المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المرحلة الثانية المنبوذ - مذكرات مالك بن نبي - العفن - جـ ١

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌المرحلة الثانية المنبوذ

‌المرحلة الثانية

المنبوذ

ص: 121

في جوان 1936، وقبل أسبوعين أو ثلاثة من الامتحان الأخير الذي كان علي أن أتقدم له لنيل شهادة مهندس من المدرسة الخاصة للميكانيكا والكهرباء، استيقظت صباحا والدموع في مقلتي. كنت أعيش مثل هذه الحالة أحيانا عند الاستيقاظ من النوم منذ رحيل والدتي التي رأيتها ربما في المنام مرة أخرى. غير أن تباشير الصباح التي انسابت من الكوة الصغيرة لباب حجرتنا الصغيرة في الطابق السادس، أعادت وعيي إلى الحقيقة، فاستبشرت بالأفق الساحر الذي يتراءى أمام عيني: سوف أصبح مهندسا وكنت أعي أني من أفضل الأقلام الجزائرية. كنت أعلم وكنت أرى ماذا يمكن أن يجني المرء بمثل هذه الرتبة وبقلم مثيل. وكان طيف والدتي يمر أمام عيني في خضم هذا المستقبل الواعد. لم أعلم وقتها ما هو النقيض الذي انبثق من أعماق وعيي، وبالتحديد من أكثر جوانبه غورا وعمقا، أقصد شعوري الباطني. أدركت فقط أن هذا النقيض انتزع مني شهيقا وأتذكر الدعاء الذي تمتمته بين الدموع:

- إلهي، إني لا أريد نصيبي في هذه الدنيا، بل أريده في الآخرة. ثم انصرف فكري إلى المهام اليومية لطالب جدي ونجيب ينتظره امتحان مصيري. غير أن تذكر ما حصل هذا الصباح بقي في ذاكرتي كمعلم غرزه القدر في وجودي ليأذن لمرحلة جديدة.

فكم من مرة فكرت في هذه المسألة من يومها؟ وكم من مرة سأفكر فيها؟ لقد مرت عليها ست عشرة سنة.

ص: 122

وبالفعل، لم أنل شيئا إلى يومنا، ولم أرج حتى الآن شيئا في الدنيا. وينتابني خوف رهيب عندما أرى الغنى يهدد آفاقي الشخصية. فالدعاء الذي دعوته من ست عشرة سنة خلت أصبح نوعا منذ اللغز، ونوعا من القدر المحتوم في حياتي.

ولقد تلقيت بالفعل في مدة قصيرة خيبة أملي الكبرى الأولى في جويلية 1936 حيث تسارعت أحداث كثيرة في حياتي. كنت من الطلبة النجباء في دفعتي. ولم تكن عندي نقطة ضعف إلا في الرسم. غير أن مصادفة أراها من أسعد المصادفات جعلت موضوع الامتحان رسما كنت قد تدربت عليه من قبل. ثم إن المرء لا يواجه الرسوب من أجل الرسم عندما تكون عنده نقاط جيدة. ومن جانب آخر، طرح علي أستاذ الكهرباء التقنية سؤالا من خارج المقرر، ومنحني نقطة أمام بقية المرشحين وهو يقول: -لم تحفظ درسك وحسب بل فهمته. هنأني بواعنيني -صهر كسوس- على جوابي بتأثر نابع من وطنيته.

لقد كنت سعيدا. غير أني ذهبت لمقابلة المدير ليطمئن قلبي تماما، هذا المدير الذي اعتبرته (قديسا) وطالما كنت معجبا به لعلمه ولتواضعه الكبير. وكنت سعيدا بالحديث معه طيلة الأربع سنوات التي استغرقتها دراستي. ومن جانبه، كان يستقبلني دوما بتلطف لم يكن خافيا علي. استقبلني على عادته، غير أني لاحظت توا بأن ابتسامته المعهودة غابت هذه المرة عن قسمات وجهه. قلت في نفسي بأن مرد ذلك هو التعب الذي انجر عن فترة الامتحانات. وبعد أن عرضت عليه

ص: 123

موضوع زيارتي، رأيت فجأة وميضا، لم أعهده من قبل، يتلألأ من عينه. ثم خاطبني بكل برودة، وهو لا يزال واقفا لينبهني إلى أن الدقائق ثمينة: - السيد بن نبي، لم يظلمك أحد في هذه المدرسة، أليس كذلك؟ كان لهذه العبارة التي تلفظ بها رجل يكن لي دوما الاحترام أثر الماء البارد أو الصعقة الكهربائية. فأدركت أن تأثير ماسينيون وصل المدرسة عن طريق التعبد والتضرع. حييته بإيماء وقلت قبل أن أغادر: - استسمحكم السيد المدير.

يجب تصور الآثار المتعددة لهذا اللقاء القصير على ضميري. لم أكن أتصور مطلقا أن (رجلا قديسا) يقبل بالتآمر على طالب وهو يتذرع بمسوغ (العدالة). وظهرت لي بشاعة القضية. ويا لها من بشاعة! فقد كنت ذاكرة دفعتي في العديد من المواد. فكمان زملائي يطلبون مني حلولا لمسألة أو شرحا لنظرية من النظريات.

زد على ذلك أن أحد زملائي من الهند الصينية أصابته الدهشة بعد النتائج وحدث في الموضوع بويعناني كما روى لي هذا الأخير: - أنا أبعد من أن يكون لي تكوين بن نبي ولن أحصل على الشهادة السنة القادمة. والحال هذه، فإني أنوي تسجيل نفسي في مدرسة أخرى لأتم دراستي.

لم يفهم هذا المواطن الهند الصيني أن المقاسات والمعايير التي خضعت لها كانت استثنائية ولم تستهدف في شخصي مجرد فرد مستعمر من الأهالي، بل قضية أخرى أكثر دقة. فقد كان المعنى هو ضرورة توقيف نفسي وضمير وذكاء في الحال.

