الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أول الضحايا
عدت إلى مدينة تبسة لأقضي أول عطلة لي، حيث لم أر والداي منذ سنتين. إذ فضلت أن أمضي عطلة سنة 1931 في باريس لاجتهد في مادة الرياضيات، لأني كنت أحس نفسي أكثر ميلا للدراسات التقنية، ولم تكن لي معارف علمية اللهم إلا بعض المفاهيم الأولية لشهادة التعليم الابتدائي. ولن احتسب سنوات المدرسة التي منحتني ثقافة عربية إضافة إلى تكوين فلسفي غامض اكتسبته ذاتيا على حساب البرنامج الأولي الممهد الذي يوفره (التعليم العالي) المخصص للمسلمين في المدارس الجزائرية الثلاث (Medersa) .
وصلت تبسة حاملا برنامجا ثريا للمذاكرة أثناء العطلة كان قد أعده لي مدير المدرسة العليا للميكانيكا والكهناء. وهي المدرسة التي تم فيها قبولي في السنة الأولى. لما وصلت وجدت حالة عائلتي قد تغيرت جذريا. فوالدي الذي كان يشغل منصب خوجة منذ اثنتين وعشرين سنة في البلدية المختلطة لتبسة قد نقل فجأة إلى بلدية أريس. وقد علمت أن المدير المتصرف باتيستيني هو الذي وقف وراء هذا الإجراء العقابي. وباتيستيني هذا كان يقول بأنه يريد دفن القرآن، ولم تكن مصادفة أنه تكون في مدرسة ماسينيون إذ كان يحضر دروسه بالفعل بباريس سنة 1931. غير أن والدي لم يستطع حتى الحفاظ على منصبه الجديد بأريس نظرا للحالة الصحية الهشة
لوالدتي، التي أصابها مرض أقعدها الفراش منذ خمس عشرة سنة وصحتها مهددة دوما بالانتكاس.
أمام هذا الوضع طلب والدي إحالته على الاستيداع لإعادة والدتي إلى تبسة، وقد صادف ذلك عودتي أثناء العطلة. لم يكن لدي وقتها ميل لأفسر الأحداث التي حصلت لعائلتي بربطها بأسباب منهجية.
فلم يكن لدي وعي بأي منهجية بعد.
فقد كنت أقول ببساطة: يا لسوء الحظ! بعد أن أدرك مثلا أن دراستي أصبحت صعبة أو قل غير مضمونة.
كما أن لي والدة قائمة بالتمام على شؤون البيت وملاكا في آن واحد. فقد عملت ما في وسعها، على علتها وسوء حالتها، أن تظهر لي أن لا شيء قد تغير أو يجب أن يتغير في تدابير العائلة بسبب دراستي. بل وأكثر من ذلك فقد قررت أن ننتقل أثناء عطلتي إلى محطة المياه المعدنية بمنطقة قربص، قرب العاصمة التونسية. وقد أنستنى لبعض الوقت ابتسامتها التي لا تقهر الصعوبات المالية التي تواجهها عائلتي.
وكان والدي مقتنعا بأنه سيعاد إلى وظيفته بمجرد أن يصبح هناك منصب شاغر يناسبه. فعادت الثقة في نفسي تحفزها ثقة والدتي الإرادية وتعززها ثقة والدي البريئة. وانصرفت مطمئنا إلى مراجعة الديناميكية الحرارية والميكانيك والمشتقات.
وصلتني ونحن في قربص بعض أخبار زملائي. فقد علمت بفضل إبراهيم بن عبد الله أن المؤتمر السنوي لجمعيتنا قد انعقد
بالجزائر العاصمة وأن محمد بن ساعي ألقى بالمناسبة محاضرة باللغة العربية في نادي الترقي، وهو مكان التقاء نخبة السكان الجزائريين المسلمين، وكانت محاضرة مشهودة ومؤثرة تحمت عنوان:(السياسة كدرس من القرآن). وأنا استحضر الآن ما لموضوع مثل هذا من تأثير ومن طابع ثوري بالمعنى الحقيقي للكلمة. فقد نجح بن ساعي بالفعل وباقتدار من أن يستخلص من القرآن مبادئ (سياسة النصر)(أقول اليوم (سياسة الفعالية)) وأن يجمع الكل في شكل أدبي لم يعتد عليه (العلماء) الجزائريون. وكنت أعرف نص المحاضرة الذي تلاه علي بن ساعي مرة أولى في غرفة بفندق بالحي اللاتيني وسمعتها مرة أخرى في محل جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا. ويجب أن أقول، من جهة أخرى، أن محاضرة بن ساعي باللغة العربية ومحاضرتي التي ألقيتها باللغة الفرنسية قد رفعت من شأننا في هذه الجمعية. ويجب أن أضيف الآن، أن هذا الأمر جعل جماعتنا محل ملاحظة ومراقبة من ماسينيون.
وعلى أية حال، فإني في موقع يسمح لي أن أقدر شخصيا في الجزائر مدى تأثير محاضرة صديقي، إذ أنها شكلت في اعتقادي، علامة فارقة في الحياة الجزائرية التي بدت لي معدمة فكريا وأخلاقيا. والآن أصبحت مدركا أننا كنا في أعماق بن ساعي وفي أعماقي شخصيا، ننشط ونتصرف بدون وعي منا وببراءة تصرف (منقذي الجزائر).
وإذا كان ابن ساعي يحبذ الظهور بهذه الصفة، فإني سعيت لصده عن ذلك، حتى تسير الأمور كما أراد الله، لا كما نريد نحن. غير أن
نصيحتي لم تكن لتفقد صديقي الثقة التامة وكان يعتقد أني أهل لأن أصبح ذراعه الأيمن ومستشاره، وكنت أرى فيه مثال البراءة والطيبة والإخلاص والثقافة بقدر ما كنت أرى في نفسي مزيدا من الشدة وبعد النظر العملي، وكنت أرى في مجمل هذه الصفات خلاصة يمكنها أن تقوم بثورة روحية وفكرية وسياسية بالجزائر. ولهذا كنت حريصا على كل ما كان يقوم به صديقي الذي اعتبره أخا بنفس القدر الذي كنت أنظر فيه إلى صالح الذي ضم محاسنه وعيوبه إلى صفاتنا وإلى ابن عمي علي بن أحمد، عليه رحمة الله، وإن كان هذا الأخير يبدو لي فخورا بقدر يتجاوز قيمته الفعلية. وبناء عليه، فقد كنت متحمسا، وأكررها، للقاء بن ساعي ليعرض علي ما استطاع أن يقوم به في الجزائر العاصمة.
وشارفت العطلة على نهايتها وبدأت والدتي تحدق في مطولا حتى ليخيل إلي أنها تريد حفظ صورتي في مخيلتها وتخزينها في ذاكرتها. وقد أخذني حنين العائلة التي كان يتوجب علي مفارقتها وبدأ يلفني مسبقا. وكانت أمي تزودني بنصائح ملحة تخص أحوالي الصحية. ولكني اعتقد أنها قد كشفت بفعل الحدس الذي حبا الله به الأمهات دون سواهن، بأني كنت متزوجا. فقد أحسست في خضم هذه الوصايا أنها تسعى لاحتلال موقع شخص يعني بصفة خاصة بأحوالي ويهتم بها، إذ كانت تسألني إن لم أكن بحاجة إلى محاجم توضع في جسمي لاجتذاب الألم أو دلك ظهري بمادة اليود.
