الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
رأيت أشياء كثيرة، منذ عشرين سنة.
لقد شبعت لحد التخمة فأنا كالنحلة عندما تستبد بها الكظة من عسلها وتستفيض الجني وتدخر جنيها. للاسف فإن (العسل) الذي أضعه بين دفات هذه الصفحات مصدره ليس رحيق الزهور العبق ولكن خلاصة ما يختلج في نفس أريد لها التحطيم عبر الإكراه الجسدي والسم المعنوي.
فقصة هذه النفس وتجربتها منذ عشرين سنة هي نفسها قصة هذا الكتاب. إنها باختصار (اعترافات) أو (مذكرات). وقد استهوتني عناوين كثيرة أسم بأحدها هذا الكتاب، غير أني اخترت عنوانا يلخصها جميعا:(العفن).
ويوافق هذا العنوان بالفعل الانطباع الأكيد الذي أحمله معي من متحف أو معرض يحويان وجوها وأشياء أعرفها منذ عشرين سنة، وأجدها مرتبة ومصنفة بطريقة استذكارية معززة بشروحها وبطاقاتها الخاصة: فنحن الآن أمام مجموعة من (لوحات المرفهين
…
) مثلا، وبجانبها، لوحة خاصة بـ (أصدقاء المسلمين) من أمثال (ماسينيون)(Massignon)، أما في هذا الجانب فتوجد قاعة خاصة (بأشياء القابلية للاستعمار وقصص الأهالي)، سكان المستعمرات (indigènes)، ونقف بعدها أمام (قاعة الاستعمار والإحسان المسيحي)، أما في هذا الركن
المظلم المناسب، فنجد (قاعة الأسرار اليهودية)، وتليها (مخابر السموم السيكولوجية).
والواقع أن هذا الكتاب يتطلب عددا أعظم من الأبواب لتقديم، ولو بصورة غامضة، الانطباع الحقيقي الذي أحسه فعلا باستحضار تجربتي ولو بطريقة جد موجزة خصوصا بعد نهاية دراستي. غير أن لدي الكثير من الأشياء لا تكفي حياة للحديث عنها، خاصة وأن الأمر يتعلق بإعطاء لكل شيء معنى إنسانيا حقيقيا في تأثيره على الجسد والروح والذكاء والقلب عند مخلوق أدمي. هل يمكنني أن أصف، كما ينبغي، إحساسي في ليلية 28 من جويلية 1947، وكنت حينها واقفا أمام نافذتي وضوء الغرفة منطفئ، وقد اعتراني الشعور بأنها المرة الأخيرة التي أرى فيها نجوم السماء، إذ كان من المنتظر توقيفي مرة أخرى، وكنت عازما: على الدفاع عن ضميري بتقديم حياتي فداء له. هل يمكن للقارئ المنتمي إلى (الأهالي) أن يفهمني عندما ألخص له هذا الشعور الذي عبرت عنه أمام الشباك في الليلة الثالثة عشر من شهر رمضان: (وآسفاه، لم تتحرك أية نجمة من نجوم السماء وتهرع لنجدتي؟)
هل يستطيع القارئ المنتمي للأهالي من سكان المستعمرات أن يدرك معنى النظرة الهادئة والثاقبة لصبي في الخامسة من عمره لم يتسن له أن يضع قطعة خبز في بطنه الخاوية قبل أن يذهب للنوم؟ وهل يمكنه أن يعي مدى وقعها على النفس، بكل ما لعبارة نفس من معنى وأبعاد؟ كانت هذه النظرة من عبد الحميد، ابن أختي الصغير،
أكثر ما في هذه القصة من مأساة وأكثرها إثارة للشفقة في هذه العذاب الشديد الذي أعيشه وعائلتي منذ عشرين سنة. فالإحسان المسيحي لا يتردد ولا يقف عند حد. فعندما يريد تحطيم نفس أو فكر أو عمل أو إنسان فإنه يضرب كل العائلة، حتى النساء والصبيان
إن لزم الامر.
وعندها سيدرك القارئ المنتمي إلى الأهالي أن نظرة ابن شقيقتي هي أفظع تعذيب سلطه علي الاستعمار بعد أن عذبني عن طريق والدي ثم شقيقتي التي رمي بزوجها إلى الشارع منذ عشر سنوات، ويواصل اليوم بطرد صهره من الإدارة حيث كان يشتغل علما بأنه المعيل الوحيد لسبع أيتام.
وهل يتسنى للقارئ المنتمي إلى الأهالي أن يفهم أن نظرة الصبي هذه ليست فقط تعذيب اختير ليمارس ضدي من قبل الذين يحسنون استخلاص السم السيكولوجي ودسه في روح سعوا لتدميرها؟ ولكنها أيضا نظرة تحمل تهمة عميقة لا تطاق من عينين هادئتين ترمقانني فأطرق مطأطأ رأسي وكأني مسؤول عن كل هذه المأساة.
