الآخر المكتوب بالعربية، وهو (اتحاف المنصفين والأدباء) وخوجة يظهر في هذا الكتاب عصري الروح، طليق العبارة، واسع الاطلاع على
(1) نجد له قصيدتين في كتابه (اتحاف المنصفين والأدباء) إحداهما في شكل إهداء إلى السلطان محمود اثاني والآخر في شكل خاتمة للكتاب. والكتاب كان قد نشر بالعربية والتركية، بناء على معجم سركيس، في النصف الأول من القرن الماضي. وقد حققه ونشره.
(2)
ترجمها ونشره بودان Boudin في (المجلة الأفريقية)(1924) ص 192 - 260. وقد نشرها أيضا محمد بن عبد الكريم في تاريخ لا أذكره بلبنان.
أحوال بلاده وعصره. وفي هذا المجال (التاريخ) كتب أيضا الحاج أحمد ابن المبارك (تاريخ قسنطينة) كما كتب محمد صالح العنتري (تاريخ بايات قسنطينة).
أما العلوم فقد كانت ضعيفة. وكان باشوات الجزائر يوظفون الأجانب للعناية ببعض الأشياء الدقيقة أو الفنية. من ذلك توظيف أحد الفرنسيين للعناية بالساعات الكبيرة التي كانت الدول الأوربية تهديها إلى الباشا، وتوظيف أجانب آخرين للعناية بالمدفعتة، وبناء السفن، ونحو ذلك.
وبدل الاهتمام بتكوين الجزائريين من الوجهة الفنية اعتمد الباشوات والمسئولون العثمانيون على بعض الأرقاء المسيحيين الذين كانوا يلبون حاجات الباشا. ومع ذلك فإن الجزائريين قاموا بمساعدة بعض الأجانب، ببناء قنطرة وادي الشلف سنة 1814 التي اشترك فيها حوالي 300 من الجزائريين و167 من اليونانيين، وهناك قنطرة وادي الرمل في قسنطينة التي بنيت في عهد صالح باي والتي أشرف عليها بارثولوميو الأسباني. وقد أظهر الجزائريون مهارة فائقة في بناء المنازل الجميلة والقصور البديعة، وشبكات المياه والفوارات والعيون. وظهر في العهد العثماني تأثير العثمانيين في المساجد، كما ظهر التأثير البيزنطي (1).
ولكن الجزائريين أهملوا الطب سواء القديم أو الأوربي المعاصر، فلم يكن هناك مستشفيات باستثناء الزوايا التي كانت تأوي العجزة والمرضى، وكان المرجع في هذا الميدان هي كتب الأقدمين كابن سينا. وقد كانت فوائد
(1) راجع: بيير بوايي (الحياة اليومية في مدينة الجزائر)، ص 205. أنظر أيضا أبو العيد دودو (مذكرات بفايفر)، الجزائر، 1974.
الأعشاب معروفة للناس. فألف الشيخ عبد الرازق الجزائري كتابا في فوائد الأعشاب (1). ولم يكن هناك امتحان ولا مهنة للأطباء. والذين يقومون بالعلاج هم غالبا مرابطون يداوون بالجن والأرواح وليس بالعلم. وكان هناك بعض حملة الشهادات الذين يعالجون مرضاهم في دكاكين تشبه دكاكين أصحاب الحرف الأخرى. أما أعمال الجراحة فكان يقوم بها الحلاقون الذين يلجأون أيضا إلى استعمال الكي. ومنذ القرن السادس عشركان في مدينة الجزائر مستشفى أسباني خاص بالمسيحيين. ولم يكن للسلطة العثمانية أي تدخل في مهنة الطب ما عدا تعيين (جراح باشى) الذي كان من الجنود الانكشاريين، والذي كان يصحب الجيش في الحملات الكبيرة للعناية بالجرحى.
