المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الخونة - الأبطال على الدرب - مذكرات مالك بن نبي - العفن - جـ ١

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌الخونة - الأبطال على الدرب

‌الخونة - الأبطال على الدرب

كانت عطلتنا صعبة للغاية، فقد خيم الحزن على البيت الذي كان طلقا ضاحكا بوجود والدتي. أما والدي فبدا وكأن لا عزاء له. في حين أحسست بشعور اليتم وكنت أزور يوميا تقريبا قبر الراحلة العزيزة.

زوجتي المسكينة، من جهتها، أصابها التيه أمام هذا المصاب الذي بدت عاجزة تجاه الموقف.

في البلد أيضا كان هناك حداد لم يظهر للعين وبدأ يجول في العقول. جرى ذلك، كما يذكر، في الصائفة المشهودة التي رفض فيها شوطان (1) Chautemps استقبال وفد بقيادة بن جلول، فقدم جميع المنتخبين المسلمين في الجزائر استقالتهم.

عندما وصلت عنابة قبل أن أبلغ الخبر الحزين الذي كان ينتظرني بتبسة كنت شاهدا على حماس أدرك جيدا عمقه وبعده السياسي. كان سي الجندي وسي الجنيدي أكثر العنابيين الذين عرفتهما طيبة ومودة، وكانا يقودان حركة الاستقالات التي جاءت ردا على صفعة شوطان. فكان الأعضاء يضعون احتجاجاتهم في مكتب سي الجندي.

(1) كميل شوطان (1885 - 1963) كان رئيسا لوزراء فرنسا من 930 اإلى سنة 1934. وحكومته هي التي اهتزت على وقع فضيحة ستافيسكي التي تحدث عنها بن نبي سابقا. (المترجم).

ص: 87

ثم انتقلت الحمى التي أصابت منطقة قسنطينة لتعم باقي الولايات. إنه أول عمل سياسي بهذا الحجم يسجل في الجزائر. غير أن القادة كانوا من طينة الرجال الذين يستغلون لصالحهم مثل هذه الظروف النادرة التي تبين كيف يكون الشعب الجزائري حاضرا عندما يدغدغ شعوره وشرفه. ولكن هل كان ثمة شعور في قلب ابن جلول أو في قلوب نائبيه المدعو الدكتور بومالي أو المدعو بن جامع، هذا الأخير لا أحد يعرف كيف رقي إلى رتبة أمين اتحادية المنتخبين؟ بل أنا أعرف الآن الكثير عن ذلك. كان الشك يخامر ذهني وسيبدي لي المستقبل أني على صواب. غير أن الكثيرين كانوا يلومونني في تبسة عندما أعبر عن شكوكي في قدرات وإمكانات بن جلول، وأخصهم الشيخ العربي التبسي. وكنت ألاحظ أن هذا الأخير ليس لديه إحساس، كما هو شأني، بأن حركة بن جلول ليست سوى مجرد تلهية تصد عن حركة الإصلاح. وقد تبينت جيدا وأقولها صراحة أن إنشاء فدرالية المنتخبين إنما هو بمثابة دفن للسلفية، فالأولى كانت تجذب الضمير الشعبي نحو (الفرنسة) والثانية نحو الأسلمة. ولم يدرك الشيخ العربي أيا من هذه المعاني ولم يكن لديه حدس بهذه الأحداث ولم يفهم تحليلي وإثباتاتي. على أن نيته كانت حسنة رغم ذلك (1). وهكذا بدأت العوارض الأولى للبغضاء تتجلى بيننا وزادها استفحالا سوء نية الشيخ والعجب وغياب النزاهة لديه.

(1) رغم المآخذ الكثيرة والقاسية أحيانا لابن نبي على الشيخ العربي التبسي رحمه الله، إلا أنه كان دوما يفصل بين أمرين: تصرفات الشيخ العربي التي تنم عن غياب وعي تام بالأحداث وألاعيب الاستعمار من جهة، وفضائل الشخص الذاتية، من جهة أخرى. أنظر مثلا (الصراع الفكري في البلدان المستعمرة). وفيه يتحدث بن نبي عن الجانب الأخلاقي للشيخ التبسي ويندد بجريمة اغتياله النكرة ولكنه يكرر مآخذه عليه بأنه (لا يفقه شيئا في الصراع الفكري). (المترجم)

ص: 88

وزيادة على ذلك، وباستثناء عودة محمد وصالح بن ساعي وعلي بن أحمد، رحمه الله، لم أكن أتفق حول هذه النقطة مع أحد، حتى مع الخالدي الذي أنهى دراسته الثانوية ، أما أنا فلم تكن لدي صعوبة في تمتين مواقفي المناهضة لبن جلول، لأن الأحداث كانت للأسف تثبت حججى.

فقد تناهى إلى سمعي ذات مساء أن الدكتور بومالي، عليه رحمة الله، وصل إلى تبسة، فبدت لي هذه الزيارة في الليل غامضة، فرغبت في لقاء الرجل والتحدث إليه.

التقيته بالفعل خلال نزهة بالمدينة وهو يتحدث مع أحدهم وهو المدعو ولد فيلالي محمد الذي تبين أنه عميل للمكتب الثاني، وقد اعترف هو شخصيا بالأمر بعد ذلك. قدمني قريبي مسكادجي إلى الدكتور بومالي الذي لم أكن أعرفه من قبل. فباشر الحديث عن غرض زيارته الليلية. لقد قدم تبسة لتعليق حركة الاستقالات التي بدأت ترتسم وتلوح في الأفق.

قد يكون تعجبي ارتسم على محياي إذ خاطبني قائلا:

- إن الوالي استدعاني ليحذرني إن لم تعلق الاستقالات فسيضطر لاستدعاء الجيش

الزواوة (Les zouaves)، كما أوضح لي للتدليل على خطورة الوضع.

لقد كنت أمام أول خائن - بطل (Traitre - héros) للفديرالية. أدركت المسألة للتو وتركت غضبي ينفجر أكثر من اللزوم إذ صرخت:

ص: 89

- يفهم من كلامك أن السيد الوالي قد أرسل عبرك إنذارا أخيرا للسكان.

ربما كانت هذه أول مرة يواجه فيها بومالي معارضه، وهو الذي اعتقد أنه من الواجب أن يشرح لي نبل مهمته فقال: يجب أن تفهم أني لا يمكن أن أدع السكان يتجهون إلى المذبحة.

- إن مذبحة يرتكبها الزواوة أفضل من صفعة شوطان، أجبت محدثي الذي اندهش ولم تكن لحيته الكثه تكفي لتستر الإحراج الذي أوقعته فيه أو الزيف المحيط بكامل شخصه. تقدم محمد الفيلالي الذي كان بعيدا، بعض الخطوات وقال:

- سي بومالي الجماعة في انتظارك!

لاحظت كيف أنه اجتهد لينقذ شريكه من الإحراج.

إنه اليقين المادي الأول الذي بحوزتي حول أبطال الفيدرالية. أصبح موقفي المناهض لابن جلول أكثر منهجية واشتد سوء تفاهمي مع العربي التبسي. وأضحت عزلتي في تبسة تزداد لتبلغ أوجها.

انفجرت اضطرابات 5 أوت 1934 بقسنطينة كأنها صاعقة. وانتشرت تداعياتها في كامل المقاطعة لتعم بعدها تدريجيا باقي الوطن، لتتجاوزه للخارج. قتل بعض اليهود واغتالت الشرطة بعض المواطنين العرب في المدينة. رفضنا في تبسة أن تمس الأقلية اليهودية بسوء إلى حد أننا بتنا نحرس المدعو مورالي تحت شرفة بيته بعد أن قدرنا أنه كان أكثر أبناء جاليته عرضة للانتقام، وكان

ص: 90

إمام المدينة جليلا إذ رافق في إحدى المرات يهوديا مسكينا اعتدى عليه شخص مارق.

