المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌رحيل والدتي كنت على عجلة من أمري للعطلة ورؤية الوالدين بعد - مذكرات مالك بن نبي - العفن - جـ ١

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌رحيل والدتي كنت على عجلة من أمري للعطلة ورؤية الوالدين بعد

‌رحيل والدتي

كنت على عجلة من أمري للعطلة ورؤية الوالدين بعد أن أخبراني بعودتهما من مكة. والحق أن هذه العودة أصابتني ببعض الخيبة. غير أن التأملات وتصورات الحجيج الذين تشرف والداي أن يكونا ضمنهم، كانت تصرح بمخيلتي في القطار والباخرة اللذين حملاني إلى الجزائر. لقد كنت مستعجلا لأطرح عليهما أسئلة حول المملكة السعودية التي ابتهجت لإنشائها في 1926 عقب نهاية دراستي بمدرسة قسنطينة. ولم أتوقف من يومها عن متابعة أخبار تطور الوهابية، التي شبهتها في البداية بسلفيتي قبل أن أفضلها تدريجيا.

وصلت إلى تبسة في مثل هذه الحالة النفسية. وأذكر الوقار الخاص الذي قبلت به يد والدتي. وبدا لي البيت الذي كنا نسكنه -ولا زلنا - وكأنه يشع نورا وأنه أكثر إضاءة، وكانت أجواء مكة والمدينة حاضرة تحت سماء تبسة التي ظهرت لي أكثر إشراقا.

أحضرت لي أمي الكثير من الهدايا والذكريات من الأماكن المقدسة وأخص بالذكر مسبحة من المرجان الأحمر. ثم بدأت، وهي المرأة النبيهة، فحدثتني عن العناية الإلهية التي مكنتها من تجاوز حاجز الجمارك في مدينة عنابة دون أن تدفع شيئا عما حملت من نفائس: حزام فضة من الضفائر لزوجتي، هدايا لشقيقاتي وطاقيات حجازية

ص: 69

لأبنائهن ومسبحات للجميع وأطقم للقهوة والشاي للببت. فبعد نزولهما من الباخرة، ووالدتي العرجاء تجر عكازيها ووالدي يحمل حقيبتين ثقيلتين، هرع إليهما أحد سكان عنابة من أثرياء المدينة المحترمين ودعاهما للنزول ضيفين عنده، فرحا باستقبال حاجين تقيين في منزله. ودون أن يفكرا بتاتا في الإجراءات الجمركية، توجه والدي ببراءة وبغير قصد نحو عربة مضيفهما العنابي. ولم ينتبه رجال الجمارك إلا بعد أن اتخذت أمي مكانا في العربة واضعة عكازيها أمامها فقدروا أنه من الأفضل أن لا يحرجا إمرأة بعرجتها.

- وهكذا، قالت لي أمي وهي ضاحكة، لم أدفع شيئا، فلو قدر ودفعت حسب الثمن الذي دفعه بقية الحجاج، فربما لم يكن بحوزتي ما يكفي لتسديد المستحق ولكان لزاما أن أدع لهم نصف الهدايا.

وقد أضحكتني هذه الواقعة البريئة فيما أضافت والدتي:

- يا ولدي، إن الله يحفظ الأمناء دون علمهم.

وهكذا وعلى امتداد أسبوع، لم يكن الحديث في المنزل إلا على الحج. ولوالدتي فن نادر في الرواية. وكان لها حس ثاقب في الملاحظة وعمق في الشعور ووضوح في الفكر، فكانت حكاياتها تسحرني. أو تثير شفقتي وزيادة عن ذلك، كنت أتعلم منها.

فكنت أحج معها في فكري. وانتابني شعور لا يمكن وصفه عندما حدثتني عن الجو الذي تندفع فيه آلاف الأرواح نحو الله في تجرد تام عبر النداء الخالد المعهود: (لبيك اللهم لبيك).

ص: 70

وكانت روايات والدتي من الصدق في بساطتها إلى حد أنها تؤثر في نفسي أحيانا. فكنت أنسحب فجأة إلى غرفتي لأخفي دموعي. وكانت أمي ذات النباهة والعمق في الروح تحس بأوقات التأثر الشديد فتجد طريقة لمنحي فرصة للانسحاب.