حل أخيرا موعد الرحيل فغادرث قربص وتركت أمي ووالدي وشقيقتي الصغرى ومررت على تبسة لأخذ أمتعتي وتكفلت شقيقتاي المتزوجتان بتنظيم أمتعتي وتزويدي بزاد وفير للسفر ثم غادرت تبسة.
عند وصولي الجزائر العاصمة، كان أول انشغالاتي، بعدما حجزت غرفة في الفندق، هو التوجه لنادتي الترقي. وكان جو الإصلاح لا يزال سائدا. وقد تبين لي أن صورة الحاكم العام فيوليت (Violette) كانت معلقة على أحد جدران قاعة النادي. لقد كنت شخصيا مغفلا بخصوص العديد من المسائل، ولكن ليس لحد أحسب فيه أمثال فيوليت أو غودان (Godin) في عداد (أصدقاء العرب). وقد أحدثت صورة الحاكم العام السابق في نفسي صدمة كبيرة.
ومهما يكن، فقد كان علي أن أنتظر عودة الشيخ العقبي مما اصطلح على تسميته (درسا) كان يلقيه في أحد مساجد العاصمة. وفي انتظار قدومه، تعرفت على بعض الشباب الذي كان حاضرا في النادي. وأذكر جيدا أحد أبناء ميزاب الذي أدهشني بثقافته الغربية. وبحسب علمي فإن وسط بني ميزاب لم يكن قد أمد الجزائر بمثقفين بعد، فاندهشت. هل يتعلق الأمر بمفدي زكرياء، البطل الوطني لاحقا، عميل المكتب الثاني؟ ربما. وقد كنت أنا شخصيا أرى الدهشة مرتسمة على وجوه المستمعين الذين جذبهم حديثي وأفكاري. وأنا اليوم أدرك ما تعانيه هذه العقول المحبة للبلاغة الأدبية كما كانت (ولا تزال) عقول الكثير من الجزائريين، بحضور شاب
جزائري يمكنه أن يثير انتباههم بفعل الشكل اللبق والسهل لتعبيره وبفضل ما ضمنه من محتوى. فبالفعل ومنذ وجودي بباريس، أحسست بأني مختلف عن إخواني المسلمين، حتى في المجال الديني حيث لم يكن إيماني تأمليا وحسب بل عمليا. فقد أصبحت ذلك العقل البراغماتي والعلمي الذي لا يمكن لواقعيته ودقته إلا أن تفاجئ عقولا تعودت عدم الدقة وغياب الواقعية.
ومن جانب آخر، فقد هذبني وجودي بباريس ومكنني من اكتشاف عقلي. وكانت حيويتي الفكرية تدفع بثقل العقل الجزائري وتزعزعه، بعد أن أصبح عقلا أهليا (esprit indigène). وباختصار، لم يثر هذا الاحتكاك، سخط أي من الطرفين.
ووصل العقبي أخيرا، وتوجهت إليه معانقا بكل احترام، إذ كنت أظهر له التقدير الكبير. ويجب أن أقر بأن هذا الاعتبار يفوق الذي أكنه للشيخ عبد الحميد بن باديس لسببين. فقد كان ابن باديس يقطن المدينة، وكان في اعتقادي، في ذلك الوقت، أن الانحطاط الحضاري يتجلى بالأخص في ساكن المدينة أكثر مما يتجلى في البدوي. والعقبي كان في نظري بدويا.
وكنت أعلم من جانب آخر أنه قاد المعركة ضد المرابطية في جريدته (L'Echo du Sahara)(صدى الصحراء) التي كان يصدرها ببسكرة. وبما أني كنت دوما ضد الشعوذة والمرابطية فقد كنت أتوسم في العقبي زعيما للإصلاح عوض ابن باديس. ويجب أن أضيف أيضا أن هذا الأخير ترك لدي انطباعا سيئا بعد حديث قصير.
جرى بيننا بقسنطينة في سنة 1927. ففي حقيقة الأمر أن شخصية المتحمس الشاب الذي كنت وقتها، أصابتها خيبة أمل بفعل غيابة أي صدى لدى الشيخ بن بادبس عندما حدثته عن مسعاي وعما قمت به في الجنوب الوهراني لخلق وعي لدى سكان المنطقة من خطر الاستعمار المتربص بأراضيهم (1). لقد توقعت - كأي شاب عمره 22 سنة - تشجيعا وتهنئة من لدن الشيخ الذي ظهر متحفظا وباردا ولم يدعني حتى إلى الجلوس. فهل هذا هو السبب الذي جعلني وبصورة مبهمة، أفضل عليه العقبي؟ الله وحده أعلم. كما أني لم أكن لأخفي هذا الاختيار الذي كان أحيانا محل نزاع بيني وبين بن ساعي. واعترف أنه هو الذي كان على حق. ولكننا كنا في سنة 1932 وكان العقبي الذي عانقته للتو في أوج عظمته.
وبعد تقديم الشاي، تناولت الموضوع مخاطبا العقبي:
- أيها الشيخ، ما رأيكم في محاضرة بن ساعي؟ لقد سبق وأن قيل لي هنا أنها كانت مؤثرة.
كان الشيخ يتأوه من التعب، تعبا تسببت فيه الدروس التي كان يلقيها في المسجد ومن العرق الذي كان يندي جسمه. وقد صدمتني من البداية شكواه المبالغ فيها لأني كنت أرى في هذه المبالغة شهادة عن هم جسدي باعتباره علامة أو عيبـ (عالم) يسعى لإحداث انطباع لدى الناس بأنه مرهق فكريا. و (عالم) لا يشتكي من بواسيره أو من
(1) المقصود سكان آفلو بولاية الأغواط أين عمل بن نبي عدلا في المحكمة لمدة قصيرة (انظر بالتفصيل .. (مذكرات شاهد القرن)). (المترجم).
زكامه ليس بـ (عالم) كبير. وأخيرا انتهى الشيخ العقبي من شكواه ليقول بصوت خفي:
- بالفعل كانت محاضرة بن ساعي حسنة ولكنها كانت عبارة عن سرقة أدبية أو قل عدة سرقات أدبية مركبة.
أذهلني هذا التأكيد في وضوحه وخلوه من أي تحفظ أو تردد في الصوت أو في الحكم. وأردف الشيخ لإقناعي بعد أن لاحظ دهشتي:
- إني أؤكد أن بعض مقاطع هذه المحاضرة لا يمكن أن تكون بقلم جزائري يحرر بالعربية. فلا نجد مثل هذا الأسلوب إلا في المشرق.
لم أكتشف القيمة السلبية لهذا المقياس إلا فيما بعد ..
لقد أصابني الإحباط لأني أعلم شخصيا كيف تم تحرير المحاضرة في غرفة صغيرة بنزل بباريس. لقد خارت عزيمتى أمام هذه العقدة التي لمست فيها جملة من العيوب كالغيرة والكذب والدناءة. وحتى يأتي علي نهائيا أضاف الشيخ (حجة) قوية:
- زد أن بن ساعي لم يتمكن حتى من تلاوة نصه جيدا.
