الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفوضى
وصلت تبسة وكم كانت دهشتي لما وجدت في حقيبة أرسلت مع أمتعتي نسخة جديدة مجلدة من الأناجيل. أترك القارئ يستخلص معنى هذه المعجزة بتقريبها من الردة المشهودة لعبد الجليل عن الإسلام وتنصره.
كنا في أواخر جويلية 1937، وجدت نفسي من جديد بالجزائر التي كانت تسلك بتأن ولكن بثبات سبيل الحضارة تحت راية الإصلاح التي بدأت منذ عام 1925. لم أجد في البلاد ذلك الجو الذي تطبعه وحدة الشعور حيث يتفتح فيه الوعي وينضح حول مشكلات واضحة من قبيل القضاء على الأمية وبناء المساجد للسمو بالأرواح فوق وضع ما بعد الموحدين، أي علو على القابلية للاستعمار التي تشكل قاعدة الاستعمار. لم يكن الحديث يجري حول هذه القضايا أو حتى على الله وإنما الكلام على بلوم (Blum) . حتى والدي، وهو أنزه رجل صادفته في حياتي، كانت له بطاقة المناضل الاشتراكي. كانت الفوضى عارمة: فالإصلاح فر هاربا ومعه بذرة المستقبل التي كان يحملها.
وقد أعطى العلماء أنفسهم القدوة والمثل: فبرنار لوكاش (1) والعربي التبسي يتعانقان بتبسة وتخالهما أنهما أخوان. وحتى يعطيا
(1) Bernard Lecache : المناضل الصهيوني الفرنسي المشهور، يعد مؤسس الرابطة الدولية لمحاربة العنصرية ومعاداة السامية (LICRA) في سنة 1927. (المترجم).
شارة التحول المصيري أو بعبارة أصح التحول التام للأمور، كان بن جلول وفرحات عباس يرعيان زردة المعمرين وهي الزردة التي في خضمها، كما قلته في (شروط النهضة):(مسكت النخبة الجزائرية المبخرة التي أحرقت فيها الجزائر ما بقي لها من جاوي)، دون أن يرى أحد من الأهالي من كلامي سوى جملة ساحرة، اللهم إلا المعنيين طبعا والذين فاجأتهم ذاكرتي.
هذا هو حال البلاد في 1937. وكان الذين لاحظوا ثورتي في تبسة يتهامسون:
- إنه مبعوث موسولوني أو هتلر.
عندما كنت ألعن بن جلول قائد آخر زردة جزائرية، كان الشيخ العربي التبسي يقول لمن حوله وبخاصة لصديقي خالدي: - إن بن نبي غير مدرك أن بن جلول (فريد) وإذا حطمناه، فلن يكون هناك من يقدم (مطالبنا).
كانت تلزمني الشجاعة الضرورية لأكشف للعالم نفاقه. لأني كنت بالفعل قد اكتشفت لعبته.
كان القلق المميت يحدوه إذ يعتقد أنه إذا أطاحت مجموعتنا بالصنم الجزائري، فالخوف هو أن نطالب بالإصلاح دون شيوخه. فالقضية تتلخص في ذهنه الفظ في مشكلة التصدر والبروز. كان هذا هو ضمير (عالم) من الجمعية سنة 1937. كنت أعرف ذلك وأقوله لخالدي دون أن تكون لي جرأة الجهر به أمام الملأ. حتى إذا حاولت أن أفهم الأمر لوالدي، الرجل الطيب النزيه، فكان يجيبني:
- عندما تدرك ما يعلمه الشيخ العربي وبن جلول، يحق لك حينها أن تتكلم.
فأفهم أن العقلية الأهلية والقابلية للاستعمار هما دوما أفضل وسائل الإدارة الاستعمارية ضدي وضد أي أحد يسوقه سوء حظه ليطلع على اللعبة بوضوح. فمنذ تلك الفترة، لم يعد (البوليتيك) الجزائري، ومن ضمنه الحركة الإصلاحية (رغم حسن نية ابن باديس) إلا لعبة في متناول الإدارة التي كانت تمسك بكل الخيوط. تأملوا! بن جامع سكرتير الفيدرالية وبن جلول رئيسها. ولم يكن (العلماء) إلا أنصارا لهذه النخبة الرائعة. ولم يكل الشيخ العربي ولم يمل من تحذير الناس مني وتأليبهم ضدي:
- نحن نفتقر إلى رجال لاستخلاف بن جلول.
وطالما ألححت وأنا ألجأ إلى لغة علم الكلام وهي اللغة الوحيدة التي يمكن أن يفهمها (عالم)، فأقول:
- بما أنكم تتمسكون بهذا الرجل الذي يبدو لكم (وحيدا) فلماذا لا تعبدون إبليس فهو أيضا وحيد.
كان الشيخ العربي ينتفض غيظا عندما أطرح عليه هذا السؤال، السؤال الوحيد الذي يزعزع عقلية طالب الكتاتيب في الجزائر. لأنه عندما يؤكد عدم وجود رجل لتعويض بن جلول، فإنه لا يدرك أنه يخدم بالضبط أهداف الإدارة الاستعمارية التي تتوفر من جانبها على خبراء يعرفون تقييم الرجل من نظرة واحدة ، وبالطبع فليس ثمة مصادفة أن يبدأ التجار اليهود بتسمية قماشهم باسم (البطل القومي رقم واحد) وأن تقوم الغانيات في الأحياء السافلة بالغناء لتمجيده والحديث عن مآثره. إلا أن الشيخ العربي
كان يسايره بنشاط وحبور في هذا الصراط، وحذا حذو (الرجل الفريد) الذي رعى آخر زردة وإحياء الخرافة الشعبية والمرابطية في شكل انتخابي. فالشعب الذي تم إقناعه بعد جهود مضنية بأن الولي لا ينفعه ولا يمكن أن يخفف من معاناته وحظه البائس، والشعب الذي تخلص بالكاد من أحبولة الزوايا عاود السقوط في شرك إداري آخر، هو شرك المنتخب القادر على كل شيء، وشرك ورقة التصويت التي تحدث المعجزات.
غير أن العلماء سقطوا هذه المرة في المصيدة. وكان الشيخ العربي يردد دون كلل أو ملل: - ولكن ليس هناك من يعوض بن جلول. والهوس بـ (الرجل الأوحد) فكرة مشتركة لدى (العلماء) الجزائريين. وقد يوحي الأمر بأن في تكوينهم المشترك في الأزهر أو الزيتونة عاهة أصلية. فسنوات بعدها، وبعد أن استولى الإبراهيمي على إرث الشيخ الجليل ابن باديس، أشاع حوله بأن ليس هناك أي إنسان يمكن أن يخلفه إذا قدر وتوفي. أه! كم ستبتهج الإدارة الاستعمارية وتزدهي، وعلى رأسها ماسينيون، بوجود هؤلاء المتحمسين لإقناع الشعب الجزائري بأنه عقيم وبأنه لا يمكن أن يلد رجالا.
وللفرار من هذا الجو الشبيه بسوق السلع الرخيصة الذي تعيشه الحياة العامة الجزائرية منذ 1936، يجب أن يكون عندي برج عاجي أو نشاط شخصي.
حاولت أن أثير انتباه بعض التبسيين الأغنياء لمشاريع صناعية. فبعد أن تخليت عن فكرة محطة كهربائية بقوة مئة حصان بأفلو في
الجنوب الوهراني الذي أعددت بشأنه مشروعا وحسبت تكلفته وهو مشروع كان سيعطي نتائج جيدة لو تحقق، أردت أن أبني بتبسة مصنعا لورق الحلفة.
أحد أبناء عمومتي وعدني بكل صدق بمساعدة مالية. غير أن الإدارة كانت ساهرة فقد أدركت أن كل ما أتفوه به أو أقوله كان يهمها كثيرا. فبالفعل، فبعد أيام من البحث في مشروعي مع شركاء محتملين، تحدث السيد باتيستيني، المتصرف الإداري في تبسة والطالب السابق لدى ماسينيون بالصدفة مع ابن عمي حول مادة الحلفة
…
وتمكن تلميذ ماسينيون (الذي قال في أحد أيام سنة 1936 (نريد دفن القرآن، ولن نسمح للآخرين بإحيائه) من إقناع قريبي بأن صناعة الورق من تحويل الحلفة غير ممكنة إلا في انجلترا حيث يوجد ماء (خاص)، كما قال. وقد اقتنع (الاندجين) الطيب المتمثل في ابن عمي، بهذا الزعم.
