الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَا عرضت لَهُ هَذِه الْآيَة
وَأرى خَمْسَة أَشْيَاء قد عرضت لهَذِهِ الْآيَة مَانِعَة من عُمُوم الِاسْتِدْلَال بهَا بَعْضهَا مَا ذكره إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كَلَامه هَذَا الأول مِنْهَا أَن الْمُفَسّرين اخْتلفُوا فِي معنى قَوْله تَعَالَى يعْبدُونَ
الثَّانِي أَن الْآيَة مجملة عِنْد بعض الْعلمَاء
الثَّالِث أَنه دَخلهَا التَّخْصِيص باستثناء الْمَذْكُورين
الرَّابِع أَن أصل الْعِبَادَة التذلل كَمَا ذكر وعمومها على هَذَا الْوَجْه مُمكن لقَوْله تَعَالَى {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} وَقَوله صلى الله عليه وسلم (الْمَوْلُود يُولد على الْفطْرَة) الْخَامِس مَا يَئُول إِلَيْهِ مَا ذَكرُوهُ فِي الْعُمُوم من التَّنَاقُض الْمَذْكُور
قلت وَمَعَ هَذِه كلهَا يَنْبَغِي أَن يعارضوا بقوله عز وجل {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} الْآيَة
وَوجه الِاسْتِدْلَال بهَا أَن المخلوقين لِجَهَنَّم لَيْسُوا مخلوقين لِلْعِبَادَةِ لِأَن المخلوقين لِلْعِبَادَةِ هم الَّذين سبقت لَهُم الْحسنى بالسعادة وَقد قَالَ الله تَعَالَى فيهم {أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون}
قَالَ وَمِمَّا يستدلون بِهِ قَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك}
قُلْنَا فِي الْآيَة الْمُتَقَدّمَة على هَذِه دلَالَة قَاطِعَة على بطلَان مذهبكم يَعْنِي قَوْله عز وجل {قل كل من عِنْد الله} وَتكلم على ذَلِك
ثمَّ قَالَ فِي آخر كَلَامه على أَن الْمُعْتَزلَة لَا يَقُولُونَ بِظَاهِر الْآيَة يَعْنِي الْآيَة الَّتِي احْتَجُّوا بهَا إِذْ الْخَيْر وَالشَّر من أَفعَال الْعباد واقعان بقدرة الْعباد خارجان عَن مَقْدُور الله تَعَالَى فيهمَا جَمِيعًا بِالْعَبدِ عِنْدهم انْتهى كَلَامه
قلت جَمِيع مَا ذكرت عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْمَشْهُور بجودة النّظر والانتقاد اختصرته وَجمعته من مَوَاضِع مُتَفَرِّقَة من كِتَابه الْإِرْشَاد وَقد كنت قدمت شَيْئا من الْمَعْقُول على مَا استشهدت بِهِ من الْمَنْقُول أردفناه بِكَلَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْمَذْكُور المرتضى
وَهَا أَنا أورد شَيْئا من الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة أَيْضا وَاقْتصر مِنْهَا على أَرْبَعَة أَشْيَاء محصورة التعداد الْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة وَخلق أَفعَال الْعباد فَأَقُول هَل علم الْحق سُبْحَانَهُ كفر الْكَافِر قبل خلقه أم لَا أنصفني وَإِلَّا اعتزل مسائلي أَيهَا المعتزلي
فَإِن قلت لم يعلم ذَلِك فقد هديته إِلَى الْجَهْل تَعَالَى الله عَن ذَلِك وكذبت فِيمَا صدق أصدق الْقَائِلين {وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين} وَقَوله عز وجل {لَا يعزب عَنهُ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَاوَات وَلَا فِي الأَرْض وَلَا أَصْغَر من ذَلِك وَلَا أكبر} وَقَوله الْكَرِيم {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} وَغير ذَلِك من الْآيَات وَالذكر الْحَكِيم الَّتِي تكذيبها كفر بِاللَّه الْعَظِيم
وَإِن قلت علمه قلت فَهَل قدر على مَنعه مِنْهُ أم لَا فَإِن قلت
لم يقدر فقد نسبته إِلَى الْعَجز تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَمثلك فِي ذَلِك مثل من هرب من الرشاش فَوَقع تَحت الوابل بل غرق فِي بَحر لَيْسَ لَهُ سَاحل أَعنِي أَنَّك هربت مِمَّا توهمت أَنه يكون ظلما فِي حَقه تَعَالَى وَوَقعت فِيمَا هُوَ أعظم وَهُوَ نسبته إِلَيْهِ من الْجَهْل وَالْعجز تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا
وَإِن قلت قدر على مَنعه من ذَلِك وَلم يمنعهُ فقد نسبت الرب الْقَدِير الْحَكِيم الْخَبِير سُبْحَانَهُ إِلَى الرضى بالقبيح الَّذِي زعمت أَنه لَا ينْسب إِلَى الله تَعَالَى
إِذا يصير مُقَدرا عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَة على الْمَنْع مِنْهُ وعَلى أَن لَا يكون شَيْء من الْقَبِيح فِي مَمْلَكَته ونقضت أصلك وهدمت مذهبك بل نقضت ذَلِك وهدمته بِمَا هُوَ أعظم وأوضح وَأجلى مِمَّا لَيْسَ لَك عَنهُ محيد وَلَا مَحِيض أصلا وَهُوَ قَوْلك بِوُجُوب الْأَصْلَح على الله عز وَعلا وتقدس على ذَلِك تَعَالَى
فبالله عَلَيْك هَل الْأَصْلَح عدم الالتحاد للْكفَّار أم التحادهم مَعَ تخليدهم فِي النَّار أم مَوْتهمْ فِيهَا أم بقاؤهم على تعاقب الدهور فِي الْعَذَاب الشَّديد وَالْوَيْل وَالثُّبُور وحرمان الْقُصُور وَسَائِر اللَّذَّات وَالسُّرُور فِي دَار الْكَرَامَة وَالنَّعِيم الْمُقِيم مَعَ رضوَان الله وَجوَار الْمولى الْكَرِيم والتعوض عَن ذَلِك بسخط الْجَبَّار وعذابه الْأَلِيم
نسْأَل الله الْكَرِيم الْعَفو والعافية من ذَلِك وَمن جَمِيع البلايا والمهالك لنا ولأحبابنا الْمُسلمين آمين
وَإِلَى نفي الْوُجُوب على الله أَشرت فِي بعض القصائد بِقَوْلِي
(وَمَا من وَاجِب بل زاغ حمق
…
وَضَلُّوا باعتزال عَن صَوَاب)
(عَلَيْهِ أوجبوا أشيا وَلم يبْق
…
إِلَّا أَن يقومُوا للعقاب)
(وَمَا لِلْعَقْلِ حكم بل لشرع علا
…
فِي منصب على انتصاب)
(فَفِي سُبْحَانَ لَا تَعْذِيب إِلَّا
…
ببعث الرُّسُل فِي نَص الْكتاب)
ثمَّ أَقُول بعد هَذَا وَإِذا اعْترفت بِالْحَقِّ من أَنه سُبْحَانَهُ علم كفر الْكَافِر قبل خلقه قلت لَك هَل أَرَادَ صُدُور الْكفْر مِنْهُ أم لم يردهُ
فَإِن قلت أَرَادَهُ فقد حصل المُرَاد ووافقتنا وَذَلِكَ هُوَ المُرَاد وَيُمكن إِن نقضت أصلك وَلزِمَ كَون مذهبك غير صَحِيح بتجويزك وَإِرَادَة مَا زعمت من الْقَبِيح وَأَقُول إِن لم يرد ذَلِك بل أَرَادَ مِنْهُ الْإِيمَان فَقضيت بِوُجُود مَا لم يرد وَعدم مَا أَرَادَ
فَصَارَ على حكمك هُنَا مَا شَاءَ الله لم يكن وَمَا لم يَشَاء كَانَ عكس مَا أجمع عَلَيْهِ السّلف الصَّالح وَصَارَ الْملك القهار على هَذَا مقهورا
وَحِينَئِذٍ يكون الْوَاقِع على وفْق إِرَادَة عَدو الله إِبْلِيس أَكثر من الْوَاقِع على وفْق إِرَادَته تَعَالَى إِذْ الْمعاصِي أغلب من الطَّاعَات لقَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَقَلِيل مَا هم} وَقَوله عز وجل {وَلَا تَجِد أَكْثَرهم شاكرين}
قلت وعَلى هَذَا قَالَ الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام أَبُو حَامِد رضي الله عنه فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} يَقُول خلقنَا
وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا يزالون مُخْتَلفين إِلَّا من رحم رَبك وَلذَلِك خلقهمْ} يَقُول فريقين فريقا يرحم فَلَا يخلف وفريقا لَا يرحم فيخلف وَذَلِكَ قَوْله {فَمنهمْ شقي وَسَعِيد}
وَفِي قَوْله تَعَالَى {إِن الخاسرين الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة} قَالَ وهم الْكفَّار الَّذين خلقهمْ الله للنار وَخلق النَّار
لَهُم فَزَالَتْ عَنْهُم الدُّنْيَا وَحرمت عَلَيْهِم الْجنَّة قَالَ الله تَعَالَى {خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة}
وَفِي قَوْله تَعَالَى {كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ فريقا هدى وفريقا حق عَلَيْهِم الضَّلَالَة}
قَالَ إِن الله تَعَالَى بَدَأَ خلق بني آدم مُؤمنا وكافرا كَمَا قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن} ثمَّ يعيدهم يَوْم الْقِيَامَة كَمَا بَدَأَ خلقا مُؤمنا وكافرا