صدمتني هذه الكلمات ومستني في أعماق شعوري وفي مناصرتي للإصلاح وفي أنفتي وذكائي على غرار محمد بن ساعي، واهتزت في الأخير ثقتي في (العلماء).
ثم غيرت موضوع الحديث مستغلا قدوم أحد الأوروبيين الذي زعم أنه صحافي وديمقراطي اشتراكي، والذي سأكتشف بعد سنين، أو قل كشف عن نفسه، بأنه ممثل ماسينيون (أي ممثل المكتب الثاني) بالجزائر العاصمة وبأنه نائب عن تجمع الشعب الفرنسي (RPF) .
وبطبيعة الحال كنت أبعد من أن أدرك الآثار التي سترتبها هذه العلاقة على الشيخ العقبي وعلى الإصلاح.
تركت العاصمة دون أن أنشغل كثيرا بالجانب الجديد الذي رأيت فيه الشيخ العقبي. ولم أرد حتى التفكير في الموضوع حتى أحافظ على بعض قناعاتي.
بوصولي إلى باريس، عاودت ربط الصلة بحلاوة بالحي اللاتيني المنتعش حركة وابتهاجا بالدخول المدرسي والجامعي. وكان يتولد لدي انطباع دائم أشعر به في الجدران السوداء والنصب والآثار كمدفن الخالدين المسمى البانتيون (Le Panthéon) حيث ترقد عبقريات الأمس والسربون والكوليج دي فرانس حيث ستنبثق عبقريات الغد. وأحس في أعماق نفسي بالنور المنبثق من هذه الأحجار السوداء وأدرك لماذا تسمى باريس بـ (مدينة النور). وكنت أتوقف عند كل هذه المعلقات والملصقات الجامعية التي كانت تزين كل أركان الشوارع، ابتداء من شارع (أولم) حتى نهج (سان ميشال). وكنت أتوقف أرباع الساعة أمامها متأملا. وكانت تجذبني وتسترعي انتباهي أكثر من الملصقات الانتخابية أو الإعلانية التي تغطي جدران كل مدينة حديثة.
وكنت أحيانا استغرق في مطالعة البرامج الجامعية في زاوية من زوايا الشارع فتسرح مخيلتي في تأمل عميق يخوض في كل ما يفصل بين العالم الإسلامي والعالم الغربي من مسافات وفروق.
وكانت هذه المطالعة تمنحني فكرة مخيفة عن هذا البون الذي أحاول قياسه. وكان الإحساس بتخلفنا الرهيب يحط من نفسي
ويجعلني أحس بالإهانة الكبيرة. ولم ألاحظ أي طالب مسلم يقف متأملا أمام هذه الاعتبارات، فيعظم تأسفي ويزيد. وكان الاتصال الذي ربطته مع الطلبة السوريين والمصريين في جمعية الجامعة العربية، أي العناصر الأكثر وعيا في مجموع (النخبة) المسلمة، قد خيب آمالي. وإذا استثنيت فردين أو ثلاثة تميزوا بقوة شخصيتهم، على غرار السوري فريد زين الدين والمصري القبطي فريد صليب، فإن البقية لا قيمة لها. وليس المقصود هنا أنهم بدوا لي مجردين من الذكاء. فلم ألمس مطلقا لدى مسلم عامة ولدى سوري خاصة هذا الشعور بالفراغ الذي يوحيه نقص أو غياب ذكاء قط، غير أني كنت أحس لدى إخواني في الدين قلة في الهمة والنفس وغياب الرعشه العميقة أمام منظر جلي للحضارة. بالنسبة للمصري كانت الفرصة سانحة لتناول المرطبات والحلويات في متاجر (فايف أوكلوك)(five o'clock) أو مغازلة فتاة جميلة ثم الظفر، في نهاية المطاف بلقبـ (أستاذ) أو (دكتور). وبالنسبة للسوري فقد كان الأمر سيان علاوة على نشوة شعرية كانت تسمو به إلى حد الثمالة. وبخلاف بن ساعي وأحيانا
علي بن أحمد، فإني لم ألمس لدى أي مسلم في الحي اللاتيني، أضعف انشغال بالقيام بحصيلة مقارنة بين الحضارة العربية والحضارة الغربية، في وضعهما الحالي، محاولة فهم العلاقة الحقيقية بين المستعمر -بكسر الميم- والمستعمر - بفتحها. وأنا أعي الآن لماذا أنظر إلى المسألة الجزائرية، على الخصوص، من زاوية الحضارة عوض زاوية السياسة.
وكان وعيي بـ (العلم) الغربي الذي اكتسبته في الحي اللاتيني، يتعزز باكتساب وعي بـ (الروح) المسيحية في نادي اتحاد الشبان المسيحيين. وبخصوص المسألتين فقد كنت، للأسف، مضطرا للاعتراف بتأخر المجتمغ الإسلامي.
غير أن هذا الوعي المزدوج المكتسب قد أحدث تأثيرا خاصا على طباعي. فقد سعيت لتمديد وقتي وعقلي لاستيعاب كل (علم) الغرب وتوسيع روحي لاستيعاب وفهم وإيصال القيم الروحية المسيحية لإخواني في الدين. وفي مثل هذه الاستعدادات النفسية باشرت، بعد أيام من وصولي باريس، السنة الدراسية 1932 - 1933. وفضلا عن تسجيلي بالمدرسة الخاصة لعلم المكانيك والكهرباء قمت بتسجيل نفسي في بعض الدروس الأخرى في المعهد الوطني للفنون والمهن، كالكيمياء الصناعية والكيمياء المخصصة للغزل والنسيح. فكان برنامجي والحال هذه، محملا. كما حصل خلاف ظرفي بيني وبين الأخوين بن ساعي بعد أن قصصت عليهما الموقف المتعجرف للعقبي حيث عاتباني على عدم إبلاغه بسوء تصرفه ولومه في حينه. فأصبحت علاقتنا معدمة تقريبا. ثم رحلت وزوجتي للسكن في شارع صغير في المقاطعة الخامسة عشر غير بعيد عن باب فرساي، فشغلنا غرفة عند أرملة حتى نتجنب الذهاب للعيش في الجو العمومي للفنادق. وفي هدوء بيتنا الصغير، كانت زوجتي تخيط وتشدو وكنت أعمل وأذكر الله. ولم يكن للحوادث الخارجية تأثير على حياتنا في هذا الجزء الريفي من باريس.
ولم أغادر البيت إلا يوم السبت مساء. وكانت زوجتي هي التي تفرض علي الخروج حيث كانت ترى في ذلك ضرورة لعقلي وصحتي، لأنني كنت مشتغلا بكل ما أوتيت من طاقة طول بقية الأسبوع. وكانت مادة الرياضيات تمارس علي نوعا من السحر الأخاذ الذي يستبد بي كاملا، فتجدني ألقى في المعادلات والصيغ نوعا من الشعر الآسر أعظم مما أجد في الأبيات. وكنت أضيف لها رمزية صوفية، رمزية حضارة العدد، كما سأعبر عنها لاحقا. وكانت هذه الدلالة تبدو لي من خلال وجود معلمي. وكان مدير المدرسة، بخاصة، يتجلى لي في صورة قديس يتوجه للعلم وينذر نفسه له. وبالفعل، فقد أسرتني قداسته، منذ لقائنا الأول عندما ذهبت لتسجيلي. وقد خاطبني يومها قائلا:
- السيد بن نبي، عندما يشغلك سؤال تصعب الإجابة عنه، فاطرحه في (دفتر الأسئلة) الموضوع في متناول التلاميذ. وسيتولى الأساتذة الإجابة عنه أثناء الدروس ، وإذا تعذرت الإجابة عنه في الحين، لأننا لا نعلم كل شيء، سندرسه ونبحث فيه خصيصا حتى نجيب التلميذ، في حدود إمكانياتنا.