فكرت في مشاريع أخرى، كمشروع مصنع إسمنت أو مدبغة ولكنها عرفت نفس المآل. فأدركت أن الأهالي لم يكونوا من عجين فيه خميرة اصطناعية. عقدت العزم أن أضع بداية هذه الخميرة في هذا العجين
…
نسيت أن ألاحظ أني وجهت طلبا في سنة 1936 لمساعد كاتب الدولة للتعليم التقني ملتمسا الحصول على معلومات لإنشاء مدرسة تقنية إعدادية بقسنطينة. كانت نيتي هي تحقيق هدفين، ضمان قوت يومي ونشر الروح التقنية والصناعية في وسط الشباب الذين سأتكفل بإعدادهم. غير أني في هذه الحال أيضا قد
أكون خرقت بجناحي الصغيرين خيوط بيت العنكبونة. لم أتلق حتى مجرد رد. بيد أني عزمت أن أضع بعض الخميرة العلمية في العقل الأهلي، بأسلوب آخر.
فحيثما كنت، بين الشباب أو الشيوخ، وخصوصا في النادي الذي افتتح أبوابه حديثا بتبسة، لم يكن لدي موضوع للكلام إلا العلم والصناعة. وفي الواقع، كنت أعطي دروسا حقيقية مجردة من الصيغ حول صناعة الزجاج، والبطارية والورق والجير المائي والصابون وغيرها. وقد تمكنت من إقناع شاب تبسي أن هناك ربحا يمكن جنيه في تربية النحل على شرط إدخال الأساليب العصرية في هذه التربية.
ثم بدأ الحديث عن النطاق البيئي المتحرك في منطقة تبسة. فهذه المنطقة بدأت تثير في نفسي العديد من المخاوف. وربما كنت الوحيد الذي انتابني هذا القلق أمام تقدم رمال الصحراء الذي لم يلحظه أحد. وعندما أخصص، بعد اثنتي عشر سنة فصلا للتراب في كتابـ (شروط النهضة)، فإن الكثير من القراء لم يروا ربما إلا نوعا من التسرع أو ملهاة من بنات أفكار مثقف. إلا أن الخطر أثار تخوفي منذ 1937 إذ أنه أصبح واضحا جليا.
ارتأيت أنه من الواجب أن أعرض مشكلة البيئة في محاضرة ألقيها في قاعة الحفلات بتبسة. غير أني لم أكن مسلحا إلا بيقيني لإقناع الناس. كان الآخرون يحدثونهم عن (الحقوق) ويكلمونهم عن (الانتخابات)، وكنت أكلمهم عن العمل. فحتما لم يسمعني أحد.
مستمع واحد أظهر اهتماما متحمسا للمحاضرة، فطرح علي إثرها
بأدب كبير العديد من الأسئلة: إنه محافظ شرطة المدينة. وأنا أفهمه وكان ثمة سببان يدفعانه للاهتمام بالمحاضرة: فهي المرة الأول التي يسمع فيها أحد (الأهالي) يطرح بكل وضوح قضيتي الإنسان والتراب، من جهة كما أن وظيفته تفرض عليه أن يجمع أقصى ما يمكن من التفاصيل، من جهة أخرى.
غير أن الجهد كان ضائعا من وجهة نطر مسلمة. لم أقل للناس انتخبوني ونوموا في سلام. على العكس، كنت أقول لهم لا تنتخبوا أحدا، أفيقوا وانهضوا من سباتكم. سبق أن رأيت في احتيال بن جلول نوعا من القرحة الانتحابية التي بدأت تحمر الوعي الشعبي الذي استيقظ منذ مدة قصيرة بفضل النشاط المناهض للمرابطية التي بدأت آخر أصدائها تضيع الآن وسط زعيق المعرض الانتخابي. الإسلام نفسه أصبح لافتة انتخابية
…
وها هو سيسبان يعد ناخبي باتنة في حال انتخابه أنه سيخص مدينته بمسجد جديد. وكان بن ساعي، الذي روى لي الأمر مع شهيق في الصوت، بكل تأكيد الوحيد الذي تبين الانحدار الذي سلكناه. انحدار يوصل بعيدا: حتى الانتخابات البلدية التي خاضتها (الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية)(MTLD) في 1947 باسم الإسلام، وهي انتخابات مكنت أميين وخونة مبرئين وتجار عرفوا كيف ينمون تجارتهم، وعمال عرفوا كيف يحافظون على مناصبهم في زمن نايجيلان (Naegelan) من الفوز على حساب مثقفين مخلصين ونزهاء على
غرار الدكتور خالدي.
ومن جهة أخرى، وفي انتخابات الجمعية الجزائرية، فإن (الاتحاد الديمقراطي لأحباب البيان) (UDMA) هو بالصدفة من يهزم خالدي مرة أخرى لصالح مرشح الإدارة: محام من خنشلة الذي ضحت في سبيله بمرشحها نفسه المسمى كموش ببرقية.
هذا هو المنحدر الخطير الذي وضع فيه بن جلول وشريكه فرحات عباس الضمير الجزائري منذ 1936. كان يجب انتظار سنة 1947 لنرى أبشع الممارسات والخيانات الجلية تتدثر بلحاف الإسلام والوطن.
والحاصل أن التقاليد الجديدة للبوليتيك الجزائري بدأت ترسخ في العادات والذهنيات.
في أواخر 1938 أو بدايات 1939، جرت انتخابات للمجلس العام في دائرة تبسة، عين البيضاء وخنشلة.
وبدون علمي، قام سكان من تبسة بتقديم اسمي واقترحوه على سكان عين البيضاء وخنشلة ضد اسم بومالي. جرى هذا الاجتماع في منزل أحد أعيان مدينة عين البيضاء. واتفق كل الذين حضروا على ترشيحي. فجأة توقفت سيارة أمام الباب، كانت تقل بطلي البوليتيك الجزائري فرحات عباس وبن جلول متبوعين ببطل من نفس الفصيلة هو بن جامع. فأعيد النظر في الأمر. فالقادمون الجدد لم يجرؤا على مواجهة الرأي العام مباشرة فيأخذوا على أنفسهم اسم بومالي المتورط منذ قضية الاستقالات إلا أنهم ناوروا لإبعاد ترشيحي. وهل تعلمون، أيها الشبان - جزائريو المستقبل- من الذي اقترحه أبطال الجزائر؟ اقترحوا بكل بساطة اسم أحد الأميين، (المنتخب الحر) في الجمعية
الجزائرية بفضل إرادة ماسينيون ونايجيلان، وأنا أقصد هنا الحاج موحاتة نفسه.
وفاز مرشح نايجيلان القادم بدعم من فرحات عباس صاحب مقولة (فرنسا هي أنا) وبركة الشيخ العربي التبسي الذي خلصته هذه الانتحابات من كابوس أن يراني ألج معترك الحياة العامة والتنديد بجميع الفضائح ومنها فضائح (العلماء).
يمكن، أو قل يجب العودة إلى الوراء، وأن نتساءل من الذي أنذر في الوقت المناسب فرحات عباس ورئيسه بن جلول ليهرعا على جناح السرعة إلى عين البيضاء لأداء مهمتهما؟ إن من شأن الجواب على هذا التساؤل أن يلقي بكل تأكيد الضوء على الطبيعة نفسها لهذه المهمة التي اضطلع بها الأبطال الأندجين.
غير أن الستار سيرفع يوما أحببنا أم كرهنا.
مهما يكن من أمر، فقد تبينت، ويمكن تصور الألم الذي انتاب الضمير، أنه لم يبق شيء صاف في الجزائر، لا شيء يبارك فيه الله تعالى وينميه. وكان الشيخ العربي هو الذي يمنحني إحساسا حادا بهذه العفونة التي تتحمس لها كل الحياة السياسية الجزائرية. لم أستطع السكوت أمام النفاق الذي أشعر به عند (العلماء) ولم يكن الشيخ ليغفر لي هذا الشعور. ولكني كنت أحافظ على الأصول. بيد أني كلما تحدثت كل مساء جمعة في نادي تبسة، كان الشيخ يحس، وهو محق، بأنه معني بكلامي. وعوض أن يرد علي باستقامة ونزاهة، كما أفعل شخصيا أحيانا، فقد كان يفضل أن يهاجمني من الخلف. دب خلاف مرة بيني وبين
والدري بسبب يتيم آويته من الطريق، ختن من مدة قصيرة وترك لحاله دون علاج، وكان مصابا بالحمى. فقررت مع زوجتي أن نبقيه معنا في المنزل حتى يشفى نهائيا. غير أن زوجة أبي، لأن أبي، وهو من طينة الأهالي- الاندجين، تزوج ثانية بـ (مسلمة) خليقة بأن تكون شقيقة للعربي التبسي، رأت خلاف ذلك. وقد عملت ما في وسعها حتى قام أبي - غفر الله له بسبب براءته - بطرد الصبي. ومن هنا نشأ الخلاف بيننا. وعوض أن يقوم ممثل الإسلام، أقصد الشيخ العربي بإصلاح ذات البين بين الوالد وولده، حسب تعاليم الدين نفسها بل وحتى العمل من أجل إنقاذ اليتيم الصغير الذي ذهب ضحية هذه الخصومة، فإن الشيخ الأزهري والزيتوني لم يكن له من النوايا سوى استغلالها ضدي. وكان يقول بصوت خافت لمن حوله وهو يجمع مبرراته من الخزي والعار:
- إن مالكا ابن ملعون لوالده!