بيد أن هذه الأحداث ستفرز في الجزائر أثرا سياسيا كبيرا. فقد ظهرت لنا من هذا التاريخ مسألة الصنم بن جلول، دون أن يفهم هو نفسه ماذا جرى له، وأنا على يقين بذلك. لقد نطح شرطيا كان ينظر إليه بازدراء، في ساحة (الغاليت) بقسنطينة غير أن ضربة رأس بن جلول أفقدت الجزائر وعيها، وهي التي خرجت في ذلك اليوم عن السبيل التي رسمها لها الإصلاح بغموض. فأنصار الإصلاح أنفسهم لم يفهموا مطلقا المعنى العميق للأحداث، وأمدوا هم أيضا الصنم الجديد بأصواتهم الانتخابية.

حتى الشيخ بن باديس الذي ظهر أثناء الأحداث العصيبة وهو متحل بشجاعة سامية، وبكرامة تامة، كان أبعد من أن يعي مغزى الأحداث. وأخيرا، ورغم أنفي، فإن بن جلول رفع إلى درجة (الحكيم) والبطل الوطني رقم واحد.

حتى الصحافة المصرية تحدثت عنه كبطل للإسلام. ولم يشك أحد في الجزائر في معرفة من كان وراء التنظيم المحكم للتمثيليه. ولم يتبادر الشك إلى الأذهان حتى عندما رفضت (فيدرالية المنتخبين المسلمين) أموالا وجهتها لجنة إسلامية في فلسطين لصالح (الضحايا المسلمين في قسنطينة). فحتى بعد هذا العمل الشنيع الذي قام به (الحكيم) لم يرتفع صوت للتنديد به. هكذا كان حال الجزائر في سبتمبر 1934.

ص: 91

بما أنني كنت سأغادر الوطن عبر سكيكدة فقد ارتأيت أنه من الواجب أن أتوقف بقسنطينة لرؤية البطل الذي تتحدث عنه الجزائر قاطبة، طولا وعرضا، والذي كان الناس يسمون أبناءهم باسمه تيمنا وكذا أنواع من القماش. ثم بدأت (طريقة بن جلون) تطبع لباس الحرير للمتزوجين الجدد، وفسق داعرات بسكرة اللواتي كن يتغنين بنبي الله الجديد. عندما وطأت قدماي عيادة الدكتور بن جلول، كنت لا أزال أشعر بالإحساس الذي يواجه الإنسان وهو يقابل شخصية كبيرة ذات وزن وقيمة، أو حتى الشعور الذي ينتابه عند لقاء (قاطع طريق كبير). وكانت الخيبة التامة. فقد بدا لي الرجل عاديا في تفكيره وحركاته. ففي هذه العيادة التي ستصبح لعشرية كاملة القلب النابض للبلاد، رأيت المثقف (الأهلي)(indigène) الأكثر فظاظة في حياتي. الخطة الانتخابية كانت أسمى أفكار هذا الرجل السياسي الكبير. رأيته محاطا بمساعديه فرحات عباس وآخرين، والكل منحن ومنكب على حساب عدد الأصوات التي يمكن أن تمنحها هذه البلدة أو تلك. عجبت لرجل ولد ليملأ الكلمات المتقاطعة في صحيفة وضيعة وملء الفراغات في ألعاب الجرائد، كيف أصبح قائدا لبلد رهنت مستقبلي ومستقبل عائلتي في سبيل مستقبله. فقد بدأت أشعر أكثر فأكثر بمثل هذا الإحساس وتراودني الأفكار بشأنه.

حاولت دون جدوى أن أسمو بمستوى الحديث. كان ذلك مستحيلا، بل أني أحسست أن الرجل كان محرجا، عندما ذكرت له بعض الأفكار حول المشكل التاريخي والنفسي والاجتماعي الذي

ص: 92

يقع في قلب المأساة الجزائرية. ففهمت من ساعتها أن كل ما لا يخص الانتخابات لا يدخل في ميدان السياسة، من وجهة نظر (الحكيم). وعندما هممت بمغادرته، ظن أن من الواجب أن يقنعني برهبانيتي، فقال بنبرة تعاطف حتى يقنعني بخطئي:

- أنتم الشباب، تريدونها صوفية.

لا أعرف إن كانت صدرت مني حركة إشفاق على هذه (الواقعية) الجديرة بواقعية عجوز قسنطينية مقتنعة أن واد الرمال هي حدود الكون، وأن أفكارها المسبقة تمثل عالم الأفكار الماضية والحاضرة والمستقبلية.

غير أني لما أقوم بعملية إسقاط على المستوى الإداري على الرجل الذي قابلته في الحين والأفكار التي ألهمني بها، فإني لم أر (مستقبلا سعيدا) للجزائر.

اللهم إلا إذا ....

أه! كم كنت استعجل وبن ساعي إنهاء دراستنا. أما راهنا فإني كنت احتقفل ببعض الآمال في (العلماء) وفي فريق مصالي.

وصلت باريس في مثل هذه الاستعدادات النفسية لإنهاء دراستي.

غير أن هذه السنة بدأت سيئه. فقد حل في المدرسة مدرب أظهر لي البغض والمقت. هل كان موقفه يعبر عن آثار أحداث قسنطينة في نفس صهيونية؟ كان شعره المتجعد يوحي لي بالأمر، علاوة على لون بشرته. كما أن عينيه القاتمتين توجهان لي ومضات كالسهام. فلو كان في ظروف أخرى لكنت سخرت من موقف هذا الغر الذي قدم إلينا من المدرسة العليا للكهرباء.

ص: 93

غير أن الحداد الذي أعقب رحيل والدتي قد ملأ روحي. وكان الظلم يثير حفيظتي. وقد عزمت مرة على تأديبه إلا أن الاحترام الذي أكنه للمدير أثناني عن الانسياق وراء هذه الرغبة. ومن جانب آخر، فإن موقفي من هذا المدرب هو موقف شخص اخترق نفسيته. وهكذا كان السخط يتعاظم من الجانبين إلى درجة أني قررت في آخر الثلاثي وقبل أعياد الميلاد أن أذهب إلى مدينة درو حيث كانت زوجتي في ضيافة أمها.

في هذه الأثناء، سنحت لي الفرصة التعرف في المدرسة على بعض التلاميذ الجزائريين الذين التحقوا بالسنة الأولى كبوقادوم وبواعنيني.

كان بواعنيني أكثرهم جدية وودا، وقد أصبح صديقا لي ولم أبخل على مساعدته لاستيعاب مادة حساب التوجيه والكهرباء النظرية. وبقيت باتصال مع هذا الفريق من الطلبة المهندسين حتى أثناء وجودي بدرو وكنت أتوسم فيهم اتجاها جديدا للطبقة المثقفة الجزائرية التي كانت إلى عهد قريب تختار دراسة الحقوق والطب. وكنت أسعى لتبليغ مواطني كل تعلقي الشديد بالتقنية وأسباب ذلك. ولم أكن أضيع وقتي في درو بل كنت ألتهم البرنامج الخاص بهندسة مسح الأراضي بالمراسلة مع مدرسة الأشغال العمومية إذ كنت أعتقد أن هذا التخصص سيكمل بنجاح تكويني كمهندس كهربائي، عزمي وحزمي أكثر من ذي قبل، على التحول والإقامة بالحجاز حيث كنت أفكر في أن أعمل في مجالات الطرقات والمناجم. وتحت ضغط الظروف، أصبحت اتصالاتي بـ (الوطنية الجزائرية) قليلة في الوقت الذي بدأ فيه حضورها بباريس يتسع ويأخذ أهمية. ومن جهة أخرى، فقد غادر فريد

ص: 94

زين الدين العاصمة الفرنسية بعد أن قدم أطروحة في القانون بامتياز، فتشتت جماعة (الجامعة العربية).

عندما أحل بباريس -مرة أو مرتين في الشهر- كنت أذهب لاتحاد الشبان المسيحيين وأزور بواعنيني. غير أني كنت التقي الأخوين بن ساعي وكذا علي بن أحمد.

ورغم خلافاتنا واختلافاتنا فقد كانت رؤانا تتقارب وبخاصة أنها كانت على طرفي نقيض مع أفكار الآخرين. كان علي بن أحمد وبن ساعي يريان في مصالي مجرد شرطي، وكنت أرى فيه إنسانا نزيها دون أن يرقى هو نفسه إلى (وطنيته) فيحققها. وكنت متفقا مع أصدقائي حول عدم فعالية هذه القوة العمياء وعلى خطورتها إذ يمكن أن تصبح أداة في يد الإدارة الاستعمارية.