وكانت تبدي لي أحيانا ملاحظات عجيبة. فقد حدثتني يوما مثلا بأن ساحة المسجد الحرام بمكة يعج بالحمام. وكان هذا الحمام الذي يقتات بفضل المؤمنين يطير جيئة وذهابا ويحوم على هواه ويحط في (ميزاب الرحمة). وأضافت بأنها لاحظت بأن الطيور لا تحلق أبدا فوق الكعبة.

أعرف أن لوالدتي عقل وضعي ودقيق. غير أن الملاحظة شدتني وأثارت تعجبي، فأردت المزيد من التوضيحات، فاسترسلت:

- طبعا، يا بني فأنا أيضا تعجبت للأمر. فعاودت الملاحظة مرات عدة وفي أوقات مختلفة، فاقتنعت بما رأيت.

كما روت لي انطباعاتها حول الأماكن والناس والسلطات.

السلطات السعودية، كما قالت، تقوم بمهامها بالتمام وعلى أحسن ما يرام في كل ما يخص راحة الحجيج والنظام العام. ويقوم جنود شباب على حراسة ابن سعود عندما يقوم بالطواف حول الكعبة. ويبدو لي أنهم يحبونه كثيرا. كما قدمت لي تفاصيل عدة عن الطبخ والحياة ومظاهر الناس الذين شاهدتهم:

- يبدو لي أن نساء مصر، على الأقل اللواتي رأينا، أكثر جرأة منا نحن نساء الجزائر. ثم أضافت: لا أعتقد أني رأيت من بينهن نساء أجمل من نسائنا.

ص: 71

سألتها عن مسائل الأمن المثالية التي يقال أن ابن سعود رسخها في الأماكن المقدسة:

- بالفعل يا ولدي، فقد رأيت بأم عيني الأمر

كنت أحبذ الذهاب لمسجد الرسول في المدينة المنورة في ساعات الفراغ للتعبد في الهدوء السائد تحت القبة. وفي مرة من المرات، وكان الوقت بين صلاتي العصر والمغرب، كنت وحيدة منزوية في ركن من أركان المسجد فوقعت عيني على محفظة نقود وكانت قريبة مني ، ففكرت في الحاج المسكين الذي ضاعت منه فجمعتها. عند عودتي إلى الفندق حيث كنا نقيم سلمتها لوالدك ليسلمها بدوره إلى مدير الفندق معتقدين أنه سيفي بالمطلوب أفضل منا، نحن الأجانب. غير أن صاحب الفندق رفض استلام اللقيطة لمعرفته بالقوانين المشددة في حال كهذه. ولم يقبل سوى بإعلام الشرطة فقط. فلما قدم الموظف دون تأخر، وأظنه محافظ الشرطة، شرح لنا بأن اللقيطة يجب أن تبقى مكانها ولا يمكن أن تجمعها إلا السلطات. وبما أننا مجرد حاجين، يجهلان التنظيمات والقوانين، فقد استثناني وعفا عني وشكرني باسم صاحب المحفظة. فأنت ترى يا ولدي أن شريعة الله المقدسة مطبقة هناك بكل صرامة.

كنت أعرف هذا الأمر، غير أني كنت أفضل سماع انطباعات وأحاسيس والدتي وكنت أعلم أنها تجد متعة في تبليغي أفكارها. وكان الإحساس الوحيد الذي حدثتني عنه وكررته على مسامعى ببعض الفروق والأسف باد في النبرة هي قصة فتاة سوداء، كانت أمه لدى عائلة مكية.

ص: 72

(لقد ترجتني هذه الفتاة المسكينة، ذات الثلاثين سنة أن ابتاعها ، وبعد أن استشرت والدك، اتخذت قرارا في هذا الشأن. غير أن المخلوقة المسكينة. لم تطلب حريتها، لأنها لم تكن تعاني سوء المعاملة من أسيادها كما أنها فضلا عن ذلك تحت حماية قوانين مشددة. لم ترد إلا مرافقتنا إلى الجزائر. غير أن إمكاناتنا لم تسمح لنا بشرائها ودفع تكاليف سفرها في آن واحد. فشرحت الأمر للفتاة المسكينة ففضلت البقاء عند أسيادها الطيبين. وإني نادمة الآن فلو أننا تصرفنا ببعض التقشف لحملناها معنا).