هذا ما وجد الشيخ الموقر في الأخلاق المقدسة للإسلام. ومن يومها، أصبحت استفظع ثقافة الأزهر والزيتونة التي تقتل الضمائر والأرواح واعتبرها أسوأ كارثة يمكن أن تهدد العالم الإسلامي. وحتى يعيش الإسلام أو يبعث من جديد في الضمائر، يجب تخليصه مما يسمى اليوم (الثقافة الإسلامية)، هذه الثقافة التي تلوث الأرواح وتذل الطبائع وتضعف الضمائر وتخنث الفضائل.
وعندي اليوم هذه القناعة أكثر من أي وقت مضى. وليس من قبيل الصدفة أن رجلا كحسن البنا ليس في تكوينه شيء يدين به للأزهر أو للزيتونة.
كم يحز في نفسي ويدمي قلبي أن أرى هذا الجيل الجزائري الرائع المليء بالاقتناع، ومن طيبة النفس والقلب يوجه للذل والهوان. وهذا هو الشعور الذي ينتابني وأنا أسير جوار معهد بن باديس حيث أرى وجوها نيرة لشباب معد بكل أسف لما اصطلح على تسميته (الثقافة الإسلامية).
غير أن لله تعالى دون شك أهدافا لا يمكن لأي إنسان أن يدركها. فجمعية (العلماء)، وبخاصة بعد رحيل الشيخ الجليل والطيب بن باديس تعد من هذه الأهداف المغلقة التي تستعصي على إدراك الذكاء الإنساني.
والبوليتيك الجزائري أيضا من هذه الأهداف. على أية حال، أصابني التقزز مع بدايات سنة 1938 إلى درجة النفور من الإقامة بتبسة أو بالجزائر قاطبة. وجاءت مصادفة سعيدة بعد أن طلبني بعض المناضلين الذين بقوا على وفائهم للمؤتمر الإسلامي لأقود جمعيتهم في مرسيليا. وكان علي أن أسافر إلى هذه المدينة في شهر أفريل. وكان اللقاء بهؤلاء المناضلين الطيبين غاية في الود والترحاب.
ستتوقف معرفتي بالشعب الجزائري - بعظمته وانتكاساته - هنا. فحياة المسلمين بمرسيليا هي مشهد معبر لكل من أراد أن يتعلم نقاط الضعف الداخلية والخارجية للمجتمع المسلم.
يجب أن أقول بداية أن وصولي مرسيليا صادف حفلا نظمته (المنظمات الديمقراطية) في مرسيليا على شرف بيرنار لوكاش الذي
تحدث مطولا عن مآسي اليهود. شعرت أن من واجبي أن أنتهز الفرصة لأتحدث عن الممسلمين. من بين النساء اللواتي حضرن، هناك من بكين خلال كلمتي. سارع لوكاش وعانقني. فهمت معنى هذه المعانقة. وتقدم مني يهودي آخر بينما كنت أرد على أسئلة بعض المستمعين المتلهفين لبعض التوضيحات، وقالت لي:
- تعلمون أن الذوق الفرنسي مرهف ولا يجب بالتالي نقده بعرض كل الحقيقة.
أدركت أن صاحبنا أزعجه الاهتمام الذي أثاره العرض الذي تقدمت به وكان غرضه هو إضعاف هذا الاهتمام بمدح (الذوق الفرنسي) ونقد ذوقي السيء.
علاوة على أن (المنظمات الديمقراطية) لم تر فينا شركاء ولكن مجرد مرتزقة للأيام التي تحصل فيها مشاجرة مع (الزمر العنصرية). (1) ولما خيبهم موقفي، لم نعد نرى بعضنا بعضا.
وهكذا وجدث نفسي مركزا على الموضوع الدقيق الذي عملت على اقتراحه وهو التربية. فوضعت الإصبع على الجرح.
كان المسلمون يعيشون أو قل يخملون بمرسيليا في غفلة تامة وغياب وعي كامل بأنفسهم وبكل ما يحيط بهم. فكانوا يبدون في عيني، أنا المتلهف للأحاسيس المعبرة، أكثر المشاهد إثارة للشفقة لقطيع بشري يدعو للرثاء. رأيت سودا وهم مهذبون ومؤدبون ولهم
(1) لا تزال الجالية العربية والمسلمة في فرنسا تجند وتستعمل من طرف بعض المنظمات المرتبطة بقوى اليسار وتدمج في الصراع ضد عدوها المدرج فيما يسمى اليمين المتطرف. (المترجم).
كرامة في الشوارع التي يرتادونها. المسلمون يتكدسون أولا في نفس الشارع - شارع شابولييه Chapeliers- ذي الصيت السيئ وفيه يعيدون تشكيل إطار الحياة الجزائرية برمتها وبكل ما لها من بشاعة وإثارة للسخرية، السود يتخلصون من الأدغال ومن ذهنية الأدغال عندما يصلون مرسيليا. أما المسلمون فيعمدون إلى نقل كل إشكال (الطباع الطريفة للأهالي) وإسقاطها في الإطار الجديد. فترى في شارع شابولييه مقاهي عربية ومعها لعبة الدومينو التي لا تغيب، ومنضدة عليها مغلاة يتصاعد منها دخان. ثم تجد بعدها مطعما حقيرا وعنزة مسلوخة مغطاة بالذباب معلقه على بابه. وعلى قارعة الطريق سوقا فوضوية يباع فيها بالمزاد كل ما هو مريب، وقذر، وغامض ومثير للشبهة، وممزق. ويريد أكثرهم حكمة، الابتعاد على ما يبدو، من هذا الجو الصاخب، إلا أنهم لا ينأون بعيدا فرادى أو جماعات صغيرة. إنهم يبتعدون بعض الخطوات إلى ساحة إيكس وينتظمون هناك قطعا كالذباب ويتكدسون للجلوس على طريقة الأهالي. الأجنبي الذي يمر بمحاذاة شارع شابولييه أو ساحة إيكس يتوقف لتأمل أفضل مشاهد (الأهالي) أصالة. أما سكان مرسيليا الذين ملوا ربما المشهد منذ مدة، فكانوا بكل بساطة يديرون رؤوسهم ويحملون الانطباعات التي أتخيلها للأسف. وبالطبع، لا ترى أبدا امرأة مرسيلية تخاطر وتدخل شارع شابولييه.
بيد أن هذا المشهد الذي شكل كابوسي كان بالضبط، هو مادتي في العمل لأني كنت أدرك إلى أية غاية تسعى لها الإدارة في الواقع
عندما تسمح بمثل هذا المشهد. فكنت أريد القضاء عليه أو محاولة القضاء عليه، على ضوء ذلك، قمت بإعداد برنامج للتربية. فكان علي من جهة أولى أن أكون إطارا من الشبان الذين يمكن أن يؤثروا مباشرة في وسط (شارع شابولييه) بحكم اتصالهم به عن قرب بعدما يحصلون على نصيب من التربية والعلم وذلك حسب إشعاعهم أنفسهم. ومن جهة أخرى، فكرت في محاضرات أسبوعية، كل يوم أحد، لأتحدث أمام الحشد.
أضف أنه كان علي أن أخضع نشاطاتي لتوقيت محدد وأضبطه حتى أحصل على أقصى النتائج في أدنى وقت، لعلمي أن أية جمعية منظمة للأهالي لا يمكن أن تدعم عملا يتطلب نفسا طويلا. فكان علي أن أخضع نشاطاتي لتوقيت مضبوط لتحديد قاس حتى أحصل على أقصى ما يمكن من نتائج في أدنى وقت. وقصد تخفيف تكاليفي الشخصية عن الجمعية فقد قررت في بادئ الأمر أن أبيت في المحل ذاته، وهو عبارة عن محل قديم مهجور للحدادة يقع بشارع فوشييه. في بهو هذا المحل الذي صبغت جدرانه بالجير، كنت أعطي دروسا لحضور منتظم كان يدفع مساهمة أسبوعية ضئيلة، ولكنها كانت تضمن لي خبزا وقطعة من الجبن. وهكذا أعفيت الجمعية من مصاريفي. وكنت أقبل بهذه الوضعية حتى أواصل نشاطى أكبر وقت ممكن، ولن يكون على أعضاء المكتب، وكانوا في أغلبهم أصحاب المقاهي والمطاعم المتواضعة، سوى دفع
إيجار المحل.
