الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العنكبوت
- إن السيد ماسينيون يرغب في لقائك!
لم أكن أدري ماذا سيعني هذا الاسم الذي نطق به للتو صديقي محمد بن ساعي من غير اكتراث، طوال حياتي وكيف سيؤثر في مصيري ومصير عائلتي. غير أن صديقى الذي بصق مرة أو مرتين على جانبي الرصيف، كإثارة منه عن وقفة يكف أثناءها عن الحديث، أضاف: - أجل إن بومنجل هو الذي أخبرني بالأمر. وقد أكد لي أن (أحدهم)، لم يعد يدري من هو، هو الذي أخبره بذلك.
ماسينيون، بومنجل وغيرهما
…
لقد احتجت إلى سنين من التجربة المريرة لاستخلص معنى هذه العلاقة وإدراك مغزى هذا ال (أحدهم) الذي استعمل كمجرد ستار يحجب الصلة الفعلية بين المستعمر والقابل للاستعمار، بين المخبر الذي يتقمص هيئة (العالم) و (الوطني) الذي سيرفع ذكره ويعلى شأنه فيما بعد إلى منزلة (البطل) الجزائري.
غير أني كنت وقتها أبعد من أن يعتريني شك في كل هذا الأمر. فنحن في سنة 1932 وكان وسط الطلبة الأفارقة في باريس يموج وقتها في الحركة ويفور.
وسنوات قليلة قبلها، كان أحد الأهالي من سكان المستعمرات (الاندجين) الذين أصبغت عليهم هالة المثقف أو أحد المثقفين الذين أصبحوا من الاندجين (indigénisés) ، ويدعى شريف مشيري
قد دشن مسلسل الخيانة الفكرية. فقد بين السبيل للظفر بمنصب سو بريفي (نائب وال) ومواصلة نفس الطريق في تأن وهدوء وفي مذلة تامة كلما التمس مزية أو حظوة لصالح أحد الأبناء المنتشرين بكثرة كالبراغيث في منطقة تبسة. وحصل هذا بعد أن طعن المرحوم الفاضل الأمير خالد من الخلف في وقت كان الأمير يواجه فيه هجوما من جريدة (Le Républicain)(الجمهوري) لصاحبها السيد مورينو (Morinaud) النائب عن مدينة قسنطينة ورئيس بلديتها.
ومهما يكن من أمر فقد فتحت الطريق، وأصبح عدد من الطلبة يسلكونها سيرا على الخطى المجيدة للشريف مشيري.
ولكل طريقة للفوز بمنصب نائب الوالي. فبعضهم تنصر كما كان حال إيبعزيزن الذي أنهى دراسته في القانون بمشقة كبرى. والبعض الآخر تفرنس، كما كان شأن حسين لحمق الذي أكمل دراسته هو الآخر ونشر بعدها كتابه المعروف (Lettres algériennes)(رسائل جزائرية) وهو كتاب تولى الآباء البيض أنفسهم الترويج له وبيعه لزوار (معرض الاستعمار)، فقد كان عملا خسيسا موجها ضد الإسلام، كما استخلصتم دون شك.
وهناك المرحوم الدكتور موفق رحمه الله الذي كلف بمهمة الاستفزاز، فتجده يلجأ هنا إلى المزايدة الوطنية وتراه في موقع آخر يعمد إلى العرقلة الإدارية. ويذكر أخيرا نارون المكلف بمهمة تشتيت صفوف الطلبة وتقسيم الفريق الجزائري سعيا لتولي زعامته.