وكان ما يصدمني دائما هو (البوليتيك) Boulitique)) ، هذا الشيء الذي يقال ويعاد إلا أنه لا يطبق بسبب غياب مذهب، فالبوليتيك لا يطرح أبدا مسألة الوسائل.

كان مصالي يبدو لي من نوع (البوليتيك) على غرار بن جلول ولكنه كان أكرم وأكثر حفظا للوجه وأكثر عفة. بيد أني لم أر مطلقا، سواء لدى (العلماء) أو لدى غيرهم، أثرا لما يسمى السياسة (Politique)، فالسياسة ليست ما يقال بل ما ينجز. وللأسف كان علينا أن ننتظر طويلا حتى ظهور القضية الفلسطينية، لنرى تشكيل (روح سياسية) في العالم الإسلامي لا تطرح المشكلة الانتخابية كمشكل أساسي ولكن تتحدث عن مشاكل الإنسان والتراب والزمن، سواء عبرت عنها بهذه الكلمات أو بعبارات أخرى أقل منهجية ونسقا.

ص: 95

أما مشكلة الثقافة فلم يحن الوقت بعد لسياسي جزائري أن يفهمها على أنها هي أساس السياسة وقاعدتها.

وسوف أكون أول من طرح مشكلة الثقافة في الجزائر بعد خمس عشر سنة دون أن يشجعني المسؤولون. والأمر أبعد من ذلك كما سأبين لاحقا.

ومهما يكن فإن الأخبار التي استجمعها في الحي اللاتيني عندما أكون في باريس عابرا، تعلن عن تعاظم شهرة بن جلول في البلاد.

كان نجمه يسطع هناك في البلاد. وكان نجم مصالي يتلألأ هنا في فرنسا.

أصبح علي بن أحمد منغلقا على نفسه أكثر من أي وقت مضى، وامتدت شكوكه لتصل إلى الأمين الحسيني الذي كان يرى فيه شخصا غريبا استخلف به الإنجليز مفتي القدس. حتى تشابه الملامح الجسدية الضرورية حتى يقوم شخص مقام شخص آخر لم تكن لتثني علي بن محمد عن رأيه إذ كان يرى أن المسألة ممكنة بفضل الجراحة التجميلية.

محمد بن ساعي أيضا أصبح منطويا. وكان يشك في كل الناس ، وإلى عادته في البصق على يمينه ويساره وهو يتحدث، أضاف هوسا جديدا مقلقا، فكان لا يتحدث دون أن يلتفت من حوله لينظر إن لم يكن هناك من يسمع كلامه. كانت هذه الآثار الأولى للإحساس بالاضطهاد التي بدأنا نشعر به في مجموعتنا. فقد أزعج بن ساعي في دراسته، وكانت أطروحته في جامعة السوربون تحت وحمة

ص: 96

ماسينيون. وكان صديقي يشكو من تقييد في اختيار موضوعها (1). وقد تحول اشمئزازه إلى هوس وإحساس بالاضطهاد والمضايقة. إلا أن حالته كانت في الواقع أكثر تعقيدا إذ يجب أن تضاف مأساة غامضة عند هذا الفتى الذي بقي طاهرا عفيفا حتى سن الثلاثين لخجله أمام الفتيات. غير أن هذا الخجل أصبح يستبد به مع كل ما يحرك الحواس والعواطف، إلى درجة أنه أصبح يتخذ مواقف تثير السخرية بطريقة لا يمكن تصورها. أذكر مرة أننا كنا ذات مساء من هذه السنة جالسين في مقهى بالحي اللاتيني، حيث كنت مع محمد بن ساعي وبن عبد الله ، كنت أحدثهم عن موضوع من المواضيع ذات الصلة بالعالم الإسلامي، لأننا لم نكن نتحدث إلا عن هذه المسألة. أحسست فجأة بأن بن ساعي غاب تماما عن الحديث. ولاحظت بأنه كان يطوي ورقة صغيرة كان يرسم فيها للتو. اعتقدت بداية أنه كان يدون ملاحظات حول موضوع حديثنا، على عادته. غير أني أدركت أنه كان يريد أن يتوجه بكلمة لفتاة كانت جالسة مع زميلتها في طاولة مجاورة. وبمجرد ما أدركت أني كنت أتعب نفسي سدى، وثبت بغضب وانتزعت منه الورقة وسلمتها للمعنية بها وخاطبتها: - آنستي، لم أطلع على فحوى الورقة، صدقيني، إلا أن قلبي رق لهذا الفتى، أرجو أن تباديله نفس الإحساس.

(1) حسب بعض الذين تقوبوا منه بباتنة -وما أقلهم- فقد اختار محمد حمودة بن ساعي فلسفة الإمام الغزالي موضوعا لأطروحته لنيل دكتورة الدولة من جامعة السوربون قبل أن (يهتم) به ماسينيون. (المترجم)

ص: 97

ضحكت الفتاة مع زميلتها واحمر وجه صديقي واحتج وتذمر ساخطا قبل أن يتابع الحديث بجدية.

هذا هو بن ساعي من زاوية معينة ، إلا أنه كان مثالا للاستقامة وكان يجسد الدقة والحرص وأكثر من ذلك كان هو أستاذي في فلسفة الإسلام. وأنا مدين له هنا بالتحية التي سبق لي أن وجهتها له في الإهداء الذي صدرت به كتابـ (الظاهرة القرنية). فقد علمني ومكنني من الولوج ل (روح) القرآن بطريقة لم يكن لأستاذ أزهري أن يقدر عليها. وقد أفادني معناه للقيمة الخلقية وأرشدني أكثر من مرة. واعتقد، أيضا، أن أفكاري هي ذات الأفكار التي لم تنضج عنده أو قل أنها لم تقطف فتهاجر عندي. عندما كنا نتناقش حول القضايا كان هو الذي يقدم الأفكار في الغالب وكنت أرتبها وأضمنها معنى مذهبيا. وما أكثر المشكلات التي تناولناها أنا وبن ساعي! والفضل لصديقي فهو الذي كشف لى موقعة صفين المشهورة وأثار انتباهي لها، وقد منحتها فيما بعد معنى منهجيا في دورة الحضارة الإسلامية وأطوارها. (1)

وكان الموضوع الوحيد الذي لم نتفق بشأنه هو (العلماء) إذ كنت مع الجمعية وكان هو ضدها على غرار علي بن أحمد. بيد أن اختلافنا لم يكن منصبا حول مضمون المسألة، فقد كان نشاط أعضاء الجمعية يبدو لي سطحيا خاصة بعد أن قدموا جمعهم

(1) في تناوله للحضارة الإسلامية يعتبر بن نبي أن موقعة صفين تؤرخ لنهاية طور الروح في هذه الحضارة وتأذن لمرحلة العقل التي تسبق بدورها مرحلة الغريزة التي بدأت مع سقوط دولة الموحدين، (انظر كتابه (شروط النهضة)، مثلا) المترجم.

ص: 98

ووضعوه تحت إمرة بنجلول وتصرفه، ولكن حول الفرص فقط، وعلى العموم نبقى متفقين.

وبالطبع لم نكن غير مكترثين أمام القضايا والأحداث العالمية، فقد كنا نتابع تطورات الحرب الأهلية في إسبانيا والحرب في إثيوبيا.

غير أن جل اهتمامنا كان متابعة ماسينيون في محاضراته حول الإسلام التي كان يلقيها بباريس. واعتقد أني حكمت على نفسي بعد حضوري محاضرة من محاضرات المستشرق الكبير التي ألقاها في مقر اتحاد الشبان المسيحيين. ومن دون ميعاد التقيت مع الإخوة بن ساعي وعلي بن أحمد. وعلى عادته فكلما رأى ماسينيون مسلمين بين الحضور في القاعة، عالج موضوع محاضرته بحذر.