وكان تلاميذي، الذين سيصبحون لاحقا إطارات، من مختلف الأعمار ومن جميع نواحي الجزائر، كلهم أميين. كان من بينهم سعدي بن يحي من برباشة، هو شاب من بلاد القبائل عمره 18 سنة، وقد تجاوز بعضهم السن الموقرة للشيخوخة، وقد أثار انتباهي أحدهم وكانت له قامة عملاق عندما سألته، على غرار الآخرين، عن اسمه لأسجله كتلميذ مثابر، فأجابني بكل بساطة: - ابن تاشفين!
استرعى الاسم انتباهي. فخاطبت نفسي: ربما يكون؟
…
طرحت عليه أسئلة أخرى. فعلمت أنه من نواحي تلمسان وأنه حافظ للقرآن الكريم عن ظهر قلب. - واسمك هل تعلم مصدره؟
تعجب تلميذي الشيخ من سؤالي وفكر برهة من الزمن ثم بدا أنه لم يجد شيئا في ذاكرته، فرد:
- يا سيدي، أنا لا أعرف من أين جاء اسمي، ولكن سبق لي بتلمسان في يوم من الأيام، أن سألني نائب الوالي من أين جاء اسمي وهل لي وثائق عائلية.
لا اعتقد أني حدثت تلميذي عن مغزى الاهتمام الذي أبداه نائب الوالي باسمه. غير أني شعرت شخصيا بعجلة التاريخ تعود بي عدة قرون إلى الوراء في زمن المرابطين. وربما برزت أمام عيني حلول عدة
لمأساة الحضارة الإسلامية. كنت أرى المأساة أمامي، بلحمها ودمها، في جلد حمال كان جده أحد كبار قادة الإسلام.
عادت إلى ذهني جملة مزدرية لبزيكاري (Psicari)، وهي جملة كان قد سجلها ابن أخت رينان (Renan) عندما جاء أحد الزعماء الموريتانيين مستسلما للسلطات الفرنسية:
- رأيت فيه بقية حضارة مثيرة للشفقة تحولت إلى مأساة. وسجلت في ذهني من جانبي، أن مصير فرد غير مرتبط بسياسة وضيعة (بوليتيك) ولكن بحضارة. وأدركت أكثر فأكثر عملية الاحتيال الجارية في (العالم الإسلامي المعاصر)، بفعل جميع الذين وجدوا، على غرار بن جلول وأمثاله، أن إلقاء الخطب حول الحقوق أكثر ربحية من القيام بأدنى واجب من شأنه أن يسمح الحال بالولوج في حصيلة النهضة الإسلامية. لم أكن أعرف بعد أن مجرد شعور أو فكرة بسيطة يأخذان طريقهما في الوعي الإسلامي ليصبحا مصدرا لكم من المشكلات التي نطرحها، أو أحيانا، مذهبا يتولد عنهما. لم أكن أعرف وأنا أحرر دراستي حول (مشكلة الحضارة) أن تواضعا في غير موضعه دفعني إلى نشرها تحت عنوان:(شروط النهضة الجزائرية). قررت بداية أن أحضر المستمعين لدروسي وأن انتشلهم من التأثيرات الأهلية (influences indigènes) السيئة في شارع شابولييه. فكانت دروسي إذن تعليمية وأخلاقية وجمالية في آن واحد. فكانت دروسي تنصب على تعليم العمليات الحسابية الأولية، والحروف الأبجدية بعض المقتطفات من الجغرافيا، ولكنها تستهدف
بالخصوص إحداث تغيير جوهري في نفسية تلاميذي من خلال استهجان السلوكيات والمواقف وأفكار الأهالي (الأندجين). فكنت أعلم أحدهم كيف يعقد ربطة عنقه، وأبين للآخر كيف نداوي غمص العين ووسخه وللثالث كيف نسير في الطريق وللرابع كيف نجلس في شرفة مقهى.
وكنت أحاول أن أرسخ في أذهان الجميع روحا نقدية، وذوق الإبداع. فلم يكن تعليم الحساب في ذهني مخصصا لتكوين مهرة في الحساب بقدر ما كنت أبحث عن منح تلاميذي معنى الأعداد الكبرى ومفهوم اللامتناهي (l'infini). كما أن دروسي في الجغرافيا لم تكن معدة إلا لإعطاء فكرة عن تنوع البلدان، والأجناس، والمنتجات وامتداد الفضاءات واتساعها. افتقر للوقت لأصف هنا مشاعر التأثر التي تنتابني وأنا أتابع تقدم منهجيتي، وكل المشاعر التي يحسها تلاميذي الذين كنت أدعهم ليبادروا من تلقاء أنفسهم، كمثل اليوم الذي كلف فيه أربعة منهم من قبل زملائهم ليشتروا هم أنفسهم خريطة العالم الضرورية لدروس الجغرافيا. ويمكن تصور الإحساس القوي الذي خلفته مثل هذه المبادرة في أربعة شبان، الذين كانوا لم يحسنوا لا القراءة ولا الكتابة ولا الحساب، شهران قبلها. غير أني اكتشفت نتيجة أحدثت في شخصيا تأثرا. فعند أول لقاء بتلاميذي، أدهشتني الهيئة الوحشية التي كانت تسم نظراتهم وتطبع قسمات وجوههم. ثم لاحظت أن نظراتهم تهذبت واكتست طابعا إنسانيا تتجلى الفكرة من خلالها. وأكثر تأثيرا هو أن الطلعة
ذاتها تغيرت. ولن يسعفني الوقت لتسجيل هنا كل تفاصيل التحول الجذري لدى تلاميذي بيد أني فهمت من وقتها أن الفكر يضع قناعا خاصا على الوجه.
بمجرد أن يتحرك إصبع الأمي لتحديد سحر حرف، بمجرد أن يتحرك عقله لفهم فكرة، فإن مخلوقا آخر مات فيه (الإنسان الأهلي) بعض الشيء وانبعث منه إنسانا بنفس المقدار. وأنا أتذكر هنا حادثا معبرا، معبر بقوة للأسف.
فقد أردت أثناء درسي الثاني أو الثالث أن أختبر أحد التلاميذ، وكان شابا اسمه جوزي وأصله من مدينة عزازقة.
- كيف وجدت الدرس يا جوزي؟ أجابني الشاب القبائلي بغتة:
- يا شيخ إننا نقتل الوقت هنا بصورة جيدة.
هذه هي الاستعدادات النفسية التي قدم بها تلاميذي في البداية. خاب أملي ربما، غير أني أدركت أن هذه النفسية، هذه الذهنية (الأهلية) هي التي يجب أن أزعزعها.
وبعد خمسة أشهر، تحسن تلميذي جوزي، فقد أصبح تدريجيا يأتي ليس لقتل الوقت ولكن لاستعماله بفعالية، بصورة لافتة أكثر مما تطيقه صحته العقلية. فذات مساء، جاء جوزي إلى الدرس مع كل مؤشرات الخلل.
نعم! كان جوزي مجنونا. فذهنه الذي لم يفكر مطلقا اختل عند أول تفكير. وتعاونا أنا وزملاؤه على إجلائه.
ولكن كان من بين التلاميذ أذكياء يلفتون النظر. فلن أنسى أبدا هدية بن يحيى سعدي فقد أصبح إثر أحد عشر شهرا، وهي المدة التي مكثت فيها بمرسيليا، يحل مسائل رياضية في مستوى الشهادة الابتدائية، أي أبعد من مجرد حل العمليات الحسابية الأولية. ولا يزال إلى اليوم يكتب لي رسائل جديرة أن تصلح كنموذج لبن جلول وتلاميذه من أمثال فرحات عباس، بغض النظر عن أخطائها النحوية.
ولم تكن محاضرتي التي ألقيها أيام الأحد دون جدوى أيضا، رغم أن الحضور لم يكن كثيفا كما يمكن تخيله.
وهناك بالطبع نشاط الإدارة الاستعمارية التي تعرف، كما تعرف دائما، جميع أسرار وخفايا عقلية (الاندجين). فقد كنت استمد القضايا التي تتناولها محاضرتي من حياة إخواننا في شارع شابولييه. ومن هنا كان من السهل تأليب ضدنا جميع المصالح القذرة لأصحاب المطاعم الوسخة ومقاهي العرب الذين كان من السهل تصوير نشاطنا - نشاطي ونشاط تلاميذي- بأنه يضر بمصالحهم. فأصبح أعضاء المكتب أنفسهم يتغيبون عن الاجتماعات، ثم استنكفوا تدريجيا عن دفع ثمن إيجار المحل، نادي التربية والتعليم. فاعتقدت من الواجب أن أتوجه لجمعية العلماء ممثلة في شخص الفضيل الورتلاني لإنقاذ نادينا الموجه للتربية والتعليم.