وَفِي قَوْله تَعَالَى {واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا} يَقُول أَئِمَّة تهتدي بِنَا وَلَا تجعلنا أَئِمَّة ضلالا لِأَنَّهُ قَالَ لأهل السَّعَادَة {وجعلناهم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا} وَقَالَ لأهل الشقاوة {وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار}
وَفِي قَوْله تَعَالَى {يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه} يَقُول يحول بَين الْمُؤمن وَبَين الْكفْر ويحول بَين الْكَافِر وَبَين الْإِيمَان
وَفِي قَوْله تَعَالَى {قَالَ رب بِمَا أغويتني} أَي أضللتني
وَفِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ مَا أَنْتُم عَلَيْهِ بفاتنين إِلَّا من هُوَ صال الْجَحِيم} يَقُول لَا تصلونَ أَنْتُم وَلَا أصل مِنْكُم إِلَّا من قضيت لَهُ أَنه صال الْجَحِيم
وَفِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّا جعلنَا فِي أَعْنَاقهم أغلالا}
وَفِي قَوْله تَعَالَى {أَغْفَلنَا قلبه عَن ذكرنَا} وَقَوله تَعَالَى {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا} وَنَحْو هَذَا من الْقُرْآن
قَالَ إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يحرص على أَن يُؤمن جَمِيع النَّاس ويتابعوه على الْهدى فَأخْبر الله تَعَالَى أَنه لَا يُؤمن إِلَّا من سبق لَهُ من الله السَّعَادَة فِي الذّكر الأول وَلَا يضل إِلَّا من يسْبق لَهُ من الله الشقاوة فِي الذّكر الأول
ثمَّ قَالَ الله لنَبيه صلى الله عليه وسلم {لَعَلَّك باخع نَفسك أَلا يَكُونُوا مُؤمنين إِن نَشأ ننزل عَلَيْهِم من السَّمَاء آيَة}
وَفِي قَوْله تَعَالَى {أمرنَا مُتْرَفِيهَا} يَقُول سلطنا شِرَارهَا فعصوا فِيهَا فَإِذا فعلوا ذَلِك أهلكناهم بِالْعَذَابِ
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جعلنَا فِي كل قَرْيَة أكَابِر مجرميها ليمكروا فِيهَا} وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ أكبرنا فساقها
وَفِي قَوْله تَعَالَى {أَفلا يتوبون إِلَى الله ويستغفرونه} قَالَ
قد دَعَا الله تَعَالَى إِلَى التَّوْبَة وَلَكِن لَا يقدر العَبْد أَن يَتُوب حَتَّى يَتُوب الله عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم ليتوبوا}
وَفِي قَوْله تَعَالَى {قل كل من عِنْد الله} يَقُول الْحَسَنَة والسيئة من عِنْد الله أما الْحَسَنَة فأنعم الله بهَا عَلَيْك وَأما السَّيئَة فابتلاء الله بهَا
وَفِي قَوْله تَعَالَى {إِن تكفرُوا فَإِن الله غَنِي عَنْكُم} يَعْنِي الْكفَّار {الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم} فيقولوا لَا إِلَه إِلَّا الله
ثمَّ قَالَ {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} وهم عباده المخلصون الَّذين قَالَ تَعَالَى {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان}
فأكرمهم بِشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وحسبها إِلَيْهِم
وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَأما ثَمُود فهديناهم} يَقُول بَينا لَهُم
وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} يَقُول أَمر
وَفِي قَوْله تَعَالَى {وأضله الله على علم} يَقُول أضلّهُ فِي سَابق علمه
وَفِي قَوْله تَعَالَى {ونبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فتْنَة} يَقُول نبتليكم بالشدة والرخا وَالصِّحَّة والسقم والغنى والفقر والحلال وَالْحرَام وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة وَالْهدى والضلالة
وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَمن يرد الله فتنته فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا} يَقُول من يرد الله ضلالته لم يغن عَنهُ شَيْئا
كل هَذَا الْمَذْكُور رَوَاهُ الإِمَام الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ كَمَا ذكرنَا
وروى الإِمَام الْحَاكِم أَبُو عبد الله من حَدِيث عَطاء بن السَّائِب عَن مقسم عَنهُ قَالَ أول مَا خلق الله تَعَالَى الْقَلَم خلقه من هجاء قبل اللف وَاللَّام فتصور قَلما مِمَّن نور فَقيل لَهُ أجر فِي اللَّوْح قَالَ يَا رب بِمَاذَا قَالَ لما يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَلَمَّا خلق الله الْخلق وكل لَهُم حفظَة يحفظون عَلَيْهِم أَعْمَالهم فَإِذا قَامَت الْقِيَامَة وَعرضت عَلَيْهِم أَعْمَالهم وَقيل {هَذَا كتَابنَا ينْطق عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} عرض بالكتابين فَكَانَا سَوَاء
قَالَ ابْن عَبَّاس ألستم عربا هَل يكون النُّسْخَة إِلَّا من كتاب
رَوَاهُ الْحَاكِم عَنهُ كَمَا ذكرنَا وَقَالَ صَحِيح وَعَن طَاوس قَالَ كنت عِنْد ابْن عَبَّاس ومعنا رجل من الْقَدَرِيَّة فَقلت إِن نَاسا يَقُولُونَ لَا قدر قَالَ أوفي الْقَوْم أحد مِنْهُم قلت لَو كَانَ مَا كنت تصنع بِهِ قَالَ لَو كَانَ فيهم أحد مِنْهُم لجذبت بِرَأْسِهِ ثمَّ قَرَأت عَلَيْهِ أَنه
كَذَا وَكَذَا {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ} الْآيَة
رَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث الْأَعْمَش عَن عبد الله بن ميسرَة عَن طَاوس وَقَالَ على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا بِسَنَدِهِ الصَّحِيح قَالَ طَاوس فتمنيت أَن كل قدري كَانَ عندنَا
وَمن حَدِيث عِكْرِمَة عَنهُ قَالَ كَانَ الهدهد يدل سُلَيْمَان على المَاء فَقلت وَكَيف ذَلِك قَالَ ينصب لَهُ الفخ يلقِي عَلَيْهِ التُّرَاب
فَقَالَ إِذا جَاءَ القضا ذهب الْبَصَر
قلت وَفِي نَحْو هَذَا مثل يذكر إِذا نزل الْقدر عمي الْبَصَر وَلم ينفع الحذر
وَفِي حَدِيث سعيد بن جُبَير عَنهُ إِن الْقدر إِذا جَاءَ حَال دون الْبَصَر قَالَ الْحَاكِم على شَرطهمَا
وروى البهيقي أَيْضا كل هَذِه الْمَذْكُورَات وَغَيرهَا مِمَّا يطول ذكره وَجَمِيع هَذَا الْمَذْكُور عَن ابْن عَبَّاس من رِوَايَات الْأَئِمَّة الْمَذْكُورين هُوَ من تَفْسِيره
وَأما مَا رَوَاهُ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فقد قدمت عَنهُ مَا أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي صَحِيحَيْهِمَا من قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي أَوْلَاد الْمُشْركين لما سُئِلَ عَنْهُم (الله أعلم إِذْ خلقهمْ بِمَا كَانُوا عاملين)
وَفِي صَحِيح مُسلم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس عَن ابْن كَعْب قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (الْغُلَام الَّذِي قَتله الْخضر طبع كَافِرًا وَلَو عَاشَ لأزهى أَبَوَيْهِ طغيانا وَكفرا) وَمِمَّا روى ابْن عَبَّاس
أَيْضا خطْبَة النَّبِي لضماد (من يهدي الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلله فَلَا هادي لَهُ) وَرُوِيَ أَيْضا حَدِيث (وَاعْلَم أَن الْأمة لَو اجْتَمعُوا على أَن ينفعوك بِشَيْء لم ينفعوك إِلَّا بِشَيْء قد كتبه الله لَك وَإِن اجْتَمعُوا على أَن يضروك بِشَيْء لم يضروك إِلَّا بِشَيْء قد كتب الله عَلَيْك رفعت الأقلام وجفت الصُّحُف) الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَمن رِوَايَة غير التِّرْمِذِيّ وَاعْلَم أَن مَا أخطأك لم يكن ليصيبك وَأما أَصَابَك لم يكن ليخطئك
وَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن الجوزاء عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن جِبْرِيل عليه السلام عَن الله تبارك وتعالى قَالَ يَقُول الله عز وجل (يَا ابْن آدم أَنا خلقت الْخَيْر وَالشَّر فطوبى لعبد قدرت على يَدَيْهِ الْخَيْر وويل لعبد قدرت الشَّرّ على يَدَيْهِ)
وروى الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ (كنت عِنْد ابْن عَبَّاس فَجَاءَهُ رجل فَقَالَ أَرَأَيْت من مدنِي عَن الْهدى وأوردني دَار الضلال والردى لَا ترَاهُ قد ظَلَمَنِي قَالَ إِن كَانَ الْهدى شمالك عِنْده فقد ظلمك وَإِن كَانَ الْهدى هُوَ لَهُ يؤتيه من يَشَاء فَلم يظلمك وَلَا تجالسني)
وروى الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى مَيْمُون بن مهْرَان قَالَ قَالَ لي ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما احفظ عني ثَلَاثًا إياك وَالنَّظَر فِي البحور فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى الكهانة وَإِيَّاك وَالْقدر فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الزندقة وَإِيَّاك وَشتم أحد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فكبك الله فِي النَّار على وَجهك
وَغير ذَلِك مِمَّا رُوِيَ عَنهُ حذفته إيثارا للاختصار والاكتفاء لما فِيهِ كِفَايَة لأهل الِاعْتِبَار
وَمِنْهُم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قد يقدم قَوْله فِي الحَدِيث الصَّحِيح (إِذا لقِيت أُولَئِكَ فَأخْبرهُم إِلَى أَنِّي بَرِيء مِنْهُم وَأَنَّهُمْ برءاء مني وَالَّذِي كلف بِهِ عبد الله بن عمر
لَو أَن لأَحَدهم مثل أحد ذَهَبا فأنفقه مَا قبل الله مِنْهُ حَتَّى يُؤمن بِالْقدرِ الحَدِيث
وَفِيه قَوْله صلى الله عليه وسلم (ويؤمن بِالْقدرِ خَيره وشره)
وروى الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى نَافِع أَن ابْن عمر قَالَ لَهُ رجل أَن قوما يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقدر فَقَالَ أُولَئِكَ يصيرون إِلَى أَن يَكُونُوا مجوس هَذِه الْأمة فَمن زعم أَن مَعَ الله تَعَالَى قَاضِيا أَو قَادِرًا أَو رازقا أَو قَالَ أَو مَالِكًا لنَفسِهِ ضرا ونفعا أَو حَيَاة أَو نشورا لَعنه الله وأخرس لِسَانه وأعمى بَصَره وَجعل حَيَاته وقيامه هباء وَقطع لَهُ الْأَسْبَاب وكبه على وَجهه فِي النَّار
وَمِنْهُم عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه وَقد قدمت عَنهُ حَدِيث الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا الَّذِي قَالَ فِيهِ فوالذي لَا إِلَه غَيره إِن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب الحَدِيث إِلَى آخِره
وَقَوله فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي أخرجه مُسلم (الشقي من شقي فِي بطن أمه)
وَفِي الْمُسْتَدْرك على الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله قَالَ وَالَّذِي لَا إِلَه غَيره مَا فِي الأَرْض نفس إِلَّا الْمَوْت خير لَهَا إِن كَانَ مُؤمنا فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {لَكِن الَّذين اتَّقوا رَبهم لَهُم جنَّات} وَإِن كَانَ فَاجِرًا فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {إِنَّمَا نملي لَهُم ليزدادوا إِثْمًا} رَوَاهُ الْحَاكِم وَقَالَ على شَرطهمَا
وَمِنْهُم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وروى الْحَاكِم أَبُو
عبد الله فِي الْمُسْتَدْرك على الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول (إِن الله خلق خلقه فِي ظلمَة وَألقى عَلَيْهِم من نوره فَمن أَصَابَهُ من ذَلِك النُّور يَوْمئِذٍ شَيْء اهْتَدَى وَمن اخطأه ضل فَلذَلِك أَقُول جف الْقَلَم على علم الله)
قَالَ الْحَاكِم على شَرطهمَا وَلَا عِلّة لَهُ
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن الْحَاكِم وَأخرجه أَبُو حَاتِم بن حبال بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمُوَحدَة
قَالَ الإِمَام الْبَيْهَقِيّ ألْقى عَلَيْهِ من نوره أَي فَمن علم الله إيمَانه وَأمر الْقَلَم فَجرى بِهِ وَكتب من السُّعَدَاء أَصَابَهُ من ذَلِك النُّور فاهتدى
وَمن علم الله كفره وَأمر الْقَلَم فَجرى بِهِ وَكتب من الأشقيا أخطأه ذَلِك النُّور
قَالَ الله تَعَالَى {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا} وَقَالَ تَعَالَى {الله ولي الَّذين آمنُوا يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} وَقَالَ تَعَالَى {وأضله الله على علم}
وَمِنْهُم عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما روى الإِمَام مَالك رضي الله عنه فِي الْمُوَطَّأ عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ سَمِعت عبد الله ابْن الزبير يَقُول فِي خطبَته إِن الله هُوَ الْهَادِي والفاتر
وَمِنْهُم عمرَان بن حُصَيْن رضي الله عنه روى البُخَارِيّ وَمُسلم عَنهُ قَالَ قيل يَا رَسُول الله علم أهل الْجنَّة من أهل النَّار قَالَ
نعم قيل فَفِيمَ يعْمل الْعَامِلُونَ قَالَ كل ميسر لما خلق لَهُ قلت وَقد قدمت عَنهُ نَحوا من هَذَا من حَدِيث البُخَارِيّ
وروى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى ابْن الْأسود الديلمي قَالَ قلت لعمران بن حُصَيْن إِنِّي جَلَست مَجْلِسا ذكرُوا فِيهِ الْقدر فَقَالَ عمرَان الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَو أَن الله عذب أهل السَّمَاوَات وَالْأَرْض عذبهم وَهُوَ غير ظَالِم حِين يعذبهم وَلَو رَحِمهم كَانَت رَحمته أوسع لَهُم وسنقدم الْمَدِينَة فنسأل ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب فَسَأَلَهُمَا فَقَالَا مثل ذَلِك
وَرَوَاهُ الطَّبَرِيّ بِسَنَد صَحِيح عَنهُ وَزَاد فِيهِ وَلَو أَن لرجل مثل أحد ذَهَبا يُنْفِقهُ فِي سَبِيل الله لَا يُؤمن بِالْقدرِ خَيره وشره لَا يقبل مِنْهُ
وَمِنْهُم عمار بن يَاسر رضي الله عنه روى عبد لله بن الْمُبَارك بِسَنَدِهِ عَنهُ قَالَ قَالَ مُوسَى يَا رب خلقت خلقا خلقهمْ للنار فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن ازرع زرعا فزرعه وسقاه وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى حصده وداسه قَالَ مَا فعل زرعك قَالَ رفعته قَالَ مَا بَركت مِنْهُ قَالَ مَا لَا خير فِيهِ وَقَالَ فَإِنِّي لَا أَدخل النَّار إِلَّا مَا لَا خير فِيهِ
وَمِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه روى الإِمَام أَحْمد بِسَنَدِهِ إِلَى عمار مولى بني هَاشم قَالَ سَأَلت أَبَا هُرَيْرَة عَن الْقدر فَقَالَ كَيفَ بآخر سُورَة الْقَمَر وَقد قدمت عَنهُ أَحَادِيث صَحِيحَة فِي الْقدر من ذَلِك قَوْله صلى الله عليه وسلم (كتب على ابْن آدم حَظه من الزِّنَا) حَدِيث البُخَارِيّ وَقَوله صلى الله عليه وسلم قَالَ (قدر الله وَمَا شَاءَ فعل) حَدِيث مُسلم وَغير ذَلِك
وَمِنْهُم أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رضي الله عنه روى الْحَافِظ ابْن حبَان عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ (خلق الله آدم من أَدِيم الأَرْض كلهَا
فَخرجت ذُريَّته على حسب ذَلِك فَمنهمْ الْأسود والأبيض والأحمر والأصفر وَمِنْهُم بَين ذَلِك وَمِنْهُم السهل وَمِنْهُم الْحزن والخبيث وَالطّيب
وروى نَحوه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَلَفظه (إِن الله خلق آدم من قَبْضَة قبضهَا من جَمِيع الأَرْض فجَاء بَنو آدم على قدر الأَرْض الحَدِيث)