وتجد في الجماعة التونسية بعض الوجوه الودودة، خفيفة الظل، على الأقل قبل أن يصيبها السوء ويذبلها المهب الذي أطلقه بورقيبة. فابن سليمان فتح عينيه على حياته كطبيب في الأفق. أما بن ميلاد فكان يدير قطاعا من جمعية الطلبة، لم أتبينه بوضوح، حتى يتسنى له استيعاب مهنته كرجل دولة تونسي مستقبلا. أما ابن يوسف فكان يبتهج داخليا عندما يدور الحديث عن الإسلام أو يسمع جملة رائعة. من جانبه، كان بن لهوان، المادي الملحد، يعد نفسه والأفكار مشوشة لديه. في حين كان الهادي نويرة لا يزال يتدرب على نبرات صوته مفضلا دائما الرجة في النبرة. وكان الراحل ثامر رحمه الله -يشع طيبة ترهص لاستشهاده.
أما جماعة المغاربة فكان يلفها غموض البلاد المغربية. كان محمد الفاسي الذي يرأس وقتها (جمعية طلبة إفريقيا الشمالية) يتريث ويأخذ وقتا للتفكير وهو يتناول كيس تبغه، ولا يستعجل أمره ويزن القضية بتأن وروية، كما يمليه عليه حس موروث عبر أجيال عديدة من تجار فاس ومعاشري الأمراء. أما بلافريج فلم يكن سوى مجرد ظل لرئيسه. وقد شكل الاثنان نواة الحكومة المغربية القادمة.
غير أن الأول كان يدرك أن الحاضر يعد المستقبل، فأقام علاقة مع ابن غبريط (1) ثم مع ماسينيون، كما أدركت لاحقا. أما توريس فكان يشكل عصبة لوحده. ووعيا منه بأنه وحيدا فقد كان يصفق لنفسه
(1) عميد مسجد باريس في الثلاثينات من القرن الماضي. المترجم.
عندما يتحدث، فهو المتحدث والمستمع في آن. والحق أنه كان خطيبا مفوها ووطنيا حقيقيا.
لم يتسن لي التعرف على عبد الجليل، الذي استفرد به ماسينيون قبل وصولي باريس، فاحتجز بين أربعة جدران لحضور حلقات دراسية وتكوينية في الدين المسيحي (séminaire) ليغادرها سنين بعد ذلك تحت اسم (الأب عبد الجليل)(Le père Abdeljalil). وربما كان أجدر الطلبة وأفضلهم، فقد كان شاهدا على تحلل البرجوازية المسلمة وتعفنها (وكان هو نفسه منتميا إليها)، فلجأ إلى المسيحية مدفوعا بمثالية عرف ماسينيون كيف يزينها له وهو المبتدئ الذي تعوزه التجربة.
من هذه العصب الثلاث كانت عصبة التونسيين هي الأطهر وكان المغاربة أكثرها إثارة للإزعاج والشقاق، أما الجماعة الجزائرية فكانت هي الأقذر والأكثر خسة.
وكان هناك في الأخير صنف من الطلبة يرون أنهم بغير انتماء. فساحلي لم يتخل بعد عن قبائليته، فكانت لغته ونفسيته تعزلانه عن الوسط.
وقد حملنا معنا إلى باريس، أنا ومحمد بن ساعي، نزعة إسلامية توحيدية تعزلنا أيضا عن الآخرين، من الجانب الأخلاقي على الأقل. وأظن أننا كنا فخورين بعزلتنا.
هذا هو العالم الصغير للطبقة المثقفة لشمال إفريقيا كما كان في سنة 1932 في باريس، وهناك بالطبع العديد من الأوجه الثانوية التي لم أتمكن من حفظ أسماء أصحابها.
عندما أخبرني صديقي بن ساعي برغبة ماسينيون في لقائي كنت أجهل أن جميع الخيوط التي تحرك عالمنا الصغير كانت بين يدي هذا الأخير. وكان هو نفسه خفيا متواريا كالعنكبوت في بيتها. ويجب أن أقول، من جهة أخرى، أنني أخذت وعيا في الحين لماذا تسعى هذه العنكبوت لاجتذابي في شبكتها التي وجد عبد الجليل نفسه سنوات من قبل محبوسا بين خيوطها، مخدرا ومقيدا.