رد على رسالتي ردا دبلوماسيا ووعدني بعون الله ، كنت بالطبع أتفهم موقفه، فقد كان يدعو ل (الثقافة الإسلامية) بينما كنت أدعو للإسلام والحضارة. ولم تكن هناك صلة مشتركة بين العقليتين. في
غضون ذلك، مر علينا الشيخ مبارك الميلي (عليه رحمة الله) فاستبقيناه بمرسيليا ليقدم لنا درسا. كان مريضا وعائدا من فيشي. غير أنه قبل الدعوة. كان (العالم) الوحيد الذي ترك لدي انطباعا بأنه صادق. ولم يخف عني قلقه إزاء الوضع الذي تتخبط فيه جمعية العلماء منذ زيارتها المشهودة لباريس ، فالعقبي الذي أفرج عنه اتخذ بكل وضوح موقفا مع الإدارة. أصبحت الجزائر تتأرجح بين بن جلول ومصالي. وتمكن مييو (Millot) الذي خلف ميرانط (Mirante) من فرض عقلية ماسينيون نهائيا في الإدارة الجزائرية. لم يتمكن والدي لحد الآن أن يعود لعمله رغم مساعيه الحثيثة.
كنا، والحال هذه، محرجين أكثر فأكثر في مقر النادي بشارع فوشييه. وقد استعملت الإدارة كافة أوراقها. بدأ بعض أنصار مصالي يشنون حملات دعائية لا تهدأ ضد (نادي التربية والتعليم)، وكان ذلك باسم الوطنية طبعا، تماما كما حصل عندما نددت جمعية الطلبة بالجزائر العاصمة بكتابـ (شروط النهضة) في 1949.
لقد عرفت الإدارة الاستعمارية كيف تستفيد من وطنية الأهالي (patriotisme indigène) . ثم قامت بالطبع في غضون عشر سنوات بتحسين هذه الوسيلة الرائعة. غير أني وتلاميذي قاومنا. وكانت زوجتي التي التحقت بي في ردهة محل الحدادة القديم عونا لي بقدرتها على إعداد كل شيء من لا شيء. فضاعفت من نشاطي.
كانت مرسيليا تحتضن كل مساء منتدى يتبادل فيه الصحفيون والفنانون والعمال البسطاء والفوضويون والفاشيون آراءهم، وأحيانا
شتائمهم. فقررت أن أسمع صوتا مناهضا للاستعمار. فذهبت ومعي بعضا من أحسن تلاميذي المكونين من مرسيليا كمحمد سوالمية وسي حاج بن يونس وغيرهما
…
وكنت أواجه أحيانا نيات سيئة لا تخطر على بال، وأصادف مرات أخرى جهلا مطبقا بقضايا الاستعمار. غير أني كنت أنتزع دائما مودة كل الذين تحدوهم نيات صادقة حيث كنت أحدث فيهم تأثيرا عميقا بما أكشف لهم من حقائق عن الوضع بالجزائر.
بيد أن الأحداث كانت تتسارع في العالم. وكان الحديث ذات صباح عن لقاء ميونيخ (1). وقامت المنظمات الديمقراطية التي نظمت مهرجانا في قاعة لم أعد أذكرها بتوجيه دعوة (لأمين نادي التربية التابع للمؤتمر الإسلامي). لبيت الدعوة واصطحبت معي بعض التلاميذ. كانت القاعة تغص بالحضور. أخذت بدوري الكلمة، فعمت الدهشة لأني طلبت أن يشير جدول الأعمال إلى عريضة تنديد بالوضع الظالم السائد بالجزائر. لم يكن الأمر متوقعا. وعندما تم تجاهل عريضتي، صعدت عنوة إلى المنصة لأكرر احتجاجي في هذا اليوم التاريخي للقاء ميونيخ.
خرجت من القاعة مشمئزا وكلفت تلاميذي بدعوة مسلمي شارع شابوليية لمحاضرة في زوال نفس اليوم. لا أعرف إن كان الجو العام
(1) المقصود اللقاء الذي عقد بميونيخ في عام 1938 وجمع هتلر (ألمانيا) ودلادييه (فرنسا) وموسوليني (إيطاليا) وشمبرلين (بريطانيا)، وهو اللقاء الذي تقرر فيه فصل منطقة السوديت من تشيكوسلوفاكيا وضمها للرايخ الألماني، فتم إبعاد شبح الحرب مؤقتا. وقد أثارت القمة جدلا واسعا في فرنسا وغيرها من البلدان. (المترجم).
هو الذي حرك الهمم أم لا، فالردهة الواسعة لمحل الحدادة القديم كانت غاصة بالحضور، بل كان الناس خارج المحل في شارع فوشييه، فكان رأس الجموع أمام المحل يسمع كلامي لأخره. رددت على مسامع الحضور تنديدي بعد أن فصلت فيه، والذي تقدمت به صباحا أمام ديمقراطيي فيدرالية منطقة بوش دي رون. كنت مدركا تماما أني الجزائري الوحيد الذي رفع تنديدا علنيا ضد نظام سيعبئ المسلمين للدفاع عنه. وكنت أعرف أن آذان الإدارة سمعتني صباحا وستسمعني مساء أثناء خطابي في شارع فوشييه. وكنت أعي أن هذا اليوم لم أخرق ببراءة بيت العنكبوت بجناحي الصغيرين وحسب بل زعزعتها بمهبي بخطورة، ولكن بنية مبيتة.
انتظرت توقيفي من لحظة لأخرى. وفي الساعة الخامسة زوالا، أخبرت بأن الحرب لن تقع.
هل كان ثمة داع لتوقيفي؟ أترك للقارئ من الأهالي العناية بالإجابة لماذا لم يتم توقيفي؟ أما القارئ المسلم فإنه يفهم الموقف تلقائيا.
غير أن مقامي قد طال أكثر من اللزوم في شارع فوشييه في عين الإدارة وعندما فشل (الوطنيون) وأصحاب المطاعم الحقيرة والمقاهي العربية في دفعي لمغادرة المكان، تكفلت ولاية مرسيليا بمهمة إبعادي.
فبعد أيام، تلقيت استدعاء من المفتشة الأكاديمية لمنطقة بوش دي رون، فذهبت.
التقيت بشخص تظهر عليه علامات الإحراج من المهمة التي كلف بها. كان هو مفتش الأكاديمية وأخبرني بأني لا أتوفر على أي
سند قانوني لأزاول التعليم. فأفهمته أني أعلم الأبجديات لأميين مساكين من كبار السن لم يكن عندهم حظ وجود مدرسة في مناطق سكناهم في صغرهم. وأضفت بأني مهندس.
ابتسم الموظف وكأنه حكم علي بأني بدرجة من السذاجة بحيث لا أفهمه، فعزم على إفهامي فقال:
- سيدي، أنت تدرك أنه منذ أن بدأ سكان شمال إفريقيا يتعلمون ومنذ بروز (قضايا) فلسطين، لم يعد بالمقدور قيادتهم وحكمهم.
أدركت أن الموظف الموقر لا يعرف جميع خبايا هذه القضية التي يوجد بها عامل شخصي يمس بشخص. ثم بقيت في مستوى حديثه ونددت بإجراء يمس المسلمين لأن اليهود لم يكونوا راضين تماما عن علاقاتهم مع إخواني في الدين. ضاق الخناق على الموظف الموقر فقال وكأنه يعترف:
- أنت تفهم أن الأمر لم يصدر من هنا ولكن من فوق. فأدركت أن ماسينيون يتابع من باريس خطواتي وأنا بمرسيليا.
هل من الواجب مضاعفة الكفاح؟ كنت أستطيع أن أذهب إلى حد دفع الإدارة إلى استعمال القوة تجاهي.
غير أن وضعي المادي الصعب أرغم زوجتي على العودة إلى درو.
ولم أكن من جهة أخرى لأرفع المساهمات الأسبوعية التي يدفعها تلاميذي بخمس فرنكات لأن معظمهم كان بطالا. فاعتبرت أن مهمتي في مرسيليا قد شارفت على نهايتها. غير أني مكثت بعض الأسابيع بعد ذهاب زوجتي. وحين حل يوم مغادرتي، بكى تلامذتي،
فقد فارقهم أب وصديق لكنه ترك لهم شيئا يدب في روحهم وفي ذكائهم. وهذا الحاصل فعلا إلي يومنا فعندما كان بن يحي يكاتبنا أنا وزوجتي فكان يستهل رسالته بـ (أمي العزيزة) أو بـ (أبي العزيز). بمنعي من ممارسة التعليم الحر، فإن ماسنيون لم يستلهم فعلته من وجهة نظرة عامة للاستعمار الذي يحارب كل مبادرة من شأنها أن تؤثر في عقول وقلوب وأرواح المستعمرين - بفتح الميم الثانية -وحسب، بل يستلهم أيضا وبالأخص من وجهة نظر خاصة أنه من الممكن أن تنبثق من شارع فوشييه حركة لا تعير الانتخابات أهمية وإنما تهتم بالإنسان والتراب والزمن، حركة لا تهتم بـ (الحقوق) وإنما بـ (الواجبات). لأن ماسينيون يعرف جيدا أن مثل هذه الحركة ليست سياسة الدجل المنحطة والعقيمة التي يمتهنها الأهالي (Boulitique indigène) ، (والتي تمنحها الإدارة دفعا وتشجيعا من خلال أبطال وشهداء مزيفين لضمان ديمومتها) ولكن سياسة (Politique) من شأنها أن تغير من شروط الحياة الجزائرية. وهذا بالضبط ما كان ماسينيون يسعى لتفاديه عندما منع عني التدريس الحر. وحتى أنا شخصيا لم تكن لدي للأسف الوسائل الضرورية لإطالة بقائي في مرسيليا. ففارقت تلاميذي مضطرا لأمر على درو قبل أن أعود للجزائر. قضيت أسبوعين أو ثلاثة فقط مع زوجتي ثم عدت إلى تبسة من جديد. كان الجو للهرج والمرج أكثر من أي وقت مضى.
