الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المبحث الثالث بناء المساجد]
[المسألة الأولى حكم بناء المسجد وفضله]
المبحث الثالث
بناء المساجد لما تحدثت في المبحثين الأول والثاني عن موقع المسجد، بدأت بالحديث هنا عن عمارة المسجد بالبناء بعد تحديد موقعه، وذلك لنتعرف على أحكام هذا البناء وطريقته، وما أعد الله سبحانه وتعالى لمن بنى المساجد مخلصا لله تعالى من ثواب عظيم. وتفصيل هذا الحديث في المسائل التالية: -
المسألة الأولى: حكم بناء المسجد وفضله: تقدم قول عائشة رضي الله عنها: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد بالدور، وأن تنظف وتطيب» (1) . وهذا الحديث ونحوه في ظاهره يدل على وجوب بناء المساجد، والذين يقولون بوجوب الجماعة في المسجد يوجبون بناء المساجد لهذا الدليل، ولأن المسجد وسيلة لتحقق الجماعة، ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين بنى مسجده، وفعل أصحابه رضي الله عنهم، والمؤمنون - بحمد الله تعالى - متفقون على أن بناء المساجد من الأمور الضرورية للمسلمين (2) .
ولقد رتب الله سبحانه وتعالى فضلا عظيما لمن بنى المسجد أو شارك فيه، فقال سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18](3) .
(1) سبق تخريجه.
(2)
انظر: المجموع للنووي (2 / 183) ، ونيل الأوطار للشوكاني (2 / 257) .
(3)
سورة التوبة: الآية 18.
الشاهد: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 18]
وجه الدلالة:
أن قوله (يعمر) : دال على العمارة بالبناء، كما دل على العمارة بالعبادة؛ لأن باني المسجد يتقرب إلى الله تعالى ببنائه، فهو يعمر المسجد طاعة لله سبحانه وتعالى (1) .
ويستفاد من قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114](2) .
فيستفاد من مفهوم هذه الآية الكريمة: أن من يعمر المساجد ويسعى في إصلاحها مأجور عند الله، قد عمل عملا صالحا، يحمد عليه في الدنيا والآخرة (3) .
قد ثبتت أحاديث في فضل بناء المساجد، منها: -
1 -
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة» . وفي رواية: «بنى الله له في الجنة مثله» . متفق عليه (4) .
(1) انظر: تفسير ابن كثير (4 / 61ـ 63) ، وحاشية الجمل على الجلالين (2 / 271) .
(2)
سورة البقرة: الآية 114.
(3)
انظر: روضة الناظر لابن قدامة (2 / 264) تحقيق: الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن السعيد.
(4)
البخاري (1 / 453) ، ومسلم رقم 533، وأخرجه الترمذي رقم 318، وابن خزيمة في صحيحه (2 / 269)، وانظر: شرح السنة للبغوي (2 / 347) ، وجامع الأصول لابن الأثير (11 / 186) .
2 -
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجدا صغيرا كان أو كبيرا بنى الله له بيتا في الجنة» . رواه الترمذي، وهو حديث حسن (1) .
3 -
عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجدا ولو مفحص» (2)«قطاة بنى الله له بيتا في الجنة» . وفي رواية: «ولو كمفحص قطاة» . رواه ابن أبي شيبة، وروي عن ابن عباس وعائشة مثله (3) .
وهذه الأحاديث متقاربة في لفظها، متحدة في دلالتها، إذ تدل على أن الجزاء أوفى من العمل عند الله تعالى، فباني المسجد في الدنيا يبني الله له به بيتا في الجنة، لا يخرب، ولا يفنى.
وقد وردت أحاديث، في أسانيدها للعلماء مقال، لكنها في جملتها تتحد مع دلالة هذه الأحاديث في بيان الفضل العظيم من الله تعالى، لمن بنى المسجد خالصا لله تعالى بنية التقرب إليه عز وجل (4) .
وأما قوله «ولو كمفحص قطاة» فقيل: إنه للمبالغة، وقيل: إنه على الحقيقة؛ وذلك أن الله سبحانه يجزي من ساهم ببناء المسجد، ولو كان مقدار سهمه قليلا كمفحص قطاة، فإن الله لا يضيع أجره (5) .
قلت: وهذا الصواب - إن شاء الله -، وما كان هذا الفضل من الله
(1) الترمذي رقم 319، تحفة الأحوذي (2 / 266)، وانظر: الفتاوى لابن تيمية (29 / 19) .
(2)
مفحص القطاة: هو الموضع الذي تفحص التراب عنه: أي تكشفه وتنحيه لتبيض فيه. / انظر: مختار الصحاح ص492، وأساس البلاغة ص701.
(3)
المصنف لابن أبي شيبة (1 / 310) ، ورواه أحمد والبزار والطبراني وابن حبان. قاله في كشف الخفاء (2 / 238) وإسناده حسن.
(4)
انظر: السنن والمبتدعات لمحمد خضر (ص39) .
(5)
انظر: نيل الأوطار للشوكاني (2 / 256) .
إلا لعظمة هذه المساجد وأهمية وجودها في الأرض للمسلمين، وقد ذكر القرطبي رحمه الله أن ابن عباس ومجاهدا والحسن قالوا:" إن هذه المساجد تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض "(1) .
ولقد كان السلف الصالح - رضوان الله عليهم - إذا فتحوا بلادا بنوا فيها المساجد، وتركوا فيها من يعلم الناس الخير، ويؤدي رسالة هذه المساجد، باعتبارها مركزا إسلاميا لتفقيه المسلمين في شؤون دنياهم وأخرتهم.
ولا ينبغي أن يتولى عمارة المسجد بالبناء من العمال ونحوهم إلا المسلمون ما داموا موجودين وقادرين بإذن الله على ذلك، وهم أحق وأشرف وأولى من غيرهم. وهكذا تخطيط عمارة المسجد يجب أن يكون بأيد مسلمة مؤمنة، ولا يعتمد على أحد من الكفار في شيء من هذا.
وقد أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية قرارا برقم 28 في 21 / 10 / 400 اهـ، نشر في مجلة البحوث الإسلامية بعدد 21 في عام 408اهـ، وجاء فيه ما نصه: " ولما اطلع المجلس على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع واستمع إلى كلام أهل العلم فيه رأى بالإجماع أنه لا ينبغي أن يتولى الكفار تعمير المساجد حيث يوجد من يقوم بذلك من المسلمين، وألا يستقدموا لهذا الغرض أو غيره تنفيذا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لا يجتمع في الجزيرة دينان، وعملا بما يحفظ لهذه البلاد دينها وأمنها واستقرارها، وإبعادا لها عن الخطر الذي أصاب البلدان المجاورة بسبب إقامة الكفار فيها وتوليهم لكثير من أمورها، ولأن الكفار لا يؤمنون من الغش عند تصميم مخططات المساجد أو
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6 / 12 / 265) .