الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التي تناثرت أشلاؤها، فى هذا القالب، فإذا الصورة قائمة على ما كانت عليه
…
- وفي قوله تعالى: «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» - إشارة إلى أن قوله تعالى: «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» هو من قبيل التمثيل، بضرب هذا المثل الله، منتزعة صورته من أفعال الخلق، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. فهو سبحانه:«العزيز» الذي تعنو لعزته وسلطانه كل عزة، وكل سلطان، ويستجيب لقدرته كل موجود في هذا الوجود..
«الحكيم» الذي تقوم عزته، ويعمل سلطانه، ويمضى حكمه- بالحكمة والعدل، والإحسان.
الآيات: (28- 32)[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 32]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
التفسير:
قوله تعالى:
هذا مثل آخر، ضربه الله سبحانه، من واقع الناس، وعلى مستوى وجودهم فيه، ليروا من خلال هذا المثل ما ينبغى لله من كمال.
ففى الآية السابقة على هذه الآية، وهى قوله تعالى:«وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» مثل مضروب من واقع الناس في حياتهم، وهو أن تشكيل الأشياء على صورة معروفة للناس، أهون عليهم من ابتداع هذه الصورة، واختراعها.. وكذلك- مع بعد ما بين قدرة الله وقدرة الناس- يكون بعث الموتى من قبورهم، وإعادتهم إلى الصورة التي كانوا عليها، ليس أمرا مستبعدا، حتى ينكره المنكرون، ويمارى فيه الممارون، إذ كان ذلك البعث إعادة للشىء إلى ما كان عليه، وإعادة الشيء- كما هو معروف عندهم ومسلّم به لديهم- أهون وأيسر من خلقه ابتداء..
وفي هذه الآية مثل للذين يجعلون لله أندادا، ويتخذونهم أربابا، يحبونهم كحب الله، بل ويؤثرونهم بالحب والولاء
…
!
وفي هذا المثل يطلب إلى المشركين أن ينظروا إلى أنفسهم، وإلى الوضع الذي بينهم وبين عبيدهم، وما ملكت أيمانهم.. أيرضى هؤلاء السادة أن يسلّموا لعبيدهم- وهم بشر مثلهم- أن يشاركوهم فيما أتاهم لله من مال ومتاع؟
وأن يقفوا منهم موقف الند والشريك؟ وأن يحاسبوهم فيما يجرون عليه من
تصرفات في هذا المال وذلك المتاع؟ أيقبل السيد أن يكون لعبده يد على ما ملكت يده فلا يتصرف في شىء حتى يأخذ رضاه وموافقته؟ ذلك مالا يرضاه ولا يقبله سيد! وإلا فأين السيادة؟ وأين سلطانها المبسوط على ما بين يديها؟.
هذا، والأمر يجرى بين مخلوقين لله، من سادة وعبيد، وفي مال الله، وفيما رزق، وأنعم من نعم!.
فكيف إذا خرج هؤلاء المشركون عن دائرة أنفسهم، ينقلب هذا المنطق، حتى تنعكس هذه الصورة، وحتى يجعلوا خلقا من خلق الله، وعبيدا من عبيده، شركاء له، فيما ملك ملك خالص له، لم يفده من أحد، ولم يتلقه من مخلوق؟ كيف يقبل هذا الضلال عقل، ويطمئن إليه عاقل؟ ..
فهل مع هذا البيان الواضح المبين، ومع هذه الحجة الدامغة القاطعة، يقبل المشركون أن يكون مع الله شريك، يرجون رحمته، أو يخافون عذابه؟
قد يكون! وهو كائن فعلا، فما أكثر المشركين الذين عميت بصائرهم، وزاغت قلوبهم، فلم يروا، فى هذا البيان المبين، ولا في تلك الحجة القاطعة، ما يقيم لهم طريقا إلى الله..
وماذا تجدى الآيات، وماذا تغنى الحجج، إذا لم تجد الآذان المصغية، ولا العقول المدركة المستبصرة؟ «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
فالعقلاء وحدهم، هم الذين ينتفعون بآيات الله، ويهتدون بهديها، يتلقون العبرة والعظة منها
…
قوله تعالى:
هو إضراب على ما يتلقاه المشركون من آيات الله المفصلة.. إنهم لا ينتفعون بها، ولا يجنون من ثمرها المبارك الطيب شيئا، بل يظلون على ما هم عليه من ضلال وشرك.. إنهم منقادون لأهواء غالبة عليهم، متسلطة على عقولهم.. ومن كان هذا شأنه، فلن ينقاد إلا بمقود هواه، ولا يستجيب إلا لنداء شيطانه..
وفي قوله تعالى: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» .. إشارة إلى أن هذا الهوى المتسلط على المشركين، هو هوى أعمى عمى مطبقا، لا تنفذ إليه شعاعة من ضوء النهار الساطع
…
فقد يكون الإنسان متبعا هواه، ثم إذا نبّه تنبّه، وإذا أرشد رشد
…
شأن كثير من المشركين، الذين عاشوا في شرك الجاهلية، مستسلمين لأهوائهم، فلما أدركهم الإسلام، وطلعت عليهم شمسه، صحوا من نومهم، واستقبلوا نور الله، فأبصروا من عمى، واهتدوا من ضلال
…
وقوله تعالى: «فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ» .. إشارة إلى هؤلاء المشركين الذين جمدوا على شركهم، وأقاموا على ضلالهم، وأنهم لن يتزحزحوا عما هم عليه من ضلال، ولن يخرجوا عما هم فيه من شرك، لأن الله سبحانه وتعالى قد أركسهم في هذا الضلال، وأغرقهم في هذا الشرك، وخلّى بينهم وبين أهوائهم:«مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» .. إنهم لن يقبلوا هدى، ولن يطبّ لدائهم طبيب.. وهكذا يعيشون في ضلالهم، ويموتون به
…
فإذا جاء وعد الله، ووقفوا موقف الحساب والمساءلة، لم يكن لهم من جزاء إلا النار:«وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» يدفعون عنهم بأس الله.