ويجب القول أن جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا التي رأت النور بباريس، شكلت في ذلك الوقت بواكير ومقدمات للعديد من الأمور وكانت تبشر بآفاق جديدة وتحمل أمورا افتراضية لم تكن إلا لتثير قلق الاستعمار وشكوكه، فبدأ بالفعل، وبالتزامن مع نشاط الجمعية، يعتمد سياسات نشر البربرية واللاتينية والتنصير والفرنسة في شمال إفريقيا.
شكلت وصية الأب دي فوكو (Père de Foucaud)(1) كتابا يهتدي به جميع الموظفين وكل القساوسة الذين كانت لهم يد في (شؤون المسلمين)، من قريب أو من بعيد ، وكان منفذ وصية الأب دي فوكو هو ماسينيون الذي لم يخف البتة هذا الشرف بل كان يعتز به.
(1) من أسس هذه الوصية. (تحقيق التحول الاجتماعي والثقافي للشعب الجزائري المسلم بفعل الفضيلة المضاعفة للاستعمار: الحضارة الفرنسية والخلق المسيحي، وعلى خط من سبقوه كالكاردينال لافيجري، كان الراهبـ (دي فوكو) متحرقا إلى المساهمة، وفقا لأسلوبه، في المهمة التاريخية لبلده في المجال الاستعماري). من كتابـ (شارل دي فوكو في نظر الإسلام)، لعلي مراد. ترجمة علي مقلد. ص. 81. المنشورات العربية. 1980. والكتاب مولته مجموعة من الشركات الفرنسية واللبنانية. ومن المعروف أن دي فوكو وماسينيون كانا، وعلى طريقتهما الخاصة، من كبار المناصرين للمهمة التنصيرية للاستعمار. (المترجم).
أدركت إذن أنه يريد أن يقابلني لأني كنت بمثابة الذبابة التي يزعجه طنينها والتي قد تقطع بأجنحتها نسيج بيت العنكبوت التي نسجها. إذ ليس المهم عند عنكبوت من فصيلة جيدة اصطياد الذبابة ولكن القبض عليها دون أن تمس خيوط بيتها بأذى. وأؤكد الأمر، فقد كنت أنا بمثابة تلك الذبابة التي كانت من دون وعي ربما، تهز بجسارة وتهور الخيوط الغالية لبيت العنكبوت.
فبالفعل ألقيت قبل أربع أو خمس. أيام محاضرة في جمعية الطلبة عنوانها: (لماذا نحن عرب؟)(1) وعندما أقول أن بن يوسف قام إثر المحاضرة محمر الوجه من التأثر لمعانقتي، فيجب أن يفهم من كلامي الأثر الكبير الذي تركته محاضرتي في الجماعات الثلاث للطبقة المثقفة لشمال إفريقيا ، ويجب أن أضيف أيضا، أن الجماعة الجزائرية كانت حاضرة ممثلة بشخص بومنجل الذي أبدى بالصدفة معارضة لما جاء في المحاضرة. فقد انتقدني حتى في اختيار عنوانها. ولما استعرضت الموضوع على ضوء التاريخ العام لإفريقيا الشمالية، فقد وجد ممثل العصبة الجزائرية أن التاريخ لا يمكن أن يدلنا على مستقبلنا. فهذه الأطروحة هي، كما سنرى فيما بعد، مقدمة لما سيدعيه لاحقا شريكه في تحرير جريدة (La République Algérienne)(الجمهورية الجزائرية) حين أعلن في سنة 1936 بأن (التاريخ لم يكشف عن وجود أمة جزائرية)(2).
(Pourquoi sommes-nous Arabes)(1)
(2)
المقصود هنا هو المرحوم فرحات عباس الذي أنكر وقتها وجود أمة جزائرية! (المترجم).
ولكن فلندع الأمور لوقتها.