ص: 124

كان الانشغال منصبا في المفهوم الاستعماري على المخطط المعد للجزائر المثير للقلق أصلا ولم يلتفت للمخطط المخصص للهند الصينية. ومهما يكن من أمر فقد أدركت من الوهلة الأولى للقائي بالمدير أني سأصبح حائزا على لقبـ (طالب سابق) للمدرسة الخاصة للميكانيكا والكهرباء لكن دون شهادة موقعة من طرف نائب كاتب الدولة المكلف بالتعليم العالي والتقني.

كانت الضربة قاسية. فقد تم المساس بكبريائي الشرعى وبمصالحي المادية بعد ما أجلت سفري حتى أتسلح بشهادة رسمية، كوثيقة ضمان.

ثم أني أحسب أن والدي دفع ما يكفي من تضحيات إلى درجة أني ظننت أن من الواجب أن استغني عن مساعدته، وكنت أصرف من المبلغ الذي خصصته أنا وزوجتي لسفرنا وإقامتنا بالحجاز.

طرحت مشكلة مواجهة أعباء الحياة فجأة علي وعلى زوجتي بطريقة لم تكن في الحسبان، فعدنا إلى درو.

يجب أن أقول أني قمت بمسعى لدى الحكومة الإيطالية ملتمسا التدريب في مصنع للمصابيح الكهربائية. فعلى عادتي ودون أن أضيع دقيقة واحدة، قمت بهذا المسعى قبل الانتهاء من الامتحانات. وقد استخلصت من الرد السلبي أن (مهندسا من الأهالي) غير مرغوب فيه سيان في روما كما في باريس.

كانت الأحداث في الجزائر تتسارع ، عاد وفد المؤتمر الإسلامي لعرض نتائح مهمته. وعاد (العلماء) أيضا، وما كان لهم أن يقوموا بصفة رسمية بهذه الزيارة، وأكثر من ذلك ما كان لهم أن ينضووا

ص: 125

تحت لواء بن جلول وفرحات عباس. ثم أن ميرانتي (Mirante) انتظر عودتهم وأعد لهم مؤامرة محبوكة بإتقان. نتذكر وقائع قتل كحول. لقد أحدثت الواقعة هلعا في صفوف أبطال الفديرالية. ونتذكر العودة المفاجئة لبن جلول إلى فرنسا أين التقى في ميناء مرسيليا بمراسل صحيفة (Marseille - Matin)(1)(صباح مرسيليا)، ونستحضر الكلام الغريب والإجرامي للبرجوازي الصغير القادم من قسنطينة الذي بلغ مصف البطل الوطني الأول بإرادة الإدارة الاستعمارية وغباوة الأهالي.

- (لولا فرنسا، لكنت مجرد سماش)(2) هكذا استهل البطل الوطني كلامه.

ربما لا يكفي هذا الإطراء الموجه للاستعمار النابع من مصدر واحد على غرار (فرنسا هي أنا) لتهدئة عطايا بيجو (Bugeaud) . يجب تقديم شيء عملي للاستعمار. فأضاف بن جلول:

- (ليس لي أي شيء مشترك أتقاسمه مع أناس أيديهم ملطخة بالدماء.)

(1) عدد 12 أوت 1936 كما وجدتها في (مذكرات مصالي الحاج). وعلى غرار مالك بن نبي، فقد وجه المرحوم مصالي انتقادا لاذعا لابن جلول على كلامه الشنيع الذي كما قال:(يصعب التصور بأنه يخرج من فم عربي). (المترجم). انظر:

Les mémoires de Messali Hadj 1898 - 1938; pp; 231 - 232 Editions ANEP Alger، 2005.

(2)

أي (أجلس أتدفأ من أشعة الشمس) والمقصود بهذه العبارة الجزائرية، (العاطل عن العمل وبدون قيمة). والكلمة المقابلة المستعملة في الجزائر اليوم هي (الحيطيست)(كلمة مركبة من (حيط) في اللهجة الجزائرية - ومعناها الحائط - و (hitiste) الفرنسية، في خضم الفوضى اللغوية السائدة في البلاد) والمقصود الذين يتكئون من العاطلين على الحائط طوال النهار لـ (قتل) الوقت. (المترجم).

ص: 126

لقد عنى بكلامه (العلماء) بكل وضوح. وهذا يعني التنديد بالمؤتمر الإسلامي. كنت وبن ساعي نترقب الأسوأ. وهكذا تناهى إلى سمعنا خبر توقيف العقبي.

كان الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ الحركة الجزائرية هو دعوة المؤتمر لمواجهة تكالب الاستعمار. غير أن المؤتمر قد سد وكان المفتاح بأيدي بن جلول. لم يكن (العلماء) سوى مجموعة مسكينة من الخانعين الفاترين، من غير اقتدار يسمو بهم لمستوى الوضع، فقد كانوا يستظلون بعدالة الإله ويستكينون إليها لمواجهة الظلم الشرس الذي حاق بهم. فأي إنسان يدرك قيمة المبدأ السلفي أو لديه مجرد إلمام بسيط بالفلسفة السياسية، لا يمكن أن يفهم سفر هؤلاء العلماء إلى باريس ولا، الأحرى، خضوعهم لبن جلول. بعد اندلاع هذه الأحداث، فهمنا جيدا أنا وعلي بن أحمد وبن ساعي، أن الحركة الجزائرية ستنقلب وتنتكس وتتراجع. وعندما أسجل ذلك بعد خمس عشرة سنة في كتابـ (شروط النهضة) حيث قلت أن (المؤتمر بلغ القمة ولكنه هوى بعد 1936)، لم يفهم الكثير من الأهالي الأندجين (les indigènes) وقتها شيئا. لأن عقلهم المتحجر الفظ لا يعرف ترتيب العناصر والعوامل، فهم يرون في الفوران الحالي المنبثق من الأحداث الدولية تقدما لا يربطونه بالجهد، أي لا يعزونه للإرادة وإنما للصدفة.

آه! لو لم تقع الحرب العالمية التي كانت بمثابة رحمة من الله لشعوب الأندجين، لرأى محترفو البوليتيك الجزائريون أين سيكون موقعنا وكيف يكون حالنا اليوم بقيادة بن جلول وزمرته. أما الذين

ص: 127

يطرحون المسائل كما ينبغي، فإن سنة 1936، شكلت في الجزائر منعطفا أضاعت من خلاله البلاد دفعة واحدة جني عشرات السنين من الجهود المضنية والمريرة التي تجسدت بشكل رائع في (المؤتمر) الذي لم يدرك أهميته إلا الإدارة الاستعمارية.