وروى ابْن حبَان أَيْضا فِي صَحِيحه عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ (خلق الله آدم ثمَّ أَخذ الْخلق من ظَهره فَقَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاء فِي النَّار وَلَا أُبَالِي فَقَالَ قَائِل يَا رَسُول الله فعلى مَاذَا الْعَمَل قَالَ على مواقع الْقدر) وروى نَحوه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم وَقَالَ على شَرطهمَا وَلَفظه إِن الله خلق آدم ثمَّ مسح على ظَهره بِيَمِينِهِ فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ خلقت هَؤُلَاءِ للجنة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ ثمَّ مسح ظهر فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ) الحَدِيث
وَمِنْهُم سلمَان الْفَارِسِي رضي الله عنه روى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى حجاج الْأَزْدِيّ قَالَ سَأَلنَا سلمَان مَا الْإِيمَان بِالْقدرِ قَالَ أَن تعلم أَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه وَأَن مَا أخطأه لم يكن ليصيبه
وروى الطَّبَرِيّ عَنهُ أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى لما خلق آدم مسح ظَهره فَاخْرُج مِنْهُ مَا هُوَ ذاري إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَكتب الْآجَال والأعمال والأرزاق والشقاوة والسعادة
وَمِنْهُم أَبُو الدَّرْدَاء رضي الله عنه روى الْبَيْهَقِيّ عَنهُ بِسَنَد حسن أَنه قَالَ كل يعْمل فِي ثَوَاب أعد لَهُ
قلت هَكَذَا هُوَ فِي الأَصْل الْمَنْقُول مِنْهُ وَلَعَلَّه فِي ثَوَاب أَو عِقَاب أعد لَهُ وَالله أعلم
وَمِنْهُم أبي بن كَعْب وَزيد بن ثَابت وحنيفة بن النُّعْمَان وَعَمْرو ابْن الْعَاصِ وَعَائِشَة بنت أبي بكر رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ روى الْحَافِظ أَبُو حَاتِم بن حبَان بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى ابْن الديلمي قَالَ أتيت أبي بن كَعْب فَقلت لَهُ وَقع فِي نَفسِي شَيْء من الْقدر فَحَدثني بِشَيْء لَعَلَّ الله يذهبه من قلبِي قَالَ لَو أَن الله عذب أهل سماواته وَأهل أرضه عذبهم وَهُوَ غير ظَالِم لَهُم وَلَو رَحِمهم كَانَت رَحمته لَهُم خيرا من أَعْمَالهم وَلَو أنفقت مثل أحد فِي سَبِيل الله مَا قبله الله مِنْك حَتَّى تؤمن بِالْقدرِ وَتعلم أَن مَا أَصَابَك لم يكن ليخطئك وَمَا أخطأك لم يكن ليصيبك وَلَو مت على غير هَذَا لدخلت النَّار قَالَ أتيت عبد الله بن مَسْعُود فَقَالَ مثل ذَلِك ثمَّ أتيت زيد بن ثَابت فَحَدثني عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذَلِك
وروى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى زيد بن أسلم قَالَ قَالَ عمر بن الْخطاب لعَمْرو بن الْعَاصِ لقد عجبت لَك فِي ذهنك وعقلك كَيفَ لم يكن من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين فَقَالَ لَهُ عَمْرو وَمَا أعْجبك يَا عمر من رجل قلبه بيد غَيره لَا يَسْتَقِيم أَو قَالَ لَا يَسْتَطِيع أَو قَالَ لَا يَسْتَطِيع التَّخَلُّص مِنْهُ إِلَّا إِلَى مَا أَرَادَ الَّذِي بِيَدِهِ فَقَالَ عمر صدقت
وروى الْحَاكِم والطبري بِسَنَدَيْهِمَا عَن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ عجبت من الرجل يفر من الْقدر وَهُوَ بواقعه وَمن الرجل يرى الْقَنَاة فِي عين
أَخِيه ويدع الْجذع فِي عَيْنَيْهِ وَقد قدمت عَنهُ أَيْضا حديثين فِي الْقدر رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيّ
وروى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد صَحِيح إِلَى خشمة عَن عَطِيَّة قَالَ دخلت وَأَنا مَسْرُوق على عَائِشَة رضي الله عنها فَذكر وَأَقُول عبد الله يَعْنِي ابْن مَسْعُود من أحب لِقَاء الله أحب الله تَعَالَى لقاءه وَمن كره لِقَاء الله كره الله لقاءه قَالَ رحمه الله على ابْن أم عبد حَدثكُمْ أول حَدِيث لم تسألوه عَن آخِره أَن الله إِذا أَرَادَ العَبْد خيرا قيض لَهُ قبل مَوته بعام ملكا يسدده وينسره حَتَّى يَمُوت وَهُوَ خير مَا كَانَ يَقُول النَّاس مَاتَ فلَان وَهُوَ خير مَا كَانَ فَإِذا احْتضرَ وَرَأى ثَوَابه من الْجنَّة جعل يودع نَفسه وود لَو خرجت قبل ذَلِك حِين أحب لِقَاء الله وَأحب الله لقاه
وَأَن الله إِذا أَرَادَ بِعَبْد شرا قيض لَهُ شَيْطَانا قبل مَوته بعام يفتنه ويصده ويضله حَتَّى يَمُوت حِين يَمُوت وَهُوَ شَرّ مَا كَانَ وَيَقُول للنَّاس مَاتَ فلَان وَهُوَ شَرّ مَا كَانَ فَإِذا احْتضرَ وَرَأى مَا أعد لَهُ فِي النَّار جعل يتبلغ نَفسه كَرَاهَة الْخُرُوج فَعِنْدَ ذَلِك يبغض لِقَاء الله وَالله للقائه أبْغض
وروى البهيقي أَيْضا عَنْهُمَا أَنه ذكر لَهما خروجهما فَقَالَت كَانَ يقدر قلت يَعْنِي خُرُوجهَا إِلَى الْبَصْرَة حَتَّى جرى يَوْم الْجمل مَا جرى
وروى الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى هِشَام بن عُرْوَة عَن عَائِشَة أَن العَبْد ليعْمَل الزَّمَان بِعَمَل أهل الْجنَّة وَأَنه عِنْد الله مَكْتُوب من أهل النَّار الحَدِيث
وَرَوَاهُ ابْن حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه وَلَفظه عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَن الرجل ليعْمَل بِعَمَل أهل الْجنَّة وَإنَّهُ لمكتوب فِي الْكتاب أَنه من أهل النَّار فَإِذا كَانَ قبل مَوته بحول يعْمل بِعَمَل أهل النَّار فَيدْخل
النَّار وَإِن كَانَ الرجل ليعْمَل بِعَمَل أهل النَّار وَإنَّهُ مَكْتُوب فِي الْكتاب أَنه من أهل الْجنَّة فَإِذا كَانَ قبل مَوته بحول فَعلم بِعَمَل أهل الْجنَّة فَمَاتَ فَدخل الْجنَّة) اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلك حسن الخاتمة مَعَ الْعَفو والعافية فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة بِنَا ولأحبابنا وَالْمُسْلِمين آمين
قلت فَهَذَا مَا اقتصرت على ذكره عَن هَؤُلَاءِ السَّادة الْمَذْكُورين الَّذين اقتصرت من سَادَات الصَّحَابَة عَلَيْهِم وَقد قدمت أَن أَحَادِيث الْقدر رَوَاهَا فَوق ثَلَاثِينَ صحابيا
وَمن التَّابِعين زين العابدين عَليّ بن الْحُسَيْن رضوَان الله عَلَيْهِ وعَلى آبَائِهِ
روى الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ أَن رجلا من الْبَصْرَة جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي إِنِّي وَافد أهل الْبَصْرَة إِلَيْك قَالَ الْقدر قد فَنَشَأَ بهَا وارتد أَكثر النَّاس فَقَالَ لَهُ سل فَقَالَ للخير فَقَالَ اكْتُبْ علم وقضا وَقدر وساء وَأَرَادَ وَلم يرض وَلم يجب فَرجع إِلَى الْبَصْرَة فَقَرَأَ على النَّاس مَا كتب فَرجع أَكْثَرهم
وروى عَنهُ أَقْوَال أُخْرَى غَلِيظَة فِي تَكْفِير أَصْحَاب الْقدر رَوَاهَا الإِمَام الْبَيْهَقِيّ وَغَيره بأسانيدهم
قلت وَهَذَا صَرِيح من زين العابدين فِي التَّفْرِيق بَين الْإِرَادَة وَالرِّضَا وَهُوَ مُوَافق لما قَدمته من قَول بعض أَئِمَّتنَا وَمِنْهُم عمر بن عبد الْعَزِيز رضي الله عنه
روى الإِمَام الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى الإِمَام مَالك قَالَ إِن عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ حكيما يَقُول لَو أَرَادَ الله أَن يعْصى مَا خلق إِبْلِيس
قلت وَقد ذكر الإِمَام الثعالبي رِوَايَة أَن آدم عليه السلام التقى بإبليس فِي الأَرْض فلامه على صَنِيعه وَقَالَ يَا مَلْعُون أَنْت الَّذِي أخللت بِي