قوله تعالى:
هو أمر للنبىّ الكريم، أن يمضى على طريقه، وأن يدع هؤلاء المشركين وما أركسوا فيه..
وإقامة الوجه للدّين هو، اتجاه القاصد إليه، بكل كيانه، من غير التفات إلى شىء غيره.. والخطاب، وإن كان خاصا للنبىّ، فإنه عام، يدخل فيه كل مؤمن.
- وقوله تعالى: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» هو جملة تفسيرية، للدين الحنيف.. ففطرة الله، منصوب بفعل محذوف تقديره، أعنى، أو أريد، أو نحو هذا.. فالدين الحنيف، وهو الإسلام، هو فطرة الله التي فطر الله الناس عليها، وخلقهم على استعداد فطرى لقبول هذا الدين، كما يقول الرسول الكريم:«ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه» .
وهذا التأويل- والله أعلم- هو أولى من نصب «فطرة الله» على الإغراء، بتقدير لزم فطرة الله، أو نحو هذا.. لأن ذلك يقطع الصلة بين الدين الحنيف وفطرة الله، ويجعل كلا منهما كيانا مستقلا، على حين يجعلهما التأويل الذي تأولناه، شيئا واحدا.. وهو الأولى! وفطرة الله، هى ما أودع الله سبحانه وتعالى في الإنسان من قوى عاقلة، وطبيعة سليمة، فى أصل الخلقة، تقبل الطيب، وتنفر من الخبيث.. وهذا هو ملاك أمر الدين، دين الله، الذي ارتضاه لعباده..
وهذه الفطرة، تعرض لها عوارض كثيرة تشوّه معالمها، أو تفسد طبيعتها، شأنها في هذا شأن حواس الإنسان، من سمع، وبصر، وذوق، ولمس، وشم
…
وكما أن لما يعرض للحواس من آفات، دواء تداوى به، كذلك جعل الله سبحانه للفطرة ما تتداوى به، إذا هى أصيبت بآفة من
الآفات، وذلك بما يحمله رسل الله من آيات الله، وما في هذه الآيات من هدى ونور..
- وقوله تعالى: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» .. هو خبر، مراد به الأمر..
والتقدير، لا تبدّلوا خلق الله، وهو الفطرة، ولا تفسدوا هذا الخلق السوىّ، بما تدخلون عليه من أهواء، بل عليكم بحراسة هذه النعمة، وعرضها على هدى الله، إذا طاف بها طائف من الضلال.
- وقوله تعالى: «ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» .. الإشارة هنا إلى الدين، فى قوله تعالى:«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» .. والدين القيم، هو الدين المستقيم على فطرة الله التي فطر الناس عليها..
- وقوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. الناس هنا هم المشركون، الذين عموا عن أن يروا هذه الحقيقة، وأن يقع لعلهم أن هذا الدين هو الدين المطلوب للفطرة، المتجاوب معها.
قوله تعالى:
المنيب: الراجع إلى الله، المتجه إليه، المقيم وجهه لدينه، مجافيا كلّ دين غيره..
و «منيبين» .. كلام مستأنف، هو إجابة عن سؤال مقدّر، دلّ عليه ما سبق، وهو قوله تعالى:«لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» .. وذلك أنه لما كان قوله تعالى: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» خبرا يراد به الأمر، أي لا تبدّلوا خلق الله- وقع في نفس الذين سمعوا هذا الأمر، وأرادوا الاستجابة له، سؤال، هو: كيف نتصرف حتى لا نبدّل خلق الله؟ فكان الجواب: أنيبوا
إلى ربكم، واتقوه، وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين» ..
فقوله تعالى: «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ..» هو في تقدير أنيبوا إلى الله، ولذا عطف عليه فعل الأمر:«وَاتَّقُوهُ» ..
هذا، وإذا كانت قواعد النحو لا تتسع لهذا التحريج، فإن أسلوب القرآن لا تحكمه قوالب النحو، على ما انتهى إليه اجتهاد المجتهدين في ضبط قواعده..!
وإذا كان لا بد من احترام هذه القواعد، فإن في مجال التخريج متسعا، لقبول كل شارد ووارد.. وبهذا فإن لنا أن نقول: إن «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» منصوب بفعل محذوف تقديره: كونوا «منيبين إليه» أو نحو هذا..
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
معطوف على «منيبين» الذي هو في قوة فعل الأمر، أو على فعل أمر مقدر..
والإنابة إلى الله، هى الرجوع إليه، وذلك بتصحيح الفطرة، ومعالجة كل ما عرض لها من آفات، ولهذا جاء بعد ذلك، الأمر بتقوى الله، وإقامة الصلاة حيث يلتقى هذا الأمر مع فطرة سليمة، أناب أصحابها إلى الله، ورجعوا إليه، بعد أن بعدت بهم الطريق عنه.
وقدّم الأمر بالتقوى على إقامة الصلاة، لان التقوى، وهى خوف الله وخشيته، هى التي تجعل للصلاة ثمرتها.. فالصلاة، وأية عبادة من العبادات، أو قربة من القربات، لا محصّل لها إلا إذا كانت عن إيمان بالله، ومعرفة به، وولاء وخشوع لجلاله وعظمته، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» وقوله سبحانه: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» .