الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما أعداء الشيطان، فهم المؤمنون، الذين خرجوا عن سلطان هذا «الغرور» فاستجابوا لله، وآمنوا به، وعملوا الصالحات.. وهؤلاء «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» فالله سبحانه وتعالى يتفضل عليهم بالمغفرة لما وقع منهم من ذنوب، لأنهم إذا أساءوا أحسنوا، وإذا أذنبوا تابوا.. والله سبحانه وتعالى يقول فى عباده المؤمنين:«وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ.. أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» (22: الرعد) ويقول النبي الكريم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» .
الآيات: (8- 14)[سورة فاطر (35) : الآيات 8 الى 14]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَاّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَاّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
التفسير:
قوله تعالى:
وقفت الآيات السابقة من المشركين موقف الناصح الداعي إلى الحق، الكاشف عن آيات الله، وآلائه، المحذّر من بأس الله وعذابه، المواسى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من تكذيب المشركين له.. فتلك هى سبيل الضالين مع رسل الله فى كل أمة..
وهنا فى هذه الآية، يتلقى النبي من ربّه عزاء جميلا، عن مصابه فى قومه، ودعوة كريمة إلى الرفق بنفسه، والترويح عنها، والإمساك بها بعيدا عن موطن الحزن والحسرة، على من لا يستحقون الأسى عليهم، والحزن لهلاكهم..
إن نفسه أعزّ على الله وأكرم من أن تشقى هذا الشقاء المعنّى، فى سبيل نفوس رخيصة ضائعة، لا يقام لها وزن..
- وفى قوله تعالى: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» استفهام إنكارى، يراد به كشف هؤلاء المشركين للنبىّ، وأنهم قد زين لهم سوء أعمالهم، فرأوها حسنة، وأنهم من أجل هذا لن يتحولوا عمّا هم فيه أبدا..
إنهم يرون الخير كلّ الخير، والحق كلّ الحقّ، فيما هم فيه.. ومن كان على هذا الرأى فيما عنده، فلن يقبل بحال أن يستبدل به غيره أبدا..
وفى النظم القرآنى كلام محذوف، دل عليه السياق، والتقدير:«أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» أيستجيب لداع يدعوه إلى غير هذا الذي زيّن له؟ ذلك ما لا يكون.. وهؤلاء المشركون الذين أمسكوا بشركهم، قد زيّن لهم هذا الشرك، فرأوه حسنا.. وإذن فلا يرجى منهم أن يستجيبوا لك أبدا.. ومن هنا فإن الأسى عليهم، والجزع من المصير الذي هم صائرون إليه- لا محلّ له، إذ كان هو المنزل الذي تخيّروه ورضوا به، وإذ كان ذلك هو الزاد الذي لن يستسيغوا غيره. «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» .!
- وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» إشارة إلى قضاء الله فى هؤلاء المشركين، فإنهم ممن أضلهم الله.. «وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف) قوله تعالى:
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى، يبعث رسله بالرحمة إلى عباده، فيقبلها قوم، وبأباها آخرون. فهى أشبه بالغيث، ينزل من السماء، فتحيا بها أماكن منها، وتخرج الحبّ والثمر، على حين يتحول به بعضها إلى أحراش، تؤوي الهوام والحشرات.
- وقوله تعالى: «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً» هو معطوف
على الجملة الابتدائية فى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وذلك مثل قوله تعالى: «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» ..
والتقدير: إن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء، وهو سبحانه الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً» واختلاف النظم فى «يَهْدِي» (بالفعل المتجدد)«وأَرْسَلَ» (بالفعل الماضي) .. إشارة إلى أن الإرسال يسبق الآثار المترتبة عليه، وهى الإهداء، أو الإضلال، والإحياء أو الإماتة.. فالإرسال سابق، ولهذا عبّر عنه بالفعل الماضي.. والآثار المترتبة عليه، مستمرة، لا تنقطع، ولهذا عبر عنه بفعل المستقبل «يهدى» .
- وفى قوله تعالى «كَذلِكَ النُّشُورُ» .. إشارة إلى قضية البعث، التي هى مبعث ارتياب المشركين، وتكذيبهم للرسول فى كل ما يدعوهم إليه..
وفى هذه الإشارة دليل مادىّ محسوس يشهد لإمكانية البعث، وأنه إذا كانت الأرض الميتة المجدبة، ينزل عليها الماء، فتلد هذه المواليد العجيبة، من النبات، والزهر، والثمر، فإن هذه الأرض التي أودع فى ترابها الناس، ليس ببعيد أن ينفخ الله فيها نفخة الحياة، فتخرج ما فى بطنها من آدميين! ..
قوله تعالى:
أي أن هؤلاء المشركين إنما يتخذون هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله، ليكونوا لهم شفعاء عند الله، ولينالوا بهم عزا وجاها، كما يقول سبحانه
«وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» (81: مريم) ولقد أخطأ هؤلاء المشركون الطريق إلى العزة.. إن العزة لله جميعا، لا يملك أحد منها شيئا، فمن أراد العزة ولم يلتمسها من الله، فلن ينال منها شيئا..