ولكن دعنا نفترض أن القارئ المنتمي للأهالي سكان المستعمرات يعي هذا الأمر (دون أن أحدثه عن معاناتي الشخصية، التي تصل أحيانا حد الهذيان)، فالأمر سيعني أن (الخائن المترف) هو بطل حقيقي وأن الخائن المفترض هو الشهيد مستقبلا وأن القابلية للاستعمار (فضيلة) من الفضائل، وسيفترض أن - الشخص المنتمي للأهالي سكان المستعمرات إنسان وأدمي.
فافتراض كل هذا إنما يعني تكذيبا لتجربتي الذاتية وتجربة زوجتي. زوجتي التي استعملت هي الأخرى كوسيلة تعذيب مورس ضدي عندما عرفت المرض دون القدرة على استشارة طبيب ولا على اقتناء الدواء، وعرفت ذل الخروج للعمل لمواجهة مصاريف العائلة، وقد كنت أنا في عجز تام عن أن أقوم بتوفير لقمة الخبز وضمان مستلزمات العيش بعدما أغلق الاستعمار كل سبل العمل أمامي حتى كمستخدم أجير أو كعامل بسيط، فضلا عن أنها دخلت السجن معي.
إن إيصال كل ما سبق للإدراك قضية صعبة بكل تأكيد، ولو ببراعة وحذق كاتب كبير يخاطب ناسا عاديين على شاكلة فلاحينا ورعاتنا ونسائنا المدركات. أما محاولة تبليغه لفهم (الأهالي)، ومنهم (العالم) والدكتور والمنتخب، فمن ضروب المراهنة.
وبما أن شعبنا، المشكل أساسا من ناس طيبين، لا يزال للأسف أميا، فإني لا أكتب له بكل تأكيد.
إن هذا الكتاب شهادة أنوي تركها للأجيال القادمة. غير أني أكتب بطريقة تسمح لجيلي نفسه أن يعرفها ويناقشها وينتقدها. فهي شهادة لن تكون ذات قيمة إن لم تعرض على أنظار معاصري كاتبها. إذ بخلاف ذلك فلن تكون إلا كذبا اختلقه صاحبها ننشره بعد رحيله أو شهادة مهوس بعقدة الاضطهاد أو طالب شهرة بعد الوفاة.
فأنا أرمي هذه الشهادة إذن في وجه (الأهالي)(الاندجين) في بلادي كشهادة احتقار وازدراء.
ولن أقول، من جهة أخرى، ماذا تمثل في عيون الذين صنعوا هؤلاء (الأهالي)، لأن الإنسان (الأهلي) (indigène) ليس إنسانا ولكن إنتاج استعماري أي من صنع الاستعمار. وهم يعرفون الأمر: فهم المنشطون الفعليون للمأساة المعنوية والفكرية والمادية التي سأحاول ولو بصورة جزئية، أن أرفع عنها الستار الذي يحجبها منذ عشرين عاما.
وأنا أدرك الانفعال الذي سينتابـ (الأهالي) في الجزائر وأسيادهم المعمرين بعد كشف زاوية صغيرة من المأساة التي تبين بصورة مؤثرة العيوب الدقيقة للقابلية للاستعمار والأهداف المرسومة للاستعمار.
وربما كان باستطاعتي أن اعتمد في هذا العرض أسلوبا تحليليا فأقدم الأشياء في شكل مجموعات: القابلية الاستعمار والأهالي، الاستعمار والمتحضرين الاستعماريين. غير أني فضلت التسلسل التاريخي، إذ يبدو لي أن التواريخ ضرورية للوقوف عند بعض مراحل التطور وعند معنى المأساة التي تغطي ثلاث حقب من وجودي: حياتي كطالب من 1931 إلى 1936، حياتي كمنبوذ هائم على وجهه وتمتد من 1936 إلى 1945 وحياتي ككاتب وتبتدئ من 1946 إلى يومنا.
وقد يؤدي بي الحال باعتماد هذه الطريقة إلى صوغ حديثي في شكل كتلة من التفاصيل، غير أني سأنأى عن هذا المشكل بأن أدع القارئ (غير الأهلي)(non indigène) ليستخلص بنفسه بعض التفاصيل وبعض المعاني حتى لا يلاحظ إلا ما يحقق وحدة المأساة ومغزاها.
زد على ذلك أني لم أتطرق، مبدئيا، إلى بعض مراحل وجودي إلا بشكل عابر، إذ من السابق لأوانه أن أتناول، في الظروف الراهنة، الموضوع الذي تعنيه.