وقد أدركت مجموعتنا كذلك الأمر جيدا ولكن ما هي الوسائل التي كانت في متناولنا للتأثير في الضمير الشعبي الذي نومه بن جلول. كما أن ضروريات الحياة كانت تضغط علينا وتحد من نشاطنا. فبن ساعي فقد الأمل في الظفر بشهادته بعد أن أخضعه ماسينيون (1) لمراقبته الشديدة، أما علي بن أحمد فكان يقدم درسا أسبوعيا لمجموعة من العمال تحت إشراف مصالي الذي بدأ، كما أكد لي صديقي، ينظر للأمر بريبة واستهجان، لأن بومنجل كان هناك يحرص، أي بعبارة أخرى، كان ماسينيون يراقب.

أما أنا وبعد أن أدركت أني لن أستطيع أن أفعل شيئا في بلد خاضع لفرنسا فقد بدأت أخطط للسفر للمشرق.

وقد عززني في فكرتي هذه وفد جامعي قدم من مصر، علاوة على لقاء بالصدفة في الحي اللاتيني بيهودي كان تلميذا سابقا بمدرستي وكنت أعرف قيمته النسبية كمهندس.

(1) عاد محمد بن ساعي إلى الجزائر دون شهادة الدكتورة من جامعة السوربون والتي سافر من أجلها وكابد كثيرا. نجا من المجموعة أخوه صالحا الذي تخرج كأول مهندس جزائري مختص في الزراعة الاستوائية. لم يدع ماسينيون ومن ورائه كل ماكينة الصراع الفكري ومصلحة الحرب النفسية Psychological service محمد حمودة بن ساعي إلا بعد أن نال منه وأحاله إنسانا محطعا نفسيا عاش بائسا في كوخ دون صاحبة أو ولد، ومات فقيرا معدما بمدينة باتنة لا يقوى على قوت يومه. (المترجم).

ص: 128

شرح لي هذا المهندس كيف كان يشتغل في مؤسسة خاصة بأجهزة التبريد بمدينة الإسكندرية حيث أكد لي أنه كان منعما بهذا العمل الذي يكسبه قوتا جيدا. وكان ذلك باديا على ملامحه. ثم أخبرني هذا اليهودي، الذي كان روسيا ثم أصبح فرنسيا، أنه تحصل على الجنسية المصرية. كنت أعلم أنه من السهل عليه وهو اليهودي الإقامة في بلاد الفراعنة مني أنا المسلم. غير أن الأمل كان يحدوني مع البعثة الجامعية المصرية التي وصلت إلى باريس. قدمت دروسا فى اللغة الفرنسية لبعض أعضائها كما تعرفت على رؤساء البعثة الشيوخ تاج ودراز (1) وعفيفي الذين وعدوني بالمساعدة للحصول على تأشيرة من سفارتهم. مع هذه المساعدة التي افتقرت إليها السنة الماضية، كنت متيقنا تقريبا بالحصول على تأشيرتي.

أجل! ولكن ماسينيون يحرص ويراقب. فكللت جميع مساعي الشيوخ لدى سفارتهم بالفشل المطلق. فأدركت أنه إذا كان من اليسير على مهندس يهودي أن يذهب ليقيم في مصر، فإن الأمر يستحيل على مهندس مسلم. واعتقد أنني لم أكن بعيدا جدا عن الردة عن الإسلام في تلكم الأيام، هذا الإسلام الذي خانه المسلمون والذي لم أر فيه أي روح أو مهب عقل. إني أسجل هذه النقطة لأن لها أهميتها فيما بعد. لقد أدركت بعدها أن هذا بالذات هو هدف ماسينيون: إلهامي بغضا شديدا لإخواني في الدين. وكان بن ساعي يثور عندما أحدثه عن حنقى وغضبي على المسلمين.

(1) الشيخ عبد الله دراز هو الذي وضع تقديما بالفرنسية لكتاب بن نبي المشهور الموسوم (الظاهرة القرآنية) الذي صدر في 1946 في منشورات النهضة. (المترجم).

ص: 129

ومهما يكن فقد استسلمت لفشلي مع سفارة مصر فقررت أن أدق باب مندوبيه افغانستان. كان الاستقبال حارا غير أن رئيس المفوضية نصحني أن أتوجه بطلبي إلى (مكتب الهندسة الفرنسية) للحصول على توصية تقدمني بموجبها للحكومة الأفغانية كمهندس. بخلاصة فقد أرسلني الدبلوماسي المحترم مباشرة، ولكن بحسن نية، إلى ماسينيون. انسحبت إذن ولكن بعد أن علمت أن صالح بن ساعي قد دق هذه الباب كمهندس زراعي بعد أن بقي عاطلا عن العمل لمدة ثلاث سنوات. فبدأت أعرف أن الاستعمار يمكن أن يقبل محامين وصيادلة وأطباء من الأهالي ولكنه يرفض في الغالب المهندسين. ومن باب أولى إذا كان هؤلاء المهندسون تحركهم روح كالتي تحركني وتحرك صالح بن ساعي.

