المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (54- 60) [سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ١١

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (46- 51) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 51]

- ‌الآيات: (52- 55) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 52 الى 55]

- ‌الآيات: (56- 60) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60]

- ‌الآيات: (61- 69) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 69]

- ‌30- سورة الرّوم

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 10) [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 10]

- ‌الآيات: (11- 19) [سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 27) [سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 27]

- ‌[الليل.. وما وسق]

- ‌الآيات: (28- 32) [سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 32]

- ‌الآيات: (33- 40) [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 39]

- ‌الآيات: (40- 45) [سورة الروم (30) : الآيات 40 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 53) [سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 53]

- ‌الآيات: (54- 60) [سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60]

- ‌31- سورة لقمان

- ‌الآيات: (1- 11) [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 19) [سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 28) [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 34) [سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 34]

- ‌32- سورة السجدة

- ‌الآيات: (1- 11) [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 21) [سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 21]

- ‌الآيات: (22- 30) [سورة السجده (32) : الآيات 22 الى 30]

- ‌33- سورة الأحزاب

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 8) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 20) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 20]

- ‌الآيات: (21- 27) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 الى 27]

- ‌الآيات: (28- 30) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 30]

- ‌الآيات: (31- 35) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 40) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 48) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48]

- ‌الآيات: (49- 52) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 55) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55]

- ‌الآيات: (56- 59) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 59]

- ‌الآيات: (60- 71) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 71]

- ‌الآيتان: (72- 73) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]

- ‌34- سورة سبأ

- ‌الآيات: (1- 9) [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 14) [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 21) [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]

- ‌الآيات: (22- 30) [سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 30]

- ‌الآيات: (31- 33) [سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]

- ‌الآيات: (34- 39) [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39]

- ‌الآيات: (40- 45) [سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 54) [سورة سبإ (34) : الآيات 46 الى 54]

- ‌35- سورة فاطر

- ‌الآيات: (1- 7) [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 7]

- ‌الآيات: (8- 14) [سورة فاطر (35) : الآيات 8 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 23) [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 23]

- ‌الآيات: (24- 28) [سورة فاطر (35) : الآيات 24 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 37) [سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 37]

- ‌الآيات: (38- 41) [سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 41]

- ‌الآيات: (42- 45) [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 45]

- ‌36- سورة يس

- ‌الآيات: (1- 12) [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]

- ‌الآيات: (13- 27) [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27]

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌الآيات: (54- 60) [سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60]

يدخل معهم فيما تحمل شريعة الإسلام إلى المسلمين من أوامر ونواه، فيكون واحدا في صفوف المصلّين، أو جنديا في جيش المجاهدين.. إنه منذ دخل فى الإسلام لم يعد كائنا مفردا مستقلا بذاته، منعزلا بدينه، بل هو منذ أول يوم يدخل فيه في الإسلام، يصبح لبنة في بناء الجماعة الإسلامية، وعضوا فى الجسد الاجتماعى، الذي يجمع المسلمين جميعا.

فالمسلم إذ يدخل الإسلام، يدخله مفردا، بعد أن ينظر فيه ببصره هو ويدركه بعقله هو، ويستشعره بوجدانه هو، ويفتح باب قلبه بيده هو، من غير أن يكون واقعا تحت إكراه، أو إغراء، ومن غير أن يكون متابعا أو مقلدا.. فإذا دخل الإسلام على تلك الصفة أصبح مسلما، وأصبح بهذا صالحا لأن يكون في جماعة المسلمين..

‌الآيات: (54- 60)[سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ مُبْطِلُونَ (58)

كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)

ص: 544

التفسير:

قوله تعالى:

«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ» .

عادت الآيات مرة أخرى، لتصل العرض الذي تجلّى فيه آيات الله، وتعرض فيها دلائل قدرته على الناس، من مؤمنين وكافرين، فيجد فيها المؤمنون نظرا مجدّدا إلى قدرة الله، وإلى علمه، وحكمته، فيزداد إيمانهم تمكينا في قلوبهم، وإشراقا في نفوسهم، على حين تقوم على المشركين والضالين من هذه الآيات حجة أخرى، إلى جانب ما قام عليهم من حجج، بكفرهم وضلالهم.

وفي الآية الكريمة صورة من الصّور الحسّية التي يعيش فيها الناس، ويمرّ بها كل فرد من أفرادهم، على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وأوطانهم.

فبدء حياة الإنسان تكون صورة باهتة من صور الحياة، لا يكاد يرى ظلّها إلا البصر النافذ، حيث يبدأ خلق الإنسان من نطفة، لا تبدو في مرأى العين أكثر من سائل مختلط، أشبه بالمخلط.. ثم يتدرج الإنسان من نطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى عظام، إلى لحم يكسو هذا العظام..

ثم إلى وليد ينشقّ عنه رحم الأم، وإذا هو إنسان يأخذ مكانه في المجتمع البشرى، وبتدرج في مدارج الحياة، من الطفولة إلى الصبا، إلى الشباب والكهولة، ثم ينحدر إلى الشيخوخة والهرم.