وغررتني وأخرجتني من الْجنَّة وَفعلت وَفعلت قَالَ فَبكى إِبْلِيس وَقَالَ يَا آدم أَنا فعلت بك مَا تَقول وأنزلتك هَذِه الْمنزلَة فَمن فعل مَا أَنا فِيهِ وأحلني هَذِه الْمنزلَة
رَجعْنَا إِلَى كَلَام عمر بن عبد الْعَزِيز وَكَانَ يَقُول إِن فِي كتاب الله لهَؤُلَاء الْقَدَرِيَّة علما بَينا علمه من علمه وجهله من جَهله قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ مَا أَنْتُم عَلَيْهِ بفاتنين إِلَّا من هُوَ صال الْجَحِيم} وروى سعيد ين مَنْصُور فِي تَفْسِيره قَالَ حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار قَالَ خرجت وافدا إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز فِي نفر من أهل الْكُوفَة وَكَانَ مَعنا صَاحب لنا يتَكَلَّم فِي الْقدر فسألنا عمر بن عبد الْعَزِيز حوائجنا ثمَّ ذكرنَا لَهُ الْقدر فَقَالَ لَو أَرَادَ الله أَن لَا يعْصى مَا خلق إِبْلِيس ثمَّ قَالَ قد بَين أَنه ذَلِك فِي كِتَابه {فَإِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ} الْآيَة
فَرجع صاحبنا ذَلِك عَن الْقدر
وَرَوَاهُ الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى عمر ابْن ذَر وَزَاد لَو أَن الله تَعَالَى كلف الْعباد على قدر عَظمته لما قَامَت لذَلِك سَمَاء الأَرْض وَلَا جبل وَلَا شَيْء من الْأَشْيَاء وَلكنه أَخذ مِنْهُم الْيَسِير وَلَو أَرَادَ وَأحب أَن لَا يعْصى لم يخلق إِبْلِيس راس الْمعْصِيَة
قَالَ بعض الْأَئِمَّة الْمُتَأَخِّرين رَحْمَة الله على عمر لقد أَتَانَا أحسن دَلِيل وأخصر وَلِهَذَا قَالَ مَالك إِنَّه كَانَ حكيما
وروى عَنهُ سعيد بن مَنْصُور بِسَنَدِهِ أَنه قَالَ يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا الله من أحسن فليحمد الله وَمن أَسَاءَ فليستغفر الله فَإِنَّهُ الله لَا بُد لأقوام أَن يعملوا أعمالا كتبهَا الله عَلَيْهِم ووضعها فِي رِكَابهمْ
وَقَالَ أَيْضا فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ وَغَيره عَنهُ مَا اعْلَم النَّاس وَحدث النَّاس من محدثة وَلَا ابتدعوا من بِدعَة هِيَ
أبين أمرا وَلَا أَبَت أمرا من الأقدار بِالْقدرِ
لقد كَانَ ذكره فِي الْجَاهِلِيَّة الجهلاء يَتَكَلَّمُونَ بِهِ فِي كَلَامهم وَفِي شعرهم يعزون بِهِ أنفسهم على مَا فاتهم
ثمَّ لم يزده الْإِسْلَام إِلَّا شدَّة وَلَقَد ذكره رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي غير حَدِيث وَلَا حديثين قد سَمعه مِنْهُ الْمُسلمُونَ فتكلموا بِهِ فِي حَيَاته وَبعد وَفَاته يَقِينا وتسليما لرَبهم عز وجل وتضعيفا لأَنْفُسِهِمْ أَن يكون شَيْء لم يحط بِهِ علمه وَلم يَخُصُّهُ كِتَابه وَلم يمض فِيهِ قدرته وَإنَّهُ لمع ذَلِك فِي مُحكم كِتَابه لمنه اقتبسوه ولمنه تعلموه وَلَئِن قُلْتُمْ أنزل الله كَذَا وَثمّ قَالَ كَذَا لقد قرءوا مِنْهُ مَا قَرَأْتُمْ وَعَلمُوا من تَأْوِيله مَا جهلتم وَقَالُوا بعد ذَلِك كُله بِكِتَاب وقدروا مَا يقدر يكن وَمَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَلَا يملك لأنفسنا نفعا وَلَا ضرا ثمَّ رَغِبُوا وَبعد ذَلِك ذَهَبُوا
روى الإِمَام الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى الإِمَام الْأَوْزَاعِيّ قَالَ كتب عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى ابْن لَهُ كتابا فَكَانَ فِيمَا كتب إِنِّي أسأَل الله تَعَالَى الَّذِي بِيَدِهِ الْقُلُوب يضع فِيهَا مَا يَشَاء من هدى وضلال
وروى الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رضي الله عنه بِسَنَدِهِ عَنهُ أَنه دعِي غيلَان لشَيْء بلغه عَن الْقدر فَقَالَ يَا غيلَان مَا هَذَا الَّذِي بَلغنِي عَنْك قَالَ يكذب عَليّ قَالَ مَا تَقول فِي الْعلم قَالَ هَذَا الْعلم قَالَ اذْهَبْ الْآن فَقل مَا شِئْت يَا غيلَان إِنَّك إِن قررت بِالْعلمِ خصمت وَإِن جحدته كفرت وَإنَّك إِن تقربه فتخصم خير لَك من أَن تجحده فتكفر ثمَّ قَالَ اقْرَأ يس قَالَ نعم فَقَرَأَ يس إِلَى قَوْله تَعَالَى {لَا يُؤمنُونَ} قَالَ كَيفَ ترى قَالَ كَأَنِّي لم أَقرَأ هَذِه الْآيَات قطّ إِنِّي أعَاهد الله أَن لَا أَتكَلّم فِي شَيْء مِمَّا كنت أَتكَلّم فِيهِ أبدا قَالَ اذْهَبْ فَلَمَّا ولي قَالَ اللَّهُمَّ إِن كَانَ كَاذِبًا فأذقه حر السِّلَاح فَلم يتَكَلَّم فِي زمن عمر فَلَمَّا كَانَ زمن يزِيد بن عبد الْملك تكلم فَلَمَّا ولي هِشَام أرسل إِلَيْهِ وَقَالَ أَلَيْسَ قد كنت عَاهَدت الله لعمر بن
عبد الْعَزِيز أَن لَا تَتَكَلَّم فِي شَيْء من هَذَا أبدا قَالَ أَقلنِي فوَاللَّه لَا أَعُود قَالَ لَا قَالَ لَا أقالني الله إِن أَقْتلك أتعرف فَاتِحَة الْكتاب قَالَ نعم قَالَ اقْرَأ فقرا {الْحَمد لله رب الْعَالمين} إِلَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} قَالَ قف على مَا استعنته على أَمر بِيَدِهِ لَا يستطيعه أَو على أَمر بِيَدِك اذْهَبُوا فَاقْطَعُوا بيدَيْهِ وَرجلَيْهِ واضربوا عُنُقه واصلبوه قَالَ الْأَئِمَّة هَذَا الحَدِيث إِسْنَاده صَحِيح
وَقد روى الْعلمَاء عَن عمر بن عبد الْعَزِيز رضي الله عنه إِثْبَات الْقدر وَالْإِيمَان بِهِ وتضليل منكريه والتغليظ على الْقَدَرِيَّة مَا يطول ذكره من ذَلِك مَا روى الإِمَام الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ عَنهُ أَن أَصْحَاب الْقدر يستتابون فَإِن تَابُوا وَإِلَّا نفوا من ديار الْمُسلمين
وَمن التَّابِعين أَيْضا الْحسن الْبَصْرِيّ رضي الله عنه روى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى حميد قَالَ قدم الْحسن مَكَّة فكلمني فُقَهَاء مَكَّة أَن ُأكَلِّمهُ فيجلس لَهُم يَوْمًا فكلمته فَقَالَ نعم فَاجْتمعُوا وَهُوَ على سَرِير فَقَالَ لَهُ رجل يَا أَبَا سعيد من خلق الشَّيْطَان قَالَ سُبْحَانَ الله {هَل من خَالق غير الله} خلق الشَّيْطَان وَخلق الْخَيْر وَخلق الشَّرّ
وروى أَيْضا بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى حَمَّاد بن زيد عَن خَالِد قَالَ قلت لِلْحسنِ يَا أَبَا سعيد آدم خلق للْأَرْض أم للسماء فَقَالَ خلق للْأَرْض فَقلت أَرَأَيْت لَو أَنه استعصم فَلم يَأْكُل من الشَّجَرَة قَالَ لم يكن لَهُ بُد من أَن يَأْكُل مِنْهَا لِأَنَّهُ خلق للْأَرْض
وروى أَيْضا بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى حميد قَالَ قَرَأت الْقُرْآن كُله
على الْحسن ففسره على الْإِثْبَات فَسَأَلته عَن قَوْله تَعَالَى {كَذَلِك سلكناه فِي قُلُوب الْمُجْرمين} قَالَ الشّرك بِاللَّه سلكه فِي قُلُوبهم
وَسَأَلته عَن قَوْله تَعَالَى {وَلَهُم أَعمال من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون} قَالَ أَعمال سيعملونها
وَسَأَلته عَن قَوْله تَعَالَى {مَا أَنْتُم عَلَيْهِ بفاتنين إِلَّا من هُوَ صال الْجَحِيم}
وروى أَيْضا بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى خَالِد عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلذَلِك خلقهمْ} قَالَ خلق هَؤُلَاءِ للجنة وَهَؤُلَاء للنار
وَبِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى الْأَشْهب عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وحيل بَينهم وَبَين مَا يشتهون} قَالَ بَينهم وَبَين الْإِيمَان
وَبِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى أَبى مَرْوَان مولى هِنْد بنت الْمُهلب قَالَ دَعَا معبد إِلَى الْقدر عَلَانيَة فَمَا كَانَ أحد أَشد عَلَيْهِ فِي التَّفْسِير وَالرِّوَايَة وَالْكَلَام من الْحُسَيْن فغبت ثمَّ قدمت فَألْقى معبدًا فَقَالَ لي أما شَعرت أَن الشَّيْخ وَافقنِي يَعْنِي الْحسن فَاصْنَعُوا بعد مَا شِئْتُم فأتينه فَقلت يَا أَبَا سعيد قَول الله تَعَالَى {تبت يدا أبي لَهب وَتب مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب سيصلى نَارا ذَات لَهب} كَانَ فِي أم الْكتاب قبل أَن يخلق الله عز وجل أَبَا لَهب فَقَالَ سُبْحَانَ الله مَا شَأْنك نعم وَالله أَن يخلق أَبَا أَبِيه فَقلت فَهَل كَانَ أَبُو لَهب يَسْتَطِيع أَن
يُؤمن حَتَّى لَا يُصَلِّي هَذِه النَّار قَالَ لَا وَالله مَا كَانَ يَسْتَطِيع فَقلت احْمَد الله هَذَا الَّذِي كنت عهدتك عَلَيْهِ أَن الَّذِي دَعَاني إِلَى مَا سَأَلتك أَن معبدًا الْجُهَنِيّ أَخْبرنِي انك قد وافقته قَالَ كذب لكع كذب لكع قلت وَهَكَذَا بَلغنِي عَن بعض المبتدعة أَنهم يدعونَ بطرِيق البهت والافتراء أَن الْحسن الْبَصْرِيّ على عقيدتهم حَتَّى ادعوا ذَلِك أَيْضا فِي الإِمَام أبي حَامِد الْغَزالِيّ بل بَلغنِي أَن بَعضهم ادّعى ذَلِك فِي الإِمَام الشَّافِعِي وَغَيره من الْعلمَاء الأجلاء وَمن كبار الْأَوْلِيَاء من أَئِمَّة أهل السّنة وصلحائهم يدلسون بذلك على الْجُهَّال ليستميلوا الْعَوام بالملاح أهل الْعلم وَالصَّلَاح من أجلاء أهل السّنة وأئمتهم بِمُجَرَّد التمويه والنهب الصَّرِيح وَالِاخْتِلَاف والافتراء الْقَبِيح الَّذِي يكذبهم بِهِ ضَرُورَة حسن السّمع وَالْبَصَر كَمَا يكذب مُنكر وجود الشَّمْس وَالْقَمَر وَمَا مثالهم فِيمَا ادعوهُ من ذَلِك إِلَّا كمثال قوم لَا يزَال بعض الْمُلُوك يدهمهم بعساكره ويقابلهم ويهزمهم طول دهره ويجلب عَلَيْهِم بخيله وَرجله ويفتك فيهم بأسره وقيله لسوء سيرتهم وقبح طريقهم حَتَّى أفناهم وَمن بِلَادهمْ نفاهم
فَلَمَّا مَاتَ ادعوا أَنه لَهُم مُوَافق وَبِحسن سيرتهم وابق ولطريقهم سالك وشاكر ومكذبين فِي ذَلِك جَمِيع العساكر الَّذِي لطريقته يتبعُون وبظعنه فِي طريقهم دَائِما يسمعُونَ وبظعانه فيهم طول الدَّهْر يَجْتَمعُونَ
فَإِن كل من ادعوا من أهل السّنة أَنه مِنْهُم ليتكثروا بِهِ ويزينوا مَذْهَبهم بِكَوْنِهِ بزعمهم دَاخِلا فِيهِ مَعَهم تكذبهم تصانيفه وَسيرَته وَقَوله وَفعله وَعلمه وَعَمله وَظَاهره وباطنه وإنكاره عَلَيْهِم وطعنه فيهم لنفيره عَنْهُم ومخالفته لَهُم ومخاصمته مَعَهم ومحاربتهم إيَّاهُم وَغير ذَلِك مِمَّا امْتَلَأَ بِهِ الْوُجُود من كَثْرَة الشُّهُود وَامْتنع فِيهِ الْجُحُود كَمَا امْتنع جحود المعاين الْمَشْهُود
وَهَكَذَا ادعوا أَن أهل الْبَيْت رضوَان الله عَلَيْهِم يَعْتَقِدُونَ معتقدهم وَقد قدمت عَن عَليّ وَذريته وَابْن عَبَّاس رضي الله عنهم من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا مَا يكذبهم
وَقد روى الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ أَن رجلا من الشِّيعَة سَأَلَ جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق رضوَان الله عَلَيْهِ عَن الْقدر فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ أَن الله تَعَالَى لَا يطاع قهرا وَأَن الله لَا يعْصى قهرا فَإِذا أَرَادَ الطَّاعَة كَانَت وَإِذا أَرَادَ الْمعْصِيَة كَانَت فَإِن عذب فَبِحَق وَإِن عفى فبالفضل أَو قَالَ فيفضل
رَجعْنَا إِلَى حَدِيث الْحسن الْبَصْرِيّ الَّذِي ادعوا أَنه مِنْهُم روى أَئِمَّتنَا عَنهُ بِسَنَد صَحِيح أَنه قَالَ من كذب بِالْقدرِ فقد كذب بِالْقُرْآنِ
وروى الْحَاكِم بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن يحيى قَالَ سَمِعت الْحسن وَأَتَاهُ رجل فَقَالَ يزْعم أَن من قتل مَظْلُوما فقد قتل فِي غير أَجله فَقَالَ من أكل بَقِيَّة رزقه بل قتل فِي أَجله
قلت جَمِيع هَذَا الْكَلَام من قَوْله يزْعم إِلَى قَوْله كَلَام الْحسن وَهُوَ ظَاهر وَإِنَّمَا نبهت عَلَيْهِ لِئَلَّا يتَوَهَّم من لَيْسَ لَهُ معرفَة بِمذهب أهل السّنة وَأهل الْبِدْعَة غير ذَلِك وَتَقْدِير الْكَلَام أَتَاهُ رجل فَقَالَ لَهُ الْحسن يزْعم وَإِنَّمَا أعَاد قَوْله فَقَالَ تَأْكِيدًا وإلزاما كَأَنَّهُ قَالَ فَإِن كَانَ كَمَا يَقُول فَمن أكل بَقِيَّة رزقه
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رضي الله عنه حَدثنَا إِسْمَاعِيل عَن مَنْصُور ابْن عبد الرَّحْمَن قَالَ قلت لِلْحسنِ قَوْله عز وجل {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها} قَالَ سُبْحَانَ الله وَمن يشك فِي هَذَا كل مُصِيبَة بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فِي كتاب الله قبل أَن يبرأ النَّسمَة
وروى الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ عَنهُ أَنه قَالَ من كذب بِالْقدرِ فقد كذب بِالْإِسْلَامِ
وَمِنْهُم سعيد بن الْمسيب رضي الله عنه روى الْبَيْهَقِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب قَالَ كنت عِنْد سعيد بن الْمسيب رضي الله عنه إِذا جَاءَهُ رجل فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّد إِن نَاسا يَقُولُونَ قدر الله كل شَيْء مَا خلا الْأَعْمَال فَغَضب سعيد غَضبا لم أره غضب مثله قطّ حَتَّى هم بِالْقيامِ ثمَّ قَالَ فَعَلُوهَا فَعَلُوهَا ويحهم ويحهم لَو يعلمُونَ أما إِنِّي سَمِعت فيهم حَدِيثا كفاهم بِهِ شرا فَقلت وَمَا ذَاك يَا أَبَا مُحَمَّد يَرْحَمك الله فَقَالَ حَدثنِي رَافع بن خديج عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ (سَيكون فِي أمتِي أَقوام يكفرون بِاللَّه وَبِالْقُرْآنِ وهم لَا يَشْعُرُونَ فَقلت يَا رَسُول الله كَيفَ يَقُولُونَ قَالَ يقرونَ بِبَعْض الْقدر ويكفرون بِبَعْض يَقُولُونَ الْخَيْر من الله وَالشَّر من الشَّيْطَان) الحَدِيث
وَمِنْهُم سَالم بن عبد الله رضي الله عنه روى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى سفين عَن عمر بن مُحَمَّد قَالَ جَاءَ رجل إِلَى سَالم بن عبد الله فَقَالَ أَرَأَيْت رجلا زنى قَالَ يسْتَغْفر الله قَالَ كتبه الله عَلَيْهِ قَالَ نعم قَالَ فيعذبه وَقد كتبه عَلَيْهِ فَأخذ كفا من حصا فَحَصَبه
وَمِنْهُم عَطاء بن أبي رَبَاح رضي الله عنه روى الْحَاكِم بِسَنَدِهِ إِلَى عبد الْوَاحِد بن سليم قَالَ سَأَلت عَطاء فَقلت إِن نَاسا من أهل الْبَصْرَة يَقُولُونَ فِي الْقدر قَالَ تقْرَأ الْقُرْآن قلت نعم قَالَ اقْرَأ الزخرف فَقَرَأت {حم وَالْكتاب الْمُبين} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَإنَّهُ فِي أم الْكتاب لدينا لعَلي حَكِيم} قَالَ أَتَدْرِي مَا أم
الْكتاب قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ هُوَ الْكتاب الَّذِي كتبه قبل أَن يخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِيهِ أَن فِرْعَوْن من أهل النَّار و {تبت يدا أبي لَهب}
وَمِنْهُم طَاوس رضي الله عنه روى الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَى عَمْرو بن دِينَار قَالَ قَالَ طَاوس احْذَرُوا الْجُهَنِيّ فَإِنَّهُ قدري
وَمِنْهُم مُجَاهِد رضي الله عنه روى سعيد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {لَا تجعلنا فتْنَة للْقَوْم الظَّالِمين} قَالَ لَا تسلطهم علينا فيفتنونا فيفتنوا بِنَا
وَبِسَنَد الْبَيْهَقِيّ الصَّحِيح إِلَى ابْن أبي نجيح أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه} قَالَ يحول بَين الْكَافِر وَقَلبه حَتَّى يتْركهُ لَا يعقل