كنت أفهم جيدا ذلك ولكني لم أفهم، أو قل لم أرد أن أتقبل فكرة أننا نواجه صعوبات وعراقيل حتى من إخواننا في الدين. وازداد إدراكي أكثر لهذا الواقع. كان على أحد أعضاء البعثة المصرية أن يسافر إلى لندن فحملته رسالة ورجوته أن يسلمها للمفوضية السعودية بمجرد وصوله. شرحت للدبلوماسي السعودي في الرسالة قضيتي وصلاتي الوهابية وكل ما انجر عن ذلك بالنسبة لمسلم مستعمر، وذكرت ما جرى لوالدي الذي كان ضحية أفكاري وحدثته عن قدراتي سواء كتقني أو كمرب. حررت الرسالة بالفرنسية حتى أستطيع أن أقول فيها كل ما أريد في صفحة ونصف. وترقبت الجواب. جاء الرد فعلا، وكم كان

ص: 130

مخيبا. فالدبلوماسي الذي كانت لديه بكل تأكيد كل إمكانيات قراءة رسالتي أو تحويلها لحكومته، وهي وجهتها الأصلية، طلب

مني أن أحرر طلبي بالعربي. أدركت في الحال أن الدبلوماسي النزيه كان إنسانا شرقيا لا يمكن أن يفهم مأساة مثقف مسلم أراد أن ينقذ من الاستعمار أفكاره الأخلاقية وقدراته التقنية أكثر من مستقبله الشخصي. لم يفهم حتى السبب البسيط الذي حداني بأن أوجه له رسالتي عن طريق خاص عوض أن أستعمل البريد الذي يخضع بطبيعة الحال للرقابة الإدارية. كان باختصار يطلب مني أن أضع مسعاي تحت هذه المراقبة، إذ لا يمكنني بداهة أن أجد كل يوم شخصا يحمل مراسلتي. لم يبق لي سوى تنفيذ المطلوب. حررت رسالتي كيفما كان باللغة العربية وأرسلتها بالبريد ثم انتظرت الرد الذي لم يأت ولن يأتي أبدا. ولكني علمت عاما بعدها عن طريق شيخ حاج من تبسة أنه سمع بمكة أن مهندسا من تبسة سيقدم للإقامة بالحجاز. وبما أن الشيخ يعرفني وأدرك أن الشخص الذي كان موضوع الحديث هو أنا شخصيا فقد سألني: - لماذا لم تسافر هناك؟

كان هذا هو الصدى الوحيد الذي وصلني بخصوص الطلب الذي تقدمت به في مرحلة عصيبة من حياتي. وأكثر ما كان يحز في نفسي ويؤلمها هو موقف المسلمين، الخواص منهم والرسميون، الذين خاطبتهم آنذاك، وهو موقف يوافق تماما الرغبة العادية والرقابة

ص: 131

المحكمة المفهومة للإدارة الاستعمارية. وبالنسبة لي، سيستوي الماء والخشب للأسف طوال الست عشرة سنة القادمة (1).

وأنا ألخص اليوم هذه الحالة فأقول بأن قابلية الاستعمار عند الأهالي (indigènes) هي أهم وسيلة في متناول الاستعمار. بيد أنه يجب، أن أعيش سنوات عديدة أخرى لأرى الأمور بصورة أكثر دقة وأكثر تركيزا. فأنا لم أصلها بعد.

بعد أن فقدت الأمل من جانب السفارة المصرية والمفوضية السعودية، صممت رغم ذلك على مغادرة فرنسا عبر ألبانيا. تحصلت على التأشيرة بسهولة متناهية بمفوضية هذا البلد بباريس مع إعفاء من دفع ثمن الطابع. وبعد أن تركت زوجتي بدرو (Dreux)، ركبت القطار ذات مساء في اتجاه إيطاليا ومنها سأبحر من باري (Bai) في الباخرة المتجهة إلى دورازو (Durazzo) . لم أخبر حتى زوجتي بهذا السفر الذي كان ممتعا حتى باري. وبعد العشاء، أخذت طريق الميناء، وكان الإبحار كما قيل لي بباريس على الساعة العاشرة ليلا. أردت اقتصاد ثمن العربة فوصلت منهكا تماما، لأن الميناء كان بعيدا جدا عن وسط المدينة وكنت أحمل حقيبتين ثقيلتين، كانت إحداهما مليئة بالكتب التقنية أي كل علمي.

يا لها من خيبة! لما وصلت، علمت أن الباخرة تبحر كل يومين وأن الرحلة القادمة ستكون يوم غد.

(1) أي حتى سنة 1956 حين هرب بن نبي من فرنسا عبر إيطاليا برفقة صالح بن ساعي واستقر بالقاهرة، وكان حاملا معه مخطوط كتابه الشهير:(فكرة الإفريقية الآسيوية). (المترجم).

ص: 132

آه! كم من مرة لعنت فيها هذا الاختلاف المشؤوم في التوقيت. اضطررت أن أقفل عائدا للمدينة مع كل حمولتي. وفي الغد صباحا وبينما أنا على شرفة المقهى حيث قدم لي فنجان قهوة وكوب من الماء، سمعت صوتا نسويا ورائي يسألني:

- سيدي هل أنت فرنسي؟ بدا لي ذلك من خلال لكنتك عندما تحدثت مع النادل.

كانت امرأة في العقد الرابع من العمر وبصحبة ابنتها ذات الأربعة عشر ربيعا تقريبا.

بدأ الحديث. أخبرتني السيدة أنها أقامت بعض الأسابيع بتيرانا. وسيتخيل القارئ أني سأطرح عليها بالطبع كثيرا من الأسئلة حول هذه المدينة التي نويت السفر إليها والتي أجهل عنها كل شيء. كانت الأجوبة تحط تدريجيا من الصورة التي رسمتها في مخيلتي عن الحياة في ألبانيا. هل القدر هو الذي وضع هذه المرأة في طريقي أم ميكيافيلي؟ لا أزال إلى اليوم أطرح السؤال دون أن أستطيع أن أجيب عنه بتأكيد وحزم. على أي حال قررت أن أستزيد التفاصيل بنفسي في القنصلية الفرنسية. فتم تأكيد معلومات المرأة جميعها دون استثناء. هل يتعلق الأمر بإرهاق معنوي وجسدي أو مجرد سذاجة أهلية (indigène)؟ غير أني تركت نفسي تحت تأثير ما سبق، فلم تعد لدي رغبة في الذهاب إلى ألبانيا حيث لم أر أي أفق، إذا وجب علي أن أقيم لمدة طويلة نسبيا في انتظار مغادرة محتملة نحو مصر التي كنت أرى فيها مخارج أكثر. غير أن هذا الاحتمال

ص: 133

تضاءل وصرف من ذهني، فقد أخبرت بأن القنصل المصري في تيرانا لا يمكن أن يمنح لي تأشيرة لبلاده دون أن يستمزج رأي زميله بباريس، باعتباره المعتمد إقليميا بالنسبة لمكان صدور الجواز.