- وقوله تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» .. إشارة إلى أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولا يرد موارد عزّته إلا الطيبون.. والمشركون نجس، وإذن فلا طريق لهم إلى الله، ولا شىء لهم من العزة التي هى ملك يمينه..
وأنهم إذا أرادوا أن يأخذوا طريقهم إلى الله، وإلى العزة التي بين يديه، فليتطهروا من شركهم، وليؤمنوا بالله، وبغير الإيمان بالله لن يكون لهم طريق إلى الله.. فالكلم الطيب هو كلمة التوحيد:«لا إله إلا الله» وقوله تعالى:
«وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» - إشارة إلى الإيمان بالله يقيم صاحبه على أول الطريق إلى الله، ثم تكون الأعمال الصالحة التي تقوم وراء الإيمان هى التي ترفع صاحبها إلى الله، وتدنيه منه.. فإن الإيمان- مجرد الإيمان- دون عمل صالح، هو خير معطل، أشبه بالنبتة الصالحة فى الأرض الطيبة، لا يصيبها ماء! فإذا أصابها الماء اهتزت لها الأرض وربت وأنبتت من كل زوج بهيج..
«فالعمل الصالح» يزكى الإيمان، وينميه، ويثبت دعائمه، ويرفع بنيانه وقوله تعالى:«وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» ..
مكر السيئات: تدبيرها، والاحتيال فى التمكين لها.
وفى هذا تهديد للمشركين الذي يغرسون فى مغارس السوء، ويعملون فى مجال الضلال، إنهم لا يجنون من غرسهم هذا إلا أنكد الثمر وأخبثه.. إنه العذاب الشديد فى الآخرة، والحسرة والوبال فى الدنيا..
وفى قوله تعالى «وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ» حكم قاطع على هذا المكر السيّء الذي يمكره المشركون بالنبي وبدعوته، بأنه إلى بوار وضياع، لا ينالون به من الذين يمكرون به، وهو هذا الدين الذين يدعون إليه- لا ينالون منه منالا، بل سيبطل الله مكرهم به، ويكتب لهذا الدين الغلب والنصر، ولأهله العزة والتمكين..
قوله تعالى:
«وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» هو عرض لبعض سلطان الله، وقدرته، وأن له سبحانه العزة جميعا..
فهو- سبحانه- بقدرته، خلق الناس من هذا التراب الهامد. فهذا التراب هو الأصل الذي تخلقت منه النطف، التي تخلّق منها الأجنة فى بطون الأمهات، ومن الأجنّة كانت المواليد، وكان الناس..
وهذا التراب، الذي يبدو أنه أصل أول فى خلق الإنسان، هو فى حقيقته، قد مرّ فى أطوار كثيرة، حتى صار هذا التراب.. تماما كما مر الإنسان فى أطوار الخلق، من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة.. إلى آخر ما هنا لك من صور وأطوار فى الخلق.
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً» إشارة إلى تنويع خلق الإنسان، فكان منه الذكر والأنثى.. كما يقول سبحانه وتعالى:«أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» (37- 39: القيامة)
- وفى قوله تعالى: «وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ.. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» - إشارة إلى أن قدرة الله سبحانه وتعالى، ليست واقفة عند هذا الحد من خلق هذا الإنسان من تراب، بل إن تلك القدرة قائمة على كل مخلوق، قبل خلقه، وبعد خلقه، وفى كل لحظة من لحظات وجوده وقبل وجوده.. فما تحمل من أنثى من حمل، ولا تضع من مولود، إلا وعلم الله قائم عليه، محيط به، ومقدر له العمر الذي يلبسه فى هذه الحياة، من طول أو قصر.. فهذا كله فى كتاب مبين، كتبه الله بعلمه، وأودعه فى كتاب مبين، هو اللوح المحفوظ..
والنقص من العمر، ليس نقصا فى العمر المقدّر فى كتاب الله للكائن الحي، وإنما هو نقص بالإضافة إلى من طال عمره.. فالذى قدر له أن يعيش أياما، أو شهورا، أو بضع سنين، إنما يعيش هذا العمر المقدر له فى علم الله، والمسطور فى كتابه، وهذا العمر، هو عمر يبدو ناقصا بالنسبة لمن يعيش عشرات السنين.. أما عمره فلم ينقص منه شىء.. وذلك كله يسير على الله، الذي لا يئوده حفظ هذا الوجود! قوله تعالى:
«وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ومن دلائل قدرة الله، وكمال عزته، أنه جمع بين البحرين، وفرق بينهما فى آن.. فهما فى واقع الحياة كائن واحد، يتشكل من مادة واحدة هى الماء.
ومع هذا فهما طبيعتان متغايرتان.. «هذا عَذْبٌ فُراتٌ» أي ماء حلو:
«سائع شرابه» أي تستبغ النفس شرابه، ويلذ لها طعمه.. «وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ»
أي كثير الملوحة ثم إنهما مع هذا الاختلاف، يثمران للإنسان ثمرا، يجنبه منهما على سواء، فمن الماء العذب والماء الملح، يأكل لحما طريا، هو ما يستخرج منهما من أنواع السمك.. كما يستخرج منهما حلىّ تلبس للزينة، كاللؤلؤ، والمرجان، وأنواع الصدف، وغيرها.. وعلى كلا البحرين- العذب والملح- تجرى السفن محملة بالبضائع والأمتعة، والناس وفى الآية الكريمة أكثر من إشارة.