لقد أدهشي التواضع الذي أبداه هذا (البحر من العلوم) الحقيقي وهو يعترف بأنه لا يعلم كل شيء. وتذكرت بإشفاق تحذلق (العلماء) الجزائريين الذين لم أعرف منهم أحدا يقر بجهله ويعترف بقصور علمه في مسألة من المسائل. وسأضيف، علاوة على هذا الجانب، أن ما أثار انتباهي في أوروبا هو روح العلم (L'esprit de la science) أكثر
من العلم نفسه. ثم أدركت بعدها أن هذه (الروح) بهذا التألق وهذه الجاذبية الإنسانية، أي كل فعالية العلم الغربي، تمر دون أن ينتبه لها أحد من غالبية الطلبة المسلمين الذين يسعون عند قدومهم أوروبا الظفر بشهادة جامعية فقط. وهكذا، وبإلحاحها علي بالخروج مساء السبت، فإن زوجتي إنما كانت تسعى لتنتزعني لبعض الوقت من شيء ما اتخذته رهبنة وينهكنى جسديا.
غير أن هذه الهنيهة لا تمنحني راحة البتة. كنت أذهب إلى (مقهى جزائري) هو مقهى (الهقار) الذي فتح بالحي اللاتيني، فأجد هناك ألوان النميمة والتفاهات وتناقضات الحياة الجزائرية وبشاعتها وعفونتها، ووجه الإنسان القادم من شمال إفريقيا المنعم حديثا والذي يترك نفسه في مهب ريح الحياة على الطريقة الباريسية. والمظهر الخارجي لهذه الحياة الباريسية التي نجدها في جميع المواقع التي يمكن للأجنبي أن يلجها، ووجه العامل القادم من جبال منطقة القبائل أو من الهضاب العليا العربية البربرية، ولكن من غير أن يقدم جهدا (ولم يحثه عليه أحد) كما يقدم اليهودي القادم من الحارة (الغيتو) في بولونيا مثلا، والذي يمضي في غربته بكل عزة، وأخيرا وجه المثقف المسلم الذي يستجدي ربحا ما لأنه يعتبر أن مجهوده الفكري والمعنوي كاف للفوز بلقب المحامي أو الدكتور أو، مرة أخرى، منصب نائب الوالي.
وكنت أذهب كل سبت مساء تقريبا، وبعد أن أعرج على اتحاد الشبان المسيحيين، لأفرغ في هذا الوسط الشمال إفريقي الباهت
والخامل مجموع الأفكار التي تمخضت في فكري خلال الأسبوع. فيجد المتمكن حديثا من التنعم بحياة باريس تسلية إضافية، ويجد فيها المغترب فرصة للتنهد وإلقاء بعض الحسرات، ويجد المثقف دائما طريقة أو أخرى للإعراض عن إبداء رأيه في القضايا التي عرضتها ويحس بأني واجهته بكشف واجباته الآنية التي يتعين عليه أدائها بصفته طالب أو إنسان عادي.
وعند ما أعود للبيت متأخرا مساء كل سبت دون أن أقنع العامل أن يكون أقل خضوعا لمقتضيات الاندجينا، والطالب أن يكون أكثر فكرا وأطهر أخلاقيا وأكثر فعالية اجتماعيا.
وكان الوسط الطلابي الجزائري منقسما إلى فئتين. فالإدارة التي فشلت في فصل الطلبة الجزائريين من جمعية شمال إفريقيا، وجدت طريقة لفصلهم عنها عضويا.
فقد عمدت ببساطة إلى إنشاء مأوى للطالب المسلم تحت مسمى (النادي المتوسطي)(Cercle Méditerranéen) . وكان منشط هذه الحركة الانفصالية بالطبع هو عمار نارون. غير أن المثير في الموضوع هو أن بومنجل قد عارضه، على غراري تماما. والآن وبعد أن عرفت نفسية ماسينيون أفضل، فإن الأمر يفسر على وجهين. فهذا الرجل عبارة عن عقدة من الاستعلاء الأكثر غباوة والحيلة الأكثر ميكيافلية. ف (النادي المتوسطي) كان إنجازا من فعل غودين. إلا أن ماسينيون ظهر في المسألة وكأنه (عالم) من الأهالي، يغضب على كل ما لا يحمل إسمه ويثير فزعه.
هذه هي الكبرياء الغبية للرجل. ومن جهة أخرى، كان على قدر من الميكيافلية حيث كان يعطي أوامر للمطيعين له لاحتلال موقع في المعارضة وإلا فلن يصبح النشاط الاستخباري ممكنا.
والحق أن الطريقة بدت ذات فعالية كبيرة وأنا الآن أدرك ماذا يمكن أن تثمر بعقد مقارنة بين سيرتي وسيرة (البطل الوطني) بومنجل.
وقد فكرت في استغلال سوء التفاهم بين بومنجل ونارون فأجعل نهاية لمآثر وإنجازات وبطولات هذا الأخير. خدمني الحظ، إذ أخبرني الدكتور بن ميلاد، من مدينة تونس، أن عملية اختلاس قد حصلت وذهب ضحيتها عشرات الألوف من العمال من شمال إفريقيا وأنها مكنت المحتال من الاستيلاء على عشرات الآلاف من الفرنكات. ولم يكن النصاب سوى نارون الذي تلقى (سنة 1930) الاكتتابات لإنشاء جريدة تعنى بـ (الدفاع عن حقوق عمال شمال إفريقيا في فرنسا). ولم تر الجريدة النور بطبيعة الحال.
وقد رجوت بن ميلاد أن يؤكد لي الأمر كتابيا، تحت شكل رسالة للاطلاع فقط وهو ما قام به بالفعل. فبدأت الرسالة تنتقل بين الأيادي وتروج في ربوع الحي اللاتيني وتنتشر.
وقد أفاد كل من بومنجل وساحلي، البريء الطيب، كناقلي التهمة ومروجيها. وتم استبعاد نارون وطرد حتى من الجمعية الجزائرية التي كان ينوي التربع عليها، ليسود بفضلها على ستة من الطلبة المساكين الذين وجدوا ملجأ في (المأوى) المذكور، في انتظار أن يظفر بمنصب نائب الوالي.