سقطت مرة أخرى تحت رحمة باريس أي ماسينيون. بكل تأكيد، أدركت أن هذا الرجل يقف حاجزا أمام كل المخارج التي أحاول عبرها أن أنجو من مقرعة الاستعمار.

اضطرني الحال إلى العودة إلى باريس دون أن أفعل شيئا في ظل افتقاري لمبلغ يمكنني الوصول إلى تيرانا أو مدينة باري. وقبل أن أغادر الأراضي الإيطالية، حسبت من الواجب أن أرسل كلمة تضامن للعقبي الذي كان يقبع في السجن (1). أنا أعرف أن هذه الالتفاتة القادمة من أرض أجنبية لا يمكن إلا أن يكون لها وقع حسن على الأقل على معنويات السجين. غير أن الحالة لا يستوعبها عقل الأهالي، وهو الأمر الذي سأدركه خلال الثمانية عشر شهرا من السجن التي قضيتها في السجن، بعد تحرير فرنسا.

على أية حال، أخذت طريق العودة، وكم هي مضنية وشاقة عودة رجل يشعر بثقل نظام برمته يحط عليه ولا يرى أملا من النجاة منه. تمنيت لو ينحرف القطار سائلا الله في الوقت نفسه أن ينجي المسافرين الآخرين.

تسربت فكرة خبيثة بالانتحار في أعماقي. لقد كنت كالحيوان المتوحش الذي كان يلطم رأسه بشدة على القضبان في نوبة هيجان وهو يحس أنه سجين قفص.

(1) للتذكير، فقد سجن الشيخ العقبي بعد أن اتهمته السلطات الاستعماري بالضلوع في حادث اغتيال المفتي كحول في 1936. (المترجم).

ص: 134

بعد وصولي باريس، ذهبت إلى الإخوة بن ساعي، لم أجد سوى صالح الذي عاد من عمله الليلي كحمال في محطة ليون للقطار. لقد تعب كثيرا حتى عثر على هذا العمل الشاق. وكان غرضه هو ضمان لقمة العيش فقط، وهذا في حد ذاته كثير على مهندس من الأهالي. وهو ما كنت أدركه أكثر فأكثر. وكان صالح قد نبهني للأمر وهو يقص علي مغامراته الأخيرة سعيا وراء عمل عند شركتي رونو أو سيتروان للسيارات، لقد كان طلبه يرفض في مصلحة تشغيل العمال اليدويين البسطاء بمجرد ما كان القائمون يعلمون بصفته. وقد أعدت الكرة أنا شخصيا هذه التجربة القاسية خلال الشهرين أو الثلاثة الموالية. وقد استخلصت أنه ما من شركة صناعية كبيرة في فرنسا إلا وتلقت تعليمات دقيقة بخصوص اليد العاملة الشمال إفريقية وبالطبع عندما يخص الأمر (مثقفا) يهتم بالأفكار ويتسرب في صفوف العمال البسطاء. يجب اكتساب مخيلة واسعة أو تجربة كبيرة لإدراك هذه الأفكار الدقيقة التي هي جوهر العقلية الاستعمارية.

أه! كم أفهم الآن كيف أن هواة على شاكلة فرحات عباس لا يدركون مرامى الاستعمار الذي يتحدثون عنه. يجب أن يواجه المرء الوحش عن قرب وجها لوجه وأن يحس بقبضته الخانقة، يجب أن يفتن في مصيره وفي عمقه ليدرك ما معنى الاستعمار.

كيف السبيل لإفهام هواة (البوليتيك) الاندجين، الدقائق الأليمة لإنسان يطالع من صحيفة المساء عروض التشغيل اليدوي، وكيف يتفادى عنوة المناصب والأعمال التي تناسب كفاءته وتتماشى وذوقه

ص: 135

لعلمه بعدم جدوى التقدم لها باعتبارها مجالات محرمة عليه، فتبقى له الأشغال المذلة ويسعى لها باكرا دون أن ينال منها شيئا وهو يتقدم لها كعامل بسيط ومجهول.

كيف السبيل لإفهام أن هذا هو جوهر الاستعمار الذي يحط من الإنسان ذي القيمة إلى آخر حد، حتى يفقده الشعور بقيمته، وهذا هو هدفه.

كان محمد بن ساعي للأسف قد بلغ هذا الانحدار الذي يوصل للهوة السحيقة (1). أدركنا الأمر أنا وأخوه صالح وتأسفنا كثيرا وتألمنا لحاله. صالح قاوم ببسالة. أما أنا فإن الله تعالى قد منحني وسيلة لتجديد جلدي عند كل سلخة. فكلما أحسست بتعب وإرهاق بعد

(1) تمكن الصحافي علي بن بلقاسم، من باتنة، من الحصول على ثلاث أو أربع صفحات من مذكرات حمودة بن ساعي التي كان يحرص على إخفائها عن الأنظار ناهيك على طبعها ونشرها، بسبب عقدة الاضطهاد التي لازمته حتى وفاته والتي حدثنا عنها الكاتب سابقا، وقد يكون عنونها:(Souvenirs de jeunesse à Paris). حسب بعض الذين كانوا يتوقون لمعرفة فكر الرجل ومحطات من حياته بمدينة باتنة. ونورد مقتطفا منها ليرى القارئ كيف أنها تنسجم مع ما يرويه بن نبي وليتأمل مليا ما عانته هذه الجماعة المتميزة التي أدركت مبكرا خفايا الصراع الفكري الرهيب الذي كان يحاك ضد الجزائر من البداية: (في جوان من عام 1935، وبعد مصائب شديدة، اضطرتني الحاجة الماسة لأن أشتغل عاملا بسيطا في مصنع هيسبانو - سويزا بمنطقة بوادي كولومب بباريس. في يوم الجمعة 13 ديسمبر 1935، حضرت محاضرة للويس ماسينيون في مقر اتحاد الشبان المسيحيين حول (عسر الإسلام). لاحظني ماسينيون بين الحضور. في 26 ديسمبر، تلقيت مذكرة من مديرية المصنع تقول:(يؤسفنا أن نعلمكم بقرار فصلكم عن العمل ابتداء من 06 جانفي 1936). للمزيد عن معاناته انظر مقالنا المنشور في جريدة La tribune عدد 28 جويلية 2000 وقد عربه د. عبد الرزاق قسوم في أسبوعية (البصائر) الجزائرية. (المترجم).

