الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَا أنكرهُ بعض النَّاس على حجَّة الْإِسْلَام أبي حَامِد الْغَزالِيّ وَالرَّدّ عَلَيْهِم
قلت وَأما مَا أنكرهُ بعض النَّاس على الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام رضي الله عنه وَنسبه إِلَيْهِ من الْكفْر وزعمه أَنه حصر الْقُدْرَة فِي قَوْله رضي الله عنه لَيْسَ فِي الْإِمْكَان أبدع من هَذَا الْوُجُود فقد أجبْت عَنهُ لما أرسل إِلَيّ بعض الْفُقَهَاء الطاعنين فِيهِ يسْأَل عَن الْجَواب فِي ذَلِك فِي معرض التَّعْرِيض بالإنكار عَلَيْهِ والإشعار بالْكفْر الَّذِي نسبه إِلَيْهِ فَذكرت فِي الْجَواب مَا يَقْتَضِي الْإِنْكَار على الْمُنكر عَلَيْهِ
وَقلت التَّكْفِير على الْمُكَفّر لَهُ بِمَا نسبه إِلَيْهِ وَهَا أَنا أُشير إِلَى مَا ذكرته بتقرير قدرته وَذَلِكَ أَن كَمَال الصَّنْعَة يدل على كَمَال الصَّانِع وَالنَّقْص على النَّقْص فَيلْزم على قَول الْمُنكر أَن يكون صَنْعَة هَذَا الْوُجُود نَاقِصَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَنْعَة أكمل مِنْهَا وَذَلِكَ يسْتَلْزم نِسْبَة النَّقْص إِلَى الصَّانِع وَنسبَة النَّقْص إِلَى الصَّانِع تَعَالَى هِيَ عين الْكفْر
وَأَقُول أَيْضا الصَّنْعَة صادرة عَن صِفَات الصَّانِع وَلَا أكمل من صِفَاته تَعَالَى فَلَا أكمل من صَنعته إِذْ صِفَاته تَعَالَى فِي نِهَايَة الْكَمَال والجلال فصنعته فِي غَايَة الْكَمَال وَالْجمال
وَأَقُول أَيْضا هَذَا الْوُجُود الدنيوي مِنْهُ والأخروي والعلوي والسفلي وَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من أَنْوَاع الحكم الْبَالِغَة الباهرة والمحاسن الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة أبدع كل بديع وَوُجُود أبدع من الأبدع محَال فوجود أبدع من هَذَا الْوُجُود محَال
فَإِن قَالَ يلْزم من هَذَا حصر الْقُدْرَة من كَابر فِي النزاع قلت لَا تعلق للقدرة بالمحال بِالْإِجْمَاع فَإِن لم ينْزع عَن النزاع وأصر على المكابرة زاعما أَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى حصر الْقُدْرَة قلت لَهُ مَا تَقول هَل يُمكن فِي قدرَة الله تَعَالَى خلق أكمل من أكمل كل مَخْلُوق فَإِن قَالَ لَا فقد قَالَ يعجز الْقَادِر على كل شَيْء جلّ وَعلا وَإِن قَالَ نعم قلت فَهَل يُمكن أَن يخلق أكمل من أكمل مَخْلُوق فِي جَمِيع الأكوان والآفاق فَإِن قَالَ نعم فقد جعل أكمل من الْأَكْمَل وَهُوَ بَاطِل بالِاتِّفَاقِ وَإِن قَالَ لَا فقد حصر الْقُدْرَة على قِيَاسه وَكفر فِي ذَلِك نَفسه بِنَفسِهِ وَظهر بطلَان مَا ألزمهُ من التَّكْفِير بِزَعْمِهِ لحجة الْإِسْلَام وانقلب عَلَيْهِ مَا وَجهه إِلَيْهِ فِي ذَلِك الْإِلْزَام
وَهَذَا مَا اقتصرت عَلَيْهِ من الْجَواب عَن قَول الإِمَام أبي حَامِد علم الْأَعْلَام وَالله سبحانه وتعالى الْخَبِير العلام وكل من لَهُ بَصِيرَة يعلم أَن فِي هَذَا الْعَالم الَّذِي هُوَ عَالم الْملك وعالم الْحِكْمَة وعالم الْخلق وعالم الشَّهَادَة من الحكم الَّتِي هِيَ من المحاسن الْبَاطِنَة الفائقة على المحاسن الظَّاهِرَة مَا لَا تهتدي الْعُقُول إِلَّا إِلَى الْيَسِير مِنْهُ مِمَّا اشْتَمَلت عَلَيْهِ هَذِه الدَّار من خير وَشر ونفع وضر وصفو وكدر ومليح وقبيح وَسَقِيم وصحيح وكريم وشحيح وعالم وجاهل وَمَجْنُون وعاقل وناقص وكامل وفقير وغني وَضَعِيف وَقَوي وشريف ودني وجماد