هذا هو بعض ما لله في الإنسان.. فلينظر الإنسان ممّ خلق؟ ثم لينظر كيف دار دورته في الحياة، كما يدور القمر في دورته من الهلال إلى المحاق!

ص: 545

قوله تعالى:

«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» وهذا الإنسان الذي خلق من ضعف، والذي تعهدته القدرة الإلهية، فأخرجت من هذا الضعف، قوة وعقلا، وبصرا، وسمعا- هذا الإنسان قد كفر بخالقه، وأبى أن يجعل ولاءه له وحده، فاتخذ من دونه شركاء، وإذا حشود كثيرة في جميع الأزمان والأمكنة، تجتمع على الكفر بالله، وتعيش فى هذا الضلال، لا تعمل ليوم الجزاء والحساب، ولا تؤمن به، حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة، وراجعوا حسابهم مع دنياهم التي أفنوا حياتهم فيها، وجدوا أنها لم تكن إلا لحظة عابرة، بل لقد بلغ بهم الأمر أن أيقنوا هذا، وتحققوا منه، فأقسموا أنهم لم يلبثوا غير ساعة.. ولا شك أن هذا غير الواقع، وأن الوهم هو الذي يحيّل لهم قصر الزمن الذي مضى.. فقد عاش كل منهم سنين في الدنيا، لا ساعة، ولا يوما، ولا شهرا.. ولكن هكذا الدنيا، التي اتخذها الضالون المشركون، لهوا ولعبا، فلم يعمروها بالتقوى والأعمال الصالحة.. ولهذا جاء قوله تعالى:«كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» مكذّبا مقولتهم تلك، وإنها إفك من إفكهم، وضلال من ضلالهم، الذي كانوا عليه في الدنيا.. ذلك أنهم وهم في الدنيا قد رأوا الحق باطلا، والهدى ضلالا، والخير شرّا.. ووقع في وهمهم أنهم على الحق، وأن ما يمسكون به من ضلال هو الهدى.. وقد صحبهم هذا الإفك في حياتهم الآخرة، فأقسموا هذا القسم الكاذب، أنهم ما لبثوا في دنياهم غير ساعة! وقوله تعالى:

«وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» .

ص: 546

هو ردّ على هؤلاء المجرمين، الذين أقسموا هذا القسم، وأنهم ما لبثوا غير ساعة، وفي هذا الرد تصحيح لما وهموه من لبثهم في الدنيا.. وهذا التصحيح إنما يجيئهم من أهل العلم والإيمان الذين يقولون لهم:«لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ» .. وكتاب الله، هو علمه الذي حدّد به آجال الناس، وأزمانهم، وأودع فيه أعمالهم، وما هو كائن في هذا الوجود..

وقوله تعالى: «فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ» - هو خبر يراد به التقريع والنّخس لهؤلاء المجرمين، فهم يعرفون أن هذا اليوم الذي هم فيه هو يوم البعث، وإخبارهم به هو تذكير لهم بما كان منهم من إنكار له، وسخرية واستهزاء بمن كانوا يحدّثونهم به، والذين كانوا يغرسون في الدنيا ليجنوا ثمار ما غرسوا فى الآخرة، وفي ذلك ما يزيد في آلام المكذبين ويضاعف حسرتهم.

وفي قوله تعالى: «وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» تقريع بعد تقريع، ونخسة بعد نخسة! وفي قرن العلم بالإيمان، إشارة إلى أن العلم الذي لا يثمر عملا لا قيمة له، وكثير من الذين أوتوا العلم لا يؤمنون بالله، بل تغلب عليهم شقوتهم، ويصبح العلم الذي علموه حجّة عليهم، يضاعف لهم به العقاب، وفي هذا يقول الله تعالى في علماء بنى إسرائيل:«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (71: آل عمران) ويقول سبحانه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» (144: البقرة) ويقول جل شأنه: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (75: البقرة) .. فالعلم الذي لا يعمل صاحبه بمقتضى ما علم، هو شؤم على صاحبه، لأنه لا يهتدى معه إلى

ص: 547

خير أبدا. على خلاف الذي لا علم عنده، فإنه قد يطلب العلم، وقد يجد الهدى مما علم.

قوله تعالى:

«فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» .

أي أنه في يوم القيامة، لا يقبل من معتذرين عذر، ولا يطلب منهم أن يقيموا عذرا لما كان منهم من ضلال وكفر.. لقد جلّ الأمر عن العتاب.. إذ أنه إنما يعاتب من يرجى منه إصلاح ما أفسد.. وأما وأنه لا عمل بعد اليوم، فإنه لا عتاب، وإنما حساب وجزاء..

قوله تعالى:

«وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ» .

هو بيان لانقطاع عذر المعتذرين، وعتاب المستعتبين، الذين يطلبون المعاتبة.. وذلك لما جاءهم في دنياهم من آيات الله، وما حمل إليهم القرآن الكريم من دلائل وبراهين بين يدى دعوتهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد ضربت لهم الأمثال على وجوه مختلفة، فما انتفعوا بها، ولا أخذوا العبرة والعظة من مهلك القوم الظالمين في الأمم الغابرة..