ص: 136

أيام كاملة من البحث المضني عن العمل من غير جدوى، أعود لمنزلي بقرية درو. وهناك استعيد معنى كرامتي وقيمتي. وكنت كلما عدت إلى بيتي أتناول كتبي للمذاكرة لأني لم أرد أن أضيع تكويني كمهندس فقد كنت أشعر أن ذلك هو الهدف الذي يسعى له ماسينيون، المستشار التقني للحكومة الفرنسية. وكنت ألزم نفسي بمراجعة شاملة مرة كل ثلاثة أشهر لأهم المواد من رياضيات وإليكترونيك وميكانيكا.

بيد أني أجد ماسينيون دوما في طريقي مهما كان المسلك الذي اتخذه.

لقد ظهر لي أن لا طائل من وراء المساعي التي أقوم بها والجهود التي أبذلها، وتيقنت أني لن أنال شيئا إن لم ألجأ إلى دعم معين.

كنت قد التقيت من سنتين خلتا بتبسة بكاهن طيب احتفظت بذكرى رائعة معه وسجلت عنوانه. طرقت ذهني فكرة الاتصال به ومراسلته. شرحت له حالة القلق التي أصابت مهندسا فاجأته الأزمة وهو في أخريات دراسته وكيف أنه يكتفي بطيبة نفس بعمل بسيط من قبيل مجرب الآلات الكهربائية أو عامل ميكانيكي في مخبر للقياسات الكهرائية.

أجابني الراهب الطيب بالبريد ووعدني بكل دعمه كما أخبرني بأنه اتصل في الحال بـ (صديق ذي مركز مرموق ويظهر كثيرا من المودة للمسلمين).

خمنوا من هو هذا الصديق؟ إنه ماسينيون نفسه. فبعد أيام، وصلتني رسالة من (صديق المسلمين) هذا يدعوني فيها للقائه

ص: 137

وأفهمني بأن المنصب الذي أبحث عنه (مطلوب بعض الشيء). بالكاد لم يضف أن المنصب مطلوب من أحد (الأهالي).

كانت النية الحسنة للراهب مفاجئة وكتبت له للتو شاكرا مسعاه بكل صدق. أما ماسينيون فإني قررت أن ألتقيه مع علمي المسبق بنتيجة الحديث معه.

سألني هذا الرجل الذي يعرفني كما يعرف إبليس المؤمن، في مستهل حديثه:

- دراستك التقنية كانت في قسنطينة، أليس كذلك؟

إن أي إنسان يعرف معنى الذهنية اليسوعية سيدرك معنى هذا السؤال الذي لا أريد أن أعالج أهميته معالجة مشوهة هنا حتى لا أطيل الحديث. كظمت غيظي رغم ذلك وتظاهرت، من جهتي، بأني لا أعرفه أكثر وكأني أراه لأول مرة في حياتي. ويجب التنبيه من جهة أخرى أن اليسوعي لا يرتاح في جو يسمه النفاق والتظاهر الكاذب. كان ماسينيون مرتاحا في هذا الجو الغامض الذي أوجده سؤاله بعيننا. ثم سألني بغتة:

- أين عرفت هذا الكاهن؟

أجبته وأنا أضغط على مقاطع الكلمات:

- عرفت السيد الكاهن الذي فاتحكم في شأن مسعاي بتبسة، يا سيدي. في الواقع، استدعاني المستشار التقني للحكومة الفرنسية ليطلع

على أفكاري وأحاسيسي وليعرف أين وصلت.

ص: 138

وأعتقد أن إجاباتي لم تكن لتطمئنه لا من ناحية أفكاري ولا من جهة شعوري. ثم قام من مكتبه ليأذن بنهاية الحديث دون أن ينبس ولو بكلمة عن موضوع الاستدعاء. ولم يبق لي إلا أن أذكره به بما يشبه التهكم وأنا أحييه لمغادرة مبناه، فأجابني حين وضعت رجلي على الدرج: - نعم، نعم

سأكاتبك في الموضوع. من الطبيعي أنه لم يكن ثمة شيء يرجى من جهته. غير أن التجربة أفادتني بيقين مزدوج. الأول أني سأجد ماسينيون دوما في طريقي، والثاني هو أن الضمير المسيحي ليس حرا في قراراته، لأن الكاهن لا يمكن أن يتصرف كما أراد من أجلي، رغم أنه تمنى ذلك وأنا متيقن، دون أن يمر بالنظام المركزي لل (الشؤون الإسلامية). وبديهيا أيضا أن ماسينيون يقف على رأس منصب هام في هذا النظام. وستكون لي فيما بعد جميع الأدلة التي تمنحها تجربة طويلة أن ماسينيون كان على اتصال بالمكتب الثاني وبالمنظمة الكهنوتية. ثم أنني بدأت أحس منذ سنة 1936 أن المكتب الثاني بدأ يضيق الخناق على عائلتي وعلي شخصيا. فبالفعل، ورغم توافر عدة مناصب خاصة بالخوجة وشغورها في عدة بلديات وخاصة بتبسة بعد وفاة صاحبه حلايمية الشريف، رحمه الله، فإن والدي حرم من إعادة الإدماج رغم توسط أهالي مرموقين ومؤثرين على غرار والد الشيخ بن غراب.