فأولا: الناس، وأصلهم من ماء، كهذا الماء. هم هذه النطفة، وقد فرقت القدرة الإلهية بينهم، كما فرقت بين العذب والملح فهناك المؤمنون والكافرون، وهما غير متساويين، كما أن الماء العذب والماء الملح غير متساويين.
وثانيا: الماء العذب، بقا له المؤمن، والماء الملح، يقابله الكافر. والمؤمن طيب، مقبول فى الحياة الإنسانية.. إنّه الحياة التي تمسك بوجودها على الصحة والسلامة، كالماء العذب، فهو الذي يمسك حياة الأحياء، ويقيم وجودها..
وثالثا: الماء الملح، وهو على ما به من ملوحة لا تقبلها النفس، يشارك الماء العذب، فى استكمال حياة الناس، وفى جلب كثير من المصالح لهم. وكذلك الكافر، إنه- على ما به- يشارك فى بناء الحياة الإنسانية، ويمثلّ جانبا مهمّا منها. إنه الكفة الأخرى التي يعتدل بها ميزان الحياة.. وإنه لولا الكافر، ما استبان وجه المؤمن، ولا عرف فضله، ومقامه..
ورابعا: الماء الملح، هو الكثرة الغالبة فيما على الأرض من ماء، وكذلك الكفر، هو الوجه العريض فى دنيا الناس، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَما أَكْثَرُ النَّاسِ- وَلَوْ حَرَصْتَ- بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) وخامسا: أنه برسالات السماء، وهدى الرسل، يخرج المؤمنون من أحشاء
هذا الكفر، وذلك بعد صراع ومعاناة.. تماما كما يخرج الماء العذب من صدر المحيطات، بفعل الرياح التي تثير أمواجها، وتخرج بخارها، وتعلو به فى طبقات الجو، ثم تشكلّه سحابا، تدفع به إلى حيث أراد الله، وإلى حيث قدر لهذا السحاب أن ينزل من ماء..
وهناك صور كثيرة لا تنتهى، يمكن أن يراها الناظرون فى الآية الكريمة، وفى النظر إلى الناس على ضوئها..
قوله تعالى:
«يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» ومن قدرة الله، وبسطة سلطانه، وكمال عزته.. أنه- سبحانه- «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» أي أنه سبحانه يدخل الليل، بظلامه الكثيف، فى أحشاء النهار، فيشتمل عليه النهار، ويستولى بسلطانه المشرق، على ظلماته المتراكمة..
فإذا الدنيا وقد خلعت هذا الرداء الأسود، ولبست ذلك الثوب النورانى، كما تلبس العروس ثوب زفافها.. وأنه سبحانه- بقدرته- «يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» فيدخل هذا النور الساطع فى أحشاء الظلام، فيستولى الظلام بسلطانه على هذا النور.. وهكذا الحياة.. نور وظلام، وخير وشر، وعذب فرات وملح أجاج، ومؤمن وكافر..
- وقوله تعالى: «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» أي ومن قدرته سبحانه، أنه سخر الشمس والقمر لسلطانه، وأجراهما بقدرته، كيف شاء، وأقامهما على هذا النظام المحكم الذي لا يدخل عليه أي اضطراب أو خلل:
«لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (40: يس) - قوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ.. لَهُ الْمُلْكُ» أي ذلك الذي أقام الوجود على هذا النظام، واستولى بسلطانه على كل شىء فيه- هو الرب، الخالق الذي لا رب سواه ولا خالق غيره.. فمن ابتغى ربّا غيره فقد ضل، ومن عبد معبودا سواه فقد هلك.. ذلك هو ربّ العالمين- له الملك، وله الخلق والأمر..
- قوله تعالى: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» القطمير: هو القشرة الرقيقة التي تكون غلافا للنواة فى داخل الثمرة..
أمّا الذين يعبدهم المشركون من أرباب، فإنهم لا يملكون مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض.. ما يملكون جميعا قشرة من نواة.. فما أضلّ من يلتمس العزّة، ويرجو الخير ممن لا يملك شيئا..
قوله تعالى:
أي أن هؤلاء المعبودين الذين اتخذهم المشركون أربابا لهم من دون الله، إن يدعهم عابدوهم إلى أي أمر، ولأية حاجة- لا يسمعوا دعاءهم.. لأنهم أحجار صمّاء، ودمى خرساء.. «وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» أي لو قدّر لهم أن يسمعوا- فرضا- أو كان فيهم من يسمع- فعلا- كالملائكة والجنّ، وغيرهم ممن يعبدهم المشركون- ما استجابوا لهم، وما أسعفوهم بما يطلبون منهم.. إنهم يطلبون شيئا ممن لا يملك شيئا.. وفاقد الشيء لا يعطيه..
وقوله تعالى: «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» .. وأكثر من هذا