فالمهم حاليا هو أن أطروحتي تقع على طرفي نقيض من آراء
ماسنيون البربرية واللاتينية والتنصيرية والمفرنسة. كما أنها لم تكن في بال (أبطال) الجزائريين اللاحقين الذين كان همهم الآني هو السعي الحثيث وراء منصب نائب الوالي أو ما شابه. ومن جهة أخرى، فإنه من المعبر أن يكون بومنجل بالذات هو من عارض أطروحتي وهو الذي سيخبرني، بعد أربع أو خمس أيام، برغبة ماسينيون في مقابلتي. وليس أقل مغزى من ذلك رغبة بومنجل إخفاء علاقته بعنكبوت الكوليج دي فرنس (Collège de France)، و (كل علاقة خفية، هي علاقة آثمة)، كما يقول مثل من بنات أفكاري.
مهما يكن من أمر، لم تشغلني من جانبي نية في الرد على دعوة منفذ وصية الأب دي فوكو. ولم يكن ثمة خوف لأني أبعد من أن أخشى الرجل الذي دعاني، كما أنني أتمتع بقدر من الجسارة يعصمني من خوف عدم الاستجابة للدعوة.
غير أن الغرور أصابني وازدهاني لعدة أيام بعد نجاح محاضرتي.
فقد أطحت بمعارضة بومنجل لها إلى درجة أن بن يوسف عانقني وأن محمد القاسي رئيس الجمعية تحدث عني، بعد جدال مع بومنجل، باعتباري (حامل عقيدة وحدة شمال إفريقيا).
يا إلهي، لقد رفضت شخصية (الإيديولوجي) التي تقمصتها أن تجيب دعوة جاءتها عن طريق واسطة! كان من الواجب أن ترسل لي على الأقل في بطاقة من الورق المقوى!
لقد كنت شابا مجردا من أي سلاح سوى المواهب الطبيعية في ساحة يجب أن يكون فيها للمرء إعداد تربوي جيد يشكل عمادا قويا وتتأسس عليه التجربة.
لقد هونت من الأمر وهززت كتفي ولم ألب دعوة ماسينيون. ثم نسيت المسألة بعد أيام. ولكن التجربة ستعلمني أنه لم ينس ولن ينساني أبدا، وزاد الطين بلة أنني لم أتوار عن الأنظار وأختفي ليلفني النسيان، إذ أنني لا أفتأ أدوس على حاشيته.
فبعد أيام من الواقعة، حصل تجديد مكتب الجمعية التي كنت سأتولى رئاستها بحكم الإجماع الذي انبثق من انتخاب الجمعية العامة.
غير أن محمد القاسي، المتبوع بظله بلافريح، اقنع الجمع أنه من (السياسة) أن يتولى مغربي رئاسة الجمعية. وتمكن بعد جدال، من أن يفرض نفسه رئيسا بعد أن رشحه بلافريج الذي أقنعني بأني سأكون نائبا ممتازا للرئيس (1).
وفي مقابل التواضع الذي أبداه الرئيس، قررت من جانبي، أن أقبل التنازل عن شرف منصب نائب الرئيس لصالح صديقي وأستاذي محمد بن ساعي الذي يكبرني سنا.
(1) يمكن أن نستخلص هنا مؤشرا عن الجو الذي تعد فيه (الوطنية) دورها باعتبار أنه من المفيد - واللباقة أن يرشحك شريك متواطئ عوض أن تترشح بنفسك. وسيبين دستور أول برلمان جزائري كيف أن البعض لم ينس الدرس عندما (تواضع) وكلف الآخرين بتقديم ترشيحه لرئاسة الجمعية التأسيسية الجزائرية. (هامش من وضع بن نبي) ، والمقصود هنا، مرة أخرى، هو المرحوم فرحات عباس والطريقة التي افتك بها رئاسة الجمعية التأسيسية بالجزائر المستقلة في سنة 1963 (المترجم).
لقد كنت بالفعل مثالا معقدا للتواضع الصادق والاعتزاز البريء.
