الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للدين القيم، فقد مهد لنفسه مهادا طيبا، وأعد الدار التي ينزلها في الآخرة..
أما من أعرض وكفر؟ فعليه وزر إعراضه وكفره.
قوله تعالى:
التعليل هنا، هو لقوله تعالى:«وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» ..
أي أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قد توسّلوا بهذه الوسيلة إلى مرضاة الله، ليجزيهم الجزاء الحسن، من فضله وإحسانه.
وجاء التعبير بالظاهر «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا» بدلا من المضمر «ليجزيهم» - للتنويه بهم، بذكر الصفات الطيبة التي اتصفوا بها، والتي كانت سببا فى رضا الله عنهم، وإسباغ فضله وإحسانه عليهم..
وفي قوله تعالى: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» إبعاد للكافرين من مواقع إحسان الله وفضله، لأنه لا يحبّهم، ولا يقرّبهم منه، على حين أحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأنزلهم منازل القرب والرضوان.
الآيات: (46- 53)[سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 53]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
التفسير:
قوله تعالى:
عادت الآيات بعد هذا العرض الموجز ليوم القيامة، وما يلقى المؤمنون هناك من فضل الله وإحسانه، وما يجد الكافرون من حرمان وطرد من موقع الرحمة- عادت الآيات لتذكّر النّاس- مؤمنين وكافرين- بما لله سبحانه من نعم لا تحصى، يعيشون فيها، ولا يكادون يلتفتون إليها، إذ كانت نعما عامة شاملة، تسع الناس جميعا: كالماء، والهواء، والنور، وغيرها.. فهذه النعم، إذ كانت حظا مشاعا في الناس، لا يتكلفون لها ثمنا، بل تأتيهم عفوا صفوا بلا حساب- إذ كانت كذلك- فإنهم قلّ أن يلتفتوا إليها، وأن يعدوها نعمة من نعم الله عليهم.. إن الإنسان إنما ينظر إلى نفسه خاصة، ويلتفت إلى
الأشياء التي تعنيه وحده، وتقع ليده دون غيره، ويكاد يستأثر بها، أو تلك التي يتمايز فيها الناس، وتختلف حظوظهم منها، والتي هى مجال تنافس بينهم.
- وفي قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» ، إشارة إلى هذه النعمة العظيمة، العامة الشاملة، وهى الرياح التي يرسلها الله مبشرات، تسوق بين يديها السحاب، الذي يحمل الحياة للناس، والدواب، والأنعام، والأرض، بما ينزل منه من ماء.. فهو الرحمة التي ينزلها الله على عباده، ويذيقهم منها طعوم فضله وإحسانه.
وفي عطف «لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» على مبشرات، إشارة إلى أن البشرى التي تحملها الرياح إلى الناس، فيها سعادة، ورضا، وتهيؤ لاستقبال هذا الخير الوافد..
وقوله تعالى: «وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ» آية أخرى من آيات الله، فى هذه الرياح المرسلة من عنده.. إنها تدفع السفن على ظهر البحار والأنهار، وتسيرها حيث يريد الناس، وذلك بأمر الله وقدرته، ولو شاء لأمسك الريح، فظلت السفن رواكد على ظهر الماء، لا تتحرك إلى أي اتجاه، كما يقول سبحانه:
«إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» (33: الشورى) .
وقوله تعالى: «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» آية من آيات الله في هذه الرياح المرسلة، التي تدفع السفن إلى حيث يتجه بها الناس.. فتحركها على ظهر الماء، هو في ذاته آية تدل على قدرة القادر العظيم.. وما يحصله الذين يركبون هذه السفن من منافع، هو آية أخرى من آيات الله، فيما يجرى بين الناس من تبادل المنافع.
وقوله تعالى: «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .. هو آية أخرى من آيات الله
فى هذه الرياح المرسلة من عنده، التي تحدث هذه الآثار العظيمة في حياة الناس..
وهذه الآية هى تحريك ألسنة العباد بحمد الله والثناء عليه، وإقامة مشاعرهم على الولاء له، وإفراده بالعبودية.. ولكن أكثر الناس لا يقيمون وجوههم إلى الله، ولا يذكرون له هذه النعم.. وهذا هو السرّ في تصدير الشكر بحرف الرجاء «لعلّ» .. الذي يفيد الدعوة إلى هذا الأمر المحبوب، المطلوب، ولكن قليل هم أولئك الذين يقع لهم، أو منهم.. هذا الأمر..