والحقيقة أن أطيب الأوقات التي كنت أقضيها خارج عملي وبيتي، إنما كانت في اتحاد الشبان المسيحيين، حيث تحمست جماعتنا للمسائل الخاصة بالشمال الإفريقي إلى حد أن اتفاق حصل لإنشاء ودادية فرنسية - شمال إفريقية. فكنا نجتمع يوم الأحد من كل شهر، في منزل سيدة نبيلة كنا نلتهم خوانها الزاخر بالمأكولات الشهية ونستمتع بموسيقى جيدة كانت تتحفنا بها من خلال. اللعب على أوتار آلة تنبعث من خلاها مقطوعات لفاغنر وتتفاعل معها بإحساس عاطفي. لأني لأدين بشكل خاص لهذه الاجتماعات ولاتصالاتي في (اتحاد الشبان المسيحيين) ببناء فكري قائم على بعض القيم الضرورية للحياة الغربية. وإتي أدرك أن هذا البناء لا يمكن أن يشيد لا بالكتاب ولا بالعرض. وعليه كم كان إخواني في الدين الأكثر تعليما بـ (أشياء) أوروبا يبدون لي قليلي المعرفة بحضاراتها.
وكم من مرة -وأنا استعرض ديني عاليا (وربما بمبالغة) - شاركت فيها بالكثير من العاطفة القداس مع أصدقائي من الشباب المسيحي. وهكذا فإن إنشاء (ودادية فرنسا-شمال إفريقيا) لم تكن إلا تتويجا باد للعيان لصداقتنا.
وقد أحدث هذا التتويج قلقا وشكا لدى محمد الفاسي الذي قال لي عندما صادفني في أعالي نهج سان ميشال وهو يستنشق تبغه: - ليس لكم أن تدرجوا اسم طلبة شمال إفريقيا في وداديتكم.
وقد اعتبرت هذه الملاحظة مجرد إحساس بالغيرة إذ رآنى (رئيسا) لتجمع أحدث صدى في باريس واستطاع أن ينظم أمسية فنية شارك فيها عدد من المواهب منهم المترفعين ومنهم المثيرين للريبة.
ومع (عفريت) أعرج إسمه مارسولين (1)، عفريت جسور جاء من منطقة نورمانديا المقدامة، قامت وداديتنا بإطلاق لعبة طامبولا وكانت على أهبة توزيع نشرة شهرية طبع منها عدد واحد.
وهكذا فقد فسرت موقف الفاسي على أنه مجرد غيرة، وبعد أن بعثت نفحة من دخان سيجارتي في وجهه رمشت لها عيناه، قلت له مزدهيا: - يا عزيزي، نحن (وكنت أشير إلى بن ساعي وبن عبد الله، وبعض الطلبة الآخرين) طلبة من شمال إفريقيا ولا أظن أن هذه الكلمة علامة مسجلة فتحتكرها حصرا لك.
والتزم الصمت بعد أن استنشق من تبغه. وأنا الآن أفهم موقف مدير جامعة القرويين مستقبلا. لقد كان يتحلى بقدر من الواقعية تجنبه الخضوع لرد فعل عادي كالغيرة. كان رجلا يستعلى فوق مثل هذه الصغائر. لقد كان مجرد صدى لماسينيون. ف (صديق المسلمين) هذا لم يكن يحب من يجاريه اختصاص (حبه) لنا. وقد كانت هذه بالفعل نيتنا، وحتى أكون واضحا فإن ماسنيون يدرك جيدا أن الاستعمار يجب أن يكون له وجهان: وجه المحضر الذي يقدم نفسه بهذه الصفة للفرنسي الذي يجب انتزاع صوته لصالح (العمل المحضر)(Oeuvre civilisatrice) والنزعة (المحررة) للاستعمار ثم وجه المضطهد الذي يتعين إظهاره لأهالي المستعمرات (الأنديجين) لإخضاعهم وإذلالهم.
(1) Marcellin: عضو في اتحاد الشبان المسيحيين الذي كان بن نبي يرتاد ناديه بباريس. (المترجم).
لم يكن سرا، بطبيعة الحال، أن جماعتنا تهدد جديا بكشف الاستعمار وإظهاره على حقيقته أمام النزهاء من الفرنسيين. ولا أقصد بالطبع أن بومنجل والفاسي يعيان جيدا الأدوار التي يؤديانها ولكنهما يقومان بها وهما مدركان نتائجها على الأقل من وجهة نظر مصلحتيهما الشخصية. ولم أكن، والحال هذه، شريرا مع الإثنين. وحتى أبرهن للفاسي في حينها، أني لا أكن له شرا فقد دعوته لمنزلي لتناول طعام الكسكسي وقراءة الفاتحة لتثبيت زواجي شرعيا (1). ولم يتردد في قبول الدعوة، كما عهدته. ودعوت لذات المناسبة العزيز الراحل ثامر (2). وقد حضر الشاهدان في اليوم المعلوم. غير أن الفاسي أبدى فضولا قويا، وأنا أفهم ذلك. فبعد الطعام وتلاوة الفاتحة، بدأ يسأل زوجتي خاصة حول وضعها قبل الاقتران بي. وكان علي أن أتدخل لوضع حد لأسئلته:
- ها قد قبلت امرأتي هذه أن تكون زوجة لي، وعليه فإني سأمنحها صداقا قيمته ربع دينار. أي ما يقابل أربع فرنكات بصرف اليوم.
وبالفعل فقد سبق لي أن دفعت لزوجتي القطع النقدية الأربع والتي احتفظت بها، ولا تزال، بعد عشرين عاما.
(1) تزوج بن نبي السيدة بوليت فيليبون Paulette Philipon التي أسلمت وتسمت بخديجة تيمنا بخديجة الكبرى، زوج الرسول صلى الله عليه وسلم، وعانت معه معاناة شديدة بسبب مواقفه. المترجم.
(2)
الدكتور الحبيب ثامر (1909 - 1949) المناضل التونسي والمغاربي المعروف. توفي إثر سقوط الطائرة التي كانت تقله بمعية المرحومين علي الحمامي ممثلا عن الجزائر ومحمد بن عبود ممثلا للمغرب الأقصى، بعد عودتهم من مؤتمر إسلامي عقد بكاراتشي بباكستان. (المترجم).
وباختصار فقد حمل الفاسي على الاكتفاء بقراءة فاتحة الكتاب وفعل المرحوم ثامر نفس الشيء وقد فهم واستهجن ما قام به الفاسي. وكنت متيقنا أن ذكر الله كان حاضرا في حفلنا الصغير بحضور ثامر على الأقل. وهكذا زوجني أحد ممثلي ماسينيون الذي قدم لجمع معلومات
عن زوجتي وأحد المسلمين الذي أصبغ بعض البركة على اقتراني.
غير أن هذه الحياة العائلية التي سويت شرعيا ونظمت بطريقة تسمح بالعمل والتأمل كانت تشوبها ظلال قاتمة تجعل أفقها مظلما، فأتنهد بعمق عندما تمر في مخيلتي. فقد كانت الحالة التي تركت فيها والدي تشغلني كثيرا. ولم تكن زوجتي تضع على خواننا البسيط شيئا حلوا من فاكهة أو حلوى دون أن أتساءل والقلق ينتابني: - ماذا تناول والداي المسكينان اليوم من طعام!؟
قد يشحذ هذا التفكير المقلق عزيمتي في العمل، غير أنه لم يزدد إلا ثقلا يحط علي. وكنت أغبط زملائي في الدفعة الذين لم تكن لهم مثل هذه الهموم مما يجعل ظروف عملهم مرحة.