وبعد توقف لبرهة أضافت:

- كانت ستأكل من الرغيف الذي كتبه الله لها.

وكانت تتنهد كلما تذكرت القصة.

لم أذكر مطلقا أني أمضيت هذا المقدار من الوقت من قبل مثل هذه الأشهر الثلاثة من العطلة.

توسمت فيها جانبا جديدا وحماسة دينية وصيغة صوفية كانت تجذبني.

للأسف كان الوقت يمضي مسرعا. وبدأت أفكر في العودة، وفي الدخول المدرسي. كما أن والدتي بدأت تفكر في الموضوع كذلك، ففي إحدى الأمسيات وبينما كنا ندردش على عادتنا، قالت لي فجأة:

- لماذا لا تستقدم زوجتك.

- ولكن يا أمي كيف علمت؟ أجبتها مقاطعا.

- يا بني، إن للأم قلبا يخبرها.

- إذن سأخبرك يا أمي، فأنا فعلا متزوج شرعا وزوجتي تسمت باسم خديجة.

ص: 73

- إنه اسم جميل. من الأفضل أن تستقدم خديجة لتمضي معنا فصل الشتاء هنا.

- ولكن يا أمي ألم تفكري في دراستي، وضياع سنة.

- أ 5! الدراسة، الدراسة، لك من الوقت ما يكفي لها.

- ولكن يا أمي أنت لك الوقت لرؤية كنتكي. أجبتها وأنا أفكر بأن هذه هي رغبتها.

لم أفكر في غير ذلك تحت سماء صافية تتألق فيها النجوم. كان جو ذلك المساء لطيفا وهادئا بعد تناول الطعام. خرج أبي على عادته من المنزل، ولم أدر أين كانت شقيقاتي. كان رأس ابنة شقيقتي على ركبة والدتي التي تداعب خصلات شعر النائمة الصغيرة وهي تتأمل السماء الصافية. وبما أن والدتي تفضل إطفاء النور في هذه الساعة المبهجة، فقد لفنا ضوء خافت يناسب المشاعر العميقة. فقالت لي والدتي التي كانت متأملة سارحة الفكر وهي تنظر إلى النجوم:

- يا بني، عليك ربما أن تخرج. أما أنا فلم أصل العشاء بعد. كنت بالفعل أفكر في حضور درس يلقيه ذلك المساء الشيخ الإبراهيمي في ساحة الولي سيدي بن سعيد.

- ليلة سعيدة، أمي، هل أحمل عنك لطيفة؟

- لا، ليس هناك ضرورة سأضع رأسها على البلاط، فالجو حار.

ليلة سعيدة يا بني.

غادرت البيت بنوع من الغبطة في النفس، غبطة لم تكن إلا والدتي لتمنحها لي. وصلت زاوية الولي حيث كان الحضور كثيفا.

ص: 74

وبدا لي الشيخ الإبراهيمي الذي أراه للمرة الأولى أقل تشبها بالقدامى من (العلماء) الجزائريين. وقد اعجبتنى بلاغته. ولكنى لاحظت على

الخصوص نباهة عقله التي كانت تمس مشكل اجتماعي لم يكن بمقدور أي (عالم) أن يجاريه كما أتصور. فقد تكلم عن التربية بكثير من اللباقة والدقة.

لقد عمق حديثه السلفية في روحي أكثر. وأبدى جميع الناس إعجابهم به.

فجأة دوى صوت رصاصة في أحد الشوارع المحاذية، فانقطع الإعجاب والسحر.

وأسر أحد الناس الذي وصل لتوه في أذن أحد الذين كانوا بجنبه أن الأمر يتعلق بعملية أخذ بالثأر، وتناهى اسم الضحية إلى مسامعنا وكان لرجل طيب. لم أعد استمع للخطيب بل أفكر في هذه المأساة التي انفجرت في مكان ليس بعيدا. ولخصت مأساة العالم الإسلامي فيها. يقتل إنسان طيب. إنها أخلاقنا، قلت في نفسي. يا لها من وحشية. رأيت في أمي بعض الحزن. ثم قالت لي عندما رأتني أعد حقائبي:

- أي بني، ها هو موعد عودتك قد اقترب. فهل ستلقاني السنة القادمة؟

لقد نطقت بهذه الكلمات وهي تبتسم. غير أن كلامها هذا أذهلني.