ولم أكن لأدري أن (انتخابي) من طرف جمعية عامة طلابية سيشكل حدثا سيدون بكل عناية من طرف المكتب الثاني (1)، إلى جانب موقفي الذي أحبط مناورات الإدارة الاستعمارية الساعية لبث التفرقة بين الطلبة، وهي مهمة كلف بها موفق.
ولاستيعاب القضية كان المطلوب الكثير من رزانة العقل والإدراك والحكمة ولم يكن لدي غير الذكاء. فغدوت، وفي غفلة مني، (شخصا يجب أن يخضع للرقابة). ولم انتبه للأمر حتى جاءني ذات صباح رجل شرطة إلى مقر اتحاد الشبان المسيحيين أين كنت أتناول وجبات طعامي، ليطرح علي بعض الأسئلة عن (إمكانياتي المالية وموارد معيشتي) وعن التعليم الذي أزاوله. فأدركت للتو سبب التدخل المفاجئ للشرطة في حياتي، ولكني لم أعقد صلة بينه وبين دعوة ماسينيون أو أفكر في تأثيرها في وضع والدي؛ وبالعلاقة مع حالتي كطالب. ناهيك عن أن هذا الطالب لم يكن مواظبا وقتها.
أضف أن اللقاء بزوجتي، من جانب، ونشاطي المفرط في سبيل الوحدة الإسلامية أو كوني ببساطة ملتزما إسلاميا من جانب آخر، زاد الأمر سوءا.
في نادي اتحاد الشبان المسيحيين، أصبحت مشهورا كداعية إسلامي، إلى درجة أنه إذا كان ثمة أحد من مصلحته أن يسجل أفعالي وحركاتي، فسيلاحظ حتما أني عنصر لم تكن لديه قابلية
(1) فرع من المخابرات الفرنسية. (المترجم).
لاعتناق المسيحية وحسب بل بالعكس، يشكل (خطرا) على الشبان النصارى الذي كنت أحتك بهم إذ كنت اكشف لهم عن إسلام لا علاقة له بإسلام الأندجين (الأهالي)، الذي كان يصل أسماعهم. وبالتخلص من كماشة الانديجينا في هذا النادي المسيحي، بدأت أهتم بالمسائل الدينية وهو الاهتمام الذي كان نقطة ضعف الشباب المسلم ولا يزال.
ومن جانب آخر، فإني سأحمل شعلة حماسي الفياض الذي اتقد في هذا النادي إلى الحي اللاتيني حيث تحولت العصبة الجزائرية من المؤامرة (السياسية) إلى دسائس الغراميات في غياب وعي تام عن الماضي والحاضر والمستقبل.
ويبدو لي أني اكتسبت وعيا بعيوب العالم الإسلامي ما بعد الموحدين بفضل دور الداعية هذا. الذي اضطلعت به بين جنسين وعقليتين وشبابين مختلفتين. لقد كان الشبان المسيحيون الذين كنت أعاشرهم غاية في الطيبة، وكانوا أخلاقيا وفكريا أكثر غنى من الأهالي وبخاصة الجزائريين ممن كنت ألتقي في الحي اللاتيني. ومن بين جميع إخواني في الدين لم يكن لدي غير صديق حميم واحد، موضع ثقتي، أطلعه على أفكاري وتأملاتي هو محمد بن ساعي الذي كان يقاسمني المرارة والحسرة. وازداد الفريق الذي كنا نشكله نحن الاثنان قبل أن ينضم إلينا شقيقه صالح بعد قدومه باريس، عزلة عن الآخرين.