غير أن علي بن محمد وبطبعه الاستفزازي، وهو ما كنت أستهجنه فيه، كان يفصح أكثر مما يجب عن أي شيء لم يعجبه. في هذه الأمسية بالذات وبعد أن أنهى البروفيسور ماسينيون تدخله أمام حضور أبدى انتباها كبيرا لكلام المحاضر، طلب علي بن أحمد الكلمة. وكان وقحا إلى درجة كبيرة إذ وصف ماسينيون، دون مواربة، بالكذاب. وقد ندد الحضور به واحتج بالصفير، فتدخلنا نحن المسلمين إلى جانب المسيحيين ضد صديقنا الذي لم يغفل أن يدعي بأنه (المستشار التقني للحزب الوطني)(نجم شمال إفريقيا). وأنا ألح على أن هذا محض ادعاء لا يقوم على أساس ولكنه سيقدم حجة ضدي سنة بعد هذه الحادثة.

ص: 99

وعلى أية حال، غادر علي بن أحمد القاعة بعد أن ترك انطباعا سيئا ونظرة سلبية للمسلمين. همس صالح بن ساعي في أذني طالبا ضرورة إصلاح الزلل. طلبت الكلمة، وبعد أن خاطبت ماسنيون بأدب جم ووقار، قدمت له بعض التوضيحات حول الحركة الوهابية التي حصر وجودها في منطقة الحجاز.

وكل من تغيب عنه خطورة الأفكار الدينية في الميدان السياسي، وفي الميدان الاستعماري على الوجه الأخص، لا يمكن أن يدرك خطورة الموقف الذي أظهرته أمام (المستشار التقني) للحكومة الفرنسية (ولكنه مستشار حقيقي، هذه المرة).

لقد أكدت في حضوره أن الوهابية ليست ظاهرة عربية بل ظاهرة إسلامية. وأضفت بأنها مسألة شبيهة بالبروتستانتية في المسيحية، علاوة على أني أنا شخصيا وهابي.

إن كل من يدرك أن كلمات مثل هذه توجه باحترام وتقدير لكاثوليكي في وسط بروتستانتي وإلى كاثوليكي (1) يعمل كذلك مستشارا تقنيا، فلا شك أنه سيحس غضبة ماسينيون الباردة المغلفة بابتسامة. وتأثرت القاعة ربما بعد التشبيه الذي قمت به بين الوهابية والبروتستانتية فصفقت لتدخلي. ها هي زلة علي بن أحمد قد أصلحت غير أني شعرت وأنا أجلس أن خطئي كان أشد وأعظم. كانت ملامح ماسينيون دكناء وهو ما زال يبتسم، بينما راح الإخوة بن ساعي يثنيان علي علي مهنئين (بموقفي المثير للإعجاب). فكرت

(1) كان نادي اتحاد الشبان المسيحيين يرتاده البروتستنت بينما كان ماسينيون

كاثوليكيا. (المترجم).

ص: 100

في والدي الذي زدت وضعه سوء للتو، وتأملت في كلمة قالها ماسينيون في عرضه والموقف الذي اتخذه بشأن رشيد رضا. لقد توقف عن الحديث دقيقة وكأنه مستعرق بتفكير باطني، وختم قولته بهذه العبارة:

- المهم أن هذا الرجل مات!

عندما انتهت المحاضرة التففنا حول البروفيسور. كان يحمل خريطة جغرافية كبيرة استعان بها في محاضرته وطواها وحملها تحت إبطه. وكان يستعد ليركب مترو الأنفاق في هذه الساعة المتأخرة للعودة إلى منزله. لقد تأثرت ببساطة هذا العالم المسيحي وحضر مخيلتي تحذلق (بئر العلم) المسلم في الجزائر الذي يبدي وجها مكشرا ويظهر الاستياء ويتأفف من تعب يحرص على إبرازه بعد درس صغير يلقيه في الفقه. هذا دون أن ننسى العديد من المرافقين الذين يحملون عنه أغراضه.

عندما وصلنا أسفل حجرة الثياب ليأخذ معطفه الواقي من المطر، أخذني أحد التلاميذ الجزائريين جانبا، والذي يبقى في نظري فتى طيبا مهما قيل عنه، وأقصد هنا شريط، ويشغل حاليا منصب المتصرف الإداري المنتدب لدى مجلس الاتحاد الفرنسي، وقال لي:

- هل تعلم أن البروفيسور ماسينيون لا يكن لك ودا بالمطلق.

أجبته وأنا أحيي ماسينيون وهو خارج:

- وهذا ما اعتقده.

رغم أني تخلفت عن الدروس خلال سنة 1935 في المدرسة، فلم تكن السنة دون جدوى على دراستي. فقد عززت تكويني في

ص: 101

الرياضيات حتى أضيف ورقة رابحة في يدي كأستاذ بالحجاز، إذا اقتضى الأمر. وفكرت أني سأكون أكثر فائدة بتأسيس مدرسة تقنية إعدادية في المدينة المنورة حتى لا يغادر تلاميذي المفترضين إلى أوروبا إلا لاستكمال دراستهم لا للشروع في الدراسة في صف المهندسين.

كما ظننت أنه ليس من الضروري أن أقضي سنة أخرى بباريس للظفر بشهادة من المدرسة الخاصة للميكانيكا والكهرباء. ففي نظري كان لدي كل التكوين المتعلق بها وهذا يكفيني لا لأباشر تحقيق مشاريعى. وعليه تقدمت بطلب الحصول على جواز سفر لي ولزوجتي التي بدأت بإعداد الملابس التي تناسب البلاد الحارة. وفي انتظار أن يكتمل التجهز للسفر، ذهبت إلى منطقة نورمانديا للعمل كحارس في مخيم صيفي على بعد كيلومترات من ليزيو. ولم تكن لدي أية رغبة في العودة لمدينة تبسة لأمضي العطلة فيها هذه السنة. فقد خبا اهتمامي بالجزائر بعد وفاة والدتي وها أنا أخطط لدفع والدي باللحاق بي بعد أن أستقر بأرض الحجاز.

وقد كانت الأسابيع القليلة التي أمضيتها قرب ليزيرو في أرض نورماديا المعطاءة بمثابة وداع للحضارة في أوروبا. وفي حدود منتصف سبتمبر، أخبرتني زوجتي أن السلطات قد سلمت لنا الجوازين. وبعد انقضاء العطلة في المخيم الصيفي، عدت إلى درو لإعداد آخر مستلزمات السفر.

وأخيرا اتخذنا القرار بالسفر في العشرة أيام الأولى من شهر أكتوبر. واتفقنا على أن أذهب صباحا إلى باريس لتأشير الجوازين على أن

ص: 102

تلتحق بي زوجتي في الزوال حتى نركب سويا القطار المتجه مساء إلى مرسيليا لنبحر في السفينة المتجهة نحو الإسكندرية أو السويس. ودعت حماتي ذات صباح من أكتوبر واتجهت رأسا لسفارة مصر بباريس. كانت القاعة التي كنت انتظر فيها دوري غاصة بالنساء والرجال، عسكريين ومدنيين. وكنت المسلم الوحيد في القاعة. وربما رجوت في أعماق نفسي من خلال هذه الصفة أن أستفيد من معاملة خاصة بدت لي طبيعية كتعويض عادل عن كل المزايا وأنواع التفضيل التي يجدها الأوروبي تلقائيا عند المسلم في أي ظرف وشرط. وفي انتظار دوري، تفرست في الحضور في القاعة بعد أن سلمت جوازي السفر للحاجب المصري الذي أخذهما مني بمجرد وصولي. حاولت أن استخلص من ملامح كل واحد منهم سببا لسفره إلى مصر. فبدا لي أن العسكريين منهم في إجازة سيقضونها في مستعمرة من المستعمرات الفرنسية وكان عليهم أن يعبروا إليها عن طريق مصر. أما المدنيين فقد أحسست فيهم الشبهة والريب. أما النساء فقد أدركت أن أغلبهن سيذهبن لبيع مفاتن أوروبا للبشوات وكبار التجار في مصر الذين يقضون إجازتهم الفصلية في الإسكندرية. وعلى الجملة فقد كنت الوحيد الذي جاء يطلب تأشيرة لسفر له صلة، على تواضعها، بمستقبل الإسلام ومصالحه.