وانظر في وجه الآية الكريمة مرة أخرى، وتأمل هذه «الواوات» التي تقوم على كل مقطع من مقاطعها، وكأنها رسل من رسل الله، يحمل كلّ رسول منها الآية المرسل بها في هذا العرض العظيم لآيات الله، وكأنه يقول لمن يمرّ به: قف، وخذ حظك من النظر فيما أحمل إليك من آيات ربك!.
ألا خسىء وخسر من لا يسجد لجلال الله، ويعنو لعظمته، وينقاد لدعوته!! قوله تعالى:
َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» .
هو تعقيب على الآية السابقة، التي حملت بين يديها آيات كثيرة، من دلائل القدرة الإلهية وكمالها، فلم تتفتح لها قلوب كثير من المشركين، كما لم تتفتح لدعوة الحق قلوب كثير من أهل الضلال في الأمم الماضية، الذين كذّبوا رسلهم، واستخفّوا بما حملوا إليهم من آيات الله.
وفي هذا التعقيب عزاه للنبىّ الكريم، ومواساة له، فيما يلقى من قومه من جحود وصدود.. إنه ليس وحده هو الذي كذّب من بين رسل الله
جميعا.. بل إن رسل الله جميعا قد كذّبوا من أقوامهم، وأوذوا من سفهائهم.
- وفي قوله تعالى: َانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا»
تهديد للمشركين، وعرض لهم على المصير الذي هم صائرون إليه.. فكما انتقم الله من الضالّين في الأمم السابقة، سينتقم كذلك من هؤلاء المجرمين..
- وفي قوله تعالى: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
وعد كريم من الله سبحانه للنبىّ، بنصره ونصر المؤمنين معه.. فعلى حين يخزى الله الكافرين، ويكبت الضالين المجرمين- فإنه ينصر المؤمنين، ويعزّهم، ويجعل العاقبة لهم.. فقد أوجب سبحانه على نفسه- فضلا وكرما- أن ينصر المؤمنين، ويجعل لهم الغلب على أعدائهم، كما يقول سبحانه:«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21: المجادلة) قوله تعالى:
وتعود الآيات لاستكمال هذا الغرض الذي تكشف فيه عن آيات الله، ودلائل قدرته، بعد هذه اللفتة الرحمانية من الله سبحانه إلى النبي الكريم في قوله تعالى: َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ..»
والآية هنا، تعرض هذه الظاهرة التي تتشكل من حركة الرياح، وما تثير من أمواج، وبخار، وسحاب، وما ينزل من السحاب من ماء، وما يدخل منه على الناس من بشر وغبطة، بعد يأس ووجوم!.
ويلاحظ أنه في آية سابقة، قد جاء ذكر الرياح، وما تسوق من بشريات،
وذلك في قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .
وقد يبدو لمن لا يحس نقد الكلام، ولا تذوق البلاغة، أن هذا من التكرار، الذي يعاب على أرباب البيان، ويعدّ قصورا في البلاغة، وفقرا فى المعاني التي يملكها الأديب..
ولكن أهكذا- حقا- يكون حساب التكرار إذا ورد في القرآن الكريم؟.
لندع المشاعر الدينية، حتى يمكن أن نجيب على هذا السؤال، إجابة قائمة على ميزان النقد البلاغى، وعلى اعتبار أن هذا كلام، لا يقوم وراءه سلطان العقيدة، ولا تزكّيه مشاعر الإيمان..
ونعرض أولا الآيتين في سياق واحد.. هكذا.
وننظر في الآيتين الكريمتين، فنجد:
أولا: أنه يمكن أن تتصل تلاوتهما معا، دون أن يحس القارئ أو السامع أن هناك تكرارا في الصورة، وأن الآيتين يحققان معا صورة واحدة، لهذه الظاهرة الرائعة من ظواهر الطبيعة.. ومع هذا، فقد فصل النظم القرآنى بين الآيتين بآية أخرى، ليس فيها لون من ألوان تلك الصورة التي رسمتها الآيتان..
وثانيا: فى الآية الأولى من الآيتين. نرى «الرياح» آية من آيات الله، مندرجة مع تلك الآيات تولدت عنها، فكانت آيات قائمة بذاتها..
فما أن تظهر آية الرياح، حتى تختفى، وتأخذ آية أخرى مكانها.. وإذا الذي كل ما للرياح في هذه الآية هو قوله تعالى:«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ» .