وكان (سور الصين) الذين ضربناه على أنفسنا يحمينا من تلوث مواطنينا. ثم أصبح السياج بعد ذلك مرهقا إلى درجة أن صالح
بن ساعي أحدث فيه في أحد الأيام ثفرة للفرار منه بعد مشادة مع أخيه الذي أصبح طبعه حادا وبدأ يعاني من اضطرابات عقدة الاضطهاد. غير أن هذا السور الذي كانت تجري خلفه حياتنا التي يسمها الاجتهاد ويطبعها التأمل، لم تكن إلا لتثير شكوك الإدارة حول الغموض الذي كان يلف حياتنا، وتبلغ عنا بصفتنا (أشخاص خطرين). ويجب القول، والحال هذه، أن الخطر كان من جانب الإدارة الاستعمارية حقيقيا.
فقد كانت هذه الإدارة تسعى لتقسيم طلبة الشمال الإفريقي وتضع كل جماعة في مكان معين. غير أنني وبن ساعي أحبطنا جميع محاولات موفق الذي كان يدعو للجزأرة (l'algérianisme) وكان يثير، في كل لحظة وآن، حوادث مع التونسيين بقيادة نارون. هذا الأخير كان بدوره يبشر بمذهب الغودينية (le godinisme)، في وقت -كان فيه لغودان (Godin) محل مشهور بشارع لوكونت، وهي منطقة تبدو وكأنها بلدية مختلطة منقولة من الجزائر إلى باريس، وفي وقت كان فيه بومنجل ينشر فيه اشتراكية بلوم (Blum) وينشر طاهرات النزعة القبائلية. ومن جانبي، فقد شاركت بفاعلية في المعركة التي دارت حول كتابـ (Lettres Algériennes)(رسائل جزائرية) لصاحبها لحمق الذي ابتكر هذه الفكرة سعيا وراء منصب نائب الوالي. وبصحبة المرحوم بن عبد الله، الذي كانت نهايته مأساوية بمدينة البليدة حيث كان يشتغل محاميا، كنا نشكل بباريس أصداء لحملة الأمين العمودي من خلال جريدة (La Défense)(الدفاع)
التي، وإن لم يكتب لها النجاح، فقد نغصت عيش اللاهثين وراء منصب نائب الوالي.
وهكذا فقد كانت الذبابة الصغيرة تفيض حيوية ولكنها غير واعية بالأخطار، تخرق كل مرة بجناحيها البريئين نسيج بيت العنكبوت.
لم أختم سنتي الأولى لوجودي بباريس حتى أصبحت إذن (متآمرا).
كان بباريس طالب سوري هو اليوم، فيما أعتقد، مندوب بلاده بالأمم المتحدة، اسمه فريد زين الدين، قدم فرنسا لإعداد دكتوراه في القانون من جامعة السربون. لقد كان ذا قيمة، بل قل قيمة كبيرة إذ جمع في شخصه سمو الثقافة وشهامة الرجولة. وأظنه من حملة السلاح إلى جانب سلطان باشا الأطرش خلال الانتفاضة المشهورة للدروز سنة 1924. كما أن له صلة قرابة بالمهاجر الفاضل الراحل شكيب أرسلان الذي كان يعيش وقتها بجنيف. فهل هذه الصلة القوية المعززة بفكرة شخصية هي التي أوحت لفريد زين الدين إنشاء (جمعية الجامعة العربية)(l'Association de la Ligue Arabe) بمساعدة مصري قبطي؟ كان هذا ما في الأمر. والمفارقة هي الإعلان عن الطابع السري للمنظمة أثناء الاجتماع التحضيري الذي نظم بمقهى في أعالي سان ميشال. والمصيبة أني كنت من أعضاء هذه المنظمة ممثلا عن الجزائر والتي كان فريد صليب، القبطي المصري يسيرها بكل اقتدار. هآنذا أحيط شخصيتي بلغز جديد. فبعد أن كنت (منظر وحدة شمال إفريقيا) و (الداعية الإسلامي) في اتحاد الشبان المسيحيين والمناضل في سبيل الوحدة الإسلامية في الحي اللاتيني، أصبحت متآمرا أدعو للوحدة العربية! لقد طفح الكيل!
كما أن (مؤامرتنا) لم تكن سرية إلا في مخيلة بعض البريئين الحالمين، على غرار ما كنت أنا شخصيا.