ومن جانب آخر، كنت طلبت من أبي كثيرا من التوضيحات قصد معرفة حاله هل أعيد للعمل أم لا، دون أن أحصل على جواب. فأبي رجل لم يكن يعرف ماذا يعني تحرير رسالة لابنه لإعطائه معلومات عن العائلة. فقد كان يرسل لي عند نهاية كل شهر حوالة وينتهي الأمر. كما لم أكن أعتقد البتة أن نوع حياتي بباريس تزيد من تعقيد حالته المادية. غير أنني حكمت عليه نهائيا بالشقاء في منطق الإدارة الاستعمارية يوم لقائي بمصالي الحاج وبعض أصدقائه في مقهى الهقار.
لقد قام بن ميلاد بمعية طالب تونسي آخر هو سومر بترتيب هذا اللقاء مع مصالي، بناء على طلبه، مع بعض الطلبة المدعوين وكنت في عدادهم.
تم اللقاء ذات مساء من يوم السبت في غرفة وضعها صاحب المقهى تحت تصرفنا وتقع فوق محله. كان من بين الحضور العيمش ببنيته الشبيهة ببنية ميرابو وبشعره الأشعث، وحضر راجف وسي جيلاني والمسمى عبد الله والمدعو تلمساني صاحب هيئة رياضية قد تجعلني أرى فيه شخص الشرطي لو كانت عندي تجربتي الحالية.
وقد بدا لي مصالي الذي كان برفقة مساعديه، مرحا وودودا. غير أن شعورا بالرقة والشفقة غمرني لمجرد أن مرت علي فكرة أن هؤلاء (العمال) هم الذين قدموا إلينا بينما كان واجبـ (المثقفين) هو الذهاب نحو إخوانهم العمال لتربيتهم وتثقيفهم.
وهناك حقيقة لا غبار عليها هي أن بومنجل والفاسي غابا عن الاجتماع، ناهيك بطبيعة الحال عن نارون وموفق.
تأثرت كثيرا وأخذت الكلمة بعد بن ميلاد الذي قام بالتقديم ومصالي الذي عرض لموضوع الاجتماع، فعبرت عن سروري لهذا اللقاء والآثار الطيبة التي يمكن أن يخلفها على إفريقيا الشمالية. وقد أظهرت فصاحة أكثر من الواجب لأن بن ميلاد - الذي كنت أقدر فيه دوما حسه المعتدل ورزانة تقديره - استرعاني. لقد كنت صادقا بكل تأكيد، ولكني كنت مصابا بمرض سوفة يكون موضوع انتقاد مني شخصيا بعد سبعة عشر سنة.
مهما يكن فقد قام صاحب مقهى (الهقار) بتكريمنا بشاي ثم اتخذنا قرارا بعقد اجتماعات أخرى. وهكذا تشكل الحزب الوطني أو قل أعيد تشكيله، لأن المرحوم الأمير خالد أسسه بباريس في سنة 1927 باسم (نجم شمال إفريقيا). فتم التأسيس تحت إشراف هذا المغترب النبيل. وانتفع (نجم شمال إفريقيا) ماديا بذكراه ببيع صوره، ومعنويا بجذب الانضمام والانخراط في صفوفه. وهكذا فقد ركبت سفينة الوطنية بنشاط ومرح. وقد انخرطت كلية إلى درجة أني أصبحت أتخلف عن اجتماعات (الجامعة العربية) حيث كنت أجد أن الحديث يدور عن أشياء لا شك أنها محترمة غير أنها لا تدعونا مطلقا إلى واجب نقوم به فورا بوقتنا المتوفر وبذكائنا. وفرارا من المثثقفين وأدعياء الثقافة (l' intellectomanie) وقعت للأسف في السياسة العقيمة أي البوليتيك (boulitique) غير أني لم أدرك ذلك بعد في تلك السهرة التي لا تنسى والتي أذنت بميلاد (الوطنية) الجزائرية. وكان حماسي فياضا وأنا أغادر الهقار وكأني فارس شاب خاض للتو معاركه.
وعند عودتي إلى البيت، كنت أتصور شتى المشاريع التي ترفع من المستوى الأخلاقي والفكري لمواطنينا الذين يعيشون بباريس. ثم حدد اللقاء الآتي مع مصالي بعد أسبوعين، وكنت تواقا لأحضر لقاء السبت المقبل لأخبر الأخوين بن ساعي، وكنت قد تصالحت معهما بعد هذا الحدث الكبير. وأثناء ذلك، كان يتعين علي أن أعد مشروع مسرحية صغيرة تعرض بمناسبة التظاهرة الرسمية الأولى ل
(نجم شمال إفريقيا). ولم يكن لدي شعور البتة بأن ما أقوم به سيدفع ثمنه أبي. وعندما أراجع نفسي اليوم، فإني أتعجب لكوني وقتها تركيبا للبراءة والنضج. لقد كنت أصغر كثيرا وأكبر كثيرا بالنسبة لسني في آن واحد.
تحدثت في الموضوع مع الأخوين بن ساعي. غير أن أفكاري لم تثر فيهما أي حماس. فحمودة كان يشك في أي شيء وكان يرى أن الأمر مجرد حيلة من الشرطة لكشف (النوايا التخريبية) لدى الطلبة المسلمين. أما صالح، الأكثر رزانة، فكان يرى أن الحكم على الشجرة يكون من خلال ثمرها. فيجب بحسبه التريث قبل إبداء أي حكم أو انخراط. وقد نبهته أننا إذا لم نساعد الشجرة حتى تثمر فلا يمكن أن نحكم عليها مطلقا. وأظهر تصلبا في مبدئه وتشبثت بدوري برأيي.
لما حل يوم اللقاء الثاني مع مصالي، كنت على استعداد، وقمت بإعداد أقصوصة لجأت فيها إلى إحدى حكايات عنزة وراعي الماعز بدت لي أنها تجسد جيدا (الظلم الاستعماري).
من خلف بومنجل في هذه الأمسية؟ لم أعد أذكر الوجوه جيدا حتى أحكم على الأمر. ولم يعجبني الجو رغم أنه لم يكن مكدرا ومزعجا. غير أني اكتسبت في اتحاد الشبان المسيحيين أعراض مرحض خاص بالعقلية البروتيستانتية الخاصة التي تتمسك بالفضيلة والطهرية. فلما رأيت الخمر توزع في هذا الاجتماع، أحسست بعدم الارتياح.
طلبت بطريقة ظاهرة فنجان قهوة أو شاي لرفع معنوياتي وفعل الجو الباقي. وانهمك الجميع في نقد محاولتي المسرحية ومحاولة أخرى قدمها لنا مصالي. وقد وقع الاختيار على عملي. والحق أن مصالي لم يتخذ شكل المهزوم المكسور ولا اتخذت أنا شكل المنتصر المزدهي. لقد تم إنجاز خطوة وتم الاتفاق على إنجاز خطوة أكبر. وقد اقترح مصالي وأصدقاؤه على الطلبة المشاركة في تظاهرة في شكل افتتاح رسمي ل (نجم شمال إفريقيا). وتم الاتفاق على أن تنظم سهرة في قاعة كادي التابعة لمحفل الشرق الماسوني. وأيام بعدها، ذهبت أنا وزوجتي. كانت القاعة غاصة بالحضور. أدخلت زوجتي في مؤخرة القامعة مع السيدة مصالي التي لاحظت بارتياح قسماتها النزيهة والطيبة، يغشاها غطاء خفيف من الحزن. وداخل القاعة التي اجتمعت فيها أنواع البؤس والشقاوة الجزائريين ببعض أنواع البؤس الباريسي، يشاهد في الصف الأول إمام مسجد باريس، وقد يكون حضوره لتمثيل معالي الحضرة الغبريتية لأن بن غبريت (1) غاب طبعا، حتى لا يتلطخ ربما برنوسه ذو البياض الناصع من طرف
عاطل عن العمل أو عامل في مصانع رونو للسيارات.