وبينما كنت استرجع هذه التخمينات، كان الحاجب في حركة ذهاب وإياب، يظهر في قاعة الانتظار ثم يختفي، يسلم هذا جوازه ويطلب من ذاك معلومة إضافية ويقود آخر إلى مكتب من مكاتب

ص: 103

السفارة. وكان انطباعي الكامل أن طلبات جميع الحضور قد لبيت دون أي رفض. وأخيرا جاء دوري. لم يقدم لي الحاجب جوازي السفر الاثنين وإنما طلب مني أن أتبعه. وكنت أعتقد أن لدى (أخي في الدين. من السفارة فضولا مقبولا لرؤية مهندس جزائري ينوي الذهاب إلى الأماكن المقدسة في هذا الفصل من السنة.

أدخلت قاعة واسعة وجدت فيها رجلين سلمت عليهما. طلب مني الحاجب أن أتقدم نحو أحدهما ظهر لي أنه الأهم بسبب مكان مكتبه المقابل لباب الدخول. دعاني للجلوس ليبدأ الاستجواب، وتداولا علي بالأسئلة.

أدركت بسرعة أنه ما كان لمثقف مسلم جزائري أن يطلب تأشيرة من سفارة جلالة الملك فؤاد الأول ولكن من (الكي دورسي)(1) وأدركت أنني شخص غير مرغوب فيه بمصر حفاظا على المصالح الفرنسية. ورغم ذلك حاولت أن أقنع مخاطبي أني لا أطلب تأشيرة للإقامة في بلاد الفراعنة ولكن مجرد تأشيرة عبور.

وزدت على ذلك أني مستعد لأدفع تكاليف تنقل شرطي يرافقني من ميناء الإسكندرية التي أضطر فيها أن أغادر السفينة - لعدم وجود خط مباشر- إلى ميناء بور سعيد أو السويس حيث أبحر نحو جدة. غير أن ممثلي جلالته كانا متصلبين في موقفهما. وللخروج من الإحراج قام الشخص المهم منهما، وكان مسلما في حين يبدو أن زميله قبطيا، وطرح علي السؤال التالي:

(1) Quai d'Orsay: مقر وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية. (المترجم)

ص: 104

- وستؤدي بالطبع فريضة الحج في مكة بما أنك ستذهب إلى الحجاز؟

كنت لم أزل نصف مغفل بخصوص الشعور الإسلامي الذي منحته لمخاطبي فأجبته:

- ربما سأقوم بفريضة الحج أيضا.

سقطت في الفخ. فهذا ما كان ينتظره كجواب ليتخلص مني. أخرج بنشوة المنتصر ملفا من درج مكتبه وقال لي:

- في مثل هذه الحال، سيدي، يجب الخضوع للأنظمة الدولية الخاصة بالحج، يجب إيداع مبلغا ضروريا من المال في سفارتنا لإجلائك وقت الحاجة وأن تفي بجميع أنواع التطعيم المطلوبة.

لم يكن معي المبلغ الذي طلبه ولم يكن معي ما يكفيني من مال حتى أقوم بجولة حول إفريقيا حتى أصل من خلالها إلى الحجاز أو باب المندب. وأوضحت له أني لم آت للسفارة بصفتي حاجا وإنما كمهندس يرغب في الإقامة في بلد مسلم. رأيت فيه بعض التردد فنظر إلى زميله القبطي، إلا أن هذا الأخير أنهى التردد بصورة قطعية:

- يقول السيد بأنه سيؤدي كذلك فريضة الحج، في حال كهذه يجب تطبيق النظام المعمول به.

من الواضح أن الموقف قد حسم، غير أني حافظت على اتزاني واستدرت نحو القبطي وأبديت له الملاحظة التالية:

- سيدي، لم أقل أني سأذهب للحج. عندما نصل باريس، فإننا لا نأتي بالضرورة من أجل (برج إيفل) ولكنك عندما تطرح السؤال على أجنبي قدم العاصمة الفرنسية، فمن الطبيعي أن يجيبك بأنه قد

ص: 105

يزور مآثرها ويطلع على معالمها. وربما يصل بك الحال أن تبادر وتطلب منه أن يدفع مسبقا ثمن زيارته لبرج إيفل. قلتها وأنا أنظر إليهما في عينيهما بالتناوب.

ثم خيم بيننا صمت ثقيل وأخذت جوازي الاثنين من فوق المكتب، من أمام الموظف المسلم، وقمت وحدقت فيه ثم قلت له: - شكرا جزيلا، سيدي. ثم انصرفت.

كل خطة حياتي انقلبت. وأدركت للمرة الأولى وبصورة واضحة عفن العالم الإسلامي واستبقني إحساس بالمصير الذي ينتظرني بين هذا العفن وتقنية المسيحية.

في الأوقات الحرجة كنت دائما اتخذ قرارات سريعة أرجع فيها إلى الحكمة الإلهية عندما تنحرف خطاي فجأة عن هدف كنت قد رسمته. وقد أظهرت لي هذه الفلسفة في موقف سفارة مصر تجاهي، إشارة يبين لي الله سحانه وتعالى من خلالها أنه من الضروري أن أقضي عاما آخر بباريس للظفر بشهادة مهندس من المدرسة الخاصة للميكانيكا والكهرباء.

وبالفعل فقد حالفني الحظ إذ وجدت غرفة صغيرة غير مؤثثة في الطابق السادس لعمارة تقع على مسافة خمس دقائق من مدرستي. كان مالكها من نوع الرجال الذين يقضون أسبوعهم في دعة وراحة أمام نار هادئة ليذهبوا يوم الأحد للكنيسة للإقرار والاعتراف بذنوبهم، أي النموذج الصافي الممثل للجمهورية الفرنسية الثالثة، وقد أرغمني على دفع سنتين مسبقا بسب اسمي ربما.

ص: 106

فرحت زوجتي كثيرا وأقرت بأني لي بعض الحظ السعيد إذ اكتشف دائما مأوى مناسبا. وخلال شهر كامل، وبينما استغرقت في دراساتي التي شغلتني عن أي شيء آخر، قامت هي بأعمال الخياطة والتثبيت والصيانة والفراش والتسوية وإعداد حياة سعيدة في حجرتنا الوحيدة. لقد كانت زوجتي آلة متعددة الأشغال باستطاعتها أن تقوم بأشغال الدهان والفراش والخياطة والنجار والبستاني. وكانت تؤدي ذلك بأحسن الأذواق، فأعدت الغرفة بطريقة كادت أن تتسبب في هلاك المالك العجوز، عندما تجرأ وصعد الطوابق الست يوما، لينظر كيف يعيش إنسان من (الأهالي)(Indigène) . فعندما فتحت له زوجتي الباب، وفي الوقت الذي كان يتوقع أن يرى ركنا تندثر فيه الأمتعة القديمة في فوضى، وجد غرفة صغيرة مرتبة أيما ترتيب ترغم فيها ربة البيت بإعداد الأكل وحتى الغسيل. ولم يكن عند الرجل العجوز إلا ضمير المالك. وكان ضمير يحركه بعض الشعور فأحس صاحبه ببعض الارتباك وهو على مدخل شقتنا.

قضينا في هذه الغرفة الصغيرة في الطابق السادس من بناية باريسية تسعة أشهر من أوهامنا حول المستقبل. كانت زوجتي تعد نفسها لدور ربة البيت وكنت استعد لمهنة مهندس.

وكانت جماعة أصدقائنا من اتحاد الشبان المسيحيين تزورنا كل يوم أحد تقريبا. وكانت أوقات ممتعة إذ كانت زوجتي تحسن كيف تضفي بعض البهجة على لقائنا بإعداد بعض الحلوى فيسر بها أصدقاؤنا الذين لم يزالوا عزابا.

ص: 107

أثناء بقية الأسبوع، كانت الزيارة الوحيدة لنا هي تلك التي يقوم بها محمد بن ساعي مساء كل الجمعة. وكنا نسهر متأخرين مستعرضين المشكلات التي تواجه العالم الإسلامي. وهذه السهرات هي بداية تذوقي واهتمامي بمختلف هذه المشكلات. وكنا ندقق بعمق المسائل التي نتناولها، أنا وبن ساعي. وكان الفقر الخلقي والفكري للعالم الإسلامي يبدو لنا مرعبا أمام عالم غربي له روح أوروبية وتقنية ديكارتية.