- بمثل هذا الكلام سأحمل معي أفكارا سوداء. أفضل أن أبقى هنا واستقدم خديجة.

وأضافت أمي التي كانت تبتسم لأن تأثري كان يعجبها باعتباره دليلا رقيقا على محبة يكنها ابن لوالدته: لا يا ولدي، ولكن أرسل

ص: 75

صورتها فقط. إني أريد أن أرى كنتي. هل هي طويلة القامة؟ إني لا أحب النساء القصيرات.

أخذت من جيبي صورة لزوجتي كنت قد تلقيتها منها، ومددتها لها قائلا:

- أجل إن خديجة طويلة القامة، ربما أكبر قليلا منك.

- ولكن الكبر أصابني ولم تترك الأمراض مني شيئا. سأتأمل صورتها بروية بعد أن تخرج وأشعل النور.

لقد كانت أكثر ساعات يومي حلاوة ثم بدأ الليل يخيم ويلف ساحتنا الصغيرة ويحيط ملامح والدتي بهالة، وقد كانت تتخيل تقاسيم كنتها من الصورة.

وإلى موعد مغادرتي، جرت بيننا سلسلة من الأسئلة عن زوجتي، حول قدراتها المنزلية وأخلاقها وروابطها العائلية. وكنت أحس من كل سؤال انشغالا أموميا كانت تزيله إجابتي: فالأم لا تمنح كنوزها لأي كان.

غير أن قلقا مبهما سكنني بعد هذا الحديث:

- لا تتعبي نفسك يا أمي ثم إنك تحسين بالألم. ثم أضفت مؤكدا وأنا أقبل يدها إذ استعد للمغادرة: يجب أن تستدعي طبيبا.

- كان الله في رعايتك وحفظك يا ولدي. إذا مرضت فهو الذي سيشفيني. أما التعب فإن لطيفة الصغيرة تساعدني كثيرا وتقرب لي كل ما يبعد عن متناولي.

ص: 76

- سأنهي دراساتي في العاجل وستأتي خديجة لتجنبك كل المتاعب وتدعك لصلاتك ودعائك.

لقد كانت والدتي بالفعل ربة بيت فائقة، على علتها، وكانت تقوم بكل شيء من طهي وغسيل ونظافة لأن إمكانياتنا لا تسمح باستقدام خادمة.

أحسست، وأنا أودعها، بنظرتها العميقة وهي تلفني بحدة جعلت يدي ترتعش على الحقيبة. كانت واقفة في السلم. عندما وصلت الباب التفت فرأيت لآخر مرة عينيها الجميلتين مغرورقتين بالدموع:

- أه يا أمي إنك تبكين.

- توكل على الله، يا بني رعاك الله، أنا لا أبكي، ثم سكبت على السلم كأس من ماء، الماء الذي يدل في الرمزية الإسلامية على ضمان العودة.

اجتزت عتبة المنزل وأغلقت الباب دون أن أحس بأني أصبحت بعيدا، بعيدا جدا عن والدتي التي لن أراها أبدا في هذه الحياة الدنيا.

وكالعادة، كانت العودة إلى باريس في جو الدخول: البيئة الصاخبة للحي اللاتيني والأحاديث مع الأصدقاء والزملاء بعد غيبة دامت ثلاثة أشهر. ثم استئناف حياة الجد والكد ببرامجها وساعاتها وأفراحها وأتراحها.

كنت لا أزال أسكن وزوجتي في ذات العمارة التي آوتنا السنة السابقة، غير أننا غيرنا الشقة وأصبحنا مستأجرين لدى تاجر أصباغ كانت زوجته تشتغل سائر اليوم في المتجر الكائن في الطابق الأرضي مما يجعلنا في راحة تامة.

ص: 77

ضاعفت من الجهد في العمل لأن تضحية والدي كانت تثقل ضميري أكبر من أي وقت مضى. ولم أعد أظهر في نادي اتحاد الشبان المسيحيين إلا مرات متباعدة.