دعيت مرة من قبل رجل موقر من تبسة لحضور حفل استقبال نظمه على شرف الدكتور بن جلول، وكأن حفل الاستقبال أعد
خصيصا لي. كان بن جامع حاضرا بطبيعة الحال. كما حضرت الحفل نخبة تبسة برمتها.
كانت الفرصة جيدة ولا يجب تضييعها. قررت في أعماق نفسي أن أضع الصنم (1) أمام مسؤولياته، أمام معجبيه ، للتذكير فقد كان الحديث
يجري في الجزائر وقتها عن (بركة) بن جلول (نعم هكذا)، رجل (الطائرة الخضراء)، لون الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا هو الزمن! كان عددنا كبيرا حول الخوان، وكان بين الحضور خالدي، الذي لا يزال طالبا شابا وخجولا. لما فرغنا من الأكل، وبغرض منعي من المبادرة بالكلام، خاطب مضيفنا بن جلول قائلا له: - حكيم! هلا تفضلت ببعض الكلمات. لم أذكر الكلمات التي نطق بها (الحكيم)، إلا أنها كانت عبارة عن تخبط عشوائي مبهم. اغتنمت الفرصة لأطلب منه بعض التوضيح حول أسباب فشل المؤتمر الإسلامي. انتبه الحضور للإصغاء. تحرج (الحكيم) واصفر. لقد أحس أني سأضيق عليه الخناق وأجره ليحدثنا عن خيانته العظمى. أحس بن جامع، الذي يجب الإقرار بذكائه الكبير، بأن الوقت قد حان لينقذ شريكه من الورطة، فأجاب مستعينا بـ (تحليل أهلي)(Analyse indigène) لم أستوعبه جيدا. للأسف كنت أنا شخصيا انديجينا باعتقادي أني سأنظم الأمور بالتوجه ل (الحكيم) الذي التزم الصمت بحذر، وامتنع عن الإجابة شخصيا.
(1) قابلت كلمة (Idole) بعبارة (صنم) انسجاما مع ما جاء في كتاب بن نبي (شروط النهضة). (المترجم).
استشطت غضبا فرحت أقدم عرضا تاريخيا عن فشل المؤتمر. كان بن جلول متهما بكل جلاء غير أنه كان في منأى عن المناقشة التي كان خطئي أني افتتحتها مع بن جامع. أدركت لما خرجنا أن (الحكيم) لم يكن ذكيا ولكنه كان أكثر دهاء مني. وتحققت من الأمر في حفلة الشاي التي نظمت في النادي والتي حضرها الشيخ العربي التبسي وجمهور كبير. انتاب بن جلول خوف شديد من أن استأنف الجدال. وهكذا، فبمجرد ما ولجت قدماه النادي، توجه الصنم رأسا إلى ركن كان يجلس فيه والدي وعانقه بحرارة. وأدركت للتو خيانة هذا العمل المشهدي غير أني، وبصفتي أنديجانيا جيدا، كنت عاجزا بفعل قبلة الخداع هذه، وأنا أسجل مكر الخائن. كما لاحظت نبرة أخرى للمكر عندما أخذ الصنم الكلمة وأحسن إلى درجة أن عرضه كان اتهاما موجها ضد العلماء. وكنت أراقب العربي التبسي الذي لم يحرك ساكنا. وأنا أتساءل إلى اليوم هل يتعلق الأمر بجبن كبير أم بغباوة عظمى. مهما يكن، وفي الغد اعتقدت أن الخطب الفاترة للشيخ قد أهانتها وقاحة الصنم، فأردت أن أسبر أغواره:
- أما زلتم، شيخنا، تعتقدون أن بن جلول لا يمكن تعويضه؟
تحرك الجسم الممتلئ وكان الجواب:
- ومن تعتقدون أنه سيعوضه.
أدركت نهائيا أن مرض (الثقافة الإسلامية) يستعصى على الشفاء.
ثم أصبح لدي إحساس بأن العديد من الناس في تبسة بدأت تعي هذا المرض وتدرك خطورته. ترجاني بعض سكان تبسة وخصوصا
الشاذلي المكي وأخوه سي مكي بأن أهتم بعض الشيء بالمدرسة، فالسكان لم يكونوا راضين عن النتائج التي تحصلوا عليها مع الشيخ العربي التبسي. اقتنعت بعد عدة اتصالات بأني قد أكون مفيدا، بل ورأيت في الفكرة وسيلة لأحصل على خمسمائة فرنك شهريا في انتظار نهايتي أو اندلاع الحرب التي قد تغير شيئا من مصيري ومصير زوجتي ومصير عائلتي.
اتفقت وأصدقائي على حفظ ماء وجه الشيخ العربي الذي اضطلع بتسيير المدرسة. غير أن التثاقل الشديد للشيخ لم ييسر لي المهمة مطلقا.
فعوض أن يقبل بارتياح، إن لم يكن بفرح، مساعدتي خدمة للصالح العام، لم يجد من القول غير هذه الكلمات: - لم يبق لك إلا أن تصدر المدرسة! هذه هي عقلية الشيخ. هذه هي روح (الثقافة الإسلامية). والحال أني لم أتلق راتبي من ميزانية المدرسة التي يجب الاعتراف أنها عاجزة أصلا. إلا أن أصدقائي تعهدوا أن يدفعوا لي خمسمائة فرنك شهريا هي نصيب مشاركة الأولياء ممن يستفيد أبناؤهم من دروسي باللغتين (العربية والفرنسية). غير أن الشيخ العربي لم يهتم لا بمصلحة هؤلاء الصبيان ولا بإخلاصي وجديتي باعتبار أن الدروس الأخرى كنت أقدمها في المدرسة تطوعا ودون مقابل تماما. غير أني صبرت وتحملت الأمر وشرعت في تقديم دروسي. وحتى أسلط الضوء على (الثقافة الإسلامية) التي يقدمها الأزهر والزيتونة وتجليات جمالياتها أكثر، فإني سجلت نقطة معتبرة. فعوض أن يستعمل
مداركي ويستفيد منها كبار التلاميذ سنا في المدرسة قام الشيخ العربي عندما وزع الدروس على الأساتذة بتكليفي بقسم الحضانة رغم أني كنت من بينهم متطوعا دون مقابل. ويجب أن أضيف أن أحد طلبة السنة الأولى بجامعة الزيتونة كان قد رفض هذا القسم لأنه قدر بأنه لا يناسبـ (ثقافته الإسلامية) الواسعة.
فتكفلت بالقسم إذن دون مقابل، ورأيت بأنه يستحق كل العناية. أما دروسي الخصوصية فكنت أعطيها في المساء بعد مغادرة المدرسة. وكان علي أيضا أن أعد بعض التلاميذ لمسابقات متنوعة بمنحهم دروسا خصوصية.
وعلي هنا أن أسجل كذلك أمر، فيه من العبرة ما فيه. فقد كان أحد تلاميذي إبنا للوكيل القضائي للمدينة وكان قد رافع في إحدى المرات ضد الشيخ العربي التبسي في قضية طلاق. وكان من الطبيعي أن يأتي ابن الوكيل هذا إلى مدرسة تتوفر على صبورة وطاولة.
الأمر طبيعي أليس كذلك؟
كلا! ف (الثقافة الإسلامية) كانت ترى المسألة بنظرة أخرى: فقد أخبرني الشيخ العربي التبسي عبر تاجر من تبسة (هو والد الشيخ علي لوكسي) أني استقبل ابن (خائن) في المدرسة، وعليه يتعين علي أن أغادرها شخصيا دون عودة. في قرارة نفسي، كنت أرى أنه حتى وإن كان الوكيل القضائي أكثر (خيانة)(من العربي التبسي شخصيا)، فلا يجب أن يتحمل ابنه البريء تبعات تصرفات والده.