وقوله تعالى: «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ» . إشارة إلى أن هؤلاء المكذبين المشركين، لن تنفعهم الآيات المادية التي كانوا يطالبون النبىّ بها، ويتحدونه بأن يأتى بمعجزة من تلك المعجزات المحسوسة التي كانت بين يدى الرسل من قبله.. ففى كل ما جاء به القرآن من آيات، وما ضرب من أمثال، معجزات قاهرة بيّنة، لمن يطلب

ص: 548

الهدى أو يقبله، إذا عرض عليه.. وهؤلاء المشركون لا يطلبون الهدى، ولا يستجيبون له إذا دعوا، لما ركب في طبيعتهم من فساد.

قوله تعالى:

«كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» .

الإشارة هنا إلى ما تضمنته الآية السابقة، من استغلاق مدارك المشركين عن أن يدخل عليها هدى، وذلك لأن الله قد طبع على قلوبهم.. وإنه مع ما ضرب الله سبحانه من أمثال، وما حملت هذه الأمثال من شواهد واضحة وآيات بينة، فإن أهل الضلالات والأهواء لم ينتفعوا بها، ولم يروا إشارة مضيئة من إشاراتها، تعدل بهم عن طريق الكفر الذي يركبونه، إلى طريق الإيمان الذي يدعون إليه، وهذا شأنهم أبدا مع كل آية من آيات الله.. وهذا لا يكون إلا عن فساد فطرة، وعمى بصيرة، وزيغ قلب، وهذا ما عليه حال أولئك الذين شغلتهم دنياهم عن أن يقفوا على آيات الله، وأن ينظروا فيها، وأن يحصلوا علما منها، فخذلهم الله، وخلّى بينهم وبين أنفسهم كما يقول سبحانه:«فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (5 الصف) قوله تعالى:

«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» .

بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وهى تحمل إلى النبي الكريم دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى الصبر على ما يلقى من قومه من مكاره، مستعينا على الصبر، واحتمال المكروه، بما وعده ربه من نصر لدين الله الذي يدعو إليه، ومن تمكن له وللمؤمنين معه في هذه الدنيا، ومغفرة من الله ورضوان

ص: 549

فى الآخرة، هذا، إلى ما يلقى هؤلاء المشركون الضالون من خزى وخذلان فى الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة.

وفي قوله تعالى: «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» - إشارة لافتة إلى ما قد يرد على النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من تلك الخواطر التي تساور بعض النفوس، من المؤمنين الذين اشتدت عليهم وطأة البلاء، وطال بهم الانتظار لملاقاة ما وعدهم الله من نصر، ففى ساعات الضيق والعسرة، قد يتسرب إلى بعض المؤمنين شىء من القلق، وربما شىء من الشك والريب، ذلك أن للنفس البشرية حدا من الاحتمال والصبر على المكاره، إذا بلغته زايلتها القدرة على الاحتمال، وآذنها الصبر بالرحيل، وعندئذ تنحلّ العزيمة، ويضعف اليقين، وتبرد حرارة الإيمان، وفي هذا يقول الله تعالى:

«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» (214: البقرة) .. فهذه حال تعرض المؤمنين، ولن يعصهم منها إلا التحصن بالإيمان، واللّياذ باليقين الذي يدفع كل شك في قدرة الله، وفي تحقيق ما وعد المؤمنين به، من نصر، وعافية مما هم فيه من بلاء.

فقوله تعالى: «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» دعوة للمؤمنين أن يوثّقوا إيمانهم بالله، وأن يمتحنوا هذا الإيمان على محك الشدائد والمحن، فعلى هذا المحك يظهر معدن الإيمان، وتعرف حقيقته..

والاستخفاف: أصله من الخفة، والمراد به التحول من حال إلى حال، والانتقال من وضع إلى وضع، عند كل خاطرة، ولأية مسة.. فإن

ص: 550

الخفيف من الشيء، هدف سهل لكل عارض يعرض له، ويريد زحزحته عن موضعه الذي هو عليه..

والآية، إذ تدعو المؤمنين إلى أن يكونوا من الموقنين بالله، والمستيقنين بنصره، فإنها تدعو النبي إلى أن يثبت في موقفه من الإيمان بربه، والثقة فيما وعده به، حتى ترتدّ عنه العوارض التي تعرض له داخل نفسه أو خارجها، حين تجده جبلا راسخا، لا تصادف أية خفة في أي جانب منه.. وقد كان صلوات الله وسلامه عليه على هذا اليقين الذي تزول الجبال ولا يزول.. حتى ليقول لعمه أبى طالب، وقد جاء يدعوه إلى مهادنة قومه، على أن يحتكم بما شاء فيهم، من مال أو سلطان، فيقول:

«والله يا عم لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، أو أهلك دونه» ..

ص: 551