ورغم ذلك فقد كنت احترز وأتسلح ببعض الحذر. فقد رفضت مثلا أن تقبل عضوية الهادي نويرة بسبب صوته الذي أجد فيه رجة لا تعجبني، فلم أكن أرى فيه خائنا ولكن أحسبه ممثلا كوميديا.
كان ثمة بن يوسف وتوريس وبلافريج وبن ميلاد فيما اعتقد. كما حضر محمد القاسي، الذي كنا نراه أثناء اجتماعاتنا التي لا نزال نزعم أنها (سرية) وهو يستنشق تبغه، ويبتسم ويصفق. لقد كان متآمرا حذرا، حذرا للغاية. وبفضل يقظته وحذره أصبح، فيما اعتقد، مديرا لجامعة القرويين.
وباختصار، فقد كنا نحس أنفسنا في أمان بفعل غياب وعينا.
غير أنه إذا كان ثمة من له مصلحة معينة في تسجيل أفعالنا وحركاتنا في سنة 1932 هذه، فلا شك أن الحصيلة معتبرة: فكلما مدت العنكبوت بأحابيلها الإدارية، خرقها جناحان صغيران دون شعور. ولم يعد موفق يتظاهر بالوطني الجزائري الذي أهانه التونسيون والمغاربة. أما لحمق فقد اختفى نهائيا من الحي اللاتيني. في حين أصبح ساحلي أكثر ابتساما وهو يتجرد من النزعة القبائلية. من جهته، أخذ بومنجل يبتعد عن شريكه نارون الذي بات استبعاده جديا من المربع الأخير للأشخاص الذين كانوا يطمحون في عضوية جمعية الطلبة المسلمين الجزائريين البائدة مهما كلفهم الثمن. ومن جانب آخر، شكلت مع اتحاد الشبان المسيحيين، (مجموعة)، ستصبح موضوع حديث لبعض الوقت.
باختصار، فإن الإدارة لم تجن، هذه السنة، إلا الفشل ولم تحصد إلا الخيبة في سياستها المتبعة تجاه (نخبة) شمال إفريقيا.
وبالضرورة، فإن جميع هذه الإخفاقات، أصبحت حتما إخفاقات شخصية تحسب على (المستشار التقني، عضو المجلس الوزاري المشترك، الأستاذ بالكوليج دي فراس وصديق المسلمين)، وأنا أقصد هنا ماسينيون شخصيا.
سمحت لي الفرصة أن أرى بعيني هذا الشخص في مناسبتين. المرة الأولى كانت في كنيسة بروتستانتية بمناسبة تنظيم (يوم الإسلام). وهي مناسبة ألقى فيه ماسنيون محاضرة، حضرها بومنجل. ويحضرني الآن أمر. لقد كان بومنجل حارسا في سانت بارب ولم يكن من السهل على طالب فرنسي بباريس أن يتقدم لمنصب حارس وهو يزاول لدراسته، فكيف لغير الفرنسيين أن يطمحوا لذلك! ومهما يكن، فقد ذهبت لسماع هذه المحاضرة بصحبة زوجتي ومحمد بن ساعي. وقد أبلغنا من البداية أن المحاضرة غير قابلة للنقاش والمعارضة. وفيما ظهر لي، لم يكن من بين الحضور من جاء ليعارض المحاضر. ومن جانبي، فقد لاحظت أن ماسينيون كان مطلعا جدا على أحوال المسلمين في باريس
…
وقد قص علينا، من بين ما قص، حكاية صاحب مقهى من أصل مغاربي افتتحه بمنطقة إيسي لي مولينو في الضاحية الباريسية حيث يعيش العديد من العمال البؤساء القادمين من شمال إفريقيا، الذين يتسكعون جيئه وذهابا لأن المعمرين لم يكونوا بحاجة لهم. أورد ماسينيون أن
صاحب المقهى كاد أن يجن لأن الشرطة لا تفتأ تلومه وتوبخه على حال محله. ولم يكن ثمة شيء يجلب المؤاخذة لصاحبنا في إدارة محله وكان يعتقد ذلك كمسلم يحترم دينه، إذ لم يكن يسمح فيه بشرب الخمر أو لعب القمار. غير أن ماسينيون عرفا كيف يشرح للحاضرين أن مغالاة صاحب المحل في حسن إدارة محله هي التي سببت له المشاكل وأنه تفاداها بمجرد أن سمح بالقمار وتناول الخمر. وإني لأعترف أن هذا العرض قد انتزع مني شعورا بالتعاطف مع هذا الشخص الذي ترفعت عن تلبية دعوته من أسابيع خلت. وقد أدركت الآن أن لعبته كانت من البراعة بحيث تتجاوزني أنا الصغير والطيب المنتمي للأهالي سكان المستعمرات.