وَبِسَنَدِهِ إِلَى مَنْصُور عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {مَا أَنْتُم عَلَيْهِ بفاتنين إِلَّا من هُوَ صال الْجَحِيم} قَالَ فِي علم الله
وَبِسَنَد سعيد عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} قَالَ علم من إِبْلِيس الْمعْصِيَة وخلقه لَهَا
وروى الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى الْحَاكِم عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وكل إِنْسَان ألزمناه طَائِره فِي عُنُقه} قَالَ مَكْتُوب فِي ورقة فِي عُنُقه شقي أَو سعيد
وَمِنْهُم ابْن سِيرِين رضي الله عنه روى الإِمَام أَحْمد بِسَنَدِهِ عَنهُ قَالَ إِن لم يكن أهل الْقدر من الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَات الله فَلَا أَدْرِي من هم
وَمِنْهُم سعيد بن جُبَير رضي الله عنه روى سعيد بن مَنْصُور بِسَنَدِهِ عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وهديناه النجدين} نجد الْخَيْر ونجد الشَّرّ
وَبِسَنَد الطَّبَرِيّ إِلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {لَوْلَا كتاب من الله سبق} قَالَ مَا سبق لأهل بدر من السَّعَادَة وَفِي قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب} قَالَ مَا سبق لَهُم من الشقاوة
وَمِنْهُم أياس بن مُعَاوِيَة بن قُرَّة رضي الله عنه روى الإِمَام أَحْمد ابْن حَنْبَل رضي الله عنه بِسَنَدِهِ عَنهُ أَنه قَالَ مَا كلمت أحدا من أهل الْأَهْوَاء بعقلي كُله إِلَّا الْقَدَرِيَّة قلت لَهُم مَا الظُّلم فِيكُم قَالُوا أَن يَأْخُذ الْإِنْسَان مَا لَيْسَ لَهُ فَقلت لَهُم إِن لله كل شَيْء
قلت وَقد قدمت عَن الإِمَام مَالك أَنه بلغه عَنهُ أَنه قيل لَهُ مَا
رَأْيك فِي الْقدر فَقَالَ لَا يعلم سره إِلَّا الله قَالَ مَالك وَكَانَ يضْرب بِهِ الْمثل فِي الْفَهم
وَمِنْهُم الشّعبِيّ روى الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى الرّبيع بن خَيْثَم عَن زيد بن أسلم قَالَ وَالله مَا قَالَت الْقَدَرِيَّة كَمَا قَالَ الله عز وجل وَلَا كَمَا قَالَت الْمَلَائِكَة وَلَا كَمَا قَالَت الْأَنْبِيَاء وَلَا كَمَا قَالَ أهل الْجنَّة وَلَا كَمَا قَالَ أهل النَّار وَلَا كَمَا قَالَ أخوهم إِبْلِيس
قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَقَالَت الْمَلَائِكَة عليهم السلام {لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا} وَقَالَ شُعَيْب صلى الله عليه وسلم {وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا} وَقَالَ أهل الْجنَّة {الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله} قَالَ أهل النَّار {رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا} وَقَالَ أخوهم إِبْلِيس {رب بِمَا أغويتني}
قلت وَهَذَا مَا اقتصرت عَلَيْهِ أَيْضا من كَلَام هَؤُلَاءِ الْعلمَاء الْمَذْكُورين الَّذِي اقتصرت عَلَيْهِم من أجلاء التَّابِعين رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ
وَمن الْفُقَهَاء الأجلاء الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين قدوة الْأمة المتبعين السّنة أحسن الْمُتَابَعَة المتبوعين أهل الْمذَاهب الْأَرْبَعَة مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو حنيفَة رضي الله عنهم وأرضاهم وَجعل فِي علا الْجنان مأواهم
وَهَا أَنا أذكر شَيْئا من كَلَامهم وَكَلَام أَصْحَابهم فِي الْقدر بتقدم من تقدم مِنْهُم فِي الزَّمَان وَتَأْخِير من تَأَخّر
فالإمام أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه رضي الله عنهم فروى الإِمَام الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى أبي عصمَة نوح بن أبي مَرْيَم قَالَ سَأَلت أَبَا حنيفَة من أهل الْجَمَاعَة قَالَ من فضل أَبَا بكر وَعمر وَأحب عليا وَعُثْمَان وآمن بِالْقدرِ خَيره وشره من الله وَمسح على الْخُفَّيْنِ وَلم يكفر مُؤمنا بذنب وَلم يتَكَلَّم فِي الله بِشَيْء
وروى الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى مُحَمَّد بن الْحسن صَاحب أبي حنيفَة قَالَ حَدثنَا أَبُو حنيفَة وَذكر سَنَده إِلَى مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ يكون النُّطْفَة فِي الرَّحِم أَرْبَعِينَ يَوْمًا الحَدِيث فَيَقُول رب ذكر أَو أُنْثَى شقي أَو سعيد وَمَا رزقه قَالَ مُحَمَّد وَبِهَذَا نَأْخُذ وَبِه كَانَ يَأْخُذ أَبُو حنيفَة الشقي من شقي فِي بطن أمه والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ
وَبِسَنَدِهِ إِلَى أبي يُوسُف صَاحب أبي حنيفَة قَالَ لَا تصل خلف جهمي وَلَا رَافِضِي وَلَا قدري
وَأما الإِمَام مَالك وَأَصْحَابه رضي الله عنه فروى الْبَيْهَقِيّ عَنهُ أَنه قَالَ الْقَدَرِيَّة شَرّ النَّاس وأرذلهم وَقَرَأَ {يضلوا عِبَادك} الْآيَة
قلت يَعْنِي قَول نوح عليه السلام {إِنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك} وَقَالَ أَبُو بكر الْأَبْهَرِيّ فِي شرح ابْن عبد الحكم عَن مَالك أَنه قَالَ فِي الْقَدَرِيَّة يستتابون فَإِن تَابُوا وَإِلَّا قتلوا قَالَ فَقلت لَهُ من الْقَدَرِيَّة عِنْد مَالك فَقَالَ روى ابْن وهب عَن مَالك أَنه قَالَ هم الَّذِي يَقُولُونَ إِن الله لَا يعلم الشَّيْء قبل كَونه
وروى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ أَنه سُئِلَ مَالك عَن تَزْوِيج الْقَدَرِيَّة فَقَالَ {ولعَبْد مُؤمن خير من مُشْرك} وَبِسَنَدِهِ إِلَى يُونُس بن عبد
الْأَعْلَى قَالَ سَمِعت أَشهب يَقُول قَالَ مَالك الْقَدَرِيَّة لَا تناكحوهم وَلَا تصلوا خَلفهم وَلَا تحملوا عَنْهُم الحَدِيث
وَإِن رأيتموهم فِي ثغر فأخرجوهم مِنْهُ
وَقَالَ مَالك مَا أضلّ من كذب بِالْقدرِ لَو لم يكن عَلَيْهِم إِلَّا قَوْله تَعَالَى {خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن} لكفى بهَا حجَّة
وروى الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى أَشهب قَالَ سَأَلت مَالِكًا عَن قَوْله تَعَالَى {وَلَا يزالون مُخْتَلفين إِلَّا من رحم رَبك وَلذَلِك خلقهمْ} قَالَ ليَكُون {فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير}
وروى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى الإِمَام الْحَافِظ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي النَّيْسَابُورِي قَالَ السّنة عندنَا أَن الْإِيمَان قَول وَعمل يزِيد وَينْقص
وَهُوَ قَول أَئِمَّتنَا مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وسُفْيَان بن عُيَيْنَة
وَأَن الْقدر خَيره وشره من الله عز وجل قد جف الْقَلَم بِمَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم يقوم السَّاعَة
علم الله من الْعباد مَا هم عاملون وَإِلَى مَا هم صائرون وَأمرهمْ ونهاهم فَمن لزم أَمر الله عز وجل وآثر طَاعَته فبتوفيق الله وَمن ترك أَمر الله وَركب مَعَاصيه فبخذلان الله إِيَّاه
وَمن زعم أَن الِاسْتِطَاعَة قبل الْعَمَل بالجوارح إِلَيْهِ إِن شَاءَ عمل وَإِن شَاءَ لم يعْمل كذب بِالْقدرِ ورد كتاب الله عز وجل وَزعم أَنه مستطيع لما لم يردهُ الله وَنحن نبرأ إِلَى الله من هَذَا القَوْل
وَلَكِن نقُول الِاسْتِطَاعَة فِي العَبْد مَعَ الْفِعْل فَإِذا عمل عملا بالجوارح من بر أَو فجور علمنَا
أَنه كَانَ مستطيعا للْفِعْل الَّذِي فعل