غير أن رفاقي كانوا يزورونني يوم الأحد. وكانت زوجتي تعد لنا طبقا من الحلوى ونتبادل أطراف الحديث طوال الزوال ، وكان موضوع مناقشاتنا يدور، كما هو الحال لدى الجميع، حول صعود هتلر إلى سدة الحكم. وكان المشكل اليهودي مطروحا. فكانت المواقف منقسمة بين المؤيدين والمعارضين. (المعارضون) كانوا يبتهجون عند كل فضيحة على غرار فضيحة ستافيسكي (1)، التي كادت هذه السنة أن تقضي على الحكومة. (المساندون) كانوا ينظمون صلوات من أجل (اليهود المساكين) الذين يلاحقهم البطش وتغلق متاجرهم في ألمانيا. ثم إني حضرت محاضرة لماسينيون لم أعد أتذكر أين ألقاها. وتحدث هو الآخر عن هذا (الاضطهاد الأعمى). وكان مما قال: - لقد كلمتني امرأة يهودية مسكينة هذه الأيام قائلة أنه لم يبق (لجنسها الملعون غير الانتحار).

غير أن هذه التمثيلية وهذا التظاهر أثارا تعجبي، ففكرت: تغلق المساجد في الجزائر وتحدث ملاحقات في فلسطين ولا يندد أحد. تغلق محال في برلين، فيستتبع الحدث سخطا عاما.

(1) Stavisky: نصاب فرنسي مشهور من أصل يهودي، كادت قضيته أن تعصف بالحكومة الفرنسية وقتها. فقد تمكن من رشوة العديد من الوزراء والبرلمانيين والشخصيات النافذة للتغطية على أعماله الإجرامية وتحويله ملايين الفرنكات الفرنسية. أثار موته المريب في 1934، والتي ادعت السلطات أنه انتحار، موجة من الغضب لدى الرأي العام الفرنسي الذي طالب باستقالة الحكومة ورحيلها. (المترجم).

ص: 78

طرحت على عقلي قضية الضمير والدين المسيحي بكل قوة، فأصبحت تشغلني وحاولت أن أفهم المشكلة. وساح فكري في مسائل تاريخية حاولت بكل شغف أن أجد لها تفسيرا. فقد اعتقدت أن الفكر المسيحي مرتبط عاطفيا وفكريا، ومتواصل مع فكر الحواري بولس (Paul) . من كان القديس بولس هذا الذي ينشط ويلهم كل الفلسفة المسيحية منذ تسعة عشر قرن؟ وبدأت أدرس بكل قوة الإنجيل والقرآن. فظهرت لى حقيقة تاريخية. لقد اضطهد بولس التلاميذ الأولين للمسيح في أورشليم حيث كان يتابع دروسه التلمودية. وهذه الحقيقة تؤكدها وتشهد عليها الصيحة التي ينسبها الكتاب المقدس إلى عيسى عليه السلام بعد وفاته، عندما التقى القديس بولس وهو في طريقه إلى دمشق:

- لماذا تضطهدني يا بولس؟

ونحن نعرف بقية القصة: أصبح بولس، بسحر ساحر، حواري الدين الجديد ومؤسس الفلسفة الجديدة الناشئة وأقعدها على فكرة (انتخاب إسرائيل).

وكانت ثمة أسئلة أخرى تفرض نفسها علي: لماذا سعى بولس دوما لتحويل رفيقه تيموتي (Timothée) وصرفه عن (بلدان الشرق) حتى وكأنه يريد أن يخص أوروبا دون سواها بالدين المسيحي. ثم إني كنت أرى في تاريخ إسرائيل ظاهرة محيرة: عندما أزفت ساعة الشتات، أي الخروج الثاني لهم خارج فلسطين، توجه اليهود نحو أوروبا التي لا تزال حينها متوحشة ودون تجارة،

ص: 79

عوض التوجه نحو آسيا المتحضرة التي كانت تزدهر فيها التجارة. لم يطرح أي مؤرخ هذا السؤال الذي بدا لي مسلمة قطعية. وكان الجواب يفرض نفسه على ضميري.

لقد أحس اليهود غريزيا أن نفوذهم سيكون في أوروبا، أي في البلدان الوحيدة التي يمكن لهم أن يسيروا فيها الأفكار والرجال على هواهم.

تجلت لي لدغة العقل اليهودي (للروح المسيحية) في الصيحة التي أطلقها القيلسوف الكاثوليكي ماريتان (Maritain) الذي أجاب، بالمناسبة، شابا نصرانيا، تأثر بجو معاداة السامية السائد في تلكم الأيام، وهو يحدثه عن عيسى:(إني أمضي نصف عمري وأنا منحني أمام قدمي يهودي قلبه ممزق).

