الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعالى -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18](1) وأن له أن يهدمه؟ إذ لا يحل منعه من ملكه، وهدم المسجد لا يجوز، فلا يكون مسجدا (2) .
المناقشة: لا أعلم دليلا قطعيا من الشرع، ولا ظنيا يمنع من بناء المسجد وتحته أو فوقه بناء، وما أورده العلماء الكرام - رحمهم الله تعالى - إنما هي تعليلات لا دليل عليها، وأما انفكاكه عن الاختصاص فهو راجع للعرف، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. وفي زمننا هذا إقامة المساجد بالعمائر الضخمة أمر تدعو إليه الحاجة، وهكذا في المصانع والدوائر الحكومية التي في العمائر الكبيرة، وأما إن أمكن الاستقلال ببناء المسجد فهو أولى وأفضل، وإن لم يمكن فيجوز بناء المسجد وفوقه أو تحته بناء.
وأقترح: تكليف أصحاب العمائر الضخمة بتخصيص جزء في أسفل العمارة يكون مسجدا يصلي فيه المسلمون، حتى يستفيد منه كل من حول العمارة من أصحاب الحوانيت أو المشاة أو نحوهم، ويكون في جهة بارزة ليعرفه الناس.
[المسألة الرابعة بناء المسجد في الطريق]
المسألة الرابعة: بناء المسجد في الطريق: لما تحدثت عن بناء المسجد في الدور، وفي البنايات ذات الأدوار
(1) سورة الجن: الآية 18.
(2)
المحلى لابن حزم (4 / 248 ـ 249) .
المتعددة الكثيرة، ناسب أن أتحدث عن بناء المسجد في الطريق.
والطرق في عصرنا هذا من جهة الخطورة الناتجة عن السير فيها نوعان: -
النوع الأول: طرق سريعة خاصة بالسيارات، لا يسمح للمشاة تجاوزها، لشدة سرعة السيارات فيها، فهذه - وإن كانت فسيحة - إلا أن بناء المساجد فيها وفي الجزر التي في وسطها، لا ينبغي لما فيه من الخطورة العظيمة الناتجة عن تجاوز المصلين إلى المسجد، ولما فيه من الإزعاج بسبب أصوات السيارات؛ وربما أوقف بعض الناس سياراتهم للصلاة في الطريق، فيحصل بسبب وقوفهم خطر، لكن لو بني المسجد في فسحة على أحد جانبي الطريق وعمل نفق يوصل من الجانب الثاني إليه بأمان وطمأنينة، فهذا أمر طيب ومرغوب فيه.
النوع الثاني: طرق للسيارات أو للمشاة داخلية، يحصل الخطر فيها بسبب من يتلاعب بقيادة السيارات أو الدراجات، ويحصل أذى للمسلمين، بسبب استغلال الطريق، وهو ضيق. فبناء المسجد فيه لا يجوز؟ لأنه حق مشاع للاستطراق، فلا يوضع فيه ما يعرقله.
ودليل هذا: عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس بالطرقات. قالوا: يا رسول الله: ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه ". قالوا: وما حقه؟ قال: " غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» . رواه مسلم (1) .
(1) صحيح مسلم (4 / 1704) رقم 2121، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم (4 / 832) .
الشاهد: قوله: «إياكم والجلوس في الطرقات - إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه - غض البصر وكف الأذى» . . . إلخ ".
وجه الدلالة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس بالطرقات، وأمر من كان لا بد جالسا أن يكف أذاه، وبناء المسجد في الطريق الضيق أذى؛ لأن أهل الطريق يتضررون، فلا يحل أذاهم بنص الحديث؛ ولأن الطريق حق مشاع لجميع المسلمين، فلا يحل أذاهم باقتطاع جزء منه وهم كارهون.
وأما إذا لم يكن ثمة أذى، بأن كان أهل الطريق لا يتضررون من بناء المسجد فيه، بل ربما استفادوا منه، فحينئذ بناء المسجد في الطريق جائز. ودليل هذا: -
قال البخاري - رحمه الله تعالى -: " باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس ". ثم ساق بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين» . رواه البخاري (1) .
(1) البخاري ك الصلاة ب86 المسجد يكون في الطريق رقم 476، وانظر: فتح الباري (1 / 563) .
الشاهد: «ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار بكرة وعشية - فابتنى مسجدا بفناء داره» .
وجه الدلالة:
حيث أن أبا بكر بنى مسجدا في جانب الطريق، لا يضر بأحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اطلع عليه وأقره؛ فدل ذلك على جوازه؛ إذ لا ضرر على الناس منه. وقيل: لا يجوز بناء مسجد في الطريق، وقيل: إن بناه لنفسه فلا يجوز، وإن بناه للناس جاز (1) . قلت: إن بناه لنفسه لصلاة النوافل أو للناس ولا ضرر على أحد منه جاز؛ لأنه لا يبنيه للتملك، وإنما يبنيه للصلاة، والصلاة في الطريق جائزة.
والدليل على هذا: عن إبراهيم بن يزيد التيمي (2) قال: «كنت أقرأ القرآن على أبي في السدة (3) فإذا قرأت السجدة سجد، فقلت له: يا أبت: أتسجد في الطريق؟ قال: إني سمعت أبا ذر يقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض، قال:" المسجد الحرام ". قلت: ثم أي؟ قال: " المسجد الأقصى، ثم الأرض
(1) انظر: المجموع شرح المهذب تكملة المطيعي رحمه الله (17 / 384) ، وكشاف القناع للبهوتي (2 / 368) .
(2)
هو إبراهيم بن يزيد التيمي: تيم الرباب أبو أسماء، حدث عن أبيه يزيد بن شريك، وعن أنس بن مالك، وعمرو بن ميمون، وجماعة، وأرسل عن عائشة. وحدث عنه الأعمش، وبيّان بن بشر، وغيرهما، وكان شابًا صالحًا قانتًا لله، فقيهًا كبير القدر واعظًا، يقال: قتله الحجاج، وقيل: بل مات في حبسه سنة 92 ولم يبلغ أربعين سنة.
انظر: سير أعلام النبلاء (5 / 60) ، وطبقات ابن سعد (6 / 285) ، وتهذيب التهذيب (1 / 176) .
(3)
السدة بالضم: باب الدار، وقيل: أمام باب الدار. والسدة في كلام العرب: الفناء، وقيل: كالصفة تكون بين يدي البيت، والظلة تكون بباب الدار، وسدة المسجد الأعظم ما حوله من الرواق. / انظر: لسان العرب (3 / 1970) ، ومختار الصحاح (ص291) ، ومعجم مقاييس اللغة (3 / 66) .