فَأَما قبل أَن يَفْعَله فَإنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّه يُرِيد أمرا فيحال بَينه وَبَينه وَالله تَعَالَى مُرِيد لتكوين أَعمال الْخلق
وَمن ادّعى خلاف مَا ذكرنَا فقد وصف الله تَعَالَى بِالْعَجزِ وَهلك فِي الداهرين
وَأما الإِمَام الشَّافِعِي وَأَصْحَابه رضي الله عنهم فقد روى الرّبيع ابْن سُلَيْمَان عَن أَصْحَابه عَنهُ أَنه قَالَ لِأَن يلقى الله العَبْد فَكل ذَنْب من خلا الشّرك بِاللَّه خير مَا أَن يلقاه بِشَيْء من هَذِه الْأَهْوَاء وَذَلِكَ أَنه رأى قوما يتجادلون فِي الْقدر بَين يَدَيْهِ قَالَ الشَّافِعِي أخبر الله تَعَالَى فِي كِتَابه أَن الْمَشِيئَة لَهُ دون خلقه والمشيئة إِرَادَة الله قَالَ تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} فَأعْلم خلقه أَن الْمَشِيئَة لَهُ قَالَ وَكَانَ الشَّافِعِي يثبت الْقدر
قلت وَقد قدمت مَا رَوَاهُ الإمامان الْمُزنِيّ وَالربيع من أَصْحَابه مِمَّا أنْشد قَوْله
(مَا شِئْت كَانَ وَإِن لم أشأ
…
وَمَا شِئْت إِن لم تشأ لم يكن) إِلَى آخر الأبيات الْخَمْسَة
وَقَالَ الرّبيع عَن الشَّافِعِي لَو حلف رجل فَقَالَ وَالله لَا أفعل كَذَا إِلَّا أَن يَشَاء الله أَو إِلَّا أَن يقدر الله وَأَرَادَ بِهِ الْقدر فَلَا شَيْء أَو قَالَ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
قلت يَعْنِي لَا يَحْنَث وَقد قدمت تَقْرِير الْمَسْأَلَة عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ
وَقَالَ عَاصِم سَمِعت الْمُزنِيّ يَقُول سَأَلت الشَّافِعِي عَن قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم سِتَّة لعنهم الله المكذب بِقدر الله فَقلت من الْقَدَرِيَّة فَقَالَ هم الَّذين يَزْعمُونَ أَن الله لَا يعلم الْمعاصِي حَتَّى تكون قَالَ الْمُزنِيّ
هَذَا عِنْدِي كفر وَقَالَ عَاصِم قَالَ الْمُزنِيّ الله الْخَالِق وأفعال الْعباد مخلوقة لَا يقدر أحد إِن شَاءَ شَيْئا إِلَّا أَن يَشَاء الله قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} قَالَ وَسمعت الْمُزنِيّ يَقُول إِذا قَالَ وَالله لَا أضْرب الْيَوْم أحدا فَضرب نَفسه لَا يَحْنَث لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ غَيره من النَّاس وَهَذَا يدْخل فِي اللُّغَة على الْقَدَرِيَّة
وَقَول الله تَعَالَى {خَالق كل شَيْء} فَإِن الله تَعَالَى خَالق الْأَشْيَاء كلهَا وَمِنْهَا أَعمال الْعباد وَلم يعن نَفسه إِنَّمَا أَرَادَ سواهُ
قلت وَقد قدمت هَذِه الْقَاعِدَة أَيْضا أَعنِي كَون الْمُتَكَلّم لَا يدْخل فِي حكم الْخطاب
وَأما الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه رضي الله عنهم فَقَالَ حَنْبَل سَمِعت أَبَا عبد الله يَقُول علم الله فِي الْعباد قبل أَن يخلقهم سَابق وَقدرته ومشيئته فِي الْعباد أَو قَالَ نَافِذَة فِي الْعباد وَخلق آدم وَعلم مِنْهُ الْمعْصِيَة قبل أَن يخلقه وَكَذَا علمه سَابق مُحِيط بأفاعيل الْعباد وكل مَا هم عاملون
قلت وَمِمَّا نقل عَن الإِمَام أَحْمد وَحَكَاهُ بعض أهل الْعلم عَنهُ أَنه قَالَ إِذا سَأَلَ إِنْسَان عَن أَفعَال الْعباد أَهِي من الله عز وجل دون الْعباد أم من الْعباد دون الله عز وجل أم من الله عز وجل وَمن الْعباد فَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَنَّهَا على غير ذَلِك لِأَن أَفعَال الْعباد لَو كَانَت من الله عز وجل دون الْعباد لَكَانَ الْعباد لَا ثَوَاب لَهُم وَلَا عِقَاب عَلَيْهِم وَلَو كَانَت من الْعباد دون الله عز وجل لَكَانَ الْعباد يعْملُونَ عملا بِغَيْر علم الله ومشيئته وإرادته وَلَو كَانَت من الله عز وجل وَمن الْعباد على معنى وَاحِد تشابهت الْعُبُودِيَّة بالربوبية وَلَا يجوز
أَن يُقَال بِوَاحِد من هَذِه الْأَقَاوِيل بل يُقَال أَفعَال الْعباد هِيَ من الله تَعَالَى تَقْديرا وخلقا وَمن الْعباد عملا واكتسابا
ومعانيها من قبل الله عز وجل سَبْعَة وَالَّتِي من قبل الْعباد سَبْعَة فالتي من قبل الله عز وجل 1 علم سَابق لَا يُخطئ بل يَقع الْأَمر على وفْق مَا علم سُبْحَانَهُ 2 - ومشيئة نَافِذَة 3 - وَقدر مَكْتُوب 4 - وتسليط من الشَّيْطَان 5 - وتطبيع الشَّهْوَة 6 - وتركيب الْهوى 7 - وإحداث الطَّاقَة
قلت يَعْنِي بالطاقة قدرَة العَبْد على الْعَمَل
قَالَ وَالَّتِي من قبل الْعباد النّظر والفكر واهتياج الشَّهْوَة وَاتِّبَاع الْهوى والغفلة عَن العواقب ورجاء الْمَغْفِرَة بِلَا نَدم انْتهى كَلَامه فِي الْأَسْبَاب
ثمَّ قَالَ وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب على الِاكْتِسَاب وَالْعَمَل لَا على التَّقْدِير وَالله أعلم
قلت وَهَذِه الْمَذْكُورَات من قبل الْعباد سِتّ لَا غير وَالسَّابِعَة سَاقِطَة من الأَصْل ولعلها الِاكْتِسَاب وَالله أعلم بِالصَّوَابِ
وَمن الْفُقَهَاء أولي المقامات الرفيعة شيخ الإِمَام مَالك ربيعَة رضي الله عنه روى الإِمَام الطَّبَرِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى الإِمَام ذِي الْفضل وَالْمجد اللَّيْث بن سعد قَالَ قَالَ غيلَان لِرَبِيعَة يَا أَبَا عُثْمَان أيرضى الله أَن يعْصى فَقَالَ لَهُ ربيعَة أفتعصى الله قهرا
وَمن جملَة الْفُقَهَاء الْأَئِمَّة الأجلاء سُفْيَان بن سعيد الثَّوْريّ وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعبد الله بن الْمُبَارك وَالْأَوْزَاعِيّ رضي الله عنهم
فَأَما الإِمَام سُفْيَان الثَّوْريّ رضي الله عنه فروى الإِمَام الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ عَنهُ أَنه قَالَ لَهُ إِنْسَان إِن لنا إِمَامًا قدريا فَقَالَ لَا تقدموه قَالَ لَيْسَ لنا إِمَام غَيره قَالَ لَا تقدموه
وَبِسَنَدِهِ عَنهُ أَيْضا قَالَ سَمِعت أَعْرَابِيًا بِعَرَفَة يَقُول اللَّهُمَّ من أولى بالزلل وَالتَّقْصِير مني وَقد خلقتني ضَعِيفا وَمن أولى بِالْعَفو عني مِنْك وعلمك فِي سَابق وأمرك فِي نَافِذ أطعتك بإذنك والْمنَّة لَك عَليّ وعصيتك بعلمك وَالْحجّة لَك فأسألك بِوُجُوب رحمتك أَو قَالَ بِثُبُوت حجتك وَانْقِطَاع حجتي وبفقري إِلَيْك وغناك عني أَن تغْفر لي اللَّهُمَّ لم أحسن حَتَّى أَعْطَيْتنِي وَلم أسئ حَتَّى قضيت عَليّ اللَّهُمَّ إِنَّا أطعناك بنعمتك فِي أحب الْأَشْيَاء إِلَيْك شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَلم نعصك فِي أبْغض الْأَشْيَاء إِلَيْك الشّرك فَاغْفِر مَا بَينهمَا اللَّهُمَّ إِنَّك آنس المؤنسين لأوليائك وأقربهم بالكفاية للمتوكلين عَلَيْك فشاهدهم فِي ضمائرهم وتطلع على سرائرهم وسري اللَّهُمَّ لَك مَكْشُوف وَأَنا بك ملهوف وَإِذا وحشتني الْكُرْبَة آنسني ذكرك وَإِذا عَمت عَليّ الهموم لجأت إِلَيْك استجارة بك علما بِأَن أزمة الْأُمُور بِيَدِك وَأَن مصدرها عَن قضائك
وَأما الإِمَام سُفْيَان بن عُيَيْنَة رضي الله عنه فروى الإِمَام الْبَيْهَقِيّ عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن الْقَدَرِيَّة قَالَ قَالَت الْقَدَرِيَّة مَا لم يقل عز وجل وَلَا الْمَلَائِكَة وَلَا النَّبِيُّونَ وَلَا أهل الْجنَّة وَلَا أهل النَّار وَلَا مَا قَالَ أخوهم إِبْلِيس
قَالَ الله عز وجل {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين} ثمَّ ذكر من قَول البَاقِينَ مثل مَا قَدمته عَن زيد بن أسلم إِلَّا أَنه قَالَ وَقَالَ النَّبِيُّونَ {وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا} وَلم يقل وَقَالَ شُعَيْب كَمَا قَالَ زيد بن أسلم