هذه العناصر تترتب في ذهني وكأنها أجزاء من عقيدة ترى في اليهودي المحرك الخفي للحروب الصليبية والاستعمار مرورا بمحاكم التفتيش، وهي عقيدة لا يمكن إدراكها من خلال بطرس المتنسك، ذلكم الجاهل الوحشي.

ثم لاحظت كيف بدأ فكري يلح تدريجيا الميدان الخفي حيث أرى فاعلا وحيدا هو اليهودي، بينما لم يظهر لي المسيحي سوى أداة، رغم بعض وعيه، فهو إنسان يحمل حقيبته ويذهب كل صباح إلى مكتبه، إنسان يحمل مزودته ويذهب إلى مصنعه خدمة لأغراض إسرائيل في هذا العالم.

ورغم أني كنت أعي الخطورة الكبيرة لأفكاري، فإني كنت أجاهر بها في كل مكان. وكنت أحدث بها أصدقائي مساء كل سبت في

ص: 80

الهوقار وكانوا لا يشاطرونني آرائي. غير أن صالح بن ساعي قال لي سبع سنوات بعدها:

- لقد كنت محقا، فاليهودي يؤدي كل شيء. لقد أدركت أنت الأمر في عالم الأفكار أما أنا فقد أخذت وعيا بذلك في عالم المال والأعمال.

وكانت حججي لا تنصب على أشكال الأشياء ولكن على مضمونها، مما سيجعل مني (العقل الأخطر) الذي يمكن أن يتجلى لدى أحد (الأهالي) من سكان المستعمرات في شمال إفريقيا، وأنا أعي المسألة اليوم جيدا.

واليوم حيث اعتقد أن نهايتي قريبة بطريقة أو بأخرى، فإني لا أفكر في أي فخر: فلا أعتقد أن ملفي الحقيقي موجود لدى الحاكم العام أو في وزارة الداخلية وإنما في الفاتيكان أو في المجمع الديني اليهودي. وأنا واثق أن الذي يدرك الوزن النسبي للأمور سيفهمني بكل بساطة.

ومهما يكن، وكلما تعمقت في الأشياء، بدت لي مقاربة (الوطنيين) و (العلماء) سطحية، فالطرف الأول يعتقد أن بإمكانه حل قضية سياسية بالمهرجانات الخطابة في قاعة بوهلييه أو في قاعة لا ميتييل (1)، أما الطرف الثاني فكان يعتقد أنه بمقدوره حله بالنحو العربي.

غير أني حافظت على الصلة بالطرف الأول وكنت أدافع دوما عن الطرف الثاني، وكنت أقول أننا سنضع أنا ومحمد بن ساعي - بعد الدراسة - الأسس الحقيقية لسياسة جزائرية.

(1) la mutuelle: وهي القاعة التي كان الوطنيون الجزائريون يخطبون فيها ويثرثرون ويطالبون بالحقوق. (المترجم).

ص: 81

ثم إن (الوطنية)(1) بدأت تبرز أهدافها الربحية في باريس: فمصالي افتتح مقهى شرقيا في مومبارناس سماه (تلمسان)

ويجب الإقرار أني لم أنظر في حينها الأمر بملامة باعتبار أن من واجبـ (قائد الوطنية) أن يضمن قوت عائلته بطريقة أو بأخرى. إلا أنها، وللأسف، الطريق المعبدة (للوطنية الجزائرية)، الطريق التي يسلكها حتما كل مغامر، يتطلع إلى فتح مطعم شعبي أو مقهى عربي، أو قيادة نقابة أصحاب المطاعم. غير أننا لا زلنا-باستثناء مصالي- في مرحلة النشوة العاطفية. والمثير هو أنه في الوقت الذي ابتعدت فيه عن (الوطنية) أصبح بومنجل وطنيا وأصبح فيما أذكر، محرر جريدة (L'Oumma)(الأمة) إلى جانب الهادي نويرة وتونسيين آخرين.