حَيَوَان وإنس وجان وَملك وَشَيْطَان وطيور وسباع وبهائم وَسَائِر الْأَجْنَاس والأنواع مِمَّا لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِي حصره اتساع مِمَّا اشْتَمَل عَلَيْهِ الْحَيَوَان والنبات وَالْأَرْض وَالسَّمَاوَات وانقسام ذَلِك إِلَى ذُكُور وإناث وَغير ذَلِك من الصِّفَات وَمِمَّا اشْتَمَلت عَلَيْهِ العقاقير من الْأَدْوِيَة النافعة والحشرات من السمُوم الناقعة وَمَا فِي الْجَوَاهِر من الْخَواص الَّتِي هِيَ للمضرات قامعة وانقسام الْخلق إِلَى صَامت وناطق ومخالف وموافق ومسهل وعائق وأعمى وبصير وطويل وقصير ومظلم ومنير وأصم وسامع وجامد ومائع وعاص وطائع ولين وخشن وعطر ومنتن وبليد وفطن وحزن وسرور وتيقظ وغرور وظل وحرور وَاخْتِلَاف اللُّغَات والألوان واختصاص حسن الْإِنْسَان بالفصاحة وَالْبَيَان والنبوة وَالْقُرْآن وَإِلَى خلق حُلْو وحامض وواضح وغامض وقابل ورافض ومالح وعذب ويابس وَرطب وخصب وجدب وبارد وحار ومتحرك وقار وفخر وعار وعافية وبلاء وَرخّص وَغَلَاء وداء ودواء وانقسام الْخلق أَيْضا إِلَى أخيار وأشرار وأبرار وفجار ومؤمنين وكفار ومصيرهم إِلَى موت وحساب وثواب وعقاب ونعيم وَعَذَاب وَالْجنَّة دَار الْفضل وَالنَّار دَار الْعدْل على مُقْتَضى الْقَضَاء السَّابِق الَّذِي هُوَ الأَصْل بحكمة الْحَكِيم الْعَلِيم الْجواد الْكَرِيم شَدِيد الْعقَاب الغفور الرَّحِيم وَغير ذَلِك مَا لَا يُحْصى مِمَّا اشْتَمَل على بَدَائِع الحكم المودعة فِي سَائِر أَجزَاء الْعَالم الْمُشْتَملَة على المحاسن الْبَاطِنَة الْمُشَاهدَة بِعَين البصيرة لَا عين الْبَصَر الَّتِي هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا حقيرة وَمن ذَلِك محَاسِن الْإِنْسَان الْبَاطِنَة أحسن وَأكْثر
قلت وَلَعَلَّ الْمُنكر الْمَذْكُور يتَوَهَّم أَن حسن هَذَا الْعَالم أَن يكون كُله مستحسنا بِعَين الْبَصَر بِأَن يكون جَمِيعه ألوانا حَسَنَة مُخْتَلفَة ونعيما دَائِما وَقُلُوبًا مؤتلفة دائمة الصفاء وَالسُّرُور خلية عَن كدر الأحزان والشرور كَامِلَة الرَّاحَة والزين سَالِمَة من التعتب والشين خلية عَن الصُّور القبيحة بِعَين الْبَصَر وحقارة الحشرات منزهة عَن الهموم
والسموم وَسَائِر المضرات جَامِعَة لجَمِيع الحظوظ الْمَطْلُوبَة الَّتِي يمِيل إِلَيْهَا الراغبون وَغير ذَلِك من صِفَات الْجنَّة الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى فِي مدحها وخطاب أَهلهَا فِي كِتَابه الْمكنون {وفيهَا مَا تشتهيه الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين وَأَنْتُم فِيهَا خَالدُونَ} وَلم يهتد إِلَى معرفَة المحاسن الْبَاطِنَة من لطافة الْمعَانِي وغرابة الحكم الْبَالِغَة
وَمن ذَلِك بِعَيْنِه أَن شين الدُّنْيَا سَبَب لزين الْآخِرَة وبغض الدُّنْيَا وتعبها وكدرها زِيَادَة فِي كَمَال الْجنَّة وَنَعِيمهَا وسرورها بل نَار الْآخِرَة وعذابها وَهُوَ أَنَّهَا زِيَادَة فِي نعيم الْجنَّة وعزها وَمَعْرِفَة قدرهَا وشرفها وعَلى الْجُمْلَة لَوْلَا الْبلَاء مَا عرف قدر الْعَافِيَة وَلَوْلَا الْعَذَاب مَا عرف قدر النَّعيم وَلَوْلَا النَّار مَا عرف قدر الْجنَّة
قلت وَلما وضعت هَذَا الْكَلَام خطر لي إنْشَاء نظم أَبْيَات لم يسْبق إِلَيْهَا النظام فَمَا استتم هَذَا الْكَلَام حَتَّى جال بفكري أَبْيَات فِي هَذَا الْمَعْنى الْمَذْكُور سبقني إِلَيْهَا الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه الْفَقِيه الإِمَام أَبُو سُلَيْمَان دَاوُد الشاذلي الْمَشْهُور فأكتفيت بهَا لكَونهَا وافية بِهَذَا الْمَعْنى الَّذِي أَنا لَهُ قَاصد حَيْثُ قَالَ رضي الله عنه فِي بعض القصائد
(أيا نفس للمعنى الْأَجَل تطلبي
…
وكفي عَن الدَّار الَّتِي قد تقضت)
(فكم أبعدت إلفا وَكم كدرت صفا
…
وَكم جددت من ترحة بعد فرحة)
(كَذَا وضعت كَيْمَا تعدِي إِلَى الْعلَا
…
فتكدريها من سر لطف وَحِكْمَة)
(فَلَو جعلت صفوا شغلت بحبها
…
وَلم يَك فرق بَين دنيا وجنة)
(لعمرك مَا الدُّنْيَا بدار أخي حجى
…
فيلهو بهَا عَن دَار فوز وَعزة)
(عَن الموطن الأسنا عَن الْقرب اللقا
…
عَن الْعَيْش كل الْعَيْش عِنْد الْأَحِبَّة)
(فوَاللَّه لَوْلَا ظلمَة الذَّنب لم يطْلب
…
لَك الْعَيْش يَوْمًا دون مي وَعزة)
قلت وَقد بَعدنَا فِي الْخُرُوج عَن الْمَقْصُود وَهَا نَحن إِلَى مَا كُنَّا بصدده من الِاسْتِدْلَال نعود