ويتعاظم الفراغ الرهيب الذي نحس به بمجرد ما نغوص في المشكلات. وكنا ندرك أننا المسلمون الوحيدون الذين كنا نتناقش في مثل هذه القضايا. فحتى (العلماء) -أي المسلمين الأقرب منا-كانوا بعيدين عن النظر إلى الأشياء بعمق. فكان جوهر المأساة الدنيوية غائبا عنهم تماما. فقد كانوا هم أنفسهم صيغا بنجلونية بصبغة إصلاحية خفيفة. كانت الآية الكريمة {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} تتداول في الأوساط الإصلاحية، غير أن الحركة الإصلاحية تعطي انطباعا بأنها تسعى لتجسيد هذا التغيير الأساسي بوسائل البلاغة العربية فقط. فقد كان الأمر يبدو لنا وكأنه إصلاح النحويين. فالمشكل الإنساني بقي كاملا دون تغيير وحتى في معطياته الآنية والبديهية كالجهل والمجاعة.

ويحصل أحيانا، إثر مناقشاتنا مساء الجمعة، أن نتخذ، أنا وصديقي، قرارا عمليا. ففي إحدى المرات وبعد أن أدركنا فراغ (المطالب الحازمة) لبن جلول في ميدان التدريس علما بأن هذه

ص: 108

(المطالب) لا تحل المشكل الخطير للأمية وإنما تعمل على إدامته واستفحاله، قررنا أن نعرض المسألة ليس على الساحة الإدارية وإنما على الضمير الجزائري. وهكذا قمت بتحرير مقال عرضت فيه كيف يجب أن تحل المشكلة بإمكانياتنا الذاتية وأشرح من خلاله كيف أن (المطالب) تصب في خانة مصالح الإدارة الاستعمارية التي كانت على يقين بأن المسلمين لا يقومون بشيء أبدا من تلقاء أنفسهم. وقد بينت (وسائل) حل المشكلة بتوزيع عدد الأميين على عدد المثقفين حتى الذين كانوا في طور الابتدائي، وكنت مدركا تماما أني حولت خطة المشكلة جذريا وبطريقة خطرة جدا.

وكانت الطريقة فعالة، وبالتالي خطرة في نظر الإدارة التي سترى نفسها مرغمة إما على العمل جديا لحل المشكلة أو أن ترى ظهور مبادرات خاصة تشكل دولة داخل دولة. غير أني لم أتحدث في مقالي بالطبع إلا عن (المبادرات) دون أن أتحدث عن آثارها. وكان من الضروري أن أخذ في الحسبان (عقلية الأهالي)(l'esprit indigène) العاجز عن إدراك المرامي الخفية إلى درجة أن مقالي لم ينشر في صحيفة (La Défense)(الدفاع) التي تلقت المقال. وأنا أدرك الآن ماذا أوحى هذا المقال للإدارة الاستعمارية بخصوصي. وأفهم على الوجه الأخص كيف يتلقى ماسينيون، المستشار التقني لهذه الإدارة، هذا المقال الخطير، صاحبه جزائري لم تكن تحركه (العقلية الأهلية)، بل كان يسعى لإحداث نظام يمكن أن يفرض موقفا جديدا على الإدارة الاستعمارية الميكيافلية.

ص: 109

نعم، ها أنا أدرك الآن، للأسف، أن الشخص الوحيد الذي كان يفهمني هو ماسينيون. كما أن الوضع لم يتغير بعد ستة عشر سنة من (المطالب) العقيمة. والسؤال هو ما هو الثمن الذي دفعته عائلتي كل هذه السنوات الستة عشر؟

ومهما يكن وبعد أن خيبت صحيفة (La Défense) ظننا قررنا، أنا وبن ساعي، أن نتوجه إلى صحيفة (L Entente)(الوفاق) لسان حال التيار البنجلولي التي كانت تصدر بقسنطينة، وكان ذلك حول موضوع آخر. وكان أكثر ما يؤلمنا هو الغياب التام لروح جماعية في الجزائر، حيث كان البرجوازي يقفل عائدا في المساء إلى منزله المريح دون أن يتأثر بتاتا بالطفل الذي يكون قد صادفه في طريقه وهو في الشارع نائم تحت حائط.

كيف نخلق هذه الروح الجماعية؟ لا ريب أن الله هو الذي يحدد الأمور بقوله سبحانه: (كن)، فتكون.

ولكن كيف نحقق أشياء بوسائل بشرية بسيطة دون اللجوء إلى المنهجية التعليمية التدريجية؟

فقررنا بالتالي أن نتوجه بمنشور مجهول المصدر (تفاديا لكل شعور بالعجب الشخصي والخيلاء) لبعض البرجوازيين الجزائريين وللسيد بن جلول شخصيا، واعتقدنا أن غياب اسم يمكن أن يمس بشهرته وبهالته سيجعله يمنح الإشهار الضروري لرسالتنا في صحيفته، كل هذا في مصلحة إخواننا البسطاء الجائعين. وفي الواقع فقد كنا نتوجه في النص إلى (أخواتنا المسلمات). وعندما لخصته

ص: 110

قبل أن أشرع في تحريره، رأيت الدموع في عيني بن ساعي. وكنت أقاسمه رقة الشعور والتأثير الذي سعيت تضمين رسالتي بهما. وكان النداء، بالفعل، مؤثرا يحرك الشفقة. وقد احتفظ بن ساعي على ما اعتقد بالنسخة ، وقد حمل إمضاء بسيطا هو (رفقاء الإسلام).

وقد شكلنا، أنا وصديقي، صندوقا صغيرا جمعنا فيه عشرين فرنكا لتغطية نفقات إرسال بعض النسخ إلى جميع جهات الجزائر.

تتوالى الأيام وتتلاحق ونحن ننتظر بقلق صدى ندائنا في الصحيفة الناطقة باسم فديرالية المنتخبين في قسنطينة. ربما لم يجد بن جلول وفرحات عباس - هذا الأخير بدأ يخطو خطوته الأولى في ساحة (البوليتيك)(1) - أية مصلحة في نص ليست له صلة بالمطالب أو الانتخابات. غير أني مدرك الآن أن الإدارة سجلته بكل عناية وبتوقيع (رفقاء الإسلام) الذي لا شك أنه أثار قلق ماسينيون.

وهكذا فإن لم تشتهر (جمعيتنا) ويرفع ذكرها فتعرف مباشرة في الحياة العامة الجزائرية، فلا بد أنها أثارت انتباه الإدارة حول هذا الجانب الجديد ل (العقلية الأهلية)، وجانبها الأخطر الذي انتبهنا له مبكرا، أنا وصديقي بن ساعي وقتذاك. وأنا أدرك جيدا الآن مرامي الإشهار الذي قام به الوسط الاشتراكي بباريس في سنة 1936 لصالح (النشاط الوطني) لمصالي.

(1) البوليتيك (boulitique) : كلمة بالعامية الجزائرية استخلصت من تحريف كلمة Politique ويقصد بها بن نبي السياسية العقيمة التي تغيب فيها الفعالية وتبنى على الكذب والخداع والدجل، يحترفها المرتزقة والمشبوهون والجهلة، ويفرق بن نبي بينها وبين السياسة التي يعتبرها علما ترسم أهدافا وتجند وسائل ولا تخطئ إلا في حدود خطأ العلم. والعبارة من مفردات قاموس الفكر البنابي. (المترجم).

ص: 111

كانت المهرجانات الخطابية لمصالي تتعدد بالفعل في العاصمة الفرنسية بمشاركة بومنجل طبعا، الذي بدأت هالة البطل الوطني تصبغ عليه.

نعم أفهم كل هذا، وبخاصة أنني وعلي بن أحمد وبن ساعي كنا ندرك الأمر في تلك الحقبة ونحن نرى الخطر الذي تمثله وطنية المنصات هذه التي يغيب فيها كل انشغال ذي طابع اجتماعي. وقد أثرت انتباه بوقادوم الذي ترك مقاعد الدراسة ليفتح محل مقهى ومطعم (وطني)، إذ قلت له:

- إن من الصعوبة الجمة أن تكون رجلا واحدا من أن تدهش آلاف المستمعين وتجذب اهتمامهم بالخطب الوطنية.

بيد أن الطريق قد خططت: فالمثقف الجزائري لم يتطلع للظفر بمنصب نائب الوالي فحسب بل يسعى لدور يدر ربحا كذلك هو دور (الوطني)(Nationaliste).