وللحقيقة فإني كنت أخطو، أنا المنهجي المنظم والكريم، خطوات متأنية على درب الخطأ، درب الوطنية الاشتراكية. وسيكون الخطأ قاضيا وسيظهر لي أنني لم أكن منظما ولكن كنت كريما فقط. فعشر سنوات بعد الواقعة، كان علي أن أتعلم أن الوطنية الاشتراكية أدت إلى تكريس المبتغى اليهودي المرسوم منذ ألف سنة بإنشاء نزعة توحيدية أوروبية وسيادتها على العالم المستعمر. ولكني كنت بعيدا عن هذه الحقيقة.

(1) تتجرد (الوطنية) أحيانا من أي بعد مقدس. وليتأمل القارئ عنوانا ورد في جريدة جزائرية: (تفكيك شبكة وطنية مختصة في سرقة السيارات بتلمسان) المقصود عند محرر هذا العنوان هو الامتداد الجغرافي للشبكة الإجرامية وتفرعها وليس حبها للوطن طبعا. (الخبر ليوم 26 أكتوبر 2006). (المترجم).

ص: 82

كما أن حماسي الوطني الاشتراكي كانت تبرره الأحداث الدولية نفسها. لقد كانت السلطات الانجليزية تضطهد الفلسطينيين وكان المفتي الأكبر يستغيث باستمرار.

ومن جهة أخرى، أعلنت الصحافة فجأة في حدود شهر ماي أن (أحداثا خطيرة يتم الإعداد لها على حدود الحجاز).

فكان للخبر وقع على نفسي، لأن السلفي، بل قل الوهابي، الذي كنت وقتها، فهم بصورة دقيقة جدا معناه. فهمت أن اليهود، وهم يتحركون كمستشارين علنيين أو خفيين للاستعمار، قد أعدوا مؤامرة ضد ابن سعود. كنت أعلم أنهم وبعد أن استعملوا ضده كل (الأسلحة الداخلية)(انتفاضات متعددة قادها الدرويش وابن رفادة وغيرهما)، فسيلجأون إلى (الأسلحة الخارجية). ولم أجانب الصواب. كانت الفاشية الموسولونية تسعى وقتها لبعث الإمبراطورية الرومانية. عشت أياما في تأثر بالغ. فكنت أدعو الله في صلواتي، والدموع في عيني، أن يحبط الحسابات الخفية التي كانت تريد استعمال الإمام يحيى لتحطيم ابن سعود. كنت أتبين إيطاليا بصورة جلية وراء إمام اليمن، ومن بعدها انجلترا وفرنسا، ثم اليهود من وراء الجميع.

وبعد أن رجعت يوما من قضاء بعض حاجاتها، روت لي زوجتي أنها سمعت رجلين يتحدثان أمام متجر. قال أحدهما:

- سوف تدمر انجلترا هؤلاء المتعصبين ومعهم ابن سعود.

وعندما تثاقلت زوجتي في مشيتها لتسترق السمع أكثر، دخل الرجلان المتجر. وفي الغد أو بعده، نشرت الصحف خبرا مفاده أن

ص: 83

الجيش السعودي بقيادة الأمير فيصل قد أفشل بمناورة سريعة كل خطة الحرب التي أعدها الإمام يحيى إذ تم الاستيلاء على ميناء الحديدة في ظرف أربع وعشرين ساعة، كما تم حرق أو إغراق جميع المركبات التي سلحت بغرض الاستيلاء على جدة وساعد على ذلك انتفاضة داخلية، وفر حاكم مدينة الحديدة سباحة حاملا معه محتوى الخزينة العامة قبل أن يلحق به جنديان سعوديان ويعودا به ويسلم للسلطات. لم يحصل نهب ولا عنف ولا تجاوزات من قبل السلطات الوهابية. وقد لفتت جميع هذه التفاصيل انتباهي وكانت لها مغزى عندي.

وقد أوردت الصحافة الأحداث وتحدثت عنها كما يجري الحديث عن كارثة مجملة بمشاريع وأفكار ونتائج. لقد خسر موسولوني بوضوح، أما الآخرون فاندحروا كذلك إلا أنهم لم يفصحوا عن خيبتهم التي أبانتها عناوين الصحف التي كانت تتضمن تعليقات عن الوضع الذي خلقته (قبائل متزمتة ومتوحشة تسمى الوهابية). ولم أزدد إلا فهما وإدراكا لأهداف الاستعمار وحقيقته. ولهذا فقد أصبت بالخيبة المريرة إثر مطالعتي، بعد الأحداث بوقت، في مجلة (الشهاب) مقالا لابن باديس يتأسف فيه على (إراقة دماء الإخوة المسلمين) ، هذا ما استخلصه الشيخ الموقر من هذه المأساة التي تقابل فيها روح الإسلام و (خيانة) المسلمين.