وثالثا: فى الآية الثانية نرى «الرياح» التي لمحناها في الآية السابقة لمحا، وأنها مجرد شىء منطلق- نراها هنا- وقد اهتزت وربت، فكانت منها الآيات الرائعة، المعجبة.. انظر:
الرياح.. تثير سحابا، فيبسطه الله في السماء كيف يشاء، ويجعله كسفا، أي قطعا متراكمة، وسرعان ما يتفتق هذا السحاب عن ودق، أي مطر، يدق الأرض، ويترك عليها آثاره، وإذا الذين يستقبلون هذا المطر، قد لبسوا ثوب البشر، ونزعوا ما كانوا قد لبسوا من قبل، من همّ وكرب! «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ، وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ.. فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» .
إن الرياح هنا، هى التي أثارت السحاب، وهى التي قبل أن تثيره قد أثارت وجه البحار وحركت أمواجها، وحملت ما على وجهها من أبخرة إلى السماء، فإذا هى ضباب، وسحاب.. ثم ضربت هذه السحاب بعضه ببعض، فانقدح منه هذا الشرر الذي ولد الرعد، والبرق، والمطر! هذه هى آية الرياح، التي أشارت إليها الآية الأولى، قد كشفت عن وجهها في الآية الثانية، فكانت هذا العطاء الجزيل من آيات الله، ودلائل قدرته..
وعلى هذا يمكن أن يرجع البصر كرة أخرى، إلى تلك الآيات في قوله تعالى:«وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» .. ففى كلّ آية آيات، لو وجدت النظر الذي ينظر إليها، ويكشف عن بعض معطياتها..
ففى قوله تعالى: «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» تتمثل تلك الصورة التي يفعلها المطر حين ينزل الأرض، فيسفر به وجهها، ويهزّ له كيانها، وإذا هى وقد كانت جرداء، ميتة موحشة، قد لبست أثوابا قشيبة مختلفة الألوان والأصباغ، وإذا هى حياة دافقة، وشباب نضير.. وهكذا في جريان الفلك، وفي الابتغاء من فضل الله.. فيهما مجال فسيح للنظر، ومراد واسع للفكر، ومسبح رائع للخاطر..
وفي قوله تعالى: «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ» - إشارة إلى ما يكون عليه الناس، حين تنقطع عنهم موارد الماء، ويغبّر وجه الأرض، ويتهددهم القحط والموات.. ففى هذه الحال يغشى الناس همّ ثقيل، وينزل بهم كرب كارب، فإذا هم وقد أبلسوا، وجمدوا في أماكنهم، فلا حسّ، ولا حركة.. قد أسلموا أنفسهم ليأس قاتل.. فإذا طلعت عليهم رحمة الله، بعثوا بعثا جديدا، وسرت في أوصالهم ريح العافية، فانتشوا نشوة صاحية، ذاقوا منها حلاوة النعمة، وعرفوا قدرها..
قوله تعالى:
الأمر هنا، دعوة إلى كل ذى نظر أن ينظر إلى آثار هذه الرحمة المنزلة من الله، مع هذا الماء المنزل من السماء..
وليست الدعوة إلى النظر لمجرد النظر، وإنما هى دعوة إلى نظر متدبّر، متأمل، يأخذ العبرة والعظة مما يقع له.. فمن هذه الرحمة المنزّلة من السماء، تغيّر وجه الأرض، وسرت الحياة في أوصالها الميتة، وإذا هى أمّ ولود، تلد مواليد عجبا من كل جنس، وكل لون.. ثم إذا امتد نظر الإنسان إلى أبعد من هذا وجد أن هذه الحياة التي قامت من هذا التراب الهامد، ليس بالمستغرب ولا المستبعد أن تلبس هذه الأجسام التي ضمها التراب في كيانه، وجعلها بعضا منه.. «إِنَّ الَّذِي أَحْياها.. لَمُحْيِ الْمَوْتى» (39: فصلت) .. فهذا من ذاك سواء بسواء..
- وقوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى» - الإشارة هنا إلى الله سبحانه وتعالى، وفي الإشارة إليه سبحانه، إشارة إلى قدرته، وإلى مقامه، وإلى تفرده وحده سبحانه بهذا الأمر، وهو إحياء الموتى.
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» .
إشارة إلى أن هذه الرياح التي أرسلها الله بشرا بين يدى رحمته، وساق بها الحياة إلى عباده، يمكن أن يسوقها إليهم، وقد صفرت يداها من كل خير، بل ربما حملت معها السّموم والغبار.. فهذا وذاك بيد الله، ومن فعل الله..