تم رفع الستار، كما أظن على مسرحيتي التي لم أضع لها عنوانا، غير أن طالبا جزائريا نبيها، غاب عني اسمه، قدم نفسه ارتجالا كمدير مسرح في هذه الأمسية، أعلن للحضور بعد الدقات الثلاث المعهودة قائلا:
(1) الشيخ بن غبريط كان وقتها عميدا لمسجد باريس. (المترجم).
- مسرحية (المدير الساذج)، من فصل واحد لصديقنا بن نبي! دوى بعض التصفيق في الصفوف، الأخيرة، حيث جلس الطلبة، وتبعته بقية القاعة.
لعب بن ميلاد دور المدير وقمت بدور كاتبه، ومثل أحد العمال حاجبه وقام شاب من بلاد القبائل رائع بطبعه بتمثيل دور راعي الماعز. وانتهى الفصل بملاحظة من (المدير الساذج):
- لا يتطلب الأمر شهادة دراسية حتى يصبح المرء راعيا للماعز. وجاء دور (السياسة) عبر مجموعة من الخطباء. فتحدث سي جيلاني بلغة عربية تشبه لغة شيوخ الكتاتيب وتبعه العيمش بشكله الذي يشبه الثور ثم جاء دور مصالي. لا أذكر ترتيب توالي الخطباء غير أن مصالي تحدث مطولا. أعجبني كلامه واعترف له بإلهام أسمى من الذي لاحظته حتى الآن في الكلمات التي تضمنتها خطب مثقفينا. لقد أثار الإحساس بالشفقة ثم الإقناع عندما تناول بالحديث بؤس الشعب الجزائري ومجد ماضيه. لقد أعجبني واستولى علي كلية عندما قال: (هناك رجال سامون ولكن ليست هناك شعوب أسمى). وفي القاعة التي كانت تختنق بالإحساس ودخان التبغ، كان ثمة من يبيع وهو يصيح:(صورة الأمير خالد مؤسس نجم شمال إفريقيا ومنشئ جريدة الأمة، لسان حال الحزب الوطني المسلم).
لقد استولت الوطنية على قلوب هؤلاء الرجال التعساء وتجلى ذلك في نظراتهم وحركاتهم.
وصاح رجل متحمس، كان ينشر وطنيته على بعض زملائه، وهو يشير إلى عدو خفي هو الاستعمار:
- والله سأجندله بضربة رأس، فلن يرى بعدها أبدا!
لقد حزنت لهذه الصورة. وأدركت للتو أن السياسة التي لا تبدأ بتكوين الإنسان، وتنشيط ذكائه ووعيه، ليست إلا (نطحة) ضد شيء خفي. غير أني كنت أثق في مصالي لتحمل هذه المهمة الجسيمة. وتواصلت السهرة. وبعد الخطاب جاء دور الموسيقى والرقص: رقص هز البطن المقيت. إنه أمر لا يتناسب والمهمة المنتطرة. جال بي البصر لبرهة نحو ما يشبه شرفة كانت فوق الموقع الخلفي للمسرح حيث كانت الراقصة تؤدي حركاتها والتواءاتها. لمحت مصالي وصديقه الذي كنت سأرى فيه اليوم الشرطي والذي أصفه كمساعد له عوض صديقه. كانا يطلان على المشهد. وأكثر ما كان يجذب انتباهي هو لباس مصالي الذي كان ملفوفا في قفطان فضفاض أخضر وكأنه خائف من نزلة برد. ورغما عني فقد تذكرت الشيخ العقبي، بعد درسه المشهود في مسجد الجزائر. وقد وضعني هذا التشبيه غير الإرادي في نوع من القلق المعنوي الذي لم أقدر على تحديده. وغادرت مع زوجتي المكان ونوع من الحنين ينتابني.
غير أن هذا الحنين تحول شيئا فشيئا إلى شك. فخلال هذه السنة، حافظت على صلتي بـ (الوطنية). وقد تمكنت تدريجيا من إقناع الأخوين بن ساعي بالفكرة. ثم راودتهما فكرة، من بنات أفكار صالح خاصة، بالتوجه إلى مصالي وحثه على استعمال نفوذه ووسائله،
باعتباره زعيما وطنيا، لإنشاء مدرسة مسائية في باريس توجه لتعليم إخواننا الأميين. وتلتقي هذه الفكرة مع نظراتي وأفكاري الشخصية، وكنا نعتقد نحن الثلاثة أن قطاع التعليم الحر هو بالفعل ميدان المساهمة الفاعلة، من الزاوية السياسية، للطلبة الذين كان بمقدورهم استعمال وقت فراغهم في سبيل هذه المهمة الكبيرة والنبيلة. كما أن مسعى الإخوين بن ساعي مستلهم من الجامعة الشعبية التي أسسها الحزب الشيوعي الفرنسي بباريس لصالح العمال الفرنسيين. غير أن هناك فرقا. فالشيوعية عقيدة تريد أن تستعمل الإنسان، وتدرج، في مسعاها هذا، قضية تعليمه وتحسينه حتى يصبح فعالا. بينما الوطنية التي شرعنا فيها كانت نوعا من النزعة التجريبية العاطفية التي تنوي اللجوء إلى الكلمة. وبما أن مصالي لم يطلب من الجميع المشاركة بالحديث فقد كان الحضور يكتفي بالاستماع إلى خطاب الزعيم والتصفيق له، فضلا عن أن الزعيم لم يرد أن يتقاسم هذه الميزة مع ثرثارين آخرين.
ومن هنا فقد استقبل مصالي الأخوين بن ساعى بابتسامة عريضة، ووعدهما بأن رغبتهما (الواضحة جدا) سوف تنجز. ومر شهران أو ثلاث ولم يتحقق شيء، فعاد الأخوان بن ساعي وكررا الطلب ولم يتلقيا كرد سوى نفس الابتسامة وذات الوعد. وبدأنا نتساءل عن السبب الدفين الذي يخضع له مصالي في قصوره هذا. فكان محمد بن ساعي يرفع صوته نشوة بانتصاره على غباوتي. أما صالح فزاد من تحفظاته.
أما أنا فكنت أفسر موقف مصالي كمجرد غيرة، وذهب بي الحال إلى اعتبارها شرعية في أعماقي. فكنت أقول في نفسي أن حماسنا للتدخل بصفة مباشرة في حياة إخواننا العمال قد يثير حفيظة مصالي وتخوفه من أن يرانا نستولي على تعاطف بعض أنصاره، فكنت أرى في هذا الافتراض بعض الظرف المخفف لموقفه.