وفي بعض الأحيان كانت السلطة تستفيد من خبرة الأطباء الأجانب الذين يؤخذون أسرى. فالألماني بفايفر أصبح سنة 1825 الطبيب الخاص ورئيس الطباخين في القصر. وعند دخول الفرنسيين سنة 1830 كان بفايفر هو الطبيب الوحيد الذي كان يعالج الجرحى الأتراك والأهالي. وقد ترك مذكرات عامة تسجل دخول الفرنسيين وتصف حالة الجزائر عندئذ (2). ومن جهة أخرى كان لبعض القنصليات الأوربية أطباء خاصون. ولعل ضعف الطب هو الذي يفسر ارتفاع نسبة موت الأطفال في الجزائر وانتشار بعض الأمراض المعدية كمرض الزهري الذي جاء به الأوربيون خلال القرن السادس عشر (3).
(1) انظر دراستنا عنه في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، أبريل 1975.
(2)
ترجم بعضها الدكتور أبو العيد دودو (أضواء على تاريخ احتلال الجزائر) الجيش (يناير - فبراير 1969).
(3)
يجب أن نذكر هنا كتاب (إتحاف المنصفين) الذي لم يكن صاحبه (خوجة) =
ورغم القيود الدينية في المجال الفني فإن هناك بعض الفنون قد شهدت تقدما ملحوظا، من ذلك فن العمارة في تلمسان وقسنطينة وبعض مساجد العاصمة. وهناك بعض الصور التي حملها أصحابها من الشرق إلى الجزائر وقيدها السكان. وقد تقدم فن تزيين البيوت من الداخل (الديكور) وظهر فيه الذوق المحلي. وكانت الجزائر تستورد الرخام من إيطاليا كما كانت تستورد الفسيفساء من تونس وأسبانيا وإيطاليا أيضا. وامتاز قصر مصطفى باشا بأعمال الزينة المستوردة من هولندا. وقد ظهرت براعة الجزائريين في الأعمال الخشبية كالأبواب المنقوشة والشرفات ذات الأعمدة الجذابة. وبالإضافة إلى ذلك امتازوا بأعمال الزرابي ذات الذوق الرفيع، والفخار الملون الجميل، والطرز بالذهب والفضة.
وفي ميدان الموسيقى كان الريفيون يستعلمون آلات محليةكالبندير والطبلة والقصبة. وكان عرب المدن يستعملون آلات أخرى أكثر دقة كالربابة والقانون والعود والدربوكة والجواق. وكانت الألحان إما أندلسية وإما محلية متأثرة بها. وكانت هناك فرق موسيقية متعددة تجد مجالها في المقاهي وفي المناسبات الاجتماعية والدينية: الزواج، الطهارة، المولد، ورمضان. وكان للأتراك فرق موسيقية خاصة، كما كان للشخص الميسور فرقة خاصة به، وهناك فرق موسيقية خاصة بالحملة أو الحملامت العسكرية، وكان للباشا نوعان من الموسيقى: موسيقى العشية وموسيقى الصباح. أما آلات الموسيقى التركية فقد كانت الناي والغيطة والطبل. حتى الزنوج كانت لهم
= طبيبا ولكنه ضمن كتابه معلومات هامة عن الطب والحماية من بعض الأمراض من الناحية التاريخية والعلمية. ويجب أن نشير أيضا إلى كتاب ابن العنابي (السعي المحمود في نظام الجنود) الذي دعا فيه إلى الأخذ بالعلوم الأروبية، ولا سيما العلوم العسكرية. أنظر دراستنا عنه في الكتاب التذكاري المهدى إلى الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، القهرة، 1976.
موسيقى خاصة وآلات تكاد تكون خاصة مثل الطبلة الكبيرة والقراقب والغنبرى.
وكان الرقص أيضا شائعا ولكن لدى الممتنين فقط سواء كانوا رجالا أو نساء. فالرجل المحترم وكذلك المرأة المحترمة لا ترقص على الأقل أمام الناس وكان الرقص عملا فرديا. وقد كان الرقص في المدن متأثرا بالرقص الشرقي. أما الرقص في الريف فقد كان يمتاز بطابع محلي. وفي أحيان كثيرة كانت الراقصة مغنية أيضا (1).