أما الفرصة الأخرى التي رأيت وسمعت فيها ماسينيون، فقد كانت يوم دعته جمعيتنا الطلابية لإلقاء محاضرة. وكان ذلك في قاعة من قاعات لاميتييل (التعاضدية)(1). وقد حضرتها بالطبع بمعية زوجتي والأخوين بن ساعي، فصالح كان قد وصل إلى باريس. لم أتذكر بالتدقيق موضوع المحاضرة غير أنها تناولت مسألة استعمال الحرف اللاتيني في تركيا. وأذكر أن نقاشا قد أثير حول الحرف العربي. فبن يوسف كان يرى أن خلاص البلدان العربية يمر عبر اعتماد الإجراءات التي اتخذها أتاتورك في بلاده. أما ماسينيون فكان مع الحرف العربي ودافع عنه بشدة. وقد انقسم الحاضرون. فساند بعضهم بن يوسف.
(1) القاعة التي كان مصالي وغيره يلقون فيها خطبهم الوطنية النارية بمساعدة الأحزاب اليسارية الفرنسية. (المترجم).
أما أنا فقد منحت تأييدي لماسينيون. فلم أدرك أن الأمر يتعلق بمجرد مخبر جاء ليسجل ردود الفعل في وسط المثقفين المسلمين. لقد كنت قليل التجربة. وقد نال ماسينيون في هذه الأمسية مودتي حتى بعد أن تجنب إجابتي عن سؤال طرحته عليه أثناء الحديث الذي دار بينه وبين بلافريج ومحمد الفاسي الذي كان يداعب حاملة تبغه، إن لم تخنني الذاكرة. فقد قلت له:
- السيد الأستاذ، ألا تعتقدون أن تدهور العالم الإسلامي مرده، فضلا عن أسباب أخرى، إلى أن التفسير القرآني محشو بالخرافات الإغريقية وبالإسرائيليات؟
أتذكر أن وميضا برق في عينيه ولكنه تظاهر بأنه لم يسمع سؤالي، الذي لم أسع من جهتي لإعادته. ويجب أن اعترف أني لم أفهم تصرف شخص انتزع رغم كل شيء تعاطفي نظير موقفه من الحرف العربي. وإني أدرك اليوم جميع الأسباب الذي حدت به ليسجل بكل عناية سؤالي واسمي مباشرة وهو يغادر المكان بعد انتهاء المحاضرة. وأعرف الآن أفضل كيف أحلل الناس ومواقفهم، وأدرك جيدا أن ماسينيون كان يعرفني ليضع اسمي على وجهي. فأنا على يقين أن بومنجل بابتسامته والفاسي وهو يستنشق تبغه قد بلغا عني ولم يدعاني نكرة لديه: فالأول كان يريد الحفاظ على موقعه في سان بارب أما الثاني فكان يسعى لوضع خطاه في جامعة القرويين.
باختصار، لقد تركت ذكراي قوية في الحي اللاتيني وفي ذاكرة ماسينيون لما غادرت باريس في جويلية 1932.