في نهجنا، كل بشيء عرضة للخسارة مع شعب لا يفهم المواقف المثيرة ومع إدارة استعمارية تعرف بالمقابل كيف تقدر الخطورة الفعلية للأمور. من الممكن، في النهج (الوطني) أن نظفر على الأقل بشهرة أو بمطعم. واختار بوقادوم ومعه ثلة من الشباب نهح الوطنية في هذا العام، وهم الذين سعيت لأبقيهم في خطنا المبهم. وأنا أتفهم الأمر.

لم أقطع الصلة أيضا بمصالي الذي كنت أراه أقل خطورة، رغم كل شيء، مقارنة بقيم الشهرة والرياء التي كانت تحرك (البوليتيك) الجزائري في قسنطينة. وبقي كبير الوطنيين من جهته يكن لي بعض

ص: 112

المجاملة عندما نلتقي. ولم أكن لأتخلف عن إبداء اعتراضاتي أو أن أبلغها له في كل ما ظهر لي غير عاد في تنظيمه أو في موقفه الشخصي. ويجب القول بأنه كان يتقبل هذه الاعتراضات برحابة صدر. وهكذا حصل في يوم من الأيام أن أرسلت له ملاحظاتي عبر شاب مثقف من محيط بوقادوم بخصوص موقف مزعج اتخذه في حضور شخصين من باريس ذهبا لمقابلته بتوصية مني في مقهى (تلمسان). استقبل مصالي الصديقين اللذين أرادا ربما قياس مدى قوة مراس الوطنية الجزائرية ، بيد أنه قام بمراقصة شابة أرمينية، كانت تعمل نادلة في مطعمه، عوض التحلي بموقف مشرف كما كنت أتمنى، وقد ترك الزائرين يحكمان عليه عوض التحدث إليه. بلغته إذن ملاحظاتي في هذا الشأن وتقبلها بصورة جيدة غير أنه اعترض أمام حامل الرسالة أني كنت (متشددا) بعض الشيء وأن كل ما في الأمر أن لكل لحظة موقفا يناسبها ومن الضروري أن يسترخي الإنسان ويروح عن نفسه بعض الشيء.

وفهمت مرة أخرى أن مصالى رجل نزيه ولكن كان عليه أن يكتفي بهذه الصفة وكفى.

وعلى أية حال فإن المصالية بدت لي أقل تعريض المستقبل للخطر من البنجلونية التي تجلت مرة أخرى روحها المجافية للإسلام.

قامت جريدة (Le Temps)(الزمن) الفرنسية، لسبب لم أعد أذكره، بشتم الإسلام والمسلمين، ويجب أن أقر هنا أني لم أطلع بتاتا على المقال الذي حوى الشتم. بيد أني اطلعت في ظرف وجيز على

ص: 113

المقال الحقير الموسوم (فرنسا هي أنا)، الذي قدر من خلاله، المساعد الرئيسي لبن جلول - وأقصد هنا فرحات عباس - بأنه من الضروري الرد على صحيفة (Le Temps) . لقد كان مقالا سافلا وكفى. وهكذا دخل البطل الوطني رقم اثنين أو ثلاثة معترك (البوليتيك) من باب الفضيحة. فقد أنكر بكل بساطة وجود الجزائر بصفتها (أمة)، مدعيا أنه (بحث في كل مكان، حتى في رماد المقابر دون أن يعثر على شهادة بوجودها).

اغتاظ علي بن أحمد واستشاط غضبا، أصفر وجه بن ساعي وكنت مشوش الذهن. ما العمل؟ نصح بن ساعي بالتريث وانتظار رد فعل الوطنيين و (العلماء). كان الردان دون المستوى. فقمت بتحرير مقال، لا شك أن بن ساعي يحتفظ بنسخة منه (1)، وتم تداوله في الحي اللاتيني والإطلاع على محتواه وخاصة من قبل السيد كسو بشخصيا. وقد قدم هذا الأخير إلى العاصمة الفرنسية حاملا الشارة الاشتراكية في انتظار منصب، لا أعرف ما هو، في حكومة بلوم التي تشكلت حديثا. وعلى أية حال فإن الاشمئزاز

(1) وهذا الذي حصل بالفعل إذ احتفظ المرحوم محمد حمودة بن ساعي بنسخة من المقال المشار إليه ولم ينشر إلا بعد مرور أكثر من ستين سنة بعد تحريره وقامت مجلة (الرواسي) المتواضعة التي تصدر بباتنة بنشره في عدد شهر جمادى الأول 1412 الموافق لشهر نوفمبر 1991، وأعاد نشره عبد الرحمان بن عمارة في كتابـ (colonisabilite). الظاهر أن الظروف النفسية والاجتماعية الصعبة التي عاشها بن ساعي في الجزائر تفسر هذا التأخير في نشر هذا المقال. (لمترجم).

ص: 114

الكبير الذي انتابني وأنا أحرر المقال سيوحي إلي اللفظة الجديدة التي أصبحت كلاسيكية اليوم في الجزائر. فقد عنونت مقالي: (مثقفون أم مثيقفون؟ (1)).

وألقيته كالبصاق في وجه فرحات عباس.

وقد انتظرنا، أنا ومحمد بن ساعي، بتلهف شديد صدور المقال في صحيفة (La Défense) لصاحبها الأمين لعمودي الذي أرسلته له

بالبريد المضمون.

وخاب انتظارنا، فشهران بعدها وبمناسبة وصول وفد المؤتمر الإسلامي الجزائري الذي كان قد ولد في جو من الحماس الشعبي، بفضل جهود لعمودي نفسه، شرح لنا هذا الأخير رفضه نشر مقالي لأنه (يتسم بالعنف). لقد كان (يتضمن درجة من العنف بحيث لن يترك أملا لفرحات عباس في الساحة السياسية).

وأضاف لعمودي:

- لدينا قلة من رجال السياسة ولا ينبغي تحطيمهم. حكمة (الأهالي)(sagesse(indigène) هذه سأجدها وبمزيد من غياب الوعي لدى (العلماء) الذين لاموني لوما شديدا لتهجماتي على بن جلول وزمرته، زمرة استولت على قيادة المؤتمر الإسلامي، وهو العمل السياسي الوحيد الذي رأى النور في الجزائر منذ أن أصبح هناك (بوليتيك) جزائري.

(1) ? Intellectuels ou intellectomanes ترجم بن نبي نفسه كلمة (intellectomane)، وهي من وحي فكره، بعبارة (مثيقف). أنظر (مذكرات شاهد القرن، الجزء الثاني: الطالب). (المترجم).

ص: 115

ما إن وصل وفد المؤتمر إلى باريس حتى قمنا بالطبع بزيارة أعضائه، أنا وبن ساعي.

نزل الوفد ومن ضمن أعضائه (العلماء)، في الفندق الكبير. تأسفت لممثلي الإصلاح وللكرامة الدينية في الإصلاح، فهذا الفندق لا يمكن أن يناسبـ (رجال سياسة) جديين ولكنه يواتي أمثال بن جلول وفرحات عباس وحتى مصالي ربما. غير أنه لا يناسب إنسانا يمثل كرامة دينية

ويفهمني القارئ. ولم أغفل أن أعبر بصراحة عن عتابي لابن باديس الذي صادفته في بهو الفندق محاطا بالعقبي والإبراهيمي وشخصيات أخرى كالمحامي المعمم خفيف الروح الأستاذ بلقاضي، رحمه الله. وكان هذا المحامى هو الذي حاول إقناعى بالضرورة البروتوكولية لنزول الوفد بالفندق الكبير. فحتى محاميا من الأهالي لا يدرك مرامي وخفايا بروتوكول يفرض أن مكانا تنزل فيه فاتنات وغانيات ومن رواده أصحاب الملايين، لا يصلح أن يكون مكانا ل (عالم)، أو قسيس أو حتى رجل سياسة جدي.