ومن جهة أخرى، ولسبب أجهله، طلبت من مدرستي شهادة (طالب سابق) بها، وأصر المدير لدى كاتبته لملاقاتي رغم أني عقدت العزم على تجنبه. شعرت بأن لدى الرجل ندما على فعلته الشنيعة

ص: 139

تجاهي حتى وإن لم يتطرق إلى الموضوع ولو بكلمة. إلا أني وجدته في وضع من أراد إصلاح خطأ ارتكبه. طرح علي بعض الأسئلة حول حالتي ثم سألني إن لم أرغب في التقدم لمسابقة حاسب في الدائرة التقنية للمدفعية. كما أخبرني بأن المسابقة ستجرى بعد الغد بإشراف أحد معارفه الذي سيقبل ترشحي رغم تجاوز الآجال المحددة. انطلقت رأسا إلى مديرية المدفعية حيث تم قبول ترشحي وترك المجال مفتوحا لإعداد ملفي بعد المسابقة. هذا الموقف أمدني بتجربة غريبة. كان ترتيبي الأول في الكتابي

وفي المساء تقدمت للامتحان الشفهي في ظروف عادية تقريبا. حتى أن الجنرال الذي رأس اللجنة تحدث معي بعض الوقت عن الثكنات التي اشتغل فيها بالجزائر وخاصة بباتنة. كان هذا دليل على أني نجحت فعليا في المسابقة. غير أن النتيجة لم تعلن نظريا في ذلك المساء. فمندوب وزارة الحرب وهو عضو في اللجنة وكان بلباس مدني، طلب بعض الأيام كآجال رغم معارضة المدير العسكري لدائرة المدفعية. توجست خيفة من هذا التأجيل ورأيت فيه مؤشرا سيئا. وأدركت سلفا أن لي حظا وحيدا للنجاح وهو أن تعلن النتيجة فورا قبل (التحقيق الإداري)، وبعبارة أخرى قبل أن يتناهى خبر نجاحي إلى مسع ماسينيون. وبناء عليه شعرت بأن أملي قد انهار بمجرد ما سمعت بتأجيل موعد إعلان النتائج.

لم يخطئ حدسي. فقد تلقيت بعد أسبوعين إشعارا من وزارة الحرب يخبرني بكل برودة أني (لا أتوفر على شروط الامتحان). وقد فهمت بالفعل ما هي الشروط التي لم تكن متوفرة في.

ص: 140

وجدت مدير مدرستي الذي بلغه الخبر متضايقا ومحرجا. وحاول رغم كل شيء أن يشرح لي رسوبي بالامتحان الشفوي. لم أرد أن أضيف إلى إحراجه، خاصة وأنه أرسلني بتوصية منه إلى طالب سابق للمدرسة ويعمل الآن مدير شركة لرقابة الطاقة الكهربائية لمحافظة السين (Seine).

فهذه الشركة طلبت منه إفادتها بطلبة أنهوا دراستهم لتوظيفهم. ذهبت للشركة بمزيد من الأمل معتقدا أن ماسينيون لا يمكن أن يكون له تأثير في شركة خاصة، غير أني أخطأت التقدير هنا أيضا. فجميع مساعي ونشاطاتي كانت بكل تأكيد مراقبة، وكان ثمة من يسبقني. وعليه، عندما وصلت شركة المراقبة الكهربائية استقبلني مديرها بكل عناية ليقول لي بكل برودة أن جميع مناصب المراقبة قد وزعت.

ولن أتحدث عن مساع ومحاولات أخرى قمت بها شخصيا حتى بغرض القيام بتربص تقني سواء في صناعة البطاريات أو المصابيح. كانت النتيجة دائما لا شيء. وكانت الحياة تضغط وتداهم.

بيد أني لم أكن صاحب عقلية لا تستخلص دروسا تطبيقية من تجاربها. لقد كنت دوما منهجيا منظما. وقد فرضت العبرة نفسها على ذهني وتعززت بعديد الأدلة، أدلتي أنا وأدلة صالح بن ساعي.

هكذا خلصت إلى أن النظام الفرنسي لا يسمح، وبالمطلق، أن يكتسب أحد من الأهالي من سكان المستعمرات تكوينا تقنيا، وإذا تمكن جريء من الظفر به، يتكفل النظام بضياعه بجميع الوسائل. هذا ما استشففته بكل براءة لأتخلى مبكرا في قرارة نفسي وأعماقها

ص: 141

عن كل مهنة مهندس. غير أني ما لبثت أن أدركت في الحال بأن هدف ماسينيون كان أكثر اتساعا وأكثر عمقا مما أتصور.

تحت ضغط ظروف الحياة وضروراتها، تذكرت شهادة المدارس في الجزائر التي تجيز لي حق الحصول على منصب الوكيل القضائي. وجدت هنا باب خروج أو باب نجدة وجدت نفسي مرغما على أن أطرقه.

فقد عولت على ميزة سهولة التعبير عندي لأعد لنفسي وضعية مشرفة تسمح لي بمواجهة الملح من الحاجات في وقت أتطلع فيه بطريقة غير مباشرة إلى مهنة محتملة لمهندس. لأني لم أكن أريد أن أتخلى عن وظيفة المهندس التي دفعت عنها عائلتي تضحيات وكلفتني الكثير من الجهود. ولم أنقطع عن مراجعة دؤوبة لمواد الدراسة. أردت بهذه الوظيفة أن أرضي ظاهريا العقلية الاستعمارية على أن احتفظ في سريرتي بطموحاتي السرية. وحصل أن التقيت بشيخ يعلم القرآن، جاء ليرتشف كوب شاي في مقهى الهقار حيث كنت أذهب أحيانا عندما أتواجد بباريس، لأتناول خبزا يابسا وأنا أسير ذهابا وإيابا حول حديقة لكسومبورغ في بحثي الحثيث عن فرصة عمل، ثم أقضي الليل عند بن ساعي. كان الشيخ يقص علي مغامراته كرب عائلة اضطرته الأحوال إلى الاغتراب سعيا وراء لقمة عيش أبنائه والعمل حفارا. أخبرني أيضا بأن مدينة سيدي بلعباس ليس فيها إلا وكيل واحد بالرغم أن المدينة تعد مركزا هاما. وبناء عليه، وجهت في أواخر 1936 طلبا حسب الأصول لنيابة الجزائر

ص: 142

لألتمس منصب وكيل بسيدي بلعباس. مرت الأيام ولم يصلني شيء. دخلنا سنة 1937، كان ذلك في نهاية جانفي أو بداية فيفري، عندما لمحت شرطيا يجتاز ذات صباح عتبة منزلنا بدرو. كان يحمل تحت إبطه ملفا. سأل زوجتي التي كانت في الجنينة: -هل المدعو بن نبي يقطن هنا؟

وإني أؤكد هنا على عبارة (المدعو)(Le nommé) التي استعملها الشرطي، أؤكد عليها ليس لأنها بدت لي مبتذلة ومزدرية ولكن لأقول للقارئ أن هذه العبارة قد أوحيت له، كما سأدرك ذلك في ظروف مشابهة، خمس عشرة سنة بعد الحادثة. كان هذا جزءا من ترسانة مخبر السموم السيكولوجية، حيث يتربع فيها ماسينيون على أعلى المراكز دون شك.