وقد عرف عن الأمير عبد القادر أنه رجل حرب وفكر في نفس الوقت.
وإذا كان لا يهمنا هنا الجانب العسكري فإن الجانب العقلي كان هاما. فقد ألف الأمير بعد خروجه من الجزائر عدة أعمال فلسفية وتاريخية ودينية. فكتابه (المواقف) سار فيه على نهج ابن عربي في التصوف وما زال رأيه فيه يحتاج إلى تقييم المختصين. وكتابه (ذكرى العاقل وتنبيه الغافل)(2) يحتوي على آراء فلسفية دينية لا تخلو من نقد ولكنها لا تخلو من جدة، رغم أن بعضهم قد انتقده بشدة على أفكاره الدينية المتحجرة في (عصر رينان وكلود بيرنار)، المليئة بالتقاليد العربية المتأخرة (3). وللأمير بعض الكتب التي لم تنشر بعد والتي يذكرها ابنه في (تحفة الزائر) أمثال (الصافنات الجياد)، و (المقراض الحاد)(4). كما أن له كتابا نسب إليه خطأ، بينما هو لكاتبه قدور بن رؤيله عنوانه (وشاح الكتائب)(5). ولمصطفى بن التهامي
(1) اظر بوايبي، الفصل الخاص بالفنون والعلوم.
(2)
ترجمة: ج. دوغا G. Dugat إلى الفرنسية (عام 1858).
(3)
إيميري (الحالة العقلية
…
) ص 205 - 206.
(4)
رأيت هذا الكتاب منشورا أيضا.
(5)
نشره وترجمه باتورني patorni، الجزائر عام 1890، وحققه ونشره محمد بن عبد الكريم الجزائر عام 1967.
كتاب آخر عن الأمير، يذكر فيه آراء للأمير في التصوف والدين والتاريخ والسياسة. وما زال هذا الكتاب مخطوطا، وليس له عنوان (1).
ليس الهدف من هذا البحث استقصاء جميع مظاهر الثقافة الجزائرية: ونعتقد أنه يكفي للإلمام بالخطوط العامة لهذه الثقافة في الفترة الانتقالية التي شهدت انتقال الجزائر من أيدي العثمانيين إلى أيدي الفرنسيين. وقد غير الفرنسيون نظام التعليم وأنشأوا المدارس الخاصة بهم والمشتركة التي يختلف إليها الجزائريين أيضا. وبنوا المستشفيات وكونوا الصحف، وخلقوا المسرح وأدخلوا فنونهم وآدابهم وأفكارهم إلى الجزائر. وقد بقي على الباحث أن يقيم هذا العهد الفرنسي من الوجهة الثقافية ويرى ماذا استقادت منه الثقافة العربية وماذا خسرت. وقد حاولنا أن نفعل ذلك في (الحركة الوطنية الجزائرية). ومع ذلك فما يزال الموضوع يحتاج إلى تفصيل، وتعميق (2).
(1) كان يقوم بتحقيقه المستشرق الفرنسي هنري تيسيي، وقد أطلعني على نسخة منه. كما أهدى نسخة منه إلى المكتبة الوطنية الجزائرية السيد جاك شوفاليي الفرنسي خلال مارس عام 1970. وقد اطلعت على هذه االنسخة واستفدت منها.
(2)
نود أن نلفت النظر إلى البحث الذي نشره المرحوم سعد الدين بن شنب عن الثقافة الجزائرية في القرن التاسع عشر ونشره في العدد الأول من (مجلة كلية الأداب)(الجزائر) سنة 1964 وإلى بحث الدكتور محمد طه الحاجري عن (جوانب من الحياة العقلية والأدبية في الجزائر)، محاضرات معهد البحوث والدراسات العربية بجامعة الدول العربية القاهرة (1968) ص 29 - 101.