ثم إن نقاشا داخليا بدأ يشغل ضميري. فقد بدأ الحديث في الحي اللاتيني عن قدوم (فيدرالية منتخبي قسنطينة) بقيادة رئيسها بن جلول. وقد كنت إصلاحيا حادا، إر درجة أني تجرأت (في سنة 1933!) واقترحت ابن باديس رئيسا شرفيا لجمعية الطلبة الجزائريين مثيرا اندهاش كل من نارون الذي طرد من الاجتماع، وبومنجل الذي سجل موقفي لتبليغه لرئيسه ماسينيون.
فكان المشكل يطرح على ضميري في صيغة معضلة: بن باديس أم بن جلول؟ وبما أني لم أتردد لحظة في الحسم لصالح (العلماء)، فقد كنت أبدي تعاطفي مع مصالي الذي كان يتودد حينها ل (علمائنا) تماما كما كان يتودد لظل الأمير خالد. وعليه فإني كنت اعتبر نفسي حليفه في هذه النقطة بالذات رغم أني لم أكن في صفه.
ولم أكن أعرف، من جهة أخرى، أن (العلماء) سيصبحون، سنوات بعدها، حماة لابن جلول عندما كنت أهاجمه ك (خائن) في وقت كانت الجزائر تضعه في الذروة، وأخص من العلماء الشيخ العربي التبسي. وأدرك الآن أن (العلماء) كانوا يتحسسون في شخصي الشاهد العصي في وقت رأوا فيه أنه من (الإسلام) التفاهم مع متواطئ مع الاستعمار عوض التفاهم مع الذي يكيل له الاتهام.
وقد بدأ النقاش الذي أحتدم في ضميري والذي فصلت فيه لصالح (العلماء)، وبالنتيجة لصالح مصالي، يضعف بفعل همومي الأخرى.
فوضع عائلتي لا يزال يؤرقني، وعملي يتعبني. ثم أضيفت قضية إصلاحية، ستورطني (كما أدرك اليوم) دون رجعة في منطق الإدارة الاستعمارية وتحكم على والدي نهائيا.
حصل أن صدر تلك السنة (مقرر ميشال) المشهور والذي يقضي بمنع المساجد على (العلماء). غير أن الشيخ العقبي لم يكن ليتحمل فكرة منعه من الذهاب للصياح والتصبب عرقا، كل مساء، في مسجد الجزائر العاصمة، فنشر باسم (العلماء) رسالة مفتوحة طبع منها آلاف النسخ، ولم يدر ما يصنع بهذا العدد الكبير، فمن السهل قول شيء ولكن من الصعب تحقيقه. فأرسل لي المخزون إلى باريس.
طلب مني الإصلاح الجزائري خدمة، فلا تتصوروا أني سأرفض أداءها. شرعت بداية في تحريض الطلبة الجزائريين، ثم حررت باسمهم رسالة مفتوحة موجهة للإدارة. ولم تذهب جمعية الطلبة إلى حد التجرؤ ورفض تحمل مسؤولية رسالتي، غير أن بومنجل اقترح تهذيب نصها لأنها، كما قال، تتضمن بعض العنف. آه! كم أفهم الآن مسببات وأهداف الأشياء. كان علي أن أقبل تهذيب بعض فقرات رسالتي التي نشرت في الجزائر بالفرنسية في جريدة (La Défense)(الدفاع) وباللغة العربية في جريدة كان يتولى عبابسة نشرها في العاصمة، وانتقدت فيها ما اسميته بـ (المساعدين المكلفين بالصلاة) الذين فرضتهم الإدارة أئمة على المساجد. ولتوزيع رسالة (العلماء) المضادة لـ (مقرر
ميشادل)، قمت من جهة أخرى، بتجنيد بعض الطلبة مثل إبراهيم بن عبد الله. وقد قبلوا، مثلي، حمل وتوزيع المنشور في حي معين بوضعها في صناديق البريد. فال (العلماء)، لم يمدوني ولو بفلس واحد لمواجهة مصاريف المهمة في مدينة كل شيء فيها بثمن وبخاصة الانتقال من نقطة إلى أخرى بوسيلة ميترو الأنفاق. وقدرت ورفاقي أنه من الأفضل إرسال المنشور لبعض المخاطبين عبر البريد. فشاركنا في جمع مساهمات لتشكيل (صندوق للدعاية). وبهذه الطريقة استطعنا أن نوصل الخطاب إلى برلمانيين وكتاب وصحفيين، وبينما كنا نكد ونجهد أنفسنا من باب إلى آخر، كان ممثلو (الوطنية) يتباهون في مقاهي الحي اللاتيني وينتظرون موعد مهرجانهم الخطابي القادم.
ولم تكن نتيجة جهدنا مخيبة وكانت الجريدة الوحيدة التي لمسنا فيها أمرا يعنينا هي (l'Action)(النشاط) الملكية التي تحدثت عن (أفاعي المسلمين) وهي تتناول موضوعا لم أعد أدري ما هو.
أما (العلماء)، فلم أعثر لهم على أثر، رغم أني حررت رسالة للشيخ العقبي لحثه على صرف النظر عن (مقرر ميشال) وعدم الاهتمام به ولكن دون اجتياز عتبة المساجد الممنوعة.
لقد اقترحت أن يؤم المصلين خارج المدينة، لأداء الصلاة تحت السماء أي تحت القبة الحقيقية للمسجد، والتي أم تحتها محمد صلى الله عليه وسلم صحابته عندما كانوا مضطهدين. وبديهيا أنني أفهم -أو قل لم أفهم- القصور البين ل (العلماء) في هذه النقطة بالذات.
لقد خاطبت الشيخ العقبي لأني كنت أراه أكثر حماسة. ولكن، يجب أن أقول الآن وعلى ضوء تجربة طويلة، أن علماءنا كانوا دوما على قدر من الجهل يحجبهم عن إدراك الأفكار وعلى قدر من الجبن لتطبيقها إذا كانت ثمة بعض الأخطار. إنهم يحبون الجنة طبعا، ولكن على شرط وصولها بتأن وببطن شبعان وبفكر خاو وأن ينتظرهم ملك - أقصد مازحا شكل ملك - يقول لهم:(ادخلوا، أيها السادة، أنا أعلم أنكم تعبتم كثيرا في الحياة الدنيا غير أن فرش ناعمة تنتظركم.) ولكن ماسينيون يفهم الأفكار، وقد يكون لاحظ فكرتي، كما سيلاحظ بعد ستة عشر سنة، بعد صدور (شروط النهضة) ويعلق عليه بقوله:(هذا خطر حقيقي على الاستعمار).
وبدأت شخصيا أتحسس وأعي هذا (الخطر) من أفكاري تماما كما بدأت أحس (بالخطر) الخاص لماسينيون على مستقبلي الذي لا يزال بعيدا، وعلى وضع عائلتي، فضلا عن والدي، الذي قرر بعد محاولات فاشلة لإدماجه في العمل، أن يؤدي فريضة الحج مصحوبا بوالدتي. وقد كتب لي ليعلمني بالأمر رسالة مؤثرة أبكت زوجتي، بينما كنت على العكس، فرحا متمنيا أن يبقى والداي اللذان نفرا من الاستعمار بأرض الحجاز حيث خططت للإقامة بعد نهاية دراساتي لأن شعورا غامضا اعتراني بأني لن أقوم بشيء في الجزائر. وانتهت سنتي الدراسية على وقع هذا الآمل.