كما صدمتني جميع التفاصيل. ففي مدخل الفندق استقبلنا أنا وبن ساعي من قبل الشيخ عبد الرحمان يعلاوي الذي كان يمثل جمعية العلماء بطريقة ذكية، ولا يزال يمثلهم اليوم رسميا. فالشيخ المحترم تلقانا مبتسما مادا يده للمصافحة ليخبرنا بكل برودة أن الوفد في زيارة للمدينة حيث سيلتقي أعضاء من البرلمان الفرنسي. وقد اكتسبنا بن ساعي وأنا، وأخص نفسي أكثر بالمزية، حاسة تمكننا من استشعار رجال ماسينيون. وبما أن المستشار التقني

ص: 116

للحكومة الفرنسية المكلف بالشؤون الإسلامية، لا يمكن أن يبقى غير مكترث بوجود الوفد في باريس فأدركت أن الاتصال به غير مرغوب فيه لدى (السلطات العليا). وبناء عليه، قررت مع ذلك أن أدخل الفندق لأتحقق بنفسي من الأمر

وبهذا الإصرار استطعنا أن نشاهد جماعة (العلماء) التي كانت تهمنا دون سواها في الفندق. وقد أحسست بأن ملاحظاتي كانت تحرج ابن باديس كثيرا دون أن ينبس بكلمة. فكان هو الذي دفع ثمن محادثتنا إذ اختفى العقبي دون أن أدري أين؟ بينما جلس الإبراهيمي بحذر منزويا عن جماعتنا. ثم ظهر لنا بن جلول، وبعد تحية عابرة ذهب ليجلس بعيدا ليرتشف مشروبا كحوليا بصحبة مندوبة جميلة، تم انتدابها على الأرجح خصيصا لدى رئيس (الوفد الأهلي)، كما يمكن أن نتصور.

كان المشهد بائسا يثير الشفقة: فقد صاحبت الفاحشة والمشروبات الكحولية وفدا ضم الأعضاء البارزين للإصلاح الجزائري.

وأدركت من يومها أنه لا يرجى خير كثير من الأزهر والزيتونة وكلية الجزائر.

كما لم أكن متفقا على أي من المبادئ التي تأسس عليها تشكيل وفد الانديجين وسفره. وقلت ذلك للتو لمحدثي دون أن يخرج ابن باديس من صمته. وعبرت عن دهشتي بداية من تسليم رئاسة المؤتمر لبن جلول بينما بدا لي من الطبيعي أن تعود قيادته لجمعية (العلماء). وقد أجيبت بأن السبب هي اللغة الفرنسية التي يجهلها (العلماء). والواقع، وأنا أدرك الأمر أفضل اليوم، أن لرجل الزيتونة والأزهر رد فعل

ص: 117

نسوي أمام المسؤولية الحقيقية. وقد أعطاني العربي التبسي والشيخ خير الدين الدليل القطعي، بعد إحدى عشرة سنة بعد ذلك، أثناء رمضان سنة 1947 عندما كان علي أن أقدم للشرطة إما ضميري وإما حياتي. فقد أجمع الشيخان المحترمان أن أرضخ للشرطة بدل مقاومتها، وهذا ما تمليه علي مصلحتي، إلا أنها مصلحة تخيلها ضميران من الأهالي. لا نستبق الأمر، إذ سأعود للحادثة في الجزء الثالث من هذا العرض.

مهما يكن، فقد كبرت أربعا على (العلماء) وأقمت عليهم الحداد منذ سنة 1936 هذه، واعتبرتهم أعجز من فهم فكرة ناهيك عن تصورها وتنفيذها.

كما أن ابن باديس الذي بقي بباريس بعض الأسابيع بعد أن غير الفندق الذي نزل به أول مرة (مما يدل على أن انتقاداتي أتت أكلها)، كان يقضي أمسياته بمقهى الهقار أين كان يلتقي بن ساعي) (1). وكان يعرض وقتها الفيلم المشهور (نداء الصمت، L'appel du silence) الذي أثار حماس جميع الباريسيين التواقين لمشاهدة الذكرى القوية للأب دو فوكو. وذات مساء طرقت فكرة مخيلة بن ساعي، وهي فكرة

(1) بقي محمد بن ساعي يكن كل المحبة والتقدير للشيخ عبدالحميد بن باديس. وطوال حياته البائسة التي قضاها بباتنة لم ينشر بن ساعي إلا كتيبا صغيرا صدر سنة 1987 تحت عنوان: (في سبيل عقيدتي - au service de ma foi)، وقد خصصه للإمام بن باديس تقريبا حيث امتدحه كثيرا، وبغض النظر عن الانتقادات التي وجهها له، قد اتخذ بن نبي الموقف نفسه إزاء الأستاذ الإمام إذ لم تفته فرصة إلا وكال له المدح والاحترام الكبير. (المترجم).

ص: 118

كان فريقنا وحده هو القادر على تصورها وفهمها، وتتمثل في دعوة بن باديس لمشاهدة الفيلم الكبير ، وكانت نية صديقي هي إعطاء الزعيم الإسلامي درسا ولكن بطريقة خفية، حول مفهوم المهمة والرسالة ، فكان ما يحيرنا أنا وأصدقائي هو بالضبط الفتور الكبير لزعماء الإصلاح الجزائري الذين كانوا ينتظرون قدوم العامة إليهم حتى كراسيهم، عوض نقل الكلمة الطيبة حتى في أكثر أماكن لهو هذه العامة مجونا وفسادا. وقد قدر بن ساعي أن الدرس كان ضروريا للشيخ بن باديس للاعتبار. بيد أن هذا الأخير كان مدعوا في ذلك المساء وفي ذات الوقت المخصص لعرض الفيلم من طرف صاحب مقهى الهقار الذي اقترح عليه فيلما آخر موضوعه تسلية خالصة. والفرق هو أن مالك الهقار يمتلك سيارة بينما ليس لبن ساعي سوى فكرة.

وظفرت السيارة بالشيخ ابن باديس.

ويمكن أن يدرك الأثر النفسي، علي وعلى بن ساعي، الذي تركه الموقف الغريب للشيخ بن باديس، رحمه الله، غير أن الشيخ الموقر خصنا بمفاجأة أخرى. فعوض أن يتوجه إلينا (وخاصة أنا الذي حملت لواء (العلماء) بباريس واقترحت اسم رئيسهم للرئاسة الشرفية لجمعية الطلبة الجزائريين زمن المرحوم نارون)، قام الشيخ بإسناد مصالح جمعية (العلماء) بباريس للشيخ الورتيلاني الذي كان ربما نجمه يسطع في صنعاء أو القاهرة حيث يمكن للكلمات البراقة والمفخمة أن تقوم مقام الأفكار ولكنها تعجز عن ذلك في بلد غربي يفرض ليس فقط معرفة دقيقة بخصوصياته ولكن يتطلب أفكارا

ص: 119

واضحة ومظبوطة حول مشكلات المجتمع الإسلامي. ولإدراك معنى هذا الفعل، يجب إسقاطه على المستوى الإداري. في ذلك اليوم، كان باستطاعة ماسينيون أن يفهم جيدا أن يتصرف معي ومع بن ساعي، كيفما يحلو له دون أن يحرك الوسط الإسلامي ساكنا مطلقا. وقد أدركت المسألة في حينها وفهمت أننا كنا في نظر ماسينيون معزولين ومكشوفين دون أدنى حماية. وقلت ذلك لابن ساعي وكنا نذكر بعضنا بهذه الحقيقة ونحن نردد الحديث النبوي المشهور:(بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء).

غير أن ماسينيون كان مبتهجا ومرتاحا - وأنا أتفهم شعوره! -وهو يرى موظفا مكلفا بتسيير الضمير المسلم بباريس عوض أن يتولى الأمر دعاة مسلمون تكونوا في المدرسة الديكارتية.

وأريد أن أسجل هنا انطباعاتي حول معرض باريس الذي نظم سنة 1936 حيث زرته رفقة بواعنيني. فمشهد معرض باريسي هو في الغالب. مفيد جدا لمسلم سكنته أفكارنا. فقد رأينا جناحا يديره يهودي كان يحاول إخفاء هويته وكان يقدم الآلية التي تحرك عجلة ماكينة وعجلة

التاريخ. وبجانبه كان مسلم - مشرقي أو مغربي -يقدم سجادة وثيرة وعطور مثيرة. الأول كان يركز على كل ما يخلق القوة والثاني يدعو إلى الراحة والدعة

لم أر مطلقا هذا المشهد براحة ومن غير أن أكترث.

ص: 120