وقد كان من الإيمان بالله، والرضا بمقدوره، أن يستقبل الناس هذه الريح العقيم بالصبر على قضاء الله، وبالطمع في رحمة الله، التي تعقب هذا البلاء..
ولكن كثيرا من الناس ينكرون الله في هذه الحال ويسخطون على ما أصابهم به! والضمير في قوله تعالى «فَرَأَوْهُ» يعود إلى الناس جميعا، حيث يغلب
عليهم في تلك الحال، اليأس، والقنوط من رحمة الله، وقليل منهم من يعتصم بإيمانه، ويرضى بما أراد الله له..
والريح المصفرة: هى الريح المحملة بالسموم، قد ذهبت حرارتها بكل ما في الهواء من بخار الماء، فاصفرّت كما يصفر الزرع حين يجف ماؤه وتذهب خضرته..
الفاء في قوله تعالى «فَإِنَّكَ» سببية، وما بعدها مسبب عن فعل محذوف تقديره- والخطاب للنبى-: اصرف نظرك عن هؤلاء المشركين، أو دع هؤلاء المشركين وما هم فيه من ضلال.. أو نحو هذا.. «فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» وهؤلاء موتى، وإن كانوا أحياء..
إنهم موتى المدركات، والمشاعر.. وإن أردت أن تحسبهم في الأحياء، بما لهم من صور آدمية متحركة- فإنهم صم لا يسمعون، لأن ما يلقى إليهم من كلمات الله لا تصغى إليه آذانهم، ولا تقبله عقولهم.. لقد تعطلت منهم حاسة السمع فلا يسمعون خيرا، ولا يستجيبون لخير..
ثم إنه قد لا يستمع الإنسان لغيره، ولا يتقبل نصح ناصح، ولا هداية هاد، ويكون له مع ذلك، نظر يهديه، ويكشف له معالم الطريق إلى الحق والخير.. ولكن هؤلاء المشركين، عمى لا يبصرون شيئا، ولا يسلمون أيديهم إلى المبصرين، حتى يأخذوا بهم إلى طريق مستقيم، فلا يضلون، ولا يتعثرون..
وفي تعدى اسم الفاعل: «هاد» بحرف المجاوزة «عن» - إشارة إلى أنهم عاكفون على الضلال، لا يتحولون عنه أبدا، ولا يتجاوزون حدوده، ولهذا ضمّن الفعل «هدى» معنى الفعل، صرف، أو أبعد، أو نحو هذا، مما يحتاج إلى مدافعة ومعاناة.. وهذا يعنى أنه ليس من شأن النبي أن يحمل هؤلاء العمى حملا على أن ينقادوا له.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك:«إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» محددا وظيفة النبي، وضابطا منهج دعوته.. وهو أن يعرض دعوته، ويتلو آيات ربه، ويسمع كلمات الله، بإبلاغها إلى الناس، فيسمعها، ويستجيب لها، من هو مستعد للإيمان، لم تفسد فطرته، ولم يختم الله على سمعه وقلبه، ولم يجعل على بصره غشاوة.. ولهذا أيضا جاء قوله تعالى «فَهُمْ مُسْلِمُونَ»
تعقيبا على قوله تعالى سبحانه: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» ليكشف عن السبب في استماعهم لآيات الله، وإيمانهم بها. وهو أنهم مسلمون بفطرتهم، واستعدادهم، قبل أن يلتقوا بالدعوة النبوية، وقبل أن يدعوا إلى الإسلام فلما التقوا بالنبي، وبدعوة الإسلام، صافح الإسلام الذي في فطرتهم، الإسلام الذي دعو إليه..
«وإن» فى قوله تعالى: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» نافية، بمعنى «ما» .. أي ما تسمع إلا من يؤمن بآياتنا، أي من هو مستعد بفطرته للإيمان..
المندسّ في كيانه.. أما من فسدت فطرته، فلن تجاوز كلمات الله أذنه.
وفي عود الضمير على الاسم الموصول: «من» مفردا وهو فاعل (يؤمن)، ثم عوده إليه جمعا هكذا:«إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» - إشارة إلى أن الإيمان شأن من شئون الإنسان خاصة، فهو الذي يحصّل الإيمان بنظره الشخصي وبتقديره الذاتي، وبما يقع له من اقتناع عقلى، واطمئنان قلبى..
فإذا آمن، شارك غيره في صفة الإيمان، وكان واحدا من جماعة المؤمنين