تحسرت على السلفية الجزائرية ونظرتها الضيقة والجبانة.

لم تزدني نهاية السنة الدراسية إلا إغراقا في معادلاتي وفي مخططاتي الرياضية. وكنت على عجلة للذهاب للعطلة ، وفي يوم من

ص: 84

الأيام، وجدت لدى عودتي من المدرسة رسالة من زوج شقيقتي، حررها بإملاء من والدتي، التي أمدني بشأنها بأخبار جيدة. ولكنها

طلبت قدوم زوجتي في الحين إلى تبسة.

كنت أعرف الكثير عن العقل السامي والمهذب لوالدتي فافترضت أنها ترغب فقط في إعداد زواج ابنها حسب الأصول والمقتضيات. وفي

كل الظروف لم أكن لأخطئ لعلمي أن والدتي كانت تأسف على زواجي الذي لم يحدث تحت إشرافها وفي منزلها. فكأنما لم أتزوج أصلا.

وهكذا بدأت أساعد زوجتي بفرح وغبطة لإعداد سفرها. وغادرت بعد ثلاثة أو أربعة أيام. ولم يبق لي إلا عشرين يوما للانتهاء من الامتحانات وللحاق بها.

طلبت من الحاكم العام الاستعادة من تخفيض في سعر تذكرة السفر إلى النصف فأجابني بأن ليس لي الحق لأن والدي من (المالكين)(propriétaire)(ونحن لا نملك سوى سكننا)، في ذات الوقت الذي استفاد من التخفيض طلبة في الهندسة من سيدي بلعباس من أبناء المعمرين. ولتمام القصة فقط، فقد كنت طالبا متفوقا أي استحق التخفيض.

ومهما يكن، فقد كنت سعيدا يوم مغادرتي باريس. وأثناء الطريق، في القطار أو في الباخرة، كنت أتخيل والدتي وزوجتي تخيطان معا وهما في انتظاري. وكنت أتصور تبادل آرائهما حول عديد من المسائل. فأنا أعلم أن والدتي فضولية تحب الإطلاع وأن زوجتي حبوبة وذات رقة وستشبع فضولها. وكنت أعلم أيضا أن في مقدور زوجتي أن تحول حياتنا العائلية وأن لأمى من الذكاء ما يشجعها على ذلك.

ص: 85

وصلت إذن بنشوة طالب اجتهد وعمل جيدا وابن وزوج تنتظره العائلة. ولم يكن ثمة ما يفسد هذه النشوة. وفي محطة تبسة، وجدت عددا كبيرا من الأصدقاء في انتظاري.

سماء تبسة تعجبني دائما. وكان لجمالها غير الحسي- لأن السحب نادرة في فصل الصيف- يتناغم مع طبعي السعيد. عندما تجاوزنا أسرار المحطة، انتبهت أن والدي غاب عن استقبالي. فأبديت ملاحظة في هذا الشأن وأنا ابتسم للصديق العزيز، الشيخ صادق، رحمه الله، وقد كان يشد على معصمي الأيمن برقة وحنان. فزاد في الضغط على معصمي. واخترق نور حزين فكري وتوجهت للشيخ صادق صارخا بعد أن توقفت: ماذا أصاب والدي؟ طأطأ رأسه وضغط أكثر على معصمي:

- لا إن والدك في صحة جيدة

غير أن العجوز

فصحت: ماذا؟

- رحمها الله، أجابني الصديق بتهتهة.

أحسست وكأن الأرض انشقت من تحت قدمي وسقطت فى هاوية، لم أدر ما نوع الهاوية التي تنبثق منها الآلام الكبرى التي تحيط فجأة بالضمير وتقضي عليه.

فكان النواح وخارت قواي وانطلقت في الدموع كالطفل. أحاط بي الأصدقاء ليربطوا على قلبي بصداقتهم. بيد أني اعتقدت أن لا شيء يستطيع أن يخفف عني اللوعة من يومها.

ثم انطلقت أجري حتى وصلت المنزل ولم أكن أدري لفرط الصدمة أني لن أجد والدتي أبدا.

ص: 86