مهما يكن من أمر فإن نبرتي غيرت سلوك الشرطى الذي دعوته للجلوس.

- سيدي، هذا ملف وصلنا من الجزائر العاصمة وكلفت بتبليغكم محتواه.

ثم قام الشرطي الذي أصبح ودودا بفتح الملف قائلا:

- لقد تقدمتم بطلب منصب وكيل قضائي، أليس كذلك؟

أمتنعت عن إجابته فواصل:

- رسالتان وبرقية، هلا تفضلتم بالإطلاع على فحواها.

أخذت منه الوثائق، كانت البرقية من النائب العام الذي يرجو من وكيل الجمهورية بسيدي بلعباس بإجراء تحقيق حول شخصي وإبداء الرأي.

ص: 143

أما الرسالتان فكانت أولاهما من قاضي سيدي بلعباس موجهة لوكيل الجمهورية والثانية من هذا الأخير للنيابة العامة. يؤكد القاضي في مراسلته لرئيسه المباشر أن المدعو بن نبي معروف في سيدي بلعباسى (وهي المدينة التي لم تطأها قدماي مطلقا ولا أعرف فيها أحدا) ك (مستشار تقني) كما أنه عضو نافذ في حزبـ (نجم شمال إفريقيا)، وبناء عليه، فإن وجوده بسيدي بلعباس غير مرغوب فيه.

وكيل الجمهورية يؤكد نقطة بنقطة كل ما قاله مرؤوسه من (الأهلي)(الانديجين) ولكنه زاد بأن منصب الوكيل لا يسمح للسيد بن نبي بأن يعيش حياة كريمة.

أترك للقارئ ليستخلص بنفسه المفارقات التي يمكن أن يستشفها إن لم يكن أندجينا، لأني لو توقفت كل مرة للتعليق على هذه التفاصيل الهامة جدا في هذه المأساة التي تقوم على حبكة نفسية، فلن أنتهي أبدا من هذا العرض.

ومهما يكن من أمر فقد كنت مشغولا بمسألتين:

لم يكن هدف ماسينيون هو منعي من الاحتفاظ بتكويني كمهندس بل منعي من العيش بكل بساطة. يجب أن أهلك أو أن انحط، أو قل انحط حتى تحبط كل (محاولة انديجين) فيستنكف إراديا عن الولوج للمهن التقنية.

ثم أني أدركت أن فكري الذي لا يطالب بـ (حقوق) ولا بـ (استقلال) كان في نظر الإدارة أخطر من محترفي (المطالب الحازمة). وباتهامي بأني (عضو نافذ في نجم شمال إفريقيا)، رغم علمها الأكيد

ص: 144

بأني خصم لها خصومة لا تفتأ تزداد عنادا، فإنها لا تسعى إلا لإخفاء التهمة الحقيقية والخطيرة، إذ لا يمكن أن نلوم أحدا باحتشام على رفضه أن يكون مناصرا لأية (مطالبة) كما هو شأن بومنجل، أقصد بومنجل مناضل حزب الشعب الجزائري الذي كان بالفعل (مستشارا تقنيا) لمصالي الحاج حينذاك. ثم إن هذا (المستشار التقني) - وهذه هي صفته الرسمية- عين مع إبراهيم بن عبد الله لعضوية (لجنة لغروزيير) الشهيرة (Commission Lagrosillère) التي سافرت إلى الجزائر لدراسة المشكل الجزائري في عين المكان. وأنا أترك للقارئ عناية فهم أسرار تاريخ الجزائر.

على أية حال، لم يتراء لي مخرج للوضعية التي وصلت إليها. حتى زوجتي نفسها، وهي المتفائلة بطبعها بدأ التشاؤم يغزوها. وكنا قاب قوسين أو أدنى من الانتحار. بيد أن الإنسان يجرب حظه دائما ما دام حيا. كنا في مارس 1937، وقتها أعلنت الصحف أن مديرية الأشغال العمومية بتونس تنوي توظيف أعوان تقنيين لإنشاء طرق استراتيجية في الجنوب التونسي. جربت حظي وأعددت طلبا دعمه فيوليت الذي كان رئيس بلدية درو، وكان وزير دولة وقتها. يجب القول أن الوزير دعم الطلب بحرارة، ووصلتني الرسالة التي تم إعلامه بأن طلبي قد حول للمصالح المعنية مع توصية مدعمة. اعتقدت لمدة زمنية أن تأثير وزير ماسوني سيبطل تأثير (صديق المسلمين) ماسينيون. في بدايات ماي، تلقيت جوابا جاء فيه أن الأشغال المنتظرة قد علقت ولن يكون بالتالي ثمة استجابة لطلبي.

ص: 145

أدركت مرة أخرى أن تأثير ماسينيون منتشر في كل مكان وأنه مداهم ومطلق.

لم يبق لي شيء أفعله في فرنسا حيث كان الورتلاني، ممثل (العلماء) يغازل ماسينيون ويستعد للحصول على تأشيرته لمصر دون صعوبة، صالح بن ساعي أبعد من فترة وجيزة إلى كايين النائية (Cayenne) مقابل أجر شهري يبلغ ألفا ومائتين أو ألفا وأربعمائة فرنكا. محمد بن ساعى ترك نفسه تتدهور وتتردى. أما علي بن أحمد فازداد سخطا أكثر من أي وقت مضى وأصبح يشتم الجميع من (علماء) وفيدرالية منتخبين وحزب الشعب الجزائري.

هكذا تشتتت مجموعتنا وتفرقت. حتما لم يبق لي شيء أفعله في فرنسا.

ص: 146