غير أني ذكرت مرارا لرسول الشيخ العربي أن القرآن الكريم يأمر
محمدا صلى الله عليه وسلم باستقبال مشرك وإيوائه: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} . (1) غير أن الشيخ العربي بقي متصلبا في رأيه بخصوص الصبي المسكين بسبب والده المتهم بـ (الخيانة) لأنه رافع ضده.
هذا ما تفعله (الثقافة الإسلامية) بتعاليم القرآن. اللهم إلا إذا كان القرآن بالنسبة للشيخ العربي وأمثاله ليس الإسلام أو أنه كتاب الكلمة الطيبة وليس العمل الصالح.
يجب إضافة أن ربيع ما قبل الحرب كان غنيا بالحوادث مع الشيخ.
كنا في مارس أو أبريل 1939، ولم يكن لقاء ميونيخ سوى تأجيل وليس حلا لوضع دولي ما فتئ يزداد تفاقما كل يوم. فموسوليني استأثر بألبانيا، واستغل الاستعمار هذا الحادث الشنيع ليمتدح روح الجهاد ضد دول المحور.
بقيت في الجزائر بعض الأماكن لم يدنسها الاستعمار وهي المقابر البائسة التي يجد فيها المسلم مأوى آمنا ضد الاستعمار، بالنظر لطابعها المقدس على الأقل.
غير أن بن جلول وفرحات عباس لم يشاءا أن يتركا حتى هذا المأوى مقدسا لموتانا. فقام البطلان بتنظيم (يوم ألبانيا) المعروف والذي جرت وقائعه في مقابر الجزائر العاصمة، وهناك، وبحجة التنديد بالاستعمار الإيطالي الفاشي، قام كل الخونة الحقيقيين بالاحتفاء بالاستعمار الفرنسي الفعلي.
(1) سورة التوبة، الآية 6.
وعلى غرار باقي مدن الجزائر، قامت تبسة بتدنيس مقبرتها. ودعي الجميع لهذا الفعل المنكر الذي أمرت به الإدارة بكل جلاء. وتجرأ بعضهم لترشيحي، عبر عبد الحفيظ مسكالجي، وهو من أقاربي، لأتحدث في الجمع حتى (أكفر عن ذنبي) أمام الإدارة ويستعيد والدي منصب عمله. فرفضت. ناهيك أني قررت أن لا أغادر بيتي مطلقا زوال هذا اليوم فأغيب عن المقبرة وحتى عن المدينة حيث سيتم التعبير عن الاحتجاج على احتلال ألبانيا. وكان قصدي التنديد بخيانة (الأبطال). في هذا اليوم بالذات، وبينما أنا في طريقي متجها صوب منزل زوج أختي عبد الحميد في حدود منتصف النهار لتناول الغداء، صادفت الشيخ العربي التبسي يرافقه الشيخ عيسى الذي يلازمه كالظل. استوقفني (العالم المسلم) ليعرف هل سأكون في المقبرة بعد الزوال. أجبته بالنفي. لاحظت قسمات وجه (العالم) تتشنج وفورة من العرق في جبينه تتشكل وخاطبني وهو محرج:
- وددت لو تحضر معي.
أدهشتني هذه الدعوة التي لم أكن انتظرها. وبعد أن لاحظ الشيخ ربما التعجب باديا على محياي شرح كلامه قائلا:
- نعم وددت أن يرافقني شخص يكون صافيا على شاكلتك، فأنت تدرك
…
أدركت فعلا أن (عالما مسلما) لا تعوزه الشجاعة لرفض المشاركة في تدنيس طلبته الإدارة وحسب بل ولإخفاء هذا العيب عن أعين
الناس فضل أن يجر في تدنيسه (شخصا صافيا). لم أعرف ما هو الاشمئزاز الذي تحملته لأقول بأدب ل (العالم):
- وأنت؟ هل أنت مرغم على الذهاب؟
أجابني: نعم فأنت تعرف أن الإدارة تراقبني.
هكذا الحال إذن. لقد كان الشيخ يولي حكم الرجال والإدارة أهمية أكبر مما يولي أهمية لحكم الله تعالى ومراقبته. رأيت أنه كان محرجا كثيرا وكان يثير الشفقة أمامي فلم أجرؤ على أن أقضي عليه بأن أقول له مثلا أني مراقب من الإدارة أكثر وأن حالتي المادية وحالة أسرتي كانت أصعب وأقسى بكثير من حالته. فأجبته ببساطة:
- الشيخ، أنا لا أعتقد أني مضطر أن أشارك في تدنيس المقبرة، إلى اللقاء.
هل شارك الشيخ شخصيا في هذا العمل الشنيع أم هل اتعظ من موقفي فاستخلص منه درسا؟ لا أعرف ولا يمكن أن أؤكد مشاركته أو أن أنفيها. أهل تبسة يعرفون.
مهما يكن من أمر فإن من الواجب بسط هذا (اليوم المشهود) في خضم خطة السياسة الاستعمارية في الجزائر حتى نفهم المأساة التي أقدم لمحة عنها هنا: إنه يوم سعت فيه القيادة الاستعمارية، التي تضم ماسينيون، للتعرف على حال الوسط الإسلامي وقد سجلت ارتياحها في مساء ذلك اليوم، وكل شيء عاد إلا بعض النقاط) (كما يقال). وقد كنت حتما إحدى تلك النقاط في نظر الإدارة ووضعي الشخصي سيتأثر بذلك وأحس به.
كنت أكسب خمسمائة فرنك كان أصدقائي يقومون بجمعها ببعض الصعوبة لدى أولياء تلاميذي، لقاء الدروس التي كنت أقدمها. استقدمت رغم ذلك زوجتي التي كانت بدورها تعطي دروسا دون مقابل لصالح البنات في فن تسيير المنزل والحياكة.
في غضون ذلك اختمرت فكرة طيبة في ذهن الشيخ العربي. فقد اقترح علي ترجمة مقدمة مثيرة لكتاب باللغة العربية كان صاحبه، وهو من الحجاز، لاجئا في القاهرة ويحس الأشياء ويقولها بروح نيتشوية (âme nietzschéenne). وكانت رغبة الشيخ هي تعريف الشباب الجزائري المفرنس بهذه المقدمة.
استحسنت الفكرة واتفقت مع الشيخ على ترجمة المقدمة على أن أضيف لها جزءا شخصيا. وقد وعد الشيخ بالسعي لطباعة الكتيب من طرف جمعية العلماء المسلمين، فالكل يعرف أني كنت فقيرا خاوي اليدين. اشترط أن ينشر الكتيب باسمه وباسمي، فقبلت.
تسارعت الأحداث وأدركت أن لا أحد في الجزائر يعمل على إعداد الوعي الشعبي للمأساة التي ستنفجر. فقررت أن أقوم بالمهمة بنشر هذا الكتيب. قام أصدقائي سي المكي والخالدي ونوري ومشري بدعم مشروعنا.
بعد أن فرغنا منه، قدر الشيخ أنه خطير جدا واقترح تغيير النص وتلطيفه.
عندما فهمت التعديلات التي اقترحها أدركت أن الشيخ يريد أن يبرز اسمه في كتيب ولكن ليس في كتيب خطير. بيد أن هذه
التعديلات تفقد كل الطابع الذي أردت أن اصبغه على العمل. فرفض الشيخ أن يشارك في مثل هذه الشروط.
انتدبنا مشري نوري، أحد أصدقائي، ليعرض الكتيب على اللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري بالجزائر العاصمة حتى يتكفل هذا الحزب بنشره. غير أن اللجنة وبعد عدة لقاءات اكتفت بتهنئتي وبموافاتي برغبتها في عرض الكتيب على أعضائها بعد رجوعهم لأن أغلبهم كانوا في عطلة.
هكذا كان القادة الجزائريون يعدون بلادهم للمأساة التي ستنزل عليها وعلى العالم قاطبة.
كان الصف في نهايته وكانت الأحداث ترهص بكل جلاء للحرب.
لم استطع أن أفعل شيئا لإيصال هذه الرسالة وتبليغها للبلاد.
وضعي المادي لم يعرف تحسنا. ظهر إعلان في صحيفة (La Dépêche de Constantine)(برقية قسنطينة) فقمت بمحاولة يائسة في خضم محاولات كثيرة أخرى. فحوى الإعلان هو تنظيم مسابقة لتوظيف حاسب في الدائرة التقنية للجسور والطرقات لمدينة عنابة. تذكرت بصورة مبهمة تكويني التقني فقمت في الحال بتحرير طلب لتسجيل اسمي في هذه المسابقة. تلقيت بعد أيام ظرفا كبيرا حوى برنامج وشروط الامتحان الخاص برسم تصميمات الجسور والطرقات. حسبت أن الأمر مجرد خطأ فذكرت بطلبى الخاص بمسابقة الحاسب. يومان بعدها، أجابني كبير المهندسين في ركن من رسالتي ذاتها بأنه يجب أن (يفهم من عبارة الحاسب
(calculateur) ليس معنى المحاسبـ (comptable) ولكن حاسب في مقاومة المواد).
أخذت قلمي مجددا لأنبه السيد المهندس أني لم أقل له مطلقا أني أجهل معنى مقاومة المواد كما أني أعرف جيدا الفرق بين - -المحاسب والحاسب، وأني أنا شخصيا مهندس وأن ترتيبي كان الأول في الامتحان الكتابي لمنصب حاسب في الدائرة التقنية للمدفعية، علاوة على أني لم أطلب منصب عمل وإنما التسجيل في مسابقة ستتكفل وقتها، بإقصائي لعدم كفاءتي، إذا كان ذلك هو المآل.
وفي خضم تسارع الأحداث، جاءني خالدي ليخبرني بإعلان الحرب في هذا اليوم المشهود من الفاتح من سبتمبر 1939، مما فاقم من حالتي المزرية وزادها صعوبة.
علي أن أضيف أنه أسبوع قبل إعلان الحرب، كان بن جلول قد أعد تصريحا معبرا عن الأحداث، فقمت برد مفحم على تصريحه. غير أن صحيفة (le Parlement)(البرلمان)، لسان حزب الشعب، إضافة إلى صحيفة تونسية أرسلت لها الرد، رفضتا نشره. لقد وضعت وطنية الأهالي نفسها خارج المعترك.
أيام بعدها، لم أجد ولو لترا من بترول الاستصباح عند قريبي عبد الحفيظ مسكالجي الذي اكتفى عندما لقيته ذات مساء بأن قال لي بأنه لم يتزود بعد بالبترول من المستودع. فهمت المقصود.
انقطع التيار الكهرباء ذلك المساء، فقضيت وزوجتي الليلة على نور شمعة. استعد المسلمون الأغنياء للسوق السوداء. كان الشخص
الوحيد الذي قال لي كلمة مشجعة في تلك الأيام القاتمة هر قريبي صالح حواس الذي أدرك ربما الهم الذي يكدر أيامي وينغصها:
- لا تخش شيئا سنتقاسم كسرة الخبز سويا.
المسلمون الفقراء، من جانبهم، استعدوا للحرب. ولإذكاء حماسهم، قام الدكتور بن جلول وفرحات عباس بالانخراط في الجيش الفرنسي.
تلقى والدي في نفس اليوم برقية تعيد إدماجه في وظيفته -بعد سبع سنوات من السكوت المنظم- وتلقيت من جهتي، كتيبا يتضمن الرد على النازية. فهمت جيدا المساومة المقترحة علي ضمنيا. إلا أنني اعتقدت من الواجب أن لا أحذو حذو بن جلول وفرحات عباس، والنتيجة هي أن والدي لم يعد إلى عمله. أما أنا فقررت أن أغادر الجزائر إلى فرنسا ومعي زوجتي.
وقبل ذلك كان علي أن أجني بعض الذكريات السيئه بتبسة. كنت قد أنشأت (جمعية حماية الفتاة المسلمة). فالعديد من الفتيات العذارى يشتغلن كخادمات لدى عائلات يهودية. وكان من العادي أن ينادى على هاته الشابات باسم (فاطمة) وكن في أغلب الوقت يحملن سفاحا، ولم أجد مسلما واحدا يقترح وسيلة لإنقاذ الفتيات المسكينات من وضعهن المزري ك (فاطمات) وكأمهات عازبات. قمت، والحال هذه، بتحرير أنظمة مشروع الجمعية بطريقة يمكن تعميم التجربة تدريجيا في كامل الجزائر. وكان النظام بسيطا: إيجاد مأوى لهؤلاء الفتيات اللواتي سيقمن تحت مراقبة زوجين مسلمين طاعنين في السن تقيين إما بالعمل باليوم عند عائلات مسلمة محترمة أو القيام بغسل الثياب التي تجلب لهن.
وتقترح الأنظمة كذلك جائزة سنوية تخصص ل (الشابة المسلمة العفيفة).
وجاء اليوم الذي دعوت فيه سكان تبسة، وكان من بينهم بالطبع الشيخ العربي التبسي، لتلاوة أنطمة مؤسستنا والإعلان عن تأسيسها. كانت قاعة (نادي الشباب) غاصة بالحضور. تلوت مواد النظام وعلقت عليها. وتقبل الناس كلهم الفكرة وصفقوا لها.
أخذ الشيخ العربي فجأة الكلمة. وكنت انتظر بديهيا منه ذلك معتقدا أنه سيدعم مبادرتنا. ولكنه قام بالعكس مبررا موقفه بأن (مؤسسة حماية الفتاة المسلمة) غير مناسبة. فالسكان يجدون مشقة في دعم المدرسة.
لم أفهم مقولة علي بن أبي طالب: (كلمة حق أريد بها باطل)، أفضل من ذلك اليوم.
ذهلنا أنا وأصدقائي. وفهمت ما يجول في نفس (عالم) مسلم: المهم عنده هو المجابهة ومقابلة هيبته الشخصية بهيبتي في نشاط ارتأى فيه غياب مصلحة له ك (مستشار) أو (رئيس). وأسفاه على العمل الخيري حتى وإن تعلق بالشرف، المهم هو أن يبرز الشيخ هيبته وسمعته. ها هي تجليات (الثقافة الإسلامية). وعند خروجنا من الاجتماع قام شاب متعصب بترجمة شعوره تجاه الشيخ بصوت مرتفع.
وتحضرني ذكرى أخرى. عندما حررت رسالتي للشعب الجزائري، فيها عن (نصف ساعة من الواجب)، وهي فكرة كررتها عشر سنوات
فيما بعد في كتابـ (شروط النهضة). غير أني أردت أن أجسد مفهوم (استعمال) الوقت هذا في إنجاز من شأنه أن يشرح أهميته من خلال مقارنة الفعل والكلمة.
فمن ضمن المقابر الموجودة بتبسة، كانت مقبرة المسلمين أكثرها إهمالا دون سياج ولا ممرات: كانت عبارة عن مغرغة للموت عوض أن تكون مكانا للراحة الأبدية. ولاحظت، من جهة أخرى، أن العديد من شباب تبسة يحدوهم حماس وطني فياض فيستهلكونه في الكلام في المقاهي. فارتأيت أنه من المفيد استعمال هذا الحماس فيصبح تدريبا نفسيا وإنجازا ميدانيا في آن واحد. فاقترحت على بعض هؤلاء الشبان تخصيص (نصف ساعة) من كل جمعة للاعتناء بالمقبرة ووعدتهم بالسعي لإيجاد المال والبنائين لبناء سور إن هم جمعوا كل الحجارة المنتشرة داخل المقبرة. تبخر (الحماس الوطني) بمجرد أن أصبحت القضية عملا عوض مجرد كلام. فأدركت أن الناس في الجزائر تحب أن تتكلم عن (الوطن) ولا تحب خدمته.
هذه بإيجاز شديد وبصورة ملخصة الذكريات التي حملتها معي من بلادي وأنا أغادرها متجها نحو فرنسا.
في مثل هذه الظروف غادرت الجزائر في منتصف سبتمبر 1939، بعد أن قمت بحل العديد من المشاكل الإدارية والمالية التي فرضها علي هذا السفر.
عندما أبحرت السفينة من ميناء عنابة، كنت مستندا على متراس ظهر السفينة، تراب الجزائر ينمحي أمام عيني تدريجيا في الأفق.
ثم صعد من أعماقي، التي حملت أكبر مقدار من النفور والاشمئزاز لم يحملها أبدا إنسان وهو يغادر وطنه، شيء كالذكر، فتمتمت: - يا أرضا عقوقا! تخصين الرجل وتهينينه. يا أرضا قاسية! تقتلين أبناءك وتتركينهم للجوع وتطعمين الأجنبي! أتمنى أن لا أراك ولن أعود إليك أبدا حتى تصبحي حرة!
تمتمت هذا الدعاء بينما كانت النظرة الأخيرة لأرض ميلادي تبتعد وتنمحي في الأفق.
تذكرت هذا الدعاء، كما أتذكر دوما أمنيتي في جوان 1936:
- ربي لا أريد نصيبي في هذه الدنيا! فمنذ ثلاث سنوات خلت وأنا أتحقق من أن دعائي هذا مستجاب، غير أني لم أصدق مطلقا أنه سيتحقق طول هذه المدة: فأنا لم أحصل من هذه الدنيا سوى تجربة محزنة تثير الرثاء.
غصت في مغامرة ستطول سبع سنين، بينما كان العالم يغوص في الحرب العالمية الثانية.